****************************************************************************************
الجزء التالى عن المماليك الذين حكموا مصر وهم تحت إستعمار الأسرة العباسية السنية الإسلامية من مرجع - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة - جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي - منذ غزو مصر على يد جيش المسلمين بقيادة عمرو بن العاص ومن تولوا إمارة مصر قبل الإسلام وبعد الإسلام إلى نهاية سنة إحدى وسبعين وثمانمائة
****************************************************************************************
السلطان الملك المنصور سيف الدين ابن الملك الناصر على مصر سنة 741 هـ
ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون على مصر هو السلطان الملك المنصور سيف الدين أبو بكر ابن السلطان الملك الناصر أبي المعالي محمد ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون.
جلس على تخت الملك بالإيوان من قلعة الجبل بعهد من أبيه إليه صبيحة توفي والده وهو يوم الخميس حادي عشرين ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وسبعمائة ولقبه الأمراء الأكابر بالملك المنصور على لقب جده.
والمنصور هذا هو الثالث عشر من ملوك الترك بديار مصر والأول من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاوون.
واتفق الأمراء على إقامة الأمير سيف الدين طقزدمر الحموي حمو الملك المنصور هذا في نيابة السلطنة بديار مصر كونه من أكابر الأمراء وأيضًا صهر السلطان ويكون الأمير قوصون الناصري مدبر المملكة ورأس المشورة ويشاركه في الرأي الأمير بشتك الناصري.
وتم ذلك ورسم بتجهيز التشاريف والخلع إلى نواب البلاد الشامية على يد الأمير قطلوبغا الفخري ورسم له بتحليف الأمراء والنواب بالبلاد الشامية على العادة.
ونودي بالقاهرة ومصر أن يتعامل الناس بالفضة والذهب بسعر الله تعالى فسر الناس بذلك فإنهم كانوا قد امتنعوا من التعامل بالفضة وألا تكون معاملتهم إلا بالذهب.
ثم أفرج عن بركة الحبش وقف الأشراف وكان النشو قد أخذها من الأشراف وصار ينفق فيهم من بيت ثم في يوم الخميس ثامن عشرين ذي الحجة أنعم الملك المنصور على عشرة أمراء بإمرة طبلخاناه.
ثم جمع القضاة في يوم السبت سلخه في جامع القلعة للنظر في أمر الخليفة الحاكم بأمر الله أحمد بن أبي الربيع سليمان وإعادته إلى الخلافة وحضر معهم الأمير طاجار الدوادار.
فاتفقوا على إعادته لعهد أبيه إليه بالخلافة بمقتضى مكتوب ثابت على قاضي قوص.
ثم في يوم الإثنين ثاني المحرم سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة خلع السلطان على جميع الأمراء المقدمين في الموكب بدار العدل وطلع القضاة وجلس الخليفة الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد على الدرجة الثالثة من تخت السلطان وعليه خلعة خضراء وفوق عمامته طرحة سوداء مرقومة بالذهب.
ثم خرج السلطان من باب السر على العادة إلى الإيوان فقام له الخليفة والقضاة ومن كان جالسًا من الأمراء وجلس على الدرجة الأولى دون الخليفة.
وقام الخليفة وآفتتح الخطبة بقوله عز وجل: " إن آلله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر وآلبغي يعظكم لعلكم تذكرون.
وأوفوا بعهد آلله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم آلله عليكم كفيلًا إن الله يعلم ما تفعلون ".
ثم أوصى الأمراء بالرفق بالرعية وإقامة الحق وتعظيم شعائر الإسلام ونصرة الدين ثم قال: فوضت إليك جميع أحكام المسلمين وقلدتك ما تقلدته من أمور الدين.
ثم تلا قوله تعالى: " إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرًا عظيمًا.
وجلس فجيء في الحال بخلعة سوداء فألبسها الخليفة السلطان بيده ثم قلده سيفًا عربيًا وأخذ القاضي علاء الدين علي بن فضل الله كاتب السر في قراءة عهد الخليفة للسلطان حتى فرغ منه ثم قدمه إلى الخليفة فكتب عليه ثم كتب بعده قضاة القضاء بالشهادة عليه ثم قدم السماط فأكلوا وانقضت الخدمة.
ثم قدم الأمير بيغرا في يوم الخميس خامس المحرم من عند الأمير أحمد ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون من الكرك وقد حلفه بمدينة الكرك لأخيه السلطان الملك المنصور هذا ففرح الناس بذلك.
ثم في يوم الأحد ثامن المحرم قبض على الأمير بشتك الناصري وذلك أنه طلب أن يستقر في نيابة الشام ودخل على الأمير قوصون وسأله في ذلك وأعلمه أن السلطان كان قبل موته وعلى بها وألح في سؤاله وقوصون يدافعه ويحتج عليه بأنه قد كتب إلى الأمير ألطنبغا الصالحي نائب دمشق تقليدًا بآستمراره في نيابة دمشق على عادته ولا يليق عزله سريعًا فقام عنه بشتك وهو غير راض فإنه كان قد توهم من قوصون وخشي منه على نفسه وطلب الخروج من ديار مصر لما كان بينهما قديما من المنافرة ولأن قوصون صار الآن متحكمًا في الدولة.
فلما خرج بشتك من عند قوصون وهو غير راض سعى بخاصكية السلطان وحمل إليهم مالًا كثيرًا في السر وبعث إلى الأمراء الكبار وطلب منهم المساعدة فما زالوا بالسلطان حتى أنعم عليه بنيابة الشام وطلب الأمير قوصون وأعلمه بذلك فلم يوافقه وقرر مع السلطان أنه يحدث الأمراء في ذلك ويعدهم بأنه يولي بشتك إذا قدم الأمير قطلوبغا الفخري من تحليف نائب الشام وبنسخة اليمين.
فلما دخل الأمراء عرفهم السلطان طلب بشتك بنيابة الشام فأخذوا في الثناء عليه والشكر منه فاستدعاه وطيب خاطره ووعده بها عند قدوم الفخري ورسم له بأن يتجهز للسمرة فظن بشتك أن ذلك صحيح وقام مع الأمراء من الخدمة وأخذ في عرض خيوله وبعث لكل من أكابر الأمراء المقدمين ما بين ثلاثة أرؤس إلى رأسين بالقماش المذهب الماخر وبعث معها أيضًا الهجن ثم بعث إلى الأمراء الخاصكية مثل ملكتمر الحجازي وألطنبغا المارداني شيئًا كثيرًا من الذهب والجوهر واللؤلؤ والتحف.
وفرق عدة من الجواري في الأمراء بحيث إنه لم يبق أحد من الأمراء إلا وأرسل إليه.
ثم فرق على مماليكه وأجناده وأخرج ثمانين جارية بعد ما شورهن بالأقمشة والزراكش وزوجهن.
وفرق من شونته على الأمراء اثني عشر ألف إردب غلة.
وزاد بشتك في العطاء حتى وقع الإنكار عليه واتهمه السلطان والأمير قوصون بأنه يريد الوثوب على السلطان وعملوا هذا من فعله حجة للقبض عليه.
وكان ما خص الأمير قوصون من تفرقة بشتك في هذه النوبة حجرين من حجارة معاصير القصب بما فيهما من القنود والسكر والأعسال والأبقار والغلال والآلات وخمسمائة فدان من القصب مزروعة في أراض ملك له وغير ذلك فأدهش الأمراء كثرة عطائه وآستغنى منه جماعة من مماليكه وحواشيه.
ولما كثرت القالة فيه بأنه يريد إفساد الدولة خلا به بعض خواصه وعرفه ذلك وأشار عليه بإمساك يده عن العطاء فقال: " هم إذا قبضوا علي أخذوا مالي وأنا أحق بتفرقته منهم وإذا سلمت فالمال كثير ".
هذا وقد قام قوصون في أمر بشتك المذكور قيامًا حتى وافقه السلطان على القبض عليه عند قدوم قطلوبغا الفخري.
فأشاع قوصون أن بشتك يريد القبض على الفخري إذا حضر فبلغ ذلك بعض خواص قطلوبغا فبعث إليه من تلقاه وعرفه بما وقع من تجهيز بشتك وأنه على عزم من أن يلقاك في طريقك ويقتلك فكن على حذر فأخذ قطلوبغا من الصالحية يحترز على نفسه حتى نزل سرياقوس.
واتفق من الأمر العجيب أن بشتك خرج إلى حوشه بالريدانية خارج القاهرة ليعرض هجنه وجماله فطار الخبر إلى قطلوبغا أن بشتك قد خرج إلى الريدانية في انتظارك فآستعد قطلوبغا ولبس السلاح من تحت ثيابه وسار حتى تلقاه عدة كثيرة من مماليكه وحواشيه وهو على أهبة الخروج للحرب وخرج قطلوبغا عن الطريق وسلك من تحت الجبل لينجو من بشتك وقد قوي عنده صحة ما بلغه وكان عند بشتك علم من قدومه فلما قرب قطلوبغا من الموضع الذي فيه بشتك لاحت له غبرة خيل فحدس بشتك أنه قطلوبغا الفخري قد قدم فبعث إليه أحد مماليكه يبلغه سلامه وأنه يقف حتى يأتيه فيجتمع به.
فلما بلغ الفخري ذلك زاد خوفه من بشتك فقال له: " سلم على الأمير وقل له: لا يمكن آجتماعه بي قبل أن أقف قدام السلطان.
ثم بعد ذلك اجتمع به وبغيره " فمضى مملوك بشتك وفي ظن قطلوبغا أنه إذا بلغه مملوكه الجواب ركب إليه فأمر قطلوبغا مماليكه بأن يسيروا قليلًا قليلًا وساق هو بمفرده مشوارًا واحدًا إلى القلعة.
ودخل إلى السلطان وبلغه طاعة النواب وفرحهم بأيامه.
ثم أخذ يعرف السلطان والأمير قوصون وسائر الأمراء بما اتفق له مع بشتك وأنه كان يريد معارضته في طريقه وقتله فأعلمه السلطان وقوصون بما اتفقا عليه من القبض على بشتك.
فلما كان عصر اليوم المذكور ودخل الأمراء إلى الخدمة على العادة بالقصر وفيهم الأمير بشتك وأكلوا السماط تقدم الأمير قطلوبغا الفخري والأمير طقزدمر الناصري الساقي إلى بشتك وأخذا سيفه وكتفاه.
وقبض معه على أخيه أيوان وعلى طولوتمر ومملوكين من المماليك السلطانية كانا يلوذان ببشتك وقيدوا جميعًا وسمروا إلى الإسكندرية في الليل صحبة الأمير أسندمر العمري.
وقبض على جميع مماليكه ووقعت الحوطة على موجوده ودوره وتتبعت غلمانه وحواشيه.
وأنعم السلطان من إقطاع بشتك على الأمير قوصون بخصوص الشرق زيادة على ما بيده وأخذ السلطان المطرية ومنية ابن خصيب وشبرا وفرق بقية الإقطاع على ملكتمر الحجازي وغيره من الأمراء.
فلما أصبحوا يوم الإثنين تاسع المحرم حملت حواصل بشتك وهي من الذهب العين مائتا ألف دينار مصرية ومن اللؤلؤ والجواهر والحوائص الذهب والكلفتاه الزركش شيء كثير جدًا هذا بعد أن فرق غالب موجوده حسب ما تقدم ذكره على الأمراء والمماليك.
ثم أخرج السلطان الأمير أحمد شاد الشربخاناه منفيًا إلى طرابلس لميله مع بشتك.
في يوم الخميس أنعم السلطان على أخويه: شعبان ورمضان كل واحد بإمرة.
وفيه قبض السلطان على الأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير بكتمر الحاجب لشيء أوجب ذلك.
وفي يوم الإثنين ثالث عشرين المحرم خلع السلطان الملك المنصور أبو بكر على الأمير طقزدمر الحموي بنيابة السلطنة بالديار المصرية وكان رشح لها قبل تاريخه فلبس الخلعة وجلس في دست النيابة وحكم وصرف الأمور.
القبض على الأمير آقبغا عبد الواحد وعلى أولاده وبعض الأمراء الآخرين :
وفي يوم الإثنين سلخه قبض السلطان على الأمير آقبغا عبد الواحد وعلى أولاده وخلع على الأمير طقتمر الأحمدي واستقر أستادارًا عوضًا عن آقبغا المذكور ورسم للأمير طيبغا المجدي وأصبح يوم الثلاثاء أول صفر فتحدث الأمراء أن ينزل في ترسيم المجدي ليتصرف في أمره فنزل في صحبة المجدي وأخذ في بيع موجوده وكان السلطان قد حلف قديمًا أنه متى تسلطن قبض عليه وصادره وضربه بالمقارع لأمور صدرت منه في حقه أيام والده الملك الناصر.
فكان مما أبيع لآقبغا عبد الواحد سراويل لزوجته بمائتي ألف درهم فضة وقبقاب وخف وسر موجة بخمسة وسبعين ألف درهم.
وثار به جماعة كثيرة من الناس ممن كان ظلمهم في أيام تحكمه وطلبوا حقوقهم منه وشكوه فأقسم السلطان لئن لم يرضهم ليسمرنه على جمل ويشهره بالقاهرة ففرق فيهم مائتي ألف درهم حتى سكتوا وكادت العامة تقتله لولا المجدي لسوء سيرته وكثرة ظلمه أيام ولايته.
وفي يوم الأربعاء تاسع صفر قبض السلطان على المقدم إبراهيم بن صابر وسلمه لمحمد بن شمس الدين المقدم وأحيط بأمواله فوجد له نحو سبعين حجرة في الجشار ومائة وعشرين بقرة في الزرايب ومائتي كبش وجوقتين كلاب سلوقية وعدة طيور جوارح مع البازدارية.
ووجد له من الغلال وغيرها شيء كثير.
ثم قدم الخبر على السلطان من الأمير طشتمر حمص أخضر الساقي نائب حلب بخروج ابن دلغادر عن الطاعة وموافقته لإرتنا متملك الروم على المسير لأخذ حلب وأنه قد جمع بأبلستين جمعًا كثيرًا وسأل طشتمر أن ينجده السلطان بعسكر من مصر فتشوش السلطان لذلك وعوق الجواب.
وفيه رسم السلطان بضرب آقبغا عبد الواحد بالمقارع فلم يمكنه الأمير قوصون من ذلك فآشتد حنق السلطان وأطلق لسانه بحضرة خاصكيته في حق قوصون وغيره.
نكاح السلطان لجاريتين
وفي ذلك اليوم عقد السلطان نكاحه على جاريتين من المولدات اللاتي في بيت السلطان وكتب القاضي علاء الدين بن فضل الله كاتب السر صداقهما فخلع عليه السلطان وأعطاه عشرة آلاف درهم.
ورسم السلطان لجمال الكفاة ناظر الخاص أن يجهزهما بمائة ألف دينار فشرع جمال الكفاة في عمل الجهاز.
الأمير قوصون وباقى الأمراء يخلعون السلطان الملك المنصور
وبينما هو في ذلك ركب الأمير قوصون على السلطان بجماعة من الأمراء في يوم السبت تاسع عشر صفر وخلعوه من الملك في يوم الأحد عشرينه وأخرج هو وإخوته إلى قوص صحبة الأمير بهادر بن جركتمر.
وكان سبب خلع الملك المنصور هذا أن المنصور كان قرب الأمير يلبغا اليحياوي وشغف به شغفًا كثيرًا ونادم الأمير ملكتمر الحجازي واختص به وبالأمير طاجار الدوادار وبالأمير قطليجا الحموي وجماعة من الخاصكية وعكف على اللهو وشرب الخمر وسماع الملاهي.
فشق ذلك على الأمير قوصون وغيره لأنه لم يعهد من ملك قبله شرب خمر فيما روي فحملوا الأمير طقزدمر النائب على محادثته في ذلك وكفه عنه فزاده لومه إغراء وأفحش في التجاهر باللهو حتى تكلم به كل أحد من الأمراء والأجناد والعامة.
فصار في الليل يطلب الغلمان ويبعثهم لإحضار المغاني فغلب عليه السكر في بعض الليالي فصاح من الشباك على الأمير أيدغمش أمير آخور: هات لي قطقط فقال أيدغمش: " يا خوند ما عندي فرس بهذا الاسم " فتكلم بذلك السلاخورية والركابية وتداولته الألسنة. قلت: وأظن قطقط كانت آمرأة مغنية. والله أعلم.
فلما زاد أمره طلب الأمير قوصون طاجار الدوادار والشهابي شاد العمائر وعنفهما ووبخهما وقال لهما: " سلطان مصر يليق به أن يعمل مقامات ويحضر إليه البغايا والمغاني! أهكذا كان يفعل والده " وعرفهم أن الأمراء قد بلغهم ذلك وتشوش خواطرهم فدخلوا وعرفوا السلطان كلامه وزادوا في القول فأخذ جلساء الملك المنصور في الوقيعة في قوصون والتحدث في القبض عليه وعلى الأمير قطلوبغا الفخري والأمير بيبرس الأحمدي والأمير طقزدمر النائب.
من هو قوصون ؟
وآتصاله بالملك الناصر محمد بن قلاوون حتى صار ساقيه أعظم مماليكه هو وبكتمر الساقي فإن قوصون كان ممن حضر إلى الديار المصرية من بلاد الترك صحبة خوند بنت أزبك خان التي تزوجها الملك الناصر محمد بن قلاوون وهو غير مملوك.
فلما كان في بعض الأيام طلع قوصون إلى القلعة في خدمة بعض التجار فرآه السلطان الملك الناصر فأعجبه فقال للتاجر: لأي شيء ما تبيعني هذا المملوك فقال التاجر: هذا ما هو مملوك فقال الملك الناصر: لا بد أن أشتريه ووزن ثمنه مبلغ ثمانية آلاف درهم وجهز الثمن إلى أخيه صوصون إلى البلاد.
ثم أنشأه الملك الناصر وجعله ساقيًا ثم رقاه حتى جعله أمير مائة ومقدم ألف وعظم عند الملك الناصر وحظي عنده وزوجه بابنته وهي ثانية بنت زوجها الملك الناصر لمماليكه في سنة سبع وعشرين وسبعماية وكان له عرس حفل آحتفل به الملك الناصر وحمل الأمراء التقادم إليه فكان جملة التقادم خمسين ألف دينار.
ولما كان يقع بينه وبين بكتمر الساقي منافسة يقول قوصون: أنا ما تنقلت من الإسطبلات إلى الطباق بل اشتراني السلطان وجعلني خاصكيًا مقربًا عنده دفعة واحدة فكان الملك الناصر يتنوع في الإنعام على قوصون حتى قيل إنه دفع إليه مرة مفتاح زردخانات الأمير بكتمر الساقي بعد موته وقيمتها ستمائة ألف دينار قاله الشيخ صلاح الدين الصفدي في تاريخه.
فنم عليهم الأمير يلبغا اليحياوي لقوصون - وكان قد استماله قوصون بكثرة العطاء فيمن استمال من المماليك السلطانية - وعرفه أن الاتفاق قد تقرر على القبض عليه في يوم الجمعة وقت الصلاة فانقطع قوصون عن الصلاة وأظهر أن برجله وجعًا وبعث في ليلة السبت يعرف بيبرس الأحمدي بالخبر ويحثه على الركوب معه وطلب المماليك السلطانية وواعدهم على الركوب وملأهم بكثرة المواعيد.
ثم بعث إلى الأمير الحاج آل ملك والأمير جنكلي بن البابا - وهؤلاء أكابر الأمراء - فلم يطلع الفجر حتى ركب الأمير قوصون من باب سر القلعة بمماليكه ومماليك السلطان وسار نحو الصحراء وبعث مماليكه في طلب الأمراء فأتاه جركتمر وبهادر وبرسبغا وقطلوبغا الفخري والأحمدي وأخذوا آقبغا عبد الواحد من ترسيم طيبغا المجدي فسار معه المجدي أيضًا.
ووقفوا بأجمعهم عند قبة النصر ودقت طبلخاناتهم فلم يبق أحد من الأمراء حتى أتى قوصون هذا والسلطان وندماؤه وخاصكيته في غفلة لهوهم وغيبة سكرهم إلى أن دخل عليهم أرباب الوظائف وأيقظوهم من نومهم وعرفوهم ما دهوا به.
فبعث السلطان طاجار الدوادار إلى الأمير طقزدمر النائب يسأله عن الخبر ويستدعيه فوجد عنده جنكلي بن البابا والوزير وعدة من الأمراء المقيمين بالقلعة فآمتنع طقزدمر من الدخول على السلطان وقال: " أنا مع الأمراء حتى أنظر ما عاقبة هذا الأمر " ثم قال لطاجار: " أنت وغيرك سبب هذا حتى أفسدتم السلطان بفسادكم ولعبكم قل للسلطان يجمع مماليكه ومماليك أبيه حوله " فرجع طاجار وبلغ السلطان ذلك فخرج السلطان إلى الإيوان وطلب المماليك فصارت كل طائفة تخرج على أنها تدخل إليه فتخرج إلى باب القلة حتى صاروا نحو الأربعمائة مملوك وساروا يدًا واحدة من باب القلة إلى باب القلعة فوجدوه مغلقًا فرجعوا إلى النائب طقزدمر بعدما أخرقوا بوالي باب القلعة وأنكروا عليه وعلى من عنده من الأمراء " أعني عن الأمير طقزدمر " فقال لهم طقزدمر: " السلطان ابن أستاذكم جالس على كرسي الملك وأنتم تطلبون غيره " فقالوا: ما لنا ابن أستاذ وما لنا أستاذ إلا قوصون.
ابن أستاذنا مشغول عنا لا يعرفنا ومضوا إلى باب القرافة وهدموا منه جانبًا وخرجوا فإذا خيول بعضهم واقفة فركب بعضهم وأردف عدة منهم ومشى باقيهم إلى قبة النصر.
ففرح بهم قوصون والأمراء وأركبوهم الخيول وأعطوهم الأسلحة وأوقفوهم بين أصحابهم.
ثم أرسل قوصون الأمير مسعود بن خطير الحاجب إلى السلطان يطلب منه ملكتمر الحجازي ويلبغا اليحياوي وهما من أمراء الألوف الخاصكية وطاجار الدوادار وغيرهم ويعرفه أنه أستاذه وأستاذ جميع الأمراء وابن أستاذهم وأنهم على طاعته وإنما يريدون هؤلاء لما صدر منهم من الفساد ورمي الفتن.
فطلع الأمير مسعود فوجد السلطان بالإيوان من القلعة وهم حوله في طائفة من المماليك فقبل الأرض وبلغه الرسالة فقال السلطان: لا كيد ولا كرامة لهم وما أسير مماليكي ومماليك أبي لهم وقد كذبوا فيما نقلوا عنهم ومهما قدروا عليه يفعلوه.
فما هو إلا أن خرج عنه الأمير مسعود حتى اقتضى رأيه بأن يركب بمن معه وينزل من القلعة ويطلب النائب طقزدمر ومن عنده من الأمراء والمماليك ويدق كوساته.
فتوجه إلى الشباك وأمر أيدغمش أمير آخور أن يشد الخيل للحرب فأخبره أنه لم يبق في الإسطبل غلام ولا سايس ولا سلاخوري يشد فرسًا واحدًا فبعث إلى النائب يستدعيه فامتنع عليه.
وبعث الأمير قوصون بلك الجمدار وبرسبغا إلى طقزدمر النائب يعلمانه بأنه متى لم يحضر الغرماء إليه وإلا زحف على القلعة وأخذهم غصبًا فبعث طقزدمر إلى السلطان يشير عليه بإرسالهم فعلم السلطان أن النائب وأمير آخور قد خذلاه فقام ودخل على أمه.
فلم يجد الغرماء بدًا من الإذعان وخرجوا إلى النائب وهم الأمير ملكتمر الحجازي وألطنبغا المارداني ويلبغا اليحياوي وهؤلاء مقدمو الألوف وأحد خواص الملك الناصر محمد بن قلاوون - وطاجار الدوادار والشهابي شاد العمائر وبكلمش المارديني وقطليجا الحموي فبعثهم طقزدمر النائب إلى قوصون صحبة بلك الجمدار وبرسبغا.
فلما رآهم قوصون صاح في الحاجب أن يرجلهم عن خيولهم من بعيد فأنزلوا إنزالًا قبيحًا وأخذوا حتى أوقفوا بين يدي قوصون فعنفهم ووبخهم وأمر بهم فقيدوا وعملت الزناجير في رقابهم والخشب في أيديهم ثم تركهم في خيم ضربت لهم عند قبة النصر.
واستدعى طقزدمر النائب والأمير جنكلي بن البابا والوزير والأمراء المقيمين بالقلعة والأمير أيدغمش أمير آخور فنزلوا إليه واتفقوا على خلع الملك المنصور وإخراجه وإخوته من القلعة.
فتوجه الأمير برسبغا في جماعة إلى القلعة وأخرج الملك المنصور وإخوته وهم سبعة نفر ومع كل منهم مملوك صغير وخادم وفرس وبقجة قماش وأركبهم إلى شاطئ النيل وأنزلهم في حراقة وسار جركتمر بن بهادر بهم إلى قوص ولم يترك برسبغا بالقلعة من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاوون إلا كجك.
ثم سلم قوصون الأمراء المقيدين إلى والي القاهرة فمضى بهم إلى خزانة شمائل وسجنهم بها إلا يلبغا اليحياوي فإنه أفرج عنه.
وكان يومًا عظيمًا بالديار المصرية من إخراج أولاد السلطان الملك الناصر على هذه الصورة وحبس هؤلاء الأمراء الملوك في خزانة شمائل وتهتك حرم السلطان على إخراج أولاد الناصر وكثر البكاء والعويل بالقاهرة فكان هذا اليوم من أشنع الأيام.
وبات قوصون ومن معه ليلة الأحد بخيامهم في قبة النصر خارج القاهرة وركبوا بكرة يوم الأحد العشرين من صفر إلى قلعة الجبل واتفقوا على إقامة كجك ابن الملك الناصر محمد في السلطنة فأقيم وجلس على كرسي الملك حسب ما يأتي ذكره في أول ترجمته.
الأمير قوصون يقطع رأس السلطان المخلوع الملك المنصور
وخلع الملك المنصور في يوم السبت تاسع عشر صفر من سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة فكانت مدة ملكه على مصر تسعة وخمسين يومًا ومن حين قلده الخليفة ثمانية وأربعين يومًا لأنه لما تسلطن كان الخليفة " الحاكم - لأمر الله أحمد بن أبي الربيع سليمان " المستكفي لم يتم أمره في الخلافة ثم انتظم أمره بعد ذلك فبايع الملك المنصور حسب ما ذكرناه.
وخلع الملك المنصور أبو بكر من السلطنة وسلم القلعة بغير قتال مع كثرة من كان معه من خواص أمراء أبيه ومماليكه خذلان من الله تعالى!. وفي خلعه من السلطنة وإخراجه إلى قوص مع إخوته عبرة لمن اعتبر فإن والده الملك الناصر محمد بن قلاوون كان أخرج الخليفة أبا الربيع سليمان المستكفي بأولاده وحواشيه إلى قوص منفيًا مرسمًا عليه فقوصص الملك الناصر عن قريب في ذريته بمثل ذلك وأخرج أولاده أعز مماليكه وزوج ابنته وهو قوصون الناصري فتوجه الملك المنصور مع إخوته إلى قوص وصحبته بهادر بن جركتمر مثل الترسيم عليه وعلى إخوته وأقام بها نحو الشهرين.
ودس عليه قوصون عبد المؤمن متولي قوص فقتله وحمل رأسه إلى قوصون سرًا في أواخر شهر ربيع الآخر من سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة وكتموا ذلك عن الناس. فلما أمسك قوصون تحقق الناس ذلك.
وجاء من حاقق بهادر أنه غرق طاجار الدوادار واستحس على قتل المنصور فطلب عبد المؤمن وقرر فاعترف فسمره السلطان الملك الناصر أحمد ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون وقد تسلطن بعد أخيه كجك آخذًا بدم أخيه الملك المنصور هذا.
وكان الملك المنصور شابًا حلو الوجه فيه سمرة وهيف قوام وكان تقدير عمره ما حول العشرين سنة وكان أفحل الإخوة وأشجعهم. زوجه أبوه بنت الأمير سيف الدين طقزدمر الحموي.
قال الشيخ صلاح الدين الصفدي في تاريخه : " وعمل الناس عزاءه ودارت جواريه في الليل بالدرارك في شوارع القاهرة أيامًا وأبكين الناس وتأسفوا عليه لأنه خذل وعمل عليه وأخذ بغتة وقتل غضًا طريًا ولو استمر لجاء منه ملك عظيم. كان في عزمه ألا يغير قاعدة من قواعد جده الملك المنصور قلاوون ويبطل ما كان أحدثه أبوه من إقطاعات العربان وإنعاماتهم وغير وأما أمر بشتك وحبسه فإنه كان من أجل مماليك الملك الناصر محمد بن قلاوون وكان ثقل عليه في أواخر أمره فإنه لما مات بكتمر الساقي ورثه في جميع أمواله في داره وإسطبله وتزوج بآمرأته أم أحمد بن بكتمر الساقي واشترى جاريته خوبي بستة آلاف دينار وكان معها من القماش ما قيمته عشرة آلاف دينار وأخذ ابن بكتمر عنده.
وكانت الشرقية تحمى لبكتمر الساقي فحماها هو بعده فعظم ذلك على قوصون ولم يسعه إلا السكات لميل السلطان إليه.
وكان مع هذه الرياسة الضخمة غير عفيف الذيل عن المليح والقبيح وبالغ في ذلك وأفرط حتى في نساء الفلاحين وغيرهم.
وكان سبب قربه من أستاذه الملك الناصر أن الملك الناصر قال يومًا في مبدأ أمره لمجد الدين الإسلامي: أريد أن أشتري لي مملوكًا يشبه بوسعيد بن خربندا ملك التتار فقال مجد الدين: " دع ذلك فهذا بشتك يشبهه لا فرق بينهما " فحظي عنده لذلك.
ولما ندبه السلطان لمسك تنكز وتوجه إلى الشام للحوطة على مال تنكز ورأى أمر دمشق طمع في نيابتها ولم يجسر يفاتح السلطان في ذلك وبقي في نفسه منها حزازة فلما مرض السلطان وأشرف على الموت ألبس بشتك مماليكه فإنه كان بلغه عن قوصون أنه ألبس مماليكه ثم انتظم الأمر على أن السلطان جعل ابنه أبا بكر ولي عهده وقد قدمنا ذكر ذلك كله مفصلًا في أواخر ترجمة الملك الناصر. فلما وقع ذلك قال بشتك: " لا أوافق على سلطنة أبي بكر ما أريد إلا سيدي أحمد الذي بالكرك.
فلما مات السلطان وسجي قام قوصون إلى الشباك وطلب بشتك وقال له: يا أمير تعال أنا ما يجيء مني سلطان لأني كنت أبيع الطسما والكشاتوين في البلاد وأنت اشتريت مني وأهل البلاد يعرفون ذلك مني وأنت ما يجيء منك سلطان لأنك كنت تبيع البوزا وأنا اشتريت ذلك منك وأهل البلاد يعرفون ذلك كله فما يكون سلطانًا من عرف ببيع الطسما والبرغالي ولا من عرف ببيع البوزا.
وهذا أستاذنا هو الذي أوصى لمن هو أخبر به من أولاده وهذا في ذمته وما يسعنا إلا آمتثال أمره حيًا وميتًا وأنا ما أخالفك إن أردت أحمد أو غيره ولو أردت أن تعمل كل يوم سلطانًا ما خالفتك فقال بشتك: كل هذا صحيح والأمر أمرك وأحضرا المصحف وحلف كل للآخر وتعانقا ثم قاما إلى رجلي السلطان فقبلاهما وبقيا ووضعا ابن السلطان على كرسي الملك.
وتم الأمر بينهما على ذلك حتى بدا لبشتك أن يلي نيابة الشام فعاكسه قوصون فثارت الكمائن والضغائن القديمة بينهما حتى وقع ما حكيناه وأمسك بشتك واعتقل بالإسكندرية إلى أن قتل في محبسه بالإسكندرية بعد أيام في سلطنة الملك الأشرف كجك ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون في شهر ربيع الآخر من سنة آثنتين وأربعين المذكورة حسب ما يأتي ذكره. وبشتك هذا أول من أمسك من أمراء الدولة الناصرية. وكان كريمًا مهابًا: كان يذبح في سماطه في كل يوم خمسين رأسًا من الغنم وفرسًا لا بد منه خارجًا عن الدجاج والوز والحلوى.
******************************************************************************
قال المقريزى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار الجزء الثالث ( 139 من 167 ) : " السلطان الملك المنصور سيف الدين أبو بكر: بعهد أبيه في يوم الخميس حادي عشري ذي الحجة وقام الأمير قوصون بتدبير الدولة ثم خلعه بعد تسعة وخمسين يومًا في يوم الأحد لعشرين من صفر سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة وأقام بعده أخاه.
**************************************************************************************
نهاية وزير من وزراء المماليك
طرنطاي: بن عبد الله الأمير حسام الدين المنصوريّ رباه الملك المنصور قلاون صغيرًا ورقاه في خدمه إلى أن تقلد سلطنة مصر فجعله نائب السلطنة بديار مصر عوضًا عن الأمير عز الدين أيبك الأفرم الصالحيّ وخلع عليه في يوم الخميس رابع عشر رمضان سنة ثمان وسبعين وستمائة فباشر ذلك مباشرة حسنة إلى أن كانْت سنة خمس وثمانين فخرج من القاهرة بالعساكر إلى الكرك وفيها الملك المسعود نجم الدين خضر وأخوه بدر الدين سلامش ابنا الملك الظاهر بيبرس في رابع المحرّم وسار إليها فوافاه الأمير بدر الدين الصوّانيّ بعساكر دمشق في ألفي فارس ونازلا الكرك وقطعا الميرة عنها واستفسدا رجال الكرك حتى أخذا خضرًا وسلامش بالأمان في خامس صفر وتسلم الأمير عز الدين أيبك الموصلي نائب الشوبك مدينة الكرك واستقرّ في نيابة السلطنة بها وبعث الأمير طرنطاي بالبشارة إلى قلعة الجبل فوصل البريد بذلك في ثامن صفر ثم قدم بابني الظاهر فخرج السلطان إلى لقائه في ثاني عشر ربيع الأوّل وأكرم الأمير طرنطاي ورفع قدره ثم بعثه إلى أخذ صهيون وبها سنقر الأشقر فسار بالعساكرمن القاهرة في سنة ست وثمانين ونازلها وحصرها حتى نزل إليه سنقر بالأمان وسلم إليه قلعة صهيون وسار به إلى القاهرة فخرج السلطان إلى لقائه وأكرمه.
ولم يزل على مكانته إلى أن مات الملك المنصور وقام في السلطنة بعده ابنه الأشرف صلاح الدين خليل بن قلاون فقبض عليه في يوم السبت ثالث عشر ذي القعدة سنة تسع وثمانين وعوقب حتى مات يوم الإثنين خامس عشرة بقلعة الجبل وبقي ثمانية أيام بعد قتله مطروحًا بحبس القلعة ثم أخرج في ليلة الجمعة سادس عشري ذي القعدة وقد لف في حصير وحمل على جنوية إلى زاوية الشيخ أبي السعود بالقرافة فغسله الشيخ عمر السعودفي شيخ الزاوية وكفنه من ماله ودفنه خارج الزاوية ليلًا وبقي هناك إلى سلطنة العادل كتبغا فأمر بنقل جثته إلى تربته التي أنشأها بمدرسته هذه.
وكان سبب القبض عليه وقتله أن الملك الأشرف كان يكرهه كراهة شديدة فإنه كان يطرح جانبه في أيام أبيه ويغض منه ويهين نوّابه ويؤذي من يخدمه لأنه كان يميل إلى أخيه الملك الصالح علاء الدين عليّ بن قلاون فلما مات الصالح عليّ وانتقلت ولاية العهد إلى الأشرف خليل بن قلاون مال إليه من كان ينحرف عنه في حياة أخيه إلاّ طرنطاي فإنه ازداد تماديًا في الإعراض عنه وجرى على عادته في أذى من ينسب إليه وأغرى الملك المنصور بشمس الدين محمد بن السلعوس ناظر ديوان الأشرف حتى ضربه وصرفه عن مباشرة ديوانه والأشرف مع ذلك يتأكد حنقه عليه ولا يجد بدًّا من الصبر إلى أن صار له الأمر بعد أبيه ووقف الأمير طرنطاي بين يديه في نيابة السلطنة على عادته وهو منحرف عنه لما أسلفه من الإساءة عليه وأخذ الأشرف في التدبير عليه إلى أن نقل له عنه أنه يتحدّث سرًّا في إفساد نظام المملكة وإخراج المُلك عنه وأنه قصد أن يقتل السلطان وهو راكب في الميدان الأسود الذي تحت قلعة الجبل عندما يقرب من باب الإصطبل فلم يحتمل ذلك.
وعندها سير أربعة ميادين والأمير طرنطاي ومن وافقه عند باب سارية حتى انتهى إلى رأس الميدان وقرب من باب الإصطبل وفي الظنّ أنه يعطف إلى باب سارية ليكمل التسيير على العادة فعطف إلى جهة القلعة وأسرع ودخل من باب الإصطبل فبادر الأمير طرنطاي عندما عطف السلطان وساق فيمن معه ليدركوه ففاتهم وصار بالإصطبل فيمن خف معه من خواصه وما هو إلاّ أن نزل الأشرف من الركوب فاستدعى بالأمير طرنطاي فمنعه الأمير زين الدين كتبغا المنصوريّ عن الدخول إليه وحذره منه وقال له: والله إني أخاف عليك منه فلا تدخل عليه إلا في عصبة تعلم أنهم يمنعونك منه إن وقع أمر تكرهه فلم يرجع إليه وغرّه أن أحدًا لا يجسر عليه لمهابته في القلوب ومكانته من الدولة وأن الأشرف لا يبادره بالقبض عليه وقال لكتبغا: والله لو كنت نائمًا ما جسر خليل ينبهني.
وقام ومشى إلى السلطان ودخل ومعه كتبغا فلما وقف على عادته بادر إليه جماعة قد أعدّهم السلطان وقبضوا عليه فأخذه اللكْمُ من كلّ جانب والسلطان يعدّد ذنوبه ويذكر له إساءته ويسبه.
فقال له يا خوند: هذا جميعه قد عملته معك وقدّمت الموت بين يديّ ولكن واللّه لتندمنّ من بعدي.
هذا والأيدي تتناوب عليه حتى أنّ بعض الخاصكية قلع عينه وسُحب إلى السجن فخرج كتبغا وهو يقول: إيش أعمل ويكرّرها فأدركه الطلب وقبض عليه أيضًا ثم آل آمر كتبغا بعد ذلك إلى أن ولي سلطنة مصر وأوقع الأشرف الحوطة على أموال طرنطاي وبعث إلى داره الأمير علم الدين سنجر الشجاعي فوجدله من العين ستمائه ألف دينار ومن الفضة سبعة عشر ألف رطل ومائة رطل مصري عنها زيادة على مائة وسبعين قنطارًا فضة سوى الأواني ومن العدد والأسلحة والأقمشة والآلات والخيول والمماليك ما يتعذر إحصاء قيمته ومن الغلات والأملاك شيء كثير جدًّا ووجد له من البضائع والأموال المسفرة على إسمه والودائع والمقارضات والقنود والأعسال والأبقار والأغنام والرقيق وغير ذلك شيء يجل وصفه هذا سوى ما أخفاه مباشروه بمصر والشام فلما حُملت أمواله إلى الأشرف جعل يقلبها ويقول: من عاشَ بعدَعدوِّهِ يومًا فقد بلغَ المُنى.
واتفق بعد موت طرنطاي أن ابنه سأل الدخول على السلطان الأشرف فأذن له فلماوقف بين يديه جعل المنديل على وجهه وكان أعمى ثم مد يده وبكى وقال: شيء لله وذكر أن لأهله أيامًا ما عندهم ما يأكلونه فرق له وأفرج عن أملاك طرنطاي وقال: تبلغوا بريعها فسبحان من بيده القبض والبسط.
============================================================