Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - coptic history

بقلم عزت اندراوس

السلطان بيبرس (الملك المظفر) على مصر 177/ 13 م.ح

إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات وصمم الموقع ليصل إلى 30000 موضوع مختلف

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

لم ننتهى من وضع كل الأبحاث التاريخية عن هذا الموضوع والمواضيع الأخرى لهذا نرجوا من السادة القراء زيارة موقعنا من حين لآخر - والسايت تراجع بالحذف والإضافة من حين لآخر - نرجوا من السادة القراء تحميل هذا الموقع على سى دى والإحتفاظ به لأننا سنرفعه من النت عندما يكتمل 

Home
Up
أيبك165/ 1 م.ح
نور الدين166/ 2 م.ح
قطز 167/ 3 م.ح
بيبرس168/ 4 م.ح
السعيد 169/ 5 م.ح
سلامش 170/ 6 م.ح
سيف الدين171/ 7 م.ح
صلاح الدين172/ 8 م.ح
بن قلاوون 173/ 9 م.ح
زين الدين174/ 10 م.ح
حسام الدين175/ 11 م.ح
بن قلاوون 176/ 12 م.ح
بيبرس177/ 13 م.ح
أحمد178/ 14 م.ح
إسماعيل179/ 15 م.ح
بن قلاوون180/ 16 م.ح
أبو بكر181/ 17 م.ح
كجك182/ 18 م.ح
شعبان 183/ 19 م.ح
حسن 184/ 20 م.ح
صالح 185/ 21 م.ح
حسن186/ 22 م.ح
محمد187/ 23 م.ح
شعبان188/ 24 م.ح
على 189/ 25 م.ح
أمير حاج 190/ 26 م.ح

Hit Counter

 

 

السلطان بيبرس (الملك المظفر) على مصر سنة 708 هـ
فعند ذلك وقع الاتفاق على سلطنة بيبرس هذا بعد أمور نذكرها فتسلطن وجلس على تخت الملك في يوم السبت الثالث والعشرين من شوال من سنة ثمان وسبعمائة‏.‏
وهو السلطان الحادي عشر من ملوك الترك والسابع ممن مسهم الرق والأول من الجراكسة إن صح أنه جركسي الجنس ودقت البشائر وحضر الخليفة أبو الربيع سليمان وفوض إليه تقليد السلطنة وكتب له عهدًا وشمله بخطه وكان من جملة عنوان التقليد‏:‏ ‏"‏ إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ‏"‏‏.‏
ثم جلس الأمير بتخاص والأمير قلي والأمير لاجين الجاشنكير لاستحلاف الأمراء والعساكر فحلفوا الجميع وكتب بذلك إلى الأقطار‏.‏
والآن نذكر ما وعدنا بذكره من سبب سلطنة بيبرس هذا مع وجود سلار وآقوش قتال السبع وهما أكبر منه وأقدم وأرفع منزلة فنقول‏:‏ لما خرج الملك الناصر محمد بن قلاوون من الديار المصرية إلى الحج ثم ثنى عزمه عن الحج وتوجه إلى الكرك خلع نفسه فلما حضر كتابه الثاني بتركه السلطنة - وقد تقدم ذكر ذلك في أواخر ترجمة الناصر بأوسع من هذا - أثبت الكتاب على القضاة‏.‏
فلما أصبح نهار السبت الثالث والعشرين من شوال جلس الأمير سلار النائب بشباك دار النيابة بالقلعة وحضر إلى عنده الأمير بيبرس الجاشنكير هذا وسائر الأمراء وآشتوروا فيمن يلي السلطنة فقال الأمير آقوش قتال السبع والأمير بيبرس الدوادار والأمير أيبك الخازندار وهم أكابر الأمراء المنصورية‏:‏ ينبغي آستدعاء الخليفة والقضاة وإعلامهم بما وقع فخرج الطلب لهم وحضروا وقرىء عليهم كتاب السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون وشهد عند قاضي القضاة زين الدين بن مخلوف الأميران‏:‏ عز الدين أيدمر الخطيري والأمير الحاج آل ملك ومن كان توجه معهم إلى الكرك في الرسلية بنزول الملك الناصر عن الملك وتركه ‏"‏ مملكة مصر والشام فأثبت ذلك‏.‏ وأعيد الكلام فيمن يصلح للسلطنة من الأمراء فأشار الأمراء الأكابر بالأمير سلار فقال سلار‏:‏ نعم على شرط‏:‏ كل ما أشير به لا تخالفوه‏.‏
وأحضر المصحف وحلفهم على موافقته وألا يخالفوه في شيء فقلق البرجية من ذلك ولم يبق إلا إقامتهم الفتنة فكفهم الله عن ذلك وآنقضى الحلف فعند ذلك قال الأمير سلار‏:‏ والله يا أمراء أنا ما أصلح للملك ولا يصلح له إلا أخي هذا وأشار إلى بيبرس الجاشنكير ونهض قائمًا إليه فتسارع البرجية بأجمعهم‏:‏ صدق الأمير سلار وأخذوا بيد الأمير بيبرس وأقاموه كرهًا وصاحوا بالجاويشية فصرخوا بآسمه وكان فرس النوبة عند الشباك فألبسوه تشريف السلطنة الخليفتي وهي فرجية أطلس سوداء وطرحة سوداء وتقلد بسيفين ومشى سلار والأمراء بين يديه من عند سلار من دار النيابة بالقلعة وهو راكب وعبر من باب القلعة إلى الإيوان بالقلعة وجلس على تخت الملك وهو يبكي بحيث يراه الناس وذلك في يوم السبت المذكور ولقب بالملك المظفر وقبل الأمراء الأرض بين يديه طوعًا وكرهًا ثم قام إلى القصر وتفرق الناس بعد ما ظنوا كل الظن من وقوع الفتنة بين وقيل في سلطنته وجه آخر وهو أنه لما آشتوروا الأمراء فيمن يقوم بالملك فاختار الأمراء سلار لعقله وآختار البرجية بيبرس فلم يجب سلار إلى ذلك وآنفض المجلس وخلا كل من أصحاب بيبرس وسلار بصاحبه وحسن له القيام بالسلطنة وخوفه عاقبة تركها وأنه متى ولي غيره لا يوافقونه بل يقاتلونه‏.‏
وبات البرجية في قلق خوفًا من ولاية سلار وسعى بعضهم إلى بعض وكانوا أكثر جمعًا من أصحاب سلار وأعدوا السلاح وتأهبوا للحرب‏.‏
فبلغ ذلك سلار فخشي سوء العاقبة واستدعى الأمراء إخوته وحفدته ومن ينتمي إليه وقرر معهم سرًا موافقته على ما يشير به وكان مطاعًا فيهم فأجابوه ثم خرج في شباك النيابة ووقع نحو مما حكيناه من عدم قبوله السلطنة وقبول بيبرس الجاشنكير هذا وتسلطن حسب ما ذكرناه وتم أمره وآجتمع الأمراء على طاعته ودخلوا إلى الخدمة على العادة في الاثنين خامس عشرين شوال فأظهر بيبرس التغمم بما صار إليه‏.‏
وخلع على الأمير سلار خلعة النيابة على عادته بعد ما استعفى وطلب أن دون من جملة الأمراء وألح في ذلك حتى قال له الملك المظفر بيبرس‏:‏ إن تكن أنت نائبًا فلا أعمل أنا السلطنة أبدًا فقامت الأمراء على سلار إلى أن قبل ولبس خلعة النيابة‏.‏
ثم عينت الأمراء للتوجه إلى النواب بالبلاد الشامية وغيرها فتوجه إلى نائب دمشق - وهو الأمير جمال الدين آقوش الأفرم الصغير المنصوري - الأمير أيبك البغدادي ومعه آخر يسمى شادي ومعهما كتاب وأمرهما أن يذهبا إلى دمشق ويحلفا نائبه المذكور وسائر الأمراء بدمشق وتوجه إلى حلب الأمير ركن الدين بيبرس الأحمدي وطيبرس الجمدار وعلى يديهما كتاب مثل ذلك وتوجه إلى حماة الأمير سيف الدين بلاط الخوكندار وطيدمر الجمدار وتوجه إلى صفد عز الدين أزدمر الإسماعيلي وبيبرس بن عبد الله وتوجه إلى طرابلس عز الدين أيدمر اليونسي وأقطاي الجمدار‏.‏
وخطب له بالقاهرة ومصر في يوم الجمعة التاسع والعشرين من شوال المذكور وتوجه الأمراء المذكورون إلى البلاد الشامية‏.‏ فلما قرب من سار إلى دمشق خرج النائب آقوش الأفرم ولاقاهما خارج دمشق وعاد بهما فلما قرأ الكتاب بسلطنة بيبرس كاد أن يطير فرحًا لأنه كان خشداش بيبرس وكان أيضًا جاركسي الجنس وكانا يوم ذاك بين الأقراك كالغرباء‏.‏
بنت دمشق زينة هائلة كما زينت القاهرة لسلطنته‏.‏ ثم أخرج كتاب السلطان بالحلف وفيه أن يحلفوا ويبعثوا لنا نسخة الأيمان فأجاب جميع الأمراء بالسمع والطاعة وسكت منهم أربعة أنفس ولم يتحدثوا بشيء وهم‏:‏ بيبرس العلائي وبهادر آص وآقجبا الظاهري وبكتمر الحاجب بدمشق فقال لهم الأفرم‏:‏ يا أمراء كل الناس ينتظرون كلامكم فتكلموا فقال بهادر آص‏:‏ نريد الخط الذي كتبه الملك الناصر بيده وفيه عزل نفسه فأخرج النائب خط الملك الناصر فرآه بهادر ثم قال‏:‏ يا مولانا ملك الأمراء لا تستعجل فممالك الشام فيها أمراء غيرنا مثل الأمير قرا سنقر نائب حلب وقبجق نائب حماة وأسندمر نائب طرابلس وغيرهم فنرسل إليهم ونتفق معهم على المصلحة فإذا شاورناهم تطيب خواطرهم وربما يرون من المصلحة ما لا نرى نحن ثم قام بهادر المذكور وخرج فخرجت الأمراء كلهم في أثره فقال الأمير أيبك البغدادي القادم من مصر للأفرم‏:‏ لو مسكت بهادر آص لا نصلح الأمر على ما نريد‏!‏ فقال له الأفرم‏:‏ والله العظيم لو قبضت عليه لقامت فتنة عظيمة تروح فيها روحك وتغيير الدول يا أيبك ما هو هين‏!‏ وأنا ما أخاف من أمراء الشام من أحد إلا من قبجق المنصوري فإنه ربما يقيم فتنة من خوفه على روحه‏.‏
قلت‏:‏ وقبجق هذا هو الذي كان نائب دمشق في أيام المنصور لاجين وتوجه إلى غازان وأقدمه إلى الشام‏.‏
ولما كان اليوم الثاني طلب الأفرم هؤلاء الأمراء الأربعة وآختلى بهم وقال لهم‏:‏ اعلموا أن هذا أمر انقضى ولم يبق لنا ولا لغيرنا فيه مجال وأنتم تعلمون أن كل من يجلس على كرسي مصر كان هو السلطان ولو كان عبدًا حبشيًا فما أنتم بأعظم من أمراء مصر وربما يبلغ هذا إليه فيتغير قلبه عليكم ولم يزل يتلاطف بهم حتى حلفوا له فلما حلفوا حلف باقي الأمراء وخلع الأفرم على جميع الأمراء والقضاة خلعًا سنية وكذلك خلع على الأمير أيبك البغدادي وعلى رفيقه شادي وأعطاهما ألفي دينار وزودهما وردهما في أسرع وقت‏.‏ وكتب معهما كتابًا يهنىء بيبرس بالملك ويقول‏:‏ عن قريب تأتيك نسخة الأيمان‏.‏
وقدما القاهرة وأخبرا الملك المظفر بيبرس بذلك فسر وآنشرح صدره بذلك‏.‏
ثم إن الأفرم نائب الشام أرسل إلى قرا سنقر وإلى قبجق شخصًا من مماليكه بصورة الحال فأما قراسنقر نائب حلب فإنه لما سمع الواقعة وقرأ كتاب الأفرم قال‏:‏ أيش الحاجة إلى مشاورتنا‏!‏ أستاذك بعثك بعد أن حلف وكان ينبغي أن يتأنى في ذلك وأما قبجق نائب حماة فإنه لما قرأ كتاب الأفرم قال‏:‏ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم أيش جرى على آبن أستاذنا حتى عزل نفسه‏!‏ والله لقد دبرتم أنحس تدبير هذه والله نوبة لاجين‏.‏
ثم قال لمملوك الأفرم‏:‏ اذهب إلى أستاذك وقل له‏:‏ الآن بلغت مرادك وسوف تبصر من يصبح ندمان وفي أمره حيران‏!‏ وكذلك لما بعث الأفرم لأسندمر نائب طرابلس فلما قرأ كتابه أطرق رأسه إلى الأرض ثم قال‏:‏ أذهب لأستاذك وقل له‏:‏ يا بعيد الذهن وقليل العلم بعد أن دبرت أمرًا فما الحاجة إلى مشاورتنا‏!‏ فوالله ليكونن عليك أشأم التدبير وسيعود وباله عليك ولم يكتب له جوابًا‏.‏ وأما قرا سنقر نائب حلب فإنه أرسل إلى قبجق وإلى أسندمر يعلمهما أن الأفرم حلف عساكر دمشق على طاعة بيبرس ولا نأمن أن يعمل الأفرم علينا فهلموا نجتمع في موضع واحد فنتشاور ونرى أمرًا يكون فيه المصلحة فاتفقوا الجميع على أن يجتمعوا في حلب عند قرا سنقر وعينوا ليلة يكون اجتماعهم فيها‏.‏
فأما قبجق فإنه ركب إلى الصيد بمماليكه خاصة وتصيد إلى الليل فسار إلي حلب‏.‏ وأما أسندمر أظهر أنه ضعيف وأمر ألا يخلي أحدًا يدخل عليه وفي الليل ركب بمماليكه الذين يعتمد عليهم وقد غيروا ملابسهم وسار يطلب حلب‏.‏
واجتمع الجميع عند قرا سنقر فقال لهم قرا سنقر‏:‏ ما تقولون في هذه القضية التي جرت‏.‏
فقال قبجق‏:‏ والله لقد جرى أمر عظيم وإن لم نحسن التدبير نقع في أمور‏!‏ يعزل آبن أستاذنا ويأخذها بيبرس‏!‏ ويكون الأفرم هو مدبر الدولة‏!‏ وهو على كل حال عدونا ولا نأمن شره فقالوا‏:‏ فما نفعل قال‏:‏ الرأي أن نكتب إلى ابن أستاذنا في الكرك ونطلبه إلى حلب ونركب معه فإما نأخذ له الملك وإما أن نموت على خيولنا‏!‏ ففال أسندمر‏:‏ هذا هو الكلام فحلف كل من الثلاثة على هذا الاتفاق ولا يقطع واحد منهم أمرًا إلا بمشورة أصحابه وأنهم يموت بعضهم على بعض ثم إنهم تفرقوا في الليل كل واحد إلى بلده‏.‏
وأما الأمراء الذين خرجوا من مصر إلى النواب بالبلاد الشامية بالخلع وبسلطنة بيبرس فإنهم لما وصلوا إلى دمشق قال لهم الأفرم‏:‏ أنا أرسلت إليهم مملوكي فردوا علي جوابًا لا يرضى به مولانا السلطان‏.‏
وكان الأفرم أرسل إلى الملك المظفر بيبرس نسخة اليمين التي حلف بها أمراء دمشق مع مملوكه مغلطاي فأعطاه الملك المظفر إمرة طبلخاناه وخلع عليه وأرسل معه خلعة لأستاذه الأفرم بألف دينار وأطلق له شيئًا كثيرًا كان لبيبرس في الشام قبل سلطنته من الحواصل والغلال فسر الأفرم بذلك غاية السرور ثم قال الأميران اللذان وصلا إلى دمشق للأفرم‏:‏ ما تشير به علينا فقال لهما‏:‏ ارجعا إلى مصر ولا تذهبا إلى هؤلاء فإن رؤوسهم قوية وربما يثيرون فتنة فقالا‏:‏ لا غنى لنا عن أن نسمع كلامهم ثم إنهما ركبا من دمشق وسارا إلى حماة ودخلا على قبجق ودفعا له كتاب الملك المظفر فقرأه ثم قال‏:‏ وأين كتاب الملك الناصر فأخرجا له الكتاب فلما وقف عليه بكى ثم قال‏:‏ من قال إن هذا خط الملك الناصر والله واحد يكون وكيلًا في قرية ما يعزل نفسه منها بطيبة من خاطره‏!‏ ولا بد لهذا الأمر من سبب اذهبا إلى الأمير قرا سنقر فهو أكبر الأمراء وأخبرهم بالأحوال فركبا وسارا إلى حلب واجتمعا بقراسنقر فلما قرأ كتاب المظفر قال‏:‏ يا إخوتي إنا على أيمان آبن أستاذنا لا نخونه ولا نحلف لغيره ولا نواطىء عليه ولا نفسد ملكه فكيف نحلف لغيره‏!‏ والله لا يكون هذا أبدًا ودعوا يجري ما يجري وكل شيء ينزل من السماء تحمله الأرض ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏!‏ فخرجا من عنده وسارا إلى طرابلس ودخلا على أسندمر فقال لهما مثل مقالة قبجق وقراسنقر فخرجا وركبا وسارا نحو الديار المصرية ودخلا على الملك المظفر بيبرس وأعلماه بما كان فضاق صدر المظفر وأرسل خلف الأمير سلار النائب وقص عليه القصة فقال له سلار‏:‏ هذا أمر هين ونقدر أن نصلح هؤلاء فقال‏:‏ وكيف السبيل إلى ذلك‏.‏ ال‏:‏ تكتب إلى قرا سنقر كتابًا وترقق له في الكلام وأرسل إليه تقليدًا بنيابة حلب وبلادها وأنه لا يحمل منه الدرهم الفرد وكذا لقبجق بحماة ولأسندمر بطرابلس والسواحل فقال بيبرس‏:‏ إذا فرقت البلاد عليهم ما يساوي ملكي شيئًا‏!‏ فقال له سلار‏:‏ وكم أمن يد تقبل عن ضرورة وهي تستحق القطع‏!‏ فآسمع مني وأرضهم في هذا الوقت فإذا قدرت عليهم بعد ذلك افعل بهم ما شئت فمال المظفر إلى كلامه وأمر أن يكتب بما قاله سلار لكل واحد على حدته فكتب ذلك وأرسله مع بعض خواصه‏.‏
وأما أمر الملك الناصر محمد بن قلاوون فإن الملك المظفر لما تسلطن وتم أمره كتب له تقليدًا بالكرك وسيره له على يد الأمير آل ملك ومنشورًا بما عين له من الإقطاعات‏.‏
وأما أمر قرا سنقر فإنه جهز ولده محمدًا إلى الملك الناصر محمد بالكرك وعلى يده كتابه وكتاب قبجق نائب حماه وكتاب أسندمر نائب طرابلس‏.‏ ومضمون كتاب قرا سنقر‏:‏ أنه يلوم الملك الناصر عن نزوله عن الملك وكيف وقع له ذلك ولم يشاوره في أول الأمر ثم وعده برجوع ملكه إليه عن قريب وأنه هو وقبجق وأسندمر ما حلفوا للمظفر وأنهم مقيمون على أيمانهم له‏.‏
وكذلك كتاب قبجق وكتاب أسندمر فأخذ الأمير ناصر الدين محمد بن قرا سنقر كتب الثلاثة وسار مسرعًا ومعه نجاب خبير بتلك الأرض فلم يزالا سائرين في البرية والمفاوز إلى أن وصلا إلى الكرك وآبن قرا سنقر عليه زي العرب فلما وقفا على باب الكرك سألوهما من أين أنتما فقالا‏:‏ من مصر فدخلوا وأعلموا الملك الناصر محمدًا بهما واستأذنوه في إحضارهما فأذن لهما بالدخول فلما مثلا بين يديه كشف ابن قرا سنقر لثامه عن وجهه فعرفه السلطان وقال له‏:‏ محمد فقال‏:‏ لبيك يا مولانا السلطان وقبل الأرض وقال‏:‏ لا بد من خلوة فأمر السلطان لمن حوله بالانصراف فعند ذلك حدث ابن قرا سنقر السلطان بما جرى من أبيه وقبجق وأسندمر وأنهم آجتمعوا في حلب وتحالفوا بأنهم مقيمون على الأيمان التي حلفوها للملك الناصر ثم دفع له الكتب الثلاثة فقرأها ثم قال‏:‏ يا محمد ما لهم قدرة على ما آتفقوا عليه فإن كل من في مصر والشام قد آتفقوا على سلطنة بيبرس فلما سمع ابن قراسنقر ذلك حلف بأن كل واحد من هؤلاء الثلاثة كفء لأهل مصر والشام ومولانا السلطان أخبر بذلك مني فتبسم السلطان وقال صدقت يا محمد ولكن القائل يقول‏:‏
# كن جريًا إذا رأيت جبانًا ** وجبانًا إذا رأيت جريا
لا تقاتل بواحد أهل بيت فضعيفان يغلبان قويا وهذه البلاد كلها دارت مع بيبرس ولا يتم لنا الحال إلا بحسن التدبير والمداراة والصبر على الأمور‏.‏
ثم إنه أنزله في موضع وأحسن إليه وقال له‏:‏ استرح اليوم وغدًا ثم سافر فأقام يومين ثم طلبه الملك الناصر في صبيحة اليوم الثالث وأعطاه جواب الكتب وقال له‏:‏ سلم على أبي يعني على قرا سنقر وقل له‏:‏ اصبر ثم خلع عليه خلعة سنية وأعطاه ألف دينار مصرية وخلع على معن النجاب الذي أتى به أيضًا وأعطاه ألف درهم فخرج آبن قرا سنقر والنجاب معه وأسرعا في السير إلى أن وصلا إلى حلب فدخل آبن قراسنقر إلى أبيه ودفع له كتاب الملك الناصر ففتحه فإذا فيه‏:‏ ‏"‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏:‏ حرس الله تعالى نعمة المقر العالي الأبوي الشمسي ومتعنا بطول حياته فقد علمنا ما أشار به وما عول عليه وقد علمنا قديمًا وحديثًا أنه لم يزل على هذه الصورة وأريد منك أنك تطول روحك علي فهذا الأمر ما ينال بالعجلة لأنك قد علمت انتظام أمراء مصر والشام في سلك واحد ولا سيما الأفرم ومن معه من اللئام فهذه عقدة لا تنحل إلا بالصبر وإن حضر إليك أحد من جهة المظفر وطلب منك اليمين له فقدم النية أنك مجبور ومغصوب واحلف‏.‏
ولا تقطع كتبك عني في كل وقت وعرفني بجميع ما يجري من الأمور قليلها وكثيرها ‏"‏‏.‏
وكذلك كتب في كتاب قبجق وأسندمر فعرف قرا سنقر مضمون كتابه ثم بعد قليل وصل إلى قرا سنقر من الملك المظفر بيبرس تقليد بنيابه حلب وبلادها دربست على يد أمير من أمراء مصر‏.‏ ومن مضمون الكتاب الذي من المظفر إلى قرا سنقر
‏:‏ ‏"‏ أنت خشداشي ولو علمت أن هذا الأمر يصعب عليك ما عملت شيئًا حتى أرسلت إليك وأعلمتك به لأن ما في المنصورية أحد أكبر منك غير أنه لما نزل ابن أستاذنا عن الملك آجتمع الأمراء والقضاة وكافة الناس وقالوا‏:‏ ما لنا سلطان إلا أنت وأنت تعلم أن البلاد لا تكون بلا سلطان فلو لم أتقدم أنا كان غيري يتقدم فآجعلني واحدًا منكم ودبرني برأيك‏.‏
وهذه حلب وبلادها دربست لك وكذا لخشداشيتك‏:‏ الأمير قبجق والأمير أسندمر ‏"‏‏.‏
وسير الملك المظفر لكل من هؤلاء الثلاثة خلعة بألف دينار وفرشًا قماشه بألف دينار وعشرة رؤوس من الخيل‏.‏
فعند ذلك حلف قرا سنقر وقبجق وأسندمر ورجع الأمير المذكور إلى مصر بنسخة اليمين‏.‏
فلما وقف عليها الملك المظفر فرح غاية الفرح وقال‏:‏ الآن تم لي الملك‏.‏ ثم شرع من يومئذ في كشف أمور البلاد وإزالة المظالم والنظر في أحوال الرعية‏.‏
ثم آستهلت سنة تسع وسبعمائة وسلطان الديار المصرية الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير المنصوري والخليفة المستكفي بالله أبو الربيع سليمان ونائب السلطنة بديار مصر الأمير سلار ونائب الشام الأمير آقوش الأفرم الصغير ونائب حلب الأمير شمس الدين قرا سنقر المنصوري ونائب حماة الأمير سيف الدين قبجق المنصوري ونائب طرابلس الأمير سيف الدين أسندمر المنصوري‏.‏
ثم فشا في الناس في السنة المذكورة أمراض حادة وعم الوباء الخلائق وعز سائر ما يحتاج إليه المرضى‏.‏
ثم توقفت زيادة النيل إلى أن دخل شهر مسري وآرتفع سعر القمح وسائر الغلال ومنع الأمراء البيع من شونهم إلا الأمير عز الدين أيدمر الخطيري الاستادار فإنه تقدم إلى مباشريه ألا يتركوا عنده سوى مؤونة سنة واحدة وباع ما عداه قليلًا قليلًا‏.‏ والخطيري هذا هو صاحب الجامع الذي بخط بولاق‏.‏ انتهى‏.‏
وخاف الناس أن يقع نظير غلاء كتبغا وتشاءموا بسلطنة الملك المظفر بيبرس المذكور‏.‏
ثم إن الخطيب نور الدين علي بن محمد بن الحسن بن علي القسطلاني خرج بالناس وآستسقى وكان يومًا مشهودًا فنودي من الغد بثلاث أصابع ثم توقفت الزيادة مدة ثم زاد وانتهت زيادة النيل فيه إلى خمس عشرة ذراعًا وسبع عشرة إصبعًا في سابع عشرين توت ثم نقص في أيام النسيء وجاء النوروز ولم يوف النيل ست عشرة ذراعًا ففتح سد الخليج في يوم الجمعة ثامن توت وهو ثامن عشرين شهر ربيع الأول‏.‏
وذكر بعضهم أنه لم يوف إلى تاسع عشر بابه وهو يوم الخميس حادي عشر جمادى الأولى وذلك بعد اليأس منه وهذا القول هو الأشهر‏.‏
قال‏:‏ وآنحط مع سلطاننا ركين ونائبنا دقين يجينا الماء منين جيبوا لنا الأعرج يجيء الماء ويدحرج ومن يومئذ وقعت الوحشة بين المظفر وبين عامة مصر وأخذت دولة الملك المظفر بيبرس في آضطراب وذلك أنه كثر توهمه من الملك الناصر محمد بن قلاوون وقصد في أيامه كل واحد من خشداشيته أن يترقى إلى أعلى منزلة واتهموا الأمير سلار بمباطنة الملك الناصر محمد وحذروا الملك المظفر منه وحسنوا له القبض على سلار المذكور فجبن بيبرس عن ذلك‏.‏
ثم ما زالوا حتى بعث الأمير مغلطاي إلى الملك الناصر محمد بن قلاوون بالكرك ليأخذ منه الخيل والمماليك التي عنده وتغلظ في القول فغضب الملك الناصر من ذلك غضبًا شديدًا وقال له‏:‏ أنا خليت ملك مصر والشام لبيبرس ما يكفيه حتى ضاقت عينه على فرس عندي ومملوك لي ويكرر الطلب‏!‏ ارجع إليه وقل له‏:‏ والله لئن لم يتركني وإلا دخلت بلاد التتار وأعلمهم أني تركت ملك أبي وأخي وملكي لمملوكي وهو يتابعني ويطلب مني ما أخذته‏.‏
فجافاه مغلطاي وخشن له في القول بحيث اشتد غضب الملك الناصر وصاح به‏:‏ ويلك وصلت إلى هنا‏!‏ وأمر أن يجر ويرمى من سور القلعة فثار به المماليك يسبونه ويلعنونه وأخرجوه إلى السورة فلم يزل به أرغون الدوادار والأمير طغاي إلى أن عفا عنه وحبسه ثم أخرجه ماشيًا‏.‏
وعظم ذلك على الملك الناصر وكتب ملطفات إلى نواب البلاد الشامية بحلب وحماة وطرابلس وصفد ثم إلى مصر ممن يثق به وذكر ما كان به من ضيق اليد وقلة الحرمة وأنه لأجل هذا ترك ملك مصر وقنع بالإقامة بالكرك وأن السلطان الملك المظفر في كل وقت يرسل يطالبه بالمماليك والخيل التي عنده‏.‏
ثم ذكر لهم في ضمن الكتاب‏:‏ ‏"‏ أنتم مماليك أبي وربيتموني فإما أن تردوه عني وإلا سرت إلى بلاد التتار ‏"‏ وتلطف في مخاطبتهم غاية التلطف وسير لهم بالكتب على يد العربان فأوصلوها إلى أربابها‏.‏
وكان قد أرسل الملك المظفر قبل ذلك يطلب منه المال الذي كان بالكرك والخيل والمماليك التي عنده حسب ما يأتي ذكره في ترجمة الملك الناصر محمد فبعث إليه الملك الناصر بالمبلغ الذي أخذه من الكرك فلم يقنع المظفر بذلك وأرسل ثانيًا وكان الملك الناصر لما أقام بالكرك صار يخطب بها للملك المظفر بيبرس بحضرة الملك الناصر والملك الناصر يتأدب معه ويسكت بحضرة مماليكه وحواشيه‏.‏
وصار الملك الناصر إذا كاتب الملك المظفر يكتب إليه‏:‏ ‏"‏ الملكي المظفري ‏"‏ وقصد بذلك سكون الأحوال وإخماد الفتن والمظفر يلح عليه لأمر يريده الله تعالى حتى كان من أمره ما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏
وأما النواب بالبلاد الشامية فإن قرا سنقر نائب حلب كتب إلى الملك الناصر الجواب‏:‏ ‏"‏ بأني مملوك السلطان في كل ما يرسم به ‏"‏ وسأل أن يبعث إليه بعض المماليك السلطانية وكذلك نائب حماة ونائب طرابلس وغيرهما ما خلا بكتمر الجوكندار نائب صفد فإنه طرد قاصد الملك الناصر ولم يجتمع به‏.‏
ثم أرسل الملك الناصر مملوكه أيتمش المحمدي إلى الشام وكتب معه ملطفات إلى الأمير قطلوبك المنصوري وبكتمر الحسامي الحاجب بدمشق ولغيرهما ووصل أيتمش إلى دمشق خفية ونزل عند بعض مماليك قطلوبك المذكور ودفع إليه الملطف فلما أوصله إلى قطلوبك أنكر عليه وأمره بالاحتفاظ على أيتمش المذكور ليوصله إلى الأفرم نائب الشام ويتقرب إليه بذلك فبلغ أيتمش الخبر فترك راحلته التي قدم عليها ومضى إلى دار الأمير بهادر آص في الليل فآستأذن عليه فأذن له فدخل إليه أيتمش وعرفه ما كان من قطلوبك في حقه فطيب بهادر آص خاطره وأنزله عنده وأركبه من الغد معه إلى الموكب وقد سبق قطلوبك إلى الأفرم نائب الشام وعرفه قدوم مملوك الملك الناصر إليه وهروبه من عنده ليلًا فقلق الأفرم من ذلك وألزم والي المدينة بتحصيل المملوك المذكور فقال بهادر آص‏:‏ ‏"‏ هذا المملوك عندي ‏"‏ وأشار إليه فنزل عن فرسه وسلم على الأفرم وسار معه في الموكب إلى دار السعادة وقال له بحضرة الأمراء‏:‏ السلطان الملك الناصر يسلم عليك ويقول‏:‏ ما منكم أحد إلا وأكل خبز الملك الشهيد قلاوون وما منكم إلا من إنعامه عليه وأنتم تربية الشهيد والده وأنه قاصد الدخول إلى دمشق والإقامة بها فإن كان فيكم من يقاتله ويمنعه العبور فعرفوه‏.‏
فلم يتم هذا القول حتى صاح الكوكندي الزراق أحد أكابر أمراء دمشق‏:‏ ‏"‏ وا ابن أستاذاه‏!‏ ‏"‏ وبكى فغضب الأفرم نائب الشام عليه وأخرجه ثم قال الأفرم لأيتمش‏:‏ قل له يعني الملك الناصر‏:‏ كيف يجيء إلى الشام أو إلى غير الشام‏!‏ كأن الشام ومصر الآن تحت حكمك أنا لما أرسل إلي السلطان الملك المظفر أن أحلف له ما حلفت حتى سيرت أقول له‏:‏ كيف يكون ذلك وآبن أستاذنا باق‏!‏ فأرسل يقول‏:‏ أنا ما تقدمت عليه حتى خلع آبن أستاذنا نفسه وكتب خطه وأشهد عليه بنزوله عن الملك فعند ذلك حلفت له‏.‏
ثم في هذا الوقت تقول‏:‏ من يردني عن الشام‏!‏ ثم أمر به الأفرم فسلم إلى استاداره الطنقش‏.‏ فلما كان الليل آستدعاه ودفع له خمسين دينارًا وقال‏:‏ قل له‏:‏ ‏"‏ لا تذكر الخروج من الكرك ‏"‏ وأنا أكتب إلى المظفر وأرجعه عن الطلب ثم أطلقه فعاد أيتمش إلى الكرك وأعلم الملك الناصر بما وقع‏.‏
فأعاده الملك الناصر على البريد ومعه أركتمر وعثمان الهجان ليجتمع بالأمير قرا سنقر نائب حلب ويواعده على المسير إلى دمشق ثم خرج الملك الناصر من الكرك وسار إلى بركة زيزاء فنزل بها‏.‏
وأما الملك المظفر بيبرس صاحب الترجمة فإنه لما بلغه أن الملك الناصر حبس قاصده مغلطاي المقدم ذكره قلق من ذلك واستدعى الأمير سلار وعرفه ذلك وكانت البرجية قد أغروا المظفر بيبرس بسلار واتهموه أنه باطن الملك الناصر وحسنوا له القبض عليه حسب ما ذكرناه فجبن الملك المظفر من القبض عليه‏.‏
وبلغ ذلك سلار فخاف من البرجية لكثرتهم وقوتهم وأخذ في مداراتهم وكان أشدهم عليه الأمير بيكور وقد شرق إقطاعه فبعث إليه سلار بستة آلاف إردب غلة وألف دينار فكف عنه‏.‏ ثم هادى خواص المظفر وأنعم عليهم‏.‏
فلما حضر سلار عند المظفر وتكلما فيما هم فيه فآقتضى الرأي إرسال قاصد إلى الملك الناصر بتهديده ليفرج عن مغلطاي‏.‏
وبينما هم في ذلك قدم البريد من دمشق بأن الملك الناصر سار من الكرك إلى البرج الأبيض ولم يعرف أحد مقصده فكتب الجواب في الحال بحفظ الطرقات عليه‏.‏
وآشتهر بالديار المصرية حركة الملك الناصر محمد وخروجه من الكرك فماجت الناس وتحرك الأمير نوغاي القبجاقي وكان شجاعًا مقدامًا حاد المزاج قوي النفس وكان من ألزام الأمير سلار النائب وتواعد مع جماعة من المماليك السلطانية أن يهجم بهم على السلطان الملك المظفر إذا ركب ويقتله‏.‏
فلما ركب المظفر ونزل إلى بركة الجب آستجمع نوغاي بمن وافقه يريدون الفتك بالمظفر في عوده من البركة وتقرب نوغاي من السلطان قليلًا قليلًا وقد تغير وجهه وظهر فيه أمارات الشر ففطن به خواص المظفر وتحلقوا حول المظفر فلم يجد نوغاي سبيلًا إلى ما عزم عليه‏.‏
وعاد الملك المظفر إلى القلعة فعرفه ألزامه ما فهموه من نوغاي وحسنوا له القبض عليه وتقريره على من معه‏.‏
فاستدعى السلطان الأمير سلار وعرفه الخبر وكان نوغاي قد باطن سلار بذلك فحذر سلار الملك المظفر وخوفه عاقبة القبض على نوغاي وأن فيه فساد قلوب جميع الأمراء وليس الرأي إلا الإغضاء فقط‏.‏
وقام سلار عنه فأخذ البرجية بالإغراء بسلار وأنه باطن نوغاي ومتى لم يقبض عليه فسد الحال‏.‏
وبلغ نوغاي الحديث فواعد أصحابه على اللحاق بالملك الناصر وخرج هو والأمير مغلطاي القازاني الساقي ونحو ستين مملوكًا وقت المغرب عند غلق باب القلعة في ليلة الخميس خامس عشر جمادى الآخرة من سنة تسع وسبعمائة المذكورة‏.‏
وقيل في أمر نوغاي وهروبه وجه آخر‏:‏ قال الأمير بيبرس الدوادار في تاريخه‏:‏ تسحب من الديار المصرية إلى الكرك المحروس سيف الدين نوغاي القفجاقي أحد المماليك السلطانية وسيف الدين تقطاي الساقي وعلاء الدين مغلطاي القازاني وتوجه معهم من المماليك السلطانية بالقلعة مائة وستة وثلاثون نفرًا وخرجوا طلبًا واحدًا بخيلهم وهجنهم وغلمانهم وتركوا بيوتهم وأولادهم‏.‏ انتهى‏.‏
وقال غيره‏:‏ لما ولي الملك المظفر بيبرس السلطنة بقي سلار هو الملك الظاهر بين الناس والملك المظفر بيبرس من وراء حجاب فلما كان في بعض الأيام دخل على الملك المظفر أميران‏:‏ أحدهما يسمى نوغاي والآخر مغلطاي فباسا الأرض بين يديه وشكوا له ضعف أخبازهما فقال لهما المظفر‏:‏ اشكوا إلى سلار فهو أعلم بحالكما مني فقالا‏:‏ خلد الله ملك مولانا السلطان أهو مالك البلاد أم مولانا السلطان‏!‏ فقال‏:‏ اذهبا إلى سلارة ولم يزدهما على ذلك‏.‏
فخرجا من عنده وجاءا إلى سلار وأعلماه بقول الملك المظفر فقال سلار‏:‏ ولله يا أصحابي أبعدكما بهذا الكلام وأنتما تعلمان أن النائب ما له كلام مثل السلطان‏.‏
وكان نوغاي شجاعًا وعنده قوة بأس فأقسم بالله لئن لم يغيروا خبزه ليقيمن شرًا تهرق فيه الدماء ثم خرجا من عند سلار‏.‏
وفي الحال ركب سلار وطلع إلى عند الملك المظفر وحدثه بما جرى من أمر نوغاي ومغلطاي وقال‏:‏ هذا نوغاي يصدق فيما يقول لأنه قادر على إثارة الفتنة فالمصلحة قبضه وحبسه في الحبس فاتفقوا على قبضه‏.‏
وكان في ذلك الوقت أمير يقال له أنس فسمع الحديث فلما خرج أعلم نوغاي بذلك فلما سمع نوغاي الكلام طلب مغلطاي وجماعة من مماليك الملك الناصر وقال لهم‏:‏ يا جماعة هذا الرجل قد عول على قبضنا وأما أنا فلا أسلم نفسي إلا بعد حرب تضرب فيه الرقاب فقالوا له‏:‏ على ماذا عولت فقال‏:‏ عولت على أني أسير إلى الكرك إلى الملك الناصر أستاذنا فقالوا له‏:‏ ونحن معك فحلف كل منهم على ذلك فقال نوغاي وكان بيته خارج باب النصر‏:‏ كونوا عندي وقت الفجر الأول راكبين وأنتم لابسون وتفرقا فجهز نوغاي حاله في تلك الليلة وركب بعد الثلث الأخير مع مماليكه وحاشيته ثم جاءه مغلطاي القازاني بمماليكه ومعه جماعة من مماليك السلطان الملك الناصر والكل ملبسون على ظهر الخيل‏.‏
ثم إن نوغاي حرك الطبلخاناه حربيًا وشق من الحسينية فماجت الناس وركبوا من الحسينية وأعلموا الأمير سلار فركب سلار وطلع إلى القلعة وأعلم السلطان بذلك‏.‏
قال آبن كثير‏:‏ وكان ذلك بمباطنة سلار مع نوغاي‏.‏
فلما بلغ المظفر ذلك قال‏:‏ على أيش توجها ‏"‏ فقال سلار‏:‏ ‏"‏ على نباح الجراء في بطون الكلاب ‏"‏ والله ما ينظر في عواقب الأمور ولا يخاف آثار المقدور فقال المظفر‏:‏ ‏"‏ أيش المصلحة ‏"‏ فآتفقوا على تجريد عسكر خلف المتسحبين فجرد في أثرهم جماعة من الأمراء صحبة الأمير علاء الدين مغلطاي المسعودي والأمير سيف الدين قلي في جماعة من المماليك فساروا سيرًا خفيفًا قصدًا في عدم إدراكهم وحفظًا لسلطانهم وآبن سلطانهم الملك الناصر محمد بن قلاوون فلم يدركوهم وأقاموا على غزة أيامًا وعادوا إلى القاهرة‏.‏
وقال صاحب نزهة الألباب‏:‏ وجرد السلطان الملك المظفر وراءهم خمسة آلاف فارس صحبة الأمير أخي سلار وقال له المظفر‏:‏ ‏"‏ لا ترجع إلا بهم ولو غاصوا في البحر‏!‏ ‏"‏ وكان فيهم الأمير شمس الدين دباكوز وسيف الدين بجاس وجنكلي بن البابا وكهرداش وأيبك البغدادي وبلاط وصاروجا والقرماني وأمير آخر وهؤلاء الأمراء هم خيار عسكر مصر فساروا‏.‏
وكان نوغيه قد وصل إلى بلبيس وطلب واليها وقال له‏:‏ ‏"‏ إن لم تحضر لي في هذه الساعة خمسة آلاف دينار من مال السلطان وإلا سلخت جلدك من كعبك إلى أذنك ‏"‏‏.‏
ففي الساعة أحضر الذهب وكان نوغيه قد أرصد أناسًا يكشفون له الأخبار فجاؤوا له وذكروا أن عسكرًا عظيمًا قد وصل من القاهرة وهم سائقون فلما سمع نوغيه ذلك ركب هو وأصحابه وقال لوالي بلبيس‏:‏ قل للأمراء الجائين خلفي‏:‏ أنا رائح على مهل حتى تلحقوني وأنا أقسم بالله العظيم لئن وقعت عيني عليهم لأجعلن عليهم يومًا يذكر إلى اليوم القيامة‏!‏ ولم يبعد نوغيه حتى وصل أخو سلار وهو الأمير سمك ومعه العساكر فلاقاهم والي بلبيس وأخبرهم بما جرى له مع نوغيه وقال لهم‏:‏ ما ركب إلا من ساعة فلما سمعوا بذلك ساقوا إلى أن وصلوا إلى مكان بين الخطارة والسعيدية فإذا بنوغاي واقف وقد صف رجاله ميمنة وميسرة وهو واقف في القلب قدام الكل فلما رآهم سمك أرسل إليه فارسًا من كبار الحلقة وسار إليه الفارس وآجتمع بنوغيه وقال له‏:‏ أرسلني سمك إليك وهو يقول‏:‏ ‏"‏ السلطان الملك المظفر يسلم عليك ويقول لك‏:‏ سبحان الله‏!‏ أنت كنت أكبر أصحابه فما الذي غيرك عليه‏.‏ فإن كان لأجل الخبز فما يأكل الخبز أحد أحق منك فإن عدت إليه فكل ما تشتهي يفعله لك ‏"‏‏.‏
فلما سمع نوغيه هذا الكلام ضحك وقال‏:‏ ‏"‏ أيش هذا الكلام الكذب‏!‏ لما أمس سألته أن يصلح خبزي بقرية واحدة ما أعطاني وأنا تحت أمره فكيف يسمح لي اليوم بما أشتهي وأنا صرت عدوه‏!‏ فخل عنك هذا الهذيان وما لكم عندي إلا السيف ‏"‏ فرجع الرسول وأعلم سمك بمقالته ثم إن نوغيه دكس فرسه وتقدم إلى سمك وأصحابه وقال له‏:‏ ‏"‏ إن هؤلاء الذين معي أنا الذي أخرجتهم من بيوتهم وأنا المطلوب فمن كان يريدني يبرز لي وهذا الميدان‏!‏ ‏"‏ فنظرت الأمراء بعضهم إلى بعض ثم قال‏:‏ ‏"‏ يا أمراء ما أنا عاص على أحد وما خرجت من بيتي إلا غبنًا وأنتم أغبن مني ولكن ما تظهرون ذلك وها أنتم سمعتم مني الكلام فمن أراد الخروج إلي فليخرج وإلا احملوا علي بأجمعكم ‏"‏ وكان آخر النهار فلم يخرج إليه أحد فرجع إلى أصحابه ونزل سمك في ذلك المكان‏.‏
فلما أمسى الليل رحل نوغيه بأصحابه وسار مجدًا ليله ونهاره حتى وصل قطيا فوجد واليها قد جمع العربان لقتاله لأن البطاقة وردت عليه من مصر بذلك والعربان الذين جمعهم الوالي نحو ثلاثة آلاف فارس فلما رآهم نوغاي قال لأصحابه‏:‏ احملوا عليهم وبادروهم حتى لا يأخذهم الطمع فيكم يعني لقلتهم وتأتي الخيل التي وراءكم فحملوا عليهم وكان مقدم العرب نوفل البياضي وفيهم نحو الخمسمائة نفر بلبوس فحملت الأتراك أصحاب نوغاي عليهم وتقاتلا قتالًا عظيمًا حتى ولت العرب وانتصر نوغيه عليهم هو وأصحابه وولت العرب الأدبار طالبين البرية ولحق نوغيه والي قطيا فطعنه وألقاه عن فرسه وأخذه أسيرًا‏.‏
ثم رجعت الترك من خلف العرب وقد كسبوا وأما سمك فإنه لم يزل يتبعهم بعساكر مصر منزلة بعد منزلة حتى وصلوا إلى قطيا فوجدوها خرابًا وسمعوا ما جرى من نوغيه على العرب فقال الأمراء‏:‏ الرأي أننا نسير إلى غزة ونشاور نائب غزة في عمل المصلحة فساروا إلى غزة فلاقاهم نائب غزة وأنزلهم على ظاهر غزة وخدمهم فقال له سمك‏:‏ ‏"‏ نحن ما جئنا إلا لأجل نوغاي وأنه من العريش سار يطلب الكرك فما رأيك نسير إلى الكرك أو نرجع إلى مصر فقال لهم نائب غزة‏:‏

 ‏"‏ رواحكم إلى الكرك ما هو مصلحة وأنتم من حين خرجتم من مصر سائرون وراءهم ورأيتموهم في الطريق فما قدرتم عليهم وقد وصلوا إلى الكرك وانضموا إلى الملك الناصر والرأي أنكم ترجعون إلى مصر وتقولون للسلطان ما وقع وتعتذرون له ‏"‏ فرجعوا وأخبروا الملك المظفر بالحال فكاد يموت غيظًا وكتب من وقته كتابًا للملك الناصر فيه‏:‏ ‏"‏ إنه من ساعة وقوفك على هذا الكتاب وقبل وضعه من يدك ترسل لنا نوغاي ومغلطاي ومماليكهما وتبعث المماليك الذين عندك ولا تخل منهم عندك سوى خمسين مملوكًا فإنك آشتريت الكل من بيت المال وإن لم تسيرهم سرت إليك وأخذتك وأنفك راغم‏!‏ ‏"‏ وسير الكتاب مع بدوي إلى الملك الناصر‏.‏
وأما نوغيه فإنه لما وصل إلى الكرك وجد الملك الناصر في الصيد فقال نوغيه لمغلطاي‏:‏ ‏"‏ انزل أنت ها هنا وأسير أنا للسلطان ‏"‏ وركب هجينا وأخذ معه ثلاثة مماليك وسار إلى ناحية عقبة أيلة وإذا بالسلطان نازل في موضع وعنده خلق كثير من العرب والترك فلما رأوا نوغيه وقد أقبل من صدر البرية أرسلوا إليه خيلًا فكشفوا خبره فلما قربوا منه عرفه مماليك السلطان فرجعوا وأعلموا السلطان أنه نوغاي فقال السلطان‏:‏ ‏"‏ الله أكبر‏!‏ ما جاء هذا إلا عن أمر عظيم ‏"‏ فلما حضر نزل وباس الأرض بين يدي الملك الناصر ودعا له فقال له الملك الناصر‏:‏ ‏"‏ أراك ما جئت لي في مثل هذا الوقت إلى هذا المكان إلا لأمر فحدثني حقيقة أمرك ‏"‏ فأنشأ نوغيه يقول‏:‏ أنت المليك وهذه أعناقنا خضعت لعز علاك يا سلطاني أنت المرجى يا مليك فمن لنا أسد سواك ومالك البلدان في أبيات أخر ثم حكى له ما وقع له منذ خرج الملك الناصر من مصر إلى يوم تاريخه فركب الملك الناصر وركب معه نوغيه وعادا إلى الكرك وخلع عليه وعلى رفقته وأنزلهم عنده ووعدهم بكل خير‏.‏
ثم إن الملك الناصر جمع أمراءه ومماليكه وشاورهم في أمره فقال نوغيه‏:‏ ‏"‏ من ذا الذي يعاندك أو يقف قدامك والجميع مماليكك‏!‏ والذي خلق الخلق إذا كنت أنت معي وحدي ألتقي بك كل من خرج من مصر والشام‏!‏ ‏"‏ فقال السلطان‏:‏ ‏"‏ صدقت فيما قلت ولكن من لم ينظر في وقال آبن كثير في تاريخه‏:‏ وصل المتوجهون إلى الكرك إلى الملك الناصر في الحادي والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة فقبلهم الناصر أحسن قبول وكان حين وصلوا إلى قطيا أخذوا ما بها من المال ووجدوا أيضًا في طريقهم تقدمة لسيف الدين طوغان نائب البيرة فأخذوها بكمالها وأحضروا الجميع بين يدي الملك الناصر محمد ولما وصلت إليه الأمراء المذكورون أمر الملك الناصر بالخطبة لنفسه ثم كاتب النواب فآجتمعوا وأجابوه بالسمع والطاعة‏.‏
ولما عاد الأمراء من غزة إلى مصر اشتد خوف السلطان الملك المظفر وكثر خياله من أكثر عسكر مصر فقبض على جماعة تزيد على ثلاثمائة مملوك وأخرج أخبازهم وأخباز المتوجهين مع نوغيه إلى الكرك لمماليكه وتحلقوا عليه البرجية وشؤشوا فكره بكثرة تخيله بمخامرة العسكر المصري عليه وما زالوا به حتى أخرج الأمير بينجار والأمير صارم الدين الجرمكي في عدة من الأمراء مجردين وأخرج الأمير آقوش الرومي بجماعته إلى طريق السويس ليمنع من عساه يتوجه من الأمراء والمماليك إلى الملك الناصر‏.‏
ثم قبض الملك المظفر على أحد عشر مملوكًا وقصد أن يقبض على آخرين فآستوحش الأمير بطرا فهرب فأدركه الأمير جركتمر بن بهادر رأس نوبة فأحضره فحبس وعند إحضاره طلع الأمير ألديكز السلاح دار بملطف من عند الملك الناصر محمد وهو جواب الكتاب الذي كان أرسله الملك المظفر للملك الناصر يطلب نوغيه وأصحابه‏.‏
وقد ذكرنا معناه وما أغلظ فيه وأفحش في الخطاب للملك الناصر وكان في وقت وصول كتاب المظفر حضر إلى الملك الناصر الأمير أسندمر نائب طرابلس كأنهما كانا على ميعاد فأخذ الناصر الكتاب وأسندمر إلى جانبه وعليه لبس العربان وقد ضرب اللثام فقرأ الناصر الكتاب ثم ناوله إلى أسندمر فقرأه وفهم معناه ثم أمر الملك الناصر الناس بالانصراف وبقي هو وأسندمر وقال لأسندمر‏:‏ ما يكون الجواب فقال له أسندمر‏:‏ المصلحة أن تخادعه في الكلام وتترقق له في الخطاب حتى نجهز أمرنا ونستظهر فقال له السلطان‏:‏ اكتب له الجواب مثل ما تختاره فكتب أسندمر‏:‏ ‏"‏ المملوك محمد بن قلاوون يقبل اليد العالية المولوية السلطانية المظفرية أسبغ الله ظلها ورفع قدرها ومحلها وينهي بعد رفع دعائه وخالص عبوديته وولائه أنه وصل إلي المملوك نوغيه ومغلطاي وجماعة من المماليك فلما علم المملوك بوصولهم أغلق باب القلعة ولم يمكن أحدًا منهم يعبر إليه وسيرت إليهم ألومهم على ما فعلوه وقد دخلوا على المملوك بأن يبعث ويشفع فيهم فأخذ المملوك في تجهيز تقدمة لمولانا السلطان ويشفع فيهم والذي يحيط به علم مولانا السلطان أن هؤلاء من مماليك السلطان خلد الله ملكه وأن الذي قيل فيهم غير صحيح وإنما هربوا خوفًا على أنفسهم وقد استجاروا بالمملوك والمملوك يستجير بظل الدولة المظفرية والمأمول ألا يخيب سؤاله ولا يكسر قلبه ولا يرده فيما قصده‏.‏
وفي هذه الأيام يجهز المملوك تقدمة مع المماليك الذين طلبهم مولانا السلطان وأنا ما لي حاجة بالمماليك في هذا المكان وإن رسم مولانا مالك الرق أن يسير نائبًا له وينزل المملوك بمصر ويلتجىء بالدولة المظفرية ويحلق رأسه ويقعد في تربة الملك المنصور‏.‏
والمملوك قد وطن نفسه على مثل هذا وقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه‏:‏ ‏"‏ ما أقرب الراحة من التعب والبؤس من النعم والموت من الحياة ‏"‏‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إياك وما يسخط سلطانك ويوحش إخوانك فمن أسخط سلطانه فقد تعرض للمنية ومن أوحش إخوانه فقد تبرأ عن الحرية‏.‏
والمملوك يسأل كريم العفو والصفح الجميل‏!‏ والله تعالى قال في كتابه الكريم وهو أصدق القائلين‏:‏ والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ‏"‏‏.‏ والمملوك ينتظر الأمان والجواب‏.‏ أنهى المملوك ذلك ‏"‏‏.‏
فلما قرأ الملك المظفر الكتاب خص ما كان عنده وكان سلار حاضرًا فقال له سلار‏:‏ ما قلت لك إن الملك الناصر ما بقيت له قدرة على المعاندة‏!‏ وقد أصبح ملك الشام ومصر طوع يدك ولكن عندي رأي‏:‏ وهو أن تسير إلى الأفرم بأن يجعل باله من الأمراء فإنهم ربما يهربون إلى بلاد التتار فآستصوب المظفر ذلك وكتب إلى الأفرم في الحال بالغرض فلما وصل الكتاب إلى الأفرم اجتهد في ذلك غاية الاجتهاد‏.‏

وبينما المظفر في دلك ورد عليه الحبر من الأفرم بخروج الملك الناصر من الكرك فقلق المظفر من ذلك وزاد توهمه ونفرت قلوب جماعة من الأمراء والمماليك منه وخشوا على أنفسهم واجتمع كثير من المنصورية والأشرفية والأويراتية وتواعدوا على الحرب وخرج منهم مائة وعشرون فارسًا بالسلاح وساروا على حمية إلى الملك الناصر فخرج في أثرهم الأمير بينجار والصارم الجرمكي بمن معهم وقاتلوا المماليك وجرح الجرمكي بسيف في خده سقط منه إلى الأرض ومضى المماليك إلى الكرك ولم يستجرىء أحد أن يتعرض إليهم فعظم بذلك الخطب على الملك المظفر وآجتمع عنده البرجية وقالوا‏:‏ هذا الفساد كله من الأمير سلار ومتى لم تقبض عليه خرج الأمر من يدك فلم يوافق على ذلك وجبن من القبض على سلار لشوكته ولاضطراب دولته ثم طلب الملك المظفر الأمير سلار وغيره من الأمراء واستشارهم في أمر الملك الناصر فاتفق الرأي على خروج تجريدة لقتال الملك الناصر‏.‏

وأما الملك الناصر فإنه أرسل الأمير أيتمش المحمدي الناصري إلى الأمير قبجق نائب حماة فأحال الأمير قبجق الأمر على الأمير قراسنقر نائب حلب فاجتمع أيتمش بقرا سنقر فأكرمه ووافق على القيام مع الملك الناصر ودخل في طاعته وأعلن بذلك وهو أكبر المماليك المنصورية وواعد الملك الناصر على المسير إلى دمشق في أول شعبان‏.‏

ثم كتب قرا سنقر إلى الأفرم نائب الشام يحثه على طاعة الملك الناصر ويرغبه في ذلك ويحذره مخالفته وأشار قرا سنقر على الملك الناصر أنه يكاتب الأمير بكتمر الجوكندار نائب صفد والأمير كراي المنصوري نائب القدس‏.‏

ثم عاد أيتمش إلى أستاذه الملك الناصر وأخبره بكل ما وقع فسر الملك الناصر بذلك هو وكل من عنده غاية السرور وتحقق كل أحد من حواشي الملك الناصر بإتمام أمره‏.‏

وكان نوغيه منذ قدم على الملك الناصر بالكرك لا يبرح يحرضه على المسير إلى دمشق حتى إنه ثفل على الملك الناصر من مخاشنته في المخاطب بسبب توجهه إلى دمشق وغضب منه وقال له‏:‏ ‏"‏ ليس لي بك حاجة ارجع حيث جئت ‏"‏ فترك نوغاي الخدمة وانقطع وحقد له الملك الناصر ذلك حتى قتله بعد عوده إلى الملك بمدة حسب ما يأتي ذكره من كثرة ما وبخه نوغيه المذكور وأسمعه من الكلام الخشن‏.‏

ولما قدم أيتمش بالأجوبة على الملك الناصر قوي عزم الملك الناصر على الحركة ثم إن الملك الناصر أيضًا أرسل مملوكه أيتمش المحمدي المذكور إلى الأمير بكتمر الجوكندار نائب صفد حسب ما أشار به قرا سنقر فسار أيتمش إليه واجتمع بالأمير محمد بن بكتمر الجوكندار فجمع محمد المذكور بين أيتمش وبين أبيه ليلًا في مقابر صفد فعتبه أيتمش على رده أولًا قاصد السلطان الملك الناصر فآعتذر له بكتمر بالخوف من بيبرس وسلار كما كان وقع له مع الناصر أولًا بالديار المصرية حين آتفقا على قبض بيبرس وسلار ولم يتم لهم ذلك وأخرج بكتمر بسبب ذلك من الديار المصرية وقد تقدم ذكر ذلك كله‏.‏

انتهى‏.‏

ثم قال له بكتمر‏:‏ ولولا ثقتي بك ما اجتمعت عليك فلما عرفه أيتمش طاعة الأمير قرا سنقر والأمير قبجق والأمير أسندمر أجاب بالسمع والطاعة وأنه على ميعاد النواب إلى المضي إلى الشام وعاد أيتمش إلى الملك الناصر بجواب بكتمر فسر به غاية السرور‏.‏

وأما السلطان الملك المظفر بيبرس هذا فإنه أخذ في تجهيز العساكر إلى قتال الملك الناصر محمد حتى تم أمرهم وخرجوا من الديار المصرية في يوم السبت تاسع شهر رجب وعليهم خمسة أمراء من مقدمي الألوف وهم‏:‏ الأمير برلغي الأشرفي والأمير جمال الدين آقوش الأشرفي نائب الكرك كان والأمير عز الدين أيبك البغدادي والأمير سيف الدين طغريل الإيغاني والأمير سيف الدين ألدكز السلاح دار ومعهم نحو ثلاثين أميرًا من أمراء الطبلخاناه بعد ما أنفق فيهم الملك المظفر‏:‏ فأعطى برلغي عشرة آلاف دينار وأعطى لكل مقدم الذي دينار ولكل من الطبلخاناه ألف دينار ولكل واحد من مقدمي الحلقة ألف درهم ولكل واحد من أجناد الحلقة خمسمائة درهم‏.‏

ونزلوا بمسجد التبن خارج القاهرة ولم يتقدموا ثم عادوا بعد أربعة أيام إلى القاهرة‏.‏

وكان الباعث على عودهم أن كتب آقوش الأفرم نائب الشام وردت على الملك المظفر تتضمن وصول الملك الناصر إلى البرج الأبيض ثم عاد إلى الكرك فآطمأن الملك المظفر وأرسل إلى برلغي ومن معه من المجردين بالعود فعادوا بعد أربعة أيام‏.‏

فلم يكن إلا أيام وورد الخبر ثانيًا بمسير الملك الناصر محمد من الكرك إلى نحو دمشق فتجهز العسكر المذكور في أربعة آلاف فارس وخرجوا من القاهرة في العشرين من شعبان إلى العباسة‏.‏

فورد البريد من دمشق بقدوم أيتمش المحمدي من قبل الملك الناصر بمشافهة إلى الأفرم ذكرها للمظفر‏.‏

ثم إن الأفرم بعد قدوم أيتمش بعث الأمير علاء الدين أيدغدي شقير الحسامي والأمير جوبان لكشف خبر الملك الناصر وأنهما توجها من الشام إلى جهة الكرك فوجدا الملك الناصر يتصيد وأنه عوق أيتمش عنده فسر المظفر بذلك‏.‏

وكان الأمر بخلاف ذلك وهو أن أمرهما‏:‏ أنه لما سيرهما الأفرم لكشف خبر الملك الناصر قدما على الملك الناصر ودخلا تحت طاعته وعرفاه أنهما جاءا لكشف خبره وحلفا له على القيام بنصرته سرًا وعادا إلى الأفرم بالجواب المذكور‏.‏

وكان الناصر هو الذي أمرهما بهذا القول فظن الأفرم أن أخبارهما على الصدق فكتب به إلى المظفر‏.‏

ثم إن الأفرم خاف أن يطرق الملك الناصر دمشق على غفلة فجرد إليه ثمانية أمراء من أمراء دمشق وهم‏:‏ الأمير سيف الدين قطلوبك المنصوري والأمير سيف الدين الحماج بهادر الحلبي الحاجب والأمير جوبان والأمير كجكن والأمير علم الدين سنجر الجاولي وغيرهم ليقيموا على الطرقات لحفظها على من يخرج من الشام وغيره إلى الملك الناصر‏.‏

وكتب إلى الملك المظفر يستحثه على إخراج عساكر مصر لتجتمع عنده مع عساكر دمشق على قتال الملك الناصر وأنه قد جدد اليمين للمظفر وحلف أمراء دمشق ألا يخونوه ولا ينصروا الملك الناصر‏.‏

فلما قرأ المظفر كتاب الأفرم اضطرب وزاد قلقه‏.‏

ثم ورد عليه كتاب الأمير برلغي من العباسة بأن مماليك الأمير آقوش الرومي تجمعوا عليه وقتلوه وساروا ومعهم خزائنه إلى الملك الناصر وأنه لحق بهم بعض أمراء الطبلخاناه في جماعة من مماليك الأمراء وقد فسد الحال والرأي أن يخرج السلطان بنفسه‏.‏

فلما سمع الملك المظفر ذلك أخرج تجريدة أخرى فيها عدة أمراء أكابر وهم‏:‏ الأمير بجاس وبكتوت وكثير من البرجية ثم بعث إلى برلغي بألفي دينار ووعده بأنه عازم على التوجه إليه بنفسه‏.‏

فلما ورد كتاب الملك المظفر بذلك وبقدوم التجريدة إليه عزم على الرحيل إلى جهة الكرك فلما كان الليل رحل كثير ممن كان معه يريدون الملك الناصر فثنى عزمه عن الرحيل ثانيًا وكتب إلى المظفر يقول بأن نصف العسكر سار إلى الملك الناصر وخرج عن طاعة الملك المظفر ثم حرض الملك المظفر على الخروج بنفسه‏.‏

وقبل أن يطلع الفجر من اليوم المذكور وصل إلى القاهرة الأمير بهادرجك بكتاب الأمير برلغي المذكور وطلع إلى السلطان فلما قضى الملك المظفر صلاة الصبح تقدم إليه بهادرجك وعرفه بوصول أكثر العسكر إلى الملك الناصر وناوله الكتاب فلما قرأه بيبرس تبسم وقال‏:‏ ‏"‏ سلم على الأمير برلغي وقل له‏:‏ لا تخش من شيء فإن الخليفة أمير المؤمنين قد عقد لنا بيعة ثانية وجدد لنا عهدًا وقد قرىء على المنابر وجددنا اليمين على الأمراء وما بقي أحد يجسر أن يخالف ما كتب به أمير المؤمنين‏!‏ ‏"‏ ثم دفع إليه العهد الخليفتي وقال‏:‏ لا امض به إليه حتى يقرأه على الأمراء والجند ثم يرسله إلي فإذا فرغ من قراءته يرحل بالعساكر إلى الشام ‏"‏ وجهز له بألفي دينار أخرى وكتب جوابه بنظير المشافهة فعاد بهادر جك إلى برلغي فلما قرأ عليه الكتاب وآنتهى إلى قوله‏:‏ ‏"‏ وأن أمير المؤمنين ولاني تولية جديدة وكتب لي عهدًا وجدد لي بيعة ثانية ‏"‏ وفتح العهد فإذا أوله‏:‏ ‏"‏إنه من سليمان بسم الله الرحمن الرحيم "‏ فقال برلغي‏: ولسليمان الريح ‏!‏ ثم آلتفت إلى بهادرجك وقال له‏:‏ ‏"‏ قل له‏:‏ يا بارد الذقن‏!‏ والله ما بقي أحد يلتفت إلى الخليفة ‏"‏ ثم قام وهو مغضب‏.‏

وكان سبب تجديد العهد للملك المظفر هذا أن الأفرم نائب الشام لما ورد كتابه على المظفر أنه حلف الأمراء بدمشق ثانيًا وبعث بالشيخ صدر الدين محمد ابن عمر بن مكي بن عبد الصمد الشهير بابن المرحل إلى الملك المظفر في الرسلية صار صدر الدين يجتمع به هو وآبن عدلان وصار الملك المظفر يشغل وقته بهما فأشارا عليه بتجديد العهد والبيعة وتحليف الأمراء وأن ذلك يثبت به قواعد ملكه ففعل الملك المظفر ذلك وحلف الأمراء بحضور الخليفة وكتب له عهد جديد عن الخليفة أبي الربيع سليمان العباسي‏.‏

ونسخة العهد‏:‏ ‏"‏إنه من سليمان بسم الله الرحمن الرحيم  من عبد الله وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي الربيع سليمان بن أحمد العباسي لأمراء المسلمين وجيوشها‏.‏

‏"يا ايها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم ‏"‏ وإني رضيت لكم بعبد الله تعالى الملك المظفر ركن الدين نائبًا عني لملك الديار المصرية والبلاد الشامية وأقمته مقام نفسي لدينه وكفاءته وأهليته ورضيته للمؤمنين وعزلت من كان قبله بعد علمي بنزوله عن الملك ورأيت ذلك متعينًا علي وحكمت بذلك الحكام الأربعة واعلموا رحمكم الله أن الملك عقيم ليس بالوراثة لأحد خالف عن سالف ولا كابر عن كابرة وقد آستخرت الله تعالى ووليت عليكم الملك المظفر فمن أطاعه فقد أطاعني ومن عصاه فقد عصاني ومن عصاني فقد عصى أبا القاسم ابن عمي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وبلغني أن الملك الناصر آبن السلطان الملك المنصور شق العصا على المسلمين وفرق كلمتهم وشتت شملهم وأطمع عدوهم فيهم وعرض البلاد الشامية والمصرية إلى سبي الحريم والأولاد وسفك الدماء فتلك دماء قد صانها الله تعالى من ذلك‏.‏

وأنا خارج إليه ومحاربه أن آستمر على ذلك وأدافع عن حريم المسلمين وأنفسهم وأولادهم لهذا الأمر العظيم وأقاتله حتى يفيء إلى أمر الله تعالى وقد أوجبت عليكم يا معاشر المسلمين كافة الخروج تحت لوائي اللواء الشريف فقد أجمعت الحكام على وجوب دفعه وقتاله إن آستمر على ذلك وأنا مستصحب معي الملك المظفر فجهزوا أرواحكم والسلام ‏"‏‏.‏

وقرىء هذا العهد على منابر الجوامع بالقاهرة فلما بلغ القارىء إلى ذكر الملك الناصر صاحت العوام‏:‏ نصره الله نصره الله‏!‏ وكررت ذلك‏.‏

وقرأ فلما وصل إلى ذكر الملك المظفر صاحوا‏:‏ لا ما نريده ووقع في القاهرة ضجة وحركة بسبب ذلك‏.‏

انتهى‏.‏

ثم قدم على الملك المظفر من الشام على البريد الأمير بهادر آص يحث الملك المظفر على الخروج إلى الشام بنفسه فإن النواب قد مالوا كلهم إلى الملك الناصر فأجاب أنه لا يخرج واحتج بكراهيته للفتنة وسفك الدماء وأن الخليفة قد كتب بولايته وعزل الملك الناصر فإن قبلوا وإلا ترك الملك‏.‏

ثم قدم أيضًا الأمير بلاط بكتاب الأمير برلغي وفيه أن جميع من خرج معه من أمراء الطبلخاناه لحقوا بالملك الناصر وتبعهم خلق كثير ولم يتأخر غير برلغي وآقوش نائب الكرك وأيبك البغدادي وألدكز والفتاح وذلك لأنهم خواص الملك المظفر‏.‏

وأما الملك الناصر فإنه سار من الكرك بمن معه في أول شعبان يريد دمشق بعد أمور وقعت له نذكرها في أوائل ترجمته الثالثة‏.‏

فلما سار دخل في طاعته الأمير قطلوبك المنصوري والحاج بهادر وبكتمر الحسامي حاجب حجاب دمشق وعلم الدين سنجر الجاولي‏.‏

وصار الملك الناصر يتأنى في مسيره من غير سرعة حتى يتبين ما عند أمراء دمشق الذين أخرجهم الأفرم لحفظ الطرقات قبل ذلك فكتبوا أمراء دمشق المذكورون إلى الأفرم أنه لا سبيل لهم إلى محاربة الملك الناصر وأرادوا بذلك إما أن يخرج بنفسه فيقبضوه أو يسير عن دمشق إلى جهة أخرى فيأتيهم بقية الجيش وكان كذلك‏.‏

فإنه لما قدم كتابهم عليه بدمشق شاع بين الناس مجيء الملك الناصر من الكرك فثارت العوام وصاحوا‏:‏ ‏"‏ نصر الله الملك الناصر‏!‏ ‏"‏ وتسلل عسكره من دمشق طائفة بعد طائفة إلى الملك الناصر وانفرط الأمر من الأفرم‏.‏

وآتفق الأمير بيبرس العلائي والأمير بيبرس المجنون بمن معهما على الوثوب على الأفرم والقبض عليه فلم يثبت عندما بلغه ذلك واستدعى علاء الدين علي بن صبيح وكان من خواصه وخرج ليلًا وتوجه إلى جهة الشقيف فركب قطلوبك والحاج بهادر عندما سمعا خبر الأفرم وتوجها إلى الملك الناصر وكانا كاتباه بالدخول في طاعته قبل ذلك فسر بهما وأنعم على كل واحد منهما بعشرة آلاف درهم وقدم على الناصر أيضًا الجاولي وجوبان وسائر من كان معهم فسار بهم الملك الناصر حتى نزل الكسوة وخرج إليه بقية الأمراء والأجناد‏.‏

وقد عمل له سائر شعار السلطنة من السناجق وسار يوم الثلاثاء ثاني عشر شعبان يريد مدينة دمشق فدخلها من غير مدافع بعدما زينت له زينة عظيمة وخرج جميع الناس إلى لقائه على اختلاف طبقاتهم حتى صغار الكتاب وبلغ كراء البيت من البيوت التي بميدان الحصى إلى قلعة دمشق للتفرج على السلطان من خمسمائة درهم إلى مائة درهم وفرشت الأرض بشقاق الحرير الملونة وحمل الأمير قطلوبك المنصوري الغاشية وحمل الأمير الحاج بهادر الجتر وترجل الأمراء والعساكر بأجمعهم ومشوا بين يديه حتى نزل بالقصر الأبلق‏.‏

وفي وقت نزوله قدم مملوك الأمير قرا سنقر نائب حلب لكشف الخبر وأن قراسنقر خرج من حلب وقبجق خرج من حماة فخلع عليه وكتب لهما بسرعة الحضور إليه‏.‏

ثم كتب إلى الأفرم أمانًا وتوجه به علم الدين سنجر الجاولي فلم يثق بذلك لما كان وقع منه في حق الناصر لما قدم عليه تنكز وطلب يمين السلطان فحلف السلطان له وبعث إليه نسخة الحلف‏.‏

وكان قبل ذلك بعث الملك الناصر خازنداره وتنكز مملوكه إلى الأفرم هذا صحبة عثمان الركاب يستدعيه إلى طاعته بكل ما يمكن ثم أمره الملك الناصر إن لم يطع يخشن له في القول وكذلك كتب في المطالعة التي على يد تنكز‏:‏ ‏"‏ أولها وعد وآخرها وعيد ‏"‏‏.‏

فلما قرأ الأفرم الكتاب المذكور آسود وجهه من الغضب ثم آلتفت إلى تنكز وقال‏:‏ ‏"‏ أنت وأمثالك الذين حمقوا هذا الصبي حتى كتب لي هذا الكتاب ويلك‏!‏ من هو الذي وافقه من أمراء دمشق على ذلك ‏"‏ وكان الناصر قد كتب له في جملة الكلام أن غالب أمراء البلاد الشامية أطاعوني وكان الأفرم لما حضر إليه تنكز قبل أن يقرأ الكتاب جمع أمراء دمشق ثم قرأ الكتاب فلما وصل إلى ذلك قال الأفرم‏:‏ ‏"‏ قل لي من هو الذي أطاعه حتى أقبض عليه وأرسله إلى مصر ‏"‏ فنظر أمراء دمشق بعضهم إلى بعض وأمعن الأفرم في الكلام فقام الأمير بيبرس المجنون وقال‏:‏ ‏"‏ ما هذا الكلام مصلحة تجاوب آبن استاذك بهذا الجواب‏!‏ ولكن لاطفه وقل له‏:‏ أنت تعلم أننا متبعون مصر وما يبرز منها فإن أردت الملك فاطلبه من مصر ولا تبتلش بنا وارجع عنا ‏"‏ وذكر له أشياء من هذا النمط فقال الأفرم‏:‏ لا أنا ما أقول هذا الكلام وليس له عندي إلا السيف إن جاءنا‏!‏ ‏"‏ ثم طلب الأفرم تنكز في خلوة وقال له‏:‏ ‏"‏ سر إلى أستاذك وقل له‏:‏ ‏"‏ ارجع وإلا يسمع الملك المظفر فيمسكك ويحبسك فتبقى تتمنى أن تشبع الخبز‏!‏ ولا ينفعك حينئذ أحد فإن كان لك رأي فاقبض على نوغيه ومن معه وسيرهم للملك المظفر فإن فعلت ذلك يصلح حالك ولا تفعل غير هذا تهلك ‏"‏‏.‏

وكتب له كتابًا بمعنى هذا ودفعه إلى تنكز فلم يخرج تنكز من دمشق إلى أثناء الطريق‏.‏

حتى خرج في أثره جماعة من أمراء دمشق إلى طاعة الناصر‏.‏

وكان كلام الأفرم لتنكز أكبر الأسباب لخروج الملك الناصر من الكرك إلى دمشق فلما قدم الناصر دمشق وكتب الأمان للأفرم فتخوف الأفرم مما كان وقع منه من القول لما قدم عليه تنكز وطلب الحلف‏.‏ انتهى‏.‏

وقال بيبرس في تاريخه‏:‏ وأرسل السلطان إلى الأفرم رسلا بالأمان والأيمان وهما الأميران عز الدين أيدمر الزردكاش والأمير سيف الدين جوبان‏.‏

وقال غيره‏:‏ بعث إليه السلطان نسخة الحلف مع الأمير الحاج أرقطاي الجمدار فما زال به حتى قدم معه هو وابن صبيح فركب السلطان إلى لقائه حتى قرب منه نزل كل منهما عن فرسه فأعظم الأفرم نزول السلطان له وقبل الأرض وكان الأفرم قد لبس كاملية وشد وسطه وتوشح بنصفية يعني أنه حضر بهيئة البطالين من الأمراء وكفنه تحت إبطه وعندما شاهدته الناس على هذه الحالة صرخوا بصوت واحد‏:‏ يا مولانا السلطان بتربة والدك الملك الشهيد قلاوون لا تؤذه ولا تغير عليه‏!‏ فبكى سائر من حضر وبالغ السلطان في إكرامه وخلع عليه وأركبه وأقره على نيابة دمشق فكثر الدعاء له وسار إلى القصر‏.‏ فلما كان من الغد أحضر الأفرم خيلًا وجمالًا وثيابًا بمائتي ألف درهم تقدمة إلى السلطان الملك الناصر‏.‏

وفي يوم الجمعة ثاني عشرين شعبان خطب للملك الناصر بدمشق وانقطع منها آسم المظفر وصليت الجمعة بالميدان فكان يومًا مشهودًا‏.‏

وفي ذلك اليوم قدم الأمير قرا سنقر نائب حلب والأمير قبجق نائب حماة والأمير أسندمر كرجي نائب طرابلس وتمر الساقي نائب حمص فركب السلطان إلى لقائهم وترجل إلى قرا سنقر وعانقه وشكر الأمراء وأثنى عليهم‏.‏

ثم قدم الأمير كراي المنصوري نائب القدس والأمير بكتمر الجوكندار نائب صفد ثم قدم كل من الأمراء والنواب تقدمته بقدر حاله ما بين ثياب أطلس وحوائص ذهب وكلفتاة زركش وخيول مسرجة في عنق كل فرس كيس فيه ألف دينار وعليه مملوك وعدة بغال وجمال بخاتي وغير ذلك‏.‏

وشرع الملك الناصر في النفقة على الأمراء والعساكر الواردة عليه مع النواب فلما آنتهت النفقة قدم بين يديه الأمير كراي المنصوري على عسكره إلى غزة فسار إليها وصار كراي يمد في كل يوم سماطًا عظيمًا للمقيمين والوارعين عليه فأنفق في ذلك أموالًا جزيلة من حاصله وآجتمع عليه بغزة عالم كثير وهو يقوم بكلفهم ويعدهم عن السلطان بما يرضيهم‏.‏

وأما الملك المظفر فإنه قدم عليه الخبر في خامس عشرين شعبان باستيلاء الملك الناصر على دمشق بغير قتال فعظم ذلك على الملك المظفر وأظهر الذلة وخرجت عساكر مصر شيئًا بعد شيء تريد الملك الناصر حتى لم يبق عنده بالديار المصرية سوى خواصه من الأمراء والأجناد‏.‏

وأما الأمير برلغي ومن معه من الأمراء صار عساكرهم تتسلل واحدًا بعد واحد حتى بقي برلغي في مماليكه وجماعة من خواص الملك المظفر بيبرس فتشاور برلغي مع جماعته حتى آقتضى رأيه ورأي آقوش نائب الكرك اللحاق بالملك الناصر أيضًا فلم يوافق على ذلك البرجية وعاد أيبك البغدادي وبكتوت الفتاح وقجقار ببقية البرجية إلى القاهرة وصاروا مع الملك المظفر بيبرس‏.‏

وسار برلغي وآقوش إلى الملك الناصر فيمن بقي من الأمراء والعساكر فاضطربت القاهرة لذلك‏.‏

وكان الملك المظفر قد أمر في مستهل شهر رمضان سبعة وعشرين أميرًا ما بين طبلخاناه وعشرات منهم من مماليكه‏:‏ صديق وصنقيجي وطوغان وقرمان وإغزلو وبهادر ومن المماليك السلطانية سبعة وهم‏:‏ قراجا الحسامي وطرنطاي المحمدي وبكتمر الساقي وبهادر قبجاق وأنكبار وطشتمر أخو بتخاص ولاجين وممن عداهم جركتمر بن بهادر وحسن بن الردادي ونزلوا الجميع إلى المدرسة المنصورية ليلبسوا الخلع على جاري العادة وآجتمع لهم النقباء والحجاب والعامة بالأسواق ينتظرون طلوعهم القلعة وكل منهم بقي لابس الخلعة فاتفق أن شخصًا من المنجمين كان بين يدي النائب سلار فرأى الطالع غير موافق فقال‏:‏ ‏"‏ هذا الوقت ركوبهم غير لائق ‏"‏ فلم يلتفت بعضهم ولبس وركب في طلبه فآستبردوهم العوام وقالوا‏:‏ ‏"‏ ليس له حلاوة ولا عليه طلاوة ‏"‏ وصار بعضهم يصيح ويقول‏:‏ ‏"‏ يا فرحة لا تمت ‏"‏‏.‏

ثم أخرج الملك المظفر عدة من المماليك السلطانية إلى بلاد الصعيد وأخذ أخبازهم وظن الملك المظفر أنه ينشىء له دولة فلما بلغه مسير برلغي وآقوش نائب الكرك إلى الملك الناصر سقط في يده وعلم زوال ملكه فإن برلغي كان زوج ابنته وأحد خواصه وأعيان دولته بحيث إنه أنعم عليه في هذه الحركة بنيف وأربعين ألف دينار مصرية وقيل‏:‏ سبعين ألف دينار‏.‏

وظهر عليه اختلال الحال وأخذ خواصه في تعنيفه على إبقاء سلار النائب وأن جميع هذا الفساد منه وكان كذلك‏:‏ فإنه لما فاتته السلطنة وقام بيبرس فيها حسده على ذلك ودبر عليه وبيبرس في غفلة عنه فإنه كان سليم الباطن لا يظن أن سلار يخونه‏.‏

ثم قبض الملك المظفر ليلة الجمعة على جماعة من العوام وضربوا وشهروا لإعلانهم بسب الملك المظفر بيبرس فما زادهم ذلك إلا طغيانًا وفي كل ذلك تنسب البرجية فساد الأمور لسلار‏.‏

فلما أكثر البرجية الإغراء بسلار قال لهم الملك المظفر‏:‏ ‏"‏ إن كان في خاطركم شيء فدونكم وإياه إذا جاء سلار للخدمة وأما أنا فلا أتعرض له بسوء قط ‏"‏‏.‏

فاجتمعت البرجية على قبض سلار إذا حضر الخدمة في يوم الأثنين خامس عشره فبلغ سلار ذلك فتأخر عن حضور الخدمة واحترس على نفسه وأظهر أنه قد توعك فبعث الملك المظفر يسلم عليه ويستدعيه ليأخذ رأيه فاعتذر بأنه لا يطيق الحركة لعجزه عنها‏.‏

فلما كان يوم الثلاثاء سادس عشر رمضان آستدعى الملك المظفر الأمراء كلهم وآستشارهم فيما يفعل فأشار الأمير بيبرس الدوادار المؤرخ والأمير بهادر آص بنزوله عن الملك والإشهاد عليه بذلك كما فعله الملك الناصر ‏"‏ وتسير إلى الملك الناصر بذلك وتستعطفه وتخرج إلى إطفيح بمن تثق به وتقيم هناك حتى يرد جواب الملك الناصر عليك ‏"‏ فأعجبه ذلك وقام ليجهز أمره وبعث بالأمير ركن الدين بيبرس الدوادار المذكور إلى الملك الناصر محمد يعرفه بما وقع‏.‏

وقيل إنه كتب إلى الملك الناصر يقول مع غير بيبرس الدوادار‏:‏ ‏"‏ والذي أعرفك به أني قد رجعت أقلدك بغيك فإن حبستني علات ذلك خلوة وإن نفيتني عددت ذلك سياحة وإن قتلتني كان ذلك لي شهادة ‏"‏ فلما سمع الملك الناصر ذلك عين له صهيون على ما نذكره‏.‏

وأما ما كتبه المظفر على يد بيبرس الدوادار يسأله في إحدى ثلاث‏:‏ إما الكرك وأعمالها أو حماة وبلادها أو صهيون ومضافاتها‏.‏

ثم آضطربت أحوال المظفر وتحير وقام ودخل الخزائن وأخذ من المال والخيل ما أحب وخرج من يومه من باب الإسطبل في مماليكه وعدتهم سبعمائة مملوك ومعه من الأمراء‏:‏ الأمير عز الدين أيدمر الخطيري الأستادار والأمير بكتوت الفتاح والأمير سيف الدين قجماس والأمير سيف الدين تاكز في بقية ألزامه من البرجية فكأنما نودي في الناس بأنه خرج هاربًا فآجتمع العوام وعندما برز من باب الإسطبل صاحوا به وتبعوه وهم يصيحون عليه بأنواع الكلام وزادوا في الصياح حتى خرجوا عن الحد ورماه بعضهم بالحجارة‏.‏

فشق ذلك على مماليكه وهموا بالرجوع إليهم ووضع السيف فيهم فمنعهم الملك المظفر من ذلك وأمر بنثر المال عليهم ليشتغلوا بجمعه عنه فأخرج كل من المماليك حفنة من الذهب ونثرها فلم يلتفت العامة لذلك وتركوه وأخذوا في العدو خلفه وهم يسبون ويصيحون فشهر المماليك حينئذ سيوفهم ورجعوا إلى العوام فآنهزموا منهم‏.‏

وأصبح الحراس بقلعة الجبل في يوم الأربعاء سابع عشر شهر رمضان يصيحون باسم الملك الناصر وأسقط آسم الملك المظفر بإشارة الأمير سلار بذلك فإنه أقام بالقلعة ومهد أمورها بعد خروج المظفر إلى إطفيح‏.‏

وفي يوم الجمعة تاسع عشره خطب على منابر القاهرة ومصر بآسم الملك الناصر والمسقط آسم الملك المظفر بيبرس هذا وزال ملكه‏.‏

القبض على الملك المظفر بيبرس

وأما الملك المظفر فإنه لما فارق القلعة أقام بإطفيح يومين ثم آتفق رأيه ورأي أيدمر الخطيري وبكتوت الفتاح إلى المسير إلى برقة وقيل بل إلى أسوان فأصبح حاله كقول القائل‏:‏ موكل ببقاع الأرض يذرعها من خفة الروع لا من خفة الطرب ولما بلغ مماليك الملك المظفر هذا الرأي عزموا على مفارقته‏.‏

فلما رحل من إطفيح رجع المماليك عنه شيئًا بعد شيء إلى القاهرة فما وصل المظفر إلى إخميم حتى فارقه أكثر من كان معه فعند ذلك آنثنى عزمه عن التوجه إلى برقة وتركه الخطيري والفتاح وعادا نحو القاهرة‏.‏

وبينما هو سائر قدم عليه الأميران‏:‏ بيبرس الدوادار وبهادر آص من عند الملك الناصر ليتوجه إلى بيبرس الدوادار فأخذ بيبرس المال وسار به في النيل إلى الملك الناصر وهو بقلعة الجبل وقدم بهادر آص في البر بالملك المظفر ومعه كاتبه كريم الدين أكرم وسأل المظفر في يمين السلطان مع من يثق به فحلف له الملك الناصر بحضرة الأمراء وبعث إليه بذلك مع أيتمش المحمدي فلما قدم عليه أيتمش بالغ المظفر في إكرامه وكتب الجواب بالطاعة وأنه يتوجه إلى ناحية السويس وأن كريم الدين يحضر بالخزانة والحواصل التي أخذها فلم يعجب السلطان ذلك وعزم على إخراج تجريدة إلى غزة ليردوه وأطلع على ذلك بكتمر الجوكندار النائب وقرا سنقر نائب دمشق والحاج بهادر وأسندمر نائب طرابلس‏.‏

فلما كان يوم الخميس الذي قبض فيه الملك الناصر على الأمراء - على ما سيأتي ذكره مفصلًا في أول ترجمة الملك الناصر الثالثة إن شاء الله تعالى - جلس بعض المماليك الأشرفية خارج القلعة فلما خرج الأمراء من الخدمة قال‏:‏ ‏"‏ وأي ذنب لهؤلاء الأمراء الذين قبض عليهم‏!‏ وهذا الذي قتل أستاذنا الملك الأشرف ودمه الآن على سيفه قد صار اليوم حاكم المملكة ‏"‏ يعني عن قرا سنقر فقيل هذا لقرا سنقر فخاف على نفسه وأخذ في عمل الخلاص من مصر فآلتزم للسلطان أنه بتوجه ويحصل الملك المظفر بيبرس هو والحاج بهادر نائب طرابلس من غير إخراج تجريدة فإن في بعث الأمراء لذلك شناعة فمشى ذلك على السلطان ورسم بسفرهما فخرج قراسنقر ومعه سائر النواب إلى ممالكهم وعوق السلطان عنده أسندمر كرجي وقد استقر به في نيابة حماة وسار البقية‏.‏

ثم جهز السلطان أسندمر كرجي لإحضار المظفر مقيدًا‏.‏

وآتفق دخول قرا سنقر والأمراء إلى غزة قبل وصول المظفر إليها فلما بلغهم قربه ركب قرا سنقر وسائر النواب والأمراء ولقوه شرقي غزة وقد بقي معه عدة من مماليكه وقد تأهبوا للحرب فلبس الأمراء السلاح ليقاتلوهم فأنكر المظفر على مماليكه للقتال وقال‏:‏ ‏"‏ أنا كنت ملكًا وحولي أضعافك ولي عصبة كبيرة من الأمراء وما اخترت سفك الدماء‏!‏ ‏"‏ وما زال بهم حتى كفوا عن القتال وساق هو بنفسه حتى بقي مع الأمراء وسلم نفسه إليهم فسلموا عليه وساروا به إلى معسكرهم وأنزلوه بخيمة وأخذوا سلاح مماليكه ووكلوا بهم من يحفظهم وأصبحوا من الغد عائدين بهم معهم إلى مصر فأدركهم أسندمر كرجي بالخطارة فأنزل في الحال المظفر عن فرسه وقيده بقيد أحضره معه فبكى وتحدرت دموعه على شيبته فشق ذلك على قراسنقر وألقى الكلفتاة عن رأسه إلى الأرض وقال‏:‏ ‏"‏ لعن الله الدنيا فيا ليتنا متنا ولا رأينا هذا اليوم‏!‏ فترجلت الأمراء وأخذوا كلفتاته ووضعوها على رأسه‏.‏

هذا مع أن قرا سنقر كان أكبر الأسباب في زوال دولة المظفر المذكور‏!‏ وهو الذي جسر الملك الناصر حتى كان من أمره ما ثم عاد قرا سنقر والحاج بهادر إلى محل كفالتهما وأخذ بهادر يلوم قرا سنقر كيف خالف رأيه فإنه كان أشار على قرا سنقر في الليل بعد القبض على المظفر بأن يخفي عن المظفر حتى يصل إلى صيهون ويتوجه كل منهما إلى محل ولايته ويخيفا الملك الناصر بأنه متى تغير عما كان وافق الأمراء عليه بدمشق قاموا بنصرة المظفر وإعادته إلى الملك فلم يوافق قرا سنقر وظن أن الملك الناصر لا يستحيل عليه ولا على المظفر فلما رأى ما حل بالمظفر نم على مخالفة بهادر‏.‏

وبينما هما في ذلك بعث أسندمر كرجي إلى قراسنقر مرسوم السلطان بأن يحضر صحبة المظفر إلى القلعة - وكان عزم الناصر أن يقبض عليه - ففطن قرا سنقر بذلك وآمتنع من التوجه إلى مصر وآعتذر بأن العشير قد تجمعوا ويخاف على دمشق منهم وجد في السير وعرف أنه ترك الرأي في مخالفة بهادر‏.‏

الملك الناصر يخنق الملك المظفر بيبرس

وقدم أسندمر بالمظفر إلى القلعة في ليلة الأربعاء الرابع عشر من ذي القعدة فلما مثل المظفر بين يدي السلطان قبل الأرض فأجلسه وعنفه بما فعل به وذكره بما كان منه إليه وعدد ذنوبه وقال له‏:‏ ‏"‏ تذكر وقد صحت علي يوم كذا بسبب فلان‏!‏ ورددت شفاعتي في حق فلان‏!‏ وآستدعيت بنفقة في يوم كذا من الخزانة فمنعتها‏!‏ وطلبت في وقت حلوى بلوز وسكر فمنعتني ويلك‏!‏ وزدت في أمري حتى منعتني شهوة نفسي ‏"‏ والمظفر ساكت‏.‏

فلما فرغ كلام السلطان قال له المظفر‏:‏ ‏"‏ يا مولانا السلطان‏!‏ كل ما قلت فعلته ولم يبق إلا مراحم السلطان وإيش يقول المملوك لأستاذه ‏"‏ فقال له‏:‏ ‏"‏ يا ركن‏!‏ أنا اليوم أستاذك‏!‏ وأمس تقول لما طلبت إوزًا مشويًا‏:‏ إيش يعمل بالإوز‏!‏ الأكل هو عشرون مرة في النهار‏!‏ ‏"‏ ثم أمر به إلى مكان وكان ليلة الخميس فاستدعى المظفر بوضوء وقد صلى العشاء‏.‏

ثم جاء السلطان الملك الناصر فخنق المظفر بين يديه بوتر حتى كاد يتلف ثم سيبه حتى أفاق وعنفه وزاد في شتمه ثم خنقه ثانيًا حتى مات وأنزل على جنوية إلى الإسطبل السلطاني فغسل ودفن خلف قلعة الجبل وذلك في ليلة الجمعة خامس عشر ذي القعدة سنة تسع وسبعمائة‏.‏

وكانت أيام المظفر هذا في سلطنة مصر عشرة أشهر وأربعة وعشرين يومًا لم يتهن فيها من الفتن والحركة‏.

وكان لما خرج المظفر من مصر هاربًا قبل دخول الملك الناصر - قال بعض الأدباء‏:‏ تثنى عطف مصر حين وافى قدوم الناصر الملك الخبير فذل الجشنكير بلا لقاء وأمسى وهو ذو جأش نكير إذا لم تعضد الأقدار شخصًا فأول ما يراع من النصير وقال النويري في تاريخه‏:‏ ولما وصلوا بالمظفر بيبرس إلى السلطان الناصر أوقفه بين يديه وأمر بدخوله الحمام وخنق في بقية من يومه ودفن بالقرافة وعفى أثر قبره مدة ثم أمر بآنتقاله إلى تربته بالخانقاه التي أنشأها فنقل إليها‏.‏

وكان بيبرس هذا آبتدأ بعمارة الخانقاه والتربة داخل باب النصر موضع دار الوزارة في سنة ست وسبعمائة وأوقف عليها أوقافًا جليلة ولكنه مات قبل تمامها فأغلقها الملك الناصر مدة ثم فتحها‏.‏ انتهى كلام النويري‏.‏

وكان الملك المظفر ملكًا ثابتًا كثير السكون والوقار جميل الصفات ندب إلى المهمات مرارًا عديدة وتكلم في أمر الدولة مدة سنين وحسنت سيرته وكان يرجع إلى دين وخير ومعروف‏.‏ تولى السلطنة على كره منه وله أوقاف على وجوه البر والصدقة وعمر ما هدم من الجامع الحاكمي داخل باب النصر بعد ما شعثته الزلازل‏.‏

وكان من أعيان الأمراء في الدولة المنصورية قلاوون أستاذه ثم في الدولة الأشرفية خليل والدولة الناصرية محمد بن قلاوون‏.‏ وكان أبيض اللون أشقر مستدير اللحية وهو جاركسي الجنس على ما قيل ولم يتسلطن أحد من الجراكسة قبله ولا بعده إلى الملك الظاهر برقوق وقيل إنه كان تركيًا والأقوى عندي أنه كان جاركسيًا لأنه كان بينه وبين آقوش الأفرم نائب الشام مودة ومحبة زائدة وقيل قرابة وكان الأفرم جاركسي الجنس‏.‏ انتهى‏.‏

واستولى السلطان الملك الناصر على جميع تعلقاته وآستقدم كاتبه كريم الدين أكرم بن العلم بن السديد فقدم على الملك الناصر بأموال المظفر بيبرس وحواصله فقربه السلطان وأثنى عليه ووعده بكل جميل إن أظهره على ذخائر المظفر بيبرس‏.‏ فنزل كريم الدين إلى داره وتتبع أموال بيبرس وبذل جهده في ذلك‏.‏
ثم انتمى كريم الدين إلى طغاي وكستاي وأرغون الدوادار الناصرية وبذل لهم مالًا كثيرًا حتى صاروا أكبر أعوانه وحموه من أستاذهم الملك الناصر‏.‏
ثم قدم من كان مع المظفر بيبرس من المماليك وعدتهم ثلاثمائة ومعهم الهجن والخيل والسلاح ومبلغ مائتي ألف درهم وعشرين ألف دينار وستون بقجة من أنواع الثياب فأخذ السلطان جميع ذلك وفرق المماليك على الأمراء ما خلا بكتمر الساقي لجمال صورته وطوغان الساقي وقراتمر‏.‏
ثم استدعى الملك الناصر القضاة وأقام عندهم البينة بأن جميع مماليك المظفر بيبرس وسلار وجميع ما وقفاه من الضياع والأملاك اشتري من بيت المال‏.‏
فلما ثبت ذلك ندب السلطان جمال الدين آقوش الأشرفي نائب الكرك وكريم الدين أكرم لبيع تركة المظفر بيبرس وإحضار نصف ما يتحصل ودفع النصف الآخر لابنة المظفر زوجة الأمير برلغي الأشرفي فإن المظفر لم يترك من الأولاد سواها فشدد كريم الدين الطلب على زوجة المظفر وآبنته حتى أخذ منهما جواهر عظيمة القدر وذخائر نفيسة ثم تابع موجود المظفر فوجد له شيئًا كثيرًا‏.‏


السنة التي حكم فيها الملك المظفر بيبرس وهي سنة تسع وسبعمائة على أن الملك المظفر بيبرس حكم من السنة الماضية أيامًا‏.‏ فيها أعني سنة تسع وسبعمائة كانت الفتنة بين السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون وبين الملك المظفر بيبرس‏.‏
حسب ما تقدم ذكره مفصلًا حتى خلع المظفر وأعيد الناصر‏.‏
وفيها كانت الفتنة أيضًا بالمدينة النبوية بين الشريف مقبل بن جماز بن شيحة وبين أخيه منصور بن جماز وكان مقبل قدم القاهرة فولاه المظفر نصف إمرة المدينة شريكًا لأخيه منصور فتوجه إليها فوجد منصورًا بنجد وقد ترك آبنه كبيشة بالمدينة فأخرجه مقبل فحشد كبيشة وقاتل مقبلًا حتى قتله وانفرد منصور بإمرة المدينة‏.‏
وفيها كتب السلطان الملك الناصر لقرا سنقر نائب الشام بقتال العشير‏.‏
وفيها أظهر خربندا ملك التتار الرفض في بلاده وأمر الخطباء إلا يذكروا في خطبهم إلا علي بن أبي طالب وولديه وأهل البيت‏.‏
أمر النيل في هذه السنة :‏ الماء القديم تأخر وتأخرت الزيادة إلى أن دخل شهر مسرى ووقع الغلاء واستسقى الناس فنودي بزيادة ثلاث أصابع ثم توقفت الزيادة ونقص في أيام النسيء ثم زاد حتى بلغ في سابع عشرين توت خمس عشرة ذراعًا وست عشرة إصبعًا وفتح خليج السد بعد ما كان الوفاء في تاسع عشر بابه بعد النوروز بتسعة وأربعين يومًا‏.‏ وكان مبلغ الزيادة في هذه السنة ست عشرة ذراعًا وإصبعين‏.‏
وكان ذلك في أوائل سلطنة المظفر بيبرس الجاشنكير‏.‏
فتشاءم الناس بكعبه عود الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى ملك مصر ثالث مرة وقد تقدم ذكر نزوله عن الملك وتوجهه إلى الكرك وخلع نفسه وماوقع له بالكرك من مجيء نوغاي ورفقته ومكاتباته إلى نواب الشام وخروجه من الكرك إلى الشام طالبًا ملك مصر إلى أن دخل إلى دمشق كل ذلك ذكرناه مفصلًا في ترجمة الملك المظفر بيبرس الجاشنكير‏.‏
 

هــــــــدم كنائس الأقبـــــــاط فى مصر  فى سنة 721 هـ
ذكر المؤرخ المقريزى المسلم فى كتابه المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار  - الجزء الأول   10 / 167 ومن هذا الباب واقعة الكنائس التي للنصارى وذلك أنه لما كان يوم الجمعة تاسع شهر ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين وسبعمائة والناس في صلاة الجمعة كأنما نودي في إقليم مصر كله من قوص إلى الإسكندرية بهدم الكنائس‏.‏ فهدم في تلك الساعة بهذه المسافة الكبيرة عدد كثير من الكنائس كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب عند ذكر كنائس النصارى‏
ذكر المؤرخ المقريزى المسلم فى كتابه المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار  - الجزء الثالث   111 / 167 : " فندق طرنطاي هذا الفندق كان بخارج باب البحر ظاهر المقس وكان ينزل فيه تجار الزيت الواردون من الشام وكان فيه ستة عشر عمودًا من رخام طول كل عمود ستة أذرع بذراع العمل في دور ذراعين ويعلوه ربع كبير فلما كان في واقعة هدم الكنائس وحريق القاهرة ومصر في سنة إحدى وعشرين وسبعمائة قدم تاجر بعد العصر بزيت وزن في مكسه عشرين ألف درهم نقرة سوى أصناف أخبر قيمتها مبلغ تسعين ألف درهم نقرة فلم يتهيأ له الفراغ من نقل الزيت إلى داخل هذا الفندق إلاّ بعد العشاء الآخرة فلما كان نصف الليل وقع الحريق بهذا الفندق في ليلة من شهر ربيع الآخر منها كما كان يقع في غير موضع من فعل النصارى فأصبح وقد احترق جميعه حتى الحجارة التي كان مبنيًا بها وحتى الأعمدة المذكورة وصارت كلها جيرًا واحترق علوه وأصبح التاجر يستعطي الناس وموضع هذا الفندق‏.‏

***************************************************************************
قال المقريزى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار الجزء الثالث ( 139 من 167 ) : " السلطان الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير‏:‏ أحد مماليك المنصور قلاون في يوم السبت ثالث عشري ذي الحجة سنة ثمان وسبعمائة حى فرّ من قلعة الجبل في يوم الثلاثاء سادس عشر رمضان سنة تسع وسبعمائة فكانت مدّته عشرة أشهر وأربعة وعشرين يومًا‏.‏ ثم قدم من الشام في العساكر‏
 

This site was last updated 09/05/09