السلطان قلاوون على مصر وموت الملك السعيد
فلما تسلطن قلاوون بلغه عن الملك السعيد أنه استكثر من استخدام المماليك وأنه ينعم على من يقصده فاستوحش منه وتأثر من ذلك.
فمرض الملك السعيد بعد ذلك بمدة يسيرة وتوفي في يوم الجمعة حادي عشر ذي القعدة سنة ثمان وسبعين وستمائة بالكرك ودفن من يومه بأرض مؤتة عند جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ثم نقل بعد ذلك إلى دمشق في سنة ثمانين وستمائة فدفن إلى جنب والده الملك الظاهر بيبرس بالتربة التي أنشأها قبالة المدرسة العادلية السيفية وألحده قاضي القضاة عز الدين محمد بن الصائغ. وكانت مدة إقامته بالكرك بعد أن خلع من السلطنة ستة أشهر وخمسة وعشرين يومًا. ووجد الناس عليه كثيرًا وعمل عزاؤه بسائر البلاد وخرجت الخوندات حاسرات بجواريهن يلطمن بالملاهي والدفوف أيامًا عديدة ويسمعن الملك المنصور قلاوون الكلام الخشن وأنواع السب وهو لا يتكلم فإنه نسب إليه أنه اغتاله بالسم لما سمع كثرة استخدامه للمماليك وغيرهم.
قلت: ولا يبعد ذلك عن الملك المنصور قلاوون لكثرة تخوفه عظم شوكته وكثرة مماليك والده وحواشيه.
وأبغض الناس الملك المنصور قلاوون سنينًا كثيرة إلى أن أرضاهم بكثرة الجهاد والفتوحات وأبغض الملك المنصور قلاوون حتى ابنتته زوجة الملك السعيد المذكور فإنها وجدت على زوجها الملك السعيد وجدًا عظيمًا وتألمت لفقده ولم تزل باكية عليه حزينة لم لتزوج بعده إلى أن توفيت بعد زوجها الملك السعيد بمدة طويلة في مستهل شهر رجب سنة سبع وثمانين وستمائة. وكانت شقيقة الملك الأشرف خليل بن قلاوون ودفنت في تربة معروفة بوالدها بين مصر والقاهرة.
سلطنة الملك المنصور سيف الدين قلاوون على مصر سنة 678 هـ
سلطنة الملك المنصور سيف الدين قلاوون على مصر السلطان الملك المنصور سيف الدين أبو المعالي وأبو الفتح قلاوون بن عبد الله الألفي التركي الصالحي النجمي السابع من ملوك الترك بالديار المصرية والرابع ممن مسه الرق.
ملك الديار المصرية بعد خلع الملك السعيد وصار مدبر مملكة الملك العادل بدر الدين سلامش إلى أن خلع سلامش وتسلطن الملك المنصور قلاوون هذا من بعده في حادي عشرين وقيل عشر شهر رجب سنة ثمان وسبعين وستمائة وجلس على سرير الملك بأبهة السلطنة وشعار الملك وتم أمره.
ولما استقل بالمملكة أمسك جماعة كثيرة من المماليك والأمراء الظاهرية وغيرهم واستعمل مماليكه على البلاد والقلاع فلم يبلع ريقه حتى خرج عليه الأمير شمس الدين سنقر الأشقر نائب دمشق فإنه لما وصل إليه البريد إلى دمشق بسلطنة المنصور قلاوون في يوم الأحد سادس عشري رجب وعلى يده نسخة يمين التحليف للأمراء والجند وأرباب الدولة وأعيان الناس فأحضروا إلى دار السعادة بدمشق وحلفوا إلا الأمير سنقر الأشقر نائب الشام فإنه لم يحلف ولا رضي بما جرى من خلع سلامش وسلطنة قلاوون فلم يلتفت أهل دمشق إلى كلامه.
وخطب بجامع دمشق للملك المنصور قلاوون وجوامع الشام بأسرها خلا مواضع يسيرة توقفوا ثم خطبوا بعد ذلك.
وأما الملك المنصور قلاوون فإنه في شهر رمضان عزل الصاحب برهان الدين السنجاري عن الوزارة بالديار المصرية وأمره بلزوم مدرسة أخيه قاضي القضاة بدر اللين السنجاري بالقرافة الصغرى واستقر مكانه في الوزارة الصاحب فخر الدين إبراهيم بن لقمان صاحب ديوان الإنشاء الشريف بالديار المصرية وتولى عوضه صحابة الديوان القاضي فتح الدين محمد ابن القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر وهو أول كاتب سر كان في الدولة التركية وغيرها وإنما كانت هذه الوظيفة في ضمن الوزارة والوزير هو المتصرف في الديوان وتحت يده جماعة من الكتاب الموقعين وفيهم رجل كبير كتائب كاتب السر الآن سمي في الآخر صاحب ديوان الإنشاء.
ومن الناس من قال: إن هذه الوظيفة قديمة واستدل بقول صاحب صبح الأعشى وغيره ممن كتب للنبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده ورد على من قال ذلك جماعة أخر وقالوا: ليس في ذكر من كتب للنبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الخلفاء دلالة على وظيفة كتابة السر وإنما هو دليل لكل كاتب كتب لملك أو سلطان أو غيرهما كائنًا من كان فكل كاتب كتب عند رجل يقول: هو أنا ذاك الكاتب وإذا الأمر احتمل واحتمل سقط الاحتجاج به.
ومن قال: إن هذه الوظيفة ما أحدثها إلا الملك المنصور قلاوون فهو الأصح ونبين ذلك إن شاء الله تعالى. ي أواخر هذه الترجمة وذكر من ذكره صاحب صبح الأعشى وغيره من الكتاب من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا على سبيل الاختصار. انتهى.
وأما سنقر الأشقر فإنه في يوم الجمعة رابع عشري ذي القعدة من السنة ركب من دار السعادة بدمشق بعد صلاة العصر ومعه جماعة من الأمراء والجند وهم رجالة وهو راكب وحده وقصد القلعة من الباب الذي يلي المدينة فهجمها بمن كان معه وطلعها وجلس بها من ساعته وحلف الأمراء والجند ومن حضر وتسلطن وتلقب بالملك الكامل ونادت المنادية في المدينة بسلطنته واستقلاله بالمماليك الشامية وفي بكرة يوم السبت خامس عشرين ذي القعدة طلب القضاة والعلماء ورؤساء البلد وأكابره وأعيانه إلى مسجد أبي الدرداء رضي الله عنه بقلعة دمشق وحلفهم وحلف بقية الناس على طاعته ثم وجه العساكر في يوم الأربعاء تاسع عشرينه إلى بلاد غزة الحفظ البلاد ومغلها ودفع من يأتي إليها من الديار المصرية.
وخرجت سنة ثمان واستهلت سنة تسع وسبعين والملك المنصور سلطان مصر والملك الكامل شمس الدين سنقر الأشقر سلطان دمشق وما والاها وصاحب الكرك الملك المسعود خضر ابن الملك الظاهر بيبرس وصاحب حماة والمعرة الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك تقي الدين محمود الأيوبي والعراق والجزيرة والموصل وإربل وأذربيجان وديار بكر وخلاط وخراسان والعجم وما وراء ذلك بيد التتار والروم وصاحب اليمن الملك المظفر شمس الدين يوسف بن عمر بن علي بن رسول وصاحب مكة شرفها الله تعالى الشريف نجم الدين أبو نمي الحسني وصاحب المدينة الشريفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام الأمير عز الدين جماز بن شيحة الحسيني ذكرنا هؤلاء تنبيهًا للناظر في الحوادث الآتية ليكون فيما يأتي على بصيرة. انتهى.
ثم إن السلطان الملك المنصور قلاوون في أول سنة تسع وسبعين وستمائة المذكورة جهز عسكرًا لغزة فلما قاربوها لقيهم عسكر الملك الكامل سنقر الأشقر وقاتلوهم حتى نزحوهم عنها وأنكسر العسكر المصري وقصد الرمل واطمأن الشاميون بغزة ونزلوا بها ساعة من النهار وكانوا في قلة فكر عليهم عساكر الديار المصرية ثانيا وكبسوهم ونالوا منهم منالًا كبيرًا ورجع عسكر الشام منهزمًا إلى مدينة الرملة.
وأما الملك الكامل سنقر الأشقر فإنه قدم عليه بدمشق الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا ملك العرب بالبلاد الشرقية والشمالية ودخل على الكامل وهو على السماط فقام له الكامل فقبل عيسى الأرض وجلس عن يمينه فوق من حضر.
ثم وصل إلى الملك الكامل أيضًا الأمير شهاب الدين أحمد بن حجي بن يزيد ملك العرب بالبلاد الحجازية فأكرمه الملك الكامل غاية الإكرام.
وأما الملك المنصور لما بلغه ما وقع لعسكره بغزة جهز عسكرًا آخر كثيفًا إلى دمشق لقتال الملك الكامل سنقر الأشقر ومقدمهم الأمير علم الدين سنجر الحلبي وخرجوا من مصر وساروا إلى جهة الشام فصار عسكر دمشق الذي بالرملة كلما تقدم العسكر المصري منزلة إلى أن وصل أوائلهم إلى دمشق في أوائل صفر.
وفي يوم الأربعاء ثاني عشر صفر المذكور خرج الملك الكامل من دمشق بنفسه بجميع من عنده من العساكر وضرب دهليزه بالجسورة وخيم هناك بجميع الجيش واستخدم المماليك وأنفق الأموال وجمع خلقًا عظيمًا وحضر عنده عرب الأميرين: ابن مهنا و ابن جحي ونجدة حلب ونجدة حماة مقدمهما الملك الأفضل نور الدين علي أخو صاحب حماة ورجالة كثيرة من جبال بعلبك ورتب العساكر والأطلاب بنفسه وصف العساكر ميمنة وميسرة ووقف هو تحت عصائبه وسار العسكر المصري أيضًا بترتيب هائل وعساكر كثيرة والأطلاب أيضا مرتبة والتقى الجيشان في يوم الأحد سادس عشر صفر وقت طلوع الشمس في المكان المذكور وتقاتلا أشد قتال وثبت كل من الطائفتين ثباتًا لم يسمع بمثله إلا نادرًا لا سيما الملك الكامل سنقر الأشقر فإنه ثبت وقاتل بنفسه قتالًا شديدًا واستمر المصاف بين الطائفتين إلى الرابعة من النهار ولم يقتل من الفريقين إلا نفر يسير جدًا وأما الجراح فكثيرة.
فلما كانت الساعة الرابعة من النهار خامر أكثر عسكر دمشق على الملك الكامل سنقر الأشقر وغمروا به وانضافوا إلى العسكر المصري وكان لما وقع العين على العين قبل أن يلتحم القتال انهزم عساكر حماة وتخاذل عسكر الشام على الكامل فمنهم: من دخل بساتين دمشق واختفى بها ومنهم من دخل دمشق راجعًا ومنهم من ذهب إلى طريق بعلبك فلم يلتفت الملك الكامل لمن ذهب منه من العساكر وقاتل فلما انهزم عنه من ذكرنا في حال القتال ضعف أمره ومع هذا استمر يقاتل بنفسه ومماليكه إلى أن رأى الأمير عيسى بن مهنا الهزيمة على الملك الكامل أخذه ومضى به إلى الرحبة وأنزله عنده ونصب له بيوت الشعر. وأما الأمير شهاب الدين أحمد بن حجي فإنه دخل إلى دمشق بالأمان ودخل في طاعة الملك المنصور قلاوون.
وأما عساكر الشام فإنهم اجتمعوا على القصب من عمل حمص ثم عاد أكثر الأمراء إلى جهة دمشق وطلبوا الأمان من مقدم العساكر المصرية الأمير علم الدين سنجر الحلبي.
وأما العساكر المصرية فإنهم ساقوا من وقتهم إلى مدينة دمشق وأحاطوا بها ونزلوا بخيامهم ولم يتعرضوا للزحف وراسلوا من بالقلعة إلى العصر من ذلك النهار وفتح من المدينة باب الفرج ودخل منه إلى دمشق بعض مقدمي الجيش ثم طلب من بالقلعة الأمان فأمنهم سنجر الحلبي ففتحت القلعة فدخلوا إليها من الباب الذي داخل المدينة وتسلموها بالأمان وأفرجوا عن جماعة كثيرة من الأمراء وغيرهم كان اعتقلهم سنقر الأشقر منهم: الأمير ركن الدين بيبرس العجمي المعروف بالجالق والجالق: اسم للفرس الحاد المزاج باللغة التركية والأمير حسام الدين لاجين المنصوري والقاضي تقي الدين توبة التكريتي وغيرهم. وكتب الأمير علم الدين سنجر الحلبي بالنصر إلى الملك المنصور قلاوون فسر المنصور بذلك ودقت البشائر لذلك أياما بالديار المصرية وزينت القاهرة ومصر.
وأما سنجر المصري فإنه لما ملك دمشق وقلعتها جهز في الحال قطعة جيدة من الجيش المصري تقارب ثلاثة آلاف فارس في طلب سنقر الأشقر ومن معه من الأمراء والجند.
ثم حضر جواب الملك المنصور قلاوون بسرعة يتضمن: بأننا قد عفونا عن جميع الناس الخاص والعام أرباب السيوف والأقلام وأمناهم على أنفسهم وأهليهم وأموالهم وحضر التشريف للأمير حسام الدين لاجين المنصوري السلحدار بنيابة دمشق فلبس الخلعة وقبل الأرض ثم أردف الأمير سنجر الحلبي العسكر الذي كان توجه لقتال سنقر الأشقر بعسكر آخر مقدمه الأمير عز الدين الأفرم فلحق بمن كان توجه قبله وسار الجميع في طلب سنقر الأشقر.
فلما بلغ سنقر ذلك رحل عن عيسى بن مهنا وتوجه في البرية إلى الحصون التي كانت بقيت في يد نوابه فتحصن هو ومن معه بها في أواخر الشهر المذكور وهي: صهيون كان بها أولاده وخزائنه ودخلها هو أيضًا وبلاطنس وحصن برزيه وحصن عكار وجبلة واللاذقية وغيرها ثم عادت العساكر إلى دمشق وترددت الرسل بينهم وبين سنقر الأشقر.
وبينما هم في ذلك وردت الأخبار في أوائل جمادى الآخرة أن التتار قصدوا البلاد الشامية فخرج من كان بدمشق من العساكر الشامية والمصرية ومقدمهم الأمير ركن الدين إياجي ولحقهم العساكر الذين كانوا في طلب سنقر الأشقر ونزل الجميع بظاهر حماة وكانوا كاتبوا الملك المنصور قلاوون بمجيء التتار.
فجهز إليهم في الحال عسكرًا عليه الأمير بدر الدين بكتاش النجمي فلحق بهم الأمير بكتاش المذكور بمن معه من العسكر المصري واجتمع الجميع على حماة وأرسلوا وأرسلوا كشافة في العشر الأوسط من جمادى الآخرة إلى بلاد التتار.
هذا وقد جفل غالب من بالبلاد الشامية وخرجوا عن دورهم ومنازلهم ولم يبق هناك إلا من عجز عن الحركة.
وكان سبب حركة التتار أنهم لما سمعوا اختلاف الكلمة وظنوا أن سنقر الأشقر بمن معه يتفق معهم على قتال الملك المنصور قلاوون.
فأرسل أمراء العساكر المصرية إلى سنقر الأشقر يقولون له: هذا العدو قد دهمنا وما سببه إلا الخلف بيننا وما ينبغي هلاك الإسلام والمصلحة أننا نجتمع على دفعه فامتثل سنقر ذلك وأنزل عسكره من صهيون وأمر رفيقه الحاج أزدمر أن يفعل كذلك من شيزر وخيمت كل طائفة تحت قلعتها ولم يجتمعوا بالمصريين غير أنهم اتفقوا على اجتماع الكلمة ودفع العدو المخذول عن الشام.
واستمروا على ذلك إلى يوم الجمعة حادي عشرين جمادى الآخرة حيث وصل طائفة كبيرة من عساكر التتار إلى حلب بعد أن ملكوا عين تاب وبغراس والمربساك ودخلوها من غير مانع يمنعهم عنها وأحرقوا الجوامع والمساجد والمدارس المعتبرة ودار السلطنة ودور الأمراء وأفسدوا إفسادًا كبيرًا على عادة أفعالهم القبيحة وأقاموا بها يومين على هذه الصورة ثم رحلوا عنها في يوم الأحد ثالث عشرينه راجعين إلى بلادهم بعد أن تقدمتهم الغنائم التي كسبوها وكان شيئًا كثيرًا.
وكان سبب رجوعهم ما بلغهم أمن اتفاق الطائفتين على قتالهم ولما بلغهم من اهتمام الملك المنصور صاحب حلب وخروجه بالعساكر من الديار المصرية.
وقيل في رجوعهم وجه آخر وهو أن بعض من كان استتر بحلب يئس عن نفسه من الحياة فطلع منارة الجامع وكبر بأعلى صوته على التتار وقال: جاء النصر من عند الله وأشار بمنديل كان معه إلى ظاهر البلد وأوهم أنه أشار به إلى عسكر المسلمين وجعل يقول في خلال ذلك: اقبضوهم من البيوت وأما سنقر الأشقر فإن جماعة من الأمراء والأعيان الذين كانوا معه فروا إلى العسكر المصري ودخلوا تحت طاعة الملك المنصور قلاوون.
وأما الملك المنصور قلاوون فإنه لما طال عليه أمر سنقر الأشقر وأمر التتار جمع أعيان مملكته في هذا الشهر بقلعة الجبل وجعل ولده الأمير علاء الدين عليًا ولي عهده ولقبه الملك الصالح وخطب له على المنابر.
ثم تجهز السلطان وخرج من الديار المصرية بعساكره وسار حتى وصل إلى غزة بلغه رجوع العدو المخذول فأقام بالرملة وتوقف عن التوجه إلى دمشق لعدم الحاجة إلى ذلك وقصد تخفيف الوطأة عن البلاد وأهلها.
ثم رحل يوم الخميس عاشر شعبان راجعًا من الرملة إلى الديار المصرية فدخلها وأقام بها أقل من أربعة أشهر.
ثم بدا له التوجه إلى الشام ثانيا فتجهز وتجهزت عساكره وخرج بهم من مصر في يوم الأحد مستهل ذي الحجة قاصدًا الشام وترك ولده الملك الصالح عليًا يباشر الأمور عنه بالديار المصرية.
وسار الملك المنصور قلاوون حتى وصل إلى الروحاء من عمل الساحل ونزل عليها في يوم الثلاثاء سابع عشر ذي الحجة وأقام قبالة عكا فراسلته الفرنج من عكا في تجديد الهدنة فإنها كانت انقضت مدتها وأقام بهذه المنزلة حتى استهلت سنة ثمانين وستمائة رحل عنها يوم الخميس عاشر المحرم.
ونزل اللجون وحضر رسل الفرنج بها بحضرة الأمراء وسمعوا رسالة الفرنج فاستشارهم السلطان فحصل الاتفاق على الهدنة وحلف لهم الملك المنصور على الصورة التي وقع الاتفاق عليها وانبرم الصلح وانعقدت الهُدْنة في يوم الأحد ثالث عشر المحرم. ثم قَبَض الملك المنصور على الأمير كَوُندَك الظاهري وعلى جماعة من الأمراء الظاهريّة لمصلحة اقتضاها الحال.
وعند قَبْضهم هرب الأمير سيف الدين بَلَبَان الهارُونيّ ومعه جماعةُ وقصدوا صِهْيَوْن إلى عند سنقر الأشقر ورُكِبت الخيل في طلبهم فلم يدركوهم ثم هرب الأمير أَيْتَمُش السعديٌ أيضًا ومعه جماعةٌ إلى صِهْيَوْن من منزلة خَرِبة اللّصوص.
ثم سار الملك المنصور إلى دِمَشق فدخلها في يوم السبت تاسع عشره وأقام بدِمَشق إلى أن قَدِم عليه في صفر الملك المنصور محمد صاحب حَمَاة فخرج الملك المنصور قلاوون لتَلقّيه وأكرمه. ثم تردًدت الرسل بين السلطان الملك المنصور قلاوون وبين سُنْقُر الأشقر في تقرير قواعد الصلح.
فلما كان يوم الأحد رابع شهر ربيع الأول من! شة ثمانين وستمائة وصل من جهة سنقر الأشقر الأمير علم الدين سَنْجَر الدواداري ومعه خازِنْدار سُنْقر الأشقر في معنى الصلح والوقوف على اليمين فحلف الملك المنصور قلاوون يوم الاثنين خامسه ونادت المنادِيةُ في دِمَشق بآنتظام الصلح وآجتماع الكلمة فَرَجع رسل سُنْفر الأشقر ومعهم الأمير فخر الدين إيازالمُقْرىء ليحضُريمين سُنْقر الأشقر فحلفه وعاد إلى دمشق يوم الاثنين ثاني عشره فضُرِبت البشائر بالقلعة وسُر الناس بذلك غايةَ السرور.
وصورة ما انتظم الصلح عليه أن سُنْقر الأشقر يَرْفع يده عن شَيْزَر ويسلَمها إلى نواب الملك المنصور قلاوون وعَوّضه قلاوون عنها فامِيَةَ وكَفَرْطَاب وأنطاكِيةَ والسُّويدِية وبَكَاس ودَرْكُوش بأعمالها كلهّا وعدّة و ضِياع معروفة وأن يُقيم على ذلك وعلى ماكان آستقر بيده عند الصلح وهو صِهْيونَ وبَلاطنُس وحِصْن بَرْزَةَ وجَبَلَة واللأَذِقية بستمائة فارس ألنصرة الإِسلام وأنه يُسَلم الأمر إلى الملِك المنصور قلاوون وخوطِب سُنْقُر الأشقر في مكاتباته بالمَقَرّ العالي المولوي السَّيدي العالمي العالمي العادلي الشمسي ولم يُصرح في مخاطباته بالملك ولا بالأمير وكان يُخاطَب قبل ذلك في مكاتباته من الملك المصور قلاوون: ا إلى الجناب العالي الأميرِي الشمسيّ اِنتهى.
وبينما السلطان في ذلك ورَدَ عليه مجيء التَتار إلى البلاد الشامية وهو بدَمشق فتهيأ لقتالهم وأرسل يطلب العساكر المصرية وبعد قليل حضرت عساكر مصر إلى دِمَشق وآجتمعت العساكر عند السلطان ولم يتأخر أحدٌ من الترْكمان والعُرْبان وسائر الطوائف.
ووصل الخبُر بوصول التّتار إلى أطراف بلاد حلب فخلت حلب من أهلها وجُنْدها ونزحوا إلى جهة حَمَاة وحِمْص وتركوا الغلال والحواصل والأمتعة وخرجوا جرائدَ على وجوههم ثم ورد الخبر بوصول مَنْكُوتَمُر بن هولاكو مَلِك التتار إلى عين تاب وما جاورها في يوم الأحد سادس عشرين جُمادى الآخرة فخرج الملك المنصور قلاوون بعساكره في يوم الأحد المذكور وخيم بالمرج ووصل التتار إلى بغراس فقدم الملك المنصور عسكره أمامه ثم سافر هو بنفسه في سلخ جمادى الآخرة المذكور وسار حتى نزل السلطان بعساكره على حمص في يوم الأحد ثالث عشرين شهر رجب وراسل سنقر الأشقر بالحضور إليه بمن معه من الأمراء والعساكر وكذلك الأمير أيتمش السعدي الذي كان هرب من عند السلطان لما قبض على الأمراء الظاهرية فامتثل سنقر الأشقر أمر السلطان بالسمع والطاعة وركب من وقته بجماعته وحضر إلى عند الملك المنصور قلاوون واستحلفه لأيتمش السعدي يمينًا ثانية ليزداد طمأنينة ثم أحضره وتكامل حضورهم عند السلطان.
وعامل السلطان سنقر الأشقر بالاحترام التام والخدمة البالغة والإقامات العظيمة والرواتب الجليلة.
وشرعت التتار تتقدم قليلًا قليلًا بخلاف عادتهم فلما وصلوا حماة أفسدوا بنواحيها وشغثوا وأحرقوا بستان الملك المنصور صاحب حماة وجوسقه وما به من الأبنية.
واستمر عسكر السلطان بظاهر حمص على حاله إلى أن وصلت التتار إليه في يوم الخميس رابع عشر شعبان فركب الملك المنصور بعساكره وصافف العدو والتقى الجمعان عيد طلوع الشمس وكان عدد التتار على ما قيل مائة ألف فارس أو يزيدون وعسكر المسلمين على مقدار النصف من ذلك أو أقل وتواقعوا من ضحوة النهار إلى آخره وعظم القتال بين الفريقين وثبت كل منهم.
قال الشيخ قطب الدين اليونيني: وكانت وقعة عظيمة لم يشهد مثلها في هذه الأزمان ولا من سنين كثيرة وكان الملتقى فيما بين مشهد خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى الرستن والعاصي واضطربت ميمنة المسلمين وحملت التتار على ميسرة المسلمين فكسروها وانهزم من كان بها وكذلك انكسر جناح القلب الأيسر وثبت الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله تعالى في جمع قليل بالقلب ثباتًا عظيمًا ووصل جماعة كثيرة من التتار خلف المنكسرين من المسلمين إلى بحيرة حمص وأحدق جماعة من التتار بحمص وهي مغلقة الأبواب وبذلوا نفوسهم وسيوفهم فيمن وجدوه من العوام والسوقة والغلمان والرجالة المجاهدين بظاهرها فقتلوا منهم جماعة كثيرة وأشرف الإسلام على خطة صعبة! ثم إن أعيان الأمراء ومشاهيرهم وشجعانهم: مثل سنقر الأشقر المقدم ذكره وبدر الدين بيسري وعلم الدين سنجر الدواداري وعلاء الدين طيبرس الوزيري وبدر الدين بيليك أمير سلاح وسيف الدين أيتمش السعدي وحسام الدين لاجين المنصوري والأمير حسام الدين طرنطاي وأمثالهم لما رأوا ثبات السلطان ردوا على التتار وحملوا عليهم حملات حتى كسروهم كسرة عظيمة وجرح منكوتمر مقدم التتار وجاءهم الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا في عربه عرضًا فتمت هزيمتهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة تجاوز الوصف واتفق أن ميسرة المسلمين كانت انكسرت كما ذكرنا والميمنة ساقت على العدو ولم يبق مع السلطان إلا النفر اليسير والأمير حسام الذين طرنطاي قدامه بالسناجق فعادت الميمنة الذين كسروا ميسرة المسلمين في خلق عظيم ومروا به وهو في ذلك النفر تحت السناجق - يعني الملك المنصور قلاوون - والكوسات تضرب.
قال: ولقد مررت به في ذلك الوقت وما حوله من المقاتلة ألف فارس إلا دون ذلك فلما مروا به - يعني ميمنة التتار التي كانت كسرت ميسرة المسلمين - ثبت لهم ثباتًا عظيمًا ثم ساق عليهم بنفسه فانهزموا أمامه لا يلوون على شيء وكان ذلك تمام النصر وكان انهزامهم عن آخرهم قبل الغروب وافترقوا فرقتين: فرقة أخذت جهة سلمية والبرية وفرقة أخذت جهة حلب والفرات.
ولما انقضى الحرب في ذلك النهار عاد السلطان إلى منزلته وأصبح بكرة يوم الجمعة سادس عشر رجب جهز السلطان وراءهم جماعة كثيرة من العسكر والعربان ومقدمهم الأمير بدر الدين بيليك الأيدمري وكان لما لاحت الكسرة على المسلمين نهب لهم من الأقمشة والأمتعة والخزائن والسلاح ما لا يحصى كثرة وذهب ذلك كله أخذته الحرافشة من المسلمين مثل الغلمان وغيرهم. وكتبت البشائر بهذا النصر العظيم إلى سائر البلاد وحصل للناس السرور الذي لا مزيد عليه وعملت القلاع وزينت المدن.
وأما أهل دمشق فإنه كان ورد عليهم الخبر أولا بكسرة المسلمين ووصل إليهم جماعة ممن كان انهزم فلما بلغهم النصر كان سرورهم أضعاف سرور غيرهم.
وكان أهل البلاد الشامية من يوم خرج السلطان من عندهم إلى ملتقى التتار وهم يدعون الله تعالى في كل يوم ويبتهلون إليه وخرج أهل البلاد بالنساء والأطفال إلى الصحارى والجوامع والمساجد وأكثروا من الابتهال إلى الله عز وجل في تلك الأيام لا يفترون عن ذلك حتى ورد عليهم هذا النصر العظيم ولله الحمد وطابت قلوب الناس ورد من كان نزح عن بلاده وأوطانه واطمأن كل أحد وتضاعف شكر الناس لذلك.
وقتل في هذه الوقعة من التتار ما لا يحصى كثرة وكان من استشهد من عسكر المسلمين دون المائتين على ما قيل وممن قتل الأمير الحاج أزدمر وسيف الدين بلبان الرومي وشهاب الدين توتل الشهرزوري وعز الدين بن النصرة من بيت الأتابك صاحب الموصل وكان أحد الشجعان المفرطين في الشجاعة رحمهم الله تعالى أجمعين.
ثم إن السلطان انتقل من منزلته بظاهر حمص إلى البحيرة التي بحمص ليبعد عن الجيف ثم توجه عائدًا إلى دمشق فدخلها يوم الجمعة الثاني والعشرين من شعبان قبل الصلاة وخرج الناس إلى ظاهر البلد للقائه فدخل دمشق وبين يديه جماعة من أسرى التتار وبأيديهم رماح عليها رؤوس القتلى من التتار فكان يومًا مشهودًا.
ودخل السلطان الشام وفي خدمته جماعة من الأعيان منهم: سنقر الأشقر الذي كان تسلطن وتلقب بالملك الكامل وأيتمش السعدي والأمير علم الدين سنجر الدواداري وبلبان الهاروني ثم قدم بعد ذلك الأمير بدر الدين الأيدمري بمن معه من العسكر عائدًا من تتبع التتار بعد ما أنكى فيهم نكاية عظيمة ووصل إلى حلب وأقام بها وسير أكثر من معه يتبعونهم فهلك من التتار خلق كثير غرقوا بالفرات عند عبورهم وعندما عدوه نزل إليهم أهل البيرة فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأسروا منهم جمعًا كثيرًا وتفرق جمع التتار وأخذت أموالهم.
وأقام السلطان بدمشق إلى ثاني شهر رمضان خرج منه عائدًا إلى الديار المصرية وخرج الناس لوداعه مبتهلين بالدعاء له وسار حتى دخل الديار المصرية يوم ثاني عشرين الشهر بعد أن احتفل أهل مصر لملاقاته وزينت الديار المصرية زينة لم ير مثلها من مدة سنين وعملت بها القلاع وشق القاهرة في مروره إلى قلعة الجبل حتى طلع إليها فكان هذا اليوم من الأيام المشهودة وتضاعف سرور الناس بسلامته وبنصر المسلمين على العدو المخذول.
ثم إن السلطان عقيب دخوله إلى مصر قبض على الأمير ركن الدين إياجي الحاجب وبهاء الدين يعقوب مقدم الشهرزورية بقلعة الجبل.
واستمر السلطان بمصر إلى خامس ذي القعدة من السنة قبض على الأمير أيتمش السعدي بقلعة الجبل وحبسه بها ثم أرسل إلى نائب دمشق بالقبض على الأمير بلبان الهاروني بدمشق فقبض عليه.
وفي هذه السنة - أعني سنة ثمانين وستمائة - تربت جزيرة كبيرة ببحر النيل
تجاه قرية بولاق واللوق وانقطع بسببها مجرى البحر ما بين قلعة المكس وساحل باب البحر والرملة وبين جزيرة الفيل وهو المار تحت منية السيرج وانسد هذا البحر ونشف بالكلية واتصل ما بين المقس وجزيرة الفيل بالمشي ولم يعهد فيما تقدم وحصل لأهل القاهرة مشقة من نقل الماء الحلو لبعد البحر فأراد السلطان حفره فنهوه عن ذلك وقالوا له: هذا ينشف إلى الأبد فتأسف السلطان وغيره على ذلك.
قلت: وكذا وقع ونحن الآن لا نعرف أين كان جريان البحر المذكور إلا بالحدس لإنشاء الأملاك والبساتين والعمائر والحارات في محل مجرى البحر المذكور فسبحان القادر على كل شيء.
ثم في أول سنة إحدى وثمانين وستمائة ورد الخبر على السلطان أنه تسلطن في مملكة التتار مكان أبغا بن هولاكو أخوه لأبيه أحمد بن هولاكو وهو مسلم حسن الإسلام وعمره يومئذ مقدار ثلاثين سنة وأنه وصلت أوامره إلى بغداد تتضمن إظهار شعائر الإسلام وإقامة مناره وأنه أعلى كلمة الدين وبنى الجوامع والمساجد والأوقاف ورتب القضاة وأنه انقاد إلى الأحكام الشرعية وأنه ألزم أهل الفقة بلبس الغيار وضرب الجزية عليهم ويقال إن إسلامه كان في حياة والده هولاكو فسر السلطان بذلك سرورًا عظيمًا.
وبعد مدة قبض السلطان على الأمير بدر الدين بيسري وعلى علاء الدين كشتغدي الشمسي واعتقلهما بقلعة الجبل وذلك في يوم الأحد مستهل صفر من السنة. واستمر السلطان على ذلك إلى يوم الأربعاء ثاني عشرين شعبان طافوا بكسوة البيت العتيق التي عملت برسم الكعبة عظمها الله تعالى بمصر والقاهرة على العادة ولعبت مماليك السلطان الملك المنصور قلاوون أمام الكسوة بالرماح والسلاح.
قلت: وأظن هذا هو أول ابتداء سوق المحمل المعهود الآن فإننا لم نقف فيما مضى على شيء من ذلك مع كثرة التفاتنا إلى هذا المعنى ولهذا غلب على ظني من يوم ذاك بدأ السوق المعهود الآن ولم يكن إذ ذاك على هيئة يومنا هذا وإنما ازداد بحسب اجتهاد المعلمين كما وقع ذلك في غيره من الفنون والملاعيب والعلوم فإن مبدأ كل أمر ليس كنهايته وإنما شرع كل معلم في اقتراح نوع من أنواع السوق إلى أن انتهى إلى ما نحن عليه الآن ولا سبيل إلى غير ذلك. يعرف ما قلته من له إلمام بالفنون والعلوم إذا كان له فوق وعقل.
وعلى هذه الصيغة أيضًا اللعب بالرمح فإن مماليك قلاوون هم أيضًا أحدثوه وإن كانت الأوائل كانت تلعبه فليس كان لعبهم على هذه الطريقة وأنا أضرب لك مثلًا لمصداق قولي في هذا الفن وهو أن مماليك الملك الظاهر برقوق كان أكثرهم قد حاز من هذا الفن طرفًا جيدًا وصار فيهم من يضرب بلعبه المثل وهم جماعة كثيرة يطول الشرح في ذكرهم ومع هذا أحدث معلمو زماننا أشياء لم يعهدوها أولئك من تغيير القبض على الرمح في مواطن كثيرة في اللعب حتى إن لعب زماننا هذا يكاد أنه يخالف لعب أولئك في غالب قبوضاتهم وحركاتهم.
وهذا أكبر شاهد لي على ما نقلته من أمر المحمل وتعداد فنونه وكثرة ميادينه واختلاف أسمائها لتغيير لعب الرمح في هذه المدة اليسيرة من صفة إلى أخرى فكيف وهذا الذي ذكرناه من ابتداء السوق من سنة إحدى وثمانين وستمائة! فمن باب أولى تكون زيادات أنواع سوق المحمل أحق بهذا لطول السنين ولكثرة من باشره من المعلمين الأستاذين ولتغير الدول ولمحبة الملوك وتعظيمهم لهذا الفن ولإنفاق سوق من كان حاذقًا في هذا الفن.
وقد صنفت أنا ثمانية ميادين كل واحد يخالف الآخر في نوعه لم أسبق إلى مثلها قديمًا ولا حديثًا لكنني لم أظهرها لكساد هذا الفن وغيره في زماننا هذا ولعدم الإنصاف فيه وكثرة حساده ممن يدعي فيه المعرفة وهو أجنبي عنها لا يعرف اسم نوع من أندابه على جليته بل أيها المدعي سليمى كفاحًا لست منها ولا قلامة ظفر إنما أنت من سليمى كواو ألحقت في الهجاء ظلمًا بعمرو وشاهدي أيضًا قول العلامة جار الله محمود الزمخشري وأجاد رحمه الله تعالى: الطويل وأخرني دهري وقدم معشرًا على أنهم لا يعلمون وأعلم ومذ أفلح الجهال أيقنت أنني أنا الميم والأيام أفلح اعلم قلت: وتفسير الأفلح هو مشقوق الشفة العليا والأعلم مشقوق الشفة السفلى وفائدة ذلك أن مشقوق الشفتين العليا والسفلى لا يقدر أن يتلفظ بالميم ولا ينطق بها. فانظر إلى حسن هذا التخيل والغوص على المعاني.
وما أحسن قول الإمام العلامة القاضي الفاضل عبد الرحيم وزير السلطان صلاح الدين وهو: مجزوء الكامل ما ضر جهل الجاهل - - ين ولا انتفعت أنا بحذقي وزيادة في الحذق فه - - ي زيادة في نقص رزقي وقول الشريف الرضي في المعنى: البسيط ما قدر فضلك ما أصبحت ترزقه ليس الحظوظ على الأقدار والمهن وفي المعنى: البسيط كم فاضل فاضل أعيت مذاهبه وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا هذا الذي ترك الألباب حائرة وصير العالم النحرير زنديقا قلت: ويعجبني المقالة السادسة عشرة من كتاب أطباق الذهب للعلامة شرف الدين عبد المؤمن الأصفهاني المعروف بشوروة وهي: طبع الكريم لا يحتمل حمة الضيم وهواء الصيف لا يقبل غمة الغيم والنبيل يرضى النبال والحسام ويأبى أن يسام ولأن يقتل صبرًا ويودع قبرًا أحب إليه من أن يصيبه نشاب الجفاء من جفير الأكفاء يهوى المنية ولا يرضى الدنية يستقبل السيف ولا يقبل الحيف إن سيم أخذته الهزة وإن ضيم أخذته العزة إن عاشرته سال عذبًا وإن عاسرته سل عضبًا إن شاربته تخمر وإن حاربته تنفر يرى العز مغنمًا والذل مغرمًا وكان كأنف الليث لا يشتم مرغمًا.
فيا هذا كن في الدنيا حمي الأنف منيع الجناب أبي النفس طرير الناب ولا تصحب الدنيا صحبة بعال ولا تنظر إلى أبنائها إلا من عال ولا تخفض جناحك لبنيها ولاتضعضع ركنك لبانيها ولا تمدن عينيك إلى زخارفها ولا تبسط يدك إلى مخارفها وكن من الأكياس واتل على قلت: وقد خرجنا عن المقصود غير أننا وجدنا المقال فقلنا.
ودام السلطان الملك المنصور بديار مصر إلى سنة ثلاث وثمانين وستمائة وتوفي صاحب حماة الملك المنصور محمد الأيوبي فأنعم السلطان الملك المنصور على ولده بسلطنة حماة وولاه مكان والده المنصور.
ثم تجهز السلطان في السنة المذكورة وخرج من الديار المصرية بعسكره متوجهًا إلى الشام في أواخر جمادى الأولى وسار حتى دخل دمشق في ثاني عشر جمادى الآخرة وأقام بدمشق إلى أن عاد إلى جهة الديار المصرية في الثلث الأخير من ليلة السبت ثالث عشرين شعبان وسار حتى دخل مصر في النصف من شهر رمضان وأقام بديار مصر إلى أول سنة أربع وثمانين وستمائة فتجهز وخرج منها بعساكره إلى جهة الشام وسافر حتى دخل دمشق يوم السبت ثاني عشرين المحرم من السنة المذكورة وعرض العسكر الشامي عدة أيام وخرجوا جميعًا قاص
دين المرقب في يوم الاثنين ثاني صفر.
وكان قد بقي في يد سنقر الأشقر قطعة من البلاد منها: بلاطنس وصهيون وبرزيه وغير ذلك وكان عمل السلطان في الباطن انتزاع ما يمكن انتزاعه من يد سنقر الأشقر المذكور وإفساد نوابه.
فاتفق الحال بين نواب السلطان وبين نواب سنقر الأشقر على تسليم بلاطنس فسلمت في أول صفر.
ووافى السلطان البشرى بتسليمها وهو على عيون القصب في توجهه إلى حصار المرقب فسر بذلك واستبشر بنيل مقصوده من المرقب.
وكان في نفس السلطان من أهل المرقب لما فعلوا مع عسكره ما فعلوا في السنين الماضية فنازل السلطان حصن المرقب في يوم الأربعاء عاشر صفر وشرع العسكر في عمل الستائر والمجانيق.
فلما انتهت الستائر التي للمجانيق حملتها المقاتلة لباب الحصن فسقطت الستارة إلى بركة كبيرة كان عليها جماعة من أصحاب الأمير علم الدين سنجر الدويداري منهم شمس الدين سنقر أستاداره وعدة من مماليكه فاستشهدوا جميعهم رحمهم الله تعالى. ثم في يوم الأحد رابع عشره حضر رسل الفرنج من عند ملكهم الإسبتار وسألوا السلطان الصلح والأمان لأهل المرقب على نفوسهم وأموالهم ويسلمون الحصن المذكور فلم يجبهم السلطان إلى ذلك وكمل نصب المجانيق ورمى بها وشعث الحصن وهدم معظم أبراجه واستمر الحال إلى سادس عشر شهر ربيع الأول زحف السلطان على الحصن فأذعن من فيه بالتسليم وحصلت المراسلة في معنى ذلك.
فلما كان يوم الجمعة ثامن عشر شهر ربيع الأول المذكور سلم ورفعت عليه الأعلام الإسلامية ونزل من به بالأمان على أرواحهم فركبوا وجهز معهم من أوصلهم إلى وبالقرب من هذا الحصن مرقية وهي بلدة صغيرة على البحر وكان صاحبها قد بنى في البحر برجًا عظيمًا لا يرام ولا تصله النشاب ولا حجر المنجنيق وحصنه واتفق حضور رسل صاحب طرابلس إلى السلطان بطلب مراضيه فاقترح عليه خراب هذا البرج وإحضار من كان فيه أسيرًا من الجبيليين الذين كانوا مع صاحب جبيل فأحضر من بقي منهم في قيد الحياة واعتذر عن هدم البرج بأنه ليس له ولا هو تحت حكمه فلم يقبل السلطان اعتذاره وصمم على طلبه منه فقيل: إنه اشتراه من صاحبه بعدة قرى وذهب كثير ودفعه إلى السلطان فأمر بهدمه فهدم واستراح الناس منه. وحصل الاستيلاء في هذه الغزوة على المرقب وأعماله ومرقية.
والمرقب هو من الحصون المشهورة بالمنعة والحصانة وهو كبير جدًا ولم يفتحه السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب فيما فتح فأبقاه السلطان الملك المنصور بعد أن أشير عليه بهدمه ورمم شعثه واستناب فيه بعض أمرائه ورتب أحواله.
وكتبت البشائر بهذا الفتح إلى الأقطار. ولما كان السلطان الملك المنصور على حصار المرقب جاءته البشرى بولادة ولده الملك الناصر محمد بن قلاوون فمولد الملك الناصر محمد هذه السنة فيحفظ إلى ما يأتي ذكره في ترجمته إن شاء الله تعالى فإنه أعظم ملوك الترك بلا مدافعة.
ثم سار الملك المنصور قلاوون من المرقب إلى دمشق وأقام بها أيامًا ثم خرج منها عائدًا إلى نحو الديار المصرية في بكرة الاثنين ثاني عشر جمادى الأولى فدخل الديار المصرية في أوائل شهر رجب.
ولما دخل القاهرة وأقام بها أخذ في عمل أخذ الكرك من الملك المسعود نجم الدين خضر ابن السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري حتى أخذت وورد عليه الخبر بأخذها في ليلة الجمعة سابع صفر سنة خمس وثمانين وستمائة ودقت البشائر بالديار المصرية ثلاثة أيام.
ثم في سنة ست وثمانين وستمائة جهز السلطان طائفة من العسكر بالديار المصرية صحبة الأمير حسام الدين طرنطاي إلى الشام لحصار صهيون وبرزيه وانتزاعهما من يد سنقر الأشقر فسار حسام الدين المذكور بمن معه حتى وصل دمشق في أثناء المحرم واستصحب معه الأمير حسام الدين لاجين نائب الشام وتوجه الجميع إلى صهيون بالمجانيق فوصلوها وشرعوا في حصارها وكان سنقر الأشقر قد استعد لهم وجمع إلى القلعة خلقًا كثيرًا فحاصروه أيامًا ثم بعد ذلك توجه الأمير حسام الدين إلى برزيه وحصرها واستولى عليها وهي مما يضرب المثل بحصانتها.
ولما فتحها وجد فيها خيولا لسنقر الأشقر. ولما فتحت برزيه لانت عريكة سنقر الأشقر وأجاب إلى تسليم صهيون على شروط اشترطها فأجابه طرنطاي إليها وحلف له بما وثق به من الأيمان ونزل من قلعة صهيون بعد حصرها شهرًا واحدًا وأعين على نقل أثقاله بجمال كثيرة وحضر بنفسه وأولاده وأثقاله وأتباعه إلى دمشق.
ثم توجه إلى الديار المصرية صحبة طرنطاي المذكور ووفى له بجميع ما حلف عليه ولم يزل يذب عنه أيام حياته أشد ذب.
وأعطى السلطان لسنقر الأشقر بالديار المصرية خبز مائة فارس وبقي وافر الحرمة إلى آخر أيام الملك المنصور قلاوون.
وانتظمت صهيون وبرزيه في سلك الممالك المنصورية. ثم خرج الملك المنصور من الديار المصرية قاصدًا الشام في يوم سابع عشرين شهر رجب سنة ست وثمانين وسار حتى وصل غزة أقام بتل العجول أيامًا إلى شوال ثم رجع إلى الديار المصرية فدخلها يوم الاثنين ثالث عشرين شوال ولم يعلم أحد ما كان غرضه في هذه السفرة.
وفي شوال هذا سلطن الملك المنصور ولده الملك الأشرف صلاح الدين خليلًا وجعله مكان أخيه الملك الصالح علاء الدين علي بعد موته ودقت البشائر لذلك سبعة أيام بالديار المصرية وغيرها وحلف الناس له والعساكر وخطب له بولاية العهد.
ثم في سنة ثمان وثمانين وستمائة فتحت طرابلس وهو أن صاحب طرابلس كان وقع بينه وبين سير تلميه الفرنجي وكان من أصحاب صاحب الحصن الذي أخربه صاحب طرابلس رضاء للملك المنصور قلاوون حسب ما تقدم ذكره.
فحصلت بينه وبين صاحب طرابلس وحشة بسبب ذلك واتفق موت صاحب الحصن وسأل سير تلميه من السلطان الملك المنصور المساعدة وأن يتقدم للأمير بلبان الطباخي السلحدار أن يساعده على تملك طرابلس على أن تكون مناصفة وبذل في ذلك بذولًا كثيرة فسوعد إلى أن تم له مراده ورأى أن الذي بذله للسلطان لا يوافقه الفرنج عليه فشرع في باب التسويف والمغالطة ومدافعه الأوقات فلما علم السلطان باطن أمره عزم على قتاله قبل استحكام أمره فتجهز وخرج من الديار المصرية بعساكره لحصار طرابلس وسار حتى وصل دمشق وأقام بها ثم تهيأ وخرج منها ونازل طرابلس في مستهل شهر ربيع الأول ونصب عليها المجانيق وضايقها مضايقة شديدة إلى أن ملكها بالسيف في الرابعة من نهار الثلاثاء رابع شهر ربيع الآخر وشمل القتل والأسر لسائر من كان بها وغرق منهم في الماء جماعة كثيرة ونهب من الأموال والذخائر والمتاجر وغير ذلك ما لا يوصف ثم أحرقت وخرب سورها وكان من أعظم الأسوار وأمنعها.
ثم تسلم حصن أنفة وكان أيضًا لصاحب طرابلس فأمر السلطان بتخريبه ثم تسلم السلطان البترون وجميع ما هناك من الحصون. وكان لطرابلس مدة طويلة بأيدي الفرنج من سنة ثلاث وخمسمائة إلى الآن.
قلت: وكان فتح طرابلس الأول في زمن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وتنقلت في أيدي الملوك وعظمت في زمن بني عمار قضاة طرابلس وحكامها. فلما كان في آخر المائة الخامسة ظهرت طوائف الفرنج في الشام واستولوا على البلاد فامتنعت عليهم طرابلس مدة حتى ملكوها بعد أمور في سنة ثلاث وخمسمائة واستمرت في أيديهم إلى أن فتحها الملك المنصور قلاوون في هذه السنة.
وقال شرف الدين محمد بن موسى المقدسي الكاتب في السيرة المنصورية: إن طرابلس كانت عبارة عن ثلاثة حصون مجتمعة باللسان الرومي وكان فتحها على يد سفيان بن مجيب الأزدي بعثه لحصارها معاوية بن أبي سفيان في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه انتهى كلام شرف الدين باختصار.
قلت: وأما طرابلس القديمة كانت من أحسن المدن وأطيبها ثم بعد ذلك اتخذوا مكانًا على ميل من البلدة وبنوه مدينة صغيرة بلا سور فجاء مكانًا رديء الهوى والمزاج من الوخم. انتهى.
ولما فتحت طرابلس كتبت البشائر إلى الآفاق بهذا النصر العظيم ودقت البشائر والتهاني وزينت المدن وعملت القلاع في الشوارع وسر الناس بهذا النصر غاية السرور.
وأنشأ في هذا المعنى القاضي تاج الدين ابن الأثير كتابًا إلى صاحب اليمن بأمر الملك المنصور يعرفه بهذا الفتح العظيم وبالبشارة به.
وأوله: بسم الله الرحمن الرحيم أعز الله نصر المقام العالي السلطاني الملكي المظفري الشمسي.
ثم استطرد وحكى أمر الفتح وغيره إلى أن قال فأحسن فيما قال: وكانت الخلفاء والملوك في ذلك الوقت ما فيهم إلا من هو مشغول بنفسه مكب على مجلس أنسه يرى السلامة غنيمة وإذا عن له وصف الحرب لم يسأل منها إلا عن طرق الهزيمة قد بلغ أمله من الرتبة وقنع أمن ملكه كما يقال بالسكة والخطبة أموال تنهب وممالك تذهب لا يبالون بما سلبوا وهم كما قيل: البسيط إن قاتلوا قتلوا أو طاردوا طردوا أو حاربوا حربوا أو غالبوا غلبوا إلى أن أوجد الله من نصر دينه وأذل الكفر وشياطينه. انتهى.
ثم عاد الملك المنصور إلى الديار المصرية في جمادى الآخرة من السنة واستمر بالقاهرة إلى أول سنة تسع وثمانين وستمائة جهز الأمير حسام الدين طرنطاي كافل الممالك الشامية إلى بلاد الصعيد ومعه عسكر جيد من الأمراء والجند فسكن تلك النواحي وأباد المفسدين وأخذ خلقًا عظيمًا من أعيانهم رهائن وأخذ جميع أسلحتهم وخيولهم وكان معظم سلاحهم السيوف والحجف والرماح وأحضروا إلى السلطان من ذلك عدة أحمال ففرق السلطان من الخيول والسلاح فيمن أراد من الأمراء والجند وأودع الرهائن الحبوس.
وفي هذه السنة أيضًا عاد الأمير عز الدين أيبك الأفرم من غزو بلاد السودان بمغانم كثيرة ورقيق كثير من النساء والرجال وفيل صغير.
موت الملك المنصور قلاوون
ثم في هذه السنة أيضًا رسم السلطان ألا يستخدم أحد من الأمراء وغيرهم في دواوينهم أحدًا وفي هذه السنة عزم السلطان الملك المنصور على الحج لبلعه خبر فرنج عكا ففتر عزمه وتهيأ للخروج إلى البلاد الشامية ورأى أن يقدم غزوهم والانتقام على الحج وأخذ في تجهيز العساكر والبعوث وضرب دهليزه خارج القاهرة وباب الدهليز إلى جهة عكا.
وخرج من القاهرة إلى مخيمه وهو متوعك لأيام خلت من شوال ولا زال متمرضًا بمخيمه عند مسجد التبن خارج القاهرة إلى أن توفي به في يوم السبت سادس ذي القعدة من سنة تسع وثمانين وستمائة وحمل إلى القلعة ليلة الأحد.
وتسلطن من بعده ولده الملك الأشرف صلاح الدين خليل الذي كان عهد له بالسلطنة قبل تاريخه حسب ما ذكرناه. وكثر أسف الناس عليه.
قال الحافظ أبو عبد الله شمس الدين محمد الذهبي في تاريخ الإسلام بعدما سماه ولقبه قال: اشتري بألف دينار ولهذا كان في حال إمرته يسمى بالألفي وكان من أحسن الناس صورة في صباه وأبهاهم وأهيبهم في رجوليته كان تام الشكل مستدير اللحية قد وخطه الشيب على وجهه هيبة الملك وعلى أكتافه حشمة السلطنة وعليه سكينة ووقار رأيته مرات آخرها منصرفه من فتح طرابلس. وكان من أبناء الستين.
ثم قال: وحدثني أبي أنه كان معجم اللسان لا يكاد يفصح بالعربية وذلك لأنه أتي به من بلاد الترك وهو كبير.
ثم قال بعد كلام آخر: وعمل بالقاهرة ببين القصرين تربة عظيمة ومدرسة كبيرة قال: وبيمارستانًا للمرضى.
قلت: ومن عمارته البيمارستان المذكور وعظم أوقافه تعرف همته ونذكر عمارة البيمارستان إن شاء الله تعالى بعد ذلك. انتهى.
وقال غيره: وكان يعرف أيضًا قلاوون الآقسنقري الكاملي الصالحي النجمي لأن الأمير آق سنقر الكاملي كان اشتراه من تاجره بألف دينار ثم مات الأمير آق سنقر المذكور بعد مدة يسيرة فارتجع هو وخشداشيته إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب في سنة سبع وأربعين وستمائة وهي السنة التي مات فيها الملك الصالح أيوب وهذا القول هو الصحيح في أصل مشتراه.
قلت: ولما طلع الملك المنصور قلاوون إلى قلعة الجبل ميتًا أخذوا في تجهيزه وغسله وتكفينه إلى أن تم أمره وحملوه وأنزلوه إلى تربته ببين القصرين فدفن بها.
وكانت مدة ملكه إحدى عشرة سنة وثلاثة أشهر رحمه الله تعالى وكان سلطانًا كريمًا حليمًا شجاعًا مقدامًا عادلًا عفيفًا عن سفك الدماء مائلًا إلى فعل الخير والأمر بالمعرف وله مآثر كثيرة: منها البيمارستان الذي أنشأه ببين القصرين وتمم عمارته في مدة يسيرة وكان مشد عمارته الأمير علم الدين سنجر الشجاعي المنصوري وزير الديار المصرية ومشد دواوينها ثم ولي نيابة دمشق ونهض بهذا العمل العظيم وفرغ منه في أيام قلائل ولما كمل عمارة الجميع امتدحه معين الدين ابن تولوا بقصيدة أولها: الكامل قلت: وهذا البيمارستان وأوقافه وما شرطه فيه لم يسبقه إلى ذلك أحد قديمًا ولا حديثًا شرقًا ولا غربًا. وجدد عمارة قلعة حلب وقلعة كركر وغير موضع. وأما غزواته فقد ذكرناها في وقتها.
وجمع من المماليك خلقًا عظيمًا لم يجمعهم أحد قبله فبلغت عدتهم اثني عشر ألفًا وصار منهم الأمراء الكبار والنواب ومنهم من تسلطن من بعده على ما يأتي ذكره.
وتسلطن أيضًا من ذريته سلاطين كثيرة آخرهم الملك المنصور حاجي الذي خلعه الملك الظاهر برقوق.
وأعظم من هذا أنه من تسلطن من بعده من يوم مات إلى يومنا هذا إما من ذريته وإما من مماليكه أو مماليك مماليك أولاده وذريته لأن يلبغا مملوك السلطان حسن وحسن بن محمد بن قلاوون وبرقوق مملوك يلبغا والسلاطين بأجمعهم مماليك برقوق وأولاده. انتهى.
وكان من محاسن الملك المنصور قلاوون أنه لا يميل إلى جنس بعينه بل كان ميله يتخيل فيه النجابة كائنًا من كان.
قلت: ولهذا طالت مدة مماليكه وذريته باختلاف أجناس مماليكه وكانت حرمته عظيمة على مماليكه لا يستطيع الواحد منهم أن ينهر غلامه ولا خادمه خوفًا منه ولا يتجاهر أحد منهم بفاحشة ولا يتزوج إلا إن زوجه هو بعض جواريه هذا مع كثرة عددهم.
قلت رحمه الله تعالى: لو لم يكن من محاسنه إلا تربية مماليكه وكف شرهم عن الناس لكفاه ذلك عند الله تعالى فإنه كان بهم منفعة للمسلمين ومضرة للمشركين وقيامهم في الغزوات معروف وشرهم عن الرعية مكفوف بخلاف زماننا هذا فإنه مع قلتهم وضعف بنيتهم وعدم شجاعتهم شرهم في الرعية معروف ونفعهم عن الناس مكفوف هذا مع عدم التجاريد والتقاء الخوارج وقلة الغزوات فإنه لم يقع في هذا القرن وهو القرن التاسع لقاء مع خارجي غير وقعة تيمور وافتضحوا منه غاية الفضيحة وسلموا البلاد والعباد وتسحب أكثرهم من غير قتال.
وأما الغزوات فأعظم ما وقع في هذا القرن فتح قبرس وكان النصر فيها من الله سبحانه وتعالى انكسر صاحبها وأخذ من جماعة يسيرة تلقاهم بعض عساكره.
خذلان من الله تعالى وقع ذلك كله قبل وصول غالب عسكر المسلمين.
وأما غير ذلك من الغزوات فسفر في البحر ذهابًا فكيف لو كان هؤلاء أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب عندما غزا الساحل وغاب عن الديار المصرية نحو العشر سنين لا يفارق فيها الخيم والتشتت عن الأوطان واتصال الغزوة بالغزوة أو لو كانوا أيام الملك الكامل محمد لما قاتل الفرنج على دمياط نحو الثلاث سنين لم يدخل فيها مصر إلى أن فتح الله عليه أو لو كانوا أيام الملك الظاهر بيبرس وهو يتجرد ويغزو في السنة الواحدة المرة والمرتين والثلاث وهلم جرا إلى أيام الملك الأشرف شعبان بن حسين لما أخذت الإسكندرية. وهذا شيء معروف لا يشاح فيه أحد.
وأعجب من هذا كله أن أولئك كانوا على حظ وافر من الأدب والحشمة والتواضع مع الأكابر وإظهار الناموس وعدم الازدراء بمن هو دونهم وهؤلاء آست في الماء وأنف في السماء لا يهتدي أحدهم لمسك لجام الفرس وإن تكلم تكلم بنفس ليس لهم صناعة إلا نهب البضاعة يتقوون على الضعيف ويشرهون حتى في الرغيف جهادهم الإخراق بالرئيس وغزوهم في التبن والدريس وحظهم منقام ولا مروءة لهم والسلام. انتهى.
قال ابن كثير في حق الملك المنصور قلاوون المذكور
: اشتراه الملك الصالح نجم الدين أيوب من الملك الكامل محمد ابن العادل أبي بكر بن أيوب بألف دينار فلذلك سمي بالألفي.
قلت: وهذا بخلاف ما نقله الشيخ صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي في أن الذي اشتراه بألف دينار إنما هو الأمير آق سنقر الكاملي والأرجح عنده ما قاله الصفدي في أن الذي اشتراه بألف دينار إنما هو الأمير آق سنقر من وجوه عديدة.
قال ابن كثير أيضا: وكان الملك المنصور قد أفرد من مماليكه ثلاثة آلاف وسبعمائة مملوك من الأمراء والجراكسة وجعلهم بالقلعة وسماهم البرجية وأقام نوابه في البلدان من مماليكه وهم الذين غيروا ملابس الدولة الماضية.
قال الصلاح الصفدي: ولبسوا أحسن الملابس لأن في الدولة الماضية الصلاحية كان الجميع يلبسون كلوتات صفر مضربة بكلبندات بغير شاشات وشعورهم مضفورة دبابيق في أكياس حرير ملونة وكان في خواصرهم موضع الحوائص بنود ملونة أو بعلبكية وأكمام أقبيتهم ضيقة على زي ملابس الفرنج وأخفافهم برغالي أو سقامين ومن فوق قماشهم كمرات بحلق وإبزيم وصوالقهم كبار يسع كل صولق نصف ويبة أو أكثر ومنديلهم كبير طوله ثلاث أذرع فأبطل المنصور ذلك كله بأحسن منه.
وكانت الخلع للأمراء المقدمين المروزي فخصص الملك المنصور من الأمراء بلبس الطرد وحش أربعة من خشداشيته وهم: سنقر الأشقر الذي كان تسلطن ولقب بالملك الكامل والبيسري والأيدمري والأفرم.
وباقي الأمراء والخاصكية والبرانية تلبس المروزي والطبلخاتات بالملون والعشرات بالعتابي.
قلت: وهذا أيضًا بخلاف زماننا فإنه لبس فيه أوباش الناس الخلع السنية وأعجب من هذا أنه لما لبس هؤلاء الخلع السنية تلك الأبهة والحشمة عن الخلع المذكورة وصارت كمن دونها من الخلع في أعين الناس لمعرفتهم بمقام اللابس. انتهى.
قلت: والآن نذكر ما وعدنا بذكره في أوائل ترجمة الملك المنصور قلاوون من أمر كتاب السر لأنه هو الذي أحدث هذه الوظيفة وسمى صاحبها بكاتب السر على ما نبينه من أقوال كثيرة: منها أنه لما كان أيام الملك الظاهر بيبرس كان الدوادار يوم ذاك بلبان بن عبد الله الرومي.
قال الشيخ صلاح الدين خليل الصفدي: كان من أعيان الأمراء - يعني عن بلبان المذكور - ومن نجبائهم وكان الملك الظاهر بيبرس يعتمد عليه ويحمله أسراره إلى القصاد. ولم يؤمره إلا الملك السعيد ابن الملك الظاهر بيبرس.
واستشهد بمصاف حمص سنة ثمانين وستمائة وكان يباشر وظيفة الدوادارية ولم يكن معه كاتب سر فاتفق أنه قال يومًا لمحيي الدين بن عبد الظاهر: اكتب إلى فلان مرسومًا أن يطلق له من الخزانة العالية بدمشق عشرة آلاف درهم نصفها عشرون ألفًا فكتب المرسوم كما قال له وجهزه إلى دمشق فأنكروه وأعادوه إلى السلطان وقالوا: ما نعلم هل هذا المرسوم بعشرين نصفها عشرة أو بعشرة نصفها خمسة فطلب السلطان محيي الدين وأنكر عليه ذلك فقال: يا خوند هكذا قال لي الأمير سيف الدين بلبان الدوادار فقال السلطان: ينبغي أن يكون للملك كاتب سر يتلقى المرسوم منه شفاها.
وكان الملك المنصور قلاوون حاضرًا من جملة الأمراء فسمع هذا الكلام.
وخرج الملك الظاهر عقيب ذلك إلى نوبة أبلستين فلما توفي الملك الظاهر وملك المنصور قلاوون اتخذ كاتب سر.انتهى.
كلام الصفدي باختصار.
قلت: وفي هذه الحكاية دلالة على أن وظيفة كتابة السر لم تكن قبل ذلك أبدًا لقوله: ينبغي للملك أن يكون له كاتب سر يتلقى المرسوم منه شفاها.
وأيضًا تحقيق ما قلناه: إن وظيفة كتابة السر لم تكن قديمًا وإنما كانت الملوك لا يتلقى الأمور عنهم إلا الوزراء.
قضية فخر الدين بن لقمان مع القاضي فتح الدين محمد بن عبد الظاهر في الدولة الأشرفية خليل بن قلاوون وهو أنه لما توزر فخر الدين بن لقمان قال له الملك المنصور: من يكون عوضك في الإنشاء قال: فتح الدين ابن عبد الظاهر فولى فتح الدين وتمكن عند السلطان وحظي عنده وفتح الدين هذا هو الذي قلنا عنه في أول الكتاب إنه أول كاتب سر كان وظهر اسم هذه الوظيفة من ثم. انتهى.
وحظي فتح الدين عند السلطان إلى الغاية.
فلما كان بعض الأيام دخل فخر الدين بن لقمان على السلطان فأعطاه السلطان كتابًا يقرؤه فلما دخل فتح الدين أخذ السلطان الكتاب منه وأعطاه لفتح الدين وقال لفخر الدين: تأخر فعظم ذلك على فخر الدين بن لقمان.
قلت: ولولا أن هذه الواقعة خرق للعادة ما غضب ابن لقمان من ذلك لأن العادة كانت يوم ذاك لا يقرأ أحد على السلطان كتابًا بحضرة الوزير. انتهى.
ومنها واقعة القاضي فتح الدين المذكور مع شمس الدين ابن السلعوس لما ولي الوزارة للملك الأشرف خليل بن قلاوون فإنه قال لفتح الدين: اعرض علي كل ما تكتبه عن السلطان كما هي العادة فقال فتح الدين: لا سبيل إلى ذلك فلما بلغ الملك الأشرف هذا الخبر من الوزير المذكور قال: صدق فتح الدين فغضب من ذلك الوزير ابن السلعوس.
قلت: وعندي دليل آخر أقوى من جميع ما ذكرته أنه لم أقف على ترجمة رجل في الإسلام شرقًا ولا غربًا نعت بكاتب السر قبل فتح الدين هذا وفي هذا كفايته. وما ذكره صاحب صبح الأعشى وغيره ممن كتبوا للنبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده ليس في ذلك دليل على أنهم كتاب السر بل ذلك دليل لكل كاتب كتب عن مخدومه كائنا من كان.
ونحن أيضًا نذكر الذين ذكرهم صاحب صبح الأعشى وغيره من الكتاب ونذكر أيضًا من ألحقناه بهم من كتاب السر إلى يومنا هذا ليعلم بذلك صدق مقالتي بذكرهم وألقابهم وزمانهم. انتهى.
قال: اعلم أن كتاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا نيفًا على ستة وثلاثين كاتبًا لكن المشهور منهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية بن أبي سفيان ومروان بن الحكم.
قلت: وفي مروان خلاف لأن الحافظ أبا عبد الله الذهبي قال في ترجمة مروان بن الحكم: له رؤية إن شاء الله ولم يعده من الصحابة فكيف يكون من الكتاب وأيضًا حذف جماعة من كبار الصحابة كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وأثبت مروان هذا وفي صحبته خلاف.
ولولا خشية الإطالة لذكرنا من ذكره الحافظ العلامة مغلطاي ممن كتب للنبي صلى الله عليه وسلم ليعلم بذلك غلط من عد مروان من الكتاب. انتهى.
قال: ولما توفى النبي صلى الله عليه وسلم وصارت الخلافة إلى أبي بكر كتب عنه عمر بن الخطاب وعثمان وعلي رضي الله عنهم. فلما استحلف عمر كتب عنه عثمان وعلي ومعاوية وعبد الله بن خلف الخزاعي وكان زيد بن ثابت وزيد بن أرقم يكتبان على بيت المال. فلما استخلف عثمان كتب عنه مروان بن الحكم. فلما استخلف علي كتب عنه عبد الله بن رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم وسعيد بن نمران. فلفا استخلف الحسن كتب عنه كتاب أبيه.
فلما بايعوا معاوية كتب عنه عبد الله بن أوس وكتب عبد الله المذكور عن ابنه يزيد أيضًا وابن ابنه معاوية بن يزيد.
فلما خلع معاوية بن يزيد نفسه وتولى مروان بن الحكم كتب عنه سفيان الأحول وقيل عبيد الله بن أوس.
فلما استخلف عبد الملك بن مروان كتب عنه روح بن زنباع الجذامي. فلما استخلف الوليد كتب عنه قرة بن شريك ثم قبيصة بن ذؤيب ثم الضحاك بن زمل. فلما استخلف سليمان كتب عنه يزيد بن المهلب ثم عبد العزيز بن الحارث.
فلما استخلف الإمام عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كتب عنه رجاء بن حيوة الكندي ثم الليث بن أبي رقية فلما استخلف يزيد بن عبد الملك كتب عنه سعيد بن الوليد الأبرش ثم محمد بن عبد الله بن حارثة الأنصاري.لما استخلف هشام بن عبد الملك أبقاهما على عادتهما واستكتب معهما سالمًا مولاه. فلما استخلف الوليد بن يزيد كتب عنه العباس بن مسلم. فلما استخلف يزيد بن الوليد كتب عنه ثابت بن سليمان. فلما استخلف إبراهيم بن الوليد كتب عنه أيضًا ثابت على عادته. فلما صارت الخلافة إلى مروان بن محمد بن مروان كتب عنه عبد الحميد بن يحيى مولى بني عامر إلى ثم صارت الخلافة لبني العباس فاتخذوا كتابهم وزراء وكان أول خلفاء بني العباس أبو العباس عبد الله بن محمد السفاح فاتخذ أبا سلمة حفص بن سليمان الخلال وهو أول وزير وزر في الإسلام ثم استوزر معه خالد بن برمك وسليمان بن مخلد والبربيع بن يونس فتراكمت عليهم الأشغال واتسعت عليهم الأمور فأفردوا للمكاتبات ديوانًا وكانوا يعبرون عنه تارة بصاحب ديوان الرسائل وتارة بصاحب ديوان المكاتبات وتفرقت دواوين الإنشاء في الأقطار فكان بكل مملكة ديوان إنشاء.
وكانت الديار المصرية من حين الفتح الإسلامي وإلى الدولة الطولونية إمارة ولم يكن لديوان الإنشاء فيها كبير أمر.
فلما استولى أحمد بن طولون عظمت مملكتها وقوي أمرها فكتب عنه أبو جعفر محمد بن أحمد بن مودود.
وكتب لولده خمارويه إسحاق بن نصر العبادي النصراني وتوالت دواوين الإنشاء بذلك إلى حين انقراض الدولة الإخشيدية.
ثم كانت الدولة الفاطمية فعظم ديوان الإنشاء بها ووقع الاعتناء به واختيار بلغاء الكتاب ما بين مسلم وذمي فكتب للعزيز بن المعز في الدولة الفاطمية أبو المنصور بن سورين النصراني ثم كتب لابنه الحاكم ومات في أيامه وكتب للحاكم بعده القاضي أبو الطاهر النهركي. ثم تولى الظاهر بن الحاكم فكتب عنه أبو الطاهر المذكور.
ثم تولى المستنصر فكتب عنه القاضي ولي الدين بن خيران وولي الدولة موسى بن الحسن بعد انتقاله إلى الوزارة وأبو سعيد العميدي.
ثم تولى الآمر والحافظ فكتب عنهما الشيخ أبو الحسن علي ابن أحمد بن الحسن بن أبي أسامة الحلبي إلى أن توفي في أيام الحافظ فكتب بعده ولده أبو المكارم هبة الله إلى أن توفي ومعه الشيخ أمين الدين تاج الرياسة أبو القاسم علي بن سليمان بن منجب المعروف بابن الصيرفي والقاضي كافي الكفاة محمود ابن القاضي الموفق أسعد بن قادوس وابن أبي الدم اليهودي ثم كتب بعد أبي المكارم القاضي الموفق بن الخلال بقية أيام الحافظ إلى آخر أيام العاضد آخر خلفائهم وبه تخرج القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني.
ثم أشرك العاضد مع الموفق بن الخلال في ديوان الإنشاء القاضي جلال الدين محمودًا الأنصاري.
ثم كتب القاضي الفاضل بين يدي الموفق بن الخلال في وزارة صلاح الدين يوسف بن أيوب.
ثم كانت الدولة الأيوبية فكتب للسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب القاضي الفاضل المذكور ثم أضيفت إليه الوزارة.
ثم كتب بعد الناصر لابنه العزيز ولأخيه العادل أبي بكر ثم مات العادل والفاضل.
قلت: هنا مجازفة لم يكتب القاضي الفاضل للعادل وكان بينهما مشاحنة ومات الفاضل قبل وصول العادل إلى مصر وقيل وقت دخول العادل من باب النصر إلى القاهرة كانت جنازة القاضي الفاضل خارجة.
وقد ذكرنا ذلك كله في هذا الكتاب وإنما كتب الفاضل للعزيز عثمان ولولده الملك المنصور محمد فالتبس المنصور على الناقل بالعادل. انتهى.
قال: ثم تولى الكامل بن العادل فكتب له أمين الدين سليمان المعروف بكاتب الدرج إلى أن توفي فكتب له بعده الشيخ أمين الدين عبد المحسن بن حمود الحلبي مدة قليلة ثم كتب للصالح نجم الدين أيوب ثم ولي ديوان الإنشاء الصاحب بهاء الدين زهير ثم صرف وولي بعده الصاحب فخر الدين إبراهيم بن لقمان الإسعردي فبقي إلى انقراض الدولة الأيوبية.
فلما كانت الدولة التركية كتب للمعز أيبك الصاحب فخر الدين المذكور ثم بعده للمظفر قطز ثم للظاهر بيبرس ثم للمنصور قلاوون ثم نقله قلاوون من ديوان الإنشاء للوزارة وولي ديوان الإنشاء مكانه القاضي فتح الدين بن عبد الظاهر فكتب عنه بقية أيامه ثم كتب لابنه الأشرف خليل إلى أن توفي فولى مكانه القاضي تاج الدين أحمد بن الأثير فكتب إلى أن توفي فكتب بعده الماضي شرف الدين عبد الوهاب بن فضل الله العمري فكتب بقية أيام الأشرف.
فلما تولى أخوه الناصر محمد كتب عنه القاضي شرف الدين المذكور في سلطنته الأولى ثم في أيام العادل كتبغا ثم أيام المنصور لاجين ثم في أيام سلطنة الناصر محمد الثانية ثم نقله إلى كتابة السر بدمشق عوضًا عن أخيه القاضي محيي الدين بن فضل الله العمري وتولى مكانه بمصر القاضي علاء الدين بن تاج الدين بن الأثير فبقي حتى مرض بالفالج فاستدعى الملك الناصر محي الدين بن فضل الله من دمشق وولده شهاب الدين أحمد وولاهما ديوان الإنشاء بمصر.
ثم ولى بعدهما القاضي شمس الدين ابن الشهاب محمود فبقي إلى عود السلطان من الحج فأعاد القاضي محيي الدين وولده القاضي شهاب الدين إلى ديوان الإنشاء بمصر فبقيا مدة.
ثم تغير السلطان على القاضي شهاب الدين وصرفه عن المباشرة وأقام أخاه القاضي علاء الدين علي وكلاهما معين لوالده لكبر سنه ثم سأل القاضي محيي الدين السلطان في العود إلى دمشق فأعاده وصحبته ولده شهاب الدين واستمر ولده القاضي علاء الدين بالديار المصرية فباشر بقية أيام الناصر ثم أيام ولده الملك المنصور ثم أيام الأشرف كجك ثم أيام الناصر أحمد إلى أن خلع نفسه وتوجه إلى الكرك وتوجه معه القاضي علاء الدين فلما تولى الملك الصالح إسماعيل السلطنة بمصر بعد أخيه الناصر أحمد قرر القاضي بدر الدين محمد ابن القاضي محيي الدين بن فضل الله عوضًا عن أخيه علاء الدين. قلت: لم يل بدر الدين محمد بعد أخيه علاء الدين الوظيفة استقلالًا وإنما ناب عنه إلى حين حضوره. انتهى.
قال: ثم أعيد علاء الدين أيام الصالح إسماعيل وأيام الكامل شعبان ثم أيام المظفر حاجي ثم أيام الناصر حسن في سلطنته الأولى ثم في أيام الصالح صالح ثم في أيام الناصر حسن في سلطنته الثانية ثم أيام المنصور محمد ابن المظفر حاجي ثم في أيام الأشرف شعبان وتوفي في أيامه.
قلت: وكانت وفاته في شهر رمضان سنة تسع وستين وسبعمائة بعد أن باشر كتابة السر نيفًا وثلاثين سنة لأحد عشر سلطانًا.
قال: ثم ولي الوظيفة بعده ولده بدر الدين محمد ابن القاضي علاء الدين فباشر بقية أيام الأشرف شعبان ثم ولده المنصور علي ثم أخيه الملك الصالح حاجي بن شعبان إلى أن خلع بالظاهر برقوق فاستقر برقوق بالقاضي أوحد الدين عبد الواحد بن إسماعيل التركماني إلى أن توفي.
قلت: وكانت وفاته في ذي الحجة سنة ست وثمانين وسبعمائة.
قال: ثم أعيد بدر الدين فباشر حتى خلع الظاهر برقوق بالمنصور حاجي فاستمر بدر الدين إلى أن عاد برقوق إلى سلطنته الثانية صرفه بالقاضي علاء الدين علي بن عيسى الكركي ثم صرف الكركي.
قلت: ومات معزولًا في شهر ربيع الأول في سنة أربع وتسعين وسبعمائة.
قال: ثم أعيد القاضي بدر الدين من بعد عزل القاضي علاء الدين فاستمر بدر الدين إلى أن عاد برقوق فتوفي بدمشق.
قلت: ووفاته في شوال سنة ست وتسعين وسبعمائة.
قال: وولي بعده القاضي بدر الدين محمود الكلستاني فباشر إلى أن توفي.
قلت: وكانت وفاته في عاشر جمادى الأولى سنة إحدى وثمانمائة.
قال: فتولى بعده القاضي فتح الدين فتح الله التبريزي فباشر بقية أيام الظاهر ومدة من أيام الناصر إلى أن صرفه الناصر فرج بالقاضي سعد الدين إبراهيم بن غراب مدة يسيرة ثم صرف ابن غراب وأعيد القاضي فتح الله ثانيًا فباشر إلى أن صرف بالقاضي فخر الدين بن المزوق فباشر مدة يسيرة ثم صرف وأعيد فتح الله فباشر إلى أن صرفه الملك المؤيد شيخ وقبض عليه وصادره.
قلت: ومات تحت العقوبة خنقًا في ليلة الأحد خامس عشر شهر ربيع الأول سنة ست عشرة وثمانمائة وهو فتح الله بن مستعصم بن نفيس التبريزي الحنفي الداودي يأتي ذكره هو وغيره من كتاب السر في محلهم من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
قال: وتولى بعده القاضي ناصر الدين محمد بن البارزي فباشر إلى أن توفي.
قلت: وكانت وفاته يوم الأربعاء ثامن شوال سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة ومولده بحماة في يوم الاثنين رابع شوال سنة تسع وستين وسبعمائة.
وتولى بعده ولده القاضي كمال الدين محمد بن البارزي فباشر إلى أن صرفه الملك الظاهر ططر وولى علم الدين داود بن عبد الرحمن بن الكويز فباشر إلى أن توفي سنة ست وعشرين وثمانمائة في دولة الملك الأشرف برسباي.
وولى بعده جمال الدين يوسف بن الصفي الكركي فباشر قليلًا إلى أن صرف بقاضي القضاة شمس الدين محمد الهروي ودام الكركي بعد ذلك وباشر عدة وظائف بالبلاد الشامية إلى أن توفي في حدود سنة خمس وخمسين وثمانمائة وباشر الهروي إلى أن عزل بقاضي القضاة نجم الدين عمر بن حجي فباشر ابن حجي إلى أن عزل وتوجه إلى دمشق على قضائها ودام إلى أن قتل بها في ذي القعدة سنة ثلاثين وثمانمائة وولى بعده القاضي بدر الدين محمد بن محمد بن أحمد بن مزهر واستمر إلى أن مات في ليلة الأحد سابع عشرين جمادى الآخرة من سنة اثنتين وثلاثين وثمانمائة.
وولى بعده ابنه جلال الدين وقيل بدر الدين محمد مدة يسيرة.
وصرف بالشريف شهاب الدين أحمد بن علي بن إبراهيم بن عدنان الحسيني الدمشقي فباشر مدة يسيرة وتوفي بالطاعون في سنة ثلاث وثلاثين وولي بعده أخوه نحو الجمعة بغير خلعة وتوفي بالطاعون أيضًا.
لي بعدهما شهاب الدين أحمد بن صالح بن أحمد بن عمر المعروف بابن السفاح الحلبي فباشر إلى أن مات في سنة خمس وثلاثين.
وولي بعده الوزير كريم الدين عبد الكريم بن عبد الرزاق بن عبد الله المعروف بابن كاتب المناخ مضافًا للوزارة فباشر أشهرًا وصرف وأعيد القاضي كمال الدين محمد بن البارزي في يوم السبت العشرين من شهر ربيع الأخر سنة ست وثلاثين فباشر إلى أن صرف يوم الخميس سابع شهر رجب سنة تسع وثلاثين وولي مكانه الشيخ محب الدين محمد بن الأشقر فباشر إلى أن صرف وولي صلاح الدين محمد ابن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله فباشر إلى أن توفي بالطاعون في سنة إحدى وأربعين وولي مكانه والده الصاحب بدر الدين حسن فباشر إلى أن صرف وأعيد القاضي كمال الدين بن البارزي في يوم الثلاثاء سابع عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة وهي ولايته الثالثة فباشر إلى أن توفي بكرة يوم الأحد سادس عشرين صفر سنة ست وخمسين وثمانمائة ولم يخلف بعده مثله وولي بعده القاضي محب الدين محمد بن الأشقر المقدم ذكره وباشر إلى أن صرفه الملك الأشرف إينال بالقاضي محب الدين محمد بن الشحنة الحلبي فباشر ابن الشحنة أشهرًا ثم صرف وأعيد القاضي محب الدين محمد بن الأشقر وهي ولايته الثالثة. انتهى.
قلت: وغالب من ذكرناه من هؤلاء الكتاب قد تقدم ذكر أكثرهم ويأتي ذكر باقيهم في محلهم من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
وقد استطردنا من ترجمة الملك المنصور إلى غيرها ولكن لا بأس بالتطويل في تحصيل الفوائد. انتهى.
وقد تقدم ذكرها في ترجمة الملك السعيد والملك العادل سلامش ولدي الملك الظاهر بيبرس وهي سنة ثمان وسبعين وستمائة فإنه حكم فيها من شهر رجب. إلى آخرها.
السنة الثانية من سلطنة المنصور قلاوون وهي سنة تسع وسبعين وستمائة. ف
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم ثلاث أذرع وخمس أصابع. مبلغ الزيادة ثماني عشرة ذراعًا وثلاث وعشرون إصبعًا.
السنة الثالثة من سلطنة المنصور قلاوون وهي سنة ثمانين وستمائة.
فيها تربت جزيرة كبيرة ببحر النيل تجاه قرية بولاق واللوق وانقطع بسببها مجرى البحر ما بين قلعة المقس وساحل باب البحر والرملة وبين جزيرة الفيل ولم يعهد هذا فيما تقدم وحصل لأهل القاهرة مشقة يسيرة من نقل الماء لبعد البحر عنهم وأراد السلطان حفره فمنعوه وقالوا له: هذا نشف إلى الأبد.
قلت: وكذا وقع وغالب أملاك باب البحر والبساتين خارج باب البحر وداخله هي مكان البحر الذي نشف والتصقت المباني والبساتين بجزيرة الفيل وصارت غير جزيرة فسبحان وفيها توفي الشيخ الصالح الموله المعتقد إبراهيم بن سعيد الشاغوري المعروف بجيعانة في يوم الأحد سابع جمادى الأولى بدمشق ودفن بمقبرة المولهين بسفح قاسيون وله من العمر نحو سبعين سنة وكانت له جنازة عظيمة وكان له أحوال ومكاشفات رحمه الله.
وفيها توفي ملك التتار أبغا بن هولاكو بن تولي خان بن جنكزخان ملك التتار وطاغيتهم كان ملكا جليل الوفيها توفي الأمير سيف الدين بلبان الرومي الدوادار المقدم ذكره في قضية كتاب السر كان الملك الظاهر بيبرس يعتمد عليه وولاه دوادارًا وكان المطلع على أسراره وتدبير أمور القصاد والجواسيس والمكاتبات لا يشاركه في ذلك وزير ولا نائب سلطنة بل كان هو والأمير حسام الدين لاجين الأيدمري المعروف بالدرفيل فلما توفي لاجين المذكور انفرد بلبان بذلك وحده وكان مع هذه الخصوصية عند الملك الظاهر أمير عشرة وقيل جنديًا.
قال الصفدي: لم يؤمره طبلخاناه إلى أن مات الملك الظاهر أنعم عليه ولده الملك السعيد بأمرة ستين فارسًا بالشام وبقي بعد ذلك إلى أن استشهد بظاهر حمص رحمه الله وقد نيف على ستين سنة.
وفيها توفي الأمير شمس الدين سنقر بن عبد الله الألفي كان من أعيان الأمراء الظاهرية وولي نيابة السلطنة بمصر للملك السعيد بعد موت الأمير بدر الدين بيليك الخازندار وباشر النيابة أحسن مباشرة إلى أن استعفى فاعفي وولي النيابة عوضه الأمير كوندك فكان ذهاب الدولة على يده.
ثم قبض الملك المنصور على سنقر هذا واعتقله بالإسكندرية وقيل بقلعة الجبل إلى أن مات وله من العمر نحو أربعين سنة.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وثلاث أصابع. مبلغ الزيادة ثماني عشرة ذراعًا وأربع أصابع.
السنة الرابعة من سلطنة المنصور قلاوون وهي سنة إحدى وثمانين وستمائة.
وفيها توفي ملك التتار منكوتمر بن هولاكو خان بن تولي خان بن جنكز خان هو أخو أبغا ملك التتار ومنكوتمر هذا هو الذي ضرب المصاف مع السلطان الملك المنصور قلاوون على حمص حسب ما تقدم ذكره وانكسرت عساكره فلما وقع ذلك عظم عليه وحصل عنده غم شديد وكمد زائد وحدثته نفسه بجمع العساكر من سائر ممالك بيت هولاكو واستنجد بأخيه أبغا على غزو الشام فقدر الله سبحانه وتعالى موت أبغا ثم مات هو بعده في محرم هذه السنة وأراح الله المسلمين من شرهما.
وكان منكوتمر شجاعًا مقدامًا وعنده بطش وجبروت وسفك للدماء وكان نصرانيًا وكان جرح يوم مصاف حمص والذي جرحه الأمير علم الدين سنجر الدويداري.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم خمس أذرع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وثماني عشرة إصبعًا.
السنة الخامسة من سلطنة المنصور قلاوون وهي سنة اثنتين وثمانين وستمائة.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم أربع أذرع وخمس أصابع. مبلغ الزيارة سبع عشرة ذراعًا وثماني أصابع.
السنة السادسة من سلطنة المنصور قلاوون وهي سنة ثلاث وثمانين وستمائة.
وفيها توفي الملك المنصور ناصر الدين أبو المعالي محمد ابن الملك المظفر محمود ابن الملك المنصور محمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب صاحب حماة والمعرة وابن صاحبهما ملكهما بعد وفاة أبيه سنة اثنتين وأربعين وستمائة ووالدته الصاحبة غازية خاتون بنت الملك الكامل محمد صاحب مصر ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب. وكان مولده سنة اثنتين وثلاثين وستمائة وولي الملك المنصور قلاوون ابنه بعد وفاته.
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال: والملك أحمد بن هولاكو ملك التتار. وملك العرب عيسى بن مهنا في شهر ربيع الأول.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم أربع أذرع وعدة أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وثلاث أصابع.
السنة السابعة من سلطنة المنصور قلاوون وهي سنة أربع وثمانين وستمائة.
فيها كان فتوح المرقب وغيره من القلاع بالساحل حسب ما ذكرناه في أول الترجمة.
وفيها ولد الملك الناصر محمد بن قلاوون ووالده على حصار المرقب وقد تقدم ذكر ذلك أيضًا.
ثم ترقى بعد موت أستاذه أيدكين وولي نيابة الشام من قبل مملوكه الملك الظاهر بيبرس وكان الملك الظاهر بيبرس يعظمه ويقول له: أنت أستاذي ويعرف له حق التربية وكان هو أيضًا يبالغ في خدمة الملك الظاهر والنصح له وهو الذي انتزع له دمشق من يد الأمير سنجر الحلبي كما تقدم ذكره.
وعاش أيدكين إلى دولة الملك المنصور قلاوون وهو من أكابر الأمراء وأعيانهم إلى أن مات في القاهرة في شهر ربيع الآخر ودفن بتربته قريب بركة الفيل وقد ناهز السبعين. قلت: وما العجب أن أيدكين هذا كان من جملة أمراء مملوكه الملك الظاهر بيبرس والعجب أن أستاذ إيدكين هذا الأمير جمال الدين بن يغمور كان أيضًا من جملة أمراء الظاهر بيبرس فكان الظاهر أستاذ أستاذه في خدمته ومن جملة أمرائه
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم لم يحرر. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وعشرون إصبعًا.
السنة الثامنة من سلطنة المنصور قلاوون وهي سنة خمس وثمانين وستمائة.
فيها استولى الملك المنصور قلاوون على الكرك وانتزعها من يد الملك المسعود خضر ابن الملك
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم أربع أذرع وقيل خمس وست أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وأربع أصابع.
السنة التاسعة من سلطنة المنصور قلاوون وهي سنة ست وثمانين وستمائة.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم أربع أذرع وأصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وعشر أصابع.
السنة التاسعة من سلطنة المنصور قلاوون وهي سنة سبع وثمانين وستمائة.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم خمس أذرع وأربع أصابع. مبلغ الزيادة ثماني عشرة ذراعًا وأربع أصابع.
السنة الحادية عشرة من سلطنة المنصور قلاوون وهي سنة ثمان وثمانين وستمائة.
فيها فتحت طرابلس وما أضيف إليها بعد أمور ووقائع حسب ما ذكرناه في أصل هذه الترجمة مفصلًا.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم أربع أذرع وعشر أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وعشر أصابع.
السنة الثانية عشرة من سلطنة المنصور قلاوون وهي سنة تسع وثمانين وستمائة.
فيها كانت وفاة صاحب الترجمة الملك المنصور قلاوون في ذي القعدة حسب ما تقدم ذكره وتسلطن بعده ابنه الملك الأشرف خليل.
وفيها توفي الأمير حسام الدين أبو سعيد طرنطاي بن عبد الله المنصور في الأمير الكبير كان أوحد أهل عصره كان عظيم دولة أستاذه الملك المنصور قلاوون وكان المنصور قد جعله نائبه بسائر الممالك وكان هو المتصرف في مملكته.
فلما مات الملك المنصور قلاوون وتسلطن ولده الملك الأشرف خليل استنابه أيامًا إلى أن رتب أموره ودبره ودبر أحواله وكان عظيم التنفيذ سديد الرأي مفرط الذكاء غزير العقل فلما رسخت قدم الأشرف في السلطنة أمسكه وكان في نفسه منه أيام والده وبسط عليه العذاب إلى أن مات شهيدًا وصبر على العذاب صبرًا لم يعهد مثله عصره إلى أن هلك ولما غسلوه وجدوه قد تهرأ لحمه وتزايلت أعضاؤه وأن جوفه كان مشقوقًا كل ذلك ولم يسمع منه كلمة.
وكان بينه وبين الأمير علم الدين سنجر الشجاعي عداوة على الرتبة فسلمه الأشرف إلى الشجاعي وأمره بتعذيبه فبسط الشجاعي عليه العذاب أنواعًا إلى أن مات فحمل إلى زاوية الشيخ عمر السعودي فغسلوه وكفنوه ودفنوه بظاهر الزاوية .
وكان له مواقف مع العدو وغزوات مشهورة وفتوحات. وبنى مدرسة حسنة بقرب داره بخط البندقانيين بالقاهرة وقبة برسم الدفن وله أوقاف على الأسرى وغيرها. وكان فيه محاسن لولا شحه وبذاءة لسانه لكان أوحد أهل زمانه وخلف أموالًا جمة.
قال الشيخ قطب الدين اليونيني: قال الشيخ تاج الدين الفزاري: حدثني تاج الدين ابن الشيرازي المحتسب: أنهم وجدوا في خزانة طرنطاي من الذهب العين ألفي ألف دينار وأربعمائة ألف دينار وألفي حياصة ذهب وألف وسبعمائة كلوته مزركشة ومن الدراهم ما لا يحصى فاستولى الأشرف خليل على ذلك كله وفرقه على الأمراء والمماليك في أيسر مدة واحتاج أولاد طرنطاي هذا وعياله من بعده إلى الطلب من الناس من الفقر. وقال غيره: وجد لطرنطاي ألف ألف دينار وستمائة ألف دينار. ثم ذكر أنواع الأقمشة والخيول والجمال والبغال والمتاجر ما يستحى من ذكره كثرة. ومات طرنطاي المذكور ولم يبلغ خمسين سنة من العمر.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم ثلاث أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعًا وسبع عشرة إصبعًا ولم يوف في هذه السنة.
.
=====================================================================