Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - coptic history

بقلم عزت اندراوس

السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون  الثانية على مصر 176/12 م.ح

إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
‏قصر‏ ‏الأمير‏ ‏بشتاك
النشو والناصر بن قلاون1
النشو والناصر بن قلاون2
سور مجرى العيون الأثرى

 

  السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون  الثانية على مصر
ثم اتفقوا كما هم في الليل على سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون وعوده إلى ملكه كونه ابن أستاذهم وأن يكون سيف الدين طغجي نائب السلطنة ومهما عملوه يكون باتفاق الأمراء وأصبح نهار الجمعة حلفوا الأمراء والمقدمين والعسكر جميعه للملك الناصر محمد بن قلاوون ونائب السلطنة طغجي‏.‏
وسيروا في الحال خلف الملك الناصر محمد يطلبونه من الكرك وركب الأمير طغجي يوم السبت في الموكب والتف عليه العسكر وطلع إلى قلعة الجبل وحضر الأمراء الموكب ومد السماط كما جرت العادة به من غير هرج ولا غوغاء وكأنه لم يجر شيء وسكنت الفتنة وفرح غالب الناس بزوال الدولة لأجل منكوتمر‏.‏
ودام ذلك إلى أن كان يوم الاثنين رابع عشر شهر ربيع الآخر من سنة ثمان وتسعين المذكورة وصل الأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح عائدًا من الشام من فتوح سيس وصحبته العساكر المتوجهة معه وكان قد راح إليه جماعة من أمراء مصر لتلقيه إلى بلبيس وأعلموه بصورة الحال وقالوا له بأن الذي وقع من قتل الملك المنصور ليس هو عن رضاهم ولا علموا به وأغروه على قتل طغجي واتفقوا معه على ذلك وكانوا الأمراء المذكورون قد أشاروا قبل خروجهم على طغجي أن يخرج يلتقي الأمير بكتاش أمير سلاح فركب طغجي بكرة يوم الاثنين وتوجه نحوه حتى التقاه وتعانقا وتكارشا‏.‏
ثم قال أمير سلاح لطغجي‏:‏ كان لنا عادة من السلطان إذا قدمنا من السفر يتلقانا وما أعلم ذنبي الآن ما هو كونه ما يلقاني اليوم‏!‏ فقال له طغجي‏:‏ وما علمت بما جرى على السلطان السلطان قتل‏!‏ فقال أمير سلاح‏:‏ ومن قتله قال له بعض الأمراء وهو الأمير سيف الدين كرت أمير حاجب‏:‏ قتله سيف الدين طغجي وكرجي فأنكر عليه وقال‏:‏ كلما قام للمسلمين ملك تقتلونه‏!‏ تقدم عني لا تلتصق بي وساق عنه أمير سلاح فتيقن طغجي أنه مقتول فحرك فرسه وساق فانقض عليه بعض الأمراء وقبض عليه بشعر دبوقته ثم علاه بالسيف وساعده على قتله جماعة من الأمراء فقتل وقتل معه ثلاثة نفر ومروا سائقين إلى تحت القلعة‏.‏
وكان كرجي قد قعد في القلعة لأجل حفظها فبلغه قتل رفيقة طغجي فألبس البرجية السلاح وركب في مقدار الذي فارس حتى يدفع عن نفسه فركبت جميع أجناد الحلقة والأمراء والمقدمين في خدمة أمير سلاح إلى الرابعة من النهار ثم حملوا العساكر على جماعة كرجي فهزموهم وساق كرجي وحده واعتقد أن أصحابه يتوجهون حيث توجه فلم يتبعه غير تبعه ونوغيه الكرموني أمير سلاح دار الذي كان أعانه على قتل الملك المنصور لاجين‏.‏
فلما أبعدوا والقوم في أثرهم لحقه بعض خشداشيته وضربه بالسيف حل كتفه ثم ساعده بعض الأمراء حتى قتل وقتل معه نوغيه الكرموني السلاح دار الذي كان أعانه على قتل لاجين المقدم ذكره واثنا عشر نفرًا من مماليكهما وأصحابهما وبطلت الغوغاء وسكنت الفتنة في الحال‏.‏
واستقر الأمر أيضًا على تولية السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون كما كان دبره طغجي وكرجي وسيروا بطلبه وحثوا الطلب في قدومه من الكرك إلى الديار المصرية وبقي يدبر الأمور ويعلم على الكتب المسيرة إلى البلاد ثمانية أمراء إلى أن حضر السلطان وهم‏:‏ الأمير سيف الدين سلار والأمير سيف الدين كرت والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير والأمير عز الدين أيبك الخازندار والأمير جمال الدين آقوش الأفرم الصغير والأمير حسام الدين لاجين أستاذ الدار والأمير سيف الدين بكتمر أمير جاندار والأمير جمال الدين عبد الله السلاح دار وجميعهم منصورية قلاوونية وغالبهم قد أخرج من السجن بعد قتل لاجين‏.‏
وأما السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين فإنه أخذ بعد قتله وغسل وكفن بتربته بالقرافة الصغرى بالقرب من سفح المقطم ودفن مملوكه منكوتمر تحت رجليه‏.‏

قتل الملك المنصور لاجين وهو في عشر الخمسين أو جاوزها بقليل كان لاجين ملكًا شجاعًا مقدامًا عارفًا عاقلًا حشيمًا وقورًا معظمًا في الدول‏.‏
طالت أيامه في نيابة دمشق أيام أستاذه في السعادة وهو الذي أبطل الثلج الذي كان ينقل في البحر من الشام إلى مصر وقال‏:‏ أنا كنت نائب الشام وأعلم ما يقاسي الناس في وسقه من المشقة وكان - رحمه الله - تام القامة أشقر في لحيته طول يسير وخفة ووجه رقيق معرق وعليه هيبة ووقار وفي قده رشاقة وكان ذكيًا نبيهًا شجاعًا حذورًا ولما قتل الملك الأشرف خليل بن قلاوون هرب هو وقراسنقر فإنهما كانا أعانا الأمير بيدرا على قتله حسب ما ذكرناه ترجمة الملك الأشرف المذكور بل كان لاجين هذا هو الذي تمم قتله ولما هرب جاء هو وقراسنقر إلى جامع أحمد بن طولون وطلعا إلى المئذنة واستترا فيها وقال لاجين‏:‏ لئن نجانا الله من هذه الشدة وصرت شيئًا عمرت هذا الجامع‏.‏
قلت‏:‏ وكذا فعل رحمه الله تعالى فإنه لما تسلطن أمر بتجديد جامع أحمد ابن طولون المذكور ورتب في شد عمارته وعمارة أوقافه الأمير علم الدين أبا موسى سنجر بن عبد الله الصالحي النجمي الدواداري المعروف بالبرنلي وكان من أكابر أمراء الألوف بالديار المصرية وفوض السلطان الملك المنصور لاجين أمر الجامع المذكور وأوقافه إليه فعمره وعمر وقفه وأوقف عليه عدة قرى وقرر فيه دروس الفقه والحديث والتفسير والطب وغير ذلك وجعل من جملة ذلك وقفًا يختص بالديكة التي تكون في سطح الجامع المذكور في مكان مخصوص بها وزعم أن الديكة تعين الموقتين وتوقظ المؤذنين في السحر وضمن ذلك كتاب الوقف فلما قرىء كتاب الوقف على السلطان وما شرطه أعجبه جميعه فلما انتهى إلى ذكر الديكة أنكر السلطان ذلك وقال‏:‏ أبطلوا هذا لئلا يضحك الناس علينا وأمضى ما عدا ذلك من الشروط والجامع المذكور عامر بالأوقاف المذكورة إلى يومنا هذا ولولاه لكان دثر وخرب فإن غالب ما كان أوقفه صاحبه أحمد بن طولون خرب وذهب أثره فجدده لاجين هذا وأوقف عليه هذه الأوقاف الجمة فعمر وبقي إلى الآن‏.‏ انتهى‏.‏
وكان المنصور لاجين فهمًا كريم الأخلاق متواضعًا‏.‏
السنة الأولى من سلطنة الملك المنصور لاجين وهي سنة ست وتسعين وستمائة‏.‏
على أن الملك العادل كتبغا حكم منها المحرم وأيامًا من صفر‏.‏
فيها كان خلع الملك العادل كتبغا المنصوري من السلطنة وتوليته نيابة صرخد وسلطنة الملك المنصور لاجين هذا من بعده حسب ما تقدم ذكره‏.‏ وفيها في ذي القعدة مسك الملك المنصور لاجين الأمير شمس الدين قرا سنقر المنصوري نائب السلطنة بديار مصروحبسه وولى عوضه مملوكه منكوتمر‏
وفيها توفي الملك الأشرف ممهد الدين عمر ابن الملك المظفر يوسف ابن الملك المنصور نور الدين عمر بن علي بن رسول ملك اليمن وتولى بعده أخوه هزبر الدين داود المقدم ذكره وكانت مدة ملكه دون السنتين‏.‏
أمر النيل في هذه السنة ‏:‏ الماء القديم كان قليلًا جدًا مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعًا وثماني عشرة إصبعًا ثم نقص ولم يوف في تلك السنة‏.‏
السنة الثانية من سلطنة الملك المنصور لاجين وهي سنة سبع وتسعين وستمائة‏.‏
فيها مسك الملك المنصور لاجين الأمير بدر الدين بيسري الشمسي وحبسه واحتاط على وجوده وفيها أخذت العساكر المصرية تل حمدون وقلعتها بعد حصار ومرعش وغيرهما وفيها قدم الملك المسعود نجم الدين خضر ابن السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري من بلاد الأشكري إلى مصر فتلقاه السلطان الملك المنصور لاجين في الموكب وأكرمه‏.‏
وطلب الملك المسعود الحج فأذن له بذلك وكان الملك الأشرف خليل بن قلاوون أرسله إلى هناك وسكن الملك المسعود بالقاهرة إلى أن مات بها حسب ما يأتي ذكره وكان خضر هذا من أح

سن الناس شكلًا ولما ختنه أبوه قال فيه القاضي محيي الدين عبد الله بن عبد الظاهر يهنىء والده الملك الظاهر ركن الدين بيبرس‏:‏ هنأت بالعيد وما على الهناء أقتصر بل إنها بشارة لها الوجود مفتقر بفرحة قد جمعت ما بين موسى والخضر قد هيأت لوردكم ماء الحياة المنهمر قلت‏:‏ وأحسن من هذا قول من قال في مليح حليق‏:‏ الرمل مرت الموسى على عارضه فكأن الماء بالآس غمر مجمع البحرين أضحى خده إذ تلاقى فيه موسى والخضر وفيها توفي الشيخ الصالح الزاهد بقية المشايخ بدر الدين حسن ابن الشيخ الكبير القدوة العارف نور الدين أبي الحسن علي بن منصور الحريري في يوم السبت عاشر شهر ربيع الآخر بزاويته بقرية بسر من أعمال زرع وكان هو المتعين بعد أبيه في الزاوية وعلى الطائفة الحيريرية المنسوبين إلى والده ومات وقد جاوز الثمانين‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم أربع أصابع‏.‏ مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وعشر أصابع‏.‏ وكان الوفاء آخر أيام النسيء‏.‏

 


سلطنة الملك الناصر ناصر أبن قلاوون الثانية على مصر
سلطنة الملك الناصر ناصر أبن قلاوون على مصر على مصر السلطان الملك الناصر ناصر الدين أبو المعالي محمد ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون تقدم ذكر مولده في ترجمته الأولى من هذا الكتاب أعيد إلى السلطنة بعد قتل الملك المنصور لاجين فإنه كان لما خلع من الملك بالملك العادل كتبغا المنصوري أقام عند والدته بالدور من قلعة الجبل إلى أن أخرجه الملك المنصور لاجين لما تسلطن إلى الكرك فأقام الملك الناصر بالكرك إلى أن قتل الملك المنصور لاجين حسب ماذكرناه أجمع رأي الأمراء على سلطنته ثانيًا وخرج إليه الطلب من الديار المصرية صبيحة الحادي عشر من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وستمائة وهو ثاني يوم قتل لاجين وسار الطلب إليه فلما قتل طغجي وكرجي في يوم الاثنين رابع عشره استحثوا الأمراء في طلبه وتكرر سفر القصاد له من الديار المصرية إلى الكرك حتى إذا حضر إلى الديار المصرية في ليلة السبت رابع جمادى الأولى من السنة وبات تلك الليلة بالإسطبل السلطاني ودام به إلى أن طلع إلى القلعة في بكرة يوم الاثنين سادس جمادى الأولى المذكور‏.‏
وحضر الخليفة الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد والقضاة وأعيد إلى السلطنة وجلس على تخت الملك وكان الذي توجه من القاهرة بطلبه الأمير الحاج آل ملك والأمير سنجر الجاولي‏.‏
فلما قدما إلى الكرك كان الملك الناصر بالغور يتصيد فتوجها إليه ودخل آقوش نائب الكرك إلى أم السلطان وبشرها فخافت أن تكون مكيدة من لاجين فتوقفت في المسير فما زال بها حتى أجابت‏.‏
ووصل الأميران إلى الملك الناصر بالغور وقبلا الأرض بين يديه وأعلماه بالخبر فرحب بهما وعاد إلى البلد وتهيأ وأخذ في تجهيز أمره والبريد يترادف باستحثاثه إلى أن قدم القاهرة فخرج الأمراء وجميع الناس قاطبة للقائه وكادت القاهرة ومصر ألا يتأخر بهما أحد فرحًا بقدومه وكان خروجهم في يوم السبت وأظهر الناس لعوده إلى الملك من السرور ما لا يوصف ولا يحد وزينت القاهرة ومصر بأفخر زينة وأبطل الناس معايشهم وضجوا له بالدعاء والشكر لله على عوده إلى الملك وأسمعوا حواشي الملك العادل كتبغا والملك المنصور لاجين من المكروه والاستهزاء ما لا مزيد عليه واستمروا في الفرح والسرور إلى يوم الاثنين وهو يوم جلوسه على تخت الملك‏.‏ وجلس على تخت الملك في هذه المرة الثانية وعمره يومئذ نحو أربع عشرة سنة‏.‏
ثم جدد للملك الناصر العهد وخلع على الأمير سيف الدين سلار بنيابة السلطنة وعلى الأمير حسام الدين لاجين بالأستادارية على عادته واستمر الأمير آقوش الأفرم الصغير بنيابة دمشق على عادته وخلع عليه وسفر بعد أيام‏.‏
وفي معنى سلطنة الملك الناصر محمد يقول الشيخ علاء الدين الوداي الملك الناصر قد أقبلت دولته مشرقة الشمس عاد إلى كرسيه مثلما عاد سليمان إلى الكرسي وفي تاسع جمادى الأولى فرقت الخلع على جميع من له عادة بالخلع من أعيان الدولة‏.‏ وفي ثاني عشره لبس الناس الخلع وركب السلطان الملك الناصر بالخلعة الخليفتية وأبهة السلطنة وشعار الملك ونزل من قلعة الجبل إلى سوق الخيل ثم عاد إلى القلعة وترجل في خدمته جميع الأمراء والأكابر وقبلوا الأرض بين يديه‏.‏
واستقرت سلطنته وتم أمره وكتبت البشائر بذلك إلى الأقطار وسر الناس بعوده إلى الملك سرورًا زائدًا بسائر الممالك‏.‏
وبعد أيام ورد الخبر عن غازان ملك التتار أنه قد عزم على قصد البلاد الشامية لما قدم عليه الأمير قبجق المنصوري نائب الشام ورفقته ثم رأى غازان أن يجهز سلامش بن أباجو من خمسة وعشرين ألفًا من الفرسان إلى بلاد الروم على أنه يأخذ بلاد الروم ويتوجه بعد ذلك بسائر عساكره إلى الشام من جهة بلاد سيس ويجيء غازان من ديار بكر وينزلون على الفرات ويغيرون على البيرة والرحبة وقلعة الروم ويكون اجتماعهم على مدينة حلب فإن التقاهم أحد من العساكر المصرية والشامية التقوه وإلا دخلوا بلاد الشام فاتفق أن سلامش لما توجه من عند قازان ودخل إلى الروم أطمعته نفسه بالملك وملك الروم وخلع طاعة غازان واستخدم الجند وأنفق عليهم وخلع على أكابر الأمراء ببلاد الروم وكانوا أولاد قرمان قد أطاعوه ونزلوا إلى خدمته وهم فوق عشرة آلاف فارس‏.‏
وهذا الخبر أرسله سلامش المذكور إلى مصر وأرسل في ضمن ذلك يطلب من المصريين النجدة والمساعدة على غازان‏.‏
قلت‏:‏ غازان وقازان كلاهما اسم لملك التتار‏.‏ انتهى‏.‏
وكان وصول رسول سلامش بهذا الخبر إلى مصر في شعبان من السنة‏.‏
وأما قازان فإنه وصل إلى بغداد وكانوا متولين بغداد من قبله شكوا إليه من أهل السيب والعربان أنهم ينهبون التجار القادمين من البحر وأنهم قد قطعوا السابلة فسار قازان بنفسه إليهم ونهبهم وأقام بأرض دقوقا مشتيًا‏.‏
ولما بلغه خبر سلامش انثنى عزمه عن قصد الشام وشرع في تجهيز العساكر مع ثلاثة مقدمين ومعهم خمسة وثلاثون ألف فارس‏:‏ منها خمسة عشر مع الأمير سوتاي وعشرة مع هندوجاغان وعشرة مع بولاي وهو المشار إليه من المقدمين مع العساكر وسفرهم إلى الروم لقتال سلامش‏.‏
ثم رحل قازان إلى جهة تبريز ومعه الأمير قبجق المنصوري نائب الشام وبكتمر السلاح دار والألبكي وبزلار هؤلاء هم الذين خرجوا من دمشق مغاضبين للملك المنصور لاجين‏.‏
وسار التتار الذين أرسلهم غازان حتى وصلوا إلى الروم في أواخر شهر رجب والتقوا مع سلامش وكان سلامش قد عصى عليه أهل سيواس وهو يحاصرهم فتركهم سلامش وتجهز وجهز عساكره لملتقى التتار وكان قد جمع فوق ستين ألف فارس‏.‏
فلما قارب التتار فر من عسكر سلامش التتار والروم ولحقوا بولاي مقدم عساكر غازان‏.‏ وأما التركمان فإنهم تركوه وصعدوا إلى الجبال على عادتهم وبقي سلامش في جمع قليل دون خمسمائة فارس فتوجه بهم من سيواس إلى جهة سيس وسار منها فوصل إلى بهسنا في أواخر شهر رجب‏.‏
وكان السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون قد برز مرسومه إلى نائب الشام بأن يجرد خمسة أمراء من حمص وخمسة من حماة وخمسة من حلب لتكملة خمسة عشر أميرًا ويبعثهم نجدة إلى سلامش فلما وصل الخبر بقدوم سلامش إلى بهسنا منهزمًا توقف العسكر عن المسير ثم وصل سلامش إلى دمشق‏.‏
وسلامش هذا هو من أولاد عم غازان وهو سلامش بن أباجو بن هولاكو‏.‏
وكان وصوله إلى دمشق في يوم الخميس ثاني عشر شعبان فتلقاه نائب الشام واحتفل لملاقاته احتفالًا عظيمًا وأكرمه وقدم في خدمته نائب بهسنا الأمير بدر الدين بكتاش الزردكاش ثم سار سلامش من دمشق إلى جهة الديار المصرية إلى أن وصلها فأكرمه السلطان غاية الإكرام وأقام بمصر أيامًا قليلة ثم عاد إلى حلب بعد أن اتفق معه أكابر دولة الملك الناصر محمد على أمر يفعلونه إذا قدم غازان إلى البلاد الشامية ثم بعد خروجه جهز السلطان خلفه أربعة آلاف فارس من العسكر المصري نجدة له لقتال التتار وأيضًا كالمقدمة للسلطان وعلى كل ألف فارس أمير مائة ومقدم ألف فارس وهم‏:‏ الأمير جمال الدين آقوش قتال السبع والمبارز أمير شكار والأمير جمال الدين عبد الله والأمير سيف الدين بلبان الحبشي وهو المقدم على الجميع وساروا الجميع إلى بلاد حلب وتهيأ السلطان للسفر وتجهزت أمراؤه وعساكره‏.‏
وخرج من الديار المصرية بأمرائه وعساكره في يوم الخميس سادس عشرين ذي الحجة الموافق لسادس عشرين توت أحد شهور القبط‏.‏
هذا والعساكر الشامية في التهيؤ لقتال التتار وقد دخلهم من الرعب والخوف أمر لا مزيد عليه وسار السلطان بعساكره إلى البلاد الشامية بعد أن تقدمه أيضًا جماعة من أكابر أمراء الديار المصرية غير أولئك كالجاليش على العادة وهم‏:‏ الأمير قطلوبك والأمير سيف الدين كزناي وهو من كبار الأمراء‏:‏ كان حما الملكين الصالح والأشرف أولاد قلاوون وجماعة أمراء أخر ودخلوا هؤلاء الأمراء قبل السلطان إلى الشام بأيام فاطمأن خواطر أهل دمشق بهم‏.‏
وسافر السلطان بالعساكر على مهل وأقام بغزة وعسقلان أيامًا كثيرة ثم دخل إلى دمشق يوم الجمعة ثامن شهر ربيع الأول سنة تسع وتسعين وستمائة واحتفل أهل دمشق لدخوله احتفالًا عظيمًا ودخل السلطان بتجمل عظيم زائد عن الوصف حتى لعله زاد على الملوك الذين كانوا قبله ونزل بقلعة دمشق بعد أن أقام بغزة وغيرها نحو الشهرين في الطريق إلى أن ترادفت عليه الأخبار بقرب التتار إلى البلاد الشامية فقدم دمشق وتعين حضوره إليها ليجتمع بعساكره السابقة له وأقام السلطان بدمشق وجهز عساكرها إلى جهة البلاد الحلبية أمامه ثم خرج هو بأمرائه وعساكره بعدهم في يوم الأحد السابع عشر من شهر ربيع الأول من سنة تسع وتسعين المذكورة في وسط النهار وسار من دمشق إلى حمص وابتهل الناس له بالدعاء وعظم خوف الناس وصياحهم وبكاؤهم على الإسلام وأهله‏.‏
ووصل السلطان إلى حمص وأقام لابس السلاح ثلاثة أيام بلياليها إلى أن حصل الملل والضجر وغلت الأسعار بالعسكر وقلت العلوفات‏.‏
وبلغ السلطان أن التتار قد نزلوا بالقرب من سلمية وأنهم يريدون الرجوع إلى بلادهم لما بلغهم من كثرة الجيوش واجتماعهم على قتالهم - وكان هذا الخبر مكيدة من التتار - فركب السلطان بعساكره من حمص بكرة يوم الأربعاء وقت الصبح السابع والعشرين من شهر ربيع الأول وساقوا الخيل إلى أن وصلوا إليهم وهم بالقرب من سلمية بمكان يسمى وادي الخازندار فركب التتار للقائهم وكانوا تهيؤوا لذلك وكان الملتقى في ذلك المكان في الساعة الخامسة من نهار الأربعاء المذكور وتصادما وقد كلت خيول السلطان وعساكره من السوق والتحم القتال بين الفريقين وحملت ميسرة المسلمين عليهم فكسرتهم أقبح كسرة وقتلوا منهم جماعة كثيرة نحو خمسة آلاف أو أكثر ولم يقتل من المسلمين إلا اليسير‏.‏
ثم حملت القلب أيضًا حملة هائلة وصدمت العدو أعظم صدمة وثبت كل من الفريقين ثباتًا عظيمًا ثم حصل تخاذل في عسكر الإسلام بعضهم في بعض - بلاء من الله تعالى - فانهزمت ميمنة السلطان بعد أن كان لاح لهم النصر فلا قوة إلا بالله‏.‏
ولما انهزمت الميمنة انهزم أيضًا من كان وراء السناجق السلطانية من غير قتال وألقى الله تعالى الهزيمة عليهم فانهزم جميع عساكر الإسلام بعد النصر وساق السلطان في طائفة يسيرة من أمرائه ومدبري مملكته إلى نحو بعلبك وتركوا جميع الأثقال ملقاة فبقيت العدد والسلاح والغنائم والأثقال ملأت تلك الأراضي حتى بقيت الرماح في الطرق كأنها القصب لا ينظر إليها أحد ورمى الجند خوذهم عن رؤوسهم وجواشنهم وسلاحهم تخفيفًا عن الخيل لتنجيهم بأنفسهم وقصدوا الجميع دمشق‏.‏ وكان أكثر من وصل إلى دمشق من المنهزمين من طريق بعلبك‏.‏
ولما بلغ أهل دمشق وغيرها كسرة السلطان عظم الضجيج والبكاء وخرجت المخدرات حاسرات لا يعرفن أين يذهبن والأطفال بأيديهن وصار كل واحد في شغل عن صاحبه إلى أن ورد عليهم الخبر أن ملك التتار قازان مسلم وأن غالب جيشه على ملة الإسلام وأنهم لم يتبعوا المنهزمين وبعد انفصال الوقعة لم يقتلوا أحدًا ممن وجدوه وإنما يأخذون سلاحه ومركوبه ويطلقونه فسكن بذلك روع أهل دمشق قليلًا‏.‏
ثم صار من وصل إلى دمشق أخذ أهله وحواصله بحيث الإمكان وتوجه إلى جهة مصر وبقي من بقي بدمشق في خمدة وحيرة لا يدرون ما عاقبة أمرهم فطائفة تغلب عليهم الخوف وطائفة يترجون حقن الدماء وطائفة يترجون أكثر من ذلك من عدل وحسن سيرة واجتمعوا في يوم الأحد بمشهد علي من الجامع الأموي واشتوروا في أمر الخروج إلى ملك التتار غازان وأخذهم أمانًا لأهل البلد فحضر من الفقهاء قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة وهو يومئذ خطيب جامع أهل دمشق والشيخ زين الدين الفارقي والشيخ تقي الدين بن تيمية وقاضي قضاة دمشق نجم الدين ابن صصرى والصاحب فخر الدين بن الشيرجي والقاضي عز الدين بن الزكي والشيخ وجيه الدين بن المنجا والشيخ عز الدين بن القلانسي وابن عمه شرف الدين وأمين الدين بن شقير الحراني والشريف زين الدين بن عدنان والصاحب شهاب الدين الحنفي والقاضي شمس الدين بن الحريري والشيخ محمد بن قوام النابلسي وجلال الدين أخو القاضي إمام الدين القزويني - وقد خرج أخوه إمام الدين قبل ذلك مع جماعة جافلًا إلى مصر - وجلال الدين ابن القاضي حسام الدين الحنفي وجماعة كثيرة من العدول والفقهاء والقراء‏.‏
وأما السلطان الملك الناصر وعساكره فإنه سار هو بخواصه بعد الوقعة إلى جهة الكسوة‏.‏
وأما العساكر المصرية والشامية فلا يمكن أن يعبر عن حالهم‏:‏ فإنه كان أكبر الأمراء يرى وهو وحده وقد عجز عن الهرب ليس معه من يقوم بخدمته وهو مسرع في السير خائف متوجه إلى جهة الكسوة لا يلوي على أحد قد دخل قلوبهم الرعب والخوف تشتمهم العامة وتوبخهم بسبب الهزيمة من التتار وكونهم كانوا قبل ذلك يحكمون في الناس ويتعاظمون عليهم وقد صار أحدهم الآن أضعف من الهزيل وأمعنوا العامة في ذلك وهم لا يلتفتون إلى قولهم ولا ينتقمون من أحد منهم‏.‏
قلت‏:‏ وكذا وقع في زماننا هذا في وقعة تيمورلنك وأعظم فإن هؤلاء قاتلوا وكسروا ميمنة التتار إلا أصحابنا فإنهم سلموا البلاد والعباد من غير قتال‏!‏ حسب ما يأتي ذكره في محله من ترجمة السلطان الملك الناصر فرج بن برقوق‏.‏ انتهى‏.‏
قال‏:‏ وعجز أكثر الأمراء والجند عن التوجه إلى جهة مصر خلف السلطان بسبب ضعف فرسه فصار الجندي يغير زيه حتى يقيم بدمشق خيفة من توبيخ العامة له حتى إن بعضهم حلق شعره وصار بغير دبوقة‏.‏
قال الشيخ قطب الدين اليونيني‏:‏ مع أن الله تعالى لطف بهم لطفًا عظيمًا إذ لم يسق عدوهم خلفهم ولا تبعهم إلا حول المعركة وما قاربها وكان ذلك لطفًا من الله تعالى بهم وبقي الأمر على ذلك إلى آخر يوم الخميس سادس شهر ربيع الآخر فوصل أربعة من التتار ومعهم الشريف القمي وتكلموا مع أهل دمشق فلم ينبرم أمر‏.‏
ثم قدم من الغد آخر ومعه فرمان يعني مرسومًا من غازان بالأمان وقرىء بالمدرسة البادرائية ثم وقع بعد ذلك أمور يطول شرحها من أن قازان أرسل إلى أهل دمشق وعرفهم أنه يحب العدل والإحسان للرعية وإنصاف المظلوم من الظالم وأشياء من هذا النمط فحصل للناس بذلك سكون وطمأنينة‏.‏
ثم دخل الأمير قبجق المنصوري الذي كان نائب دمشق قبل تاريخه وهرب من الملك المنصور لاجين إلى غازان ومعه رفقته الأمير بكتمر السلاح دار وغيره إلى دمشق وكلموا الأمير أرجواش المنصوري خشداشهم نائب قلعة دمشق في تسليمها إلى غازان وقالوا له‏:‏ دم المسلمين في عنقك إن لم تسلمها فأجابهم‏:‏ دم المسلمين في أعناقكم أنتم الذين خرجتم من دمشق وتوجهتم إلى غازان وحسنتم له المجيء إلى دمشق وغيرها ثم وبخهم ولم يسلم قلعة دمشق وتهيأ للقتال والحصار واستمر على حفظ القلعة‏.‏
ثم ترادفت قصاد غازان إلى أرجواش هذا وطال الكلام بينهم في تسليم القلعة فثبته الله تعالى ومنع ذلك بالكلية وملك قازان دمشق وخطب له بها في يوم الجمعة رابع عشر شهر ربيع الآخر‏.‏
وصورة الدعاء لغازان أن قال الخطيب‏:‏ ‏"‏ مولانا السلطان الأعظم سلطان الإسلام والمسلمين مظفر الدنيا والدين محمود غازان ‏"‏ وصلى الأمير قبجق المنصوري وجماعة من المغل بالمقصورة من جامع دمشق ثم أخذ التتار في نهب قرى دمشق والفساد بها ثم بجبل الصالحية وغيرها وفعلوا تلك الأفعال القبيحة ثم قرروا على البلد تقارير تضاعفت غير مرة وحصل على أهل دمشق الذل والهوان وطال ذلك عليهم وكان متولي الطلب من أهل دمشق الصفي السنجاري وعلاء الدين أستادار قبجق وابنا الشيخ الحريري الحن والبن وعمل الشيخ كمال الدين الزملكاني في ذلك قوله‏:‏ لهفي على جلق يا شرما لقيت من كل علج له في كفره فن بالطم والرم جاؤوا لا عديد لهم فالجن بعضهم والحن والبن وللشيخ عز الدين عبد الغني الجوزي في المعنى‏:‏ بلينا بقوم كالكلاب أخسة علينا بغارات المخاوف قد شنوا هم الجن حقًا ليس في ذاك ريبة ومع ذا فقد والاهم الحن والبن ولابن قاضي شهبة‏:‏ الطويل رمتنا صروف الدهر حقًا بسبعة فما أحذ منا من السبع سالم غلاء وغازان وغزو وغارة وغدر وإغبان وغم ملازم وفي المعنى يقول أيضًا الشيخ علاء الدين الوداي وأجاد‏:‏ الطويل أتى الشام مع غازان شيخ مسلك على يده تاب الورى وتزهدوا فخلوا عن الأموال والأهل جملة فما منهم إلا فقير مجرد ودامت هذه الشدة على أهل دمشق والحصار عمال في كل يوم على قلعة دمشق حتى عجزوا عن أخذها من يد أرجواش المذكور قلت‏:‏ على أن أرجواش كان عنده سلامة باطن إلى الغاية يأتي ذكره بعض أحواله في الوفيات من سنين الملك الناصر محمد بن قلاوون‏.‏ انتهى‏.‏
قال‏:‏ وتم جبي المال وأخذه غازان وسافر من دمشق في يوم الجمعة ثاني عشر جمادى الأولى بعد أن ولى الأمير قبجق المنصوري نيابة الشام على عادته أولًا وقرر بدمشق جماعة أخر يطول الشرح في ذكرهم‏.‏
وأقام الأمير قطلوشاه مقدم عساكر التتار بعد غازان بدمشق بجماعة كثيرة من التتار لأخذ ما بقي من الأموال ولحصار قلعة دمشق ودام على ذلك حتى سافر من دمشق ببقية التتار في يوم الثلاثاء ثالث عشرين جمادى الأولى وخرج الأمير قبجق نائب الشام لتوديعه ثم عاد يوم الخميس خامس عشرينه وانقطع أمر المغل من دمشق بعد أن قاسى أهلها شدائد وذهبت أموالهم‏.‏
قال ابن المنجا‏:‏ إن الذي حمل إلى خزانة قازان خاصة نفسه ثلاثة آلاف ألف وستمائة ألف سوى ما محق عليهم من التراسيم والبراطيل والاستخراج لغيره من الأمراء والوزراء وغير ذلك بحيث إن الصفي السنجاري استخرج لنفسه أكثر من ثمانين ألف درهم وللأمير إسماعيل مائتي ألف درهم وللوزير نحو أربعمائة ألف وقس على هذا‏.‏
واستمر بدمشق ورسم أن ينادى في دمشق بأن أهل القرى والحواضر يخرجون إلى أماكنهم‏:‏ رسم بذلك سلطان الشام حاج الحرمين سيف الدين قبجق‏.‏ وصار قبجق يركب بالعصابة والشاويشية بين يديه وأجتمع الناس عليه‏.‏
كل ذلك والقتال والمباينة واقعة بين ال

أمير أرجواش نائب قلعة دمشق وبين قبجق المذكور ونواب قازان والرسل تمشي بينهم في الصلح وأرجواش يأبى تسليم القلعة له فلله در هذا الرجل‏!‏ ما كان أثبت جنانه مع تغفل كان فيه حسب ما يأتي ذكره‏.‏ هذا وقبجق غير مستبد بأمر الشام بل غالب الأمر بها لنواب قازان مثل بولاي وغيره‏.‏
ثم سافر بولاي من دمشق بمن كان بقي معه من التتار في عشية يوم السبت الرابع من شهر رجب ومعه قبجق وقد أشيع أن قبجق يريد الانفصال عن التتار‏.‏ وبعد خروجهما استبد أرجواش نائب قلعة دمشق بتدبير أمور البلد‏.‏
وفي يوم الجمعة سابع عشر شهر رجب أعيدت الخطبة بدمشق إلى الملك الناصر محمد بن قلاوون وللخليفة الحاكم بأمر الله على العادة ففرح الناس بذلك‏.‏ وكان أسقط اسم الملك الناصر محمد من الخطبة بدمشق من سابع شهر ربيع الآخر فالمدة مائة يوم‏.‏ ثم نادى أرجواش بكرة يوم السبت بالزينة في البلد فزينت‏.‏
وأما الملك الناصر محمد بن قلاوون فإن عوده إلى الديار المصرية كان يوم الأربعاء ثاني عشر شهر ربيع الأخر وتبعته العساكر المصرية والشامية متفرقين وأكثرهم عراة مشاة ضعفاء وذاك الذي أوجب تأخرهم عن الدخول مع السلطان إلى مصر وأقاموا بعد ذلك أشهرًا حتى آستقام أمرهم ولولا حصول البركة بالديار المصرية وعظمها ما وسعت مثل هذه الخلائق والجيوش التي دخلوها في جفلة التتار وبعدها فمن الله تعالى بالخيل والعدد والرزق إلا أن جميع الأسعار غلت لا سيما السلاح وآلات الجندية من القماش والبرك وحوائج الخيل وغير ذلك حتى زادت عن الحد‏.‏
ومما زاد سعر العمائم فإن الجند كان على رؤوسهم في المصاف الخوذ فلما آنكسروا رموا الخوذ تخفيفًا ووضعوا على رؤوسهم المناديل فآحتاجوا لما حضروا إلى مصر إلى شراء العمائم مع أن الملك الناصر أنفق في الجيش بعد عوده واستخدم جمعًا كثيرًا من الجند خوفًا من قدوم غازان إلى الديار المصرية‏.‏
وتهيأ السلطان إلى لقاء غازان ثانيًا وجهز العساكر وقام بكلفهم أتم قيام على صغر سنه‏.‏
فلما ورد عليه الخبر بعدم مجيء قازان إلى الديار المصرية تجهز وخرج بعساكره وأمرائه من الديار المصرية إلى جهة البلاد الشامية إلى ملتقى غازان ثانيًا بعد أن خلع على الأمير آقوش الأفرم الصغير بنيابة الشام على عادته وعلى الأمير قرا سنقر المنصوري بنيابة حماة وحلب وكان خروج السلطان من مصر بعساكره في تاسع شهر رجب من سنة تسع وتسعين وستمائة‏.‏
وسار حتى نزل بمنزلة الصالحية فبلغه عود قازان بعساكره إلى بلاده فكلم الأمراء السلطان في عدم سفره ورجوعه إلى مصر فأبى عن رجوع العسكر وسمع لهم في عدم سفره وأقام بمنزلة الصالحية‏.‏
وسافر الأمير سلار المنصوري نائب السلطنة بالديار المصرية والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير بالعساكر إلى الشام‏.‏
ولما سار سلار وبيبرس الجاشنكير إلى جهة الشام تلاقوا في الطريق مع الأمير سيف الدين قبجق والأمير يكتمر السلاح دار والألبكي وهم قاصدون السلطان فعتب الأمراء قبجق ورفقته عتبًا هينًا على عبور قازان إلى البلاد الشامية فاعتذروا أن ذلك كان خوفًا من الملك المنصور لاجين وحنقًا من مملوكه منكوتمر وأنهم لما بلغهم قتل الملك المنصور لاجين كانوا قد تكلموا مع قازان في دخول الشام ولا بقي يمكنهم الرجوع عما قالوه ولا سبيل إلى الهروب من عنده فقبلوا عذرهم وبعثوهم إلى الملك الناصر‏.‏
فقدموا عليه بالصالحية وقبلوا الأرض بين يديه فعتبهم أيضًا على ما وقع منهم فذكروا له العذر السابق ذكره فقبله منهم وخلع عليهم وعاد السلطان إلى القاهرة وصحبته خواصه والأمير قبجق ورفقته فطلع القلعة في يوم الخميس رابع عشر شعبان‏.‏
ودخل الأمراء إلى دمشق ومعهم الأمير آقوش الأفرم الصغير نائب الشام وغالب أمراء دمشق وفي العسكر أيضًا الأمير قرا سنقر المنصوري متولي نيابة حماة وحلب ودخل الجميع دمشق بتجمل زائد ودخلوها على دفعات كل أمير بطلبه على حدة وسر الناس بهم غاية السرور وعلموا أن في عسكر الإسلام القوة والمنعة ولله الحمد‏.‏
وكان آخر من دخل إلى الشام الأمير سلار نائب السلطنة وغالب الأمراء في خدمته حتى الملك العادل زين الدين كتبغا المنصوري نائب صرخد ونزل جميع الجيش بالمرج‏.‏
وخلع على الأمير أرجواش المنصوري نائب قلعة دمشق باستمراره على عادته وشكروا له الأمراء ما فعله من حفظ القلعة ودخلوا الأمراء إلى دمشق وقلعة دمشق مغلقة وعليها الستائر والطوارف فكلموه الأمراء في ترك ذلك‏.‏
فلما كان يوم السبت مستهل شهر رمضان أزال أرجواش الطوارف والستائر من على القلعة فأقام العسكر بدمشق أيامًا حتى أصلحوا أمرها ثم عاد الأمير سلار إلى نحو الديار المصرية بجميع أمراء مصر وعساكره في يوم السبت ثامن شهر رمضان وتفرق باقي الجيش كل واحد إلى محل ولايته ودخل سلار إلى مصر بمن معه في ثالث شوال بعد أن آحتفل الناس لملاقاتهم وخرج أمراء مصر إلى بلبيس وخلع السلطان على جميع من قدم من الأمراء رفقة سلار وكانت خلعة سلار أعظم من الجميع‏.‏ ودام السلطان بقية سنته بالديار المصرية‏.‏
فلما آستهلت سنة سبعمائة كثرت الأراجيف بالشام ومصر بحركة قازان وكان قازان قد تسمى محمودًا وصار يقال له السلطان محمود غازان‏.‏
ثم وصلت في أول المحرم من سنة سبعمائة الأخبار والقصاد من الشرق وأخبروا أن قازان قد جمع جموعًا كثيرة وقد ناس في جميع بلاده الغزاة إلى مصر وأنه قاصد الشام فجفل أهل الشام من دمشق وتفرقوا في السواحل وقصدوا الحصون وتشتت غالب أهل الشام إلى البلاد من الفرات إلى غزة فعند ذلك تجهز الملك الناصر وجهز عساكره وتهيأ وخرج بجميع عساكره وأمرائه من القاهرة إلى مسجد التبن في يوم السبت ثالث عشر صفر وسافر حتى قارب دمشق أقام بمنزلته إلى سلخ شهر ربيع الآخر وتوجه هو وعساكره عائدين إلى جهة الديار المصرية بعد أن لاقوا شدة ومشقة عظيمة من كثرة الأمطار والثلوج والأوحال وعدم المأكول بحيث إنه انقطعت الطريق من البرد والمطر وعدم جلب المأكول لهم ولدوابهم حتى إنهم لم يقدروا على الوصول إلى دمشق وكان طلوع السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى قلعه الجبل يوم الاثنين حادي عشر جمادى الأولى‏.‏
وقبل عود السلطان إلى مصر كان جهز السلطان الأمير بكتمر السلاح دار والأمير بهاء الدين يعقوبا إلى دمشق أمامه فدخلوا دمشق‏.‏ ثم أشيع بدمشق عود السلطان إلى القاهرة فجفل غالب أهل دمشق منها ونائب الشام لم يمنعهم بل يحسن لهم ذلك‏.‏
وقيل إن والي دمشق بقي يجفل الناس بنفسه وصار يمر بالأسواق ويقول‏:‏ في أي شيء أنتم قعود‏!‏ ولما كان يوم السبت تاسع جمادى الأولى نادت المناداة بدمشق‏:‏ من قعد فدمه في رقبته ومن لم يقدر على السفر فليطلع إلى القلعة فسافر في ذلك اليوم معظم الناس‏.‏
وأما قازان فإنه وصل إلى حلب ووصل عساكره إلى قرون حماة وإلى بلاد سرمين وسير معظم جيشه إلى بلاد أنطاكية وغيرها فنهبوا من الدواب والأغنام والأبقار ما جاوز حد الكثرة وسبوا عالمًا كثيرًا من الرجال والنساء والصبيان‏.‏
ثم أرسل الله تعالى على غازان وعساكره الأمطار والثلوج بحيث إنه أمطر عليهم واحدًا وأربعين يومًا وقت مطر ووقت ثلج فهلك منهم عالم كثير ورجع غازان بعساكره إلى بلادهم أقبح من المكسورين وقد تلفت خيولهم وهلك أكثرها وعجزهم الله تعالى وخذلهم وردهم خائبين عما كانوا عزموا عليه‏.‏ ‏"‏ ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرًا وكفى الله المؤمنين القتال ‏"‏‏.‏ ووصل الخبر برجوعهم في جمادى الآخرة وقد خلت دمشق وجميع بلاد الشام من سكانها‏.‏
إضطهاد اقباط مصر/ ووزير من المغرب
نقل هذا الجزء إلى الجزء الخاص بالبابا يؤنس البطريرك 80 وفيه أن قدم وزير ملك المغرب وأنتقد تقلد الأقباط الوظائف
 

الصلح السرى مع التتار

وفيها في تاسع ذي القعدة وصل إلى القاهرة من حلب الأمير أنس يخبر بحركة التتار وأن التتار قد أرسلوا أمامهم رسلًا وأن رسلهم قد قاربت الفرات ثم وصلت الرسل المذكورة بعد ذلك بمدة إلى الديار المصرية في ليلة الاثنين خامس عشر ذي الحجة وأعيان القصاد ثلاثة نفر‏:‏ قاضي الموصل وخطيبها كمال الدين بن بهاء الدين بن كمال الدين بن يونس الشافعي وآخر عجمي وآخر تركي‏.‏
ولما كان عصر يوم الثلاثاء جمعوا الأمراء والمقدمين إلى القلعة وعملت الخدمة ولبسوا المماليك أفخر الثياب والملابس وبعد العشاء الأخيرة أوقدوا الشموع نحوًا من ألف شمعة ثم أظهروا زينة عظيمة بالقصر ثم أحضروا الرسل وحضر القاضي بجملتهم وعلى رأسه طرحة فقام وخطب خطبة بليغة وجيزة وذكر آيات كثيرة في معنى الصلح وآتفاق الكلمة ورغب فيه ثم إنه دعا للسلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون ومن بعده للسلطان محمود غازان ودعا للمسلمين والأمراء وأدى الرسالة‏.‏
ومضمونها‏:‏ إنما قصدهم الصلح ودفعوا إليهم كتابًا مختومًا من السلطان غازان فأخذ منهم الكتاب ولم يقرؤوه تلك الليلة وأعيد الرسل إلى مكانهم‏.‏
فلما كان ليلة الخميس فتح الكتاب وقرىء على السلطان وهو مكتوب بالمغلي وكتم الأمر‏.‏
فلما كان يوم الخميس ثامن عشر ذي الحجة حضر جميع الأمراء والمقدمين وأكثر العسكر وأخرج إليهم الكتاب وقريء عليهم وهو مكتوب بخط غليظ في نصف قطع البغدادي ومضمونه‏:‏ ‏"‏ بسم الله الرحمن الرحيم وننهي بعد السلام إليه أن الله عز وجل جعلنا وإياكم أهل ملة واحدة وشرفنا بدين الإسلام وأيدنا وندبنا لإقامة مناره وسددنا وكان بيننا وبينكم ما كان بقضاء الله وقدره وما كان ذلك إلا بما كسبت أيديكم وما الله بظلام للعبيد‏.‏ وسبب ذلك أن بعض عساكركم أغاروا على ماردين وبلادها في شهر رمضان المعظم قدره الذي لم تزل الأمم يعظمونه في سائر الأقطار وفيه تغل الشياطين وتغلق أبواب النيران فطرقوا البلاد على حين غفلة من أهلها وقتلوا وسبوا وفسقوا وهتكوا محارم الله بسرعة من غير مهلة وأكلوا الحرام وارتكبوا الآثام وفعلوا ما لم تفعله عباد الأصنام فأتونا أهل ماردين صارخين مسارعين ملهوفين مستغيثين بالأطفال والحريم وقد آستولى عليهم الشقاء بعد النعيم فلاذوا بجنابنا وتعلقوا بأسبابنا ووقفوا موقف المستجير الخائف ببابنا فهزتنا نخوة الكرام وحركتنا حمية الإسلام فركبنا على الفور بمن كان معنا ولم يسعنا بعد هذا المقام ودخلنا البلاد وقدمنا النية وعاهدنا الله تعالى على ما يرضيه عند بلوغ الأمنية وعلمنا أن الله تعالى لا يرضى لعباده الكفر بأن يسعوا في الأرض فسادًا والله لا يحب الفساد وأنه يغضب لهتك الحريم وسبي الأولاد فما كان إلا أن لقيناكم بنية صادقة وقلوب على الحمية للدين موافقة فمزقناكم كل ممزق والذي ساقنا إليكم هو الذي نصرنا عليكم وما كان مثلكم إلا كمثل قرية كانت آمنة مطمئنة - الآية - فوليتم الأدبار واعتصمتم من سيوفنا بالفرار فعفونا عنكم بعد آقتدار ورفعنا عنكم حكم السيف البتار وتقدمنا إلى جيوشنا ألا يسعوا في الأرض كما سعيتم وأن ينشروا من العفو والعفاف ما طويتم ولو قدرتم ما عفوتم ولا عففتم ولم نقلدكم منة بذلك بل حكم الإسلام في قتال البغاة كذلك وكان جميع ما جرى في سالف القدم ومن قبل كونه جرى به في اللوح القلم ثم لما رأينا الرعية تضرروا بمقامنا في الشام لمشاركتنا لهم في الشراب والطعام وما حصل في قلوب الرعية من الرعب عند معاينة جيوشنا التي هي كمطبقات السحب فأردنا أن نسكن تخوفهم بعودتنا من أرضهم بالنصر والتأييد والعلو والمزيد فتركنا عندهم بعض جيوشنا بحيث تتونس بهم وتعود في أمرها إليهم ويحرسونهم من تعدي بعضهم على بعض بحيث إنكم ضاقت بكم الأرض إلى أن يستقر جأشكم وتبصروا رشدكم وتسيروا إلى الشام من يحفظه من أعدائكم المتقدمين وأكرادكم المتمردين وتقدمنا إلى مقدمي طوامين جيوشنا أنهم متى سمعوا بقدوم أحد منكم إلى الشام أن يعودوا إلينا بسلام فعادوا إلينا بالنصر المبين والحمد لله رب العالمين‏.‏
والآن فإنا وإياكم لم نزل على كلمة الإسلام مجتمعين وما بيننا ما يفرق كلمتنا إلا ما كان من فعلكم بأهل ماردين وقد أخذنا منكم القصاص وهو جزاء كل عاص فنرجع الآن في إصلاح الرعايا ونجتهد نحن وإياكم على العدل في سائر القضايا فقد آنضرت بيننا وبينكم حال البلاد وسكانها ومنعها الخوف من القرار في أوطانها وتعذر سفر التجار وتوقف حال المعايش لانقطاع البضائع والأسفار ونحن نعلم أننا نسأل عن ذلك ونحاسب عليه وأن الله عز وجل لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وأن جميع ما كان وما يكون في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها‏.‏
وأنت تعلم أيها الملك الجليل أنني وأنت مطالبون بالحقير والجليل وأننا مسؤولون عما جناه أقل من وليناه وأن مصيرنا إلى الله وإنا معتقدون الإسلام قولًا وعملًا ونية عاملون بفروضه في كل وصية‏.‏
وقد حملنا قاضي القضاة علامة الوقت حجة الإسلام بقية السلف كمال الدين موسى بن محمد أبا عبد الله أعزه الله تعالى مشافهة يعيدها على سمع الملك والعمدة عليها فإذا عاد من الملك الجواب فليسير لنا هدية الديار المصرية لنعلم بإرسالها أن قد حصل منكم في إجابتنا للصلح صدق النية ونهدي إليكم من بلادنا ما يليق أن نهديه إليكم والسلام الطيب منا عليكم‏.‏
فلما سمع الملك الناصر الكتاب استشار الأمراء في ذلك وبعد أيام طلبوا قاضي الموصل أعني الرسول المقدم ذكره من عند قازان وقالوا له‏:‏ أنت من أكابر العلماء وخيار المسلمين وتعلم ما يجب عليك من حقوق الإسلام والنصيحة للدين فنحن ما نتقاتل إلا لقيام الدين فإن كان هذا الأمر قد فعلوه حيلة ودهاء فنحن نحلف لك أن ما يطلع على هذا القول أحد من خلق الله تعالى ورغبوه غاية الرغبة فحلف لهم بما يعتقده أنه ما يعلم من قازان وخواصه غير الصلح وحقن الدماء ورواج التجار ومجيئهم وإصلاح الرعية‏.‏
ثم إنه قال لهم‏:‏ والمصلحة أنكم تتفقون وتبقون على ما أنتم عليه من الاهتمام بعدوكم وأنتم فلكم عادة في كل سنة تخرجون إلى أطراف بلادكم لأجل حفظها فتخرجون على عادتكم فإن كان هذا الأمر خديعة فيظهر لكم فتكونون مستيقظين وإن كان الأمر صحيحًا فتكونون قريبين منهم فينتظم الصلح وتحقن الدماء فيما بينكم‏.‏
فلما سمعوا كلامه رأوه ما فيه غرض وهو مصلحة فشرعوا ليعينوا من يروح في الرسالة فعينوا جماعة منهم الأمير شمس الدين محمد بن التيتي والخطيب شمس الدين الجوزي خطيب جامع آبن طولون فتشفع آبن الجوزي حتى تركوه وعينوا القاضي عماد الدين بن السكري خطيب جامع الحاكم وهو ناظر دار العدل بالديار المصرية وشخصًا أمير آخور من البرجية‏.‏
ثم إن السلطان أخذ في تجهير أمرهم إلى ما يأتي ذكره‏.‏
ثم استقر السلطان في سنة إحدى وسبعمائة بالأمير عز الدين أيبك البغدادي المنصوري أحد الأمراء البرجية في الوزارة عوضًا عن شمس الدين سنقر الأعسر وجلس في قلعة الجبل بخلعة الوزارة وطلع إليه جميع أرباب الدولة وأعيان الناس‏.‏
وأيبك هذا هو الرابع من الوزراء الأمراء الأتراك بالديار المصرية الذين كان تضرب على أبوابهم الطبلخاناه على قاعدة الوزراء بالعراق زمن الخلفاء فأولهم الأمير علم الدين سنجر الشجاعي المنصوري ثم ولي بعده الأمير بدر الدين بيدرا ولما ولي بيدرا نيابة السلطنة أعيد الشجاعي وبعده آبن السلعوس وليس هما من العدد ثم الخليلي وليس هو من العدد ثم بعد الخليلي ولي الأمير سنقر الأعسر الوزر وهو الثالث‏.‏ ثم بعده أيبك هذا وهو الرابع‏.‏ وكان الوزير يوم ذاك في رتبة النيابة بالديار المصرية ونيابة السلطنة كانت يوم ذاك دون السلطنة‏.‏ انتهى‏.‏
وفي يوم الأحد تاسع عشر المحرم من سنة إحدى وسبعمائة رسم السلطان لجميع الأمراء والمقدمين بمصر والقاهرة أن يخرجوا صحبة السلطان إلى الصيد نحو العباسة وأن يستصحبوا معهم عليق عشرة أيام وسافر السلطان بأكثر العسكر والجميع بعدتهم في بكرة يوم الاثنين في العشرين من المحرم‏.‏
ونزل إلى بركة الحجاج وتبعه جميع الأمراء والمقدمين والعساكر وبعد سفره سيروا طلبوا القضاة الأربعة فتوجهوا إليه وآجتمعوا بالسلطان في بركة الحجاج وعادوا إلى القاهرة ثم شرعوا في تجهيز رسل قازان وتقدم دهليز السلطان إلى الصالحية ودخل السلطان والأمراء إلى البرية بسبب الصيد‏.‏ فلما كان
يوم الاثنين عشية النهار وصل السلطان والأمراء إلى الصالحية فخلع على جميع الأمراء والمقدمين وكان عدة ما خلع أربعمائة وعشرين خلعة وكان الرسل قد سفروهم من القاهرة وأنزلوهم بالصالحية حتى إنهم يجتمعون بالسلطان عند حضوره من الصيد‏.‏
فلما حضر الأمراء قدام السلطان بالخلع السنية وتلك الهيئة الجميلة الحسنة أذهل عقول الرسل مما رأوا من حسن زي عسكر الديار المصرية بخلاف زي التتار وأحضروا الرسل في الليل إلى الدهليز إلى بين يدي السلطان وقد أوقدوا شموعًا كثيرة ومشاعل عديدة وفوانيس وأشياء كثيرة من ذلك تتجاوز عن الحد بحيث إن البرية بقيت حمراء تتلهب نورًا ونارًا فتحدثوا معهم ساعة ثم أعطوهم جواب الكتاب وخلعوا عليهم خلع السفر وأعطوا لكل واحد من الرسل عشرة آلاف درهم وقماشًا وغير ذلك‏.‏
ونسخة الكتاب المسير إليهم صورته‏:‏ ‏"‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏:‏ علمنا ما أشار الملك إليه وعول في قوله وفعله عليه فأما قول الملك‏:‏ قد جمعتنا وإياكم كلمة الإسلام‏!‏ وإنه لم يطرق بلادنا ولا قصدها إلا لما سبق به القضاء المحتوم فهذا الأمر غير مجهول بل هو عندنا معلوم وأن السبب في ذلك غارة بعض جيوشنا على ماردين وأنهم قتلوا وسبوا وهتكوا الحريم وفعلوا فعل من لا له دين فالملك يعلم أن غارتنا ما برحت في بلادكم مستمرة من عهد آبائكم وأجدادكم وأن من فعل ما فعل من الفساد لم يكن برأينا ولا من أمرائنا ولا الأجناد بل من الأطراف الطامعة ممن لا يؤبه إليه ولا يعول في فعل ولا قول عليه وأن معظم جيشنا كان في تلك الغارة إذا لم يجدوا ما يشترونه للقوت صاموا لئلا يأكلوا ما فيه شبهة أو حرام وأنهم أكثر ليلهم سجد ونهارهم صيام‏.‏
وأما قول الملك ابن الملك الذي هو من أعظم القان فيقول قولًا يقع عليه الرد من قريب ويزعم أن جميع ما هو عليه من علمنا ساعة واحدة يغيب ولو يعلم أنه لو تقلب في مضجعه من جانب إلى جانب أو خرج من منزله راجلًا أو راكبًا كان عندنا علم من ذلك في الوقت القريب أو يتحقق أن أقرب بطائنه إليه هو العين لنا عليه وإن كثر ذلك لديه‏.‏
ونحن تحققنا أن الملك بقي عامين يجمع الجموع وينتصر بالتابع والمتبوع وحشد وجمع من كل بلد وآعتضد بالنصارى والكرج والأرمن واستنجد بكل من ركب فرسًا من فصيح وألكن وطلب من المسومات خيولًا وركاب وكثر سوادًا وعدد أطلاب ثم إنه لما رأى أنه ليس له بجيشنا قبل في المجال عاد إلى قول الزور والمحال والخديعة والاحتيال وتظاهر بدين الإسلام وآشتهر به في الخاص والعام والباطن بخلاف ذلك حتى ظن جيوشنا وأبطالنا أن الأمر كذلك فلما التقينا معه كان معظم جيشنا يمتنع من قتاله ويبعد عن نزاله ويقول‏:‏ لا يجوز لنا قتال المسلمين ولا يحل قتل من يتظاهر بهذا الدين‏!‏ فلهذا حصل منهم الفشل وبتأخرهم عن قتالكم حصل ما حصل وأنت تعلم أن الدائرة كانت عليك‏.‏
وليس يرى من أصحابك إلا من هو نادم أو باكي أو فاقد عزيز عنده أو شاكي والحرب سجال يوم لك ويوم عليك وليس ذلك مما تعاب به الجيوش ولا تقهر وهذا بقضاء الله وقدره المقدر‏.‏
وأما قول الملك إنه لما آلتقى بجيشنا مزقهم كل ممزق فمثل هذا القول ما كان يليق بالملك أن يقوله أو يتكلم به وهو يعلم وإن كان ما رأى بل يسأل كبراء دولته وأمراء عساكره عن وقائع جيوشنا ومراتع سيوفنا من رقاب آبائه وأجداده وهي إلى الآن تقطر من دمائهم وإن كنت نصرت مرة فقد كسرت آباؤك مرارًا وإن كان جيشك قد داس أرضنا مرة فبلادكم لغارتنا مقام ولجيوشنا قرار وكما تدين تدان‏.‏
وأما قول الملك‏:‏ إنه ومن معه آعتقدوا الإسلام قولًا وفعلًا وعملًا ونية فهذا الذي فعلته ما فعله من هو متوجه إلى هذه البنية أعني الكعبة المضية فإن الذي جرى بظاهر دمشق وجبل الصالحية ليس بخفي عنك ولا مكتوم وليس هذا هو فعل المسلمين ولا من هو متمسك بهذا الدين فأين وكيف وما الحجة‏!‏ وحرم البيت المقدس تشرب فيه الخمور وتهتك الستور وتفتض البكور ويقتل فيه المجاورون ويستأسر خطباؤه أو المؤذنون ثم على رأس خليل الرحمن تعلق الصلبان وتهتك النسوان ويدخل فيه الكافر سكران فإن كان هذا عن علمك ورضاك فواخيبتك في دنياك وأخراك ويا ويلك في مبدئك ومعادك وعن قليل يؤذن بخراب عمرك وبلادك وهلاك جيشك وأجنادك وإن كنت لم تعلم بذلك فقد أعلمناك فاستدرك ما فات فليس مطلوبًا به سواك وإن كنت كما زعمت أنك على دين الإسلام وأنت في قولك صادق في الكلام وفي عقدك صحيح النظام فآقتل الطوامين الذين فعلوا هذه الفعال وأوقع بهم أعظم النكال لنعلم أنك على بيضاء المحجة وكان فعلك وقولك أبلغ حجة ولما وصلت جيوشنا إلى القاهرة المحروسة وتحققوا أنكم تظاهرتم بكلمة الإخلاص وخدعتم باليمين والإيمان وانتصرتم على قتالهم بعبدة الصلبان آجتمعوا وتأهبوا وخرجوا بعزمات محمدية وقلوب بدرية وهمم علية عند الله مرضية وجدوا السير في البلاد ليتشفوا منكم غليل الصدور والأكباد فما وسع جيشكم إلا الفرار وما كان لهم على اللقاء صبر ولا قرار فآندفعت عساكرنا المنصورة مثل أمواج البحر الزخار إلى الشام يقصدون دخول بلادكم ليظفروا بنيل المرام فخشينا على رعيتكم تهلك وأنتم تهربون ولا تجدون إلى النجاة مسلك فأمرناهم بالمقام ولزوم الأهبة والاهتمام ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا‏.‏
وأما ما تحمله قاضي القضاة من المشافهة فإنا سمعناه ووعيناه وتحققنا تضمنته مشافهة ونحن نعلم علمه ونسكه ودينه وفضله المشهور وزهده في دار الغرور ولكن قاضي القضاة غريب عنكم بعيد منكم لم يطلع على بواطن قضاياكم وأموركم ولا يكاد يظهر له خفي مستوركم فإن كنتم تريدون الصلح والإصلاح وبواطنكم كظواهركم متتابعة في الصلاح وأنت أيها الملك طالب الصلح على التحقيق وليس في قولك مين ولا يشوبه تنميق نقلدك سيف البغي ومن سل سيف البغي قتل به ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله فيرسل إلينا من خواص دولتك رجل يكون منكم ممن إذا قطع بأمر وقفتم عنده أو فصل حكمًا انتهيتم إليه أو جزم أمرًا عولتم عليه يكون له في أول دولتكم حكم وتمكين وهو فيما يعول عليه ثقة أمين لنتكلم معه فيما فيه الصلاح لذات البين وإن لم يكن كذلك عاد بخفي حنين‏.‏
وأما ما طلبه الملك من الهدية من الديار المصرية فليس نبخل عليه ومقداره عندنا أجل مقدار وجميع ما يهدى إليه دون قدره وإنما الواجب أن يهدي أولًا من آستهدى لتقابل هديته بأضعافها ونتحقق صدق نيته وإخلاص سريرته ونفعل ما يكون فيه رضا الله عز وجل ورضا رسوله في الدنيا والآخرة لعل صفقتنا رابحة في معادنا غير خاسرة‏.‏ والله تعالى الموفق للصواب ‏"‏‏.‏ انتهى‏.‏
ثم سافر القصاد المذكورون وعاد السلطان من الصيد في ثالث صفر إلى بركة الحجاج وآلتقى أمير الحاج وهو الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار أمير جاندار وصحبته ركب الحاج والمحمل السلطاني فنزل عنده السلطان وخلع عليه ثم ركب وتوجه حتى صعد قلعة الجبل عصر النهار ودخل عقيب دخوله المحمل والحجاج وشكر الحاج من حسن سيرة بكتمر المذكور مع سرعة مجيئه بخلاف العادة فإن العادة كانت يوم ذاك دخول المحمل في سابع صفر وقبل ذلك وبعد ذلك‏.‏
وعمل بكتمر في هذه السفرة من الخيرات والبر والخلع على أمراء الحجاز وغيرهم شيئًا كثيرًا قيل‏:‏ إن جملة ما أنفقه في هذه السفرة خمسة وثمانون ألف دينار مصرية تقبل الله تعالى منه‏.‏
ثم في صفر هذا وصل الخبر إلى السلطان بأن قازان على عزم الركوب وقصد الشام وأن مقدم عساكره الأمير بولاي قد قارب الفرات وأن الذي أرسله من الرسل خديعة‏.‏ فعند ذلك شرع السلطان في تجهيز العساكر وتهيأ للخروج إلى البلاد الشامية ثم في أثناء ذلك ورد على السلطان قاصد الأمير كتبغا المنصوري نائب صرخد - وكتبغا هذا هو الملك العادل المخلوع بالملك المنصور لاجين المقدم ذكرهما - وأخبر أنه وقع بين حماة وحمص وحصن الأكراد برد وفيه شيء على صورة بني آدم من الذكور والإناث وصور قرود وغير ذلك فتعجب السلطان وغيره من ذلك‏.‏
ليلة الجمعة ثامن عشر جمادى الأولى سنة إحدى وسبعمائة في وقت السحر
توفي الخليفة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد بن علي الهاشمي العباسي بمسكنه بالكبش ظاهر القاهرة ومصر المطل على بركة الفيل وخطب له في ذلك اليوم بجوامع القاهرة ومصر فإنهم أخفوا موته إلى بعد صلاة الجمعة فلما آنقضت الصلاة سير الأمير سلار نائب السلطنة خلف جماعة الصوفية ومشايخ الزوايا والربط والقضاة والعلماء والأعيان من الأمراء وغيرهم للصلاة عليه وتولى غسله وتكفينه الشيخ كريم الدين عبد الكريم الأبلي شيخ الشيوخ بخانقاه سعيد السعداء ورئيس المغسلين بين يديه وهو عمر بن عبد العزيز الطوخي وحمل من الكبش إلى جامع أحمد بن طولون ونزل نائب السلطنة الأمير سلار والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير الأستادار وجميع الأمراء من القلعة إلى الكبش وحضروا تغسيله ومشوا أمام جنازته إلى الجامع المذكور وتقدم للصلاة عليه الشيخ كريم الدين المذكور وحمل إلى تربته بجوار السيدة نفيسة ودفن بها بعد أن أوصى بولاية العهد إلى ولده أبي الربيع سليمان وتقدير عمره فوق العشرين سنة‏.‏
وكان السلطان طلبه في أول نهار الجمعة قبل الإشاعة بموت والده وأشهد عليه أنه ولى الملك الناصر محمد بن قلاوون جميع ما ولاه والده وفوضه إليه ثم عاد إلى الكبش‏.‏
فلما فرغت الصلاة على الخليفة رد ولده المذكور وأولاد أخيه من جامع آبن طولون إلى دورهم ونزل من القلعة خمسة خدام من خدام السلطان وقعدوا على باب الكبش صفة الترسيم عليهم وسير السلطان يستشير قاضي القضاة تقي الدين ابن دقيق العيد الشافعي في أمر سليمان المذكور‏:‏ هل يصلح للخلافة أم لا فقال‏:‏ نعم يصلح وأثنى عليه‏.‏
وبقي الأمر موقوفًا إلى يوم يوم الخميس رابع عشرين جمادى الأولى المذكور‏.‏
فلما كان بكرة النهار المذكور طلب سليمان إلى القلعة فطلع هو وأولاد أخيه بسبب المبايعة فأمضى السلطان ما عهد إليه والده المذكور بعد فصول وأمور يطول شرحها بينه وبين أولاد أخيه وجلس السلطان وخلع على أبي الربيع سليمان هذا خلعة الخلافة ونعت بالمستكفي وهي جبة سوداء وطرحة سوداء وخلع على أولاد أخيه خلع الأمراء الأكابر خلعًا ملونة‏.‏
وبعد ذلك بايعه السلطان والأمراء والقضاة والمقدمون وأعيان الدولة ومدوا السماط على العادة ثم رسم له السلطان بنزوله إلى الكبش وأجرى راتبه الذي كان مقررًا لوالده وزيادة ونزلوا إلى الكبش وأقاموا به إلى يوم الخميس مستهل جمادى الآخرة إذ حضر من عند السلطان المهمندار ومعه جماعة وصحبتهم جمال كثيرة فنقلوا الخليفة وأولاد أخيه ونساءهم وجميع من يلوذ بهم إلى قلعة الجبل وأنزلوهم بالقلعة في دارين‏:‏ الواحدة تسمى بالصالحية والأخرى بالظاهرية وأجروا عليهم الرواتب المقررة لهم وكان في يوم الجمعة ثاني يوم المبايعة خطب بمصر والقاهرة للمستكفي هذا ورسم بضرب آسمه على سكة الدينار والدرهم‏.‏ انتهى‏.‏
وكان السلطان قبل ذلك أمر بخروج تجريدة إلى الوجه القبلي لكثرة فساد العربان وتعدى شرهم في قطع الطريق إلى أن فرضوا على التجار وأرباب المعايش بأسيوط ومنفلوط فرائض جبوها شبه الجالية واستخفوا بالولاة ومنعوا الخراج وتسموا بأسماء الأمراء وجعلوا لهم كبيرين‏:‏ أحدهما سموه سلار والآخر بيبرس ولبسوا الأسلحة وأخرجوا أهل السجون بأيديهم فأحضر السلطان الأمراء والقضاة وآستفتوهم في قتالهم فأفتوهم بجواز ذلك فآتفق الأمراء على الخروج لقتالهم وأخذت الطرق عليهم لئلا يمتنعوا بالجبال والمنافذ فيفوت الغرض فيهم واستدعوا الأمير ناصر الدين ناصر الدين محمد بن الشيخي متولي الجيزة وندبوه لمنع الناس بأسرهم من السفر إلى الصعيد في البر والبحر ومن ظهر أنه سافر كانت أرواح الولاة قبالة ذلك وما ملك وأشاع الأمراء أنهم يريدون السفر إلى الشام وتجهزوا وكتبت أوراق الأمراء المسافرين وهم عشرون مقدمًا بمضافيهم وعينوا أربعة أقسام‏:‏ قسم يتوجه في البر الغربي وقسم يتوجه في البر الشرقي وقسم يركب النيل وقسم يمضي في الطريق السالكة‏.‏
وتوجه الأمير شمس الدين سنقر الأعسر وكان قد قدم من الشام إلى الواح في خمسة أمراء وقرروا أن يتأخر مع السلطان أربعة أمراء من المقدمين ورسم إلى كل من تعين من الأمراء لجهة أن يضع السيف في الكبير والصغير والجليل والحقير ولا يبقوا شيخًا ولا صبيًا ويحتاطوا على سائر الأموال‏.‏
وسار الأمير سلار نائب السلطنة في رابع جمادى الآخرة ومعه جماعة من الأمراء في البر الغربي وسار الأمير بيبرس الجاشنكير بمن معه من الحاجر في البر الغربي أيضًا من طريق الواحات وسار الأمير بكتاش أمير سلاح بمن معه في البر الشرقي وسار الأمير قتال السبع وبيبرس الدوادار وبلبان الغلمشي وغيره من الشرقية إلى السويس والطور وسار الأمير قبجق المنصوري نائب الشام بمن كان معه إلى عقبة السيل وسار طقصبا والي قوص بعرب الطاعة وأخذ عليهم المفازات وقد عميت أخبار الديار المصرية على أهل الصعيد لمنع المسافرين إليها فطرقوا الأمراء البلاد على حين غفلة من أهلها ووضعوا السيف من الجيزة بالبر الغربي والإطفيحية من الشرقي فلم يتركوا أحدًا إلا قتلوه ووسطوا نحو عشرة آلاف رجل وما منهم إلا من أخذوا ماله وسبوا حريمه فكان إذا ادعى أحد منهم أنه حضري قيل له‏:‏ قل ‏"‏ دقيق ‏"‏ فإن قال‏:‏ دقيق - بالكاف لغات العرب - قتل وإن قال‏:‏ بالقاف المعهودة أطلق‏.‏
ووقع الرعب في قلوب العربان حتى طبق عليهم الأمراء وأخذوهم من كل جهة فروا إليها وأخرجوهم من مخابئهم حتى قتلوا من بجانبي النيل إلى قوص وجافت الأرض بالقتلى واختفى كثير منهم بمغاور الجبال فأوقدت عليهم النيران حتى هلكوا بأجمعهم وأسر منهم نحو ألف وستمائة لهم فلاحات وزروع وحصل من أموالهم شيء عظيم جدًا تفرقته الأيدي وأحضر منه إلى الديوان السلطاني ستة عشرة ألف رأس من الغنم وذلك من جملة ثمانين ألف رأس ما بين ضأن وماعز ومن السلاح نحو مائتين وستين حملًا من السيوف والسلاح والرماح ومن الأموال على بغال محملة مائتين وثمانين بغلًا ونحو أربعة آلاف فرس واثنين وثلاثين ألف جمل وثمانية آلاف رأس من البقر غير ما أرصد في المعاصر وصار لكثرة ما حصل للأجناد والغلمان والفقراء الذين آتبعوا العسكر يباع الكبش السمين من ثلاثة دراهم إلى درهم والمعز بدرهم الرأس والجزة الصوف بنصف درهم والكساء بخمسة دراهم والرطل السمن بربع درهم ولم يوجد من يشتري الغلال لكثرتها فإن البلاد طرقت وأهلها آمنون وقد كسروا الخراج سنتين‏.‏
ثم عاد العسكر في سادس عشر شهر رجب من سنة إحدى وسبعمائة وقد خلت بلاد الصعيد من أهلها بحيث صار الرجل يمشي فلا يجد في طريقه أحدًا وينزل القرية فلا يرى إلا النساء والصبيان ثم أفرج السلطان عن المأسورين وأعادهم إلى بلادهم لحفظ وعند عود الأمراء المذكورين من بلاد الصعيد ورد الخبر من حلب أن تكفور متملك سيس منع الحمل وخرج عن الطاعة وانتمى لغازان فرسم بخروج العساكر لمحاربته وخرج الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح والأمير عز الدين أيبك الخازندار بمضافيهما من الأمراء وغيرهم في شهر رمضان فساروا إلى حماة فتوجه معهم نائبها الملك العادل زين الدين كتبغا المنصوري في خامس عشرين شوال‏.‏ وتوجهوا إلى بلاد سيس وأحرقوا الزروع وآنتهبوا ما قدروا عليه وحاصروا مدينة سيس وغنموا من سفح قلعتها شيئًا كثيرًا من جفال الأرمن وعادوا من الدربند إلى مرج أنطاكية‏.‏ ثم قدموا في تاسع عشر ذي القعدة‏.‏
ثم ورد الخبر على السلطان من طرابلس بأن الفرنج أنشأوا جزيرة تجاه طرابلس تعرف بجزيرة أرواد وعمروها بالعدد والآلات وكثر فيها جمعهم وصاروا يركبون البحر ويأخذون المراكب‏.‏
فرسم السلطان للوزير بعمارة أربعة شوان حربية في محرم سنة اثنتين وسبعمائة ففعل ذلك ونجزت عمارة الشواني وجهزت بالمقاتلة وآلات الحرب مع الأمير جمال الدين آقوش القارىء العلائي وإلى البهنسا واجتمع الناس لمشاهدة لعب الشواني في يوم السبت ثاني عشر المحرم ونزل السلطان والأمراء لمشاهدة ذلك وآجتمع من العالم ما لا يحصيه إلا الله تعالى حتى بلغ كراء المركب التي تحمل عشرة أنفس إلى مائة درهم وآمتلأ البر من بولاق إلى الصناعة حتى لم يوجد موضع قدم ووقف العسكر على بر بستان الخشاب وركب الأمراء الحراريق إلى الروضة وبرزت الشواني تجاه المقياس تلعب كأنها في الحرب فلعب الشيني الأول والثاني والثالث وأعجب الناس إعجابًا زائدًا لكثرة ما كان فيها من المقاتلة والنفوط وآلات الحرب وتقدم الرابع وفيه الأمير آقوش فما هو إلا أنه خرج من الصناعة بمصر وتوسط في النيل إذا بالريح حركته فمال به ميلة واحدة آنقلب وصار أعلاه أسفله فصرخ الناس صرخة واحدة كادت تسقط منها الحبالى وتكدر ما كانوا فيه من الصفو فتلاحق الناس بالشيني وأخرجوا ما سقط منه في الماء فلم يعدم منه سوى الأمير آقوش وسلم الجميع فتكدر السلطان والأمراء بسببه وعاد السلطان بأمرائه إلى القلعة وآنفض الجمع‏.‏
وبعد ثلاثة أيام أخرج الشيني فإذا امرأة الريس وابنها وهي ترضعه في قيد الحياة فاشتد عجب الناس من سلامتها طول هذه الأيام‏!‏ قاله المقريزي وغيره والعهدة عليهم في هذا النقل‏.‏
ثم شرع العمل في إعادة الشيني الذي غرق حتى نجز وندب السلطان الأمير سيف الدين كهرداش الزراق المنصوري إلى السفر فيه عوضًا عن آقوش الذي غرق رحمه الله تعالى وتوجه الجميع إلى طرابلس ثم إلى جزيرة أرواد المذكورة وهي بالقرب من أنطرطوس فأخربوها وسبوا وغنموا وكان الأسرى منها مائتين وثمانين نفرًا وقدم الخبر بذلك إلى السلطان فسر وسر الناس قاطبة ودقت البشائر لذلك أيامًا وآتفق في ذلك اليوم أيضًا حضور الأمير ثم بعد ذلك بأيام ورد الخبر من حلب بأن قازان على عزم الحركة إلى الشام فوقع الاتفاق على خروج العساكر من الديار المصرية إلى الشام وعين من الأمراء الأمير بيبرس الجاشنكير وطغريل الإيغاني وكراي المنصوري وحسام الدين لاجين أستادار بمضافيهم وثلاثة آلاف من الأجناد وساروا من مصر في ثامن عشر شهر رجب وتواترت الأخبار بنزول قازان على الفرات ووصل عسكره إلى الرحبة وبعث أمامه قطلوشاه من أصحابه على عساكر عظيمة إلى الشام تبلغ ثمانين ألفًا وكتب إلى الأمير عز الدين أيبك الأفرم نائب الشام يرغبه في طاعته‏.‏
ودخل الأمير بيبرس الجاشنكير بمن معه إلى دمشق في نصف شعبان ولبث يستحث السلطان على الخروج‏.‏
وأقبل الناس من حلب وحماة إلى دمشق جافلين من التتار فاستعد أهل دمشق للفرار ولم يبق إلا خروجهم فنودي بدمشق‏:‏ من خرج منها حل ماله وعمه‏.‏
وخرج الأمير بهادر آص والأمير قطلوبك المنصوري وأنس الجمدار في عسكر إلى حماة ولحق بهم عساكر طرابلس وحمص فاجتمعوا على حماة عند نائبها الملك العادل كتبغا المنصوري وبلغ التتار ذلك فبعثوا طائفة كثيرة إلى القريتين فأوقعوا بالتركمان فتوجه إليهم أسندمر كرجي نائب طرابلس وبهادر آص وكجكن وغرلوا العادلي وتمر الساقي وأنص الجمدار ومحمد بن قرا سنقر في ألف وخمسمائة فارس فطرقوهم بمنزلة عرض في حادي عشر شعبان‏.‏
على غفلة فافترقوا عليهما أربع فرق وقاتلوهم قتالًا شديدًا من نصف النهار إلى العصر حتى كسروهم وأفنوهم - وكانوا التتار فيما يقال أربعة آلاف - وآستنقذوا التركمان وحريمهم وأولادهم من أيدي التتار وهم نحو ستة آلاف أسير ولم يفقد من العسكر الإسلامي إلا الأمير أنص الجمدار المنصوري ومحمد بن باشقرد الناصري وستة وخمسون من الأجناد وعاد من آنهزم من التتار إلى قطلوشاه وأسر العسكر المصري مائة وثمانين من التتار وكتب إلى السلطان بذلك ودقت البشائر بدمشق‏.‏
وكان السلطان الملك الناصر محمد قد خرج بعساكره وأمرائه من الديار المصرية إلى جهة البلاد الشامية في ثالث شعبان وخرج بعده الخليفة المستكفي بالله واستناب السلطان بديار مصر الأمير عز الدين أيبك البغدادي‏.‏
وجد قطلوشاه مقدم التتار بالعساكر في المسير حتى نزل قرون حماة في ثالث عشر شعبان فآندفعت العساكر المصرية التي كانت بحماة بين يديه إلى دمشق وركب نائب حماة الأمير كتبغا الذي كان تسلطن وتلقب بالملك العادل في محفة لضعفه واجتمع الجميع بدمشق وآختلف رأيهم في الخروج إلى لقاء العدو أو آنتظار قدوم السلطان ثم خشوا من مفاجأة العدو فنادوا بالرحيل وركبوا في أول شهر رمضان من دمشق فاضطربت دمشق بأهلها وأخذوا في الرحيل منها على وجوههم واشتروا الحمار بستمائة درهم والجمل بألف درهم وترك كثير منهم حريمه وأولاده ونجا بنفسه إلى القلعة فلم يأت الليل إلا وبوادر التتار في سائر نواحي المدينة‏.‏
وسار العسكر مخفًا وبات الناس بدمشق في الجامع يضجون بالدعاء إلى الله تعالى فلما أصبحوا رحل التتار عن دمشق بعد أن نزلوا بالغوطة‏.‏ وبلغ الأمراء قدوم السلطان فتوجهوا إليه من مرج راهط فلقوه على عقبة الشحورا في يوم السبت ثاني عشر رمضان وقبلوا له الأرض‏.‏
ثم ورد عند لقائهم به الخبر بوصول التتار في خمسين ألفًا مع قطلوشاه نائب غازان فلبس العسكر بأجمعه السلاح واتفقوا على قتال التتار بشقحب تحت جبل غباغب وكان قطلوشاه قد وقف على أعلى النهر فصفت العساكر الإسلامية‏:‏ فوقف السلطان في القلب وبجانبه الخليفة والأمير سلار النائب والأمير بيبرس الجاشنكير وعز الدين أيبك الخازندار وبكتمر الجوكندار وآقوش الأفرم نائب الشام والأمير برلغي والأمير أيبك الحموي وبكتمر الأبو بكري وقطلوبك ونوغاي السلاح دار ومبارز الدين أمير شكار ويعقوبا الشهرزوري ومبارز الدين أوليا بن قرمان ووقف في الجناح الأيمن الأمير قبجق بعساكر حماة والعربان وجماعة كثيرة من الأمراء ووقف في الميسرة الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح والأمير قرا سنقر نائب حلب بعساكرها والأمير بتخاص نائب صفد بعساكرها والأمير طغريل الإيغاني وبكتمر السلاح دار وبيبرس الدوادار بمضافيهم‏.‏
ومشى السلطان على التتار والخليفة بجانبه ومعهما القراء يتلون القرآن ويحثون على الجهاد ويشوقون إلى الجنة وصار الخليفة يقول‏:‏ ‏"‏ يا مجاهدون لا تنظروا لسلطانكم‏.‏ قاتلوا عن دين نبيكم صلى الله عليه وسلم وعن حريمكم‏!‏ ‏"‏ والناس في بكاء شديد ومنهم من سقط عن فرسه إلى الأرض‏!‏ وتواصى بيبرس وسلار على الثبات في الجهاد‏.‏
وكل ذلك والسلطان والخليفة يكر في العساكر يمينًا وشمالًا‏.‏ ثم عاد السلطان والخليفة إلى مواقفهما ووقف خلفه الغلمان والأحمال والعساكر صفًا واحدًا وقال لهم‏:‏ من خرج من الأجناد عن المصاف فاقتلوه ولكم سلبه‏.‏
فلما تم الترتيب زحفت كراديس التتار كقطع الليل وكان ذلك وقت الظهر من يوم السبت ثاني رمضان المذكور‏.‏
وأقبل قطلوشاه بمن معه من الطوامين وحملوا على الميمنة فثبتت لهم الميمنة وقاتلوهم أشد قتال حتى قتل من أعيان الميمنة الأمير حسام الدين لاجين الأستادار وأوليا بن قرمان والأمير سنقر الكافوري والأمير أيدمر الشمسي القشاش والأمير آقوش الشمسي الحاجب وحسام الدين علي بن باخل ونحو الألف فارس كل ذلك وهم في مقابلة العدو والقتال عمال بينهم‏.‏
فلما وقع ذلك أدركتهم الأمراء من القلب ومن الميسرة وصاح سلار‏:‏ ‏"‏ هلك والله أهل الإسلام‏!‏ ‏"‏ وصرخ في بيبرس الجاشنكير وفي البرجية فأتوه دفعة واحدة فأخذهم وصدم بهم العدو وقصد مقدم التتار قطلوشاه وتقدم عن الميمنة حتى أخذت الميمنة راحة وأبلى سلار في ذلك اليوم هو وبيبرس الجاشنكير بلاء حسنًا وسلموا نفوسهم إلى الموت‏.‏
فلما رأى باقي الأمراء منهم ذلك ألقوا نفوسهم إلى الموت واقتحموا القتال وكانت لسلار والجاشنكير في ذلك اليوم اليد البيضاء على المسلمين - رحمهما الله تعالى - واستمروا في القتال إلى أن كشفوا التتار عن المسلمين‏.‏
وكان جوبان وقرمجي وهما من طوامين التتار قد ساقا تقوية لبولاي وهو خلف المسلمين فلما عاينوا الكسرة على قطلو شاه أتوه نجدة ووقفوا في وجه سلار وبيبرس فخرج من عسكر السلطان أسندمر والأمير قطلوبك والأمير قبجق والمماليك السلطانية وأردفوا سلار وبيبرس وقاتلوا أشد قتال حتى أزاحوهم عن مواقفهم فمالت التتار على الأمير برلغي في موقفه فتوجهوا الجماعة المذكورون إلى برلغي واستمر القتال بينهم‏.‏ وأما سلار فإنه قصد قطلوشاه مقدم التتار وصدمه بمن معه وتقاتلا وثبت كل منهما‏.‏
وكانت الميمنة لما قتل الأمراء منها آنهزم من كان معهم ومرت التتار خلفهم فجفل الناس وظنوا أنها كسرة وأقبل السواد الأعظم على الخزائن السلطانية فكسروها ونهبوا ما فيها من الأموال وجفل النساء والأطفال وكانوا قد خرجوا من دمشق عند خروج الأمراء منها وكشف النساء عن وجوههن وأسبلن الشعور‏.‏
وضج ذلك الجمع العظيم بالدعاء وقد كادت العقول أن تطيش وتذهب عند مشاهدة الهزيمة‏!‏ وآستمر القتال بين التتار والمسلمين إلى أن وقف كل من الطائفتين ومال قطلوشاه بمن معه إلى جبل قريب منه وصعد عليه وفي نفسه أنه انتصر وأن بولاي في أثر المنهزمين من المسلمين فلما صعد الجبل رأى السهل والوعر كله عساكر والميسرة السلطانية ثابتة وأعلامها تخفق فبهت قطلوشاه وتحير وآستمر بموضعه حتى كمل معه جمعه وأتاه من كان خلف المنهزمين من الميمنة السلطانية ومعهم عدة من المسلمين قد أسروهم منهم‏:‏ الأمير عز الدين أيدمر نقيب المماليك السلطانية فأحضره قطلوشاه وسأله‏:‏ ‏"‏ من أين أنت ‏"‏ فقال‏:‏ ‏"‏ من أمراء مصر ‏"‏ وأخبره بقدوم السلطان وكان قطلوشاه ليس له علم بقدوم السلطان بعساكر مصر إلا ذلك الوقت فعند ذلك جمع قطلوشاه أصحابه وشاورهم فيما يفعل وإذا بكوسات السلطان والبوقات قد زحفت وأزعجت الأرض وأرجفت القلوب بحسها فلم يثبت بولاي وخرج من تجاه قطلوشاه في نحو العشرين ألفًا من التتار ونزل من الجبل بعد المغرب ومر هاربًا‏.‏
وبات السلطان وسائر عساكره على ظهور الخيل والطبول تضرب وتلاحق بهم من كان آنهزم شيئًا بعد شيء وهم يقصدون ضرب الطبول السلطانية والكوسات وأحاط عسكر السلطان بالجبل الذي بات عليه التتار وصار بيبرس وسلار وقبجق والأمراء والأكابر في طول الليل دائرين على الأمراء والأجناد يوصونهم ويرتبونهم ويؤكدون عليهم في التيقظ ووقف كل أمير في مصافه مع أصحابه والحمل والأثقال قد وقف على بعد وثبتوا على ذلك حتى آرتفعت الشمس‏.‏
وشرع قطلوشاه في ترتيب من معه ونزلوا مشاة وفرسانًا وقاتلوا العساكر‏.‏ فبرزت المماليك السلطانية بمقدميها إلى قطلوشاه وجوبان وعملوا في قتالهم عملًا عظيمًا فصاروا تارة يرمونهم بالسهام وتارة يواجهونهم بالرماح واشتغل الأمراء أيضًا بقتال من في جهتهم وصاروا يتناوبون في القتال أميرًا بعد أمير‏.‏
وألحت المماليك السلطانية في القتال وأظهروا في ذلك اليوم من الشجاعة والفروسية ما لا يوصف حتى إن بعضهم قتل تحته الثلاثة من الخيل‏.‏ وما زال الأمراء على ذلك حشى انتصف نهار الأحد صعد قطلوشاه الجبل وقد قتل من عسكره نحو ثمانين رجلًا وجرح الكثير واشتد عطشهم‏.‏
واتفق أن بعض من كان أسره التتار هرب ونزل إلى السلطان وعرفه أن التتار قد أجمعوا على النزول في السحر لمصادمة العساكر السلطانية وأنهم في شدة من العطش فاقتضى الرأي أن يفرج لهم عند نزولهم ويركب الجيش أقفيتهم‏.‏
فلما باتوا على ذلك وأصبحوا نهار الاثنين ركب التتار في الرابعة من النهار ونزلوا من الجبل فلم يتعرض لهم أحد وساروا إلى النهر فاقتحموه فعند ذلك ركبهم بلاء الله من المسلمين وأيدهم الله تعالى بنصره حتى حصدوا رؤوس التتار عن أبدانهم ووضعوا فيهم السيف ومروا في أثرهم قتلًا وأسرًا إلى وقت العصر‏.‏ وعادوا إلى السلطان وعرفوه بهذا النصر العظيم فكتبت البشائر في البطائق وسرحت الطيور بهذا النصر العظيم إلى غزة‏.‏
وكتب إلى غزة بمنع المنهزمين من عساكر السلطان من الدخول إلى مصر وتتبع من نهب الخزائن السلطانية والاحتفاظ بمن يمسك منهم وعين السلطان الأمير بدر الدين بكتوت الفتاح للمسير بالبشارة إلى مصر ثم كتب بهذا الفتح العظيم إلى سائر الأقطار‏.‏
ثم ركب السلطان في يوم الاثنين من مكان الواقعة وبات ليلته بالكسوة وأصبح يوم الثلاثاء وقد خرج إليه أهل دمشق فسار إليها ومعه الخليفة في عالم عظيم من الفرسان والأعيان والعامة والنساء والصبيان لا يحصيهم إلا الله تعالى وهم يضجون بالدعاء والهناء والشكر لله سبحانه وتعالى على هذه المنة‏!‏ وتساقطت عبرات الناس فرحًا ودقت البشائر بسائر الممالك وكان هذا اليوم يومًا لم يشاهد مثله‏.‏ وسار السلطان حتى نزل بالقصر الأبلق وقد زينت المدينة‏.‏
وآستمرت الأمراء وبقيت العساكر في طلب التتار إلى القريتين وقد كلت خيول التتار وضعفت نفوسهم وألقوا أسلحتهم وآستسلموا للقتل والعساكر تقتلهم بغير مدافعة حتى إن أراذل العامة والغلمان قتلوا منهم خلقًا كثيرًا وغنموا عذ غنائم وقتل الواحد من العسكر العشرين من التتار فما فوقها ثم أدركت عربان البلاد التتار وأخذوا في كيدهم‏:‏ فيجيء منهم الاثنان والثلاثة إلى العدة الكثير من التتار كأنهم يهدونهم إلى طريق قريبة مفازة فيوصلونهم إلى البرية ويتركونهم بها فيموتوا عطشًا ومنهم من دار بهم وأوصلوهم إلى غوطة دمشق فخرجت إليهم عامة دمشق فقتلوا منهم خلقًا كثيرًا‏.‏
ثم تتبعت الحكام النهبة وعاقبوا منهم جماعة كثيرة حتى تحصل أكثر ما نهب من الخزائن ولم يفقد منه إلا القليل‏.‏
ثم خلع السلطان على الأمراء جميعهم ثم حضر الأمير برلغي وقد كان آنهزم فلم يأذن له السلطان في الدخول عليه وقال‏:‏ بأي وجه تدخل علي أو تنظر في وجهي‏!‏ فما زال به الأمراء حتى رضي عنه‏.‏
ثم قبض على رجل من أمراء حلب كان قد انتمى إلى التتار وصار يدلهم على الطرقات فسمر على جمل وشهر بدمشق وضواحيها‏.‏ وآستمر الناس في شهر رمضان كله في مسرات تتجدد ثم صلى السلطان صلاة عيد الفطر وخرج في ثالث شوال من دمشق يريد الديار المصرية‏.‏ وأما التتار فإنه لما قتل أكثرهم ودخل قطلوشاه الفرات في قليل من أصحابه‏.‏
ووصل خبر كسرته إلى همذان ووقعت الصرخات في بلادهم وخرج أهل تبريز وغيرها إلى لقائهم واستعلام خبر من فقد منهم حتى علموا ذلك فقامت النياحة في مدينة تبريز شهرين على القتلى‏.‏
ثم بلغ الخبر غازان فاغتم غمًا عظيمًا وخرج من منخريه دم كثير حتى أشفى على الموت وآحتجب عن حواشيه فإنه لم يصل إليه من عساكره من كل عشرة واحد ممن كان آنتخبهم من خيار جيشه‏.‏
ثم بعد ذلك بمدة جلس غازان وأوقف قطلوشاه مقدم عساكره وجوبان وسوتاي ومن كان معهم من الأمراء وأنكر على قطلوشاه وأمر بقتله فما زالوا به حتى عفا عنه وأبعده من قدامه حتى صار على مسافة بعيدة بحيث يراه وقام إليه وقد مسكه الحجاب سائر من حضر - وهم خلق كثير جدًا - وصار كل منهم يبصق في وجهه حتى بصق الجميع‏!‏ ثم أبعده عنه إلى كيلان ثم ضرب بولاي عدة عصي وأهانه‏.‏ وفي الجملة فإنه حصل على غازان بهذه الكسرة من القهر والهم ما لا مزيد عليه ولله الحمد‏.‏ وسار السلطان الملك الناصر بعساكره وأمرائه حتى وصل إلى القاهرة ودخلها في يوم ثالث عشرين شوال حسب ما يأتي ذكره‏.‏
وكان نائب الغيبة رسم بزينة القاهرة من باب النصر إلى باب السلسلة من القلعة وكتب بإحضار سائر مغاني العرب بأعمال الديار المصرية كلها‏.‏
وتفاخر الناس في الزينة ونصبوا القلاع واقتسمت أستادارية الأمراء شوارع القاهرة إلى القلعة وزينوا ما يخص كل واحد منهم وعملوا به قلعة بحيث نودي‏:‏ من آستعمل صانعًا في غير صنعة القلاع كانت عليه جناية للسلطان‏.‏
وتحسن سعر الخشب والقصب وآلات النجارة وتفاخروا في تزيين القلاع المذكورة وأقبل أهل الريف إلى القاهرة للفرجة على قدوم السلطان وعلى الزينة فإن الناس كانوا أخرجوا الحلي والجواهر واللآلىء وأنواع الحرير فزينوا بها‏.‏
ولم ينسلخ شهر رمضان حتى تهيأ أمر القلاع وعمل ناصر الدين محمد بن الشيخي والي القاهرة قلعة بباب النصر فيها سائر أنواع الخد والهزل ونصب عدة أحواض ملأها بالسكر والليمون وأوقف مماليكه بشربات حتى يسقوا العسكر‏.‏
قلت‏:‏ لو فعل هذا في زماننا والي القاهرة لكان حصل عليه الإنكار بسبب إضاعة المال وقيل له‏:‏ لم لا حملت إلينا ما صرفته فإنه كان أنفع وخيرًا من هذا الفشار وإنما كانت نفوس أولئك غنية وهممهم علية وما كان جل قصدهم إلا إظهار النعمة والتفاخر في الحشم والأسمطة والإنعامات حتى يشاع عنهم ذلك ويذكر إلى الأبد فرحم الله تلك الأيام وأهلها‏!‏‏.‏
وقدم السلطان إلى القاهرة في يوم الثلاثاء ثالث عشرين شوال وقد خرج الناس إلى لقائه وللفرجة عليه وبلغ كراء البيت الذي يمر عليه السلطان من خمسين درهمًا إلى مائة درهم‏.‏
فلما وصل السلطان إلى باب النصر ترجل الأمراء كلهم وأول من ترجل منهم الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح وأخذ يحمل سلاح السلطان فأمره السلطان أن يركب لكبر سنه ويحمل السلاح خلفه فامتنع ومشى‏.‏
وحمل الأمير مبارز الدين سوار الرومي أمير شكار القبة والطير على رأس السلطان وحمل الأمير بكتمر أمير جاندار العصا والأمير سنجر الجمقدار الدبوس ومشى كل أمير في منزلته وفرش كل منهم الشقق من قلعته إلى قلعة غيره التي أنشأوها بالشوارع‏.‏
وكان السلطان إذا تجاوز قلعة فرشت القلعة المجاورة لها الشقق حتى يمشي عليها بفرسه مشيًا هينًا من غير هرج بسكون ووقار لأجل مشي الأمراء بين يديه‏.‏
وكان السلطان كلما رأى قلعة أمير أمسك عن المشي ووقف حتى يعاينها ويعرف ما آشتملت عليه هو والأمراء حتى يجبر خاطر فاعلها بذلك‏.‏
هذا والأمراء من التتار بين يديه مقيدون ورؤوس من قتل منهم معلقة في رقابهم وألف رأس على ألف رمح وعدة الأسرى ألف وستمائة وفي أعناقهم أيضًا ألف وستمائة رأس وطبولهم قدامهم مخرقة‏.‏
وكانت القلاع التي نصبت أولها قلعة الأمير ناصر الدين ابن الشيخي والي القاهرة بباب النصر ويليها قلعة الأمير علاء الدين مغلطاي أمير مجلس ويليها قلعة آبن أيتمش السعدي ثم يليها قلعة الأمير سنجر الجاولي وبعده قلعة الأمير طغريل الإيغاني ثم قلعة بهادر اليوسفي ثم قلعة سودي ثم قلعة بيليك الخطيري ثم قلعة برلغي ثم قلعة مبارز الدين أمير شكار ثم قلعة أيبك الخازندار ثم قلعة سنقر الأعسر ثم قلعة بيبرس الدوادار ثم قلعة سنقر الكاملي ثم قلعة موسى ابن الملك الصالح ثم قلعة الأمير آل ملك ثم قلعة علم الدين الصوابي ثم قلعة الأمير جمال الدين الطشلاقي ثم قلعة الأمير سيف الدين آدم ثم قلعة الأمير سلار النائب ثم قلعة الأمير بيبرس الجاشنكير ثم قلعة بكتاش أمير سلاح ثم قلعة الطواشي مرشد الخازندار - وكانت قلعته على باب المدرسة المنصورية - ثم بعده قلعة بكتمر أمير جاندار ثم قلعة أيبك البغدادي نائب الغيبة ثم قلعة آبن أمير سلاح ثم قلعة بكتوت الفتاح ثم قلعة تباكر الطغريلي ثم قلعة قلي السلاح دار ثم قلعة لاجين زيرباج الجاشنكير ثم قلعة طيبرس الخازنداري نقيب الجيش ثم قلعة بلبان طرنا ثم قلعة سنقر العلائي ثم قلعة بهاء الدين يعقوبا ثم قلعة الأبوبكري ثم قلعة بهادر العزي ثم قلعة كوكاي ثم قلعة قرا لاجين ثم قلعة كراي المنصوري ثم قلعة جمال الدين آقوش قتال السبع وقلعته كانت على باب زويلة وكان عدتها سبعين قلعة‏.‏
وعندما وصل السلطان إلى باب البيمارستان المنصوري ببين القصرين نزل ودخل وزار قبر والده الملك المنصور قلاوون وقرأ القراء أمامه ثم ركب إلى باب زويلة ووقف حتى أركب الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح‏.‏
ثم سار السلطان على شقق الحرير إلى داخل قلعة الجبل‏.‏
هذا والتهاني في دور السلطان والأمراء وغيرهم قد امتلأت منهم البيوت والشوارع بحيث إن الرجل كان لا يسمع كلام من هو بجانبه إلا بعد جهد وكان يومًا عظيمًا عظم فيه سرور الناس قاطبة لا سيما أهل مصر فإنهم فرحوا بالنصر وأيضًا بسلامة سلطانهم الملك الناصر وأقام الملك الناصر بالديار المصرية إلى سنة ثلاث وسبعمائة فورد عليه الخبر بموت غازان بمدينة الري وقام بعده أخوه خربندا بن أرغون بن أبغا بن هولاكو في ثالث عشر شوال وجلس خربندا على تخت الملك في ثالث عشر ذي الحجة وتلقب غياث الدين محمدًا وكتب إلى السلطان بجلوسه وطلب الصلح وإخماد الفتنة‏.‏
ثم في السنة آستأذن الأمير سلار نائب السلطنة في الحج فأذن له فحج كما حج الأمير بيبرس الجاشنكير في السنة الماضية اثنتين وسبعمائة إلا أن سلار صنع من المعروف في هذه السنة والإحسان إلى أهل مكة والمجاورين وغيرهم وعاد ثم حج الأمير بيبرس الجاشنكير ثانيًا في سنة أربع وسبعمائة‏.‏
وورد الخبر على السلطان الملك الناصر بقدوم رجل من بلاد التتار إلى دمشق يقال له الشيخ براق في تاسع جمادى الأولى ومعه جماعة من الفقراء نحو المائة لهم هيئة عجيبة على رأسهم كلاوت لباد مقصص بعمائم فوقها وفيها قرون من لباد يشبه قرون الجواميس وفيها أجراس ولحاهم محلقة دون شواربهم ولبسهم لبابيد بيض وقد تقلدوا بحبال منظومة بكعاب البقر وكل منهم مكسور الثنية العليا وشيخهم من أبناء الأربعين سنة وفيه إقدام وجرأة وقوة نفس وله صولة ومعه طبلخاناه تدق له نوبة وله محتسب على جماعته يؤدب كل من يترك شيئًا من سنته بضرب عشرين عصا تحت رجليه وهو ومن معه ملازمون التعبد والصلاة وأنه قيل له عن زيه فقال‏:‏ أردت أن أكون مسخرة الفقراء‏.‏
وذكر أن غازان لما بلغه خبره استدعاه وألقى عليه سبعًا ضاريًا فركب على ظهر السبع ومشى به فجل في عين قازان ونثر عليه عشرة آلاف دينار وأنه عندما قدم دمشق كان النائب بالميدان الأخضر فدخل عليه وكان هناك نعامة قد تفاقم ضررها وشرها ولم يقدر أحد على الدنو منها فأمر النائب بإرسالها عليه فتوجهت نحوه فوثب عليها وركبها فطارت به في الميدان قدر خمسين ذراعًا في الهواء حتى دنا من النائب وقال له‏:‏ أطير بها إلى فوق شيئًا آخر فقال له النائب‏:‏ لا وأنعم عليه وهاداه الناس فكتب السلطان بمنعه من القدوم إلى الديار المصرية فسار إلى القدس ثم رجع إلى بلاده‏.‏
وفي فقرائه يقول سراج الدين عمر الوراق من موشحة طويلة أولها‏:‏ جتنا عجم من جوا الروم صور تحير فيها الأفكار لها قرون مثل التيران إبليس يصيح منهم زنهار وقد ترجمنا براق هذا في تاريخنا المنهل الصافي بأوسع من هذا انتهى‏.‏
السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون في سنة سبع وسبعمائة
ضجر من الحجر عليه من تحكم الأميرين سلار وبيبرش الجاشنكير ومنعه من التصرف وضيق يده وشكا ذلك لخاصته وآستدعى الأمير بكتمر الجوكندار وهو أمير جاندار يوم ذاك في خفية وأعلمه بما عزم عليه من القيام على الأميرين سلار وبيبرس فقرر معه بكتمر أن القلعة إذا أغلقت في الليل وحملت مفاتيحها إلى السلطان على العادة لبست مماليك السلطان السلاح وركبت الخيول من الإسطبل وسارت إلى إسطبلات الأمراء ودقت كوسات السلطان بالقلعة دقًا حربيًا ليجتمع المماليك تحت القلعة ممن هو في طاعة السلطان قال بكتمر‏:‏ وأنا أهجم على بيتي سلار وبيبرس بالقلعة أيضًا‏.‏
قلت‏:‏ أعني أن بكتمر كان سكنه بالقلعة فيهجم هو أيضًا على بيتي سلار وبيبرس بالقلعة أيضًا ويأخذهما قبضًا باليد‏.‏
وكان لكل من بيبرس وسلار أعين عند السلطان فبلغوهما ذلك فاحترزا على أنفسهما وأمر الأمير سيف الدين بلبان الدمشقي والي القلعة وكان خصيصًا بهما أن يوهم أنه أغلق باب القلعة ويطرف أقفالها ويعبر بالمفاتيح إلى السلطان على العادة ففعل ذلك‏.‏
وظن السلطان ومماليكه أنهم قد حصلوا على غرضهم وآنتظروا بكتمر الجوكندار أن يحضر إليهم فلم يحضر فبعثوا إليه فإذا هو مع بيبرس وسلار وقد حلف لهما على القيام معهما‏.‏
فلما طلع النهار ظن السلطان أن بكتمر قد غدر به وترقب المكروه من الأمراء وليس الأمر كذلك وما هو إلا أن سلار وبيبرس لما بلغهما الخبر خرجوا إلى دار النيابة بالقلعة وعزم بيبرس أن يهجم على بكتمر ويقتله فمنعه سلار لما كان عنده من التثبت والتؤدة وأشار بالإرسال إليه ويحضره حتى تبطل حركة السلطان فلما أتى بكتمر الرسول تحير في أمره وقصد الامتناع وألبس مماليكه السلاح ومنعهم وخرج إليهم فعنفه سلار ولامه على ما قصد فأنكر وحلف لهم على أنه معهم وأقام عندهم إلى الصباح ودخل مع الأمراء إلى الخدمة عند الأمير سلار النائب ووقف ألزام سلار وبيبرس على خيولهم بباب الإسطبل مترقبين خروج المماليك السلطانية ولم يدخل أحد من الأمراء إلى خدمة السلطان وتشاوروا‏.‏
وقد أشيع في القاهرة أن الأمراء يريدون قتل السلطان الملك وخرج العامة والأجناد إلى تحت القلعة وبقي الأمراء نهارهم مجتمعين وبعثوا بالاحتراس على السلطان خوفًا من نزوله من باب السر وألبسوا عدة مماليك وأوقفوهم مع الأمير سيف الدين سمك أخي سلار على باب الإسطبل‏.‏
فلما كان نصف الليل وقع بداخل الإسطبل حس وحركة من قيام المماليك السلطانية ولبسهم السلاح لينزلوا بالسلطان على حمية من الإسطبل وتوقعوا الحرب فمنعهم السلطان من ذلك وأراد الأمير سمك إقامة الحرمة فرمى بالنشاب ودق الطبل فوقع سهم من النشاب بالرفرف السلطاني وآستمر الحال على ذلك إلى أذان العصر من الغد فبعث السلطان إلى الأمراء يقول‏:‏ ‏"‏ ما سبب هذا الركوب على باب إسطبلي إن كان غرضكم في الملك فما أنا متطلع إليه فخذوه وابعثوني أي موضع أردتم‏!‏ ‏"‏ فردوا إليه الجواب مع الأمير بيبرس الدوادار والأمير عز الدين أيبك الخازندار والأمير برلغي الأشرفي بأن السبب هو من عند السلطان من المماليك الذين يحرضونه على الأمراء فأنكر أن يكون أحد من مماليكه ذكر له شيئًا عن الأمراء وفي عود الجواب من عند السلطان وقعت صيحة بالقلعة سببها أن العامة كان جمعهم قد كثر وكان عادتهم أنهم لا يريدون أن يلي الملك أحذ من المماليك بل إن كان ولا بد يكون الذي يلي الملك من بني قلاوون‏.‏
وكانوا مع ذلك شديدي المحبة للملك الناصر محمد بن قلاوون‏.‏
فلما رأوا العامة أن الملك الناصر قد وقف بالرفرف من القلعة وحواشي بيبرس وسلار قد وقفوا على باب الإسطبل محاصرينه حنقوا من ذلك وصرخوا ثم حملوا يدًا واحدة على الأمراء بباب الإسطبل وهم يقولون‏:‏ ‏"‏ يا ناصر‏!‏ يا منصور‏!‏ ‏"‏ فأراد سمك قتالهم فمنعه من كان معه من الأمراء وخوفه الكسرة من العوام فتقهقروا عن باب الإسطبل السلطاني وسطا عليهم العامة وأفحشوا في حقهم‏.‏
وبلغ ذلك بيبرس وسلار فأركبا الأمير بتخاص المنصوري في عدة مماليك فنزلوا إلى العامة ينحونهم ويضربونهم بالدبابيس ليتفرقوا فآشتد صياحهم‏:‏ يا ناصر‏!‏ يا منصور‏!‏ وتكاثر جمعهم وصاروا يدعون للسلطان ويقولون‏:‏ الله يخون الخائن الله يخون من يخون ابن قلاوون‏!‏ ثم حملت طائفة منهم على بتخاص ورجمته طائفة أخرى فجرد السيف ليضعه فيهم فخشي تكاثرهم عليه فأخذ يلاطفهم وقال لهم‏:‏ طيبوا خاطركم فإن السلطان قد طاب خاطره على أمرائه وما زال يحلف لهم حتى تفرقوا‏.‏
وعاد بتخاص إلى سلار وبيبرس وعرفهم شدة تعصب العامة للسلطان فبعث الأمراء عند ذلك ثانيًا إلى السلطان بأنهم مماليكه وفي طاعته ولا بد من إخراج الشباب الذين يرمون الفتنة بين السلطان والأمراء فامتنع السلطان من ذلك وآشتد فما زال به بيبرس الدوادار وبرلغي حتى أخرج منهم جماعة وهم‏:‏ يلبغا التركماني وأيدمر المرقبي وخاص ترك فهددهم بيبرس وسلار ووبخاهم وقصد سلار أن يقيدهم فلم توافق الأمراء على ذلك رعاية لخاطر السلطان فأخرجوا إلى القدس من وقتهم على البريد‏.‏
ودخل جميع الأمراء على السلطان وقبلوا الأرض ثم قبلوا يده فخلع على الأمير بيبرس وسلار‏.‏
ثم سأل الأمراء السلطان أن يركب في أمرائه إلى الجبل الأحمر حتى تطمئن قلوب العامة عليه ويعلموا أن الفتنة قد خمدت فأجاب لذلك‏.‏
وبات ليلته في قلق زائد وكرب عظيم لإخراج مماليكه المذكورين إلى القدس‏.‏
ثم ركب بالأمراء من الغد إلى قبة النصر تحت الجبل الأحمر وعاد بعد ما قال لبيبرس وسلار‏:‏ إن سبب الفتنة إنما كان من بكتمر الجوكندار وذلك أنه رآه قد ركب بجانب الأمير بيبرس الجاشنكير وحادثه فتذكر غدره به فشق عليه ذلك‏.‏
فتلطفوا به في أمره فقال‏:‏ ‏"‏ والله ما بقيت لي عين تنظر إليه ومتى أقام في مصر لا جلست على كرسي الملك أبدًا ‏"‏ فأخرج من وقته إلى قلعة الصبيبة واستقر عوضه أمير جاندار الأمير بدر الدين بكتوب الفتاح‏.‏
فلما مات سنقرشاه بعد ذلك آستقر بكتمر الجوكندار في نيابة صفد عوضه فنقل إليها من الصبيبة‏.‏
وآجتاز السلطان بخانقاه الأمير بيبرس الجاشنكير داخل باب النصر فرآها في ممره وكان قد نجز العمل منها في هذه الأيام وطلع السلطان إلى القلعة وسكن الحال والأمراء في حصر من جهة العامة من تعصبهم للسلطان والسلطان في حصر بسبب حجر الأمراء عليه وإخراج مماليكه من عنده‏.‏
وآستمر ذلك إلى أن كان العاشر من جمادى الآخرة من سنة ثمان وسبعمائة عدى السلطان الجيزة وأقام حول الأهرام يتصيد عشرين يومًا وعاد وقد ضاق صدره وصار في غاية الحصر من تحكم بيبرس الجاشنكير وسلار عليه وعدم تصرفه في الدولة من كل ما يريد حتى إنه لا يصل إلى ما تشتهي نفسه من المأكل لقلة المرتب له‏!‏ فلولا ما كان يتحصل له من أملاكه وأوقاف أبيه لما وجد سبيلًا لبلوغ بعض أغراضه وطال الأمر عليه سنين فأخذ في عمل مصلحة نفسه وأظهر أنه يريد الحج بعياله وحدث بيبرس وسلار في ذلك يوم النصف من شهر رمضان فوافقاه عليه وأعجب البرجية خشداشية بيبرس سفره لينالوا أغراضهم وشرعوا في تجهيزه وكتب إلى دمشق والكرك وغزة برمي الإقامات وألزم عرب الشرقية بحمل الشعير فتهيأ ذلك‏.‏
وأحضر الأمراء تقادمهم له من الخيل والجمال في العشرين من شهر رمضان فقبلها منهم وشكرهم على ذلك‏.‏
وركب في خامس عشرين شهر رمضان من القلعة يريد السفر إلى الحج ونزل من القلعة ومعه جميع الأمراء وخرج العامة حوله وحاذوا بينه وبين الأمراء وهم يتباكون حوله ويتأسفون على فراقه ويدعون له إلى أن نزل بركة الحجاج‏.‏
وتعين للسفر مع السلطان من الأمراء‏:‏ عز الدين أيدمر الخطيري الأستادار وسيف الدين آل ملك الجوكندار وحسام الدين قرا لاجين أمير مجلس وسيف الدين بلبان أمير جاندار وعز الدين أيبك الرومي السلاح دار وركن الدين بيبرس الأحمدي وعلم الدين سنجر الجمقدار وسيف الدين تقطاي الساقي وشمس الدين سنقر السعدي النقيب ومن المماليك خمسة وسبعون نفرًا‏.‏
وودعه سلار وبيبرس بمن معهم من الأمراء وهم على خيولهم من غير أن يترجلوا له وعاد الأمراء‏.‏
ورحل السلطان من ليلته وخرج إلى جهة الصالحية وتصيد بها ثم سار إلى الكرك ومعه من الخيل مائة وخمسون فرسًا فوصل إلى الكرك في يوم الأحد عاشر شوال بمن معه من الأمراء ومماليكه‏.‏
واحتفل الأمير جمال الدين آقوش الأشرفي نائب الكرك بقدومه وقام له بما يليق به وزين له القلعة والمدينة وفتح له باب السر من قلعة الكرك ومد الجسر على الخندق وكان له مدة سنين لم يمد وقد ساس خشبه لطول مكثه‏.‏
فلما عبرت الدواب عليه وأتى السلطان في آخرهم آنكسر الجسر تحت رجلي فرس السلطان بعدما تعدى يدا الفرس الجسر فكاد فرس السلطان أن يسقط لولا أنهم جبدوا عنان الفرس حتى خرج من الجسر وهو سالم وسقط الأمير بلبان طرنا أمير جاندار وجماعة كثيرة ولم يمت منهم سوى رجل واحد وسقط أكثر خاصكية السلطان في الخندق وسلموا كلهم إلا اثنين وهم‏:‏ الحاج عز الدين أزدمر رأس نوبة الجمدارية آنقطع نخاعه وبطل وعاش كذلك لسنة ست عشرة وسبعمائة والآخر مات لوقته‏.‏
قال ابن كثير في تاريخه‏:‏ ولما توسط السلطان الجسر آنكسر فسلم من كان قدامه وقفز به فرسه فسلم وسقط من كان وراءه وكانوا خمسين فمات أربعة وتهشم أكثرهم في الوادي تحته‏.‏ انتهى‏.‏
وقال غيره‏:‏ لما انقطعت سلسلة الجسر وتمزق الخشب صرخ السلطان على فرسه وكان قد نزلت رجله في الخشب فوثب الفرس إلى داخل الباب ووقع كل من كان على الجسر وكانوا أكثر من مائة مملوك فوقعوا في الخندق فمات منهم سبعة وآنهشم منهم خلق كثير وضاق صدر السلطان فقيل له‏:‏ هذه شدة يأتي من بعدها فرج‏.‏
وجلس السلطان بقلعة الكرك ووقف نائبها الأمير آقوش خجلًا وجلًا خائفًا أن يتوهم السلطان أن يكون ذلك مكيدة منه في حقه وكان النائب المذكور قد عمل ضيافة عظيمة للسلطان غرم عليها جملة مستكثرة فلم تقع الموقع لاشتغال السلطان بهمه وبما جرى على مماليكه وخاصكيته‏.‏
ثم إن السلطان سأل الأمير آقوش عن الجسر المذكور فقال‏:‏ ما سبب انقطاعه فقال آقوش بعد أن قبل الأرض‏:‏ أيد الله مولانا السلطان هذا الجسر عتيق وثقل بالرجال فما حمل فقال السلطان‏:‏ صدقت ثم خلع عليه وأمره بالانصراف‏.‏
وعندما آستقر السلطان بقلعة الكرك عرف الأمراء أنه قد انثنى عزمه عن الحج وآختار الإقامة بالكرك وترك السلطنة وخلع نفسه ليستريح خاطره‏.‏
وقال آبن كثير‏:‏ لما جرى على السلطان ما جرى واستقر في قلعة الكرك خلع على النائب وأذن له في التوجه إلى مصر فسافر‏.‏
وقال صاحب النزهة‏:‏ لما بات السلطان تلك الليلة في القلعة وأصبح طلب نائب الكرك وقال له‏:‏ يا جمال الدين سافر إلى مصر وآجتمع بخشداشيتك فباس الأرض وقال‏:‏ السمع والطاعة‏.‏
ثم إنه خرج في تلك الساعة بمماليكه وكل من يلوذ به‏.‏ ثم بعد ثلاثة أيام نادى السلطان بالقلعة والكرك‏:‏ لا يبقى هنا أحد لا كبير ولا صغير حتى يخرج فيجيب ثلاثة أحجار من خارج البلد فخرج كل من بالقلعة والبلد‏.‏
ثم إن السلطان أغلق باب الكرك ورجعت الناس ومعهم الأحجار فرأوا الباب مغلقًا فقيل لهم‏:‏ كل من له أولاد أو حريم يخرج إليه ولا يبقى أحد بالكرك فخرج الناس بمتاعهم وأولادهم وأموالهم وما أمسى المساء وبقي في الكرك أحد من أهلها غيره ومماليكه‏.‏
ثم طلب مملوكه أرغون الدوادار وقال له‏:‏ سر إلى عقبة أيلة وأحضر بيتي وأولادي فسار إليهم أرغون وأقدمهم عليه‏.‏
ووجد الملك الناصر من الأموال بالكرك سبعة وعشرين ألف دينار عينًا وألف ألف درهم وسبعمائة ألف درهم‏.‏
ثم إن السلطان طلب الأمراء الذين قدموا معه وعرفهم أنه اختار الإقامة بالكرك كما كان أولًا وأنه ترك السلطنة فشق عليهم ذلك وبكوا وقبلوا الأرض يتضرعون إليه في ترك هذا الخاطر وكشفوا رؤوسهم فلم يقبل ولا رجع إلى قولهم‏.‏
ثم استدعى القاضي علاء الدين علي بن أحمد بن سعيد بن الأثير كاتب السر وكان قد توجه معه وأمره أن يكتب للأمراء بالسلام عليهم ويعرفهم أنه قد رجع عن الحج وأقام بالكرك ونزل عن السلطنة وسألهم الإنعام عليه بالكرك والشوبك وأعطى الكتب للأمراء وأمرهم بالعودة إلى الديار المصرية وأعطاهم الهجن التي كانت معه برسم الحج وعدتها خمسمائة هجين والجمال والمال الذي قدمه له الأمراء برسم التقدمة قبل خروجه من القاهرة فساروا الجميع إلى القاهرة‏.‏
وأما إخراج السلطان أهل قلعة الكرك منها لأنه قال‏:‏ أنا أعلم كيف باعوا الملك السعيد بركة خان آبن الملك الظاهر بيبرس بالمال لطرنطاي‏!‏ فلا يجاورونني فخرج كل من كان فيها بأموالهم وحريمهم من غير أن يتعرض إليهم أحد البتة‏.‏
وأما النائب آقوش فإنه أخذ حريمه وسافر إلى مصر بعد أن قدم ما كان له من الغلال إلى السلطان وهو شيء كثير فقبله السلطان منه‏.‏
فلما قدم آقوش إلى مصر قال له سلار وبيبرس‏:‏ من أمرك بتمكين السلطان من الطلوع إلى القلعة يعني قلعة الكرك فقال‏:‏ كتابكم وصل إلي يأمرني بأن أنزل إليه وأطلعه إلى القلعة فقال‏:‏ وأين الكتاب فأخرجه فقالا‏:‏ هذا غير الكتاب الذي كتبناه فآطلبوا ألطنبغا فطلبوه فوجدوه قد هرب إلى الكرك عند السلطان فسكتوا عنه‏.‏ انتهى‏.‏
وأما الكتاب الذي كتبه الملك الناصر محمد بن قلاوون من الكرك إلى بيبرس وسلار مضمونه‏:‏ ‏"‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏
حرس الله تعالى نعمة الجنابين العاليين الكبيرين الغازيين المجاهدين وفقهما الله تعالى توفيق العارفين‏!‏ أما بعد فقد طلعت إلى قلعة الكرك وهي من بعض قلاعي وملكي وقد عولت على الإقامة فيها فإن كنتم مماليكي ومماليك أبي فأطيعوا نائبي يعني نائبه سلار ولا تخالفوه في أمر من الأمور ولا تعملوا شيئًا حتى تشاوروني فأنا ما أريد لكم إلا الخير وما طلعت إلى هذا المكان إلا لأنه أروح لي وأقل كلفة وإن كنتم ما تسمعون مني فأنا متوكل على الله والسلام ‏"‏‏.‏
فلما وصل الكتاب إلى الأمراء قرأوه وتشاوروا ساعة ثم قاموا من باب القلعة وذهبوا إلى دار بيبرس وآتفقوا على أن يرسلوا إلى الملك الناصر كتابًا فكتبوه وأرسلوه مع البرواني على البريدة فسار البرواني إلى أن وصل إلى الكرك واجتمع بالملك الناصر وقبل الأرض بين يديه وناوله الكتاب فأعطاه الملك الناصر لأرغون الدوادار فقرأه فتبسم السلطان وقال‏:‏ لا إله إلا الله‏!‏ وكان في الكتاب‏:‏ ‏"‏ ما علمنا ما عولت عليه وطلوعك إلى قلعة الكرك وإخراج أهلها وتشييعك نائبها وهذا أمل بعيد فحل عنك شغل الصبي وقم وآحضر إلينا وإلا بعد ذلك تطلب الحضور ولا يصح لك وتندم ولا ينفعك الندم‏.‏ فيا ليت لو علمنا ما كان‏.‏
وقع في خاطرك وما عولت عليه غير أن لكل ملك آنصرام ولانقضاء الدولة أحكام ولحلول الأقدار سهام ولأجل هذا أمرك غيك بالتطويل وحسن لك زخرف الأقاويل فالله الله حال وقوفك على هذا الكتاب يكون الجواب حضورك بنفسك ومعك مماليكك وإلا تعلم أنا ما نخليك في الكرك ولو كثر شاكروك ويخرج الملك من يدك والسلام ‏"‏‏.‏
فقال الملك الناصر‏:‏ لا إله إلا الله كيف أظهروا ما في صدورهم‏!‏ ثم أمر بإحضار آلة مثل العصائب والسناجق والكوسات وكل ما كان معه من آلة الملك وسلمها إلى البرواني وقال له‏:‏ قل لسلار ‏"‏ ما أخذت لكم شيئًا من بيت المال وهذا الذي أخذته قد سيرته لكم وآنظروا في حالكم فأنا ما بقيت أعمل سلطانًا وأنتم على هذه الصورة‏!‏ فدعوني أنا في هذه القلعة منعزلًا عنكم إلى أن يفرج الله تعالى إما بالموت وإما بغيره ‏"‏‏.‏
فأخذ البرواني الكتاب وجميع ما أعطاه السلطان وسار إلى أن وصل إلى الديار المصرية ودفع الكتاب لسلار وبيبرس فلما قرآ الكتاب قالا‏:‏ ‏"‏ ولو كان هذا الصبي يجيء ما بقي يفلح ولا يصلح للسلطنة وأي وقت عاد إلى السلطنة لا نأمن غدره ‏"‏‏.‏
فلما سمعت الأمراء ذلك اجتمعت على سلطنة الأمير سلار فخاف سلار من ذلك وخشي العاقبة فامتنع فآختار الأمراء ركن الدين بيبرس الجاشنكير وأكثرهم البرجية فإنهم خشداشيته‏.‏ وبويع له بعد أن أثبت كتاب الملك الناصر محمد بن قلاوون على القضاة بالديار المصرية بأنه خلع نفسه وكانت البيعة لبيبرس في الثالث والعشرين من شوال من سنة ثمان وسبعمائة في يوم السبت بعد العصر في دار سلار‏.‏
يأتي ذكر ذلك كله في أول ترجمة بيبرس إن شاء الله تعالى‏.‏ وكانت مدة سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون في هذه المرة الثانية عشر سنين وخمسة أشهر وتسعة عشر يومًا‏.‏
وتأتي بقية ترجمته في سلطنته الثالثة بعد أن نذكر سلطنة بيبرس وأيامه كما نذكر أيام الملك الناصر هذا قبل ترجمة بيبرس المذكور على عادة هذا الكتاب
السنة الأولى  للملك المنصور بن قلاوون على مصر وهي سنة ثمان وتسعين وستمائة على أن الملك المنصور لاجين كان حكم منها مائة يوم‏.‏
فيها كان قتل الملك المنصور حسام الدين لاجين المذكور ومملوكه منكوتمر حسب ما تقدم‏.‏
وفيها في العشر الأوسط من المحرم ظهر كوكب ذو ذؤابة في السماء ما بين أواخر برج الثور إلى أول برج الجوزاء وكانت ذؤابته إلى ناحية الشمال وكان في العشر الأخير من كانون الثاني وهو شهر طوبة‏.‏

وفيها توفي القاضي نظام الدين أحمد ابن الشيخ الإمام العلامه جمال الدين محمود بن أحمد بن عبد السلام الحصيري الحنفي في يوم الخميس ثامن المحرم ودفن يوم الجمعة بمقابر الصوفية بدمشق عند والده وكان إمامًا عالمًا بارعًا ذكيًا وله ذهن جيد وعبارة طلقة مفيدة ودرس بالنورية وغيرها وأفتى سنين وأقرأ وناب في الحكم بدمشق عن قاضي القضاة حسام الدين الحنفي وحسنت سيرته رحمه الله‏.‏
وفيها توفي الأمير عز الدين أيبك الموصلي نائب طرابلس والفتوحات الطرابلسية في أول صفر مسمومًا‏.‏ وكان من أجل الأمراء وله مواقف مشهورة‏.‏ وفيها توفي قتيلًا الأمير سيف الدين طغجي بن عبد الله الأشرفي‏.‏ أصله من مماليك الملك الأشرف خليل بن قلاوون‏.‏
وقتل أيضًا الأمير سيف الدين كرجي والأمير نوغاي الكرموني السلاح دار وهؤلاء الذين قتلوا السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين ومملوكه منكوتمر ثم قتلوا بعده بثلاثة أيام حسب ما تقدم ذكر ذلك كله في آخر ترجمة الملك المنصور لاجين مفصلًا وقتل معهم تمام آثني عشر نفرًا من الأمراء والخاصكية ممن تألبوا على قتل لاجين‏.‏
‏‏ كان أميرًا جليلًا معظمًا في الدول كان الظاهر بيبرس يقول‏:‏ هذا ابن سلطاننا في بلادنا‏!‏ وعرضت عليه السلطنة لما قتل الملك الأشرف خليل ابن قلاوون فامتنع وكانت قد عرضت عليه قبل ذلك بعد الملك السعيد بن الظاهر فلم يقبل وهو آخر من بقي من أكابر مماليك الملك الصالح نجم الدين أيوب وترقى حتى صار أمير مائة ومقدم ألف وعظم في الدول حتى قبض عليه خشداشه المنصور قلاوون وحبسه تسع سنين إلى أن أطلقه آبنه الأشرف خليل وأعاده إلى رتبته فاستمر إلى أن قبض عليه المنصور لاجين وحبسه إلى أن قتل لاجين وأعيد الناصر محمد بن قلاوون فكلموه في إطلاقه فأبى إلا حبسه إلى أن مات في الجب‏.‏ وكانت له دار عظيمة ببين القصرين وقد تغيرت رسومها الآن‏.‏
وقد سمي بهذا الاسم جماعة كثيرة قد ذكر غالبهم في هذا التاريخ منهم كتاب وغير كتاب وهم‏:‏ ياقوت أبو الدر الكاتب مولى أبي المعالي أحمد بن علي بن النجار التاجر الرومي وفاته بدمشق سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة وياقوت الصقلبي الجمالي أبو الحسن مولى الخليفة المسترشد العباسي وفاته سنة ثلاث وستين وخمسمائة وياقوت أبو سعيد مولى أبي عبد الله عيسى بن هبة الله بن النقاش وفاته سنة أربع وسبعين وخمسمائة وياقوت بن عبد الله الموصلي الكاتب أمين الدين المعروف بالملكي نسبة إلى أستاذه السلطان ملكشاه السلجوقي وياقوت هذا أيضًا ممن آنتشر خطه في الآفاق ووفاته بالموصل سنة ثماني عشرة وستمائة وياقوت بن عبد الله الحموي الرومي شهاب الدين أبو الدر‏:‏ كان من خدام بعض التجار ببغداد يعرف بعسكر الحموي وياقوت هذا هو صاحب التصانيف والخط أيضًا ووفاته سنة ست وعشرين وستمائة وياقوت بن عبد الله مهذب الدين الرومي مولى أبي منصور التاجر الجيلي وياقوت هذا كان شاعرًا ماهرًا وهو صاحب القصيدة التي أولها‏:‏ ووفاته سنة آثنتين وعشرين وستمائة‏.‏
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال‏:‏ وفيها توفي السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين المنصوري ومن الغد قتل نائبه منكوتمر ثم قتلوا الأميرين كرجي وطغجي الأشرفيين‏.‏
وأحضر السلطان الملك الناصر وعاد إلى السلطنة‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم خمس أذرع وأصابع‏.‏ مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وست عشرة إصبعًا‏.‏
السنة الثانية من سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون
الثانية على مصر فيها كانت وقعة السلطان الملك الناصر محمد المذكور مع قازان على حمص
 هذه السنة من وقعة حمص مع التتار قاضي القضاة حسام الدين الحنفي والشيخ عماد الدين إسماعيل ابن تاج الدين أحمد بن سعيد بن الأثير الكاتب والأمير جمال الدين المطروحي والأمير سيف الدين كرت والأمير ركن الدين الجمالي نائب غزة ولم يظهر للجميع خبر غير أنهم ذكروا أن قاضي القضاة حسام الدين المذكور أسروه التتار وباعوه للفرنج ووصل قبرص وصار بها حكيمًا وداوى صاحب قبرص من مرض مخيف فشفي فأوعده أن يطلقه فمرض القاضي حسام الدين المذكور ومات‏.‏ كذا حكى بعض أجناد الإسكندرية‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ثلاث أذرع وعدة أصابع‏.‏ مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وست أصابع وكان الوفاء ثالث عشر توت‏.‏

السنة الثالثة من سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون الثانية على مصر وهي سنة سبعمائة من الهجرة‏.‏
ولما كانت وقعة التتار في هذه السنة نزل أبو جلنك المذكور من قلعة حلب لقتال التتار وكان ضخمًا سمينًا فوقع عن فرسه من سهم أصاب الفرس فبقي راجلًا فأسروه وأحضروه بين يدي مقدم التتار فسأله عن عسكر المسلمين فرفع شأنهم فغضب مقدم التتار عليه اللعنة من ذلك فضرب عنقه‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم والحديث أعني مجموع النيل في هذه السنة ست عشرة ذراعًا وثماني عشرة إصبعًا‏.‏
السنة الرابعة من سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون الثانية على مصر وهي سنة إحدى وسبعمائة‏.‏
فيها في ثالث عشر من شهر ربيع الأول سافر الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير إلى الإسكندرية وصحبته جماعة كثيرة من الأمراء بسبب الصيد ورسم له السلطان أن مدة مقامه بالإسكندرية يكون دخلها له ثم أعطى السلطان لجميع الأمراء دستورًا لمن أراد السفر لإقطاعه لعمل مصالح بلاده وكان إذ ذاك يربعون خيولهم شهرًا واحدًا لأجل العدو المخذول‏.‏
وفيها توفي الأمير علم الدين سنجر بن عبد الله المعروف بأرجواش المنصوري نائب قلعة دمشق في ليلة السبت ثاني عشرين ذي الحجة وكان شجاعًا‏.‏
وهو الذي حفظ قلعة دمشق في نوبة غازان وأظهر من الشجاعة مالا يوصف على تغفل كان فيه حسب ما قدمنا من ذكره في أصل ترجمة الملك الناصر محمد بن قلاوون ما فعله وكيف كان حفظه لقلعة دمشق‏.‏
وأما أمر التغفل الذي كان به‏:‏ قال الشيخ صلاح الدين خليل بن أيبك في تاريخه‏:‏ حكى لي عنه عبد الغني الفقير المعروف قال‏:‏ لما مات الملك المنصور قلاوون أعني أستاذه قال لي‏:‏ أحضر لي مقرئين يقرأون ختمة للسلطان فأحضرت إليه جماعة فجعلوا يقرأون على العادة فأحضر دبوسًا وقال‏:‏ كيف تقرأون للسلطان هذه القراءة‏!‏ تقرأون عاليًا فضجوا بالقراءة جهدهم فلما فرغوا منها قلت‏:‏ يا خوند فرغت الختمة فقال‏:‏ يقرأون أخرى فقرأوها وقفزوا ما أرادوا فلما فرغوا أعلمته قال‏:‏ ويلك‏!‏ السماء ثلاثة والأرض ثلاثة والأيام ثلاثة والمعادن ثلاثة وكل ما في الدنيا ثلاثة يقرأون أخرى‏!‏ فقلت‏:‏ اقرأوها واحمدوا الله تعالى على أنه ما علم أن هذه الأشياء سبعة سبعة فلما فرغوا من الثلاثة وقد هلكوا من صراخهم قال‏:‏ دعهم عندك في الترسيم إلى بكرة ورح آكتب عليهم حجة بالقسامة الشريفة بالله تعالى وبنعمة السلطان أن ثواب هذه الختمات لمولانا السلطان الملك المنصور قلاوون ففعلت ذلك وجئت إليه بالحجة فقال‏:‏ هذا جيد أصلح الله أبدانكم وصرف لهم أجرتهم‏.‏
قلت‏:‏ ويلحق أرجواش هذا بعقلاء المجانين فإن تدبيره في أمر قلعة دمشق وقيامه في قتال غازان له المنتهى في الشجاعة وحسن التدبير‏.‏ انتهى‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ثلاث أذرع وأصابع‏.‏ مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعًا‏.‏
السنة الخامسة من سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون الثانية على مصر وهي سنة اثنتين وسبعمائة‏.
فيها في أول المحرم قدم الأمير بيبرس الجاشنكير من الحجاز ومعه الشريفان حميضة ورميثة في الحديد فسجنا بقلعة الجبل‏.‏
وفيها في رابع جمادى الآخرة ظهر بالنيل دابة كلون الجاموس بغير شعر واذناها كآذن الجمل وعيناها وفرجها مثل الناقة ويغطي فرجها ذنب طوله شبر ونصف طرفه كذنب السمك ورقبتها مثل ثخن التليس المحشو تبنًا وفمها وشفتاها مثل الكربال ولها أربع أنياب اثنتان فوق اثنتين في طول نحو شبر وعرض إصبعين وفي فمها ثمانية وأربعون ضرسًا وسنًا مثل بيادق الشطرنج وطول يدها من باطنها شبران ونصف ومن ركبتها إلى حافرها مثل أظافير الجمل وعرض ظهرها قدر ذراعين ونصف ومن فمها إلى ذنبها خمس عشرة قدمًا وفي بطنها ثلاثة كروش ولحمها أحمر له ذفرة السمك وطعمه مثل لحم الجمل وثخانة جلدها أربع أصابع لا تعمل فيه السيوف وحمل جلدها على خمسة جمال في مقدار ساعة من ثقله وكان ينقل من جمل إلى جمل وقد حشي تبنًا حتى وصل إلى قلعة الجبل‏.‏
وفيها كان بمصر والقاهرة زلزلة عظيمة أخربت عدة منائر ومبان كثيرة من الجوامع والبيوت حتى أقامت الأمراء ومباشرو الأوقاف مدة طويلة ترم وتجدد ما تشعث فيها من المدارس والجوامع حتى منارة الإسكندرية‏.‏
ركن الدين بيبرس الجاشنكير إبطـــــــــال عيد الشهيد
نقل هذا الجزء إلى الجزء الخاص بالبابا يؤنس البطريرك 80


أمر النيل في هذه السنة‏:‏ مبلغ الزيادة ثماني عشرة ذراعا سواء وكان الوفاء في سابع عشرين مسري‏.‏
السنة السادسة من سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاون الثانية على مصر وهي سنة ثلاث وسبعمائة‏.‏
فيها آنتدب الأمراء لعمارة ما خرب من الجوامع بالزلزلة في السنة الماضية وأنفقوا فيها مالًا جزيلًا‏.‏
وفيها كملت عمارة المدرسة الناصرية ببين القصرين ونقل الملك الناصر محمد بن قلاوون أمه من التربة المجاورة للمشهد النفيسي إليها‏.‏
وموضع هذه المدرسة الناصرية كان دارًا تعرف بدار سيف الدين بلبان الرشيدي فآشتراها الملك العادل زين الدين كتبغا وشرع في بنائها مدرسة وعمل بوابتها من أنقاض مدينة عكا وهي بوابة كنيسة بها ثم خلع كتبغا فاشتراها الملك الناصر محمد هذا على يد قاضي القضاة زين الدين علي بن مخلوف وأتمها وعمل لها أوقافًا جليلة من جملتها‏:‏ قيسارية أمير علي بالشرابشيين والربع المعروف بالدهيشة قريبًا من باب زويلة وحوانيت بباب الزهومة والحمام المعروفة بالفخرية بجوار المدرسة الفخرية وعدة أوقاف أخرى في مصر والشام‏.‏
وفيها توفي الأمير ركن الدين بيبرس التلاوي‏.‏
وفيها توفي القان إيل خان معز الدين قازان وقيل كازان وكلاهما يصح معناه ابن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن تولى بن جنكز خان ببلاد قزوين في ثاني عشر شوال وحمل إلى تربته وقبته التي أنشأها خارج تبريز‏.‏
وكان جلوسه على تخت الملك في سنة ثلاث وتسعين وستمائة وأسلم في سنة أربع وتسعين ونثر الذهب والفضة واللؤلؤ على رؤوس الناس وفشا الإسلام بإسلامه في ممالك التتار وأظهر العدل وتسمى محمودًا وكان أجل ملوك المغل من بيت هولاكو وهو صاحب الوقعات مع الملك الناصر محمد بن قلاوون والذي ملك الشام‏.‏
الماء القديم ثلاث أذرع وعدة أصابع‏.‏ مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وست عشرة إصبعًا‏.‏ وكان الوفاء أول أيام النسيء‏.‏
 السنة السابعة من سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون الثانية على مصر وهي سنة أربع وسبعمائة‏.‏
فيها توجه الأمير بيبرس الجاشنكير إلى الحجاز مرة ثانية ومعه علاء الدين أيدغدي الشهرزوري رسول ملك الغرب والأمير بيبرس المنصوري الدوادار والأمير بهاء الدين يعقوبًا وجماعة كثيرة من الأمراء وخرج ركب الحاج في عالم كثير من الناس مع الأمير عز الدين أيبك الخازندار زوج بنت الملك الظاهر بيبرس‏.‏
وفيها ظهر في معدن الزمرد قطعة زنتها مائة وخمسة وسبعون مثقالًا فأخفاها الضامن ثم حملها إلى بعض الملوك فدفع فيها مائة ألف وعشرين ألف درهم فأبى أن يبيعها فأخذها الملك منه غصبًا وبعث بها إلى السلطان فمات الضامن غمًا‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم أربع أذرع وأصابع‏.‏ مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا واثنتا عشرة إصبعًا وكان الوفاء رابع توت‏.‏
السنة الثامنة من سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون الثانية على مصر وهي سنة خمس وسبعمائة‏.‏
فيها قدمت هدية الملك المؤيد هزبر الدين داود صاحب اليمن فوجدت قيمتها أقل من العادة فكتب بالإنكار عليه والتهديد‏.‏
وفيها آستسقى أهل دمشق لقلة الغيث فسقوا بعد ذلك ولله الحمد‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم لم يحرر وزاد البحر حتى بلغ ثماني أذرع ونصفًا ثم توقف إلى ثامن مسري ثم زاد حتى أوفى في رابع توت‏.‏ وبلغ ست عشرة ذراعًا وخمس عشرة إصبعًا‏.‏
السنة التاسعة من سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون الثانية على مصر وهي سنة ست وسبعمائة‏.‏
فيها وقع بين الأميرين‏:‏ علم الدين سنجر البرواني وسيف الدين الطشلاقي على باب قلعة الجبل مخاصمة بحضرة الأمراء لأجل آستحقاقهما في الإقطاعات لأن الطشلاقي نزل على إقطاع البرواني وكان كل منهما في ظلم وعسف‏.‏
والبرواني من خواص بيبرس الجاشنكير والطشلاقي من ألزام سلار لأنه خشداشه كلاهما مملوك الملك الصالح علي ابن الملك المنصور قلاوون - ومات في حياة والده قلاوون - فسطا الطشلاقي على البرواني وسفه عليه فقام البرواني إلى بيبرس وآشتكى منه فطلبه بيبرس وعنفه فأساء الطشلاقي في رد الجواب وأفحش في حق البرواني وقال‏:‏ أنت واحد منفي تجعل نفسك مثل مماليك السلطان‏!‏ فاستشاط بيبرس غضبًا وقام ليضربه فجرد الطشلاقي سيفه يريد ضرب بيبرس فقامت قيامة بيبرس وأخذ سيفه ليضربه فترامى عليه من حضر من الأمراء وأمسكوه عنه وأخرجوا الطشلاقي من وجهه بعدما كادت مماليك بيبرس وحواشيه تقتله بالسيوف وفي الوقت طلب بيبرس الأمير سنقر الكمالي الحاجب وأمر بنفي الطشلاقي إلى دمشق فخشي سنقر من النائب سلار ودخل عليه وأخبره فأرسل سلار جماعة من أعيان الأمراء إلى بيبرس وأمرهم بملاطفته حتى يرضى عن الطشلاقي وأن الطشلاقي يلزم داره فلما سمع بيبرس ذلك من الذين حضروا صرخ فيهم وحلف إن بات الطشلاقي الليلة بالقاهرة عملت فتنة كبيرة فعاد الحاجب وبلغ سلار ذلك فلم يسعه إلا السكوت لأنهما أعني بيبرس وسلار كانا غضبا على الملك الناصر محمد وتحقق كل منهما متى وقع بينهما الخلف وجد الملك الناصر طريقًا لأخذهما واحدًا بعد واحد فكان كل من بيبرس وسلار يراعي الآخر وقد اقتسما مملكة مصر وليس للناصر معهما إلا مجرد الاسم في السلطنة فقط‏.‏ انتهى‏.‏
وأخرج الطشلاقي من وقته وأمر سلار الحاجب بتأخيره في بلبيس حتى يراجع بيبرس في أمره فعندما اجتمع سلار مع بيبرس في الخدمة السلطانية من الغد بدأ بيبرس سلار بما كان من الطشلاقي في حقه من الإساءة وسلار يسكنه ولا يسكن بل يشتد فأمسك سلار عن الكلام على حقد في الباطن وصار السلطان يريد إثارة الفتنة بينهما فلم يتم له ذلك‏.‏ وتوجه الطشلاقي إلى الشام منفيًا‏.‏
وفيها قدم البريد على الملك الناصر من حماة بمحضر ثابت على القاضي بأن ضيعة تعرف ببارين بين جبلين فسمع للجبلين في الليل قعقعة عظيمة فتسارع الناس في الصباح إليهما وإذا أحد الجبلين قد قطع الوادي وآنتقل منه قدر نصفه إلى الجبل الأخر والمياه فيما بين الجبلين تجري في الوادي فلم يسقط من الجبل المنتقل شيء من الحجارة ومقدار النصف المنتقل من الجبل مائة ذراع وعشر أذرع ومسافة الوادي الذي قطعه هذا الجبل مائة ذراع وأن قاضي حماة خرج بالشهود حتى عاين ذلك وكتب به محضرًا‏.‏ فكان هذا من الغرائب‏.‏
وفيها وقعت الوحشة بين بيبرس الجاشنكير وسلار بسبب كاتب بيبرس التاج ابن سعيد الدولة فإنه كان أساء السيرة ووقع بين هذا الكاتب المذكور وبين الأمير سنجر الجاولي وكان الجاولي صديقًا لسلار إلى الغايه فقام بيبرس في نصرة كاتبه وقام سلار في نصرة صاحبه الجاولي ووقع بينهما بسبب ذلك أمور وكان بيبرس من عادته أنه يركب لسلار عند ركوبه وينزل عند نزوله فمن يومئذ لم يركب معه وكادت الفتنة أن تقع بينهما ثم استدركا أمرها خوفًا من الملك الناصر وآصطلحا بعد أمور يطول شرحها وتكلما في أمر الوزر ومن يصلح لها فعين سلار كاتب بيبرس التاج ابن سعيد الدولة المقدم ذكره تقربًا لخاطر بيبرس بذلك فقال بيبرس‏:‏ ما يرضى فقال سلار‏:‏ دعني وإياه فقال بيبرس‏:‏ دونك وتفرقا‏.‏
فبعث سلار للتاج المذكور وأحضره فلما دخل عليه عبس وجهه وصاح بإزعاج‏:‏ هاتوا خلعة الوزارة فأحضروها وأشار إلى تاج الدولة المذكور بلبسها فتمنع فصرخ فيه وحلف لئن لم يلبسها ضرب عنقه فخاف الإخراق به لما يعلمه بغض سلار له فلبس التشريف وكان ذلك يوم الخميس خامس عشر المحرم من السنة وقبل يد سلار فبش في وجهه ووصاه وخرج تاج الدولة بخلعة الوزارة من دار النيابة بقلعة الجبل إلى قاعة الصاحب بها وبين يديه النقباء والحجاب وأخرجت له دواة الوزارة والبغلة فعلم على الأوراق وصرف الأمور إلى بعد العصر ثم نزل إلى داره‏.‏
وهذا كله بعد أن أمسك بيبرس سنجر الجاولي وصادره ثم نفاه إلى دمشق على إمرة طبلخاناه وولى مكانه أستادارًا الأمير أيدمر الخطيري صاحب الجامع ببولاق‏.‏
الماء القديم أربع أذرع وعدة أصابع‏.‏ مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وسبع أصابع وكان الوفاء في رابع عشر مسري‏.‏
السنة العاشرة من سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون الثانية على مصر وهي سنة سبع وسبعمائة‏.‏
فيها ورد الخبر عن ملك اليمن هزبر الدين داود بأمور تدل على عصيانه فكتب السلطان والخليفة بالإنذار ثم رسم السلطان للأمراء أن يعمل كل أمير مركبًا يقال لها‏:‏ جلبة وعمارة قياسة يقال لها‏:‏ فلوة برسم حمل الأزواد وغيرها لغزو بلاد اليمن‏.‏
وفيها عمر الأمير بيبرس الجاشنكير الخانقاه الركنية داخل باب النصر موضع دار الوزارة برحبة باب العيد من القاهرة ووقف عليها أوقافًا جليلة ومات قبل فتحها فأغلقها الملك الناصر في سلطنته الثالثة مدة ثم أمر بفتحها ففتحت‏.‏
وفيها عمر الأمير عز الدين أيبك الأفرم الصغير نائب دمشق جامعًا بالصالحية وبعث يسأل في أرض يوقفها عليه فأجيب إلى ذلك‏.‏
وفيها وقع الاهتمام على سفر اليمن وعول الأمير سلار أن يتوجه إليها بنفسه خشية من السلطان الملك الناصر وذلك بعد أن أراد السلطان القبض عليه وعلى بيبرس الجاشنكير عندما اتفق السلطان مع بكتمر الجوكندار وقد تقدم ذكر ذلك كله في أصل هذه الترجمة وأيضًا أنه شق عليه ما صار إليه بيبرس الجاشنكير من القوة والاستظهار عليه بكثرة خشداشيته البرجية والبرجية كانت يوم ذاك مثل مماليك الأطباق الآن وصار غالب البرجية أمراء فآشتدت شوكة بيبرس بهم بحيث إنه أخرج الأمير سنجر الجاولي وصادره بغير آختيار سلار وعظمت مهابته وآنبسطت يده بالتحكم وانفرد بالركوب في جمع عظيم وقصد البرجية في نوبة بكتمر الجوكندار إخراج الملك الناصر محمد إلى الكرك وسلطنة بيبرس لولا ما كان من منع سلار لسياسة وتدبير كانا فيه‏.‏
فلما وقع ذلك كله خاف سلار عواقب الأمور من السلطان ومن بيبرس وتحيل ف

ي الخلاص من ذلك بأنه يحج في جماعته ثم يسير إلى اليمن فيملكها ويمتنع بها ففطن بيبرس لهذا فدس عليه جماعة من الأمراء من أثنى عزمه عن ذلك ثم آقتضى الرأي تأخير السفر حتى يعود جواب صاحب اليمن‏.‏
وفيها حبس تقي الدين بن تيمية بعد أمور وقعت له‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم أربع أذرع وست أصابع‏.‏ مبلغ الزيادة ثماني عشرة ذراعًا وإصبع واحدة‏.‏
السنة الحادية عشرة من سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون الثانية على مصر وهي سنة ثمان وسبعمائة

وهي التي خلع فيها الملك الناصر المذكور من ملك مصر وأقام فيها أفرج عن الملك المسعود خضر ابن الملك الظاهر بيبرس البندقداري من البرج بقلعة الجبل وأسكن بدار الأمير عز الدين الأفرم الكبير بمصر وذلك في شهر ربيع الأول‏.‏
وفيها كان خروج الملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب الترجمة من القاهرة قاصدًا الحج وسار إلى الكرك وخلع نفسه
‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم أربع أذرع‏.‏ مبلغ الزيادة ثماني عشرة ذراعًا وإصبع واحدة مثل السنة الماضية‏.‏
السلطان الملك المظفر ركن الدين بيبرس بن عبد الله المنصوري الجاشنكير أصله من مماليك الملك المنصور قلاوون البرجية وكان جركسي الجنس ولم نعلم أحدًا ملك مصر من الجراكسة قبله إن صح أنه كان جركسيًا‏.‏
وتأمر في أيام أستاذه المنصور قلاوون وبقي على ذلك إلى أن صار من أكابر الأمراء في دولة الملك الأشرف خليل بن قلاوون‏.‏ ولما تسلطن الملك الناصر محمد بن قلاوون بعد قتل أخيه الأشرف خليل صار بيبرس هذا أستادارًا إلى أن تسلطن الملك العادل زين الدين كتبغا عزله عن الأستادارية بالأمير بتخاص وقيل‏:‏ إنه قبض على بيبرس هذا وحبسه مدة ثم أفرج عنه وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية‏.‏
واستمر على ذلك حتى قتل الملك المنصور حسام الدين لاجين فكان بيبرس هذا أحد من أشار بعود الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى الملك‏.‏
فلما عاد الناصر إلى ملكه تقرر بيبرس هذا أستادارًا على عادته وسلار نائبًا فأقاما على ذلك سنين إلى أن صار هو وسلار كفيلي الممالك الشريفة الناصرية والملك الناصر محمد معهما آلة في السلطنة إلى أن ضجر الملك الناصر منهما وخرج إلى الحج فسار إلى الكرك وخلع نفسه من الملك‏.‏
*******************************************

كنيسة الحمــــــــــرا وعدة كنائس أخرى

ذكر المؤرخ المقريزى المسلم فى كتابه المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار  - الجزء الثالث  116 / 167 : " فيما بين خط السبع سقايات إلى سوق المعاريج انحسر عنه الماء شيئًا بعد شيء وغرس بساتين فعمل عبد العزيز بن مروان أمير مصر قنطرة على فم هذا الخليج في سنة تسع وستين من الهجرة بأوّله عند ساحل الحمراء ليتوصل من فوق هذه القنطرة إلى جنان الزهريّ الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى‏.‏
وموضع هذه القنطرة بداخل حرك أقبغا المجاور لخط السبع سقايات وما برحت هذه القنطرة عندها السدّ الذي يُفتح عند الوفاء إلى ما بعد الخمسمائة من الهجرة فانحسر ماء النيل عن الأرض وغرست بساتين فعمل الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب بن شادي هذه القنطرة التي تُعرف اليوم بقنطرة السدّ خارج مصر ليتوصل من فوقها إلى بستان الخشاب وّزيد في طول الخليج ما بين قنطرة السباع الآن وبين قنطرة السدّ المذكورة وصار ما في شرقيه مما انحصر عنه الماء بستانًا عُرف ببستان الحارة وما في غربيه يُعرف ببستان المحليذ وكان بطرف خط السبع سقايات كنيسة الحمراء وعدّة كنائس أُخرَ بعضها الآن بحر أقبغا تُعرف بزاوية الشيخ يوسف العجميّ لسكناه بها عندما هُدمت بعد سنة عشرين وسبعمائة وما برحت هذه البساتين موجودة إلى أن استولى عليها الأمير أقبغا عبد الواحد استدار الملك الناصر محمد بن قلاون وقلع أخشابها وأذن للناس في عمارتها فحركها الناس وبنوا فيها الآدر وغيرها فعرفت بحرك أقبغا‏.‏
ذكر المؤرخ المقريزى المسلم فى كتابه المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار  - الجزء الثالث  116 / 167 : " حكر أقبغا هذا الحكر بجوار السبع سقايات بعضه بجانب الخليج الغربيّ وبعضه بجانب الخليج الشرقيّ كان بستانًا يُعرف قديمًا بجنان الحارة ويُسلك إليه من خط قناطر السباع على يمنة السالك طالبًا السبع سقايات بالقرب من كنيسة الحمراء وكان بعضه بستانًا يُعرف ببستان المحلي وهو الذي في غربيّ الخليج وكان بستان جنان الحارة بجوار بركة قاروق وينتهي إلى حوض الدمياطيّ الموجود الآن على يمنة من سلك من خط السبع سقايات إلى قنطرة السدّ فاستولى عليه الأمير أقبغا عبد الواحد استادار الملك الناصر محمد بن قلاوون وأذن للناس في تحكيره فحُكر وبني فيه عدّة مساكن‏.‏
وإلى يومنا هذا يُجبى حكره ويصرف في مصارف المدرسة الآقبغاوية المجاورة للجامع الأزهر بالقاهرة وأوّل من عمر في حكر أقبغا هذا أستادار الأمير جنكل بن الباب فتبعه الناس‏.‏
وفي موضع هذا الحكر كانت كنيسة الحمراء التي هدمها العامّة في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون كما ذكر عند ذكر الكنائس من هذا الكتاب‏.‏
ذكر المؤرخ المقريزى المسلم فى كتابه المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار  - الجزء الثالث  121 / 167 : " خط قناطر السباع‏:‏ كان هذا الخط في أوّل الإسلام يُعرف بالحمراء نزل فيه طائفة تعرف ببني الأزرق وبني روبيل ثم دئرت هذه الخطة وبقيت صحراء فيها ديارات وكنائس للنصارى تعرف بكنائس الحمراء فلما زالت دولة بني أمية ودخل أصحاب بني العباس إلى مصر في مصر اثنتين وثلاثين ومائة نزلوا في هذه الخطة وعمروا بها فصارت تتصل بالعسكر وقد تقدّم خبر العسكر في هذا الكتاب فلما خرب العسكر وصار هذا المكان بساتين وغيرها إلى أن حفر الملك الناصر محمد بن قلاوون البركة الناصرية وانشأ ميدان المهاري والزريبة والربعين بجوار الجامع الطيبرسيّ على شاطىء النيل بنى الناس في حكر أقبغا واتصلت العمائر من خط السبع سقايات وخط قناطر السباع حتى اتصلت بالقاهرة ومصر والقرافة وذلك كله من بعد سنة عشرين وسبعمائة‏
*****************************************************************
الخليج الناصريّ

ذكر المقريزى فى  المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار  الجزء الثالث  ( 123 من 167 )  : " الخليج الناصريّ هال الخليج يخرج من بحر النيل ويصب في الخليج الكبير وكان سبب حفره أنَّ الملك الناصر محمد بن قولان لما أنشأ القصور والخانقاه بناحية سرياقوس وجعل هناك ميدانًا يسرح إليه وأبطل ميدان القبق المعروف بالميدان الأسود ظاهر باب النصر من القاهرة وترك المسطبة التي بناها بالقرب من بركة الحبش لمطعم الطيور والجوارح اختار أن يُحفر خليجًا من بحر النيل لتمرّ فيه المراكب إلى ناحية سرياقوس لحمل ما يحتاج إليه من الغلال وغيرها فتقدّم إلى الأمير سيف الدين أرغون نائب السلطنة بديار مصر بالشكف عن عمل ذلك فنزل من قلعة الجبل بالمهندسين وأرباب الخبرة إلى شاطىء النيل وركب النيل فلم يزل القوم في فحص وتفتيش إلى أن وصلوا بالمراكب إلى موردة البلاط من أراضي بستان الخشاب فوجدوا ذلك الموضع أوطأ مكان يمكن أن يحفرو إلاّ أن فيه عدّة أراضي بستان الخشاب فوجدوا ذلك الموضع أوطأ مكان يمكن أن يحفر إلاّ أن فيه عدّة دور فاعتبروا فم الخليج من موردة البلاط وقدّروا أنه إذا حُفر مرّ الماء فيه من موردة البلاط إلى الميدان الظاهريّ الذي أنشأه الملك الناصر بستانًا ويمرّ من البستان إلى بركة قرموط حتى ينتهي إلى ظاهر باب البحر ويمرّ من هناك على أرض الطبالة فيصب في الخليج الكبير فلما تعين لهم ذلك عاد النائب إلى القلعة وطالعه بما تقرّر فبرز أمره لسائر أمراء الدولة بإحضاء الفلاحين من البلاد الجارية في إقطاعاتهم وكتب إلى ولاة الأعمال بجمع الرجال لحفر الخليج فلم يمض سوى أيام قلائل حتى حضر الرجال من الأعمالن وتقدّم إلى النائب بالنزول للحفر ومعه الحجاب فنزل لعمل ذلك وقاس المهندسون طول الحفر من موردة البلاط حيث تعين فم الخليج إلى أن يصب في الخليج الكبير وألزم كل أمير من الأمراء بعمل أقصاب فرضت له فلما أهلّ شهر جمادى الأولى سنة خمس وعشرين وسبعمائة وقع الشروع في العمل فبدأوا بهدم ما كان هناك من الأملاك التي من جهة باب اللوق إلى بركة قرموط وحصل الحفر في البستان الذي كان للنائب فأخذوا منه قطعة ورُسم أن يُعطى أرباب الأملاك أثمانها فمنهم من باع ملكه وأخذ ثمنه من مال السلطان ومنهم من هدم داره ونقل أنقاضها فهدمت عدّة دور ومساكن جليلة وحفر في عدّة بساتين فانتهى العمل في سلخ جمادى الآخرة على رأس شهرين وجرى الماء فيه عند زيادة النيل فأنشأ الناس عدّة سواق وجرت فيه السفن بالغلال وغيرها فسَر السلطان بذلك وحصل للناس رفق وقويت رغبتهم فيه فاشتروا عدّة أراض من بيت المال غرست فيها الأشجار وصارت بساتين جليلة وأخذ الناس في العمارة على حافتي الخليج فعمر ما بين المقس وساحل النيل ببولاق وكثرت العمائر على الخليج حتى اتصلت من أوّله بموردة البلاط إلى حيث يصب في الخليج الكبير بأرض الطبالة وصارت البساتين من وراء الأملاك المطلة على الخليج وتنافس الناس في السكنى هناك وأنشأوا الحمّامات والمساجد والأسواق وصار هذا الخليج مواطن أفراح ومنازل لهو ومغنى صبابات وملعب أتراب ومحل تيه وقصف فيما يمرّ فيه من المراكب وفيما عليه من الدور وما برحت مراكب النزهة تمرّ فيه بأنواع الناس على سبيل اللهو إلى أن مُنعت المراكب منه بعد قتل الأشراف كما يرد عند ذكر القناطر إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر المقريزى فى  المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار  الجزء الثالث  ( 124 من 167 )  : "  قنطرة قدادار‏:‏ هذه القنطرة على الخليج الناصريّ يتوصل إليها من اللوق ويُمشي فوقها إلى برّ الخليج الناصريّ مما يلي الفيل وأوّل ما وضعت كانت تجاه البستان الذي كان ميدانًا في زمن الملك الظاهر ركن الدين بيبرس إلى أن أنشأ الملك الناصر محمد بن قلاون الميدان الموجود الآن بموردة البلاط من جملة أراضي بستان الخشاب فغرس في الميدان الظاهريّ الأشجار وصار بستانًا عظيمًا كما ذكر ذلك في موضعه من هذا الكتاب وعُرفت هذه القنطرة بالأمير سيف الدين قدادار مملوك الأمير برلغي وكان من خبره أنه تنقل في الخدم حتى وليَّ الغريبة من أراضي مصر في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة فلقي أهل البلاد منه شرًّا كثيرًا ثم انتقل إلى ولاية البحيرة فلما كان في سنة أربع وعشرين كثرت الشناعة في القاهرة بسبب الفلوس وتعنت الناس فيها وامتنعوا من أخذها حتى وقف الحال وتحسن السعر وكان حينئذ يتقلد الوزارة الأمير علاء الدين مغلطاي الجماليّ ويتقلد ولاية القاهرة الأمير علم الدين سنجر الخازن فلما توجه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون من قلعة الجبل لى السرحة بناحية سرياقوس بلغه توقف الحال وطمع السوقة في الناس وأن متولي القاهرة فيه لين وانه قيل الحرمة على السوقة وكان السلطان كثير النفور من العامّة شديد البغض لهم ويريد كل وقت من الخازن أن يبطش بالحرافيش ويؤثر فيهم آثارًا قبيحة ويشهر منهم جماعة فلم يبلغ من ذلك غرضه فكرهه واستدعى الأمير أرغون نائب السلطنة وتقدّم إليه بالأغلاظ في القول على الخازن بسبب فساد حال الناس وهمّ ببروز أمره بالقبض عليه وأخذ ماله فما زال به النائب حتى عفا عنه‏.‏

وقال السلطان يعزله ويولي من ينفع في مثل هذا الأمر فاختار ولاية قدادار عوضه لما يُعرف من يقظته وشهامته وجراءته على سفك الدماء فاستدعاه من البحيرة وولاه ولاية القاهرة في أوّل شهر رمضان من السنة المذكورة‏.‏

فأوّل ما بدأ به أن أحضر الخبازين والباعة وضرب كثيرًا منهم بالمقارع ضربًا مبرّحًا وسمر عدّة منهم في دراريب حوانيتهم ونادى في البلد من ردّ فلسًا سُمِّر ثم عرض أهل السجن ووسط جماعة من المفسدين عند باب زويلة فهابته العامّة وذعروا منه وأخذ يتتبع من عَصَرَ خمرًا وأحضر عريف الحمالين وألزمه بإحضار من كان يحمل العنب فلما حضروا عنده استملاهم أسماء من يشتري العنب ومواضع مساكنهم ثم أحضر خفارء الحارات والأخطاط ولم يزل بهم حتى دلوه على سائر من عصر الخمر فاشتهر ذلك بين النا
س وخافوه فحوّل أهل حارة وزيلة وأهل حارتي الروم والديلم وغير ذلك من الأماكن ما عندهم من الخمر وصبوها في البلاليع والأقنية وألقوها في الأزقة وبذلوا المال لمن يأخذها منهم فحصل لكثير من العامّة والأطراف منها شيء كثير حتى صارت تباع كل جرّة خمر بدرهم ويمرّ الناس بأبواب الدور والأزقة فترى من جرار الخمر شيئًا كثيرًا ولا يقدر أحد أن يتعرّض لشيء منها ثم ركب وكبس خط باب اللوق وأخذ منه شيئًا كثيرًا من الحشيش وأحرقه عند باب زويلة واستمرّ الحال مدّة شهر ما من يوم إلاّ ويهرق فيه خمر عند باب زويلة ويحرق حشيش فطهر الله به البلد من ذلك جميعه وتتبع الزعَار وأهل الفساد فخافوه وفرّوا من البلد فصار السلطان يشكره ويثني عليه لما يبلغه من ذلك وأما العامّة فإنه ثقل عليها وكرهته حتى أنه لما تأمّر ابن الأمير بكتمر الساقي وركب إلى القبة المنصورية على العادة ومعه أبوه النائب وسائر الأمراء صاحت العامّة للأمير بكتمر الساقي يا أمير بكتمر بحياة ولدك أعزل هذا الظالم ورد علينا وإلينا يعنون الخازن فلما عرّف بكتمر السلطان ذلك أعجبه وقال‏:‏ يا أمير ما تخشى العامّة والسوقة إلاَّ ظالمًا مثل هذا ما يخاف الله تعالى وزاد إعجاب السلطان به حتى قال له‏:‏ لا تشاور في أمر المفسدين فلم يغترّ بذلك ورفع إليه جميع ما يتفق له وشاوره في كل جليل وحقير وقال له إن جماعة من الكتاب والتجار قد عصر والخمر واستأذنه في طلبهم ومصادرتهم فتقدّم له بمشاورة النائب في ذلك وإعلامه أن السلطان قد رسم بالكشف عمن عصر من الكتاب والتجار الخمر فلما صار إلى النائب وعرّفه الخبر أهانه وقال‏:‏ إن السلطان لا يرضى بكبس بيوت الناس وهتك حرمهم وسترهم وإقامة الشناعات وقام من فوره إلى السلطان وعرّفه ما يكون في فهل ذلك من الفساد الكبير وما زال به حتى صرف رأيه عما أشار به قدادار من كبس الدور وأخذ الناس في مماقتته والإخراق به في كل وقت فإنه كان يعني بالخازن ولم يعجبه عزله عن الولاية فكثر جورقدادار وزاد تتبعه للناس ونادى أن لا يعمل أحد حلقة فيما بين القصرين ولا يَسْمَر هناك وأمر أن لا يخرج أحد من بيته بعد عشاء الآخرة وأقام عنه نائبًا من بطالي الحسينية ضمن المسطبة منه في كل يوم بثلثمائة درهم وانحصر الناس منه وضاقوا به ذرعًا لكثرة ما هتك أستارهم وخرق بكثير من المستورين وتسلطت المستصنعة وأرباب المظالم على الناس وكانوا إذا رأوا سكران أوشموا منه رائحة خمر أحضروه إليه فتوقى الناس شرّه وشكاه الأمراء غير مرّة إلى السلطان فلم يلتفت لما يُقال فيه والنائب مستمرّ على الإخراق به إلى أن قبض عليه السلطان فخلا الجوّ لقدادار وأكثر من سفك الدماء وإتلاف النفوس والتسلط على العامّة لبغضهم إياه والسلطان يعجبه منه ذلك بحيث أنه أبرز مرسومًا لسائر عماله وولاته إن أحدًا منهم لا يقتص ممن وجب عليه القصاص في النفس أو القطع إلا أن يشاور فيه ويطالع بأمره ما خلا قدادار مستولي القاهرة فإنه لا يشاور على مفسد ولا غيره ويده مطلقة في سائر الناس فدهى الناس منه بعظائم وشرع في كبس بيوت السعداء ومشت جماعة من المستصنعين في البلد وكتبوا الأوراق ورموها في بيوت الناس بالتهديد فكثرت أسباب الضرر وكثر بلاء الناس به وتعنت على الباعة ونادى أن لا يفتح أحد حانوته بعد عشاء الآخرة فامتنع الناس من الخروج بالليل حتى كانت المدينة في الليل موحشة واستجدّ على كل حارة دربًا وألزم الناس بعمل ذلك فجبيت بهذا السبب دراهم كثيرة وصار الخفراء في الليل يدورون معهم الطبول في كل خط فظفر بإنسان قد سرق شيئًا من بيت في الليل وتزيا بزي النساء فسمَّرَهُ على باب زويلة وما زال على ذلك حتى كثرت الشناعة فعزله السلطان في سنة تسع وعشرين بناصر الدين بن الحسنيّ فأقام إلى أيام الحج وسافر إلى الحجاز ورجع وهو ضعيف فمات في سادس عشر صفر سنة ثلاثين وسبعمائة‏.‏
*******************************************************************************
المسلمون يدمرون التمثال الثانى لأبى الهول فى مصر إعتقاداُ أنه يوجد كنزاً تحته / صائم الدهر مرة أخرى

قال المقريزى  المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار  الجزء الثالث  ( 129 من 167 )  : " ويقال والله أعلم أنّ بلهيت الذي يُعرف اليوم بأبي الهول طلسم وضعه القدماء لقلب الرمال عن برّ مصر الغربيّ الذي يُعرف اليوم ببرذ الجيزة وأنه كان في البرّ الشرقيّ بجوار قصر الشمع صنم من حجارة على مسامتة أبي الهول بحيث لو امتدّ خيط من رأس أبي الهول وخرج على استواء لسقط على رأس هذا الصنم وكان مستقبل المشرق وأنه وضع أيضًا لقلب الرمل عن البرّ الشرقيّ فقدّر الله سبحانه وتعالى أن كسر هذا الصنم على يد بعض أمراء الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة إحدى عشرة سبعمائة وحفر تحته حتى بلغ الحفر إلى الماء ظنًا أنه يكون هناك كنز فلم يوجد شيء وكان هذا الصنم يُعرف عند أهل مصر بسريّة أبي الهول فكان عقيب ذلك غلبة النيل على النيلّ الشرقيّ وصارت هذه الجزائر الموجودة اليوم وكذلك قام شخص من صوفية الخانقاه الصلاحية سعيد السعداء يُعرف بالشيخ محمد صائم الدهر في تغيير المنكر أعوام بضع وثمانين وسبعمائة فشوّه وجوه سباع الحجر التي على قناطر السباع خارج القاهرة وشوّه وجه أبي الهول فغلب الرمل على أراضي الجيزة ولا يُنكر ذلك فللَّه في خليقته أسرار يُطلع عليها من يشاء من عباده والكلّ يخلقه وتقديره‏.‏
وقد ذكر الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه في كتاب أخبار مصر في خبر الواحات الداخلة أن في تلك الصحارى كانت أكثر مدن ملوك مصر العجيبة وكنوزهم إلا أن الرمال غلبت عليها‏.‏
قال‏:‏ ولم يبق بمصر ملك إلاّ وقد عمل للرمال طلسمًا لدفعها ففسدت طلسماتها لقدم الزمان‏.‏
****************************************************************************

قال المقريزى  المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار  الجزء الثالث  ( 031 من 761 )   : " فلما تسلطن الملك المنصور قلاون الألفي وشرع في بناء المارستان والقبلة والمدرسة المنصورية نقل من قلعة الروضة هذه ما يحتاج إليه من عمد الصوّان وعمد الرخام التي كانت قبل عمارة القلعة في البرابي وأخذ منها رخامًا كثيرًا وأعتابًا جليلة مما كان فيه البرابي وغير ذلك ثم أخذ منها السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون ما احتاج إليه من عمد الصوّان في بناء الإيوان المعروف بدار العدل من قلعة الجبل والجامع الجديد الناصري ظاهر مدينة مصر وأخذ غاير ذلك حتى ذهبت كأن لم تكن وتأخر منها عقد جليل تسميه العامّة القوس كان مما يلي جانبها الغربيّ أدركناه باقيًا إلى نحو سنة عشرين وثمانمائة وبقي من أبراجها عدّة قد انقلب أكثرها وبنى الناس فوقها دورهم المطلة على النيل‏

*******************************************************************************

موكب الملك السلطان محمد بن قلاوون

قال المقريزى  المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار  الجزء الثالث  ( 133 من 167 )   : "هذا الميدان من جملة أراضي بستان الخشاب فيما بين مدينة مصر والقاهرة وكان موضعه قديمًا غامرًا بماء النيل ثم عُرف ببستان الخشاب فلما كانت سنة أربع عشرة وسبعمائة هدم السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون الميدان الظاهريّ وغرس في أشجارًا كما تقدّم وأنشأ هذا الميدان من أراضي بستان الخشاب فإنه كان حينئذ مطلًا على النيل وتجهز في سنة ثمان عشرة وسبعمائة للركوب إليه وفرّق الخيول على جميع الأمراء واستجدّ ركوب الأوجاقية بكوا في الزركس على صفة الطاسات فوق رؤوسهم وسمّاهم الجفتاوات فيركب منهم اثنان بثوبي حرير أطلس أصفر وعلى رأس كلّ منهما كوفية الذهب وتحت كل واحد فرس أبيض بحلية ذهب ويسيران معًا بين يدي السلطان في ركوبه من قلعة الجبل إلى الميدان وفي عودته منه إلى القلة وكان السلطان إذا ركب إلى هذا الميدان للعب الأكرة يفرّق حوائص ذهب على الأمراء المقدّمين وركوبه إلى هذا الميدان دائمًا يوم السبت في قوّة الحرّ بعد وفاء النيل مدّة شهرين من السنة فيفرّق في كلّ ميدان على اثنين بالنوبة فمنهم من تجيء نوبته بعد ثلاث سنين أو أربع سنين وكان من مصطلح الملوك أن تكون تفرقة السلطان الخيول على الأمراء في وقتين أحدهما عندما يخرج إلى مرابط خيله في الربيع عند اكتمال تربيعها وفي هذا الوقت يعطي أمراء المئين الخيول مسرجة ملجمة بكنابيش مذهبة بفضة خفيفة وليس لأمراء العشروات خظ في ذلك إلاّ ما يتفقدهم به على سبيل الأنعام ولخاصكية السلطان المقرّبين من أمراء المئين وأمراء الطبلخانات زيادة كثيرة من ذلك بحيث يصل إلى بعضهم المائة فرس في السنة‏.‏

وكان من شعار السلطان أن يركب إلى الميدان وفي عنق الفرس رقبة حرير أطلس أصفر بزركش ذهب فتستر من تحت أذني الفرس إلى حيث السرج ويكون قدّامه اثنان من الأوشاقية راكبين على حصانين اشبهين برقبتين نظير ما هو راكب به كأنهما معدّان لأن يركبهما وعلى الأوشاقين المذكورين قباآن اصفران من حرير بطراز مزركش بالذهب وعلى رأسهما قبعان مزركشان وغاشية السرج محمولة أمام السلطان وهي أديم مزركش مذهب يحملها بعض الركا بدارية قدّامه وهو ماش في وسط الموكب ويكون قدّامه فارس يشيبب بشبابة لا يقصد بنغمها إلا طراب بل ما يقرع بالمهابة سامعة ومن خلف السلطان الجنائب وعلى رأسه العصائب السلطانية وهي صفر مطرزة بذهب بألقابه واسمه وهذا لا يختص بالركوب إلى الميدان بل يُعمل هذا الشعار أيضًا إذا ركب يوم العيد أو دخل إلى القاهرة أو إلى مدينة من مدن الشام ويزداد هذا الشعار في يوم العيدين ودخول المدينة برفع المظلة على رأسه ويقال لها الحبر وهو أطلس أصفر مزركش من أعلاه قبة وطائر من فضة مذهبة يحملها يومئذ بعض أمراء المئين الأكابر وهو راكب فرسه إلى جانب السلطان ويكون أرباب الوظائف والسلا حدارية كلهم خلف السلطان ويكون حوله وأمامه الطبردارية وهم طائفة من الاكراد ذوي الإقطاعات والأمرة ويكونون مشاة وبأيديم الأطباء المشهورة‏

******************************************************************************

قال المقريزى  المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار  الجزء الثالث  ( 134 من 167 )   : " السبع قاعات‏:‏ هذه القاعات تشرف على الميدان وباب القرافة عمّرها الملك الناصر محمد بن قلاون وأسكنها سراريه ومات عن ألف ومائتي وصيفة مولدة سوى من عداهنّ من بقية الأجناس‏

******************************************************************************

قال المقريزى  المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار  الجزء الثالث  ( 134 من 167 )   : " الجامع بالقلعة‏:‏ هذا الجامع أنشأه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة ثمان عشرة وسبعمائة وكان قبل ذلك هناك جامع دون هذا فهدمه السلطان وهدم المطبخ والحوائجخاناه والفرشخاناه وعمله جامعًا ثم أخربه في سنة خمس وثلاثين وسبعمائة وبناه هذا البناء فلما تم بناؤه جلس فيه واستدعى جميع مؤذني القاهرة ومصر وجميع القرّاء والخطباء وعرضوا بين يديه وسمع تأذينهم وخطابتهم وقراءتهم فاختار منهم عشرين مؤذنًا رتبهم فيه وقرّر فيه درس فقه وقارئًا يقرأ في المصحف وجعل عيه أوقافًا تكفيه وتفيض وصار من بعده من الملوك يخرجون أيام الجمع إلى هذا الجامع ويُحضر خاصة الأمراء معه من القصر ويجيء باقيهم من باب الجامع فيصلي السلطان عن يمين المحراب في مقصورة عن يمنتها ويسرتها على مراتبهم فذا انقضت الصلاة دخل إلى قصوره ودور حرمه وتفرّق كل أحد إلى مكانه‏.‏

وهذا الجامع متسع الأرجاء مرتفع البناء مفروش الأرض بالرخام مبطن السقوف بالذهب وبصدره قبة عالية يليها مقصورة مستورة هي والرواقات بشبابيك الحديد المحكمة الصنعة ويحف صحنه رواقات من جهاته‏.‏

موت المصريين من السخرة (تسخيرهم فى الأعمال)

قال المقريزى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار الجزء الثالث ( 137 من 167 ) : "الحوش‏:‏ ابتديء العمل فيه على أيام الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة وكان قياسه أربعة فدادين وكان موضعه بركة عظيمة قد قطع ما فيها من الحجر لعمارة قاعات القلعة حتى صارت غورًا كبيرًا ولما شُرع في العمل رتب على كلّ أمير من أمراء المئين مائة رجل ومائة بهيمة لنقل التراب برسم الردم وعلى كلّ أمير من أمراء الطبلخاناه بحسبه وندب الأمير أقبغا عبد الواحد شاد العمل فحضر من عند كلّ من الأمراء أستاداره ومعه جنده ودوا به للعمل وأحضر الأساري وسخر والي القاهرة ووالي مصر الناس وأحضرت رجال النواحي وجلس استاار كلّ أمير في خيمة ووزع العمل عليهم بالأقصاب ووقف الأمير أقبغا يستحث الناس في سرعة العمل وصار الملك الناصر يحضر في كلّ يوم بنفسه فنال الناس من العمل ضرر زائد وأخرق أقبغا بجامعة من أمائل الناس ومات كثير من الرجال في العمل لشدّة العسف وقوّة الحرّ وكان الوقت صيفًا فانتهى عمله في ستة وثلاثين يومًا وأُحضر إليه من بلاد الصعيد ومن الوجه البحريّ ألفي رأس غنم وكثيرًا من الأبقار البلق لتوقف في هذا الحوض فصار مراح غنم ومربط بقر وأجرى الماء إلى هذا الحوش من القلعة وأقام الأغنام حوله وتبع في كلّ المراحات من عيذاب وقوص إلى ما دونهما من البلاد حتى يؤخذ ما بهما من الأغنام المختارة وجلبها من بلاد النوبة ومن اليمن فبلغت عدّتها بعد موته ثلاثين ألف رأس سوى اتباعها وبلغ البقل الأخضر الذي يُشترى لفراخ الإوز في كلّ يوم خمسين درهمًا عنها زيادة على مثقالين من الذهب‏.‏

فلما كانت أيام الظاهر برقوق عمل المولد النبويّ بهذا الحوض في أوّل ليلة جمعة من شهر ربيع الأول في كلّ عام فإذا كان وقت ذلك ضربت خيمة عظيمة بهذا الحوض وجلس السلطان وعن يمينه شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان بن نصر البلقيني ويليه الشيخ المعتقد إبراهيم برهان الدين بن محمد بن بهادر بن أحمد بن رفاعة المغربيّ ويليه ولد شيخ الإسلام ومن دونه وعن يسار السلطان الشيخ أبو عبد الله محمد بن سلامة التوزريّ المغربيّ ويليه قضاة القضاة الأربعة وشيوخ العلم ويجلس الأمراء على بعد من السلطان فإذا فرغ القراء من قراءة القرآن الكريم قام المنشدون واحدًا بعد واحد وهم يزيدون على عشرين منشدًا فيدفع لكل واحد منهم صرّة فيها أربعمائة درهم فضة ومن كلّ أمير من أمراء الدولة شقة حرير فإذا انقضت صلاة المغرب مدّت أسمطة الأطعمة الفائقة فأكلت وحمل ما فيها ثم مدّت أسمطة الحلوى السكرية من الجواراشات والعقائد ونحوها فتُؤكل وتخطفها الفقهاء ثم يكون تكميل إنشاد المنشدين ووعظهم إلى نحو ثلث الليل فإذا فرغ المنشدون قام القضاة وانصرفوا وأقيم السماع بقية الليل واستمرّ ذلك مدّة أيامه ثم أيام ابنه الملك الناصر فرج‏

****************************************************************************

 قال المقريزى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار الجزء الثالث ( 931 من 761) : " السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون‏:‏ وأعيد إلى السلطنة مرّة ثانية في يوم الإثنين سادس جمادى الأولى وقام بتدبير الأمور الأميران سلار نائب السلطنة وبيبرس الجاشنكير أستادار حتى صار كأنه يريد الحج فمضى إلى الكرك وانخلع من السلطنة فكانت مدّته تسع سنين وستة أشهر وثلاثة عشر يومًا فقام من بعده‏.‏

******************************************************************************
دفن الملك الناصر محمد بن قلاوون

 قال المقريزى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار الجزء الثالث ( 139 من 167) : "ومن جملة أخبار القبة المنصورية‏ (1) ‏:‏ أنه لما كان في يوم الخميس مستهل المحرّم سنة تسعين وستمائة بعث الملك الأشرف صلاح الدين خليل بن قلاون بجملة مال تصدّق به في هذه القبة ثم أمر بنقل أبيه من القلعة فخرج سائر الأمراء ونائب السلطنة الأمير بيدرا بدر الدين والوزير الصاحب شمس الدين محمد بن السلعوس التنوخي وحضروا بعد صلاة العشاء الاَخرة ومشوا بأجمعهم قدّام تابوت الملك المنصور إلى الجامع الأزهر وحضر فيه القضاة ومشايخ الصوفية فتقدّم قاضي القضاة تقيّ الدين بن دقيق العيد وصلى على الجنازة وخرج الجميع أمامها إلى القبة المنصورية حتى دفن فيها وذلك في ليلة الجمعة ثاني المحرّم وقيل عاشره ثم عاد الوزير والنائب من الدهليز خارج القاهرة إلى القبة المنصورية لعمل مجتمع بسبب قراءة ختمه كريمة في ليلة الجمعة ثامن عشري صفر منها وحضر المشايخ والقرّاء والقضاة في جمع موفور وفرّق في الفقراء صدقات جزيلة ومدّت أسمطة كثيرة وتفرّقت الناس أطعمتهاحتى امتلأت الأيدي بها وكانت إحدى الليالي الغرّ كثر الدعاء فيها للسلطان وعساكر الإسلام بالنصر على أعداء الملة وحضر الملك الأشرف بكرة يوم الجمعة إلى القبة المنصورية وفرّق مالًا كثيرًا وكان الملك الأشرف قد برز يريد المسير لجهاد الفرنج وأخذ مدينة عكا فسار لذلك وعاد في العشرين من شعبان وقد فتح الله له مدينة عكا عنوة بالسيف وخرّب أسوارها وكان عبوره إلى القاهرة من باب النصر وقد زينت القاهرة زينة عظيمة فعندما حاذى باب المارستان نزل إلى القبة المنصورية وقد غصت بالقضاة والأعيان والقرّاء والمشايخ والفقهاء فتلقوة كلهم بالدعاء حتى جلس فأخذ القرّاء في القراءة وقام نجم الدين محمد بن فتح الدين محمد بن عبد الله بن مهلهل بن غياث بن نصر المعروف بابن العنبريّ الواعظ وصعد منبرًا نصب له فجلس عليه وافتتح ينشد قصيدة تشتمل على ذكر الجهاد وما فيه من الأجر فلم يسعد فيها بحظ وذلك أنه افتتحها بقوله‏:‏ فعندما سمع الأشرف هذا البيت تطير منه ونهض قائمًا وهو يسب الأمير بيدرا نائب السلطنة لشدة حنقه وقال‏:‏ ما وجد هذا شيأ يقوله سوى هذا البيت فاخذ بيدرًا في تسكين حنقه والاعتذار له عن ابن العنبريّ بأنه قد انفرد في هذا الوقت بحسن الوعظ ولا نظير له فيه إلاأنه لم يرزق سعادة في هذا الوقت فلم يَصغ السلطان إلى قوله وسار فانفض المجلس على غير شيء وصعد السلطان إلى قلعة الجبل ثم بعد أيام سأل السلطان عن وقف المارستان وأحب أن يجدد له وقفًا من بلاد عكا التي افتتحها بسيفه فاستدعى القضاة وشاورهم فيما همّ به من ذلك فرغبوه فيه وحثوه على المبادرة إليه فعين أربع ضياع من ضياع عكار وصور ليقفها على مصالح المدرسة والقبة المنصورية ما تحتاج إليه من ثمن زيت وشمع ومصابيح وبسط وكلفة الساقية وعلى خمسين مقرئًا يرتبون لقراءة القرآن الكريم بالقبة وإمام راتب يُصلّى بالناس الصلوات الخمس في محراب القبة وستة خدّام يقيمون بالقبة وهي الكابرة وتل الشيوخ وكردانة وضواحيها من عكا ومن ساحل صور معركة وصدفين وكتب بذلك كتاب وَقْفٍ وجعل النظر في ذلك لوزيره الصاحب شمس الدين محمد بن السلعوس‏.‏


 

=====================================================================

(1) القبة المنصورية‏:‏ هذه القبة تجاه المدرسة المنصورية وهما جميعًا من داخل باب المارستان المنصوريّ وهي من أعظم المباني الملوكية وأجلّها قدرًا وبها قبر تضمن الملك المنصور سيف الدين قلاون وابنه الملك الناصر محمد بن قلاون والملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن محمد بن قلاون‏.‏

وبها قاعة جليلة في وسطها فسقية يصل إليها الماء من قوّارة بديعة الزي وسائر هذه القاعة مفروش بالرخام الملوّن وهذه القاعة معدّة لإقامةالخدام الملوكية الذين يعرفون اليوم في الدولة التركية بالطواشية وأحدهم طواشي وهذه لفظة تركية أصلها بلغتهم طابوشي فتلاعبت بها العامة وقالت طواشي وهو الخصيّ ولهؤلاء الخدام في كلّ يوم ما يكفيهم من الخبز النقي واللحم المطبوخ وفي كل شهر من المعاليم الوافرة ما فيه غنية لهم وأدركتهم ولهم حرمة وافرة وكلمة نافذة وجانب مرعيّ ويعد شيخهم من أعيان الناس يجلس على مرتبة وبقية الخدّام في مجالسهم لا يبرحون في عبادة وكان يستقرّ في وظائف هذه الخدمة أكابر خدّام السلطان ويقيمون عنهم نوّابًا يواظبون الإقامة بالقبة ويرون مع سعة أحوالهم وكثرة أموالهم من تمام فخرهم وكمال سيادتهم انتماءهم إلى خدمة القبة المنصورية ثم تلاشى الحال بالنسبة إلى ما كان والخدّام بهذه القاعة إلى اليوم وقصد الملوك بإقامة الخدّام في هذه القاعة التي يتوصل إلى القبة منها إقامة ناموس الملك بعد الموت كما كان في مدّة الحياة وهم إلى اليوم لا يمكنون أحدًا من الدخول إلى القبة إلاّ من كان من أهلها ولله دريحي بن حكم البكريّ الجياني المغربي الملقب بالغزال لجماله حيث يقول‏:‏ أرى أهل الثراء إذا توفوا بنوا تلك المقابِرِ بالصخورِ‏ومن جملة أخبار هذه القبة‏:‏ أنه لما كان في يوم الخميس مستهل المحرّم سنة تسعين وستمائة بعث الملك الأشرف صلاح الدين خليل بن قلاون بجملة مال تصدّق به في هذه القبة ثم أمر بنقل أبيه من القلعة فخرج سائر الأمراء ونائب السلطنة الأمير بيدرا بدر الدين والوزير الصاحب شمس الدين محمد بن السلعوس التنوخي وحضروا بعد صلاة العشاء الاَخرة ومشوا بأجمعهم قدّام تابوت الملك المنصور إلى الجامع الأزهر وحضر فيه القضاة ومشايخ الصوفية فتقدّم قاضي القضاة تقيّ الدين بن دقيق العيد وصلى على الجنازة وخرج الجميع أمامها إلى القبة المنصورية حتى دفن فيها وذلك في ليلة الجمعة ثاني المحرّم وقيل عاشره ثم عاد الوزير والنائب من الدهليز خارج القاهرة إلى القبة المنصورية لعمل مجتمع بسبب قراءة ختمه كريمة في ليلة الجمعة ثامن عشري صفر منها وحضر المشايخ والقرّاء والقضاة في جمع موفور وفرّق في الفقراء صدقات جزيلة ومدّت أسمطة كثيرة وتفرّقت الناس أطعمتهاحتى امتلأت الأيدي بها وكانت إحدى الليالي الغرّ كثر الدعاء فيها للسلطان وعساكر الإسلام بالنصر على أعداء الملة وحضر الملك الأشرف بكرة يوم الجمعة إلى القبة المنصورية وفرّق مالًا كثيرًا وكان الملك الأشرف قد برز يريد المسير لجهاد الفرنج وأخذ مدينة عكا فسار لذلك وعاد في العشرين من شعبان وقد فتح الله له مدينة عكا عنوة بالسيف وخرّب أسوارها وكان عبوره إلى القاهرة من باب النصر وقد زينت القاهرة زينة عظيمة فعندما حاذى باب المارستان نزل إلى القبة المنصورية وقد غصت بالقضاة والأعيان والقرّاء والمشايخ والفقهاء فتلقوة كلهم بالدعاء حتى جلس فأخذ القرّاء في القراءة وقام نجم الدين محمد بن فتح الدين محمد بن عبد الله بن مهلهل بن غياث بن نصر المعروف بابن العنبريّ الواعظ وصعد منبرًا نصب له فجلس عليه وافتتح ينشد قصيدة تشتمل على ذكر الجهاد وما فيه من الأجر فلم يسعد فيها بحظ وذلك أنه افتتحها بقوله‏:‏ فعندما سمع الأشرف هذا البيت تطير منه ونهض قائمًا وهو يسب الأمير بيدرا نائب السلطنة لشدة حنقه وقال‏:‏ ما وجد هذا شيأ يقوله سوى هذا البيت فاخذ بيدرًا في تسكين حنقه والاعتذار له عن ابن العنبريّ بأنه قد انفرد في هذا الوقت بحسن الوعظ ولا نظير له فيه إلاأنه لم يرزق سعادة في هذا الوقت فلم يَصغ السلطان إلى قوله وسار فانفض المجلس على غير شيء وصعد السلطان إلى قلعة الجبل ثم بعد أيام سأل السلطان عن وقف المارستان وأحب أن يجدد له وقفًا من بلاد عكا التي افتتحها بسيفه فاستدعى القضاة وشاورهم فيما همّ به من ذلك فرغبوه فيه وحثوه على المبادرة إليه فعين أربع ضياع من ضياع عكار وصور ليقفها على مصالح المدرسة والقبة المنصورية ما تحتاج إليه من ثمن زيت وشمع ومصابيح وبسط وكلفة الساقية وعلى خمسين مقرئًا يرتبون لقراءة القرآن الكريم بالقبة وإمام راتب يُصلّى بالناس الصلوات الخمس في محراب القبة وستة خدّام يقيمون بالقبة وهي الكابرة وتل الشيوخ وكردانة وضواحيها من عكا ومن ساحل صور معركة وصدفين وكتب بذلك كتاب وَقْفٍ وجعل النظر في ذلك لوزيره الصاحب شمس الدين محمد بن السلعوس‏.‏
فلما تمّ ذلك تقدّم بعمل مجتمع بالقبة لقراءة ختمة كريمة‏.‏
وذلك ليلة الاثنين رابع ذي القعدة سنة تسعين وستمائة فاجتمع القراء والوعاظ والمشايخ والفقراء والقضاة لذلك وخلع على عامة أرباب الوظائف والوعاظ وفرقت في الناس صدقات جمة وعمل مهم عظيم احتفل فيه الوزير احتفالًا زائدًا وبات الأمير بدر الدين بيدرًا نائب السلطنة والأمير الوزير شمس الدين محمد بن السلعوس بالقبة وحضر السلطان ومعه الخليفة الحاكم بأمر اللّه أحمد وعليه سواده فخطب الخليفة خطبة بليغة حرّض فيها على أخذ العراق من التتار فلما فرغ من المهمّ أفاض السلطان على الوزير تشريفًا سنيًا وفي يوم الخميس حادي عشر ربيع الأوّل سنة إحدى وتسعين وستمائة اجتمع القرّاء والوعاظ والفقهاء والأعيان بالقبة المنصورية لقراءة ختمة شريفة ونزل السلطان الملك الأشرف وتصدّق بمال كثير وآخر من نزل إلى القبة المنصورية من ملوك بني قلاون السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون في سنة إحدى وستين وسبعمائة وحضر عنده بالقبة مشايخ العلم وبحثوا في العلم وزار قبر أبيه وجدّه ثم خرج فنظر في أمر المرضى بالمارستان وتوجه إلى قلعة الجبل ‏.‏
هذه المدرسة بجوار القبة المنصورية من شرقيها كان موضعها حمّامًا فأمر السلطان الملك العادل زين الدين كتبغا المنصوري بإنشاء مدرسة موضعها فابتدىء في عملها ووضع أساسها وارتفع بناؤها عن الأرض إلى نحو الطراز المذهب الذي بظاهرها فكان من خلعه ما كان فلما عاد السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون إلى مملكة مصر في سنة ثمان وتسعين وستمائة أمر بإتمامها فكملت في سنة ثلاث وسبعمائة وهي من أجلّ مباني القاهرة وبابها من أعجب ما عملته أيدي بني آدم فإنه من الرخام الأبيض البديع الزيّ‏.‏
الفائق الصناعة ونقل إلى القاهرة من مدينة عكا وذلك أن الملك الأشرف خليل بن قلاون لما فتح عكا عنوة في سابع عشر جمادى الأولى سنة تسعين وستمائة أقام الأمير علم الدين سنجر الشجاعي لهدم أسوارها وتخريب كنائسها فوجد هذه البوّابة على باب كنيسة من كنائس عكا وهي من رخام قواعدها وأعضادها وعمدها كل ذلك متصل بعضه ببعض فحمل الجميع إلى القاهرة وأقام عنده إلى أن قُتل الملك الأشرف وتمادى الحال على هذا أيام سلطنة الملك الناصر محمد الأولى فلما خُلع وتملك كتبغا أخذ دار الأمير سيف الدين بلبان الرشيدي ليعملها مدرسة فدل على هذه البوّابة فأخذها من ورثة الأمير بيدرا فإنها كانت قد انتقلت إليه وعملها كتبغا على باب هذه المدرسة‏.‏
فلما خُلع من المُلك وأقيم الناصر محمد اشترى هذه المدرسة قبل إتمامها والإشهاد بوقفها وولى شراءها وصيه قاضي القضاة زين الدين علي بن مخلوف المالكيّ وأنشأ بجوار هذه المدرسة من داخل بابها قبة جليلة لكنها دون قبة أبيه ولما كملت نقل إليها أمّه بنت سكباي بن قراجين ووقف على هذه المدرسة قيسارية أمير على بخط الشرابشيين من القاهرة والربع الذي يعلوها وكان يُعرف بالدهيشة ووقف عليها أيضًاحوانيت بخط باب الزهومة من القاهرة ودار الطعم خارج مدينة دمشق فلما مات ابنه انوك من الخاتون طغاي في يوم الجمعة سابع عشر ربيع الأوّل سنة إحدى وأربعين وسبعمائة وعمره ثماني عشرة سنة دفنه بهذه القبة وعمل عليها وقفًا يختص بها وهو باق إلى اليوم يصرف لقرّاء وغير ذلك‏.‏
وأول من رتبَ في تدريس المدرسة الناصرية من المدرسين قاضي القضاة زين الدين عليّ بن مخلوف المالكيّ ليدرّس فقه المالكية بالإيوان الكبير القبلي وقاضي القضاة شرف الدين عبد الغنيّ الحرّاني ليدرّس فقه الحنابلة بالإيوان الغربيّ وقاضي القضاة أحمد بن السروجيّ الحنفيّ ليدرّس فقه الحنفية بالإيوان الشرقيّ والشيخ صدر الدين محمد بن المرحل المعروف بابن الوكيل الشافعي ليدرّس فقه الشافعية بالإيوان البحريّ‏.‏
وقرّر عند كل مدرس منهم عدّة من الطلبة وأجرى عليهم المعاليم ورتب بها إمامًا يؤم بالناس في الصلوات الخمس وجعل بها خزانة كتب جليلة وأدرَكْتُ هذه المدرسة وهي محترمة إلى الغاية يجلس بدهليزها عدّة من الطواشية ولا يمكن غريب أن يصعد إليها وكان يفرّق بها على الطلبة والقرّاء وسائر أرباب الوظائف بها السكر في كلّ شهر لكل أحد منهم نصيب ويفرّق عليهم لحوم الأضاحي في كل سنة وقد بطل ذلك وذهب ما كان لها من الناموس وهي اليوم عامرة من أجلِّ المدارس‏

********************************

فى يناير 1314 وقت احتفالات المسيحيين احتاج المسيحيين فى الكنيسه المعلقه قناديل فسلفهم المسلمين قناديل من جامع عمرو بن العاص فعلقوها فى الكنيسه المعلقه لكن ده مارضيش راجل متعصب من المعممين اسمه الشيخ نور الدين على بن عبد الوارث البكرى فإتخانق مع المسلمين اللى سلفوا قناديل الجامع للمسيحيين و لم ناس من جماعته و راح بيهم على الكنيسه المعلقه و اتخانق مع المسيحيين و نزل القناديل ، و راح على قلعة الجبل و نزل شتيمه فى الدوله و طلب مقابلة السلطان الناصر محمد بن قلاوون ، فجاب الناصر القضاه و الفقها و دخله عشان يشرح قضيته فقعد البكرى ده يعيد و يزيد فى كلام دينى متعصب و يشتم فى المسيحيين و يلبخ فى الكلام زى عادة المتعصبين و راح قايل للسلطان : " أفضل المعروف كلمة حق عند سلطان جائر، و أنت وليت القبط المسالمة، و حكمتهم فى دولتك وفى المسلمين، وأضعت أموال المسلمين فى العمائر والإطلاقات التى لا تجوز " ( يعنى مش عاجبه مساواة المواطنين المصريين و حركة التعمير و التطوير الإقتصادى اللى كان بيعملها الملك الناصر و بيعتبرها بذخ و حرام و انه بكده فى مفهومه سلطان ظالم ). فإستغرب الملك الناصر من الكلام ده و قاله " حيلك ، أنا جاير ؟ " فإتبجح الراجل المتعصب و رد : " نعم! أنت سلطت الأقباط على المسلمين، وقويت دينهم ". الملك الناصر اتغاظ من كلام الراجل المتعصب و مابقاش عارف يعمل فيه ايه و حاشه عنه الأمير " طغاى " فبص الناصر لقاضى القضاه و قاله : " كده يا قاضى بيتجرأ على ؟ ايه المفروض اعمله فيه ؟ قل لى " ، فرد قاضى تانى اسمه " ابن جماعه " على السلطان و قال : " قد تجرأ ولم تبق إلا مراحم مولانا ". حس الناصر بإهانه كبيره من الراجل المتعصب و اتدخل الامرا عشان يحوشوه عنه و اتشفعوله عشان يسيبه فسابه لكن امره انه يمشى من مصر و مايوريهوش خلقته تانى.

استمر الناصر محمد بن قلاوون فى حركة تطوير مصر و تعميرها و بنا اقتصادها و حارب الفساد الادارى و غير القوانين و منع ضرايب جايره كانت معموله لنهب الناس و قضى على طبقات الامرا و الموظفين المرتشين ، و اشتغل المصريين مسلمين و مسيحيين فى دواوين الدوله و اترقى الاقباط لمراكز عاليه رغم ضغوط المتعصبين من طبقة " المعممين " اللى شافوا ان الوظايف الكبيره بتطير منهم لصالح اداريين اقباط و مسلمين مش من دوايرهم ، و عاشت مصر ازهى عصورها و بقت كل بلاد الدنيا وقتها بتتقرب منها و بتخطب ودها. و استمر المصريين المسلمين و المسيحيين متعايشين لغاية سنة 1321 لما هبت على مصر ريح التطرف و التعصب الدينى بطريقه غريبه و كانت حا تتسبب فى تدمير القاهره نفسها
***..
المراجع :القس منسى يوحنا : تاريخ الكنيسة القبطية، مكتبة المحبه، القاهره 1983.
المقريزى : المواعظ و الاعتبار بذكر الخطط والأثار ، مطبعة الأدب، القاهرة 1968.

 

This site was last updated 05/25/13