السلطان الملك الناصر شهاب الدين أحمد ابن الملك الناصر على مصر سنة 742 هـ
سلطنة الملك الناصر أحمد السلطان الملك الناصر شهاب الدين أحمد ابن السلطان الملك الناصر ناصر الدين محمد ابن.
السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون.
تسلطن بعد خلع أخيه الأشرف كجك وكان بويع بالسلطنة قبل خلع كجك أيضًا وهو بقلعة الكرك حسب ما ذكرناه في واقعة قطلوبغا الفخري مع ألطنبغا الصالحي نائب الشام.
إلى حادي عشرين صفر على أنه حكم من السنة الماضية تسعة أيام. ثم حكم فيها من صفر إلى يوم الخميس أول شعبان الملك الأشرف كجك. ثم حكم فيما بقي منها الملك الناصر أحمد هذا والثلاثة أولاد الناصر محمد بن قلاوون حسب ما تقدم ذكره سنة آثنتين وأربعين وسبعمائة
وأم الملك الناصر هذا كان آسمها بياض كانت تجيد الغناء وكانت من عتقاء الأمير بهادر آص رأس نوبة وكانت تعرف بقومة وكان للناس بها اجتماعات في مجالس أنسهم. فلما بلغ السلطان الملك الناصر خبرها طلبها وآختص بها وحظيت عنده فولدت أحمد هذا على فراشه. ثم تزوجها بعد ذلك الأمير ملكتمر السرجواني في حياة الملك الناصر محمد. انتهى.
قلت: والملك الناصر أحمد هذا هو الخامس عشر من ملوك الترك بالديار المصرية والثالث من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاوون.
والآن نذكر ما وقع بالديار المصرية بعد خلع الأشرف كجك إلى حين دخول الملك الناصر هذا إليها من الكرك.
ولما قبض أيدغمش على قوصون وخلع الملك الأشرف كجك من السلطنة حسب ما تقدم ذكره بعث بالأمير جنكلي بن البابا والأمير بيبرس الأحمدي والأمير قماري أمير شكار إلى الملك الناصر أحمد بالكرك وعلى يدهم كتب الأمراء يخبرونه بما وقع ويستدعونه إلى تخت ملكه.
ثم جلس الأمير سيف الدين أيدغمش والأمير ألطنبغا المارداني والأمير بهادر الدمرداشي والأمير يلبغا اليحياوي وآستدعوا الأمراء فلما حضروا أمر أيدغمش بالقبض على ألطنبغا الصالحي الناصري نائب الشام وعلى الأمير أرقطاي نائب طرابلس وسجنا بقلعة الجبل وأمسكوا بعدهما سبعة أمراء أخر من أمراء الطبلخاناه والأمير قياتمر أحد مقدمي الألوف وجركتمر بن بهادر أيضًا من مقدمي الألوف وعدة أمراء أخر حتى كانت عدة من قبض عليه من الأمراء في هذا اليوم خمسة وعشرين أميرًا. ثم كتب الأمير أيدغمش إلى الأمير قطلوبغا الفخري يعرفه بما وقع ويحرضه على الحضور صحبة السلطان الملك الناصر أحمد.
ثم طلب أيدغمش جمال الدين يوسف والي الجيزة وخلع عليه بولاية القاهرة فنزل إلى القاهرة فإذا بالعامة في نهب بيوت مماليك قوصون فقبض على عشرين منهم وضربهم بالمقارع وسجنهم بعدما شهرهم فآجتمت الغوغاء ووقفوا لأيدغمش وصاحوا عليه: وليت على الناس واحد قوصوني ما يخلي منا واحدًا! وعرفوه ما وقع فبعث الأوجاقية في طلبه فوجدوه بالصليبة يريد القلعة فصاحت عليه الغوغاء: قوصوني! يا غيرية على الملك الناصر ورجموه من كل جهة.
فقامت الجبلية والأوجاقية في ردهم فلم يطيقوا ذلك وجرت بينهم الدماء فهرب الوالي إلى إسطبل ألطنبغا المارداني وحمته مماليك ألطنبغا من العامة فطلب أيدغمش الغوغاء وخيرهم فيمن يلي فقالوا: نجم الدين الذي كان ولي قبل ابن المحسني فطلبه وخلع عليه فصاحوا: بحياة الملك الصالح الناصر! اعزل عنا ابن رخيمة المقدم وحمامص رفيقه فأذن لهم في نهبهما فتسارع نحو الألف منهم إلى دار ابن رخيمة بجانب بيت الأمير كوكاي فنهبوه ونهبوا بيت رفيقه ثم آنكفوا عن الناس. وفي يوم الجمعة ثاني شعبان دعى على منابر مصر والقاهرة للسلطان الملك الناصر أحمد.
وفي يوم الإثنين خامسه تجمعت العامة بسوق الخيل ومعهم رايات صفر وتصايحوا بالأمير أيدغمش: " زودنا لنروح إلى أستاذنا الملك الناصر ونجيء صحبته فكتب لهم مرسومًا بالإقامة والرواتب في كل منزلة وتوجهوا مسافرين من الغد.
وفي يوم الأربعاء سابع شعبان وصل الأمراء من سجن الإسكندرية الذين كان سجنهم قوصون حتى أفرج عنهم أيدغمش وهم الأمير ملكتمر الحجازي وقطليجا الحموي وأربعة وخمسون نفرًا من المماليك الناصرية.
وكان قوصون لما دخل إلى الإسكندرية مقيدًا وافوه هؤلاء بعد أن أطلقوا فسلموا عليه سلام شامت فبكى قوصون وأعتذر لهم بما صدر منه في حقهم.
وعندما قدموا إلى ساحل مصر ركب الأمراء إلى لقائهم وخرجت الناس لرؤيتهم فكان لقدومهم يوم مشهود حتى طلعوا إلى القلعة فتلقت خوند الحجارية بنت السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون زوجها ملكتمر الحجازي بخدامها وجواريها ومغانيها تضرب بالدفوف والشبابات فرحًا به.
ومعها أختها زوجة بشتك تساعدها بالفرح وهي شامتة بقوصون لكونه قتل زوجها بشتك الناصري قبل تاريخه هذا.
وأختها بنت الملك الناصر الأخرى زوجة قوصون بجانبها في عويل وبكاء وصياح ولطم على قوصون. وقد آفترق جواري الملك الناصر وأولاده فرقتين فرقة مع الحجازية وفرقة مع القوصونية والعجب أن هذا الفرح والعزاء كان قبل ذلك بالعكس فكان العزاء إذ ذاك في بيت الحجازي والفرح في بيت قوصون والآن العزاء في بيت قوصون والفرح في بيت الحجازي وزوجة بشتك وإن كان وما من حبه أحنو عليه ولكن بغض قوم آخرين فآنظر إلى هذا الدهر وتقلباته بأسرع وقت من حال إلى حال فنعوذ بالله من زوال النعم.
ثم قدم بعد ذلك كتب الأمراء المتوجهين إلى الكرك لإحضار الملك الناصر بأنهم لما قربوا من الكرك بعث كل منهم مملوكه يعرف السلطان الملك الناصر بحضورهم إلى الكرك فبعث إليهم الملك الناصر رجلا نصرانيًا من نصارى الكرك يقول: " يا أمراء السلطان يقول لكم: إن كان معكم كتب فهاتوها أو مشافهة فقولوها " فدفعت الكتب إلى النصراني فمضى بها ثم عاد من آخر النهار بكتاب مختوم وقال عن السلطان: " سلم على الأمراء وعرفهم أن يقيموا بغزة حتى يرد عليهم ما يعتمدوه ". وحضر مملوك من قبله يأمر الأمير قماري بالإقامة على ناحية صافيثا ثم بعث إلى الأمراء بخاتم وكتاب يتضمن إقامتهم على غزة والاعتذار عن لقائهم فعاد جنكلي والأحمدي إلى غزة وتوجه قماري إلى ناحية صافيثا.
فلما وقف الأمير أيدغمش على ذلك كتب من فوره إلى الأمير قطلوبغا الفخري يسأله أن يصحب السلطان الملك الناصر في قدومه إلى مصر ليجلس على تخت ملكه. ثم كتب أيدغمش للأمراء بغزة بالإقامة بها في آنتظار السلطان وعرفهم بمكاتبة الفخري.
وأخذ أيدغمش في تجهيز أمور السلطنة وأشاع قدوم السلطان خوفًا من إشاعة ما عامل الناصر أحمد به الأمراء فيفسد عليه ما دبره. فلما قدم البريد بكتاب أيدغمش إلى دمشق وافى قدوم كتاب السلطان أيضًا من الكرك يتضمن القبض على طرنطاي البجمقدار والأمير طينال وحمل مالهم إلى الكرك.
وكان قطلوبغا الفخري قد ولى طينال نيابة طرابلس وطرنطاي نيابة حمص فآعتذر الفخري بأن طينال في شغل بحركة الفرنج وأشار عليه بألا يحرك ساكنًا في هذا الوقت وسأله سرعة حضور السلطان ليسير بالعساكر في ركابه إلى مصر وأكثر الفخري من مصادرة الناس بدمشق.
ثم قدم الأمير طشتمر الساقي المعروف بحمص أخضر نائب حلب كان من بلاد الروم إلى الشام فتلقاه الفخري وأنزله في مكان يليق به وكان في كتاب الناصر أنه لا يخرج من الكرك حتى يحضر الأمير طشتمر من بلاد الروم فكتب الفخري بحضوره إلى الناصر وأنه يسرع في مجيئه إلى دمشق.
وأخذ الفخري أيضًا في تجهيز ما يحتاج السلطان إليه وفي ظنه أن السلطان يسير إليه بدمشق فيركب في خدمته بالعساكر إلى مصر فلم يشعر الفخري إلا وكتاب السلطان قد ورد عليه مع بعض الكركيين يتضمن أنه يركب من دمشق ليجتمع مع السلطان على غزة فشق ذلك عليه وسار من دمشق بعساكرها وبمن آستخدمه حتى قدم غزة في عدة كبيرة فتلقاه الأمير جنكلي والأحمدي وقماري أمير شكار.
وأما أمر الديار المصرية فإن الأميرين يلبغا اليحياوي وملكتمر الحجازي تفاوضا في الكلام حتى بلغا إلى المخاصمة وصار لكل منهما طائفة ولبسوا آلة الحرب. فتجمعت الغوغاء تحت القلعة لنهب بيوت من عساه ينكسر من الأمراء فلم يزل الأمير أيدغمش بالأمراء حتى انكفوا عن القتال وبعث إلى العامة عدة من الأوجاقية فقبضوا على جماعة منهم وأودعهم بالسجن.
ثم في يوم الخميس سابع شهر رمضان قدم أولاد الملك الناصر محمد بن قلاوون من قوص إلى القاهرة وعدتهم ستة فركب الأمراء إلى لقائهم وهرعت العامة إليهم.
فخرجوا من الحراقة وركبوا الخيول إلى القرافة حتى جاؤوا تربة جركتمر فصاحت العامة: " هذه تربة الذي قتل أستاذنا الملك المنصور " وهجموها وأخذوا ما فيها وأخربوها حتى صارت كوم تراب.
فلما وصل أولاد السلطان تحت القلعة وافاهم الأمير جمال الدين يوسف والي القاهرة كان فنزل وقبل ركبة رمضان ابن الملك الناصر فرفسه برجله وسبه وقال له: أتنسى ونحن في الحراقة عند توجهنا إلى قوص وقد طلبنا مأكلًا من الجيزة فقلت خذوهم وروحوا إلى لعنة الله ما عندنا شيء! فصاحت بهم العامة: بالله مكنا من نهبه هذا قوصوني! فأشار بيده أن انهبوا بيته فتسارعوا في الحال إلى بيته المجاور لجامع الظاهر بالحسينية حتى صاروا منه إلى باب الفتوح فقامت إخوته ومن يلوذ به في دفع العامة بالسلاح وبعث الأمير أيدغمش أيضًا لجماعة ليردوهم عن النهب وخرج إليهم نجم الدين والي القاهرة وقد تقاتل القوم حتى كفهم عن القتال فكان ثم قدم الخبر من غزة بقدوم الفخري وطقزدمر إلى غزة وآجتماعهم مع جنكلي والأحمدي وقماري وهم في آنتظار السلطان وأن الأمير أيدغمش يحلف جميع أمراء مصر وعساكرها للملك الناصر على العادة.
فجمعوا بالميدان فأخرجت نسخة اليمين المحضرة فإذا هي تتضمن الحلف للسلطان ثم للأمير قطلوبغا الفخري. فتوقف الأمراء عن الحلف لقطلوبغا الفخري حتى آبتدأ الأمير أيدغمش فحلف فتبعه الجميع خوفًا من وقوع الفتنة.
وأما أمر الفخري والأمراء فإنهم لما وصلوا إلى غزة جمع لهم نائبها آق سنقر الإقامات من الشعير والغنم. ثم كتب الأمراء جميعًا إلى الملك الناصر بقدومهم إلى غزة وعرفوه بذلك وآستحثوه على سرعة الحضور صحبة مماليكهم والأمير قماري أمير شكار.
فساروا إلى الكرك وكان قد سبقهم إلى الكرك الأمير يحيي بن طايربغا صهر الأمير أيدغمش يستحذ الملك الناصر أيضًا على المسير إلى مصر. فأقاموا جميعًا ثلاثة أيام لم يؤذن لهم في دخول المدينة.
ثم أتاهم كاتب نصراني وبازدار يقال له أبو بكر ويوسف بن النصال وهؤلاء الثلاثة هم خاصة الملك الناصر أحمد من أهل الكرك فسلموا عليهم وطلبوا ما معهم من الكتب. فشق ذلك على الأمير قماري وقال لهم: معنا مشافهات من الأمراء للسلطان لا بد من الاجتماع به فقالوا: لا يمكن الاجتماع به.
وقد رسم إن كان معكم كتاب أو مشافهة فأعلمونا بها فلم يجدوا بدًا من دفع الكتب إليهم وأقاموا إلى غد فجاءتهم كتب مختومة وقيل للأمير يحيى بن طايربغا: اذهب إلى عند الأمراء بغزة فساروا عائدين إلى غزة فإذا في الكتب الثناء على الأمراء وأن يتوجهوا إلى مصر فإن السلطان يقصد مصر بمفرده.
فتغيرت خواطر الأمراء وقالوا وطالوا وخرج الفخري عن الحد وأفرط به الغضب وعزم على الخلاف. فركب إليه طشتمر حمص أخضر والأمير جنكلي ابن البابا والأمير بيبرس الأحمدي وما زالوا به حتى كف عما عزم عليه ووافق على المسير.
وكتبوا بما كان من ذلك إلى الأمير أيدغمش وتوجهوا جميعًا من غزة يريدون مصر. وكان أيدغمش قد بعث ابنه بالخيل الخاص إلى السلطان فلما وصل إلى الكرك أرسل السلطان من أخذ منه الخيل ورسم بعوده إلى أبيه.
وأخرج السلطان رجلًا من الكرك يعرف بأبي بكر البازدار ومعه رجلان ليبشروا بقدومه فوصلوا إلى الأمير أيدغمش في يوم الإثنين خامس عشرينه وبلغوه سلام السلطان وعرفوه أنه كان قد ركب الهجن وسار على البرية صحبة العرب وأنه يصابح أو يماسي فخلع عليهم وبعث بهم إلى الأمراء فأعطاهم كل أمير من الأمراء المقدمين خمسة آلاف درهم وأعطاهم بقية الأمراء على قدر حالهم وخرج العامة إلى لقاء السلطان.
فلما كان يوم الأربعاء سابع عشرين شهر رمضان قدم قاصد السلطان إلى الأمير أيدغمش بأن السلطان يأتي ليلًا من باب القرافة وأمر أن يفتح له باب السر حتى يعبر منه ففتحه وجلس أيدغمش وألطنبغا المارداني حتى مضى جانب من ليلة الخميس ثامن عشرينه أقبل السلطان في الليل في نحو العشرة رجال من أهل الكرك وقد تلثم وعليه ثياب مفرجة فتلقوه وسلموا عليه فلم يقف معهم وأخذ جماعته ودخل بهم.
ورجع الأمراء وهم يعجبون من أمره وأصبحوا وقد دقت البشائر بالقلعة وزينت القاهرة ومصر. واستدعى السلطان أيدغمش في بكرة يوم الجمعة فدخل عليه وقبل له الأرض.
فاستدناه وطيب خاطره وقال له: ما كنت أطلع إلى الملك وكنت قانعًا بذلك المكان فلما سيرتم في طلبي ما أمكنني إلا أن أحضر كما رسمتم فقام أيدغمش وقبل الأرض ثانيًا ثم كتب عن السلطان إلى الأمراء الشاميين يعرفهم بقدومه إلى مصر وأنه في انتظارهم وكتب علامته بين الأسطر: المملوك أحمد بن محمد.
وكتب إليهم أيدغمش كتابًا وخرج مملوكه بذلك على البريد فلقيهم على الورادة فلم يعجبهم هيئة عبور السلطان إلى مصر وكتبوا إلى أيدغمش أن يخرج إليهم هو والأمراء إلى سرياقوس ليتفقوا على ما يفعلوه.
فلما كان يوم عيد الفطر منع السلطان الأمراء من طلوع القلعة ورسم لكل أمير أن يعمل سماطه في داره ولم ينزل السلطان لصلاة العيد وأمر الطواشي عنبر السحرتي مقدم المماليك ونائبه الطواشي الإسماعيلي أن يجلسا على باب القلعة ويمنعا من يدخل عليه وخلا بنفسه مع الكركيين: وكان الحاج علي إخوان سلار إذا أتى بطعام للسلطان على عادته خرج إليه يوسف وأبو بكر البازدار وأطعماه ششني الطعام وتسلما السماط منه وعبرا به إلى السلطان ويقف الحافي علي إخوان سلار بمن معه حتى يخرج إليهم الماعون.
وحكى الرئيس جمال الدين بن المغربي رئيس الأطباء أن السلطان آستدعاه وقد عرض له وجع في رأسه فوجده جالسًا وبجانبه شاب من أهل الكرك جالس وبقية الكركيين قيام فوصف له ما يلائمه وتردد إليه يومين وهو على هذه الهيئة. انتهى.
ثم في يوم الأحد تاسع شوال قدم الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخري والأمير طشتمر الساقي حمص أخضر وجميع أمراء الشام وقضاتها والوزراء ونواب القلاع في عالم كبير حتى سدوا الأفق ونزل كثير منهم تحت القلعة في الخيم.
وكان خرج إلى لقائهم الأمير أيدغمش والحاج آل ملك والجاولي وألطنبغا المارداني وغيرهم. وأخذ الفخري يتحدث مع أيدغمش فيما عمله السلطان من قدومه في زي العربان واختصاصه بالكركيين وإقامة أبي بكر البازدار حاجبه.
وأنكر أيدغمش ذلك على السلطان غاية الإنكار وطلب من الأمراء موافقته على خلعه ورده إلى مكانه فلم يمكنه طشتمر حمص أخضر من ذلك وساعده الأمراء أيضًا وما زالوا به حتى أعرض عما هم به ووافق الأمراء على طاعته.
فلما كان يوم الإثنين عاشره لبس السلطان شعار السلطنة وجلس على تخت الملك.
وحضر الخليفة الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد وقضاة مصر الأربعة وقضاة دمشق الأربعة وجميع الأمراء والمقدمين.وبايعه الخليفة بالسلطنة وقبلوا الأرض بين يديه على العادة. ثم قام السلطان على قدميه فتقدم الأمراء وباسوا يده واحدًا بعد واحد على قدر مراتبهم.
وجاء الخليفة بعدهم وقضاة القضاة ما عدا القاضي حسام الدين الغوري الحنفي: فإنه لما طلع مع القضاة وجلسوا بجامع القلعة حتى يؤذن لهم على العادة جمع عليه بعض صبيان المطبخ جمعًا من الأوباش لحقد كان في نفسه منه عندما تحاكم هو وزوجته عنده قبل ذلك فأهانه القاضي المذكور فلما وجد الطباخ الفرصة هجم عليه بأوباشه ومد يده إلى الغوري من بين القضاة وأقاموه وحرقوا عمامته في حلقه وقطعوا ثيابه وهم يصيحون: يا قوصوني! ثم ضربوه بالنعال ضربًا مبرحًا وقالوا له: يا كافر يا فاسق! فآرتجت القلعة وأقبل علم دار حتى خلصه منهم وهو يستغيث: يا مسلمين! كيف يجري هذا على قاض من قضاة المسلمين.
فأخذ المماليك جماعة من تلك الأوباش وجروهم إلى الأمير أيدغمش فضربهم وبعث طائفة من الأوجاقية ساروا بالغوري إلى منزله ولم يحضر الموكب. وثارت العامة على بيته بالمدرسة الصالحية ونهبوه فكان يومًا شنيعًا.
ثم في يوم الخميس ثالث عشره عمل السلطان موكبًا آخر وخلع على سائر الأمراء قاطبة وأنعم على الأمير طشتمر حمص أخضر بعشرة آلاف دينار وعلى الأمير قطلوبغا الفخري بما حضر معه من البلاد الشامية وهو أربعة آلاف دينار ومائة ألف درهم فضة.
ونزل في موكب عظيم بمن حضر صحبته من أمراء البلاد الشامية وهم الأمير سنجر الجمقدار وتمر الساقي وطرنطاي البجمقدار وآقبغا عبد الواحد وتمر الموسوي وابن قراسنقر وأسنبغا بن البوبكري وبكتمر العلائي وأصلم نائب صفد.
ثم طلب السلطان الوزير نجم الدين ورسم له أن يكون يوسف البازدار رفيقه مقدمي البازدارية ومقدمي الدولة وخلع السلطان عليهما كلفتاه زركش وأقبية طردوحش بحوائص ذهب فحكما مصر في الدولة وتكبرا على الناس وسارا فيهم بحمق زائد أو صارا لا يأتمران بأمر الوزير ويمضيان ما أحبا.
في يوم السبت خامس عشره خلع على الأمير طشتمر الساقي حمص أخضر بآستقراره في نيابة السلطنة بالديار المصرية فتوجه بخلعته وباشر النيابة وجلس والحجاب قيام بين يديه والأمراء في خدمته.
وفي يوم الإثنين سابع عشره أخرج السلطان عبد المؤمن بن عبد الوهاب السلامي والي قوص من السجن ورسم بتسميره فسمر على باب البيمارستان المنصوري بمسامير جافية شنيعة وطيف به مدة ستة أيام وهو يحادث الناس في الليل بأخباره ومما حدثهم به أنه هو الذي كان وثب على النشو ناظر الخاص وضربه بالسيف حسب ما ذكرناه في ترجمة الملك الناصر محمد بن قلاوون من أمر النشو وأنه لما سقطت عمامته عن رأسه ظنها رأسه.
وكان إذا قيل له: اصبر يا عبد المؤمن يقول: " أسأل الله الصبر " وينشد كثيرًا قوله: يبكى علينا ولا نبكي على أحد لنحن أغلظ أكبادًا من الإبل وكان السبب لقتله ومثلته هذه أنه قتل الملك المنصور أبا بكر بن الناصر محمد بقوص بأمر قوصون.
ثم شنق عبد المؤمن بعد ذلك في يوم السبت ثاني عشرين شوال على قنطرة السد ظاهر مدينة مصر عند الكيمان وأكلته الكلاب. ثم قبض السلطان على أحد وعشرين أميرًا وأخرجهم إلى الإسكندرية صحبة الأمير طشتمر طلليه.
ثم في الخميس سابع عشرينه خلع على الأمير الحاج آل ملك بنيابة حماة عوضًا عن طقزدمر لحموي وعلى بيبرس الأحمدي وآستقر في نيابة صفد عوضًا عن أصلم الناصري وعلى آق سنقر وآستقر نائب غزة على عادته.
وفي مستهل ذي القعدة خلع على الأمير قطلوبغا الفخري بنيابة دمشق وعلى الأمير أيدغمش أمير آخور بنيابة حلب.
ثم في يوم الثلاثاء ثانيه آستقر قماري أمير شكار أمير آخور عوضًا عن أيدغمش واستقر أحمد شاد الشربخاناه أمير شكار واستقر آقبغا عبد الواحد في نيابة حمص.
ثم أنعم السلطان على الأمير زين الدين قراجا بن دلغادر بإنعامات كثيرة وكتب له بالإمرة على التركمان ونيابة أبلستين. وفي يوم الأحد سابع ذي القعدة خرج الأمير أيدغمش متوجهًا إلى نيابة حلب. وفي يوم الإثنين خامس عشره خرج الأمير قطلوبغا الفخري متوجهًا إلى نيابة دمشق ومعه من تأخر من عساكر الشام.
وخرج الأمير طشتمر حمص أخضر نائب السلطنة بالقاهرة لوداعه وجميع الأمراء ومد له سماطًا عظيمًا. ولما توجه الفخري وأيدغمش وغيرهما من الديار المصرية وبقي الأمير طشتمر الساقي حمص أخضر نائب السلطنة بالقاهرة قبض عليه السلطان بعد خروج الفخري بخمسة أيام وذلك في يوم السبت العشرين من ذي القعدة.
وسبب القبض على طشتمر أنه بقي يعارض السلطان بحيث إنه كان يرد مراسيمه ويتعاظم على الأمراء والأجناد تعاظمًا زائدًا وكان إذا شفع عنده أحد من الأمراء في شفاعة لا يقبلها وكان لا يقف لأمير إذا دخل عليه وإذا أتته قصة عليها علامة السلطان بإقطاع أو غيره أخذ ذلك وطرد من هي بآسمه وأخرق به.
وقرر طشتمر مع السلطان أنه لا يمضي من المراسيم إلا ما يختاره ورسم للحاجب بألا يقدم أحد قصة للسلطان إلا أن يكون حاضرًا فلم يتجاسر أحد أن يقدم قصة للسلطان في غيبته. وأخذ إقطاع الأمير بيبرس الأحمدي وتقدمته لولده فكرهته الناس. وصارت أرباب الدولة وأصحاب الأشغال كلها في بابه وتقربوا إليه بالهدايا والتحف. وانفرد بتدبير الملك وحط على الكركيين و قصد منعهم من الدخول على السلطان فلم يتهيأ له ذلك.
وكان ناصر الدين المعروف بفار السقوف قد توصل إلى الكركيين حتى استقر إمام السلطان يصلى به الخمس وصار كذلك ناظر المشهد النفيسي عوضًا عن تقي الدين علي بن القسطلاني خطيب جامع عمرو وجامع القلعة وخلع عليه السلطان بغير علم طشتمر النائب فبعث إليه طشتمر عدة نقباء ونزع الخلعة من عليه وسلمه إلى المقدم إبراهيم بن صابر وأمر بضربه وإلزامه بحمل مائة ألف درهم فضربه ابن صابر ضربًا مبرحًا واستخرج منه أربعين ألف درهم.
ثم أفرج عنه بشفاعة أيدغمش والفخري فيه بعدما أشهد عليه أنه لا يطلع القلعة. ثم أخذ قصير معين من مباشري قوصون وأحاط بما فيه من القنود والأعسال والسكر وغير ذلك.
فعظم ما فعله على السلطان وعلى الأمراء فإنه خرج عن الحد إلى أن قرر السلطان مع مقدم المماليك عنبر السحرتي والأمير آق سنقر السلاري في القبض على طشتمر وعلى قطلوبغا الفخري وأن يستدعي مماليك بشتك وقوصون وينزلهم بالأطباق من القلعة ويعطيهم إقطاعات بالحلقة ليصيروا من جملة مماليك السلطان خوفًا من حركة طشتمر النائب. ثم رتب السلطان عنده مماليك بداخل القصر للقبض على طشتمر أيضًا.
وكان مما جدد طشتمر في نيابته أن منع الأمراء أن تدخل مماليكها إلى القصر وبسط من باب القصر بساطًا إلى داخله كما كان في الأيام الناصرية فصار الأمير لا يدخل إلى القصر إلا بمفرده فكان ما دبره عليه.
ثم دخل هو أيضًا بمفرده ومعه ولداه إلى القصر وجلس على السماط على العادة فعندما رفع السماط قبض كشلي السلاح دار أحد المماليك السلطانية وكان معروفا بالقوة على كتفيه من خلف ظهره قبضًا عنيفًا ثم بدر إليه جماعة من المماليك وأخذوا سيفه وقيدوه وقيموا ولديه ونزل أمير مسعود الحاجب في عدة من المماليك السلطانية فأوقع الحوطة على بيته وأخذ مماليكه فسجنهم.
ثم خرج في الحال ساعة القبض على طشتمر الأمير ألطنبغا المارداني والأمير أرنبغا أمير سلاح ومعهما من أمراء الطبلخاناه والعشرات نحو خمسة عشر أميرًا ومعهم أيضًا من المماليك السلطانية وغيرهم ألف فارس وتوجهوا ليقبضوا على الأمير قطلوبغا الفخري. وكتب السلطان للأمير آق سنقر الناصري نائب غزة بالركوب معهم بعسكره وجميع من عنده ومن هو في معاملته.
وكان الفخري قد ركب من الصالحية فبلغه مسك طشتمر ومسير العسكر إليه من هجان بعث به إليه بعض ثقاته فساق إلى قطيا وأكل بها شيئًا ثم رحل مسرعًا حتى دخل العريش فإذا آق سنقر بعسكره في انتظاره على الزعقة وكان ذلك وقت الغروب فوقف كل منهما تجاه صاحبه حتى أظلم الليل فسار الفخري بمن معه وهم ستون فارسًا على البرية.
فلما أصبح آق سنقر علم أن الفخري فاته ومال أصحابه على أثقال الفخري فنهبوها وعادوا إلى غزة.
واستمر الفخري سائرًا ليلته ومن الغد حتى آنتصف النهار وهو سائق فلم يتأخر معه إلا سبعة فرسان ومبلغ أربعة آلاف وخمسمائة دينار وقد وصل يبنى وعليها الأمير أيدغمش وهو نازل فترامى عليه الفخري وعرفه بما جرى وأنه قطع خمسة عشر بريدًا في مسير يوم واحد. فطيب أيدغمش خاطره وأنزله في خيمة وقام له بما يليق به. فلما جنه الليل أمر به فقيد وهو نائم وكتب بذلك إلى السلطان مع بكا الخضري.
وكان السلطان لما بلغه هروب الفخري تنكر على الأمراء وآتهمهم بالمخامرة عليه وهم في يوم الإثنين أن يمسكهم فتأخر عن الخدمة الجاولي في يوم الإثنين المذكور وهو تاسع عشرين ذي القعدة وتأخر معه جماعة كبيرة.
فلما كان وقت الظهر بعث لكل أمير طائر إوز مشوي وسأل عنهم ثم بعث إليهم آخر النهار أن يطلعوا من الغد.
فجاء بكا الخضري عشية يوم الثلاثاء مستهل ذي الحجة ومعه البشارة بالقبض على سيف الدين قطلوبغا الفخري فسر السلطان بذلك وكتب بحمله إلى الكرك. فلما طلع الأمراء إلى الخدمة في يوم الثلاثاء ترضاهم السلطان وبشرهم بمسك الفخري ثم أخبرهم أنه عزم على التوجه إلى الكرك.
وتجهز السلطان وأخذ الأموال صحبته وأخرج الأمير طشتمر حمص أخضر مقيدًا في محارة في ليلة الأربعاء ومعه جماعة من المماليك السلطانية موكلون به. ثم تقدم السلطان إلى الخليفة بعدما ولاه نظر المشهد النفيسي عوضًا عن ابن القسطلاني أن يسافر معه إلى الكرك.
ورسم لجمال الكفاة ناظر الجيش والخاص وللقاضي علاء الدين علي بن فضل الله العمري كاتب السر أن يتوجها معه إلى الكرك. ثم ركب السلطان ومعه الأمراء من قلعة الجبل في يوم الأربعاء ثانيه بعدما أمر ثمانية من المماليك السلطانية وخلع عليهم على باب الخزانة وخلع على الأمير شمس الدين آق سنقر السلاري وقرره نائب الغيبة وخلع على شمس الدين محمد بن عدلان باستقراره قاضي العسكر وخلع على زين الدين عمر بن كمال الدين عبد الرحمن ابن أبي بكر البسطامي واستقر به قاضي قضاة الحنفية بالديار المصرية عوضًا عن حسام الدين الغوري.
فلما سار السلطان حتى قرب قبة النصر خارج القاهرة وقف حتى قبل الأمراء يده على مراتبهم ورجعوا عنه فنزل في الحال عن فرسه ولبس ثياب العربان وهي كاملة مفرجة وعمامة بلثامين وساير الكركيين في طريقه وترك الأمراء الذين معه وهم قماري وملكتمر الحجازي وأبو بكر وعمر ابنا أرغون النائب مع المماليك السلطانية والطلب.
وتوجه على البرية إلى الكرك وليس معه إلا الكركيون ومملوكان وهم في أثره فقاسوا مشقة عظيمة من العطش وغيره حتى وصلوا ظاهر الكرك وقد سبقهم السلطان إليها وقدمها في يوم الثلاثاء ثامن ذي الحجة.
وكتب السلطان للأمراء بالديار المصرية يعرفهم بذلك وسلم عليهم فقدم كتابه القاهرة في يوم الخميس سابع عشر ذي الحجة. ولما دخل الملك الناصر أحمد إلى الكرك لم يمكن أحدًا من العسكر أن يدخل المدينة سوى علاء الدين علي بن فضل الله كاتب السر وجمال الكفاة ناظر الجيش والخاصي فقط.
ورسم أن يسير الأمير المقدم عنبر السحرتي بالمماليك السلطانية إلى قرية الخليل عليه السلام وأن يسير قماري وعمر ابن النائب أرغون والخليفة إلى القدس الشريف. ثم رسم السلطان لمقدم المماليك عنبر السحرتي أن ينتقل بالمماليك السلطانية من الخليل إلى غزة لغلاء الأسعار بالخليل.
وفي أثناء ذلك وصل أمير علي بن أيدغمش بالفخري مقيدًا إلى غزة وبها العساكر فبعث السلطان إليه من تسلم منه الفخري وأعاد ابن أيدغمش إلى أبيه ولم يجتمع به. فسجن السلطان قطلوبغا الفخري وطشتمر حمص أخضر بقلعة الكرك بعدما نكل بالفخري وأهين من العامة إهانة زائدة.
ثم كتب السلطان لآق سنقر السلاري نائب الغيبة بإرسال حريم الفخري إلى الكرك وكانوا قد ساروا من القاهرة بعد مسير الفخري بيوم فجهزهن إليه فأخذ أهل الكرك جميع ما معهن حتى ثيابهن وبالغوا في الفحش بهن والإساءة.
ثم كتب السلطان لآق سنقر السلاري نائب الغيبة بالديار المصرية أن يوقع الحوطة على موجود طشتمر حمص أخضر وقطلوبغا الفخري ويحمل ذلك إليه بالكرك.
وكان شأن الملك الناصر أحمد أنه إذا رسم بشيء جاء كاتب كركي لكاتب السر وعرفه عن السلطان بما يريد فيكتب كاتب السر ذلك ويناوله للكاتب الكركي حتى يأخذ عليه علامة السلطان ويبعثه حيث يرسم به هذا ما كان من أمر الملك الناصر.
أما العسكر المتوجه من القاهرة إلى غزة فإن ابن أيدغمش لما قدم عليهم بمدينة غزة ومعه الفخري أراد الأمير علاء الدين ألطنبغا المارداني أن يؤخره عنده بغزة حتى يراجع فيه السلطان فلم يوافقه ابن أيدغمش وتوجه به إلى الكرك فرحل ألطنبغا المارداني وبقية العساكر عند ذلك إلى جهة الديار المصرية فقدموها يوم السبت سادس عشرين ذي الحجة.
وآنعكف السلطان على اللهو وآحتجب عن الناس إلا الكركيين. ثم بلغه تغير خواطر الأمراء فأخذ في تحصين قلعة الكرك ومدينتها وأشحنها بالغلال والأقوات والأسلحة.
وأما أمر الديار المصرية فإنه شق عليهم غيبة السلطان منها وآضطربت أحوال القاهرة وصارت غوغاء وصار عند أكابر الأمراء تشويش كثير لما بلغهم من مصاب حريم الأمير قطلوبغا الفخري.
وبقي الأمير آق سنقر السلاري في تخوف عظيم فإنه بلغه بأن جماعة من المماليك الذين قبض على أستاذينهم قد باطنوا بعض الأمراء على الركوب عليه فترك آق سنقر الركوب في أيام المواكب أيامًا حتى آجتمع الأمراء عنده وحلفوا له.
ثم اتفق رأي الأمراء على أن كتبوا للسلطان الملك الناصر أحمد كتابًا في خامس محرم سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة بأن الأمور واقفة لغيبة السلطان وقد نافق غالب عربان الصعيد وغيره وطمع أرباب الفساد وخيفت السبل وفسدت الأحوال وسألوا حضوره إلى الديار المصرية وأرسلوا الكتاب على يد الأمير طقتمر الصلاحي فتوجه طقتمر إليه ثم عاد إلى الديار المصرية بجوابه في حادي عشره: بأنني قاعد في موضع ما أشتهي وأي وقت أردت حضرت إليكم وذكر طقتمر أن السلطان لم يمكنه الاجتماع به وأنه بعث من أخذ منه الكتاب ثم أرسل إليه الجواب.
وقدم الخبر بأنه قتل الأمير طشتمر الساقي حمص أخضر والأمير قطلوبغا الفخري وكان قصد قتلهما بالجوع فأقاما يومين بلياليهما لا يطعمان طعامًا. فكسرا قيدهما - وكان السلطان قد ركب للصيد - وخلعا باب السجن ليلًا وخرجا إلى الحارس فأخذا سيفه وهو نائم فأحس بهما وقام يصيح حتى لحقه أصحابه فأخذوهما وبعثوا إلى السلطان بخبرهما فقدم في زي العربان ووقف على الخندق وأحضرهما وقد كثرت بهما الجراحات فأمر يوسف ابن البصارة ورفيقه بضرب أعناقهما وأخذ يسبهما فردا عليه السب ردًا قبيحًا وضربت رقابهما. فلما بلغ الأمراء ذلك اشتد قلقهم.
ثم قدم كتاب السلطان للأمراء يطيب خواطرهم ويعرفهم أن مصر والشام والكرك له وأنه حيثما شاء أقام ورسم أن تجهز له الأغنام من بلاد الصعيد.
فتنكرت قلوب الأمراء ونفرت خواطرهم وتكفلوا فيما بينهم في خلعه حتى اتفق الأمراء على خلعه من السلطنة وإقامة أخيه إسماعيل ابن الملك الناصر محمد فخلع في يوم الأربعاء حادي عشرين المحرم من سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة فكانت مدة ولايته ثلاثة أشهر وثلاثة عشر يومًا منها مدة إقامته بمدينة الكرك - ومراسيمه نافذة بمصر - أحد وخمسين يومًا.
وإقامته بمصر شهران إلا أيام.
وكان لما خرج من الديار المصرية متوجهًا إلى الكرك جمع الأغنام التي كانت لأبيه وأغنام قوصون وعدتها أربعة آلاف رأس وأربعمائة رأس من البقر التي كان استحسنها أبوه وأخذ الطيور التي كانت بالأحواش على اختلاف أنواعها وحملها على رؤوس الحمالين إلى الكرك وساق الأغنام والأبقار إليها ومعهم عدة سقايين وعرض الخيول والهجن وأخذ ما اختاره منها ومن البخاتى وحمر الوحش والزراريف والسباع وسيرها إلى الكرك. ثم فتح الذخيرة وأخذ منها جميع ما فيها من الذهب والفضة وهو ستمائة ألف دينار وصندوق فيه الجواهر التي جمعها أبوه في مدة سلطنته.
وتتبع جواري أبيه حتى عرف المتمولات منهن فصار يبعث إلى الواحدة منهن يعرفها أنه يدخل عليها الليلة فإذا تجملت بحليها وجواهرها أرسل من يحضرها إليه فإذا خرجت من موضعها ندب من يأخذ جميع ما عندها ثم يأخذ جميع ما عليها حتى سلب أكثرهن. ثم عرض الركاب خاناه وأخذ ما فيها من السروج واللجم والسلاسل الذهب والفضة.
وأخذ الطائر الذهب الذي كان على القبة وأخذ الغاشية الذهب وطلعات السناجق وما ترك بالقلعة مالًا إلا أخذه واستمر بالكرك.
فلما تسلطن أخوه الملك الصالح إسماعيل حسب ما يأتي ذكره أرسل إلى الكرك يطلب من أخيه الناصر أحمد هذا شعائر الملك وما كان أخذه من الخزائن وغيرها فلم يلتفت الناصر إلى كلامه فندب السلطان الملك الصالح تجريدة لحصاره بالكرك واستمر يبعث إليه تجريدة بعد أخرى سبع تجاريد حتى إنه لم يبق بمصر والشام أمير إلا تجرد إلى الكرك مرة ومرتين إلى أن ظفروا به حسب ما يأتي ذكره ذلك كله مفصلًا في ترجمة الملك الصالح إسماعيل.
ولما ظفروا بالملك الناصر أحمد قيدوه وحبسوه بالكرك بعد أن حاصروه بها مدة سنتين وشهر وثلاثة أيام حتى قبض عليه أتلف فيها أموالًا كثيرة في النفقات على المقاتلة وأخذ أمره يتلاشى وهلك من عنده بالجوع.
وضرب الذهب وخلط به الفضة والنحاس ونفق ذلك في الناس فكان الدينار الذي ضربه ئساوي خمسة دراهم.
وكان القبض على الملك الناصر من الكرك في يوم الإثنين الظهر ثاني عشرين صفر سنة خمس وأربعين وسبعمائة وكتب بذلك إلى السلطان فأرسل السلطان الملك الصالح الأمير منجك اليوسفي الناصري السلاح دار إلى الكرك فقتله وحز رأسه وتوجه بها إلى القاهرة.
وكان الملك الناصر أحمد هذا قد أخرجه أبوه الملك الناصر محمد بن قلاوون من الديار المصرية إلى الكرك وهو صغير لعله لم يبلغ العشر سنين فربي بالكرك وأحب أهلها وصارت له وطنًا وكان نائب الكرك إذ ذاك ملكتمر السرجواني زوج أمه.
ثم أرسل إليه أبوه أخويه: إبراهيم وأبا بكر المنصور فأقاموا الجميع بالكرك إلى أن طلبهم والدهم وأعاد الناصر هذا إلى الكرك ثم طلبه ثانيًا وزوجه ببنت الأمير طايربغا من أقارب الملك الناصر ثم أعاده إلى الكرك.
وكان الناصر هذا أحسن إخوته وجهًا وشكلًا وكان صاحب لحية كبيرة وشعر غزير وكان ضخمًا شجاعًا صاحب بأس وقوة مفرطة وعنده شهامة مع ظلم وجبروت وهو أسوأ أولاد الملك الناصر سيرة مع خفة وطيش.
فيها وقعت حادثة غريبة وهي أن رجلًا بوارديًا يقال له محمد بن خلف بخط السيوفيين من القاهرة قبض عليه في يوم السبت سادس عشر رمضان وأحضر إلى محتسب القاهرة فوجد بمخزنه من فراخ الحمام والزرازير المملوحة عدة أربعة وثلاثين ألف ومائة وستة وتسعين من ذلك أفراخ حمام عدة ألف ومائة وستة وتسعين فرخًا وزرازير عدة ثلاثة وثلاثين ألف زرزور وجميعها قد نتنت وتغيرت أحوالها فأدب وشهر.
سنة آثنتين وأربعين وسبعمائة
وفيها توفي ملك التتار أزبك خان بن طغرلجا بن منكوتمر بن طغان بن باطو بن دوشي خان بن جنكز خان.
ومات أزبك خان بعد أن ملك نحوًا من ثلاثين سنة وكان أسلم وحسن إسلامه وحرض رعيته على الإسلام فأسلم بعضهم.
ولم يلبس أزبك خان بعد أن أسلم السراقوجات وكان يلبس حياصة من فولاذ ويقول: لبس الذهب حرام على الرجال وكان يميل إلى دين وخير ويتردد إلى الفقراء وكان عنده عدل في رعيته وتزوج الملك الناصر محمد بابنته. وكان أزبك شجاعًا كريمًا مليح الصورة ذا هيبة وحرمة. ومملكته متسعة وهي من بحر قسطنطيينة إلى نهر إرتش مسيرة ثمانمائة فرسخ لكن أكثر ذلك قرى ومراع. وولي الملك بعده ابنه جاني بك خان.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم ست أذرع وعشر أصابع. مبلغ الزيادة ثماني عشرة ذراعًا وتسع أصابع.
*******************************************************************************
المقريزى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار الجزء الرابع ( 851 من 761 ) : " بكتمر الساقي: الأمير سيف الدين كان أحد مماليك الملك المظفر بيبرس الجاشنكير فلما استقرّ الملك الناصر محمد بن قلاون في المملكة بعد بيبرس أخذه في جملة من أخذ من مماليك بيبرس ورقاه حتى صار أحد الأمراء الأكابر وكتب إلى الأمير تنكز نائب السلطنة بدمشق بعد أن قبض على الأمير سيف الدين طغاي الكبير يقول له: هذا بكتمر الساقي يكون لك بدلًا من طغاي اكتب إليه بما تريد من حوائجك فعظم بكتمر وعلا محله وطار ذكره وكان السلطان لا يفارقه ليلًا ولا نهارًا إلاّ إذا كان في الدور السلطانية ثم زوّجه بجاريته وحظيته فولدت لبكتمر ابنه أحمد وصار السلطان لا يأكل إلاّ في بيت بكتمر مما تطبخه له أمّ أحمد في قدر من فضة وينام عندهم ويقوم واعتقد الناس أن أحمد ولد السلطان لكثرة ما يطيل حمله وتقبيله ولما شاع ذكر بكتمر وتسامع الناس به قدموا إليه غرائب كل شيء وأهدوا إليه كل نفيس وكان السلطان إذا حمل إليه أحد من النوّاب تقدمة لا بدّ أن يقدم لبكتمر مثلها أو قريبًا منها والذي يصل إلى السلطان يهب له غالبه فكثرت أمواله وصارت إشارته لا تردّ وهو عبارة عن الدولة وإذا ركب كان بين يديه مائتا عصا نقيب وعمر له السلطان القصر على بركة الفيل.
ولما مات بطريق الحجاز في سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة خلف من الأموال والقماش والأمتعة والأصناف والزردخاناه ما يزيد على العادة والحدّ ويستحي العاقل من ذكره فأخذ السلطان من خيله أربعين فرسًا وقال: هذه لي ما وهبته إياها وبيع الباقي من الخيل على ما أخذه الخاصكية بثمن بخس بمبلغ ألف ألف درهم فضة ومائتي ألف درهم وثمانين ألف درهم فضة خارجًا عما في الجشارات وأنعم السلطان بالزردخاناه والسلاحخاناه التي له على الأمير قوصون بعدما أخذ منها سرجًا واحدًا وسيفًا القيمة عن ذلك ستمائة ألف دينار وأخذ له السلطان ثلاثة صناديق جوهرًامثمنًا لا تعلم قيمة ذلك وبيع له من الصيني والكتب والختم والربعات ونسخ البخاريّ والدوايات الفولاذ والمطعمة والبصم بسقط الذهب وغير ذلك ومن الوبر والأطلس وأنواع القماش السكندريّ والبغداديّ وغير ذلك شيء كثير إلى الغاية المفرطة ودام البيع لذلك مدّة شهور.
وامتنع القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص من حضور البيع واستعفى من ذلك فقيل له لأيِّ شيء فعلت ذلك قال: ما أقدر أصبر على غبن ذلك لأن المائة درهم تباع بدرهم.
ولما خرج مع السلطان إلى الحجاز خرج بتجمل زائد وحشمة عظيمة وهو ساقة الناس كلهم وكان ثقله وجماله نظير ما للسلطان ولكن يزيد عليه بالزركش وآلات الذهب ووجد في خزانته بطريق الحجاز بعد موته خمسمائة تشريف منها ما هو أطلس بطرز زركش وما دون ذلك من خلع أرباب السيوف وأرباب أقلام ووجد معه قيود وجنازير وتنكر السلطان له في طريق الحجاز واستوحش كلّ منهما من صاحبه فاتفق أنهم في العود مرض ولده أحمد ومرض من بعده فمات ابنه قبله بثلاثة أيام فحمل في تابوت مغشي بجلد جمل ولما مات بكتمر دفن مع ولده بنخل وحث السلطان في المسير وكان لا ينام في تلك السفرة إلا في برج خشب وبكتمر عنده وقوصون على الباب والأمراء المشايخ كلهم حول البرج بسيوفهم فلما مات بكتمر ترك السلطان ذلك فعلم الناس أن احترازه كان خوفًا من بكتمر.
ويقال أن السلطان دخل عليه وهو مريض في درب الحجاز فقال له: بيني وبينك الله.
فقال له: كل من فعل شيئًا يلتقيه.
ولما مات صرخت زوجته أم ابنه أحمد وبكت وأعولت إلى أن سمعها الناس تتكلم بالقبيح في حق السلطان من جملته: أنت تقتل مملوكك أنا ابني ايش كان فقال لها: بس تفشرين هاتي مفاتيح صناديقه فأنا أعرف كل شيء أعطيته من الجواهر.
فرمت بالمفاتيح إليه فأخذها ولما وصل السلطان إلى قلعة الجبل أظهر الحزن والندامة عليه وأعطى أخاه قماري أمرة مائة وتقدمة ألف وكان يقول ما بقي يجيئنا مثل بكتمر وأمر فحُملت جثته وجثة ابنه إلى خانقاهه هذه ودفنتا بقبتها وبدت من السلطان أمور منكرة بعد موت بكتمر فإنه كان يحجر على السلطان ويمنعه من مظالم كثيرة وكان يتلطف بالناس ويقضي حوائجهم ويسوسهم أحسن سياسة ولا يخالفه السلطان في شيء ومع ذلك فلم يكن له حماية ولا رعاية ولا لغلمانه ذكر ومن المغرب يغلق باب إصطبله وكان ممّا له على السلطان من المرتب في كل يوم مخفيتان يأخذ عنهما من بيت المال كل يوم سبعمائة درهم عن كل مخفية ثلاثمائة وخمسين درهمًا وكان السلطان إذا أنعم على أحد بشيء أو ولاّه وظيفة قال له: روح إلى الأمير بكتمر وبوس يده وكان جيد خانقاه قوصون هذه الخانقاه في شماليّ القرافة مما يلي قلعة الجبل تجاه جامع قوصون أنشأها الأمير سيف الدين قوصون وكملت عمارتها في سنة ست وثلاثين وسبعمائة وقرّر في مشيختها الشيخ شمس الدين أبا الثناء محمود بن أبي القاسم أحمد الأصفهانيّ ورتب له معلومًا سنيًا من الدراهم والخبز واللحم والصابون والزيت وسائر ما يحتاج إليه حتى جامكية غلام بغلته واستقرّ ذلك في الوقف من بعده لكل من ولي المشيخة بها وقرّر بها جماعة كثيرة من الصوفية ورتب لهم الطعام واللحم والخبز في كل يوم وفي الشهر المعلوم من الدراهم ومن الحلوى والزيت والصابون وما زالت على ذلك إلى أن كانت المحن من سنة ست وثمانمائة فبطل الطعام والخبز منها وصار يُصرف لمستحقيها مال من نقد مصر وتلاشى أمرها من بعد ما كانت من أعظم جهات البرّ وكثرها نفعًا وخيرًا وقد تقدّم ذكر قوصون عند ذكر جامعه من هذا الكتاب.
===========================++=========================================