سلطنة المنصور علي بن إيبك التركماني سنة 655 هـ
سلطنة المنصور علي بن إيبك التركماني السلطان الملك المنصور نور الدين علي ابن السلطان الملك المعز عز الدين أيبك التركماني الصالحي النجمي ملك الديار المصرية بعد قتل أبيه المعز أيبك في يوم الخميس خامس عشرين شهر ربيع الأول سنة خمس وخمسين وستمائة وتم أمره وخطب له من الغد في يوم الجمعة سادس عشرينه على منابر مصر وأعمالها.
والمنصور هذا هو الثاني من ملوك مصر من الترك بالديار المصرية.
وتسلطن المنصور هذا وعمره خمس عشرة سنة وركب في يوم الخميس ثاني شهر ربيع الآخر بشعار السلطنة من القلعة إلى قبة النصر في موكب هائل ثم عاد ودخل القاهرة من باب النصر وترجل الأمراء ومشوا بين يديه ما خلا الأتابك علم الدين سنجر الحلبي.
ثم صعد المنصور إلى القلعة وجلس بدار السلطنة ومد السماط للأمراء فأكلوا ووزر له وزير أبيه شرف الدين الفائزي وانفض الموكب.
وفي يوم الجمعة ثالث شهر ربيع الآخر خطب للملك المنصور وبعده لأتابكه علم الدين سنجر الحلبي المذكور.
وفوض القضاء بالقاهرة وأعمالها إلى القاضي بدر الدين السنجاري وعزل تاج وفي عاشر شهر ربيع الأخر قبض الأمير قطز وسنجر الغتمي وبهادر وغيرهم من الأمراء المعزية على الأتابك سنجر الحلبي وأنزلوه إلى الجب بالقلعة وكان القبض عليه لأمور: أحدها أنه كان طمع في السلطنة بعد قتل الملك المعز أيبك لما طلبته شجرة الدر وعرضت عليه الملك والثاني أنه بلغهم أنه ندم على ترك الملك وهو في عزم الوثوب. فعاجلوه وقبضوا عليه.
ولما قبض عليه اضطربت خشداشيته من المماليك الصالحية النجمية وخاف كل أحد على نفسه فهرب أكثرهم إلى جهة الشام فخرج في إثرهم جماعة من الأمراء المعزية وغيرهم وتقنطر بالأمير عز الدين أيبك الحلبي الكبير فرسه وكذلك الأمير خاص ترك الصغير فهلكا خارج القاهرة وادخلا ميتين وكانوا ركبوا في جماعة من المماليك الصالحية في قصد الشام أيضا.
واتبع العسكر المهزومين إلى الشام فقبض على أكثرهم وحملوا إلى القلعة واعتقلوا بها. وقبض أيضًا على الوزير شرف الدين الفائزي. وفوض أمر الوزارة إلى القاضي بدر الدين يوسف السنجاري مضافًا إلى القضاء وأخذ موجود الفائزي وكان له مال كثير. ثم قبض على بهاء الدين علي بن حنا وزير شجرة الدر وأخذ خطه بستين ألف دينار.
ثم خلع الملك المنصور على الأمير أقطاي المستعرب باستقراره أتابكا عوضًا عن سنجر الحلبي.
ثم في شهر رجب رفعت يد القاضي بحر الدين السنجاري من الوزارة وأضيف إليه قضاء ثم في شعبان كثرت الأراجيف بين الناس بأن الأمراء والأجناد اتفقوا على إزالة حكم مماليك الملك المعز من الدولة وأن الملك المنصور تغير على الأمير سيف الدين قطز المعزي واجتمع الأمراء في بيت الأمير بهاء الدين بغدي الأشرفي مقدم الحلقة وتكلموا إلى أن صلح الأمر بين الملك المنصور وبين مملوك أبيه الأمير قطز. وخلع عليه وطيب قلبه ثم وقع الكلام أيضًا من المعزية وغيرهم.
فلما كان رابع شهر رمضان ركب الأمير بغدي وبدر الدين بلغان وانضاف إليهما جماعة ووقفوا بآلة الحرب فخرج إليهم حاشية السلطان فقاتلوهم وهزموهم وقبضوا على بغدي بعد أن جرح وعلى بلغان وحملا إلى القلعة ودخلت المعزية إلى القاهرة فقبضوا على الأمير عز الدين أيبك الأسمر وأرزن الرومي وسابق الدين بوزنا الصيرفي وغيرهم من المماليك الأشرفية ونهبت دورهم فاضطربت القاهرة حتى نودي بالأمان لمن دخل في الطاعة وسكن الناس وركب السلطان الملك المنصور في خامس شهر رمضان وشق القاهرة وفي خدمته الأمير قطز وباقي مماليك أبيه ثم نزل أيضًا في عيد الفطر وصلى بالمصفى. وركب وعاد إلى القلعة ومد السماط.
ثم ورد كتاب الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب الشام وحلب على الملك المنصور بمفارقة البحرية والصالحية له - أعني الأمراء والمماليك الذين خرجوا من القاهرة بعد القبض على علم الدين سنجر الحلبي المقدم ذكره -. فلما وقف المصريون على الكتاب ظنوا أن ذلك خديعة من الملك الناصر فاحترزوا لأنفسهم.
ثم جهز المنصور عسكرا من المماليك والأمراء ومقدمهم الدمياطي إلى الشام فتوجهوا ونزلوا بالعباسة فوردت الأخبار على السلطان الملك المنصور بأن عساكر الملك الناصر وصلت إلى نابلس لقتال البحرية الذين قدموا عليه من مصر ثم فارقوه وكان البحرية نازلين بغزة ثم وردت الأخبار بأن البحرية وكان مقدم البحرية بلبان الرشيدي وبيبرس البندقداري خرجوا من غزة وكبسوا عسكر الملك الناصر وقتلوا منهم جماعة كثيرة ليلا.
ثم ورد الخبر ثانيا بأن عسكر الملك الناصر كسروا البحرية وأن البحرية انحازوا إلى ناحية زغر من الغور. ثم ورد الخبر أيضا بمجيء البحرية إلى جهة القاهرة طائعين للسلطنة فقدم منهم الأمير عز الدين أيبك الأفرم ومعه جماعة فتلقوا بالإكرام وأفرج عن أملاك الأفرم وأرزاقه ونزل بداره بمصر.
ثم بلغ السلطان أن البحرية - أعني الذي بقي منهم - رحلوا من زغر طالبين بعض الجهات فاتضح من أمرهم أنهم خرجوا من دمشق على حمية وأنهم قصدوا القدس الشريف ومقطع القدس يوم ذاك سيف الدين كبك من جهة الملك الناصر يوسف صاحب الشام وحلب فطلبوا منه البحرية أن يكون معهم فامتنع فاعتقلوه وخطبوا بالقدس للملك المغيث بن العادل بن الكامل بن العادل بن أيوب. ثم جاؤوا إلى غزة وقبضوا على واليها - أعني نائبها - وأخذوا حواصل الملك الناصر من غزة. والقدس وغيرهما.
ثم إنهم أطمعوا الملك المغيث صاحب الكرك في ملك مصر وقالوا له : هذا ملك أبيك وجدك وعمك ثم عزموا على قصد الديار المصرية فجاء الخبر إلى مصر بذلك فخرج إليهم العسكر المصري واجتمعوا بالصالحية وأقاموا بها فلما كان سحر ليلة السبت منتصف في القعدة وصلت البحرية بمن معهم من عسكر الملك المغيث ووقعت الحرب بين الفريقين واشتد القتال بينهم وجرح جماعة والمصريون مع ذلك يزدادون كثرة وطلعت الشمس فرأت البحرية كثرة المصريين فانهزموا وأسر منهم بلبان الرشيدي وبه جراحات وهو من كبار القوم وهرب بيبرس البندقداري وبدر الصوابي إلى الكرك وبعض البحرية دخل في العسكر المصري ودخل العسكر المصري القاهرة وزين البلد لهذا النصر وفرح الملك المنصور والأمير قطز بذلك.
وأما البحرية فإنهم توجهوا إلى الملك المغيث صاحب الكرك وحسنوا له أن يركب ويجيء معهم لأخذ مصر فأصغى لهم وتجهز وخرج بعساكره من الكرك في أول سنة ست وخمسين وستمائة وسار حتى قدم غزة وأمر البحرية راجع إلى بيبرس البندقداري. فلما بلغ ذلك المصريين خرج الأمير سيف الدين قطز بعساكر مصر ونزل بالعباسة. فلما تكامل عسكره سار منه قاصدا الشاميين.
وخرج الملك المغيث من غزة إلى الرمل فالتقى بالعسكر المصري وتقاتلا قتالًا شديدًا في يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من شهر ربيع الآخر فانكسر الملك المغيث بمن معه من البحرية وقبض على جماعة كثيرة من المماليك البحرية الصالحية وهم: الأمير عز الدين أيبك الرومي وعز الدين أيبك الحموي وركن الدين الصيرفي وابن أطلس خان الخوارزمي وجماعة كثيرة فاحضروا بين يدي الأمير سيف الدين قطز والأمير الغتمي والأمير بهادر المعزية فأمروا بضرب أعناقهم فضربت وحملت رؤوسهم إلى القاهرة وعلقت بباب زويلة ثم أنزلت من يومها لما أنكر قتلهم على المعزية بعض أمراء مصر واستشنع ذلك.
وأما الملك المغيث فإنه هرب هو والطواشي بدر الصوابي وبيبرس البندقداري ومن معهم ووصلوا إلى الكرك في أسوأ حال بعد أن نهب ما كان معهم من الثقل والخيام والسلاح وغير ذلك وأقاموا بالكرك وبينما هم في ذلك أرسل الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب الشام جيشا مقدمه الأمير مجير الدين إبراهيم بن أبي بكرم بن أبي زكري والأمير نور الدين علي بن الشجاع الأكتع في طلب البحرية وخرجت البحرية لما بلغهم ذلك إلى غزة والتقوا مع العسكر الشامي وتقاتلوا فانكسر العسكر الشامي وقبض على مجير الدين ونور الدين وحملوهما البحرية إلى الكرك وقوي أمر البحرية بهذه الكسرة واشتدوا.
وأما الملك الناصر لما بلغه كسر عسكره تجهز وخرج بنفسه لقتال البحرية وضرب دهليزه قبلي دمشق.
فلما بلغ البحرية ذلك توجهوا نحو دمشق وضربوا أطراف عساكر الملك الناصر وخف بيبرس البندقداري حتى إنه أتى في بعض الأيام وقطع أطناب خيمة الملك الناصر المضروبة وذلك قبل خروج الناصر من دمشق. وبينما الناس في ذلك ورد الخبر بأخذ التتار لبغداد وقتل هولاكو الخليفة المستعصم بالله وإخراب بغداد.
سقوط بغداد بأيدي المغول قلت: نذكر سبب أخذ هولاكو لبغداد ثم نعود إلى أمر المصريين والشاميين والبحرية.
من هو هولا كــــو ؟
فأما أمر هولاكو فإنه هولاكو وقيل: هولاو بن تولي خان بن جنكزخان المغلي.
ولي الملك بعد موت أبيه تولي قان واتسعت ممالكه وعظم أمره وكثرت جيوشه من المغل والتتار ولا زال أمره في زيادة حتى ملك مدينة ألموت وقتل متوليها شمس الشموس وأخذ بلاده ثم أخذ الروم وأبقى بها ركن الدين كيقباد بن غياث الدين كيخسرو صورة بلا معنى والحكم والتصرف لغيره.
وكان وزير الخليفة المستعصم بالله مؤيد الدين بن العلقمي ببغداد وكان رافضيًا خبيثًا حريصًا على زوال الدولة العباسية ونقل الخلافة إلى العلويين يدبر ذلك في الباطن ويظهر للخليفة المستعصم خلاف ذلك ولا زال يثير الفتن بين أهل السنة والرافضة حتى تجالدوا بالسيوف وقتل جماعة من الرافضة ونهبوا فاشتكى أهل باب البصرة إلى الأمير مجاهد الدين الدوادار وللأمير أبي بكر ابن الخليفة فتقدما إلى الجند بنهب الكرخ فركبوا من وقتهم وهجموا على الرافضة بالكرخ وقتلوا منهم جماعة وارتكبوا معهم العظائم فخنق الوزير ابن العلقمي ونوى الشر في الباطن وأمر أهل الكرخ الرافضة بالصبر والكف عن القتال وقال لهم: أنا أكفيكم فيهم.
وكان الخليفة المستنصر بالله قد استكثر من الجند قبل موته حتى بلغ عدد عسكره مائة ألف.
وكان الوزير ابن العلقمي مع ذلك يصانع التتار في الباطن ويكاتبهم ويهاديهم فلما استخلف المستعصم بعد موت أبيه المستنصر وكان المستعصم خليًا من الرأي والتدبير فأشار عليه ابن العلقمي المذكور بقطع أرزاق أكثر الجند وأنه بمصانعة التتار وإكرامهم يحصل بذلك المقصود ولا حاجة لكثرة الجند ففعل الخليفة ذلك! قلت: وكلمة الشيخ مطاعة! ثم إن الوزير بعد ذلك كاتب التتار وأطمعهم في البلاد سرًا وأرسل إليهم غلامه وأخاه وسهل عليهم فتح العراق وأخذ بغداد وطلب منهم أن يكون نائبهم بالبلاد فوعدوه بذلك وتأهبوا لقصد بغداد وكاتبوا لؤلؤا صاحب الموصل في تهيئة الإقامات والسلاح فكاتب لؤلؤ الخليفة سرًا وحذره ثم هيأ لهم الآلات والإقامات.
وكان الوزير ابن العلقمي المذكور ليس لأحد معه كلام في تدبير أمر الخليفة فصار لا يوصل مكاتبات لؤلؤ ولا غيره للخليفة وعمى عنه الأخبار والنصائح فكان يقرؤها هو ويجيب عنها بما يختار فنتج أمر التتار بذلك غاية النتاج وأخذ أمر الخليفة والمسلمين في إدبار! وكان تاج الدين بن صلايا نائب الخليفة بإربل حذر الخليفة وحرك عزمه والخليفة لا يتحرك ولا يستيقظ فلما تحقق الخليفة حركة التتار نحوه سير إليهم شرف الدين بن محيي الدين بن الجوزي رسولًا يعدهم بأموال عظيمة ثم سير مائة رجل إلى الدربند يكونون فيه يطالعون الخليفة بالأخبار فمضوا فلم يطلع لهم خبر لأن الأكراد الذين كانوا هناك دلوا التتار عليهم فهجموا عليهم وقتلوهم أجمعين.
ثم ركب هولاكو بن تولي خان بن جنكزخان في جيوشه من المغل والتتار وقصدوا العراق وكان على مقدمته الأمير بايجونوين وفي جيشه خلق من أهل الكرخ الرافضة ومن عسكر بركة خان ابن عم هولاكو ومدد من صاحب الموصل مع ولده الملك الصالح ركن الدين إسماعيل فوصلوا قرب بغداد واقتتلوا من جهة البر الغربي عن دجلة فخرج عسكر بغداد وعليهم ركن الدين الدوادار فالتقوا على نحو مرحلتين من بغداد فانكسر البغداديون وأخذتهم السيوف وغرق بعضهم في الماء وهرب الباقون. ثم ساق بايجونوين مقدمة هولاكو فنزل القرية مقابل دار الخلافة وبينه وبينها دجلة لا غير.
وقصد هولاكو بغداد من البر الشرقي وضرب سورا وخندقا على عسكره وأحاط ببغداد فأشار الوزير ابن العلقمي على الخليفة المستعصم بالله بمصانعتهم.
وقال له : أخرج إليهم أنا في تقرير الصلح فخرج إليهم واجتمع بهولاكو وتوثق لنفسه ورد إلى الخليفة وقال: إن الملك قد رغب في أن يزوج بنته بابنك الأمير أبي بكر ويبقيك على منصب الخلافة كما أبقى صاحب الروم في سلطنته ولا يطلب إلا أن تكون الطاعة له كما كان أجدادك مع السلاطين السلجوقية وينصرف هو عنك بجيوشه فتجيبه يا مولانا أمير المؤمنين لهذا فإن فيه حقن دماء المسلمين ويمكن أن تفعل بعد ذلك ما تريد والرأي أن تخرج إليه فسمع له الخليفة وخرج إليه في جمع من الأعيان من أقاربه وحواشيه وغيرهم.
فلما توجه إلى هولاكو لم يجتمع به هولاكو وأنزل في خيمة ثم ركب الوزير وعاد إلى بغداد بإذن هولاكو واستدعى الفقهاء والأعيان والأماثل ليحضروا عقد بنت هولاكو على ابن الخليفة فخرجوا من بغداد إلى هولاكو فأمر هولاكو بضرب أعناقهم ثم مد الجسر ودخل بايجونوين بمن معه إلى بغداد وبذلوا السيف فيها واستمر القتل والنهب والسبي في بغداد بضعة وثلاثين يوما فلم ينج منهم إلا من اختفى. ثم أمر هولاكو بعد القتلى فبلغوا ألف ألف وثمانمائة ألف وكسرًا.
وقال الذهبي - رحمه الله - في تاريخ الإسلام: والأصح أنهم بلغوا ثمانمائة ألف. ثم نودي بعد ذلك بالأمان فظهر من كان اختفى وهم قليل من كثير. وأما الوزير ابن العلقمي فلم يتم له ما أراد وما اعتقد أن التتار يبذلون السيف مطلقا في أهل السنة والرافضة معًا وراح مع الطائفتين أيضا أمم لا يحصون كثرة وذاق ابن العلقمي الهوان والذل من التتار ولم تطل أيامه بعد ذلك كما سيأتي ذكره. ثم ضرب هولاكو عنق مقدم جيشه بايجونوين لأنه بلغه عنه من الوزير ابن العلقمي أنه كاتب الخليفة المستعصم لما كان بالجانب الغربي. وأما الخليفة فيأتي ذكره في الحوادث على عادة هذا الكتاب في محله غير أننا نذكره هنا على سبيل الاستطراد.
ولما تم أمر هولاكو طلب الخليفة وقتله خنقا. وقيل غم في بساط وقيل جعله هو وولده في عدلين وأمر برفسهما حتى ماتا.
ثم قتل الأمير مجاهد الدين الدوادار والخادم إقبال الشرابي صاحب الرباط بحرم مكة والأستادار محيي الدين بن الجوزي وولداه وسائر الأمراء الأكابر والحجاب والأعيان. وانقضت الخلافة من بغداد وزالت أيامهم من تلك البلاد وخربت بغداد الخراب العظيم وأحرقت كتب العلم التي كانت بها من سائر العلوم والفنون التي ما كانت في الدنيا قيل: إنهم بنوا بها جسرًا من الطين والماء عوضًا عن الآجر وقيل غير ذلك.
وكانت كسرة الخليفة يوم عاشوراء من سنة ست وخمسين وستمائة المذكورة ونزل هولاكو بظاهر بغداد في عاشر المحرم وبقي السيف يعمل فيها أربعة وثلاثين يومًا وآخر جمعة خطب الخطيب ببغداد كانت الخطبة: الحمد لله الذي هدم بالموت مشيد الأعمار وحكم بالفناء على أهل هذه الدار إلى أن قال: اللهم أجرنا ف
ي مصيبتنا التي لم يصب الإسلام وأهله بمثلها وإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم عمل الشعراء والعلماء قصائد في مراثي بغداد وأهلها وعمل الشيخ تقي الدين إسماعيل ابن إبراهيم بن أبي اليسر شاكر بن عبد الله التنوخي قصيدته المشهورة وهي: البسيط لسائل الدمع عن بغداد أخبار فما وقوفك والأحباب قد ساروا يا زائرين إلى الزوراء لا تفدوا فما بذاك الحمى والدار ديار تاج الخلافة والربع الذي شرفت به المعالم قد عفاه إقفار أضحى لعطف البلى في ربعه أثر وللدموع على الآثار آثار يا نار قلبي من نار لحرب وغى شبت عليه ووافي الربع إعصار علا الصليب على أعلى منابرها وقام بالأمر من يحويه زنار ومنها: وكم بدور على البدرية انخسفت ولم يعد لبدور منه إبدار وكم ذخائر أضحت وهي شائعة من النهاب وقد حازته كفار وكم حدود أقيمت من سيوفهم على الرقاب وحطت فيه أوزار ومنها: وهم يساقون للموت الذي شهدوا النار يا رب من هذا ولا العار يا للرجال بأحداث تحدثنا بما غدا فيه إعذار وإنذار من بعد أسر بني العباس كلهم فلا أنار لوجه الصبح إسفار ما راق لي قط شيء بعد بينهم إلا أحاديث أرويها وآثار لم يبق للدين والدنيا وقد ذهبوا سوق لمجد وقد بانوا وقد باروا إن القيامة في بغداد قد وجدت وحدها حين للإقبال إدبار آل النبي وأهل العلم قد سبيوا فمن ترى بعدهم تحويه أمصار ما كنت آمل أن أبقى وقد ذهبوا لكن أبى دون ما أختار أقدار وهي أطول من ذلك. وجملة القصيدة ستة وستون بيتا.
وقال غيره في فقد الخلافة من بغداد بيتًا مفردًا وأجاد: الكامل خلت المنابر والأسرة منهم فعليهم حتى الممات سلام انتهى ذكر بغداد هنا ولا بد من ذكر شيء منها أيضا في الحوادث.
الحرب فى الشام أثناء هجوم التتار
يوسف صاحب الشام بعساكر في أثر البحرية فاندفعوا البحرية أمامه إلى الكرك فسار الناصر حتى نزل بركة زيزاء ليحاصر الكرك وصحبته الملك المنصور صاحب حماة فأرسل الملك المغيث عمر بن العادل بن الكامل صاحب الكرك رسله إلى الملك الناصر يطلب الصلح وكان مع رسله الدار القطبية ابنة الملك المفضل قطب الدين بن العادل وهي من عمات الناصر والمغيث يتضرعون إلى الناصر ويطلبون الصلح ورضاه على ابن المغيث فشرط عليه الناصر أن يقبض على من عنده من البحرية فأجاب إلى ذلك وقبض وجهزهم إلى الملك الناصر على الجمال وهو نازل ببركة زيزاء.
فحملهم الملك الناصر إلى حلب واعتقلهم بقلعتها ما خلا الأمير بيبرس البندقداري فإنه لما أحس بما وقع عليه الصلح هرب من الكرك في جماعة من البحرية وأتى إلى الملك الناصر صلاح الدين المذكور داخلًا تحت طاعته فأكرمه الملك الناصر وأكرم رفقته إكرامًا زائدًا وعاد الناصر إلى دمشق وفي خدمته الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري وغيره من البحرية.
وأما المصريون فإنه لما بلغ الملك المنصور عليًا والأمير قطز المعزي ما وقع للبحرية فرحًا فرحًا زائدًا وزينت مصر أياما لذلك وصفا الوقت للأمير قطز.
هولاكـــو يهاجم الشام
وبينما هو في ذلك ورد الخبر عليه بنزول هولاكو على مدينة آمد من ديار بكر وأنه في قصد البلاد الشامية وأن هولاكو بعث رسله إلى الملك السعيد نجم الدين إيلغاري صاحب ماردين يستدعيه إلى طاعته وحضرته فسير إليه الملك السعيد ولده الملك المظفر قرا أرسلان وقاضي القضاة مهذب الدين محمد بن مجلي والأمير سابق الدين بلبان وعلى أيديهم هدية وحملهم رسالة تتضمن الاعتذار عن الحضور بمرض منعه الحركة.
ووافق وصولهم إلى هولاكو أخذه لقلعة اليمانية وإنزاله من بها من حريم صاحب ميافارقين وأولاده وأقاربه وهم: ولده الملك الناصر صلاح الدين يوسف جفتاي وولده الملك السعيد عمر وابن أخيه الملك الأشرف أحمد وولده الملك المشهر ابن تاج الملوك علي ابن الملك العادل وكان ينعت بالملك الصالح نجم الدين أيوب فأدوا الرسالة فقال هولاكو: ليس مرضه بصحيح وإنما هو يتمارض مخافة الملك الناصر صاحب الشام فإن انتصرت عليه اعتذر لي بزيادة المرض وإن انتصر علي كانت له اليد البيضاء عنده ثم قال: ولو كان للملك الناصر قوة يدفعني لم يمكني من دخول هذه البلاد وقد بلغني أنه بعث حريمه إلى مصر ثم أمر برد القاضي وحده فرد القاضي وأخبر الملك السعيد بالجواب.
وأما هولاكو فإنه لازال يأخذ بلدًا بعد أخرى إلى أن استولى على حلب والشام واضمحل أمر الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب الشام بعد أمور ووقائع وقعت له وانفل عنه أصحابه.
فلما وقع ذلك فارقه الأمير بيبرس البندقداري وقدم إلى مصر ومعه جماعة من البحرية طائعًا للملك المنصور هذا فأكرمه قطز وأكرم رفقته وصاروا الجميع من عساكر مصر على العادة أولًا.
السنة الأولى من سلطنة المنصور علي ابن الملك المعز أيبك التركماني على مصر وهي سنة خمس وخمسين وستمائة على أن والده الملك المعز حكم فيها نحوًا من ثلاثة أشهر.
فيها أرسل الملك الناصر يوسف صاحب الشام ولده الملك العزيز بهدية إلى هولاكو ملك التتار وطاغيتهم. وفيها قتلت الملكة شجرة الدر الملك المعز أيبك ثم قتلت هي أيضا.
وفيها توفي الأمير عز الدين أيبك بن عبد الله الحلبي الكبير كان من أعيان المماليك الصالحية النجمية وممن يضاهي الملك المعز أيبك التركماني في موكبه وكانت له المكانة العظمى في الدولة كان الأمراء يعترفون له بالتقدم عليهم وكان له عدة مماليك نجباء صاروا من بعده أمراء منهم: ركن الدين إياجي الحاجب وبدر الدين بيليك الجاشنكير وصارم الدين أزبك الحلبي وغيرهم.
ولما قتل الملك المعز أيبك التركماني حدثته نفسه بالسلطنة فلما قبض قطز على الأمير سنجر الحلبي ركب أيبك هذا ومعه الأمراء الصالحية فتقنطر به فرسه فهلك خارج القاهرة وأدخل إليها ميتًا وكذلك وقع للأمير خاص ترك.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم أربع أذرع وخمس وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا.
السنة الثانية من سلطنة المنصور علي ابن الملك المعز أيبك على مصر وهي سنة ست وخمسين وستمائة.
فيها استولى الطاغية هولاكو على بغداد وقتل الخليفة المستعصم بالله ومعظم أهل بغداد وقد تقدم ذلك.
وفيها كان الوباء العظيم بدمشق وغيرها.
وفيها توفي الخليفة أمير المؤمنين المستعصم بالله أبو أحمد عبد الله ابن الخليفة المستنصر بالله منصور ابن الخليفة الظاهر بأمر الله محمد ابن الخليفة الناصر لدين الله أبي العباس أحمد ابن الخليفة المستضيء بالله أبي الحسن ابن الخليفة المستنجد بالله أبي المظفر يوسف ابن الخليفة المقتفي بالله أبي عبد الله محمد ابن الخليفة المستظهر بالله أبي العباس أحمد ابن الخليفة المقتدي بالله أبي القاسم عبد الله ابن الأمير محمد الذخيرة وهو غير خليفة ابن الخليفة القائم بأمر الله عبد الله ابن الخليفة القادر بالله أبي العباس أحمد ابن الأمير إسحاق وإسحاق غير خليفة ابن الخليفة المقتدر بالله أبي الفضل جعفر ابن الخليفة المعتضد بالله أبي العباس أحمد ابن الأمير طلحة الموفق وطلحة غير خليفة أيضًا ابن الخليفة المتوكل على الله أبي الفضل جعفر ابن الخليفة المعتصم بالله محمد ابن الخليفة الرشيد بالله هارون ابن الخليفة المهدي بالله محمد ابن الخليفة أبي جعفر عبد الله المنصور بن محمد بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي البغدادي آخر خلفاء بني العباس ببغداد وبموته انقرضت الخلافة من بغداد.
ولي الخلافة بعد وفاة والده المستنصر بالله في العشرين من جمادى الأولى سنة أربعين وستمائة ومات قتيلا بيد هولاكو طاغية التتار في هذه السنة. وكانت مدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأيامًا. وتقدير عمره سبع وأربعون سنة.
وكان قليل المعرفة بتدبير الملك نازل الهمة مهملًا للأمور المهمة محبًا لجمع الأموال يقدم على فعل ما يستقبح أهمل أمر هولاكو حتى كان في ذلك هلاكه.
وشغرت الخلافة بعده سنين وبقيت الدنيا بلا خليفة حتى أقام الملك الظاهر بيبرس البندقداري بعض بني العباس في الخلافة.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم أربع أذرع وتسع عشرة إصبعا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وخمس أصابع.
السنة الثالثة من سلطنة المنصور علي ابن الملك المعز أيبك على مصر فيها خلع الملك المنصور علي المذكور بمملوك أبيه الملك المظفر قطز المعزي.
وفيها دخل هولاكو ديار بكر قاصدا حلب.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم أربع أذرع وست وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ثماني عشرة ذراعا وإصبع واحدة.
****************************************************************************
قال المقريزى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار الجزء الثالث ( 931 من 761) : " السلطان الملك المنصور نور الدين علي بن المعز أيبك: في يوم الخمس خامس عشري ربيع الأول وعمره خمس عشرة سنة فدبر أمره نائب أبيه الأمير سيف الدين قطز ثم خلعه في يوم السبت رابع عشري ذي القعدة سنة سبع وخمسين وستمائة فكانت مدّته سنتين وثمانية أشهر وثلاثة أيام وقام من بعده
.
=====================================================================