لسلطان الملك حسن المرة ثانية على مصر سنة 755 هـ
سلطنة الناصر حسن الثانية وكان قد خلع خلعه من السلطنة بأخيه الملك الصالح صالح
ولما قبض على أصحاب الأمير طاز اتفق صرغتمش مع الأمير شيخون على خلع الملك الصالح من السلطنة وسلطنة الملك الناصر حسن ثانيًا وأبرموا ذلك حتى تم لهم. فقاموا ودخلوا إلى القلعة وأرسلوا طلبوا الملك الصالح فلما توجه إليهم أخذ من الطريق وحبس في بيت من قلعة الجبل.
وأرسلوا أشهدوا عليه بأنه خلع نفسه من السلطنة ثم طلبوا الملك الناصر حسنًا من محبسه بالقلعة وكلموه في عوده وأشرطوا عليه شروطًا قبلها. فأخذوه إلى موضع بالقلعة فيه الخليفة والقضاة وبايعوه ثانيًا بالسلطنة ولبسوه تشريف السلطنة وأبهة الملك وركب فرس النوبة ومشت الأمراء بين يديه إلى الإيوان فنزل وجلس على تخت الملك وقبلوا الأمراء الأرض بين يديه على العادة وكان ذلك في يوم الإثنين ثاني شوال سنة خمس وخمسين وسبعمائة.
ولم يغير لقبه بل نعت بالناصر كما كان أولًا على لقب أبيه. ونوب بآسمه بمصر والقاهرة ودقت البشائر وتم أمره.
وحالما قلع الملك الناصر خلعة السلطنة عنه أمر في الحال بمسك الأمير طاز فشفع فيه الأمير شيخون لأنه كان أمنه وهو نزيله فرسم له السلطان بالتوجه إلى نيابة حلب فخرج من يومه وأخذ في إصلاح أمره إلى أن سافر يوم الجمعة سادس شوال وسار حتى وصل حلب في الخامس من ذي القعدة وكانت ولايته لنيابة حلب عوضًا عن الأمير أرغون الكاملي.
وطلب أرغون إلى مصر فحضر أرغون إلى القاهرة وأقام بها مدة يسيرة ثم أمسك. وأقام طاز في نيابة حلب ومعه أخوه كلتاي وجنتمر وكلاهما مقدمان بها.
ودام الملك الناصر حسن في الملك إلى أن دخلت سنة ست وخمسين وسبعمائة والخليفة يوم ذاك المعتضد بالله أبو بكر ونائب السلطنة بمصر الأمير آقتمر عبد الغني وأتابك العساكر الأمير شيخون العمري - وهو أول أتابك سمي بالأمير الكبير وصارت من بعده الأتابكية وظيفة إلى يومنا هذا ولبسها بخلعة: وإنما كانت العادة في تلك الأيام أنه من كان قديم هجرة من الأمراء سمي بالأمير الكبير من غير خلعة فكان في عصر واحد جماعة كل واحد منهم يسمى بالأمير الكبير حتى ولي شيخون هذا أتابكية العساكر - وسمي بالأمير الكبير - بطلب تلك العادة القديمة وصارت من أجل وظائف الأمراء. تم ذلك. انتهى.
وكان نائب الشام يوم ذاك أمير علي المارديني ونائب حلب طاز وصاحب بغداد وما والاها الشيخ حسن ابن الشيخ حسين سبط أرغون بن أبغا بن هولاكو. وفي هذه السنة أيضًا كملت خانقاة الأمير الكبير شيخون العمري بالصليبة والربع والحمامان وفرغت هذه العمارة ولم يتشوش أحد بسببها.
ورتب في مشيختها العلامة أكمل الدين محمد بن محمود البابرتي الحنفي وأشركه في النظر. ودام السلطان حسن في السلطنة ولم يحرك ساكنًا إلى أن آستهلت سنة ثمان وخمسين وسبعمائة قبض على أربعة من الأمراء وسجنوا بثغر الإسكندرية وهم: الأمير قجا السلاح دار وطقطاي الدوادار وقطلوبغا الذهبي وخليل بن قوصون.
وخلع على الأمير علم دار باستقراره في الدوادارية وخلع على الأمير قشتمر باستقراره حاجبًا ووزيرًا وكان القبض على هؤلاء الأمراء بعد أن ضرب الأمير شيخون بالسيف وحمل إلى داره جريحًا ولزم الفراش إلى أن مات حسب ما يأتي ذكره.
وأمر ضرب شيخون كان في يوم الإثنين من شعبان سنة ثمان وخمسين وسبعمائة وهو أن السلطان الملك الناصر حسنًا جلس في اليوم المذكور على كرسي الملك بدار العدل للخدمة والأمراء جلوس في الخدمة والقضاة والأعيان وجميع أرباب الدولة.
وبينما السلطان جالس على كرسي الملك وثب مملوك من المماليك السلطانية يسمى قطلوخجا السلاح دار على الأمير الكبير شيخون وضربه بالسيف ثلاث ضربات أصابت وجهه ورأسه وذراعه فوقع شيخون مغشيًا عليه وأرجف بموته.
وقام السلطان من على الكرسي ودخل إلى القصر ووقعت الهجة. فلما سمعت مماليك شيخون بذلك طلعوا القلعة راكبين صحبة أمير خليل بن قوصون أحد الأربعة المقبوض عليهم بعد ذلك فحملوا شيخون على جنوية وبه رمق ونزلوا به إلى داره وأحضروا الجرائحية فأصلحوا جراحاته.
وبات شيخون تلك الليلة في إصطبله وأصبح السلطان الملك الناصر حسن ونزل لعيادته من الغد فدخل عليه وحلف له أن الذي وقع لم يكن بخاطره ولا له علم به وكان الناس ظنوا أن السلطان هو الذي سلطه على شيخون فتحقق الناس براءة السلطان.
وطلع السلطان إلى القلعة وقد قبض على قطلوخجا المذكور فرسم السلطان بتسميره فسمر. ثم وسط في اليوم المذكور بعد أن سأل السلطان قطلوخجا السلاح دار المذكور عن سبب ضرب شيخون بالسيف فقال: " طلبت منه خبزًا فمنعني منه وأعطاه لغيري ". ولزم شيخون الفراش من جراحه إلى أن مات في ذي القعدة من السنة.
وبموته خف عن السلطان أشياء كثيرة فإنه كان ثقيل الوطأة على السلطان إلى الغاية بحيث إن السلطان كان لا يفعل شيئًا حتى يشاور حقيرها وجليلها فلما مات آلتفت السلطان حسن إلى إنشاء مماليكه فأمر منهم جماعة كثيرة على ما سيأتي ذكره.
ثم أخذ السلطان حسن في شراء دار ألطنبغا المارداني ويلبغا اليحياوي بالرميلة وهدمهما وأضاف إليهما عدة دور وإسطبلات أخر.
وشرع في بناية مدرسته المعروفة به تجاه قلعة الجبل التي لم يبن في الإسلام نظيرها ولا حكاها معمار في حسن عملها وذلك في سنة ثمان وخمسين المذكورة. ولما شرع في عمارتها جعل عليها مشدين ومهندسين وآجتهد في عملها. وأما مصروفها وما آجتمع بها من الصناع والمعلمين فكثير جدًا لا يدخل تحت حصر. وقيل: إن إيوانها يعادل إيوان كسرى في الطول.
قلت: وفي الجملة إنها أحسن ما بني في الدنيا شرقًا وغربًا في معناها بلا مدافعة. وفي هذه السنة وقع أمر عجيب قال ابن كثير في تاريخه: وفي هذه السنة حملت جارية من عتقاء الأمير الهيدباني قريبًا من تسعين يومًا ثم شرعت تطرح ما في بطنها فوضعت قريبًا من أربعين ولدًا منهم أربع عشرة بنتًا.
وقد تشكل الجميع وتميز الذكر من الأنثى فسبحان القادر على كل شيء. قلت: وابن كثير ثقة حجة فيما يرويه وينقله. انتهى.
ولما مات شيخون انفرد صرغتمش بتدبير المملكة. وعظم أمره واستطال في الدولة وأخذ وأعطى وزادت حرمته وأثرى وكثرت أمواله إلى أن قبض عليه الملك الناصر حسن حسب ما يأتي ذكره في محله إن شاء الله تعالى.
ثم إن السلطان قبض على الأمير طاز نائب حلب في أوائل سنة ثمان وخمسين المذكورة بسفارة صرغتمش وقيده وحمله إلى الإسكندرية فحبسه بها وولى عوضه في نيابة حلب الأمير منجك ثم عزل السلطان عز الدين بن جماعة عن قضاء الشافعية بديار مصر وولى عوضه بهاء الدين بن عقيل فأقام ابن عقيل في القضاء ثمانين يومًا وعزل وأعيد ابن جماعة.
ثم نقل السلطان منجك اليوسفي المذكور من نيابة حلب إلى الشام عوضًا عن أمير على المارديني ونقل المارديني إلى نيابة حلب كل ذلك في سنة ثمان وخمسين وسبعمائة المقدم ذكرها. وخلع السلطان على تاج الدين بن ريشة واستقر في الوزارة.
ثم نفى السلطان جماعة من الأمراء منها الأمير جرجي الإدريسي وأنعم بإقطاعه وهو إمرة مائة وتقدمة ألف بديار مصر على مملوكه يلبغا العمري صاحب الكبش وهو الذي قتل أستاذه الملك الناصر حسنًا المذكور حسب ما يأتي ذكره في وقته من هذا الكتاب في هذه الترجمة. ثم خلع السلطان على يلبغا وجعله أمير مجلس عوضًا عن الأمير تنكز بغا المارديني.
ثم في يوم الخميس العشرين من شهر رمضان سنة تسع وخمسين وسبعمائة أمسك السلطان الأمير صرغتمش الناصري بعد ما أقعد له قواعد مع الأمير طيبغا الطويل ويلبغا العمري وغيرهما وأمسك معه جماعة من الأمراء وهم طشتمر القاسمي حاجب الحجاب وطيبغا الماجاري وأزدمر وقماري وأرغون الطرخاني وآقجبا الحموي وجماعة أخر من أمراء الطبلخانات والعشرات.
وكان سبب مسكه أن صرغتمش كان قد عظم أمره بعد موت شيخون وآستبد بأمور الدولة وتدبير الملك فلما تم له ذلك ندب الملك الناصر حسنا لمسك طاز ووغر خاطره عليه حتى كان من أمره ما كان.
فلما صفا له الوقت بغير منازع لم يقنع بذلك حتى رام الوثوب على الملك الناصر حسن ومسكه واستقلاله بالملك فبلغ الناصر ذلك فاتفق مع جماعة من الأمراء مسكه عند دخوله على السلطان في خلوة فلما كان وقت دخوله وقفوا له في مكان رتبهم السلطان فيه فلما دخل صرغتمش احتاطوا به وقبضوا عليه ثم خرجوا لمن عين لهم من الأمراء المقدم ذكرهم فقبضوا عليهم أيضًا في الحال وحبسوا الجميع بقلعة الجبل.
فلما بلغ مماليك صرغتمش وحواشيه من المماليك بالسلاح وطلعوا إلى الرميلة فنزل إليهم المماليك السلطانية من القلعة وقاتلوهم من بكرة النهار إلى العصر عدة وجوه إلى أن كانت الكسرة على مماليك صرغتمش.
أخذتهم السيوف السلطانية ونهبت دار صرغتمش عند بئر الوطاويط ونهبت دكاكين الصليبة ومسك من الأعجام صوفية المدرسة الصرغتمشية جماعة لأنهم ساعدوا الصرغتمشية وأحموهم عند كسرتهم وما أذن المغرب حتى سكن الأمر وزالت الفتنة ونودي بالأمان والبيع والشراء. وأصبح الملك الناصر حسن في بكرة يوم الثلاثاء وهو سلطان مصر بلا منازع.
وصفا له الوقت وأخذ وأعطى وقرب من اختار وأبعد من أبعد وخلع على الأمير ألجاي اليوسفي واستقر به حاجب الحجاب عوضًا عن طشتمر القاسمي. وخلع على جماعة أخر بعدة وظائف.
ثم أخذ في ترقية مماليكه والإنعام عليهم وأعيان مماليكه: يلبغا العمري وطيبغا الطويل وجماعة من أولاد الأمراء.
وكان يميل لإنشاء أولاد الناس وترقيهم إلى الرتب السنية لا لحبه لهم بل كان يقول: هؤلاء مأمونو العاقبة وهم في طي علمي وحيث وجهتهم إليه توجهوا ومتى أحببت عزلهم أمكنني ذلك بسهولة وفيهم أيضًا رفق بالرعية ومعرفة بالأحكام حتى إنه كان في أيامه منهم عدة كثيرة منهم أمراء مقدمون يأتي ذكر أسمائهم في آخر ترجمته إن شاء الله تعالى.
ثم أخرج السلطان صرغتمش ورفقته في القيود إلى الإسكندرية فسجن صرغتمش بها إلى أن مات في ذي الحجة من السنة على ما سيأتي ذكر صرغتمش في الوفيات من حوادث سنين الملك الناصر حسن.
ثم إن السلطان عزل الأمير منجك اليوسفي عن نيابة دمشق في سنة ستين وسبعمائة وطلبه إلى الديار المصرية فلما وصل منجك إلى غزة بلغه أن السلطان يريد القبض عليه فتسحب ولم يوقف له على خبر. وعظم ذلك على السلطان وأكثر من الفحص عليه وعاقب بسببه خلائق فلم يفده ذلك. ثم خلع السلطان على الأمير علي المارديني نائب حلب بإعادته إلى نيابة دمشق كما كان أولًا وآستقر بكتمر المؤمني في نيابة حلب عوضًا عن علي المارديني فلم تطل مدته بحلب وعزل عنها بعد أشهر بالأمير أسندمر الزيني أخي يلبغا اليحياوي نائب الشام كان.
ثم خلع السلطان على فخر الدين بن قروينة باستقراره في نظر الجيش والخاص معًا. ثم ظهر الأمير منجك اليوسفي من اختفائه في بيت بالشرف الأعلى بدمشق في سنة إحدى وستين وسبعمائة بعد أن اختفى به نحو السنة فأخذ وأحضر إلى القاهرة فلما مثل بين يدي السلطان وعليه بشت عسلي وعلى رأسه مئزر صفح عنه لكونه لم يخرج من بلاده ورسم له بإمرة طبلخاناه بدمشق وأن يكون طرخانًا يقيم حيث
شاء وكتب له بذلك توقيع شريف.
ثم في هذه السنة وقع الوباء بالديار المصرية إلى أوائل سنة آثنتين وستين وسبعمائة.
ومات في هذا الوباء جماعة كثيرة من الأعيان وغيرهم وأكثرهم كان لا يتجاوز مرضه أربعة أيام إلى خمسة ومن جاوز ذلك يطول مرضه وهذا الوباء يقال له: الوباء الوسطي أعني بين وباءين. وفي هذه الأيام عظم يلبغا العمري في الدولة حتى صار هو المشار إليه وثقلت وطأته على أستاذه الملك الناصر حسن مع تمكن الملك الناصر في ملكه.
وكان يلبغا العمري وطيبغا الطويل وتمان تمرهم أعظم أمرائه وخاصكيته من مماليكه.
سبب تغير يلبغا على السلطان وإنقلابه عليه
وقيل: إن سبب تغيير خاطر يلبغا من أستاذه الملك الناصر حسن - على ما قيل - أنه لما عمل ابن مولاهم البليقة التي أولها: من قال أنا جندي خلق لقد صدق. عندي قبا من عهد نوح على الفتوح. لو صادفوا شمس السطوح كان آحترق. ورقصوا بها بين يدي السلطان حسن.
وأشاروا ب " الجندي خلق " إلى يلبغا وهو واقف بين يدي السلطان حسن والسلطان حسن يضحك ويستعيدها منهم فغضب من ذلك يلبغا وحقد على أستاذه السلطان وهذا يبعد وقوعه لكنه قد قيل.
فلما أن استهلت سنة آثنتين وستين وسبعمائة بلغ الملك الناصر أن يلبغا ينكر عليه من كونه يعطي إلى النساء الإقطاعات الهائلة وكونه يختص بالطواشية ويحكمهم في المملكة وأشياء غير ذلك.
وصارت الخاصكية ينقلون للسلطان عن يلبغا أمورًا قبيحة في حقه في مثل هذا المعنى وأشباهه فتكلم الملك الناصر حسن مع خواصه بما معناه: إنه قبض على أكابر أمرائه من مماليك أبيه حتى استبد بالأمر من غير منازع وأنشأ مماليكه مثل يلبغا المذكور وغيره حتى يسلم من معارض فصار يلبغا يعترض عليه فيما يفعله فعظم عليه ذلك وندم على ترقيه وأخذ يترقب وقتًا يمسك يلبغا فيه. واتفق بعد ذلك أن السلطان حسنًا خرج إلى الصيد ببر الجيزة بالقرب من الهرمين وخرجت معه غالب أمرائه يلبغا وغيره على العادة.
السلطان يريد قتل الأمير يلبغا
فلما كان يوم الثلاثاء تاسع جمادى الأولى من سنة اثنتين وستين المذكورة أراد السلطان القبض على يلبغا لما بلغه عن يلبغا أنه يريد الركوب عليه هناك فصبر السلطان حسن حتى دخل الليل فركب ببعض خاصكيته من غير استعداد ولا اكتراث بيلبغا وسار يريد يكبس على يلبغا بمخيمه فنم بعض خاصكية السلطان بذلك إلى يلبغا.
فاستعد يلبغا بمماليكه وحاشيته لقتاله وطلب خشداشيته وواعدهم بالإمريات والإقطاعات وخوفهم عاقبة أستاذهم الملك الناصر حسن المذكور حتى وافقه كثير منهم.
كل ذلك والملك الناصر في غفلة استخفافًا بمملوكه يلبغا المذكور حتى قارب السلطان خيمة يلبغا خرج إليه يلبغا بمن معه وقاتله فلم يثبت السلطان لقلة من كان معه من مماليكه وانكسر وهرب وعدى النيل وطلع إلى قلعة الجبل في الليل - في ليلة الأربعاء التاسع من جمادى الأولى من سنة اثنتين وستين المذكورة - وتبعه يلبغا ومن معه يريد القلعة فاعترضه ابن المحسني أحد أمراء الألوف بمماليكه ومعه الأمير قشتمر المنصوري وواقعا يلبغا ببولاق وقعة هائلة انكسر فيها يلبغا مرتين وابن المحسني يتقدم عليه. كل ذلك وابن المحسني ليس له علم من السلطان أين ذهب بل بلغه أنه توجه إلى جهة القلعة فأخذ ابن المحسني في قتال يلبغا وتعويقه عن المسير إلى جهة القلعة.
واشتد القتال بين يلبغا وابن المحسني حتى أردف يلبغا الأمير ألجاي اليوسفي حاجب الحجاب وغيره فانكسر عند ذلك ابن المحسني وقشتمر وقيل: إن يلبغا لما رأى شدة ابن المحسني في القتال دس عليه من رجعه عن قتاله وأوعده بأوعاد كثيرة منها أنه لا يغير عليه ما هو فيه في شيء من الأشياء خوفًا من طلوع النهار قبل أن يدرك القلعة وأخذ السلطان الملك الناصر حسن لأن الناصر كان طلع إلى قلعة الجبل في الليل ولم يشعر به أحد من أمرائه ومماليكه وخواصه وصاروا في حيرة من عدم معرفتهم أين توجه السلطان حتى يكونوا معه على قتال يلبغا.
وعلم يلبغا أنه متى تعوق في قتال ابن المحسني إلى أن يطلع النهار أتت العساكر الملك الناصر من كل فج وذهبت روحه فلما ولى ابن المحسني عنه آنتهز يلبغا الفرصة بمن معه وحرك فرسه وصحبته من وافقه إلى جهة القلعة حتى وصل إليها في الليل. والله أعلم.
فإنه لما آنكسر من مملوكه يلبغا وتوجه إلى قلعة الجبل حتى وصل إليها في الليل ألبس مماليكه المقيمين بالقلعة فلم يجد لهم خيلًا لأن الخيول كانت في الربيع.
يلبغا يقتل السلطان حسن سلطان مصر
وبينما هو في ذلك طرقه يلبغا قبل أن يطلع النهار وتجتمع العساكر عليه فلم يجد الملك الناصر قوة للقائه فلبس هو وأيدمر الدواداري زي الأعراب ليتوجها إلى الشام ونزلا من القلعة وقت التسبيح فلقيهما بعض المماليك فأنكروا عليهما وأمسكوهما في الحال وأحضروهما إلى بيت الأمير شرف الدين موسى بن الأزكشي أستادار العالية فحملهما في الوقت إلى يلبغا حال طلوع يلبغا إلى القلعة فقتلهما يلبغا في الحال قبل طلوع الشمس.
وكان عمر السلطان حسن يوم قتل نيفًا على ثلاثين سنة تخمينًا وكانت مدة ملكه في سلطنته هذه الثانية ست سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام. وكان قتله وذهاب ملكه على يد أقرب الناس إليه من مماليكه وخواصه وهم: يلبغا العمري وطيبغا الطويل وتمان تمر وغيرهم وهم من مشترواته اشتراهم ورباهم وخولهم في النعم ورقاهم إلى أعلى المراتب خوفًا من أكابر الأمراء من مماليك أبيه فكان ذهاب روحه على أيديهم وكانوا عليه أشد من تلك الأمراء.
فإن أولئك لما خلعوه من السلطنة بأخيه الملك الصالح حبسوه بالدور من القلعة مكرمًا مبجلًا وأجروا عليه الرواتب السنية إلى أن أعادوه إلى ملكه ثانيًا وهم مثل شيخون وصرغتمش وقبلاي النائب وغيرهم فصار يتذكر ما قاساه منهم في خلعه من السلطنة وتحكمهم عليه فأخذ في التدبير عليهم حتى قبض على جماعة كثيرة منهم وأبادهم.
ثم رأى أنه ينشىء مماليكه ليكونوا له حزبًا وعضدًا فكانوا بعكس ما أمله منهم ووثبوا عليه وكبيرهم يلبغا المقدم ذكره. وعندما قبضوا عليه لم يمهلوه ساعة واحدة وعندما وقع نظرهم عليه قتلوه من غير مشاورة بعضهم لبعض موافاة لحقوق تربيته لهم وإحسانه إليهم فكان بين فعل مماليك أبيه به وبين فعل مماليكه له فرق كبير. ولله در القائل: " معاداة العاقل ولا مصاحبة الجاهل ". قلت: لا جرم أن الله تعالى عز وجل عامل يلبغا المذكور من مماليكه بجنس ما فعله مع أستاذه ووثبوا عليه وقتلوه أشر قتله على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
واستولى يلبغا العمري الخاصكي على القلعة والخزائن والسلاح والخيول والجمال وعلى جميع ما خلفه أستاذه الملك الناصر حسن وأقام في المملكة بعده ابن أخيه الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر حاجي ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون كما سيأتي ذكره بعد حوادث سنين الملك الناصر حسن كما هي عادة هذا الكتاب.
وكان الملك الناصر حسن أنشأ مدرسة بالرميلة تجاه قلعة الجبل في مدة يسيرة مع قصر مدته في السلطنة والحجر عليه في تصرفه في سنين من سلطنته الثانية أيضًا. وكان صفته للطول أقرب أشقر وبوجهه نمش مع كيس وحلاوة وكان متجملًا في ملبسه ومركبه ومماليكه وبركه.
اصطنع مرة خيمة عظيمة فلما نجزت ضربت له بالحوش السلطاني من قلعة الجبل فلم ير مثلها في الكبر والحسن وكان السلطان الملك الناصر حسن مغرمًا بالنساء والخدام وآقتنى في سلطنته من الخدام ما لم يقتنه غيره من ملوك الترك قبله وكان إذا سافر يستصحب النساء معه في سفره لكونه ما كان له ميل للشباب كعادة الملوك من قبله وكان يعف عن ذلك.
وخلف السلطان الملك الناصر حسن تغمده الله برحمته من الأولاد الذكور عشرة: وهم أحمد وقاسم وعلي وإسكندر وشعبان وإسماعيل ويحيى وموسى ويوسف ومحمد وستًا من البنات.
ثروة السلطان حسن
وخلف من الأموال والقماش والذهب العين والسلاح والخيول وغيرها شيئًا كثيرًا. استولى يلبغا على الجميع وتصرف فيه حسب ما أراده. وكان السلطان حسن محبًا للرعية وفيه لين جانب.
حمدت سائر خصاله لم يعب عليه في ملكه سوى ترقيه لمماليكه في أسرع وقت فإنه كان كريمًا بارًا بإخوته وأهله يميل إلى فعل الخير والصدقات وله مآثر بمكة المشرفة واسمه مكتوب في الجانب الشرقي من الحرم وعمل في زمنه باب الكعبة الذي هو بابها الآن وكسا الكعبة الكسوة التي هي إلى الآن في باطن البيت العتيق.
وكان كثير البر لأهل مكة والمدينة إلى أن كانت الواقعة لعسكره بمكة في أواخر سنة إحدى وستين وسبعمائة التي كان مقدم عسكرها الأمير قندس وابن قراسنقر وحصل لهم الكسرة والنهب والقتل من أهل مكة وإخراجهما من مكة على أقبح وجه.
غضب السلطان بعد ذلك على أهل مكة وأمر بتجهيز عسكر كبير إلى الحجاز للانتقام من أهل مكة وعزم على أنه ينزعها من أيدي الأشراف إلى الأبد. وكاد يتم له ذلك بسهولة وسرعة وبينما هو في ذلك وقع بينه وبين مملوكه يلبغا وكان من أمره ما كان. وكان السلطان حسن يميل إلى تقدمة أولاد الناس إلى المناصب والولايات حتى إنه كان غالب نواب القلاع بالبلاد الشامية في زمانه أولاد ناس ولهذا لم يخرج عليه منذ سلطنته بالبلاد الشامية خارجي. وكان في أيامه من أولاد الناس ثمانية من مقدمي الألوف بالديار المصرية.
ثم أنعم على ولديه أحمد وقاسم بتقدمتي ألف فصارت الجملة عشرة فأما الثمانية فهم: الأمير عمر بن أرغون النائب وأسنبغا بن الأبي بكري ومحمد بن طوغاي ومحمد بن بهادر رأس نوبة ومحمد بن المحسني الذي قاتل يلبغا وموسى بن أرقطاي وأحمد بن آل ملك وشرف الدين موسى بن الازكشي الأستادار فهؤلاء من مقدمي الألوف.
وأما الطبلخانات والعشرات فكثير. وكان بالبلاد الشامية جماعة أخر فكان ابن القشتمري نائب حلب وأمير علي المارديني نائب الشام وابن صبيح نائب صفد. وأما من كان منهم من المقدمين والطبلخانات نواب القلاع فكثير.
السنة الأولى من سلطنة الناصر حسن الثانية وهي سنة ست وخمسين وسبعمائة.
على أنه حكم في السنة الخالية بعد خلع أخيه الملك الصالح صالح من شوال إلى آخرها.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وأربع عشره إصبعًا. مبلغ الزيادة ثماني عشرة ذراعًا وإحدى وعشرون إصبعًا.
لسنة الثانية من سلطنة الناصر حسن الثانية وهي سنة سبع وخمسين وسبعمائة.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم خمس أذرع وأربع أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وعشرون إصبعًا.
السنة الثالثة من سلطنة الناصر حسن الثانية وهي سنة ثمان وخمسين وسبعمائة.
الماء القديم سبع أذرع وإصبع. مبلغ الزيادة ثماني عشرة ذراعًا وست أصابع.
السنة الرابعة من سلطنة الناصر حسن الثانية وهي سنة تسع وخمسين وسبعمائة.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم أربع أذرع وثماني أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا سواء.
السنة الخامسة من سلطنة الناصر حسن الثانية وهي سنة ستين وسبعمائة.
مبلغ الزيادة تسع عشرة ذراعًا وثلاث أصابع. وقيل أربعة أصابع من غير زيادة والله سبحانه أعلم بالصواب.
السنة السادسة من سلطنة الناصر حسن الثانية وهي سنة إحدى وستين وسبعمائة.
*******************************************************************************
قال المقريزى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار الجزء الثالث ( 041 من 761 ) : "وأعيد السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون: في يوم الإثنين المذكور فأقام حى قام عليه مملوكه الأمير يلبغا الخاصكي وقتله في ليلة الأربعاء تاسع جمادى الأولى سنة اثنتين وستني فكانت مدّته هذه ست سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام.
=====================================================================