**********************************************************************
وهذه الصفحة منقولة بدون تغيير من كتاب المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام المؤرخ العلامة جــــواد عــلى دار العلم للملايين ، بيروت ، الطبعة الثانية الجزء الثاالث 1980 الفصل السابع والستون بعنوان " الالهة والتقرب اليها " ونقلناها كما هى على أساس أنه مرجع من المراجع الهامة التى يعتمد عليها الباحثين فى التاريخ والدارسين له , وقد وضعنا لكل فقرة عنوان حتى نساعد القارئ على الإستيعاب وللدارس
**********************************************************************
وكما تقوم الصداقة بين الناس على أساس الود والتقرب والاتصال والتذكر بتقديم الهدايا والألطاف ونفائس الأشياء، كذلك تقوم "الصلة بين الإنسان وآلهته على اساس من الود والصداقة أيضاً. وإذ كانت الآلهة أقدر من الإنسان، كان من اللازم على البشر التودد اليها بشتى الطرق المعبرة عن معاني التقرب والتحبب والتعظيم، لتتذكره، فتمن عليه بالبركه والسعد وبخير ما يشتهيه ويرغب فيه. والبشر عبيد لآلهتهم، فعليهم ان يؤدوا لها ما يجب أن يؤديه العبد لسيده.
إن على العبد واجبات وفروضاً يجب ان يؤديها لصاحبه ومالكه، وعلى الإنسان كائناً ما كان ان يقوم بأداء ما فرض عليه لالهته واربابه في اوقات مكتوبة وفي المناسبات.
ولما كانت عقلية الإنسان القديم وعقلية كل بدائي تقوم على فهم الإدراك الحسي في الدرجة الأولى، كان للهدايا وللنذور والقرابيِن والشعائر العملية المقام الأول في دياناته، لأنها ناحية ملموسة تراها الأعين و تدركها الأبصار، وفيها تضحية تقنع المتدين التقي المتقرب بها إلى آلهته بأنه قد قدم شيئاً ثميناً لها، وانها لذلك سترضى عنه حتماً، لأنه قد آثرها على نفسه فقدم اليها أعز الأشياء وأغلاها. انها سترضى عنه، لأنه لم ينسها، ولم يغفل عنها، ولم يفتر حبه لها.وسترضى عنه كلما تذكرها وقام بأداء هذه الواجبات المفروضة أو المستحبة لها،كما يرضى الصديق عن صديقه أو السيد عن عبده، بإظهار الاخلاص وبالحرص على أداء الأعمال المرضية.
وللدين عقيدة، أي "ايمان Belief وعمل. والعمل أبين وأظهر وأقوى في الديانات القديمة من الايمان، بسبب ان الايمان بالقلب، وهو لا يكون إلا بين المرء وربه، ولا يمكن لأحد الاطلاع على كنهه. أما العمل فهو تجسيد للايمان وتعبير عنه بصورة عملية واقعية. وهو الناحية المحسوسة الظاهرة للتدين. ولا يفهم البدائي من الدين إلا مظاهره، التي ترتكز على تضحية وبذل مادي لارضاء الالهة، فعنده انه متى بذل أعز ما يملكه في سبيل آلهته عدّ مؤمنا ًتقياً، ترضى عنه الآلهة، والسنتها الناطقة بلسانها على الأرض: طبقة رجال الدين. ولهذا رأى بعض العلماء، انه لدراسة دين من الأديان القديمة يجب الاهتمام بشعائره وبالأحكام التي فرضها على أتباعه، لأنها هي أساس ذلك الدين وجوهره.
لقد كانت ديانات الجاهليين ذات حدود ضيقة، آلهتها آلهة محلية، فالإله إما إلَه قبيلة وإما إلهَ موضع. وطبيعي ان تكون صلة الإنسان بإلهه متأثرة بدرجة تفكير ذلك الإنسان وبالشكل العام للمجتمع. والإله في نظرهم هو حامي القبيلة وحامي الموضع، وهو المدافع عنها وعنه في ايام السلم وفي ايام الحرب، ما دام الشعب مطيعاً له منفذاً لأوامره وأحكامه وللشعائر المرسومة التي يعرفها ويقررها ويقوم بتنفيذها رجال الدين.
ويكون ارضاء الآلهة بالتقرب اليها وبتنفيذ أوامرها التي تعينها وتثبتها خاصتها المختصة بين القبيلة أو الشعب، أعني كهَانها ورجال الدين الذين يعرفون اوامرها وأحكامها خير معرفة، وهم الذين يفسرونها ويامرون بتنفيذها بين للناس. وقد يكون هذا التنفيذ في ايام أو أشهر ثابتة معينة تكون لها قدسية وحرمة خاصة، وقد يكون في مواسم. يرى الناس ان آلهتهم تكون في تلك الأوقات حاضرة متهيئة قريبة منهم تسمع شكاواهم وما عندهم من مطالب. ويكون هذا التنفيذ بصور مختلفة أهمها زيارة المعابد والتبرك باصنامها، وتقديم النذور لها، وايقاف الحبوس عليها، والحج اليها في الأوقات المفروضة وفي كل وقت آخر ممكن، وأداء الصدقات والزكاة، تزكية للمال،وتطهيراً للنفس من الذنوب.
ومن اهم ما تقرب به الإنسان إلى آلهته "النذور" و "القرابين" و "المنح"، اي الصدقات والعطايا. وتدخل "الذبائح" في باب النذور والقرابين كذلك.
وبجب ان اضيف "القرى" اي الضيافة عليها أيضاً، لما لها من صبغة أخلاقية دينية، حتى صارت الضيافة من الواجبات المثبتة في نظام "مكة". وهي "الرفادة" أي تقديم الطعام لمن يحتاج اليه.
والمنحة عند العرب ان يعطي الرجل صاحبه المال هبة أو صلة فيكون له، أو ان يمنح الرجل أخاه ناقة أو شاة يحلبها زماناً واياماً ثم يردها. وقد تقع على الأرض،وهي ان يعطي الرجل غيره أرضاً ليزرعهاُ و يستفيد منها،هبة أو عارية. ويظهر من الاشارة اليها في الحديث، انها كانت من أعمال البر المعروفة عند أهل الجاهلية، وكانوا يتقربون بها إلى آلهتهم.
ولم تحدد الوثنية الأشياء التي كان على الإنسان ان يتقدم بها إلى آلهته قربة اليها أو وفاءً لنذر، بل تركت له الأبواب مفتوحة، فله ان يتقرب إلى أربابه بكل ما يختار ويشاء، من امور بسيطة رخيصة إلى أشياء ثمينة غالية، كل حسب مقدوره وقابلياته. فنجد بين النذور مباخر وتماثيل ومصابيح، وأشياء نفيسة من ذهب أو من جواهر. كما كانوا يتبركون بوضع حصونهم وبيوتهم وبساتينهم ومزارعهم في حراسة الالهة ورعايتها، لتحفظها ولتحفظ أصحابها.
أنواع النذور
ويمكن تقسيم ما تقدم به الجاهليون إلى اربابهم إلى قسمين: قسم إجباري، يجب الوفاء به بسبب "نذر" مثلاً ؛ وقسم تطوعي، أي اختياري مثل "المنح" والذبائح التي تقدم في المواسم وفي سائر الأيام، ويقال لها "ندب" و "ندبت" "ندبة". و "المندوب" في عربيتنا المستحب. وأدخل في القسم الأول ما يقال له "خطَت" "خطاتَ" "خطأة"، ي "الحطيئة". ويراد بها تقديم "فدية" عن عمل مخالف قام به انسان، مثل تقديم ذبيحة بسبب دخول انسان نجس في المعبد.
واذا كنا في شيء من الجهل بالنسبة إلى الزكاة التي كان الناس يدفعونها في نجد أو العربية الشرقية أو في الحجاز إلى المعابد والى رجال الدين، لعدم وجود نصوص جاهلية تكشف النقاب عنها، فإن لنا بعض المعرفة عن الزكاة التي كان يقدمها اهل العربية الجنوبية إلى معابدهم، ظفرنا بها في الكتابات التي عثر عليها هناك، وقد وردت فيها اشارات اليها في نصوص تعرضت لها بالمناسبات.
وهذه الزكاة حصص عينية مقررة تدفع إلى المعبد على شاكلة الحصص التي تدفع إلى أصحاب الأرض والحكومة، تخزن في مخازن المعابد، لتصدّر إلى الخارج، أو لتباع في الأسواق، أو ليصرف منها على المعابد ورجال الدين والمحتاجين. فكان القتبانيون مثلاً يدفعونُ عُشر حاصلهم إلى المعبد، ويعرف ذلك عندهم ب "عصيم"، تدفع هذه الضريبة عن حاصلات الأرض،وذلك في كل سنةً وقد عرفت هذه الضريبة ب "عشر" عند المعينيين، وهي ضريبة تدفع ايضاً عن الحيوان إلى المعبد. وهذه الضريبة هي في الواقع من الضرائب العامة التي كانت تدفعها أمم اخرى عديدة إلى المعابد، وتستند الى تقاليد تأريخية قديمة، والى نظرية ان الأرض هي ملك للالهة، فهي التي تنعم على الإنسان بالحاصل وبالخير وبالبركات، فعلى الإنسان تخصيص جزء من حاصله لتلك الالهة. فإذا قصر انسان في اداء ما عليه إلى الالهة، تعرّض للعقاب ولحرمان الآلهة اياه من البركة والخصب.
ويتبين من نصوص المسند انه كانت في العربية الجنوبية أرضون واسعة مسماة بأسماء الآلهة، أجرّتها المعابد للرؤساء أو سلمّتها إلى ايدي " الكبراء" لاستغلالها في مقابل أجر يدفعونه إلى المعبد يتفق عليه. وهذه الأرضون هي أوقاف حبست على الألهة تعرف ب "وتفم" "وتف"، ومن غلات هذه الأوقاف ومن "العصم" والنذور والهبات الأخرى ينفق على المعابد وعلى رجال الدين.
وقد ظهر في العربية الجنوبية نظام اقطاعي "كهنوتي"، اسياده رجال الدين، تولوا الإشراف على ادارة أملاك المعبد الواسعة وعلى استغلالها وادارة شؤونها، وجباية الأرضين التي يوقفها المؤمنون أصحابها على الآلهة، وعلى استحصال حقوق المعبد من المتمَكنين. وقد أشير في كتابات المسند الى ارضين واسعة كانت اوقافاً للمعابد، أجرّت الى سادات القبائل لاستغلالها في مقابل أجر اتفق عليه. ويظهر ان بعض اولئك السادات كانوا أقوياء وأصحاب نفوذ فاستولوا على "الحبوس" استيلاء في مقابل اجور زهيدة كانوا يدفعونها للمعبد، ولما لم يكن في وسع المعبد فعل شيء تجاههم، اضطر إلى قبول الأجر الزهيد الرمزي الدال على تملك المعبد للارض. اما السادات فكانوا يؤجرون الأرض لأتباعهم باجور عالية، ويربحون من ذلك أرباحاً كبيرة.
وعثر المنقبون على وثائق في خرائب بعض المعابد، تبين منها انها كانت نصوص عقود ايجار واستئجار لأملاك المعبد، أي للاوقاف المحبوسة على أرباب المعبد. وقد ذكر المستأجرون فيها الشروط التي اتفقوا عليها مع المعبد في مقابل استغلال الوقف. واذا كان المستأجر غير متمكن من أداء ما عليه للمعبد في مقابل استغلال الأرض، فإن من حقه الاستدانة من غيره أو الاتفاق معه على المساهمة معه في الاستغلال والاستثمار على شرط اخذ موافقة رجال المعبد على ذلك، وإدخال اسم الشخص الثاني في العقد، كي يكون مسؤولاً شرعاً عن تنفيذ شروط العقد في حالة عدم تمكن زميله من ذلك.
وقد اقتضى تضخم املاك المعابد خلق جهاز خاص لادارة الأملاك والأوقاف والاشراف على استحصال "الأعشار" عن الدخل وتركات الارث والمشتريات إلى جانب النذور والقرابين وتوقيع العقد. جهاز رأسه كبار رجال الدين، الذين يمثلون الالهة على الأرض،وقاعدته صغار رجال الدين ومن عهد اليهم أمر الادارة من غير رجال الدين. فصار للمعبد بذلك نفوذ كبير في اقتصاد العربية الجنوبية في ذلك الوقت.
وفي المعابد مواضع يرمي الزوار فيها ما يجودون به على المعبد، تكون أمام الأصنام في الغالب. وهي خزائن تتجمع فيها النذور والهبات، فياخذها السدنة. وأغلب ما يرمى فيها الحلي والمصوغات المصاغة من الذهب والفضة، والأشياء النفيسة الأخرى. كما كانوا يعلقون السيوف والألبسة الثمينة على الأصنام وعلى الاشجار المقدسة تقرباً اليها، ووفاء بنذور نذروها لها.
ولم يبخل الجاهليون على اصنامهم،فقدموا لها حتى المأكل والمشرب، لاعتقادهم انها تسر بذلك وتفرح. فقد علقوا على "ذي الخلصة"، وهو صنم نصبه "عمرو بن لحي"، القلائد وبيض النعام، والبرد النفيسة، وقدموا له الحنطة والشعير، بل واللبن أيضاً، ليشرب منه، وذبحوا له. فهم يعتقدون أن في الصنم روحاً، وان في مقدوره التلذذ بهذه النذور. وكان في روعهم أنه يشرب من ذلك اللبن.
وقد أشير إلى الهبات التي تقدم إلى المعابد والآلهة بكلمة "وهبم" في النصوص القتبانية. بمعنى "وهبّ" و "هبات". ووردت كلمات أخرى تؤدي هذا المعنى أيضاً. منها: "ودم"، و "شفتم"، و "بنتم". وتقابل هذه ما يقال له: "منحة" و "المنحة" عند العرب الشماليين.
وفي جملة ما يدخل في هذا الباب "بكرت"، أو "الباكورة" أول كل شيء. مثل الثمر وأول مولود بالنسبة للحيوان، حيث يهدى للالهة. وقد كان معروفاً عند العبرانيين وعند غيرهم من الساميين. وذلك أن يجعل صاحب المال ثمرة أول زرعه أو حيوانه نذراً لآلهته. وّقد اشير إلى هذا النذر أو الهبة في نصوص المسند. ومن "الباكورة" العقّيقة التي تحدثت عنها في موضع آخر من هذا الكتاب.
وتلعب النذور دوراً خطيراً في الحياة الدينية عند الجاهليين، حتى صارت عندهم بمثابة المظهر الأول وللوحيد للدين. فالعامة لا تكاد تفهم من الدين إلا تقديم النذور للالهة، لتجيب لها طلباتها وتنعم عليها بنعمائها. والنذور هي وعد على شرط. يتوسل الناذر إلى آلهته بأنها ان أجابت طلباً عينه، وحققت مطلباً نواه، فعليه كذا نذر، يعينه ويذكره. فهنا عقد ووعد بين طرفين في مقابل تنفيذ شرط أو شروط، أحد طرفيه السائل صاحب النذر، أما الطرف الثاني فهو الإله أو الالهة. وأما الشرط، فهو تنفيذ المطالب التي يريدها الناذر. وأما النذر، فهو أشياء مختلفة، قد تكون ذبيحة، وقد تكون جملة ذبائح، وقد تكون نقوداً، وقد تكون فاكهة أو زرعاً، وقد تكون أرضاً،وقد تكون تمثالاً، وقد تكون حبساً لانسان يهب نفسه أو مملوكه أو ابنه لإلهه أو لآلهته، وقد يوهب ما في بطن المرأة أو ما في بطن الحيوان، وقد يكون النذر حيوانات حية. وهكذا نجد مادة النذر كثيرة مختلفة متباينة بتباين النذر والأشخاص.
ولا يشترط في وفاء النذر ان يكون عيناً اي مادة، إذ يجوز ان يكون امرأَ معنوياً، كأن يذكر الناذر في نذره انه إن اجاب الإلهَ الفلاني طلبه وبارك له ومنحه طفلاً، يخدمه له أو يسميه عبده، اي عبد ذلك الإله الذي نذر له. وكثير من الأسماء المبتدأة ب "عبد".يليها اسم "صنم"، هي من هذا القبيل، دُعي اصحابها بها ليحمي من سمّي به صاحب ذلك الاسم في مقابل تلك التسمية. ومن هذا القبيل عبد مناف وعبد مناة.
ومن هذا القبيل ايضاً نذر المواهب، كأن ينذر شخص مواهبه لصنم او لمعبد، باًن يتعهد ان يقوم بترنيم التراتيل الدينية في الأعياد أو في اوقات الصلوات والمناسبات في ذلك المعبد، أو يقوم فيه بأعمال فنية مثل رسم منظر ديني أو تزيين معبد الإله، والنذر بالصيام وبغير ذلك.
ويعبر عن الابن الذي ينذره أبوه أو أمه بأن يجعله خادماً للمعبد أو للصنم أو للكنيسة ذكراً كان أم أنثى "النذيره"، وذلك لأنه حبس على خدمة الإله أو الصنم أو المعبد وتفرغ، فلا يخدم أحداً سواها. وفي التنزيل: )إني نذرت لكَ ما في بطني محرراً".
ويقال للنذر "النَّحْب"، وهو ما ينذره الإنسان على نفسه فيجعله نحباً واجباً، وقيل: إنما قيل للنذر نذراً، لأنه ينذر فيه، أي أوجب على النفس. ووردت لفظة "نذر" "نذرم" "نذرن" في نصوص المسند، بمعنى "نذر" و"نذور".
النذر لخدمة الكعبة
ومن هذه النذور "الربيط". فقد كان الجاهليون ينذرون أنهم إذا عاش لهم مولود جعلوه خادماَ للبيت، أي لبيت الصنم. ومن هنا لقب "الغوث بن مرّ" بالربيط " لأن أمه كانت لا يعيش لها ولد، فنذرت لئن عاش هذا لتربطن برأسه صوفة، ولتجعلنه ربيط الكعبة، فعاش ففعلت وجعلته خادماً للبيت حتى بلغ الحلم، فنزعته فلقب الربيط".
ويظهر من بعض الروايات انهم كانوا يربطون الربيط بالبيت. فقد ذكروا أن أم "الغوث" لما "ربطته عند البيت اًصابه الحرّ، فمرت به، وقد سقط وذوى واسترخى "، فيظهر أنهم كانوا يربطونه برباط بالموضع المقدس، ليكون على اتصال تام به، كما يفعل الناس اليوم من ربط مرضاهم ومن لا يعيش طويلاً من الأولاد بقبور الأولياء بخيط أو حبل، رجاء الشفاء وطول العمر، وقد يعقدون خيطاً أو شريطاً بالقبر، لهذا الغرض.
وقد كان اصحاب النذور يتنسكون ويكثرون من تعبدهم ومن تقربهم للصنم الذي نذروا له، ليمنّ عليهم ويحقق لهم ما طلبوه. وقد اشار "لبيد" الى الناسكات ينتظرن النذر بقوله: توجس النُبوُحَ شُعٌثا غُبراً كالناسكات ينتظرن النذرا
ومن نذورهم في الجاهلية، انهم كانوا ينذرون بألا تهب الصبا حتى يذبحوا أو ينحروا، ويظهر ان هذه عادة كانت لها صلة بطقوس دينية جاهلية قديمة،نجدها عند اهل مكة وعند الأعراب.
وتكون النذور في حالات الشدة والضيق في الغالب. فإذا أصيب انسان بمكروه أو أصيب عزيز له بذلك، نذر إلى آلهته نذراً، يقدمه لها حالة تحقق الشرط، فإن صادف ان تحقق ما طلبه، وجب على الناذر الوفاء بنذوره. ونظراً لظروف ذلك الوقت، فقد كانت النذور كثيرة ومتنوعة. منها نذور مادية، ومنها نذور معنوية، مثل التعبد والتبتل وخدمة بيوت الأصنام وما شاكل ذلك من نذور. وقد كانوا لا يحلون لأنفسهم التملص والتخلص من الوفاء بالنذور، لاعتقادهم
انهم إن أكلوها ولم يوفوا بها، غضبت عليهم الالهة، ولاسيما الإلَه الذي جعلوا نذرهم له، فيصابون بغضب منها، و ينالهم مكروه، فهم لذلك يوفون نذورهم ولا يقصرون في الأداء، إلا لحاجة أو لاستهتار. أو لتغلب الشح على النفس، ومع ذلك، فقد كاّنوا يلجأون الى الحيل الشرعية في هذا التهرب، بإيجاد الحلول و الأعذار.
ونجد في نصوص المسند عدداً كبيراً من الكتابات تفيد ان صاحب الكتابة قد قدّم إلى الإلهَ الفلاني كذا وكذا، لأنه أجاب طلبه وأعطاه ما أراد ووفاه بحسب طلبه، فقدم اليه كذا وكذا وفاء لنذره. وتذكر في النص أحياناً جملة لتنزل اللعنة أو لينزل الهلاك والدمار أو ما شابه ذلك على من يحاول ازالة النذر والأثر عن موضعه أو إلحاق الأذى به أو ما شابه ذلك من عبارات. وقد ورد مثل ذلك في النصوص الثمودية والليانية والنصوص الأخرى. وتفهم فكرة النذر والغاية منه صراحة من هذه الكتابات، فالناذر قدّم نذره، لأن الإلهَ المذكور أو الآلهة المذكورة أجابت طلبه ووفت له ما أراد، فوفى هو له أو لها ما أشترط على نفسه تقديمه عند عقده صيغة النذر. فالإلهَ أو الالهة طرف يسمع ويتعاقد ويجيب ويفعل أو تفعل تماماً كما يفعل الإنسان، وهي تشترط على الطرف الثاني اي على السائل الوفاء بالنذر، لأنه دين يجب عليه دفعه في مقابل تنفيذ الآلهة الشروط المذكورة، وإلا فإن الآلهة تغضب عليه وتوقع القصاص عليه، وقد تسحب ما قدمت له حينما عقدت النذر معه.
وكانت القرابين البشرية في جملة الأشياء التي قدمها الإنسان نذراً إلى آلهته. وكان "عبد المطلب"، كما يذكر أهل الأخبار قد نذر إن توافى له عشرة رهط أن ينحر أحدهم. فلما اكمل العدد، قرر الوفاء بنذره، وذلك بذبح أحدهم. وإِذ لم يكن قد عين الولد الذي سيذبحه، ذهب كعادة أهل مكة إلى هُبل يستقسم عنده. فلما أصاب النصيب "عبد الله"، ذهب إلى "إساف" ونائلة وثَني قريش الذين تنحر عندهما، ليذبحه، "فقامت اليه قريش من أنديتها: فقالوا: ماذا تريد يا عبد المطلب ? قال: أذبحه. فقالت له قريش وبنوه: والله لا تذبحه أبداً حتى تعذر فيه، لئن فعلت هذا لا يزال الرجل يأتي بابنه حتى يذبحه، فما بقاء الناس على هذا ?". ثم سألوه أن يذهب إلى عرّافة كانت بالمدينة لها "تابع"، لترى رأيها في الموضوع وتفتي فيه، فلما ذهب اليها،وجدها بخيبر، فأشارت عليه أن يعود الى مكة، ثم يضرب بالقداح على ابنه وعلى عشر من الإبل وهو مقدار الدية عندهم، فإن خرجت القداح على عبد الله ضربوا القداح مرة أخرى، فإن خرجت القداح على عبد الله مرة أخرى، أعادوا الضرب حتى يقع على الإبل، فيكون الرب قد رضي عنه، فتنحر الإبل عندئذ، فسمع نصيحتها وفعل، ونحرت الإبل فدية عن ابنه "عبد الله". والظاهر أن عادة نحر الأبناء عند الكعبة قد بقيت حتى بعد دخول العرب في الإسلام، بدليل ما ورد عن نذر امرأة أن تنحر ابنها عند الكعبة في أمر إن فعلته، ففعلت ذلك الأمر، فجاءت إلى المدينة تستفتي علماءها في الأمر. فأشار عليها من استفتتهم بوجوب الوفاء بالنذر، ولكنهم ذكروا لها أن الله قد نهى عن قتل أنفسكم، وذكروا لها قصة عبد المطلب المذكورة، ومعنى ذلك تقديم الفداء.
كذلك كان من عادة الجاهليين النذر في ساعات الشدة والخطر، فكان بعض النساء ينذرن أن يجعلن ولدهن "حمساً" إن شفي الرب ابنها من مرض ألم به، كما كانوا ينذرون بحلق شعر الرأس أو جز شعر الناصية أو الاعتكاف والانزواء بعيداً عن الناس. وهي عادات نجدها عند غير العرب أيضاً.
التطاول على نصيب الله للأصنام
وقد أشار المفسرون وأصحاب الحديث والأخبار الى نذور كانت معروفة في الجاهلية، فمنعها الإسلام وفي بعضها نوع من التحايل والتلاعب، حيث كانوا يتصرفون بحسب أهوائهم وشهواتهم ومنافعهم وقت استحقاق النذر. ومن ذلك ما أشير اليه في القرآن الكريم: )وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً، فقالوا: هذا لله بزعمهم، وهذا لشركائنا، فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون(. وقد ذكر المفسرون ان من الجاهليين من كان يزرع لله زرعاً وللأصنام زرعاً، فكان اذا زكا الزرع الذي زرعوه لله ولم يزك الزرع الذي زرعوه للأصنام، جعلوا بعضه للأصنام وصرفوه عليها، ويقولون ان الله غني والأصنام أحوج، وان زكا الزرع الذي زرعوه للاصنام، ولم يزك الزرع الذي زرعوه لله لم يجعلوا منه شيئاً لله. وقالوا هو غني.
وكانوا يقسمون الغنم، فيجعلون بعضه لله، وبعضه للاصنام، فما كان لله أطعموه الضيفان، وما كان للصنم أنفقوه على الصنم. فكانوا اذا اختلط ما جعل للاصنام بما جعل لله تعالى ردوه، واذا اختلط ما جعل لله بما جعل للأصنام تركوه. وقالوا الله أغنى. واذا هلك ما جعل للاصنام، بدّ لوه مما جعل للّه، واذا هلك ما جعل لله لم يبدلوه بما جعل للأصنام.
فهم يتطاولون على ما خصصوه لله من نصيب، ويتصرفون به كما يشاؤون، و يحافظون على ما خصصوه للاصنام، بزعمهم أنها شركاء لله، ويقدمونه لها. ولعل ذلك بسبب أن ما كان يخصصونه للاصنام كان يجد له معقباً وسائلاً،يراجع أصحاب الحرث أي الزرع وأصحاب الأنعام لاستحصال حق الأصنام منهم. وهو حق مفروض، وهم السدنة ورجال الأصنام، فكانوا يستحصلون حقوق الأصنام منهم، على حين كان ما يخصصونه لله نذراً لا يعرف به غير الناذر، فكان يتلاعب به، ويعطيه أو يعطي جزءاً منه إلى جامعي حق الأصنام، على اعتبار أنها شريكة لله، وبذلك يتهرب من أداء النذر كاملاً بهذه الحيلة الشرعية، فلا يستخرج من ماله الذي خصصه لنفسه شيئاً عن الوفاء بالنذر وفاءً تاماً، أو لاعتقادهم أن الله بعيد عنهم، وهو غفور رحيم، أما الأصنام، فقريبة منهم، وهي منتقمة أشد الانتقام.
ويتبين من دراسات النذور عند الشعوب القديمة أنها كانت نتيجة حاجة،وتصور الإنسان أن بإمكانه التأثير على آلهته بهذه النذور، فيجعلها تميل إلى اجابة طلبه وحل مشكلاته، وذلك بتقديم مطالب مغرية تطمعها، وهدايا سارة تفرح بها، كما يفرح الإنسان عند تقديم أمثالها اليه، فيهش لصاحب الهدية ويرتاح له ويتقرب اليه، ويعد الهدية نوعاً من التقرب والتودد والتحبب، فمن واجب من أهديت اليه الهدية مقابلة المتودد بالمثل. وأما الحاجات التي كان يرجو الناذرون تحقيقها، فهي في الغالب الحصول على ثروة، أو صحة وعافية أو ذرية أو نصر وتوفيق. والناذر على يقين بالطبع من أن الإلهَ الذي نذر له النذر قادر على تحقيق ذلك، وإلا لم يتقدم اليه بهذا النذر.
النذور وما يأخذه المرء عهداً على نفسه
ويدخل في باب النذور ما يأخذه المرء عهداً على نفسه بتجنب الطيبات واللذيذ من العيش، أو بالابتعاد عن الناس، واعتزالهم على نحو ما يفعله الرهبان والناسكون لأمد معين أو لأجل غير معلوم. ونجد أمثلة عديدة من هذا العهد في أخبار الجاهليين، كالذي ذكروه عن "امرىء القيس" من أنه قال حينما بلغه مصرع والده: " الخمر عليّ والنساء حرام حتى أقتل من بني أسد مئة وأجز نواصي مئة "، وكالذي رووه عن غيره من الجاهليين. وهي كلها من هذا الطراز. أخذ الشخص عهداً على نفسه بألا يقرب امرأة أو يشرب خمراً أو يضع طيباً أو يقرب اللذائذ حتى يأخذ بثأره أو يتحقق ما نوى عليه، وقد يحدد ذلك بوقت بأن يعين أجل العهد.
وإذ كان النذر عهداً، كان من اللازم تنفيذ العهد ? فإذا مات من أخذ عهداً على نفسه بأن يفعل شيئاً لم يفعله، فعلى ورثته وقبيلته الوفاء بعهده. فإذا مات شخص كان قد نذر على نفسه الأخذ في بثأر قتيل ولم يوف بعهده، بسبب موته، فعلى اهله وذوي قرابته وأفراد قبيلته الأخذ بالثأر. ولذلك كانت أحقاد الثأر تنتقل من الآباء إلى الأبناء فالأحفاد، وتستغرق أحياناً زمناً طويلا حنى يؤخذ بالثأر. وقد نشأت عن هذه العهود مشكلات خطيرة في المجتمع الإسلامي في موضوع العهود التي يمكن تنفيذها والعهود التي لا يجوز تنفيذها، أو التي يسمح بعدم تنفيذها وفي مبلغ التبعة التي تترتب على الورثة في تنفيذ العهود.
القرابين
وتؤلف القرابين جزءاً مهماً من عبادة الأمم القديمة، بل تكاد تكون العلامة الفارقة عندهم للدين. والرجل المتدين في عرفهم هو الرجل الذي يتذكر آلهته ويضعها دائماً نصب عينيه، وذلك بتقديم القرابين لها، ولست أخطئ اذا قلت انها كانت عندهم أبرز من العبادات العملية كالصلوات، لأن الإنسان القديم لم يكن يفهم آنئذ من الحياة إلا مفهومها المادي،وهو يرى بعينيه ويدرك ان ما يقدم اليه من هدايا يؤثر في نفسه كثيراً، ولذلك كان من الطبيعي ان يتصور بعقله ان القرابين هي أوقع في نفوس آلهته من اي شيء كان، فقدمها على كل شيء، وجعلها عبادة يتقرب بها إلى الآلهة كما يتقرب اهل الأديان السماوية إلى الإلَه بالدعاء والصلوات، فهي في نظره عبادة تقربه إلى الأرباب.
الذبــــأئح الدموية
وقد كان الجاهليون، يعظمون البيت بالدم، ويتقربون إلى أصنامهم بالذبائح، يرون ان تعظيم البيت أو الصنم لا يكون إلا بالذبح، وان الذبائح من تقوى القلوب. والذبح هو الشعار الدال على الاخلاص في الدين عندهم،وعلامة التعظيم. "قال المسلمون: يا رسول الله، كان اهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم،فنحن أحق ان نعظمه".
ويظهر من قول أحد الشعراء الجاهليين: فلا لعمر الذي مسحت كعـبـتـه وما هرُيق على الأنصاب من جسدِ
أن الجاهليين كانوا يريقون دم الضحية على الأنصاب،وهي موضوعة في الكعبة، ويمسحون الكعبة.
وكلمة "قربان" وجمعها "قرابين"، هي من أصل "ق ر ب"، وقد استعملت وخصصت بهذا المعنى لأنها تقرب إلى الآلهة. والقربان هو كل ما يتقرب به إلى الله. فليس القربان خاصاً بالذبائح، وان صار ذلك مدلوله في الغالب.
ومن القرابين ما يقدّم في أوقات معينة موقوتة، ومنها ما ليس له وقت محدد ثابت بل يقدم في كل وقت. ومن أمثلة النوع الأول ما يقدم في الأعياد أو في المواسم أو في الأشهر أو في أوقات معينة من اليوم وفي ساعات العبادات، ومن أمثلة النوع الثاني ما يقدم عند ميلاد مولود، أو انشاء بناء أو القيام بحملة عسكرية أو لنصر وما شابه ذلك من احوال. ويدخل في النوع الأول الأحتفاء بأعياد الآلهة، حيث تكسى أصنامها أحسن الحلل، وتزين باجمل زينة، ثم يوضع أمامها ما لنَّ من الطعام وما حسن من الهدايا، وتذبح لها الذبائح، تذبح على الأنصاب. ويأتي الكهاّن ليقوموا بتأدية الشعائر الدينية المقررة في هذه الأحوال. ومعظم نصوص المسند كتابات دونت عند تقديم قربان أو نذر إلى الآلهة في ميلاد مولود، أو شفاء مريض، أو بناء معبد أو بيت، أو حفر خندق أو تشييد برج أو سور، أو حفر بئر أو زواج وما شاكل ذلك. ويظهر منها ان الناس في ذلك العهد كانوا يقدمون القرابين إلى آلهتهم في مناسبات كثيرة، تقرباً اليها وارضاء لها، ولكي تمنّ على أصحابها بالخير والبركة.
الذبائح
وقد استعملت نصوص المسند لفظة "ذبح" و "ذبجم" بمعنى "ذبحوا" و "ذبح" و "ذبيحة" و "ذبائح". وقد تسبق بكلمة "يوم"، فتكون "يوم ذبح"، اي "يوم ذبحوا"، ثم يذكر بعدها عدد ما ذبح ونوعه، ثم كلمة "اذبح" بمعنى "ذبائح" في بعض الأحيان. والذبائح التي تقدم إلى الآلهة هي الإبل والبقر والثيران والغنم والمعز، وهي اكثر الحيوانات شيوعاً في الذبح عند الشعوب السامية الأخرى. ولم نجد في نصوص المسند ذكراً لحيوانات اخرى كالأسماك أو الدجاج مثلاً، ولعل ذلك بسبب ضآلة قيمتها وتفاهتها بالقياس إلى أثمان الحيوانات الأخرى، مما جعل الناس يأنفون من الاشارة اليها في النصوص. وفي بعض الأديان حرق الذبائح وسكب دمائها على النار كما يفعل العبرانيون،إذ اتخذوا مذبحاً للمحروقات، ويسمى أيضاً بمذبح النحاس. وكانت ناره لا تطفأ، وتقدم اليه الذبائح على الدوام، ويعرف ذلك عندهم ب "عولاه" Olah، وتفسير الكلمة الشيء الذي يعلو.
وينفي "ولهوزن" وجود المحارق عند الجاهليين، وعنده أن العرب لم يكونوا يحرقون الذبائح للارباب، بل كانوا يكتفون بالذبح وبسكب دم الذبيحة على النصب كله أو بعضه، أو انهم يتركونه يسيل إلى "الغبغب"، وليس في الذي بين أيدينا من نصوص ما يدل على ان الجاهليين كانوا يحرقون ذبائحهم لأربابهم على نحو ما كان يفعله العبرانيون،غير أن ذلك لا يمكن أن يكون مع ذلك دليلا قاطعاً وحجة كافية في اثبات أن هذه العادة لم تكن عند جميع الجاهليين.
وهناك ذبائح من نوع آخر قدمها الإنسان إلى آلهته، من نوع لا تشمله كلمة خروف أو شاة أو بقرة أو ثور أو جمل، من نوع آخر لا تشمله اية تسمية من هذه التسميات التي تطلق على هذه الحيوانات التي يأكلها الإنسان في العادة،
الذبـــــــائح البشرية
هي ذبائح يعاقب القانون كل من يمارسها في الوقت الحاضر بأشد العقوبات، هي ذبائح بشرية قدمها الإنسان إلى الهته لاعتقاده انها زلفى محببة الى نفوسها، وانها ستفيد المجموع وتنقذه من كثير من الأوبئة والأمراض وأنواع الشر والضر، إن كان الإنسان الحديث يتبرأ منها في الزمن الحاضر ويتنكر لها ويحاول تبرئة أجداد أجداده من ممارستها قبل مئات من السنين، فالتأريخ لا يستطيع ان يجد دليلاً يثبت تبرئة أكثر أديان شعوب العالم القديمة من تقديم هذا النوع مهن القرابين، كذلك نجد هذه العادة عند اليونان والرومان والهنود والفراعنة والصينيين واليابانيين وغيرهم.
أما عند الجاهليين، فذكر "فورفيريوس" Forphyrius أن أهل "دومة" Duma كانوا يذبحون في كل سنة إنساناً عند قدم الصنم تقرباً اليه. وذكر "نيلوس" Nilus أن من عادة بعض القبائل تقديم أجمل من يقع أسيراً في أيديهم إلى "الزُهرة"،ضحية لها تذبح وقت طلوعها، وقد وقع ابنه "تيودولس" Theodolus أسيراً حوالي سنة 400 م في أيدي الأعراب Saracenes، و هيىء ليذبح قرباناً إلى الزُهرة غير ان أحوالاً وقعت أفاتت عليهم الوقت المخصص لتقديم الذبائح، أنقذته من الذبح، فاكتفى آسروه ببيعه في أسواق الرقيق ب "ألوسة" Elusa، فاستقر هناك إلى أن صار أسقفاً على المدينة. وذكر أيضاً أن الملك "المنذر" ملك الحيرة قدم احد ابناء الحارث الذي وقع أسيراً في يديه ونحو من أربع مئة راهبة قرابين إلى العُزّى. غير أننا يجب أن نكون في حذر شديد من قراءة أمثال هذه الروايات، لأن مصدرها في الغالب هو الخيال. كذلك يجب ان نمر برواية الاخباريين عن قصة عبد المطلب وعبد الله بشيء من الاحتراس والحذر، بل والشك والريبة، ويخيل اليّ إن الاخباريين استفادوا في هذه القصة من حكاية ابراهيم واسحاق.
وليس في الذي بين أيدينا من نصوص المسند نصّ ما فيه خبر يشير إلى تقديم شخصً ما ملك أو كاهن أو اي انسان آخر ذبيحة بشرية إلى الآلهة، كذلك لا نجد في النصوص الأخرى مثل النصوص الثمودية أو اللحيانية أو الصفوية مثل هذه الاشارات.
وتلعب "المذابح" التي سبق ان تحدثت عنها، دوراً خطيراً في العبادة عند الساميين، بل تكاد تكون المظهر الأساس للدين والتعبد عندهم في ذلك العهد..ولهذا كان المتدين يكثر من ذبح الذبائح لأنها تقربه إلى الآلهة في نظره.
الترجيب - شهر الذبائح الحيوانية
وقد عرف شهر "رجب" بكثرة ما كان ينحر فيه من عتائر للاصنام، فلا بد ان يكون لذلك أصل وسبب، كأن يكون هذا الشهر من الأشهر التي كان لها حرمة خاصة في الجاهلية القديمة. وشهر رجب هو من الأشهر الحرم المعظمة التي لم يكن يحلّ فيها القتال. وقد سمى الذبح في هذا الشهر ب "الترجيب"، وقيل للذبائح التي تقدم فيه "العتائر" جمع "عتيرة". وقد عدّت العتائر من شعائر الجاهلية. وأطلق بعض علماء اللغة كلمة "العتائر" على ذبح الحيوانات الأليفة، وأطلق لفظة "النافرة" على ذبح الحيوانات الوحشية. "وفي الحديث: هل تدرون ما العتيرة، وهي التي يسمونها الرجبية ? كانوا يذبحون في شهر رجب ذبيحة، وينسبونها اليه. يقال هذه ايام ترجيب وتعتار. وكانت العرب ترجب، وكان ذلك لهم نسكاً".
وذكر بعض أهل الأخبار ان أول من عتر العتائر وسن العتيرة للعرب، هو "بورا"، وهو "بوز"، وهو ابن شوحا، وهو سعد رجب، وهو أول من سن الرجبية للعرب. وهو ابن يعمانا، وهو قموال، و كان في عمر سليمان ابن داود. والظاهر ان أحد أهل الكتاب قص على الاخباريين هذه القصة، فنسبوا هذه السنّة الجاهلية إلى هؤلاء الأشخاص.
وكان بعض السادة ينحرون إذا أهلّ "الشهر الأصم"، اي "شهر رجب". روي: ان "حاتماً الطائي" كان ينحر اذا أهلّ الشهر، ينحر عشراً من الإبل ويطعم الناس لحومها، وذلك لحرمته ومنزلته عنده، ولتعظيم "مضر". فهو من شهود مضر الخاصة.
وعرفت "العتيرة" ب "الرجبية" عند الجاهليين كذلك، لأنها كانت تذبح في شهر رجب، فنسبوها اليه. وعرفت ايام رجب ب "ايام الترجيب". وورد "ايام ترجيب وتعتار". وقيل للذبائح التي تقدم فيه "النسائك" كذلك.
وأصل "النُسك": الدم، وبهذا المعنى ورد من فعل كذا وكذا فعليه نسك، اي دم يهريقه. و "النسيكة": الذبيحة. و "منسك": الموضع الذي تذبح فيه النسيكة، وهذا هو المعنى القديم الأصلي للكلمة. وقد صار من معانيها في العربية الشمالية، العبادة والطاعة، وكل ما يتقرب به إلى الله تعالى، لما كان للذبح من شأن في الديانات القديمة بحيث كان يعدّ عبادة أساسية عندها، ولذلك قيل لمن انصرف إلى التعبد: الناسك.
وقد فسر علماء التفسير لفظة "نسك" الواردة في الآية: "ففدية من صيام أو صدقة أو نسك"، بذبح ذبيحة شاة أو ما فوق ذلك.
والعرف في الذبح عندهم، انهم كانوا يسوقون ما يريدون تعتاره اي ذبحه إلى النصب الخاص بالصنم أو إلى الصنم نفسه، ثم يذبحونه بعد التسمية باسم ذلك الصنم، وبيان السبب في ذبح هذه العتيرة، ثم يلطخ رأس الصنم بشيء من دم تلك العتيرة،وقد منع المسلمون من أكل ذبائح المشركين، لأنها مما أهل لغير الله، ولأن المشركين لم يكونوا يذكرون اسم الله عليها، بل كانوا يذكرون اسم الصنم الذي يذبحون له عليها. فحرم ذبائح المشركين لذلك على المسلمين.
وقد أبطل الإسلام "الرجبية" وهي العتيرة، كما أبطل "الفرع"، وهو ذبح أول نتاج الإبل والغنم لأصنامهم، فكانوا يأكلونه ويلقون جلده على الشجر. ويذكر انهم كانوا اذا أرادوا ذبح الفرع زيتوه والبسوه، ليكون ذلك أوكد في نفوس الآلهة، وتعريفاً للناس. وكانوا يفعلون ذلك تبركاً. وفي الحديث: لا فرع ولا عتيرة.
وذكر انهم كانوا اذا بلغت الإبل ما يتمناه صاحبها ذبحوا، أو اذا تمت إبل احدهم مائة عتر عنها بعيراً كل عام فأطعمه الناس ولا يذوقه هو ولا أهله، قيل بل قدم بكره فنحره لصنمه.وقد كان المسلمون يفعلونه في صدر الإسلام ثم نسخ. وذكروا ان العتيرة الذبيحة التي كانت تذبح للاصنام ويصب دمها على رأسها. و "العتر" الصنم الذي يصاب رأسه من دم العتر. قال زهير: فزلّ عنها واوفى رأس مـرقـبة كناصب العتر دمى رأسه النسك.
وكانوا يؤكدون على تلطيخ الصنم الذي يعتر له، أو "النصب" بشيء من دم العتيرة. يفعلون ذلك على ما يظهر،ليحس الصنم بالدم فوقه. فيتقبله ويرضى به عنهم: ويتقبل عتيرتهم.
ويظهر من غربلة ما جاء في روايات علماء اللغة والأخبار عن العتيرة والرجبية،أن العتيرة بمعنى الذبيحة، وأن "العتر" الذبح عامة، في رجب وفي غير رجب. و "العتائر" الذبائح التي كانوا يذبحونها عند أصنامهم وأنصابهم في رجب وفي غير رجب، والتي كانوا يلطخون بدمائها.الصنم الذي كانوا يعترون له. وأما "الرجبية" فهي العتائر التي تعتر في رجب خاصة، وقد كانت كثيرة. ولذلك نسبت إلى هذا الشهر. ونظراً إلى كون الرجبية عتيرة، ذهب البعض إلى أن العتيرة الرجبية. فظن أنهم قصدوا بذلك أن العتيرة هي الرجبية، مع ان الرجبية من العتائر، أي بعض من كل، وليست مساوية لها.
وقد كان بعض أهل الجاهلية إذا طلب أحدهم أمراً نذر لئن ظفر به ليذبحن من غنمه في رجب كذا وكذا، أو أن يقول: إن بلغت ابلي مائة عترت عنها عتيرة، فإذا ظفر به، أو بلغت مائة، فربما ضاقت نفسه عن ذلك، وضن بغنمه، فصاد ظبياً فذبحه، أو ياخذ عددها ظباء، فيذبحها مكان تلك الغنم، وهي "الربيض". والى ذلك أشير في شعر للحارث بن حلزة اليشكري: عنتاً باطلا وظلماً، كـمـاتـع تر عن هجرة الربيض الظباء
فذلك نوع من أنواع التحايل للتخلص من الوفاء بالنذور.
وكان أهل الجاهلية لا يأكلون من هديهم، وانما ياكل لحومها غيرهم. كما كانوا يضرجون البيت بدماء ألبدن،، ويضرجون أصنامهم بها. وورد في رواية أخرى، انهم ينحرون هديهم عند الأصنام، فإذا نحروا هدياً قسموه فيمن حضرهم.
من ذبائح اهل الجاهلية "الشريطة". كانوا يقطعون يسيراً من حلق الشاة ويتركونها حتى تموت ويجعلونه ذكاة لها. وقد نهي عن ذلك في الإسلام. وقيل ذبيحة الشريطة، هي انهم كانوا يشرطونها من العلة، فإذا ماتت قالوا قد ذبحناها.
ومما يلاحظ في تقديم الذبائح، ان النافر يراعي الجنس في اختيار الذبيحة،فإذا كان مقرب القربان ذكراً، اختار قربانه حيواناً ذكراً، وان كان المقرب أنثى، اختيرت الذبيحة أنثى. ولا زال الناس يراعون ذلك حتى اليوم. وفي هذه العادة عند غير العرب أيضاً، فقد كان أهل العراق يقسمون كتف حيوان، في مقابل شفاء كتف انسان، ورأس ذبيحة في مقابل رأس ناذر، وهكذا وكانوا يجعلون الرأس رمزاً أحياناً، فينذرون تقديم رأس المريض أو الصبي إلى الإلَه،إن منّ عليه بالعافية وبالصحة. ويقصدون بذلك بدلاً، رأس حيوان أو رمزاً يرمز اليه من ذهب أو فضة.
البحيرة والسائبة والوصيلة والحام
ومن النذور والقرابين ما يكون حيوانات حية، تسمى كلها أو بعضها باسم الأرباب، فتحبس عليها، وتكون حرة طليقة لا يجوز مسها بسوء. وقد أشير في القرآن الكريم إلى "البحيرة"، و "السائبة"، و "الوصيلة"، و "الحام"،، وللعلماء في هذه المصطلحات كلام، مهما تضارب واختلف، فإنه يوصلنا إلى نتيجة هي ان الجاهليين كانوا يراعون هذه الأمور مراعاة شديدة،ولهم فيها قواعد وأحكام ترجع إلى تقاليد موروثة قديمة، حافظوا عليها، وظلوا يحافظون عليها إلى ان منعها الإسلام.
فاما البحيرة، فالناقة او الشاة تترك فلا ينتفع من لبنها ولا تحمل ولاتركب، وترعى وترد الماء فلا ترد، فاذا ماتت حرموا لحمها على النساء وأباحوه على الرجال، ذلك بعد ان تنتج خمسة أبطن أو عشرة أو ما بين ذلك. وقيل ايضاً الناقة اذا نتجت خمسة أبطن نظروا في البطن الخامس فان كان ذكرا نحروه،فأكله الرجال والنساء جميعاً، وان كانت أنثى شقوا أذنها، فتلك البحيرة، فلا يجز وبرها ولا يحمل عليها، وحرم على النساء ان يذقن من لبنها شيئاً وان ينتفعن بها، وكان منافعها للرجال دون النساء. وقيل للشاة التي تشق أذنها،وذلك شيء كان لأهل الجاهلية. تشق أذنها أو أذن الناقة بنصفين، وقيل بنصفين طولا، ليكون التبحير علامة لها.
وقيل: البحيرة هي التي يمنع درّها للطواغيت، فلا يحتلبها أحد من الناس. قيل لها البحيرة، لأنهم بحروا اذنها، أي شقوها، وكان البحر علامة التخلية. وقال بعض العلماء: البحيرة هي ابنة السائبة. وقال بعض آخر: البحيرة من الإبل يحرم أهل الجاهلية وبرها وظهرها ولحمها ولبنها إلاّ على الرجال، فما ولدت من ذكر وأنثى، فهو على هيئتها، وان ماتت اشترك الرجال والنساء في أكل لحمها، وورد أن البحيرة من الإبل، كانت الناقة اذا نتجت خمسة أبطن نحروا الخامس ان كان سقباً، وان كان ربعة شقوا أذنها واستحيوها وهي بحيرة. وأما السقب فلا يأكل نساؤهم منه، وهو خالص لرجالهم، فإن ماتت الناقة أو نتجوها ميتا فرجالهم ونساؤهم فيه سواء يأكلون منه. والمرار من "السقب" الذكر من ولد الناقة.
وورد في الأخبار أن أول من بحر البحائر رجل من "بني مدلج"، كانت له ناقتان فجدع آذانها وحرم البانهما وظهورهما، وقال هاتان لله، ثم احتاج اليهما، فشرب ألبانهما وركب ظهورهما. كما نسب التبحير إلى "عمرو بن لحيّ"، إذ قيل إنه كان أول من بحر البحيرة وسيب السائبة.
وأما السائبة، فهي الناقة أو البعير أو الدابة تترك لنذر، أو بعد بلوغ نتاجها حدا معلوماً، فلا تركب ولا يحمل عليها ولا يمنع من ماء وكلأ، وتترك سائبة لا يحل لأحد كائناً من كان مخالفة ذلك. "وكان الرجل في الجاهلية اذا قدم من سفر بعيد، أو بريء من علة، أو نجَته دابة من مشقة أو حرب، قال ناقتي سائبة، أي تسيب، فلا ينتفع بظهرها، ولا تحلا عن ماء، ولا تمنع من كلا، ولا تركب، وقيل: بل كان ينزع من ظهرها فقارة، أو عظما، فتعرف بذلك.فاغير على رجل من العرب، فلم يجد دابة يركبها،فركب سائبة، فقيل: أتركَب حراماً ? فقال: يركب الحرام من لا حلال له، فذهبت مثلاً"، و " قيل: هي أم البحيرة، كانت الناقة اذا ولدت عشرة أبطن، كلهن اناث: سيبت فلم تركب، ولم يشرب لبنها إلا ولدها أو الضيف حتى تموت. فإذا ماتت أكلها الرجال والنساء جميعاً، وبحرت اذن بنتها الأخيرة، فتسمى البحيرة، وهي بمنزلة أمها في أنها سائبة".. وقيل السائبة: كان الرجل من أهل الجاهلية يسيب من ماله من الأنعام، فلا يمنع حوضاً أن يشرع فيه، ولا مرعى أن يرتع فيه، فيهمل في الحمى، فلا ينتفع بظهره، و لا بولده ولا بلبنه ولا بشعره ولا بصوفه، فهو مخلاة لا قيد عليه، ولا راعي له. وكان في روعهم ان من تعرض للسوائب أصابته عقوبة في الدنيا.
ويذكر اهل الأخبار ان أول من سيب السوائب "عمرو بن عامر الخزاعي"، أي "عمرو بن لحيّ بن قمعة بن خندف"، أخا بني كعب، وهو أول من غير دين ابراهيم. وقد رجعوا خبرهم هذا الى رسول الله. وقيل ان أول من ابتدع ذلك "جنادة بن عوف"، وهو من النسأة، كما سيأتي الكلام عنه فيما بعد.
وأما الوصيلة، فالناقة التي وصلت بين عشرة أبطن، أو الشاة التي وصلت سبعة أبطن. وفي رواية: ان الشاة اذا ولدت ستة أبطن نظروا، فإن كان السابع ذكراً ذبح وأكل منه الرجال والنساء، وان كان أنثى تركت في الغنم، وان كان ذكراً وأنثى قالوا: وصلت أخاها، ولم يذبح، وكان لحمه حراماً على النساء. وفي رواية: ان لبن أم الوصيلة حلال على الرجال دون النساء. وقالوا: الوصيلة الشاة اذا أتامت عشر اناث متتابعات في خمسة أبطن، ليس بينهن ذكر. فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور دون الاناث، إلا ان يموت شيء منها فيشترك في اكله ذكورهم واناثهم.
وأما الحام، فالبعير اذا نتج عشرة أبطن من صلبه، قالوا: قد حمى ظهره،فلا يركب ولا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء ولا مرعى. وقالوا: الحام من الإبل، كان الفحل اذا انقضى ضرابه جعلوا عليه من ريش الطواويس وسيبوه. وقالوا بل الحام ان الفحل اذا نتج له عشر اناث متتابعات ليس بينهن ذكر حمى ظهره ولم يركب ولم يجز وبره ويخلى في إبله يضرب فيها لا ينتفع به بغير ذلك. وذكر ان الحام، الفحل يضرب في الإبل عشر سنين، ويقال: اذا ضرب ولد ولده قيل قد حمى ظهره، فيتركونه لا يمس ولا ينحر أبدا ولا يمنع من كلا يريده. وهو من الأنعام التي حرمت ظهورها.
وذكروا ان أول من حمى الحامي هو "عمرو بن لحي ""، وذلك في سنن أخرى سنها لأهل الجاهلية.
وقد أشير في سورة "الأنعام" إلى أشياء كان يفعلها أهل الجاهلية، يتقربون بها إلى آلهتهم، كانوا يحرمون من انعامهم أشياء لا يأكلونها ويعزلون من حرثهم شيئاً معلوماً لالهتهم ويقولون لا يحل، لنا ما سمينا لالهتنا. فورد: )وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصباً. فقالوا: هذا لله بزعمهم، وهذا لشركائنا، فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم. ساء ما يحكمون" وورد )وقالوا هذه أنعام وحرث، حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم، وأنعام حرمت ظهورها، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراءَ عليه سيجزيهم.بما كانوا يفترون. وقالوا: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا. ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء. سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم ".
وذكر المفسرون أن من المشركين من حرم ظهور بعض أنعامهم، فلا يركبون ظهورها، وهم ينتفعون برسلها ونتاجها وسائر الأشياء منها غير ظهورها للركوب. وحرموا من أنعامهم أنعاماً أخر فلا يحجون عليها. وقد ذكروا أن المراد بذلك: البحيرة والسائبة والحام. وأنهم كانوا قد جعلوا ألبان البحائر للذكور دون الإناث. وان كانت ميتة اشترك فيها ذكورهم وإناثهم. وكانت الشاة إذا ولدت ذكراً ذبحوه، وكان للرجال دون النساء، فان كانت أنثى تترك فلم تذبح، وان كانت ميتة فهم فيه شركاء. فالمراد بهذه الآيات مما ذكرته عن الأمور المتقدمة. وقد كان بعض أصحاب النذر ينذر، فإذا تم النذر وصار وبلغت ابلهم أو غنمهم ذلك العدد، بخل بإبله أو شاته وضاقت نفسه عن الوفاء وضن بإبله وبغنمه فاستعمل التأويل، وقال: إنما قلت إني أذبح كذا وكذا شاة والظباء شاء، كما ان الغنم شاء.: فيجعل ذلك القربان شاءً كله مما يصيده من الظباء فلَذلك يقول الحارث بن حلزة اليشكري: عنناً باطلاً وظلماً كمـا تـع ترعن حجرة الربيض،الظِباءُ
وكان الرجل من العرب في الجاهلية اذا بلغ إبله ألفاً عار عين بعير منها، وسرحه لا ينتفع به. وكان من عادتهم اذا بلغ إبلهم المئة، ترك ركوب ظهر بعير منها، فلا يركب ولا ينتفع به، ويقولون لذلك: الأخلاق.
وكانوا يتصدقون بمائة من الإبل على الفقراء والمحتاجين والمعابد، وما شاكل ذلك. روي ان "حنيفة" النعم، وهو من أثرياء الجاهلية، لما شعر بدنو أجله، جمع بنيه، ثم أوصى بمائة من إبله على يتيمه صدقهّ. وكانوا يسمونها "المطيبة"، وقد عرف ما كان يحبسه أهل الجاهلية على أصنامهم من السوائب والبحائر والحوامي وغيرها.ب "الحبس". وقد أطلق الإسلام ما حبسوا وحلل ما حرموا،. وهو جمع حبيس.
وكانت لهم مكرمات، فعلوها في الجاهلية عن خلق ودين ورغبة في شهرة وسمعة. منها انهم كانوا يتصدقَون بأموالهم على أبناء السببل وعلى الفقراء والمحتاجين، ذكر ان "الأسود بن ربيِعة بن أبي الأسود" لليشكري، قال لرسول الله: "يا رسول الله إن أبي كان تصدق بمال من ماله على ابن السبيل في الجاهلية، فإن تكن لي مكرمة تركها، وإن لا تكنً لي مكرمة، فأنا أحق بها. فقال: بل هي لك مكرمة فتقبلها". وذكر ان رسول الله قال: "ألا ان كل مكرمة كانت في الجاهلية، فقد جعلتها تحت قدمي، إلا للسقاية والسدانة". وهذه المكرمات هي من مآثر العرب في الجاهلية، مكارمها وتفاخرها للتي تؤثر عنها. وتحريم أكل لحوم الحيوانات في مثل هذه الحالات على النساء وتخصيصه بالرجال، وجوازه في حالات أخرى،ثم تحريم الانتفاع من لبنها على النساء في بعض الحالات وعلى الرجال والنساء في حالات أخرى إلا للضيوف وعلى جواز ركَوبها: كل هذه تشير إلى أنها من شريعة قديمة. وقد رجع بعض العلماء ذلك إلى الطوطمية، غير أن من للعسير قبول هذا التفسير.
وقد كان الجزارون المجازون شرعاً يقومون بذبح الذيائح عند العبرانيين، وهم الذين يقررون صلاح الذبيحة أو عدم موافقتها لأحكام الشرع. أما عند الجاهليين فلا نعرف شيئاً عمن كان يقوم بذبح الضحايا التي تقدم إلى الأصنام، كما أننا لا نستطيع أن نبحث عن الشروط التي كانوا يثسترطونها في الذبيحة ليكون لحمها صالحاً للأكل.
والطيب والبخور من أهم المواد النبي كان يتقرب الجاهليون إلى آلهتهم بإهدائها إلى المعابد. ولم تكن هذه عادة خاصة بالجاهليين وحدهم، بل هي عادة معروفة في جميع الأديان، ولا تزال باقية مستعملة. يحرق البخور في المباخر والمجامر، لتنبعث روائحه الزكية في أبهاء المعبد. أما الخلوق وأنواع الطيب، فتلطخ بها الأصنام وجدران المعبد، وطالما يقدم المؤمنون إلى آلهتهم بمبخره ليحرق البخور فيها. ومن بين نصوص المسند، نصً كتبه مؤمن اسمه "عبد أصدق" وأبناؤه إلى الإلَه "ود"، ذكروا فيه أنهم قدموا اليه مبخرة تعويظ عن المبخرة التي سرقها اللصوص من معبده.وقد عثر في اليمن على مباخر كبيرة نحتت من الصخر، أهديت إلى المعابد، ليحرق فيها البخور.
وبين ما قدم إلى الآلهة، الملابس والأقمشة وأنواع الأطعمة، حتى اللبن قدّم إلى الصنم "ود" على رواية الأخباريين.
ووردت لفظة "الهدي" في القرآن الكريم. ويراد بها ما أهدي إلى مكة من النعم وغيره من مال أو متاع. والعرب تسمي الإبل هَدْياً، لأنها تهدى إلى البيت لتنحر، فأطلقت على جميع الإبل،وإن لم تكن هدياً تسمية للشيء ببعضه. وذكر ان الهدي ما أهدي إلى بيت الله من ناقة أو بقرة أو شاة أو ثياب وكل ما يهدى. فهو عام في جميع ما يتقرب به من الذبائح والصدقات. إلا ان الاطلاق إنما ينصرف إلى احد الأصناف الثلاثة من الإبل والبقر والغنم، وسوقها إلى الحرم وذبحها فيه. وقد ذكر "الهدي" في شعر لزهير بن أبي سلمى: فلم أر معشراً أسروا هدياً ولم أر جار بيت يستبـاء
يذكر رجلاً أسر يشبهه في حرمته بالبدنة التي تهدى.
وعرف الهدي المقلد بقلائد، تشعر انه مما أهدى إلى بيت الله ب "القلائد".فلا يجوز لأحد ان يتحرش به، أو ان يفك قلائده، لأن ذلك تجاوز على مال الله، وهو مال معلم عليه معروف بقلادته انه من الهدي المخصص بالبيت. فماذا فكت قلادته سرق وحسب من أموال الناس،الخاصة. والظاهر ان من الجاهليين من كان يتطاول على أموال البيت، يستولي على الهدي، ويفك القلائد، ويسطو بذلك على الإبل المقلدة والبقر المقلد، وذلك كما يظهر من الآية: )لا تحلوا شعائر الله، ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد (. ومنهم من كان يسطو على الهدي قبل وصوله موضعه من البيت.
وكانوا يهدون الإبل والبقر إلى بيوت أصنامهم. وقيل الناقة أو البقرة أو البعير تهدى إلى مكة "البدنة". وقد أشير إلى البدن في القرآن، فورد: )والبدن جعلناها لكم من شعائر الله (. تهدى إلى بيت الله فلا تركب. وذكر ان البدن السمان من الإبل والبقر. ويظهر من غربلة ما ورد في روايات علماء التفسير عن البدن، انها الهدايا التي تقدم إلى الكعبة، تحبس فتبقى حية، لا يجوز لأحد التطاول عليها، وكانوا ينحرونها أيضاً. والإبل تنحر قياماً معقولة. فكانوا اذا ا أرادوا نحر البعير، عقلوا احدى يديه،فيقوم على ثلاث قوائم. ولم يكونوا يركبون البدن إلا عن ضرورة. فالبدن إذن ما يهدى إلى مكة، ليحبس على اسمها، أو ليذبح تقرباً إلى رب البيت.
حمى الآلهة
ولحماية الحبوس من أرض ومن حيوان، شددت شرائع الجاهليين في وجوب المحافظة على حرمتها وعدم الاعتداء عليها. وهددت من يتجاسر على مال الأرباب بعقوبة تنزل عليه منها وبغضب الآلهة عليه، وبمصير سيئ يلحق به، فضلاً عن العقوبة التي تنزلها المعابد به، قد تصل حد القتل. فصار من المحظور اعتضاد نبات الحرم وصيد الحيوان فيه، ومن يفعل. ذلك يكون آثماً، وقد يعرض نفسه لغضب الناس عليه. فصار الحرم مرتعاً آمناً للطيور، ولا زال الناس لا يتحرشون بطيور المعابد ولا يمسونها بأي سوء، بل يقدمون لها ما تحبه من المأكول، لتعيش عليه.
وجعلت المعابد لحيواناتها وللهدي وللقلائد مواضع خاصة، اختارتها لترعى فيها جعلت "حمى" للارباب. لا يجوز لأحد رعي سوائمه بها ولا التطاول على دواب تلك الأحمية، لأنها مما حبس للاصنام. وتكون هذه المواضع مخصبة معشبة ذات حياة، وقد تزرع. وتكون غلتها للمعبد.