السلطان الملك الأشرف خليل على مصر سنة 689 هـ
سلطنة الملك الأشرف خليل هو السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفي الصالحي النجمي جلس على تخت الملك يوم وفاة أبيه في يوم الأحد سابع ذي القعدة سنة تسع وثمانين وستمائة.
وكان والده قلاوون قد سلطنه في حياته بعد موت أخيه الملك الصالح علي بن قلاوون في سنة سبع وثمانين وستمائة والمعتد به جلوسه الآن على تخت الملك بعد موت أبيه. وجدد له الأمراء والجند الحلف في يوم الاثنين ثامن في القعدة المذكور.
وطلب من القاضي فتح الدين بن عبد الظاهر تقليده فأخرجه إليه مكتوبًا بغير علامة الملك المنصور وكان ابن عبد الظاهر قد قدمه إليه ليعلم عليه فلم يرض وتقدم طلب الأشرف وتكرر وابن عبد الظاهر يقدمه إلى الملك المنصور والمنصور يمتنع إلى أن قال له: " يا فتح الدين أنا ما أولي خليلًا على المسلمين! " ومعنى ذلك أن الملك المنصور قلاوون كان قد ندم على توليته السلطنة من بعده. فلما رأى الأشرف التقليد بلا علامة قال: " لا فتح الدين السلطان امتنع أن يعطيني وقد أعطاني الله! " ورمى التقليد من يده وتم أمره ورتب أمور الديار المصرية وكتب بسلطنته إلى الأقطار وأرسل الخلع إلى النواب بالبلاد الشامية. وهو السلطان الثامن من ملوك الترك وأولاهم.
ثم خلع على أرباب وظائفه بمصر والذين خلع عليهم من الأعيان: الأمير بدر الدين بيدرا المنصوري نائب السلطنة بالديار المصرية ووزيره ومدبر مملكته شمس الدين محمد بن السلعوس الدمشقي وهو في الحجاز الشريف وعلى بقية أرباب وظائفه على العادة والنواب بالبلاد الشامية يوم ذاك فكان نائبه بدمشق وما أضيف إليها من الشام الأمير حسام الدين لاجين المنصوري ونائب السلطنة بالممالك الحلبية وما أضيف إليها الأمير شمس الدين قرا سنقر المنصوري ونائب الفتوحات الساحلية والأعمال الطرابلسية والقلاع الإسماعيلية الأمير سيف الدين بلبان السلحدار المعروف بالطباخي ونائبه بالكرك والشوبك وما أضيف إلى ذلك الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار المنصوري صاحب التاريخ المعروف " بتاريخ بيبرس الدوادار " وصاحب حماة والمعرة الملك المظفر تقي الدين محمود ابن الملك المنصور محمد الأيوبي.
والذين هم تحت طاعته من الملوك صاحب مكة المشرفة الشريف نجم الدين أبو نمي محمد بن إدريس بن علي بن قتادة الحسني وصاحب اليمن الملك المظفر شمس الدين يوسف بن عمر فهؤلاء الذين أرسل إليهم بالخلع والتقليد.انتهى.
ولما رسخت قدم الملك الأشرف هذا في الملك أخذ وأعطى وأمر ونهى وفرق الأموال وقبض على جماعة من حواشي والده وصادرهم على ما يأتي ذكره.
حصار الملك الأشرف لعكا وإستيلاءه عليها من الفرنجة
ولما استهلت سنة تسعين وستمائة أخذ الملك الأشرف في التجهز للسفر للبلاد الشامية وإتمام ما كان قصده والده من حصار عكا وأرسل إلى البلاد الشامية وجمع العساكر وعمل آلات الحصار وجمع الصناع إلى أن تم أمره خرج بعساكره من الديار المصرية في ثالث شهر ربيع الأول من سنة تسعين المذكورة وسار حتى نازل عكا في يوم الخميس رابع شهر ربيع الآخر ويوافقه خامس نيسان فاجتمع عنده على عكا من الأمم ما لا يحصى كثرة. وكان المطوعة أكثر من الجند ومن في الخدمة.
ونصب عليها المجانيق الكبار الفرنجية خمسة عشر منجنيقًا منها ما يرمي بقنطار دمشقي وأكبر ومنها دونه.
وأما المجانيق الشيطانية وغيرها فكثيرة ونقب عدة نقوب وأنجد أهل عكا صاحب قبرس بنفسه وفي ليلة قدومه عليهم أشعلوا نيرانًا عظيمة لم ير مثلها فرحًا به وأقام عندهم قريب ثلاثة أيام ثم عاد عندما شاهد انحلال أمرهم وعظم ما دهمهم ولم يزل الحصار عليها والجد في أمر قتالها إلى أن انحلت عزائم من بها وضعف أمرهم واختلفت كلمتهم. هذا والحصار عمال في كل يوم واستشهد عليها جماعة من المسلمين.
فلما كان سحر يوم الجمعة سابع جمادى الأولى ركب السلطان والعساكر وزحفوا عليها قبل طلوع الشمس وضربوا الكوسات فكان لها أصوات مهولة وحس عظيم مزعج فحال ملاصقة العسكر لها وللأسوار هرب الفرنج وملكت المدينة بالسيف ولم تمض ثلاث ساعات من النهار المذكور إلا وقد استولى المسلمون عليها ودخلوها وطلب الفرنج البحر فتبعتهم العساكر الإسلامية تقتل وتأسر فلم ينج منهم إلا القليل ونهب ما وجد من الأموال والذخائر والسلاح وعمل الأسر والقتل في جميع أهلها وعصى الديوية والإسبتار واستتر الأرمن في أربعة أبراج شواهق في وسط البلد فحصروا فيها.
فلما كان يوم السبت ثامن عشر الشهر وهو ثاني يوم فتح المدينة قصد جماعة من الجند وغيرهم الدار والبرج الذي فيه الديوية فطلبوا الأمان فأمنهم السلطان وسير لهم صنجقًا فأخذوه ورفعوه على برجهم وفتحوا الباب فطلع إليهم جماعة كثيرة من الجند وغيرهم.
فلما صاروا عندهم تعرض بعض الجند والعوام للنهب ومدوا أيديهم إلى من عندهم من النساء والأصاغر فغلق الفرنج الأبواب ووضعوا فيهم السيف فقتلوا جماعة من المسلمين ورموا الصنجق وتمسكوا بالعصيان وعاد الحصار عليهم.
وفي اليوم المذكور نزل من كان ببرج الإسبتار الأرمن بالأمان فأمنهم السلطان على أنفسهم وحريمهم على يد الأمير زين الدين كتبغا المنصوري وتم القتال على برج الديوية ومن عنده إلى يوم الأحد التاسع عشر من جمادى الأولى طلب الديوية ومن بقي في الأبراج الأمان فأمنهم السلطان على أنفسهم وحريمهم على أن يتوجهوا حيث شاؤوا.
فلما خرجوا قتلوا منهم فوق الألفين وأسروا مثلهم وساقوا إلى باب الدهليز النساء والصبيان وكان من جملة حنق السلطان عليهم مع ما صدر منهم أن الأمير آقبغا المنصوري أحد أمراء الشام كان طلع إليهم في جملة من طلع فأمسكوه وقتلوه وعرقبوا ما عندهم من الخيول وأذهبوا ما أمكنهم أذهابه فتزايد الحنق عليهم وأخذ الجند وغيرهم من السبي والمكاسب ما لا يحصى.
ولما علم من بقي منهم ما جرى على إخوانهم تمسكوا بالعصيان وامتنعوا من قبول الأمان وقاتلوا أشد قتال واختطفوا خمسة نفر من المسلمين ورموهم من أعلى البرج فسلم منهم نفر واحد ومات الأربعة.
ثم في يوم الثلاثاء ثامن عشرين جمادى المذكورة أخذ البرج الذي تأخر بعكا وأنزل من فيه بالأمان وكان قد غلق من سائر جهاته. فلما نزلوا منه وحولوا معظم ما فيه سقط على جماعة من المسلمين المتفرجين ومضن قصد النهب فهلكوا عن آخرهم. ثم بعد ذلك عزل السلطان النساء والصبيان ناحية وضرب رقاب الرجال أجمعين وكانوا خلائق كثيرة.
والعجب أن الله سبحانه وتعالى قدر فتح عكا في مثل اليوم الذي أخذها الفرنج فيه ومثل الساعة التي أخذوها فيها فإن الفرنج كانوا استولوا على عكا في يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين وخمسمائة في الساعة الثالثة من النهار وأمنوا من كان بها من المسلمين ثم قتلوهم غدرًا وقدر الله تعالى أن المسلمين استرجعوها منهم في هذه المرة يوم الجمعة في الساعة الثالثة من النهار ووافق السابع عشر من جمادى الأولى وأمنهم السلطان ثم قتلهم كما فعل الفرنج بالمسلمين فانتقم الله تعالى من عاقبتهم.
وكان السلطان عند منازلته عكا قد جهز جماعة من الجند مقدمهم الأمير علم الدين سنجر الصوابي الجاشنكير إلى صور لحفظ الطرق وتعرف الأخبار وأمره بمضايقة صور.
فبينما هو في ذلك لم يشعر إلا بمراكب المنهزمين من عكا قد وافت الميناء التي لصور فحال بينها وبين الميناء فطلب أهل صور الأمان فأمنهم على أنفسهم وأموالهم ويسلموا صور فأجيبوا إلى ذلك فتسلمها.
وصور من أجل الأماكن ومن الحصون المنيعة ولم يفتحها السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب فيما فتح من الساحل بل كان صلاح الدين كلما فتح مكانًا وأمنهم أوصلهم إلى صور هذه لحصانتها ومنعتها فألقى الله تعالى في قلوب أهلها الرعب حتى سلموها من غير قتال ولا منازلة ولا كان الملك الأشرف في نفسه شيء من أمرها البتة.
وعندما تسلمها جهز إليها من أخربها وهدم أسوارها وأبنيتها ونقل من رخامها وأنقاضها شيء كثير. ولما تيسر أخذ صور على هذه الصورة قوي عزم الملك الأشرف على أخذ غيرها.
ولما كان الملك الأشرف محاصرًا لعكا استدعى الأمير حسام الدين لاجين المنصوري نائب الشام وهو الذي تسلطن بعد ذلك حسب ما يأتي ذكره والأمير ركن الدين بيبرس المعروف بطقصو في ليلة الاثنين ثالث عشر جمادى الأولى إلى المخيم وأمسكهما وقيدهما وجهزهما في بكره نهار الاثنين إلى قلعة صفد ومنها إلى قلعة الجبل.
وكان تقدم قبل ذلك بستة أيام مسك الأمير سنجر المعروف بأبي خرص وجهزه إلى الديار المصرية محتاطًا عليه.
ثم استقر الملك الأشرف بالأمير علم الدين سنجر الشجاعي المنصوري في نيابة الشام عوضًا عن الأمير لاجين المذكور.
وعندما أمسك الأشرف هذين الأميرين الكبيرين حصل للناس قلق شديد وخشوا من حدوث أمر يكون سببًا لتنفيس الخناق عن أهل عكا فكفى الله تعالى ذلك. ثم أمسك الأشرف الأمير علم الدين أيدغدي الإلدكزي نائب صفد وما معها لأمر نقمه عليه وصادره وجعل مكانه الأمير علاء الدين أيدكين الصالحي العمادي وأضاف إليه مع ولاية صفد عكا وما استجد من الفتوحات الأشرفية.
ثم لما فرغ الأشرف من مصادرة أيدكين المذكور ولاه بر صفد عوضًا عن علم الدين سنجر الصوابي ثم استدعى الملك الأشرف الأمير بيبرس الدوادار المنصوري الخطائي المؤرخ نائب الكرك وعزله وولى عوضه الأمير آقوش الأشرفي.
ثم رحل الملك الأشرف عن عكا في بكرة نهار الاثنين خامس جمادى الآخرة ودخل دمشق يوم الاثنين ثاني عشره بعد أن زينت له دمشق غاية الزينة وعملت القباب بالشوارع من قريب المصلى إلى الباب الجديد وحصل من الاحتفال لقدومه ما لا يوصف ودخل وبين يديه الأسرى من الفرنج تحتهم الخيول وفي أرجلهم القيود ومنهم الحامل من سناجق الفرنج المنكسة وفيهم من حمل رمحًا علمه من رؤوس قتلى الفرنج فكان لقدومه يوم عظيم. وأقام الأشرف بدمشق إلى فجر نهار الأربعاء تاسع عشر شهر رجب.
وعاد إلى الديار المصرية فدخلها يوم الاثنين تاسع شعبان فاحتفل أيضًا أهل مصر لملاقاته احتفالًا عظيمًا أضعاف احتفال أهل دمشق وعند دخوله إلى مصر أطلق رسل صاحب عكا الذين كانوا معوقين بالقاهرة.
ثم إن الأمير علم الدين سنجر الشجاعي نائب الشام فتح صيدا بعد حصار كبير بالأمان في يوم السبت خامس عشر شهر رجب. ولما أخذت هذه البلاد في هذه السنة أمر السلطان أن تخرب قلعة جبيل وأسوارها بحيث يلحقها بالأرض فخربت أصلًا ثم أخذت عثليث بعد شهر.
وأما أهل أنطرطوس لما بلغهم أخذ هذه القلاع عزموا على الهرب فجرد الأمير سيف الدين بلبان الطباخي عسكرًا فلما أحاطوا بها ليلة الخميس خامس شعبان ركبوا البحر وهربوا إلى جزيرة أرواد وهي بالقرب منها فندب إليها السعدي بما كان أحضره من المراكب والشواني فأخلوها. وكان فتح هذه المدن الست في ستة شهور.
ثم رسم الملك الأشرف بالقبض على الأمير علم الدين سنجر الدوادار فقبض عليه في شهر رمضان وجهز إلى الديار المصرية بعد أن أحيط على جميع موجوده ثم أفرج الملك الأشرف على جماعة من الأمراء ممن كان قبض عليهم وحبسهم وهم: الأمير لاجين المنصوري الذي تسلطن بعد ذلك وبيبرس طقصو الناصري وسنقر الأشقر الصالحي وبدر الدين بيسري الشمسي وسنقر الطويل المنصوري وبدر الدين خضر بن جودي القيمري وفي شهر رمضان سنة تسعين وستمائة المذكورة أنعم السلطان الملك الأشرف على علم الدين سنجر المنصوري المعروف بأرجواش خبزًا وخلع عليه وأعيد إلى ولاية قلعة دمشق ثم طلب الملك الأشرف قاضي القدس بدر الدين محمد بن إبراهيم بن جماعة إلى الديار المصرية وولاه قضاءها بعد عزل قاضي القضاة تقي الدين ابن بنت الأعز.
واستمر الملك الأشرف بالديار المصرية إلى أن تجهز وخرج منها قاصدًا البلاد الشامية في يوم السبت ثامن شهر ربيع الآخر من مدة إحدى وتسعين وستمائة وسار حتى دخل دمشق في يوم السبت سادس جمادى الأولى. وفي ثامن جمادى الأولى أحضر السلطان الأموال وأنفق في جميع العساكر المصرية والشامية.
ووصل الملك المظفر تقي الدين صاحب حماة لتلقي الملك الأشرف فالتقاه فزاد السلطان في إكرامه واستعرض الجيوش عليه وأمر بتسفيرهم قدام الملك المظفر المذكور.
ثم توجه الملك الأشرف من دمشق بجميع العساكر قاصدًا حلب فوصلها في ثامن عشرين جمادى الأولى ثم خرج منها ونزل على قلعة الروم بعساكره وحاصرها إلى أن افتتحها بالسيف عنوة في يوم السبت حادي عشر شهر رجب وكتب البشائر إلى الأقطار بأخذها ثم عاد السلطان إلى دمشق وترك بقلعة الروم الشجاعي وعساكر الشام ليعمروا ما انهدم منها في الحصار. وكان دخول السلطان إلى دمشق في يوم الثلاثاء تاسع عشر شعبان بعد أن عزل الأمير قرا سنقر المنصوري عن نيابة حلب بالأمير بلبان الطاخي وولى عوضًا عن الطباخي في الفتوحات طغريل الإيغاني.
ولما كان السلطان بدمشق عمل عسكره النوروز كعادتهم بالديار المصرية وعظم ذلك على أهل دمشق لعدم عادتهم بذلك.
وفي يوم الجمعة ثامن عشرين رمضان قبض السلطان على الأمير شمس الدين سنقر الأشقر وعلى الأمير ركن الدين طقصو وهرب الأمير حسام الدين لاجين المنصوري ونادوا عليه بدمشق من أحضره فله ألف دينار ومن أخفاه شنق.
ثم ركب الملك الأشرف ومماليكه في طلب لاجين المذكور وأصبح يوم العيد والسلطان في البرية مهجج وكانوا عملوا السماط كجاري العادة في الأعياد وأطلعوا المنبر إلى الميدان الأخضر وطلع الخطيب موفق الدين فصلى في الميدان بالعوام وعاد السلطان بعد صلاة العصر إلى دمشق ولم يقع للاجين على خبر.
ثم سير الملك الأشرف طقصو وسنقر الأشقر تحت الحوطة إلى الديار المصرية.
وأما لاجين فإن العرب أمسكوه وأحضروه إلى الملك الأشرف فأرسله الملك الأشرف مقيدًا إلى مصر. وفي سادس شوال ولى السلطان الأمير عز الدين أيبك الحموي نيابة دمشق عوضًا عن الشجاعي.
ثم خرج الأشرف من دمشق قاصدًا الديار المصرية في ليلة الثلاثاء عاشر شوال وكان قد رسم الأشرف لأهل الأسواق بدمشق وظاهرها أن كل صاحب حانوت يأخذ بيده شمعة ويخرج إلى ظاهر البلد وعند ركوب السلطان يشعلها فبات أكثر أهل البلد بظاهر دمشق لأجل الفرجة! فلما كان الثلث الأخير من الليل ركب السلطان وأشعلت الناس الشموع فكان أول الشمع من باب النصر وآخر الوقيد عند مسجد القدم لأن والي دمشق كان قد رتبهم من أول الليل فكانت ليلة عظيمة لم ير مثلها.
وسافر السلطان حتى دخل الديار المصرية يوم الأربعاء ثاني ذي القعدة من باب النصر وخرج من باب زويلة واحتفل أهل مصر لدخوله احتفالًا عظيمًا وكان يوم دخوله يومًا مشهودًا.
ولما أن طلع السلطان إلى قلعة الجبل أنعم على الأمير قرا سنقر المنصوري المعزول عن نيابة حلب بإمرة مائة فارس بديار مصر.
ثم أفرج عن الأمير حسام الدين لاجين المنصوري وأعطاه أيضًا خبز مائة فارس بديار مصر وسببه أن السلطان عاقب سنقر الأشقر وركن الدين طقصو فاعترفوا أنهم كانوا يريدون قتله وأن لاجين لم يكن معهم ولا كان له اطلاع على الباطن فخنقهم وأفرج عن لاجين بعد ما كان وضع الوتر في حلقه لخنقه فضمنه خشداشه الأمير بدر الدين بيدرا المنصوري نائب السلطان وعلم الدين سنجر الشجاعي وغيرهما.
قلت وسنقر الأشقر هو الذي كان تسلطن بدمشق في أوائل سلطنة الملك المنصور قلاوون ووقع له معه تلك الأمور المذكورة في عدة أماكن.
وأما لاجين هذا فهو الذي تسلطن بعد ذلك وتلقب بالملك المنصور حسب ما يأتي ذكره. وكلما ذكرنا من حينئذ لاجين فهو المنصور ولا حاجة للتعريف به بعد ذلك.
ثم إنهم أخرجوا الأمراء المخنقين وسلموهم إلى أهاليهم وكان السلطان خنق معهما ثلاثة أمراء أخر فأخرجوا الجميع ودفنوا ثم غرق السلطان جماعة أخرى وقيل إن ذلك كان في مستهل سنة اثنتين وتسعين وستمائة.
واستمر السلطان بمصر إلى أن تجهز وخرج منها إلى الشام في جمادى الأولى من سنة اثنتين وتسعين وستمائة المذكورة وسار حتى دخل دمشق في يوم الأحد تاسع جمادى الآخرة ونزل بالقصر الأبلق من الميدان الأخضر.
ولما استقر ركابه بدمشق شرع في تجهيز العساكر إلى بلاد سيس والغارة عليها فوصل رسل صاحب سيس بطلب الصلح ورضا السلطان عليه ومهما طلب منه من القلاع والمال أعطاه وشفع الأمراء في صاحب سيس واتفق الحال على أن يتسلم نواب السلطان من صاحب سيس ثلاث قلاع وهي: بهسنا ومرعش وتل حمدون ففرح الناس بذلك لأنه كان على المسلمين من بهسنا أذى عظيم.
وأقام السلطان بدمشق إلى مستهل شهر رجب توجه منها وصحبته عسكر الشام والأمراء وبعض عساكر مصر.
وأما الضعفاء من عسكر مصر فأعطاهم السلطان دستورًا بعودتهم إلى الديار المصرية.
وسار السلطان حتى وصل إلى حمص ثم توجه منها إلى سلمية مظهرًا أنه متوجه إلى ضيافة الأمير حسام الدين مهنا بن عيسى بن مهنا أمير آل فضل وكان خروج السلطان من دمشق في ثاني شهر رجب فلما كان بكرة يوم الأحد سابع شهر رجب وصل الأمير لاجين وصحبته مهنا إلى دمشق وهو مقبوض عليه أمسكه السلطان لما انقضت الضيافة وولى عوضه شخصًا من أولاد عمه وهو الأمير محمد بن علي بن حذيفة.
وفي بقية النهار وصل السلطان إلى دمشق ورسم للأمير بيدرا أن يأخذ بقية العساكر ويتوجه إلى مصر وأن يركب تحت الصناجق عوض السلطان وبقي السلطان مع خواصه بدمشق بعدهم ثلاثة أيام ثم خرج من دمشق في يوم السبت ثالث عشر رجب وعاد إلى جهة الديار المصرية في العشر الأخير من شهر رجب من سنة اثنتين وتسعين وستمائة.
ثم إن السلطان أمر الأمير عز الدين أيبك الحموي الأفرم أمير جاندار نائب الشام أن يسافر إلى الشوبك ويخرب قلعتها فكلمه الأفرم في بقائها فانتهره وسافر من يومه وتوجه الأفرم إلى الشوبك وأخربها غير القلعة.
وكان ذلك غاية ما يكون من الخطأ وسوء التدبير وكان أخرب قبل ذلك أيضًا عدة أماكن بقلعة الجبل وبقلعة دمشق أيضًا أخرب عدة قاعات ومباني هائلة. وأما قلاع السواحل فأخرب غالبها وكان يقصد ذلك لمعنى يخطر بباله.
ثم في العشرين من ذي الحجة نصب السلطان ظاهر القاهرة خارج باب النصر القبق وصفة ذلك أن ينصب صار طويل ويعمل على رأسه قرعة من ذهب أو فضة ويجعل في القرعة طير حمام ثم يأتي الرامي بالنشاب وهو سائق فرسه ويرمي عليه فمن أصاب القرعة وطير الحمام خلع عليه خلعة تليق به ثم يأخذ القرعة وكان ذلك بسبب طهور أخي الملك الأشرف وهو الملك الناصر محمد بن قلاوون وطهور ابن أخيه الأمير مظفر الدين موسى ابن الملك الصالح علاء الدين علي بن قلاوون فاحتفل السلطان لطهورهما وعمل مهمًا عظيمًا. وكان الطهور في يوم الاثنين ثاني عشرين ذي الحجة.
وعندما طهروهم رموا الأمراء الذهب لأجل النقوط فإن كان الأمير أمير مائة فارس رمى مائة دينار وإن كان أمير خمسين فارسًا رمى خمسين دينارًا وقس على ذلك سائر الأمراء ورمى حتى مقدمو الحلقة والأجناد فجمع من ذلك شيء كثيرة ثم بعد فراغ المهم بمدة يسيرة نزل السلطان الملك الأشرف المذكور من قلعة الجبل متوجهًا إلى الصيد في ثاني المحرم سنة ثلاث وتسعين وستمائة وصحبته وزيره الصاحب شمس الدين بن السلعوس ونائب سلطنته الأمير بدر الدين بيدرا وجميع الأمراء فلما وصل إلى الطرانة فارقه وزيره ابن السلعوس المذكور وتوجه إلى الإسكندرية.
الأمراء يقتلون السلطان الملك الأشرف
وأما السلطان فإنه نزل بالحمامات لأجل الصيد وأقام إلى يوم السبت ثاني عشر المحرم فلما كان قرب العصر وهو بأرض تروجة حضر إليه الأمير بدر الدين بيدرا نائب السلطنة ومعه جماعة كثيرة من الأمراء وكان السلطان بكرة النهار قد أمره أن يأخذ العسكر والدهليز ويمشي عوضه تحت الصاجق وأن يتقدمه ويبقى السلطان يتصيد وحده بقية يومه ويعود العشية إلى الدهليز فتوجه بيدرا على ذلك وأخذ السلطان الملك الأشرف يتصيد ومعه شخص واحد يقال له شهاب الدين الأشل أمير شكار وبينما السلطان في ذلك أتاه هؤلاء: بيدرا ورفقته فأنكر السلطان مجيئهم وكان في وسط السلطان بند حرير وليس معه نمجة لأجل الصيد وكان أول من ابتدره الأمير بيدرا فضربه بالسيف ضربة قطع بها يده مع كتفه فجاء الأمير حسام الدين لاجين وهو الذي تسلطن بعد ذلك بمدة وقال لبيدرا: يا نحس من يريد ملك مصر والشام تكون هذه ضربته ثم ضربه على كتفه فحلها ووقع السلطان على الأرض جاء بعدهما الأمير بهادر رأس نوبة وأخذ السيف ودسه في دبره وأطلعه من حلقه وبقي يجيء واحد من الأمراء بعد واحد ويظهرون ما في أنفسهم منه ثم تركوه في مكانه وانضموا على الأمير بيدرا وحلفوا له وأخذوه تحت الصناجق وركبوا سائرين بين يديه طالبين القاهرة.
وقيل في قتله وجه آخر. قال القطب اليونيني: " ومما حكى لي الأمير سيف الدين بن المحفدار كيف كان قتل السلطان الملك الأشرف خليل قال: سألت الأمير شهاب الدين أحمد بن الأشل أمير شكار السلطان كيف كان قتل السلطان الأشرف فقال ابن الأشل: بعد رحيل الدهليز يعني مدورة السلطان والعساكر جاء إليه الخبر أن بتروجة طيرًا كثيرًا فقال السلطان: امش بنا نسبق الخاصكية فركبنا وسرنا فرأينا طيرًا كثيرًا فرماه السلطان بالبندق فأصرع شيئًا كثيرًا ثم إنه التفت إلي وقال: أنا جيعان فهل معك شيء تطعمني فقلت: والله ما معي سوى فروجة ورغيف خبز قد ادخرته لنفسي في صولقي فقال لي: ناولني إياه فأخذه وأكله جميعه ثم قال لي: أمسك لي فرسي حتى أنزل وأريق الماء فقلت له: ما فيها حيلة! أنت راكب حصانًا وأنا راكب حجرة وما يتفقوا فقال لي: انزل أنت واركب خلفي وأركب أنا الحجرة التي لك والحجرة مع الحصان تقف قال: فنزلت وناولته لجام الحجرة ثم أني ركبت خلفه ثم إن السلطان نزل وقعد يريق الماء وشرع يولغ بذكره ويمازحني ثم قام وركب حصانه ومسك لي الحجرة ثم إني ركبت. فبينما أنا وإياه نتحدث وإذا بغبار عظيم قد ثار وهو قاصد نحونا فقال لي السلطان: سق واكشف لي خبر هذا الغبار قال: فسقت وإذا الأمير بدر الدين بيدرا والأمراء معه فسألتهم عن سبب مجيئهم فلم يردوا علي جوابًا ولا التفتوا إلى كلامي وساقوا على حالهم حتى قربوا من السلطان فكان أول من ابتدره بيدرا بالضربة قطع بها يده وتمم الباقي قتله " انتهى.
السنة الأولى من سلطنة الملك الأشرف صلاح الدين خليل على مصر وهي سنة تسعين ستمائة.
على أنه حكم من الماضية من يوم الاثنين ثامن ذي القعدة إلى آخرها. انتهى.
وفيها توفي ملك التتار أرغون بن أبغا بن هولاكو عظيم التتار وملكهم قيل: إنه اغتيل بالسم وقيل: إنه مات حتف أنفه واتهم الترك اليهود بقتله فمالوا عليهم بالسيوف فقتلوهم ونهبوا أموالهم واختلفت كلمة التتار فيمن يقيمونه بعده في الملك فمالت طائفة إلى بيدو ولم يوافقوا على كيختو فرحل كيختو إلى الروم وكان أرغون هذا قد عظم أمره عند التتار بعد قتل عمه أحمد تكودار ورسخت قدمه في الملك وكان شهمًا شجاعًا مقدامًا حسن الصورة سفاكًا للدماء شديد الوطأة.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم سبع أذرع وست عشرة إصبعًا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا سواء.
السنة الثالثة من سلطنة الملك الأشرف خليل وهي سنة اثنتين وتسعين وستمائة.
فيها حصل ببلاد غزة والرملة وقاقون والكرك زلزلة عظيمة وكان معظم تأثيرها بالكرك بحيث انهدم ثلاثة أبراج من قلعتها وبنيان كثير من دورها وأماكنها وكانت الزلزلة المذكورة في صفر.
وفيها كانت وفاة الأمير الكبير شمس الدين سنقر بن عبد الله العلائي ثم الصالحي النجمي المعروف بالأشقر كان من كبار الأمراء ممن تملك الشام في أوائل سلطنة الملك المنصور قلاوون ودعا لنفسه وتلقب " بالملك الكامل " وخطب له على منابر الشام وضرب الدرهم والدينار باسمه وقد أوضحنا من أمره نبذة كبيرة في عدة مواضع من ترجمة الملك المنصور قلاوون وغيره.
ووقع له مع الملك المنصور أمور أسفرت بعد سنين على أنه دخل تحت طاعته وصار من جملة أكابر أمرائه.
واستمر سنقر على ذلك إلى أن مات الملك المنصور قلاوون وملك بعده ابنه الملك الأشرف خليل صاحب الترجمة قبض عليه في هذه السنة وخنقه وخنق معه جماعة من الأمراء لأمر اقتضاه رأيه.
والأمراء الذين قتلوا معه مثل: الأمير ركن الدين طقصو الناصري وجرمك الناصري وبلبان الهاروني وكان معهم الأمير حسام الدين لاجين المنصوري الذي تسلطن بعد ذلك فوضع السلطان الوتر في رقبته لخنقه فانقطع الوتر فقال لاجين: يا خوند أيش ذنبي! ما لي ذنب إلا أن طقصو حموي وأنا أطلق بنته فرقوا له خشداشيته لأمر سبق في علم الله وقبلوا الأرض وسألوا السلطان فيه وضمنه خشداشه الأمير بدر الدين بيدرا نائب السلطنة فأطلقه السلطان وأعاده إلى رتبته وأخذ سنقر الأشقر هذا ودفن بالقرافة.
وكان سنقر المذكور أميرًا شجاعًا مقدامًا كريمًا حسن السياسة مهابًا جليلًا معظمًا في الدول وخوطب بالسلطنة سنين عديدة إلى أن ضعف أمره ونزل من قلعة صهيون بالأمان وقدم على الملك المنصور قلاوون فأكرمه قلاوون ودام على ذلك إلى أن مات. وكان سنقر شجاعًا أشقر عبل البدن جهوري الصوت مليح الشكل.
ولما تسلطن الملك الظاهر ركن الدين بيبرس لم يبايعه سنجر هذا ودعا لنفسه وحلف الأمراء وتسلطن بدمشق ولقب " بالملك المجاهد " فلم يتم له ذلك حسب ما تقدم ذكره في أول ترجمة الملك الظاهر بيبرس وقبض الظاهر عليه وحبسه مدة سنين إلى أن مات.
وتسلطن بعده ولده الملك السعيد فأفرج عنه وأمره فدام على ذلك إلى أن تسلطن الملك المنصور قلاوون ولما خرج عليه الأمير سنقر الأشقر المقدم ذكره وتسلطن بدمشق ندب المنصور لحربه علم الدين سنجر هذا وأضاف إليه العساكر المصرية فخرج إليه وقاتله وكسره وأخرجه من دمشق ثم عاد إلى الديار المصرية فأنعم عليه المنصور قلاوون بأشياء كثيرة ثم خانه وقبض عليه وحبسه إلى أن مات. فلما تسلطن ولده الملك الأشرف خليل أفرج عنه وأكرمه ورفع منزلته.
وكان سبب مسك قلاوون له أنه لما كسر سنقر الأشقر عظم في أعين الناس ولهج بعض الناس بتسميته " بالملك المجاهد " كما كان تلقب أولًا لما ادعى السلطنة فبادره قلاوون وقبض عليه. وكان سنجر هذا من بقايا الأمراء الصالحية النجمية رحمه الله تعالى.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم ست أذرع وعشر أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا واثنتا عشرة إصبعًا.
السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون على مصر (الملك ألأوحد) سنة 693 هـ
وأما أمر بيدرا فإنه لما قتل السلطان بايع الأمراء بيدرا بالسلطنة ولقبوه بالملك الأوحد وبات تلك الليلة فإن قتل الأشرف كان بين الظهر والعصر وأصبح ثاني يومه سار بيدرا بالعساكر إلى نحو الديار المصرية وبينما بيدرا سائر بعساكره وإذا بغبار عظيم قد علا وملأ الجو وقرب منه وإذا بالطلب عظيم فيه نحو ألف وخمسمائة فارس من الخاصكية الأشرفية ومعهم الأمير زين الدين كتبغا - وهو الذي تسلطن بعد ذلك بمدة على ما يأتي ذكره - والأمير حسام الدين الأستادار طالبين بيدرًا بدم أستاذهم السلطان الملك الأشرف خليل المذكور وأخذ الثأر منه ومن أصحابه وكان ذلك بالطرانة في يوم الأحد أول النهار فما كان غير ساعة إلا والتقوا وكان بيدرا لما رآهم صف من معه من أصحابه للقتال فصدموه الأشرفية صدمة صادقة وحملوا عليه حملة واحدة فرقوا شمله وهرب أكثر من كان معه فحينئذ أحاطوا ببيدرا وقبضوا عليه وحزوا رأسه وقيل: إنهم قطعوا يده قبل أن يحزوا رأسه كما قطعت يد أستاذهم الملك الأشرف بضربة السيف ولما حزوا رأسه حملوه على رمح وسيروه إلى القاهرة فطافوا به ثم عادوا نحو القاهرة حتى وصلوا بر الجيزة فلم يمكنهم الأمير علم الدين سنجر الشجاعي من التعدية إلى بر مصر لأن السلطان الملك الأشرف كان قد تركه في القلعة عند سفره نائب السلطنة بها فلم يلتفتوا إليه وأرادوا التعدية فأمر الشجاعي المراكب والشواني فعدت إلى بر القاهرة وبقي العسكر والأمراء على جانب البحر مقيمين حتى مشت بينهم الرسل على أن يمكنهم الشجاعي من العبور حتى يقيموا عوض السلطان أخاه الملك الناصر محمد بن قلاوون وهو صغير تسكينًا لما وقع وإخمادًا للفتنة فأجلسوه على تخت الملك بقلعة الجبل في رابع عشر المحرم من سنة ثلاث وتسعين وستمائة المذكورة وأن يكون نائب السلطنة الأمير زين الدين كتبغا والوزير الأمير علم الدين سنجر الشجاعي وحسام الدين أستاذ الدار أتابك العساكر.
قلت: وساق الشيخ قطب الدين اليونيني واقعة الملك الأشرف هذا وقتله وقتل بيدرا بأطول من هذا قال الشيخ قطب الدين: " وحكى لي الأمير سيف الدين بن المحفدار أمير جاندار قال: كان السلطان الملك الأشرف قد أنفذني في أول النهار إلى الأمير بدر الدين بيدرا يأمره أن يأخذ العساكر ويسير بهم فلما جئت إليه وقلت له: السلطان يأمرك أن تسير الساعة تحت الصناجق بالأمراء والعسكر قال: فنفر في بيدرا ثم قال: السمع والطاعة قال: ورأيت في وجهه أثر الغيظ والحنق وقال: ولم يستعجلني! فظهر في وجهه شيء ما كنت أعهده منه ثم إني تركته ومشيت حملت الزردخاناه والثقل الذي لي وسرت فبينما أنا سائر أنا ورفيقي الأمير صارم الدين الفخري وركن الدين أمير جاندار عند المساء وإذا بنجاب سائر فسألت عن السلطان أين تركته فقال: طول الله أعماركم فيه فبينما نحن متحيرون في أمره وإذا بالسناجق التي للسلطان قد لاحت وقربت والأمراء تحتها والأمير بدر الدين بيدرا بينهم وهم محدقون به قال: فجئنا وسلمنا عليه فقال له الأمير ركن الدين بيبرس أمير جاندار: يا خوند هذا الذي فعلته كان بمشورة الأمراء قال: نعم إنما قتلته بمشورتهم وحضورهم وها هم كلهم حاضرون وكان من جملة من هو حاضر الأمير حسام الدين لاجين المنصوري والأمير شمس الدين قرا سنقر المنصوري والأمير بدر الدين بيسري وأكثر الأمراء سائقون معه قال: ثم إن بيدرا شرع يعدد سيئات السلطان ومخازيه ومناحسه وإهماله أمور المسلمين واستهزاءه بالأمراء ومماليك أبيه ووزارته لابن السلعوس قال: ثم إنه سألنا هل رأيتم الأمير زين الدين كتبغا.
فقلنا له: لا فقال بعض الأمراء: يا خوند هل كان عنده علم بالقضية فقال: نعم وهو أول من أشار بهذا الأمر. فلما كان ثاني يوم وإذا بالأميرين: زين الدين كتبغا وحسام الدين أستاذ الدار قد جاؤوا في طلب كبير فيه مماليك السلطان الملك الأشرف نحو من الذي فارس وفيهم جماعة من العسكر والحلقة فالتقوه بالطرانة يوم الأحد أول النهار ثم ساق قطب الدين في أمر الواقعة نحوًا ممًا ذكرناه من أمر بيدرا وغيره إلى أن قال: وتفرق جمع الأمير بيدرا.
قال ابن المحفدار: فلما رأينا ما لنا بهم طاقة التجأنا إلى جبل هناك شمالي واختلطنا بذلك الطلب الذي فيه كتبغا ورأينا بعض أصحابنا فقال: شدوا بالعجلة مناديلكم في رقابكم إلى تحت آباطكم فهي الإشارة بيننا وإلا قتلوكم أو شلحوكم فعملنا مناديلنا في رقابنا إلى تحت آباطنا وكان ذلك سبب سلامتنا فحصل لنا به نفع كثير من جهة الأمير زين الدين كتبغا ومن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون وسلمت بذلك أنفسنا وأثقالنا وأموالنا ثم ظهر لهم أننا لم يكن لنا في باطن القضية علم. قال: وسرنا إلى قمة الجبل.
وذكر سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون حسب ما نذكره في ترجمته إن شاء الله تعالى فيما يأتي.
قال: ولما كان يوم خامس عشرين المحرم أحضر إلى قلعة الجبل أميران وهما سيف الدين بهادر رأس نوبة وجمال الدين آقوش الموصلي الحاجب فحين حضروا اجتمعوا الأشرفية عليهم فضربوا رقابهم وعلقوا رأس بهادر على باب داره الملاصقة لمشهد الحسين بالقاهرة. وبهادر هذا هو الذي حط السيف في دبر الملك الأشرف بعد قتله وأخرجه من حلقه.
ثم أخذوا جثته وجثة آقوش وأحرقوهما في قمين جير وأما الأمير حسام الدلن لاجين المنصوري والأمير شمس الدين قرا سنقر فإنهما اختفيا ولم يظهر لهما خبر ولا وقع لهما على أثر.
ثم أحضر المماليك الأشرفية سبعة أمراء وهم: سيف الدين نوغيه وسيف الدين ألناق وعلاء الدين ألطنبغا الجمدار وشمس الدين سنقر مملوك لاجين وحسام الدين طرنطاي الساقي ومحمد خواجا وسيف الدين أروس في يوم الاثنين خامس صفر إلى قلعة الجبل فلما رآهم السلطان الملك الناصر محمد أمر بقطع أيديهم أولًا وبعد ذلك يسمرون على الجمال وأن تعلق أيديهم في حلوقهم ففعل ذلك ورأس بيدرا أيضًا على رمح يطاف به معهم بمصر والقاهرة وبقوا على هذه الحالة إلى أن ماتوا وكل من مات منهم سلم إلى أهله والجميع دفنوهم بالقرافة.
قلت: وقريب مما وقع لبيدرا هذا وأصحابه أوائل ألفاظ المقالة الخامسة عشرة من " كتاب أطباق الذهب " للشيخ الإمام الرباني شرف الدين عبد المؤمن الأصفهاني المعروف بشوروة وهي قوله: " من الناس من يستطيب ركوب الأخطار وورود التيار ولحوق العار والشنار ويستحب وقد النار وعقد الزنار لأجل الدينار ويستلذ سف الرماد ونقل السماد وطي البلاد لأجل الأولاد ويصبر على نسف الجبال ونتف السبال لشهوة المال ويبدل الإيمان بالكفر ويحفر الجبال بالظفر للدنانير الضفر ويلج ماضغي الأسود للمراهم السود لا يكره صداعًا إذا نال كراعًا ويلقى النوائب بقلب صابر في هوى الشيخ أبي جابر ويأبى العز طبيعة ويرى الذل شريعة وإن رزق لعيعة يراها صنيعة يؤم راسه وترض أضراسه وإن أعطي درهمًا يراه مرهمًا.
ومن الناس من يختار العفاف ويعلف الإسفاف يدع الطعام طاويًا ويذر الشراب صاديًا ويرى المال رائحًا غاديًا يترك الدنيا لطلابها ويطرح الجيفة لكلابها لا يسترزق لئام الناس ويقنع بالخبز الناس يكره المن والأذى ويعاف الماء على القذى إن أثرى جعل موجوده معدومًا وإن أقوى حسب قفاره مأدومًا جوف خال وثوب بال ومجد عال ووجه مصفر عليه قرة وثوب أسمال وراءه عز وجمال وعقب مشقوق وذيل مفتوق يجره فتى مغبوق شعر: لله تحت قباب العز طائفة أخفاهم في رداء الفقر إجلالا هم السلاطين في أطمار مسكنة استعبدوا من ملوك الأرض أقيالا غبر ملابسهم شم معاطسهم جروا على فلك الخضراء أذيالا هذي المناقب لا ثوبان من عدن خيطًا قميصًا فصارا بعد أسمالا هذي المكارم لا قعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا هم الذين جبلوا برآء من التكلف يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف انتهى ما ذكرناه من المقالة الخامسة عشرة وإن كنا خرجنا عن المقصود من كون غالبها من غير ما نحن فيه غير أنني لم أذكرها بتمامها هنا إلا لغرابتها. انتهى.
ولما مات الملك الأشرف خليل هذا وتم أمر أخيه الملك الناصر محمد في السلطنة استقر الأمير زين الدين كتبغا المنصوري نائب السلطنة وسنجر الشجاعي مدبر المملكة وأتابك العساكر وبقية الأمور تأتي في أول سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون بأوضح من هذا.
ولما قتل الملك الأشرف خليل المذكور بقي ملقى إلى أن خرج والي تروجة من بعد قتله بيومين ومعه أهل تروجة وأخذوه وغسلوه وكفنوه وجعلوه في تابوت في دار الوالي إلى أن سيروا من القاهرة الأمير سعد الدين كوجبا الناصري إلى مصرعه فأخذه في تابوت ووصل به إلى القاهرة سحر يوم الخميس ثاني عشرين صفر فدفن في تربة والدته بجوار أخيه الملك الصالح علي بن قلاوون - رحمهما الله تعالى - ورثاه ابن حبيب بقصيدة أولها: الكامل تبًا لأقوام بمالك رقهم فتكوا وما رقوا لحالة مترف وافوه غدرًا ثم صالوا جملة بالمشرفي على المليك الأشرف وافى شهيدًا نحو روضات الرضا يختال بين مزهر ومزخرف وقال النويري في تاريخه: كان ملكًا مهيبًا شجاعًا مقدامًا جسورًا جوادًا كريمًا بالمال أنفق على الجيش في هذه الثلاث سنين ثلاث نفقات: الأولى في أول جلوسه في السلطنة في مال طرنطاي والثانية عند توجهه إلى عكا والثالثة عند توجهه إلى قلعة الروم انتهى كلام النويري باختصار.
وقال الشيخ صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي في تاريخه: " وكان قبل ولاية الملك الأشرف يؤخذ عند باب الجابية بدمشق عن كل حمل خمسة دراهم مكسًا فأول ما تسلطن وردت إلى دمشق مسامحة بإسقاط هذا وبين سطور المرسوم بقلم العلامة بخطه: لتسقط عن رعايانا هذه الظلامة ويستجلب لنا الدعاء من الخاصة والعامة " انتهى كلام الصفدي.
وقال الحافظ أبو عبد الله الذهبي في تاريخه بعد أن ساق من أحواله قطعة جيدة فقال: " ولو طالت أيامه أو حياته لأخذ العراق وغيرها فإنه كان بطلًا شجاعًا مقدامًا مهيبًا عالي الهمة يملأ العين ويرجف القلب رأيته مرات وكان ضخمًا سمينًا كبير الوجه بديع الجمال مستدير اللحية على وجهه رونق الحسن وهيبة السلطنة وكان إلى جوده وبذله الأموال في أغراضه المنتهى. وكان مخوف السطوة شديد الوطأة قوي البطش تخافه الملوك في أمصارها والوحوش العادية في آجامها.
أباد جماعة من كبار الدولة.
وكان منهمكًا في اللذات لا يعبأ بالتحرز لنفسه لفرط شجاعته ولم أحسبه بلغ ثلاثين سنة ولعل الله عز وجل قد عفا عنه وأوجب له الجنة لكثرة جهاده وإنكائه في الكفار " انتهى كلام الذهبي باختصار. قلت: وكان الأشرف مفرط الشجاعة والإقدام وجمهور الناس على أنه أشجع ملوك الترك قديمًا وحديثًا بلا مدافعة ثم من بعده الملك الناصر فرج ابن الملك الظاهر برقوق وشهرتهما في ذلك تغني عن الإطناب في ذكرهما.
وكانت مدة مملكة الأشرف هذا على مصر ثلاث سنين وشهرين وخمسة أيام لأن وفاة والده كانت في يوم السبت سادس ذي القعدة سنة تسع وثمانين وستمائة. وجلس الأشرف المذكور على تخت الملك في صبيحة دفن والده في يوم الاثنين ثامن ذي القعدة. وقتل في يوم السبت ثاني عشر المحرم سنة ثلاث وتسعين وستمائة. انتهى.
وقال الشيخ قطب الدين اليونيني: ومات يعني الملك الأشرف شهيدًا مظلومًا فإن جميع من وافق على قتله كان قد أحسن إليه ومناه وأعطاه وخوله وأعطاهم ضياعًا بالشام ولم تتجدد في زمانه مظلمة ولا استجد ضمان مكس وكان يحب الشأم وأهله وكذلك أهل الشأم كانوا يحبونه - رحمه الله تعالى وعفا عنه -.
***************************************************************************
حريق يقضى على خزانة الكتب ( المكتبة )
ذكر المقريزى فى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار الجزء الثاني ( 135 من 167 ) : "خزانة الكتب: وقع بها الحريق يوم الجمعة رابع صفر سنة إحدى وتسعين وستمائة فتلف بها من الكتب في الفقه والحديث والتاريخ وعامة العلوم شيء كثير جدًا كان من ذخائر الملوك فانتهبها الغلمان وبيعت أوراقًا محرّقة ظفر الناس منها بنفائس غريبة ما بين ملاحم وغيرها وأخذوها بأبخس الأثمان.
=====================================================================