****************************************************************************************
الجزء التالى عن المماليك الذين حكموا مصر وهم تحت إستعمار الأسرة العباسية السنية الإسلامية من مرجع - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة - جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي - منذ غزو مصر على يد جيش المسلمين بقيادة عمرو بن العاص ومن تولوا إمارة مصر قبل الإسلام وبعد الإسلام إلى نهاية سنة إحدى وسبعين وثمانمائة
****************************************************************************************
السلطان الملك الكامل سيف الدين شعبان على مصر سنة 746 هـ
سلطنة الملك الكامل شعبان السلطان الملك الكامل سيف الدين شعبان ابن السلطان الملك الناصر ناصر الدين محمد ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفي الصالحي النجمي.
والكامل هذا هو السابع عشر من ملوك الترك بالديار المصرية والخامس من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاوون.
جلس على تخت الملك بعد موت أخيه وشقيقه الملك الصالح إسماعيل في يوم الخميس الرابع من شهر ربيع الآخر سنة ست وأربعين وسبعمائة ولقب بالملك الكامل.
اتفق المماليك والأمراء على توليته وحضروا إلى باب القلة واستدعوا شعبان المذكور وألبسوه أبهة السلطنة وأركبوه بشعار الملك ومشت الأمراء بخدمته والجاوشية تصيح بين يديه على العامة حتى قرب من الإيوان لعب الفرس تحته وجفل من صياح الناس فنزل عنه ومشى خطوات بسرعة إلى أن طلع إلى الإيوان فتفاءل الناس بنزوله عن فرسه أنه لا يقيم في السلطنة إلا يسيرًا.
ولما طلع إلى الإيوان وجلس على الكرسي وباسوا الأمراء له الأرض وأحضروا المصحف ليحلفوا له فحلف هو أولًا أنه لا يؤذيهم ثم حلفوا له بعد ذلك على العادة. ودقت البشائر بسلطنته بمصر والقاهرة وخطب له من الغد على منابر مصر والقاهرة وكتب بسلطنته إلى الأقطار.
ثم في يوم الإثنين ثامن شهر ربيع الآخر المذكور جلس الملك الكامل بدار العدل وجدد له العهد من الخليفة بحضرة القضاة والأمراء. وخلع على الخليفة وعلى القضاة والأمراء.
وفيه كتب بطلب الأمير آق سنقر الناصري من طرابلس فسأل الأمير قماري الأستادار أن يستقر عوضه في نيابة طرابلس وتشفع قماري المذكور بأرغون العلائي وملكتمر الحجازي فأجيب إلى ذلك ثم تغير ذلك وخلع عليه في يوم الخميس حادي عشره بنيابة طرابلس فخرج من فوره على البريد.
وفيه خلع على الأمير أرقطاي وآستقر في نيابة حلب عوضا عن يلبغا اليحياوي وخرج أيضًا على البريد وكتب السلطان يطلب اليحياوي ثم طلب الأمير آل ملك نائب السلطنة الإعفاء من النيابة وقبل الأرض وسأل في نيابة الشام عوضًا عن طقزدمر الحموي وأن ينتقل طقزدمر إلى مصر فأجيب إلى ذلك وكتب السلطان بعزل طقزدمر عن نيابة الشام وإحضاره إلى الديار المصرية.
وفي يوم السبت ثالث عشره خلع السلطان الملك الكامل على الأمير الحاج آل ملك نائب السلطنة بآستقراره في نيابة الشام عوضًا عن طقزدمر وأخرج من يومه على البريد فلم يدخل مدينة غزة حتى لحقه البريد بتقليده نيابة صفد وأن يكون ولده وابن أخيه الفارس بحلب.
وسبب ذلك أن أرغون العلائي لما قام في أمر الملك الكامل شعبان هذا وفي سلطنته قال له الحاج آل ملك: " بشرط ألا يلعب بالحمام " فلما بلغ ذلك شعبان نقم عليه فلما ولي دمشق آستكثرها عليه وحوله إلى نيابة صفد. ورسم للأمير يلبغا اليحياوي نائب حلب كان بآستقراره في نيابة الشام.
ثم أخذ السلطان الملك الكامل في تدبير مملكته والنظر في أمور الدولة فأنعم بإقطاع أرقطاي على الأمير أرغون شاه وآستقر أستادارًا عوضًا عن قماري المستقر في نيابة طرابلس. وأخرج السلطان الأمير أحمد شاد الشرابخاناه هو وإخوته إلى صفد من أجل أنهم كانوا ممن قام مع الأمير آل ملك هم وقماري الأستادار في منع سلطنة الملك الكامل هذا.
ثم خلع السلطان على علم الدين عبد الله بن أحمد بن إبراهيم بن زنبور باستقراره ناظر الخواص عوضًا عن الموفق عبد الله بن إبراهيم وعني الأمير أرغون العلائي بالموفق حتى نزل إلى داره بغير مصادرة.
ثم قدم الأمير آق سنقر الناصري المعزول عن نيابة طرابلس فخلع السلطان عليه وسأله السلطان بنيابة السلطنة بالديار المصرية فامتنع أشد امتناع وحلف أيمانًا مغلظة أنه لا يليها ثم بدا للسلطان أن يخطب بنت بكتمر الساقي فآمتنعت أمها من إجابته وآحتجت عليه بأن ابنتها تحته ولا يجمع بين أختين وأنه بتقدير أن يفارق أختها فإنه أيضًا قد شغف باتفاق العوادة جارية أخيه الملك الصالح شغفًا زائدًا ثم قالت: " ومع ذلك فقد ضعف حال المخطوبة من شدة الحزن فإنه أول من أعرس عليها آنوك ابن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون وكان لها ذلك المهم العظيم ومات آنوك عنها وهي بكر فتزوجها من بعده أخوه الملك المنصور أبو بكر فقتل فتزوجها بعد الملك المنصور أخوه السلطان الملك الصالح إسماعيل ومات عنها أيضًا فحصل لها حزن شديد من كونه تغير عليها عدة أزواج في هذه المدة اليسيرة " فلم يلتفت الملك الكامل إلى كلامها وطلق أختها وأخرج جميع قماشها من عنده في ليلته ثم عقد عليها ودخل بها.
ثم أنعم السلطان على ابن طشتمر حمص أخضر بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية وعلى ابن أصلم بإمرة طبلخاناه.
ثم في مستهل جمادى الأولى خلع السلطان الملك الكامل على جميع الأمراء المقدمين والطبلخانات وأنعم على ستين مملوكًا بستين قباء بطرز زركش وستين حياصة ذهب وفرق الخيول على الأمراء برسم نزول الميدان. ثم رسم السلطان أن يتوفر إقطاع النيابة للخاص. وخلع على الأمير بيغرا وآستقر حاجبًا كبيرًا.ثم نزل السلطان إلى الميدان على العادة فكان لنزوله يوم مشهود. وخلع على الشريف عجلان بن رميثة ابن أبي نمي الحسني باستقراره أمير مكة. ثم عاد السلطان إلى القلعة.
وفي يوم السبت خامس عشرين جمادى الأولى قدم الأمير طقزدمر من الشام إلى القاهرة مريضًا في محفة بعد أن خرج الأمير أرغون العلائي وصحبته الأمراء إلى لقائه فوجدوه غير واع ودخل عليه الأمراء وقد أشفى على الموت.
ولما دخل طقزدمر إلى القاهرة على تلك الحالة أخذ أولاده في تجهيز تقدمة جليلة للسلطان تشتمل على خيول وتحف وجواهر فقبلها السلطان منهم ووعدهم بكل خير.
وفيه أنعم السلطان على الأمير أرغون الصالحي بتقدمة ألف ورسم أن يقال له: أرغون الكاملي ووهب له في أسبوع ثلاثمائة ألف درهم وعشرة آلاف إردب من الأهراء ورسم له بدار أحمد شاد الشربخاناه وأن يعمر له بجواره من مال السلطان قصر على بركة الفيل ويطل على الشارع فعمل له ذلك.
قلت: والبيت المذكور هو الذي كان يسكنه الملك الظاهر جقمق وتسلطن منه ثم سكنه الملك الأشرف إينال وتسلطن منه وهو تجاه الكبش. انتهى.
وفي يوم الخميس مستهل جمادى الآخرة ركب السلطان الملك الكامل لسرحة سرياقوس ومعه عساكره على العادة وأخذ حريمه صحبته فنصب لهن أحسن الخيم في البساتين.
ثم في يوم الجمعة قدم أولاد طقزدمر على السلطان بسرياقوس بخبر وفاة أبيهم طقزدمر فلم يمكن السلطان الأمراء من العود إلى القاهرة للصلاة عليه ورسم بإخراجه فأخرج ودفن بخانقاته بالقرافة وأخذت خيله وجماله وهجنه إلى الإسطبل السلطاني.
ثم خلع السلطان على الأمير أرسلان بصل واستقر حاجبًا ثانيًا مع بيغرا ورسم له أن يحكم بين الناس ولم تكن العادة جرت بذلك أن يحكم الحجاب بين الناس غير حاجب الحجاب. قلت: كان الحجاب يوم ذاك كهيئة رؤوس النوب الصغار الآن. انتهى.
وخلع على الأمير ملكتمر السرجواني باستقراره في نيابة الكرك وأنعم بتقدمته على الأمير طشتمر طلليه وأنعم بطبلخاناه طشتمر طلليه على الأمير قبلاي. ثم
قدم على السلطان الخبر بموت أخيه الملك الأشرف كجك ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون عن آثنتي عشرة سنة. واتهم السلطان أنه بعث من سرياقوس من قتله في مضجعه على يد أربعة خدام طواشية فعظم ذلك على الناس قاطبة.
أعمال الملك شعبان التى أغضبت المماليك
ثم عاد السلطان من سرياقوس إلى القلعة بعد ما تهتكت المماليك السلطانية من شرب الخمور ثم أخذ السلطان الملك الكامل في تجديد المظالم والمصادرات. ثم قدم البريد على السلطان بأن الشيخ حسنًا صاحب بغداد واقع سلطان شاه وأولاد تمرداش وآنتصر الشيخ حسن وحصر سلطان شاه بماردين وأخذ ضياعها.
ثم إن السلطان الملك الكامل بدا له أن ينشىء مدرسته موضع خان الزكاة ونزل الأمير أرغون العلائي والوزير لنظره.
وكان أبوه الملك الناصر محمد قد وقفه فلم يوافق القضاة على حله. وفي مستهل شعبان عمل السلطان مهمة على بنت الأمير طقزدمر الحموي سبعة أيام. وفي مستهل شوال رسم السلطان للأمير أرغون الكاملي بزيارة القدس وأنعم عليه بمائة ألف عرهم. وكتب إلى نواب الشام بالركوب لخدمته وحمل التقادم وتجهيز الإقامات له في المنازل إلى حين عوده.
ورسم له أن ينادي بمدينة بلبيس وأعمالها أنه من قال عنه: أرغون الصغير شنق وألا يقال له إلا أرغون الكاملي فشهر النداء بذلك في الأعمال.
وفي هذه الأيام كثر لعب الناس بالحمام وكثر جري السعاة وتزايد شلاق الزعر وتسلط عبيد الطواشية على الناس وصاروا كل يوم يقفون للضراب فتسفك بينهم دماء كثيرة وتنهب الحوانيت بالصليبة خارج القاهرة.
وإذا ركب إليهم الوالي لا يعبؤون به وإن قبض على أحد منهم أخذ من يده سريعًا فاشتد قلق الناس من ذلك.
ثم آخترع السلطان شيئًا لم يسبق إليه وهو أنه أعرس السلطان بعض الطواشية ببعض سراريه بعد عقده عليها وعمل له السلطان مهمًا حضره جميع جواري بيت السلطان وجليت العروس على الطواشي ونثر السلطان عليها وقت الجلاء الذهب بيده فكانت هذه الحادثة من أشنع ما يكون وعظم ذلك على سائر أعيان الدولة.
وفي ذي الحجة كثرت الإشاعة باتفاق الأمير آل ملك نائب صفد مع الأمير بلبغا اليحياوي نائب الشام على المخامرة.
فجهز آل ملك محضرًا ثابتًا على قاضي صفد بالبراءة مما رمي به فأنكر السلطان عليه هذا.
واتفق قدوم بعض مماليك آل ملك هاربًا منه كونه شرب الخمر وأشاع هذا الخبر فرسم السلطان بإخراج منجك اليوسفي السلاح دار على البريد لكشف الخبر فلما توجه منجك إلى الشام حلف له نائب الشام أنه بريء مما قيل عنه وأنعم على منجك بألفي دينار سوى الخيل والقماش.
ثم نودي بالقاهرة بألا يعارض أحد من لعاب الحمام وأرباب الملاعيب والسعاة فتزايد الفساد وشنع الأمر كل ذلك لمحبة السلطان في هذه الأمور.
ثم ندب السلطان الأمير طقتمر الصالحي للتوجه إلى الشام على البريد ليوقع الحوطة على جميع أرباب المعاملات وأصحاب الرزق والرواتب بالبلاد الشامية من الفرات إلى غزة وألا يصرف لأحد منهم شيئًا وأن يستخرج منهم ومن الأوقاف وأرباب الجوامك ألف ألف درهم برسم سفر السلطان إلى الحجاز ويشتري بذلك الجمال ونحوها.
فكثر الدعاء على السلطان من أجل ذلك وتغيرت الخواطر.
وفي هذه الأيام كتب السلطان بإحضار الأمير آل ملك نائب صفد إلى القاهرة ليستقر على إقطاع الأمير جنكلي بن البابا بعد موته وتوجه لإحضاره الأمير منجك السلاح دار. ثم في يوم السبت تاسع عشرين ذي الحجة أمسك أينبك أخو قماري ثم عفي عنه من يومه.
ثم كتب باستقرار الأمير أراق الفتاح نائب غزة في نيابة صفد بعد عزل آل ملك.
وأما الأمير منجك فإنه وصل إلى صفد في أول المحرم من سنة سبع وأربعين وسبعمائة وآستدعى آل ملك فخرج معه إلى غزة فقبض عليه بها في اليوم المذكور وقيل بل في سادس عشرين ذي الحجة من سنة ست وأربعين. انتهى.
ثم في أول المحرم المذكور قدم إلى جهة القاهرة الأمير ملكتمر السرجواني من نيابة الكرك فمات بمسجد التبن خارج القاهرة ودفن بتربته. ثم قدم إلى القاهرة الأمير أحمد بن آل ملك فقبض عليه وسجن من ساعته.
وخلع السلطان على الأمير أسندمر العمري باستقراره في نيابة طرابلس عوضًا عن الأمير قماري.
وفي يوم الإثنين سادس المحرم من سنة سبع وأربعين وسبعمائة قدم الأمير آل ملك والأمير قماري نائب طرابلس مقيدين إلى قليوب وركبا النيل إلى الإسكندرية فاعتقلا بها. وكان الأمير طقتمر الصلاحي قبض على قماري لما توجه للحوطة على أملاك الشام وقيده وبعثه على البريد.
ثم ندب السلطان الأمير مغلطاي الأستادار لإيقاع الحوطة على موجود آل ملك وندب الطواشي مقبلًا التقوي لإيقاع الحوطة على موجود قماري نائب طرابلس وألزم مباشريهما بحمل جميع أموالهما فوجد لآل ملك قريب ثلاثين ألف إردب غلة وألزم ولده بمائة ألف درهم وأخذ لزوجته خبية فيها أشياء جليلة وأخذ أيضًا لزوجة قماري صندوقًا فيه مال جليل.
ثم خلع السلطان على الأمير أرسلان بصل الحاجب الثاني في نيابة حماة عوضًا عن أرقطاي وكتب بقدوم أرقطاي فقدم أرقطاي إلى القاهرة فأنعم عليه السلطان بإقطاع جنكلي بن البابا بعد وفاته وآستقر رأس الميمنة مكان جنكلي.
ثم خلع السلطان على زوح أمه الأمير أرغون العلائي واستقر في نظر البيمارستان المنصوري عوضًا عن الأمير جنكلي بن البابا فنزل إليه أرغون العلائي وأصلح أموره وأنشأ بجوار باب البيمارستان المذكور سبيل ماء ومكتب سبيل لقراءة الأيتام ووقف عليه وقفًا بناحية من الضواحي.
ثم خلع السلطان على الأمير نجم الدين محمود بن شروين وزير بغداد وأعيد إلى الوزارة بالديار المصرية وكان لها مدة شاغرة. وخلع على علم الدين عبد الله ابن زنبور واستقر ناظر الدولة عوضًا عن ابن مراجل.
وفي هذه الأيام آنتهت عمارة قصر الأمير أرغون الكاملي وإصطبله بالجسر الأعظم تجاه الكبش بعد أن صرف عليه مالًا عظيمًا وأخذ فيه من بركة الفيل نحو العشرين ذراعًا فلما عزم أرغون على النزول إليه مرض فقلق السلطان لمرضه وبعث إليه بفرس وثلاثين ألف درهم تصدق بها عنه.
وأفرج عن أهل السجون وركب السلطان لعيادته بالميدان. ثم أهتم السلطان بسفره إلى الحجاز وأخذ في تجهيز أحواله.
وفي يوم الجمعة رابع عشر صفر ولد للسلطان ولد ذكر من بنت الأمير بكتمر الساقي. ثم في يوم السبت ثاني عشرين صفر أفرج السلطان عن الأمير أحمد بن آل ملك وعن أخيه قماري وأمرهما بلزوم بيتهما.
وفي أول شهر ربيع الأول توجه السلطان إلى سرياقوس وأحضر الأوباش فلعبوا قدامه باللبخة وهي عصي كبار حدث اللعب بها في هذه الأيام ولما لعبوا بها بين يديه قتل رجل رفيقه فخلع السلطان على بعضهم وأنعم على كبيرهم بخبز في الحلقة. واستمر السلطان يلعب بالكرة في كل يوم وأعرض عن تدبير الأمور.
فتمردت المماليك وأخذوا حرم الناس وقطعوا الطريق وفسدت عدة من الجواري. وكثرت الفتن حتى بلغ السلطان فلم يعبأ بما قيل له بل قال: " خلوا كل أحد يعمل ما يريد ".
فلما فحش الأمر قام الأمير أرغون العلائي فيه مع السلطان حتى عاد إلى القلعة. وقد تظاهر الناس بكل قبيح ونصبوا أخصاصًا بالجزيرة الوسطانية وجزيرة بولاق التي سموها حليمة بلغ مصروف كل خص منها من ألفين إلى ثلاثة آلاف درهم وكان هذا المبلغ يوم ذاك بحق ملك هائل.
وعمل في الأخصاص الرخام والدهان البديع وزرع حوله المقاثىء والرياحين وأقام بالأخصاص المذكورة معظم الناس من الباعة والتجار وغيرهم وكشفوا ستر الحياء وما كفوا في التهتك في حليمة والطمية وتنافسوا في أرضها حتى كان كل قصبة قياس تؤجر بعشرين درهمًا فبلغ أجرة الفدان الواحد ثمانية آلاف درهم فأقاموا على ذلك ستة أشهر حتى زاد الماء وغرقت الجزيرة.
وقبل مجيء الماء بقليل قام الأمير أرغون العلائي في هدمها قيامًا عظيمًا وحرق الأخصاص على حين غفلة وضرب جماعة وشهرهم فتلف بها مال عظيم جدًا.
وفي هذه الأيام قل ماء النيل حتى صار ما بين المقياس ومصر يخاض وصار من بولاق إلى منشأة المهراني طريقًا يمشى فيه ومن بولاق إلى جزيرة الفيل وإلى المنية طريقًا واحدًا.
وبعد الماء على السقايين وصاروا يأخذون
الماء من تجاه قرية منبابة وبلغت راوية الماء إلى درهمين بعدما كانت بنصف درهم وربع درهم.
فشكا الناس ذلك إلى أرغون العلائي فبلغ السلطان غلاء الماء بالمدينة وانكشاف ما تحت بيوت البحر فركب السلطان ومعه الأمراء وكثير من أرباب الهندسة حتى كشف ذلك فوجدوا الوقت فيه قد فات لزيادة النيل وآقتضى الرأي أن ينقل التراب والشقاف من مطابخ السكر بمدينة مصر وترمى من بر الجيزة إلى المقياس حتى يصير جسرًا يعمل عليه العمل حتى يدفع الماء إلى الجهة التي يحسر عنها.
فنقلت الأتربة في المراكب وألقيت هناك إلى أن بقي جسرًا ظاهرًا وتراجع الماء قليلًا إلى بر مصر فلما قويت الزيادة علا الماء على هذا الجسر وأخذه ومحا أثره.
وفي هذه الأيام لعب السلطان الكرة مع الأمراء في الميدان من القلعة فاصطدم الأمير يلبغا الصالحي مع آخر سقطا معًا عن فرسيهما إلى الأرض ووقع فرس يلبغا على صدره فانقطع نخاعه ومات لوقته فأنعم السلطان بإقطاعه على قطلوبغا الكركي.
ثم في هذه الأيام آشتدت المطالبة على أهل النواحي بالجمال والشعير والأعدال والأخراج أو العبي لسبب سفر السلطان إلى الحجاز وكثرت مغارمهم إلى الولاة وشكا أرباب الإقطاعات ضررهم للسلطان فلم يلتفت لهم.
فقام في ذلك الأمير أرغون شاه الأستادار مع الأمير أرغون العلائي في التحدث مع السلطان في إبطال حركة السمر فلم يصغ لقولهم وكتب آستعجال العربان بالجمال واستحثاث طقتمر الصلاحي فيما هو فيه بصدد السفر.
ثم أوقع السلطان الحوطة على أموال الطواشي عرفات وأخرج عرفات إلى الشام منفيًا. ثم قصد السلطان أخذ أموال الطواشي كافور الهندي فشفعت فيه خوند طغاي زوجة الملك الناصر محمد بن قلاوون وكان كافور المذكور من خواص خدام الملك الناصر محمد بن قلاوون فأخرج كافور إلى القدس.
وكافور المذكور هو صاحب التربة بقرافة مصر. ثم نفى السلطان أيضًا ياقوتًا الكبير الخادم وكافورًا المحرم وسرورًا الدماميني ثم نفى دينارًا الصواف ومختصًا الخطائي.
ثم في أول شهر ربيع الآخر مات ولد السلطان من بنت بكتمر الساقي وولد له من اتفاق العوادة حظية أخيه ولد سماه شاهنشاه وسر به سرورًا عظيمًا زائدًا وعمل مهمًا عظيمًا مدة سبعة أيام. ثم مات أخوه يوسف ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون واتهم السلطان أيضًا بقتله. ثم قدم طقتمر الصلاحي من الشام بالقماش المستعمل برسم الحجاز.
ثم قدم كتاب يلبغا اليحياوي نائب الشام يتضمن خراب بلاد الشام مما اتفق بها من أخذ الأموال وآنقطاع الجالب إليها وأن الرأي تأخير سمر السلطان إلى الحجاز الشريف في هذه السنة.
فقام الأمير أرغون العلائي وملكتمر الحجازي في تصويب رأي نائب الشام وذكر للسلطان أيضًا ما حدث ببلاد مصر من نفاق العربان وضرر الزروع وكثرة مغارم البلاد.
وما زالا به حتى رجع عن سمر الحجاز في هذه السنة وكتب إلى نائب الشام بقبول رأيه في ذلك وكتب للأعمال باسترجاع ما قبضته العرب من كراء الأحمال وغير ذلك فلم يوافق هذا غرض نساء السلطان ووالدته وأخذت والدته في تقوية عزمه على السفر للحجاز حتى مال إليهم وكتب لنائب الشام وحلب وغيرهما أنه لا بد من سفر السلطان إلى الحجاز في هذه السنة وأمرهم بحمل ما يحتاج إليه. ووقع الاهتمام وتجدد الطلب على الناس وغلاء الأسعار ووقفت الأحوال وقل الواصل من كل شيء. وأخذ الأمراء في أهبة السفر صحبة السلطان إلى الحجاز وقلقوا لذلك وسألوا أرغون العلائي وملكتمر الحجازي في الكلام مع السلطان في إبطال السفر وتعريفه رقة حالهم من حين تجاريدهم إلى الكرك في نوبة الملك الناصر أحمد.
فكلما السلطان في ذلك فآشتد غضبه وأطلق لسانه فما زالا به حتى سكن غضبه. ورسم من الغد لجميع الأمراء بالسفر ومن عجز عن السفر يقيم بالقاهرة.
فاشتد الأمر على الناس بمصر والشام من كثرة السخر وكثر دعاؤهم على السلطان وتنكرت قلوب الأمراء وكثرت الإشاعة بتنكر السلطان على نائب الشام وأنه يريد مسكه حتى بلغه ذلك فاحترز على نفسه.
وبلغ الأمير يلبغا اليحياوي قتل يوسف ابن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون وقوة عزم السلطان على سفر الحجاز موافقة لأغراض نسائه فجمع أمراء دمشق وحلفهم على القيام معه وبرز إلى ظاهر دمشق في نصف جمادى الأولى وأقام هناك.
وحضر إليه الأمير طرنطاي البشمقدار نائب حمص والأمير أراق الفتاح نائب صفد والأمير أسندمر نائب حماة والأمير بيدمر البحري نائب طرابلس فاجتمعوا جميعًا بظاهر دمشق مع عسكر دمشق لخلع الملك الكامل شعبان هذا وظاهروا بالخروج عن طاعته.
وكتب الأمير يلبغا اليحياوي نائب الشام إلى السلطان: إني أحد الأوصياء عليك وإن مما قاله السلطان السعيد الشهيد رحمه الله تعالى يعني عن الملك الناصر لي وللأمراء في وصيته: إذا أقمتم أحدًا من أولادي ولم ترضوا بسيرته جروا برجله وأخرجوه وأقيموا غيره.
وأنت أفسدت المملكة وأفقرت الأمراء والأجناد وقتلت أخاك وقبضت على أكابر أمراء السلطان وآشتغلت عن الملك وآلتهيت بالنساء وشرب الخمر وصرت تبيع أخباز الأجناد بالفضة وذكر له أمورًا فاحشة عملها فقدم كتابه إلى القاهرة في يوم الجمعة العشرين من جمادى الأولى. فلما قرأه السلطان تغير تغيرًا كبيرًا وأوقف أرغون العلائي عليه بمفرده فقال له أرغون العلائي: " والله لقد كنت أحسب هذا! وقلت لك فلم تسمع قولي " وأشار عليه بكتمان هذا.
وكتب السلطان الجواب يتضمن التلطف في القول وأخرج الأمير منجك اليوسفي على البريد إلى الأمير يلبغا اليحياوي في ثاني عشرينه ليرجعه عما عزم عليه ويكشف أحوال الأمراء. وكتب السلطان إلى أعمال مصر بإبطال السلطان سفر الحجاز.
فكثرت القالة بين الناس بخروج نائب الشام عن الطاعة حتى بلغ ذلك الأمراء والمماليك فأشار أرغون العلائي على السلطان بإعلام الأمراء الخبر فطلبوا إلى القلعة وأخذ رأيهم فوقع الاتفاق على خروج العسكر إلى الشام مع الأمير أرقطاي ومعه من الأمراء منكلي بغا الفخري أمير جاندار وآق سنقر الناصري وطيبغا المجدي وأرغون الكاملي وأمير علي بن طغريل الطوغاني وابن طقزدمر وابن طشتمر وأربعون أمير طبلخاناه وأربعون أمير عشرة وأربعون مقدم حلقة.
وحملت النفقة إليهم لكل مقدم ألف دينار ما عدا ثلاثة مقدمين لكل مقدم ثلاثة آلاف دينار. وكتب بإحضار الأجناد من البلاد.
فقدم كتاب منجك من الغور بموافقة النواب لنائب الشام وأن التجريدة إليه لا تفيد فإنه يقول: إن أمراء مصر معه.
ثم قدم كتاب نائب الشام ثانيًا وفيه خط الأمير مسعود بن خطير وأمير علي بن قراسنقر وقلاوون وحسام الدين البشمقدار يتضمن: " إنك لا تصلح للملك وإنما أخذته بالغلبة من غير رضا الأمراء - ثم عمد ما فعله - ونحن ما بقينا نصغي لك وأنت ما تصغي لنا والمصلحة أن تعزل نفسك من الملك ليتولى غيرك ".
فلما سمع السلطان ذلك آستدعى الأمراء وحلفهم على طاعته ثم أمرهم بالسفر فخرجوا من الغد وخرج طلب منكلي بغا وبعده أرغون الكاملي.
فعندما وصل طلب أرغون إلى تحت القلعة خرجت ريح شديدة ألقت شاليش أرغون الكاملي على الأرض فصاحت العامة: " راحت عليكم يا كاملية " وتطيروا بأنهم غير منصورين. ثم أخذ الأمراء المجردون في الخروج شيئًا بعد شيء.
وقدم حلاوة الأوجاقي يخبر بأن منجك ساعة وصوله إلى دمشق قبض عليه الأمير يلبغا نائب الشام وسجنه بقلعة دمشق.
فبعث السلطان بالطواشي سرور الزينبي لإحضار أخوي السلطان وهما أمير حاج وأمير حسين فاعتذرا بوعكهما وبعثت أمهاتهما إلى العلائي والحجازي تسألانهما في التلطف مع السلطان في أمرهما.
وبلغت العلائي بعض جواري زوجته أم السلطان بأنها سمعت السلطان وقد سكر وكشف رأسه وهو يقول: " يا إلهي أعطيتني الملك وملكتني آل ملك وقماري وبقي من أعدائي أرغون العلائي وملكتمر الحجازي فمكني منهما حتى أبلغ غرضي منهما " فأقلق أرغون العلائي هذا الكلام.
ثم دخل على السلطان في خلوة فإذا هو متغير الوجه ففكر فبدره السلطان بأن قال له: من جاءك من جهة إخوتي أنت والحجازي فعرفه أن النساء دخلن عليهما وطلبن أن يكون السلطان طيب الخاطر على أخويه ويؤمنهما فإنهما خائفان.
فرد عليه السلطان جوابًا جافيًا ووضع يده في السيف ليضربه به فقام أرغون عنه لينجو بنفسه. وعرف الحجازي ما جرى له مع السلطان وشكا من فساد السلطنة. فتوحش خاطرهما وآنقطع أرغون العلائي عن الخدمة وتعلل.
وأخذت المماليك أيضًا في التنكر على السلطان وكاتب بعضهم نائب الشام وآتفقوا بأجمعهم حتى آشتهر أمرهم وتحدث به العامة. وألح السلطان في طلب أخويه وبعث قطلوبغا الكركي في جماعة حتى هجموا عليهما ليلًا فقامت النساء ومنعنهم منهما فهم أن يقوم بنفسه حتى يأخذهما فجيء بهما إلى وقت الظهر من يوم السبت تاسع عشرين جمادى الأولى فأدخلهما إلى موضع ووكل بهما.
وقام العزاء في الدور السلطاني عليهما واجتمعت جواري الملك الناصر محمد بن قلاوون وأولاده فلما سمع المماليك صياحهن هموا بالثورة والركوب للحرب وتعبوا.
فلما كان يوم الإثنين مستهل جمادى الآخرة خرج طلب أرقطاي مقدم العساكر المجردين إلى الشام حتى وصل إلى باب زويلة ووقف هو مع الأمراء في الموكب تحت القلعة وإذا بالناس قد اضطربوا.
ونزل الحجازي سائقًا يريد إسطبله وتبعه الأمير أرغون شاه أيضًا إلى جهة إسطبله وسبب ذلك أن السلطان الملك الكامل جلس بالإيوان على العادة وقد بيت مع ثقاته القبض على الحجازي وأرغون شاه إذا دخلا وكانا جالسين ينتظران الإذن على العادة. فخرج طغيتمر الدوادار في الإذن لهما فأشار لهما بعينه أن آذهبا.
وكانا قد بلغهما أن السلطان قد تنكر عليهما فقاما من فورهما ونزلا إلى إسطبلهما ولبسا بمماليكهما وحواشيهما وركبا وتوجها إلى قبة النصر.
قتل السلطان الملك الكامل
وبعث الحجازي يستدعي آق سنقر من سرياقوس فما تضحى النهار حتى آجتمعت أطلاب الأمراء بقبة النصر فطلب السلطان عند ذلك أرغون العلائي وآستشاره فيما يعمل فأشار عليه بأن يركب بنفسه إليهم فركب السلطان بمماليكه وخاصكيته ومعه زوج أمه الأمير أرغون العلائي المذكور وتمر الموساوي وعدة أخر من الأمراء والقلوب متغيرة.
ودقت الكوسات حربيًا ودارت النقباء على أجناد الحلقة والمماليك ليركبوا فركب بعضهم وتخاذل بعضهم وسار السلطان في جمع كبير من العامة وهو يسألهم الدعاء فأسمعوه ما لا يليق ودعوا عليه.
وسار في نحو ألف فارس لا غير حتى قابل ملكتمر الحجازي وأصحابه من الأمراء والمماليك فعند المواجهة آنسل عن السلطان أصحابه وبقي في أربعمائة فارس.
فبرز له آق سنقر وساق حتى قارب السلطان وتحدث معه وأشار عليه بأن ينخلع من السلطنة فأجابه إلى ذلك وبكى.
فتركه آق سنقر وعاد إلى الأمراء وعرفهم بأنه أجاب أن يخلع نفسه فلم يرض أرغون شاه وبدر ومعه الأمير قرابغا والأمير صمغار والأمير بزلار والأمير غرلو في أصحابهم حتى وصلوا إلى السلطان وسيروا إلى أرغون العلائي ليأتيهم ليأخذوه إلى عند الأمراء فلم يوافق العلائي على ذلك فهجموا عليه ومزقوا من كان معه من مماليكه وأصحابه.
ثم ضرب واحد منهم أرغون العلائي بدبوس حتى أرماه عن فرسه إلى الأرض فضربه الأمير بيبغا أروس بسيف قطع خده فانهزم عند ذلك عسكر السلطان وفر الملك الكامل شعبان إلى القلعة وآختفى عند أمه زوجة الأمير أرغون العلائي.
فسار الأمراء إلى القلعة في جمع هائل وأخرجوا أمير حاجي وأمير حسين من سجنهما وقبلوا يد أمير حاجي وخاطبوه بالسلطنة.
ثم طلبوا الملك الكامل شعبان من عند أمه فلم يجدوه فحرضوا في طلبه حتى وجدوه مختفيًا بين الأزيار وقد آتسخت ثيابه من وسخ الأزيار فأخرجوه بهيئته إلى الرحبة ثم أدخلوه إلى الدهيشة فقيدوه وسجنوه حيث كان أخواه مسجونين ووكل به قرابغا القاسمي والأمير صمغار.
ومن غريب الاتفاق أنه كان عمل طعامًا لأخويه أمير حاجي وحسين حتى يكون غداءهما في السجن وعمل سماط السلطان على العادة.
فوقعت الضجة وقد مد السماط فركب السلطان من غير أكل فلما آنهزم وقبض عليه وأقيم بدله أخوه أمير حاجي مد السماط بعينه له فأكل منه وأدخل بطعامه وطعام أخيه أمير حسين إلى الملك الكامل فأكله في السجن.
وآستمر الملك الكامل المذكور في السجن إلى يوم الأربعاء ثالث جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين وسبعمائة قتل وقت الظهر ودفن عند أخيه يوسف ليلة الخميس.
فكانت مدة سلطنته على مصر سنة واحدة وثمانية وخمسين يومًا وقال الصفدي: سنة وسبعة عشر يومًا.
وكان من أشر الملوك ظلمًا وعسفًا وفسقًا.
وفي أيامه - مع قصر مدته - خربت بلاد كثيرة لشغفه باللهو وعكوفه على معاقرة الخمور وسماع الأغاني وبيع الإقطاعات بالبذل وكذلك الولايات حتى إن الإقطاع كان يخرج عن صاحبه وهو حي بمال لآخر فإذا وقف من خرج إقطاعه قيل له: نعوض عليك قد أخرجناه لفلان الفلاني.
وكان مع هذا كله سفاكًا للدماء ولو طالت يده لأتلف خلائق كثيرة وكان سيئ التدبير يمكن النساء والطواشية من التصرف في المملكة والتهتك في النزه والصيد ولعب الكرة بالهيئات الجميلة وركوب الخيول المسومة مع عدم الاحتشام من غير حجاب من الأمير آخورية والغلمان ويعجبه ذلك من تهتكهن على الرجال فشغف لذلك جماعة كثيرة من الجند بحرمه بما يفعلن من ركوب الخيول وغيرها.
وكان حريمه إذا نزلن إلى نزهة بلغت الجرة الخمر إلى ثلاثين درهمًا وهذا كله مع شرهه وشره حواشيه ونسائه إلى ما في أيدي الناس من البساتين والرزق والدواليب ونحوها فأخذت أمه معصرة وزير بغداد ومنظرته على بركة الفيل وأشياء غير ذلك.
وحدث في أيامه أخذ خراج الرزق وزيادة القانون ونقص الأجاير وأعيدت في أيامه ضمان أرباب الملاعيب وعدة مكوس.
وكان يحب لعب الحمام فلما تسلطن تغالى في ذلك وقرب من يكون من أرباب هذا الشأن.
ومع هذا الظلم والطمع لم يوجد له من المال سوى مبلغ ثمانين ألف دينار وخمسمائة ألف درهم إلا أنه كان مهابًا شجاعًا سيوسًا متفقدًا لأحوال مملكته لا يشغله لهوه عن الجلوس في المواكب والحكم بين الناس.
ولما أمسك وقتل قال فيه الصفدي: بيت قلاوون سعاداته في عاجل كانت وفي آجل حل على أملاكه للردى دين قد استوفاه بالكامل
السنة الأولى من سلطنة الكامل شعبان وهي سنة ست وأربعين وسبعمائة.
على أن أخاه الملك الصالح إسماعيل حكم منها إلى رابع شهر ربيع الآخر ثم حكم الملك الكامل هذا في باقيها وفي أشهر من سنة سبع كما سيأتي ذكره.
فيها أعني سنة ست وأربعين توفي السلطان الملك الصالح إسماعيل ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون
وفيها أيضًا توفي السلطان الملك الأشرف كجك ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون بعد خلعه من السلطنة بسنين وقد تقدم ذكر سلطنته أيضًا ووفاته في ترجمته.
وفي آخر شوال طلبت اتفاق العوادة إلى القلعة فطلعت بجواريها مع الخدام وتزوجها السلطان خفية وعقد له عليها شهاب الدين أحمد بن يحيى الجوجري شاهد الخزانة.
وبنى عليها السلطان من ليلته بعد ما جليت عليه وفرش تحت رجليها ستون شقة أطلس ونثر عليها الذهب. ثم ضربت بعودها وغنت فأنعم السلطان عليها بأربعة فصوص وست لؤلؤات ثمنها أربعة آلاف دينار.
قلت: وهذا ثالث سلطان من أولاد ابن قلاوون تزوج بهذه الجارية السوداء وحظيت عنده فهذا من الغرائب. على أنها كانت سوداء حالكة لا مولدة فإن كان من أجل ضربها بالعود وغنائها فيمكن من تكون أعلى منها رتبة في ذلك وتكون بارعة الجمال بالنسبة إلى هذه. فسبحان المسخر.
وفي ثامن شوال أنعم السلطان على الأمير طنيرق مملوك أخيه يوسف بتقدمة ألف بالديار المصرية دفعة واحدة نقله من الجندية إلى التقدمة لجمال صورته وكثر كلام المماليك بسبب ذلك.
ثم رسم السلطان بإعادة ما كان أخرج عن اتفاق العوادة من خدامها وجواريها وغير ذلك من الرواتب.
وطلب السلطان عبد علي العواد المغني معلم اتفاق إلى القلعة وغنى للسلطان فأنعم عليه بإقطاع في الحلقة زيادة على ما كان بيده وأعطاه مائتي دينار وكاملية حرير بفرو سمور. وانهمك أيضًا الملك المظفر في اللذات وشغف باتفاق حتى شغلته عن غيرها وملكت قلبه وأفرط في حبها.
فشق ذلك على الأمراء والمماليك وأكثروا من الكلام حتى بلغ السلطان وعزم على مسك جماعة منهم فما زال به النائب حتى رجع عن ذلك. ثم خلع السلطان على قطليجا الحموي واستقر في نيابة حماة عوضًا عن طيبغا المجدي.
وخلع أيضًا على أيتمش عبد الغني واستقر في نيابة غزة وخرجا من وقتهما على البريد. وكتب بإحضار المجدي فقدم بعد ذلك إلى القاهرة وخلع عليه بآستقراره أستادارًا عوضًا عن أرغون شاه المنتقل إلى نيابة صفد.
وفي يوم الثلاثاء أول محرم سنة ثمان وأربعين وسبعمائة ركب السلطان في أمرائه الخاصكية ونزل إلى الميدان ولعب بالكرة فغلب الأمير ملكتمر الحجازي في الكرة فلزم الحجازي يعمل وليمة فعملها في سرياقوس ذبح فيها خمسمائة رأس من الغنم وعشرة أفراس وعمل أحواضًا مملوءة بالسكر المذاب وجمع سائر أرباب الملاهي.
وحضرها السلطان والأمراء فكان يومًا مشهودًا. ثم ركب السلطان وعاد وبعد عوده قدم كتاب الأمير أسندمر نائب طرابلس يسأل الإعفاء فأعفي. وخلع على الأمير منكلي بغا أمير جاندار وآستقر في نيابة طرابلس.
وفي هذا الشهر شكا الناس للسلطان من بعد الماء عن بر مصر والقاهرة حتى غلت روايا الماء.
فرسم السلطان بنزول المهندسين لكشف ذلك فكتب - تقدير ما يصرف على الجسر مبلغ مائة وعشرين ألف درهم جبيت من أرباب الأملاك المطلة على النيل حسابًا عن كل ذراع خمسة عشر درهمًا فبلغ قياسها سبعة آلاف ذراع وستمائة ذراع.
وقام باستخراج ذلك وقياسه محتسب القاهرة ضياء الدين يوسف ابن أبي بكر محمد الشهير بابن خطيب بيت الآبار.وفي هذه الأيام توقفت أحوال الدولة من كثرة رواتب الخدام والعجائز والجواري وأخذهم الرزق بأرض بهتيم من الضواحي وبأراضي الجيزة وغيرها بحيث إنه أخذ مقبل الرومي عشرة آلاف فدان.
وفي هذه الأيام رسم السلطان للطواشي مقبل الرومي أن يخرج اتفاق العوادة وسلمى والكركية حظايا السلطان من القلعة بما عليهن من الثياب من غير أن يحملن شيئًا من الجوهر والزركش وأن تقلع عصبة إتفاق عن رأسها ويدعها عنده.
وكانت هذه العصبة قد آشتهرت عند الأمراء وشنعت قالتها فإنه قام بعملها ثلاثة ملوك الإخوة من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاوون: الملك الصالح إسماعيل والملك الكامل شعبان والملك المظفر حاجي هذا وتنافسوا فيها وآعتنوا بجواهرها حتى بلغت قيمتها زيادة على مائة ألف دينار مصرية.
وسبب إخراج اتفاق وهؤلاء من الدور السلطانية أن الأمراء الخاصكية: قرابغا وصمغار وغيرهما بلغهما إنكار الأمراء الكبار والمماليك السلطانية شدة شغف السلطان بالنسوة الثلاث المذكورات وآنهماكه على اللهو بهن وآنقطاعه إليهن بقاعة الدهيشة عن الأمراء وإتلافه الأموال العظيمة في العطاء لهن ولأمثالهن وإعراضه عن تدبير الملك.
فعرفا السلطان إنكار الأمراء وخوفوه عاقبة ذلك فتلطف بهم وصوب ما أشاروا به عليه من الإقلاع عن اللهو بالنساء. وأخرجهن السلطان وفي نفسه حزازات لفراقهن تمنعه من الهدوء والصبر عنهن فأحب أن يتعوض عنهن بما يلهيه ويسليه فاختار صنف الحمام ونشأ حضيرًا على الدهيشة ركبه على صواري وأخشاب عالية وملأه بأنواع الحمام فبلغ مصروف الحضير خاصة سبعة آلاف درهم وبينا السلطان في ذلك قدم جماعة من أعيان الحلبيين وشكوا من الأمير بيدمر البدري نائب حلب فعزله السلطان بأرغون شاه نائب صفد ورسم ألا يكون لنائب الشام عليه حكم وأن تكون مكاتباته للسلطان وحمل إليه التقليد الأمير طنيرق.
ثم ورد الخبر باختلال مراكز البريد بطريق الشام فأخذ من كل أمير مقدم ألف أربعة أفراس ومن كل طبلخاناه فرسان ومن كل أمير عشرة فرس واحد وكشف عن البلاد المرصدة للبريد فوجد ثلاث بلاد منها وقف الملك الصالح إسماعيل وقف بعضها وأخرج باقيها إقطاعات.
فأخرج السلطان عن عيسى بن حسن الهجان بلدًا تعمل في كل سنة عشرين ألف درهم وثلاثة آلاف إردب غلة وجعلها مرصدة لمراكز البريد. واستمر خاطر السلطان موغرًا على الجماعة من الأمراء بسبب اتفاق وغيرها إلى أن كان يوم الأحد تاسع عشر شهر ربيع الأول من سنة ثمان وأربعين وسبعمائة كانت الفتنة العظيمة التي قتل فيها ملكتمر الحجازي وآق سنقر وأمسك بزلار وصمغار وأيتمش عبد الغني وسبب ذلك أن السلطان لما أخرج اتفاق وغيرها وتشاغل بلعب الحمام صار يحضر إلى الدهيشة الأوباش ويلعب بالعصا لعب صباح ويحضر الشيخ علي بن الكسيح مع حظاياه يسخر له وينقل إليه أخبار الناس.
فشق ذلك على الأمراء وحدثوا ألجيبغا وطنيرق - وكانا عمدة السلطان وخاصكيته بأن الحال قد فسد. فعرفا السلطان ذلك فاشتد حنقه وأطلق لسانه وقام إلى السطح وذبح الحمام بيده بحضرتهما وقال لهما: " والله لأذبحنكم كما ذبحت هذه الطيور " وأغلق باب الدهيشة وأقام غضبان يومه وليلته.
وكان الأمير غرلو قد تمكن من السلطان فأعلمه السلطان بما وقع فنال غرلو من الأمراء وهون أمرهم عليه وجسره على الفتك بهم والقبض على آق سنقر. فأخذ السلطان في تدبير ما يفعله وقرر ذلك مع غرلو.
ثم بعث طنيرق في يوم الأربعاء خامس عشر شهر ربيع الآخر إلى النائب يعرفه أن قرابغا القاسمي وصمغار وبزلار وأيتمش عبد الغني قد آتفقوا على عمل فتنة " وعزمي أن أقبض عليهم قبل ذلك " فوعده النائب برد الجواب غدًا على السلطان في الخدمة فلما اجتمع النائب بالسلطان أشار عليه النائب بالتثبت في أمرهم حتى يصح له ما قيل عنهم.
ثم أصبح فعرفه السلطان في يوم الجمعة بأنه صح عنده ما قيل بإخبار بيبغا أرس أنهم تحالفوا على قتله فأشار عليه النائب أن يجمع بينهم وبين بيبغا أرس حتى يحاققهم بحضرة الأمراء يوم الأحد. وكان الأمر على خلاف هذا فإن السلطان كان اتفق مع غرلو وعنبر السحرتي مقدم المماليك على مسك آق سنقر وملكتمر الحجازي في يوم الأحد.
فلما كان يوم الأحد تاسع عشر ربيع الآخر المذكور حضر الأمراء والنائب إلى الخدمة على العادة بعد العصر ومد السماط وإذا بالقصر قد ملئ بالسيوف المسللة من خلف آق سنقر والحجازي وأحيط بهما وبقرابغا وأخذوا إلى قاعة هناك.
فضرب ملكتمر الحجازي بالسيوف وقطع هو وآق سنقر قطعًا. وهرب صمغار وأيتمش عبد الغني فركب صمغار فرسه من باب القلعة وفر إلى القاهرة واختفى أيتمش عند زوجته.
وخرجت الخيل وراء صمغار حتى أدركوه خارج القاهرة وأخذ أيتمش من داره فارتجت القاهرة وغلقت الأسواق وأبواب القلعة. وكثر الإرجاف إلى أن خرج النائب أرقطاي والوزير نجم الدين محمود بن شروين قريب المغرب وطلبا الوالي ونودي بالقاهرة فاشتهر ما جرى بين الناس وخاف كل أحد من الأمراء على نفسه.
ثم رسم السلطان بالقبض على مرزة علي وعلى محمد بن بكتمر الحاجب وأخيه وعلى أولاد أيدغمش وأولاد قماري. وأخرجوا الجميع إلى الإسكندرية هم وبزلار وأيتمش وصمغار لأنهم كانوا من ألزام الحجازي ومعاشريه فسجنوا بها.
وأخرج آق سنقر وملكتمر الحجازي في ليلة الإثنين العشرين من شهر ربيع الآخر على جنويات فدفنا بالقرافة.
وأصبح الأمير شجاع الدين غرلو وقد جلس في دست عظيم ثم ركب وأوقع الحوطة على بيوت الأمراء المقتولين والممسوكين وعلى أموالهم وطلع بجميع خيولهم إلى الإسطبل السلطاني. وضرب غرلو عبد العزيز الجوهري صاحب آق سنقر وعبد المؤمن أستاداره بالمقارع وأخذ منهما مالًا جزيلًا فخلع السلطان على الأمير غرلو قباء من ملابسه بطرز زركش عريض وأركبه فرسًا من خاص خيل الحجازي بسرج ذهب وكنبوش زركش.
ثم خلا به بأخذ رأيه فيما يفعل فأشار عليه بأن يكتب إلى نواب الشام بما جرى ويعد لهم ذنوبًا كثيرة على الأمراء الذين قبض عليهم. فكتب إلى الأمير يلبغا اليحياوي نائب الشام على يد الأمير آق سنقر المظفري أمير جاندار فلما بلغ يلبغا الخبر كتب الجواب يستصوب رأي السلطان في ما فعله في الظاهر وهو في الباطن غير ذلك.
وعظم عليه قتل الحجازي وآق سنقر إلى الغاية. ثم جمع يلبغا أمراء دمشق بعد يومين بدار السعادة وأعلمهم الخبر.
وكتب إلى النواب بذلك وبعث الأمير ملك آص إلى حمص وحماة وحلب وبعث الأمير طيبغا القاسمي إلى طرابلس. ثم آنتقل في يوم الجمعة مستهل جمادى الأولى إلى القصر بالميدان فنزل به ونزل ألزامه حوله بالميدان وشرع في الاستعداد للخروج عن طاعة الملك المظفر هذا.
وأما السلطان الملك المظفر فإنه أخذ بعد ذلك يستميل المماليك السلطانية بتفرقة المال فيهم وأمر منهم جماعة وأنعم على غرلو بإقطاع أيتمش عبد الغني وأصبح غرلو هو المشار إليه في المملكة فعظمت نفسه إلى الغاية. ثم أخرج السلطان ابن طقزدمر على إمرة طبلخاناه بحلب وأنعم بتقدمته على الأمير طاز.
وصار السلطان يتخوف من النواب بالبلاد الشامية إلى أن حضرت أجوبتهم بتصويب ما فعله فلم يطمئن بذلك.
ورسم بخروج تجريدة إلى البلاد الشامية فرسم في عاشر جمادى الأولى بسفر سبعة أمراء من المقدمين بالديار المصرية وهم الأمير طيبغا المجدي وبلك الجمدار والوزير نجم الدين محمود بن شروين وطنغرا وأيتمش الناصري الحاجب وكوكاي والزراق ومعهم مضافوهم من الأجناد وطلب الأجناد من النواحي وكان وقت إدراك المغل فصعب ذلك على الأمراء وآرتجت القاهرة بأسرها لطلب السلاح وآلات السفر.
ثم كتب السلطان إلى أمراء دمشق ملطفات على أيدي النجابة بالتيقظ بحركات الأمير يلبغا اليحياوي نائب الشام. ثم أشار النائب على السلطان بطلب يلبغا ليكون بمصر نائبًا أو رأس مشورة فإن أجاب وإلا أعلم بأنه قد عزل عن نيابة الشام بأرغون شاه نائب حلب.
فكتب السلطان في الحال يطلبه على يد أراي أمير آخور وعند سفر أراي قدمت كتب نائب طرابلس ونائب حماة ونائب صفد على السلطان بأن يلبغا دعاهم للقيام معه على السلطان لقتله الأمراء وبعثوا بكتبه إليه. فكتب السلطان لأرغون شاه نائب حلب أن يتقدم لعرب آل مهنا بمسك الطرقات على يلبغا وأعلمه أنه ولاه نيابة الشام عوضه فقام أرغون شاه في ذلك أتم قيام وأظهر ليلبغا أنه معه.
ولما وصل إلى يلبغا أراي أمير آخور في يوم الأربعاء سادس جمادى الأولى ودعاه إلى مصر ليكون رأس أمراء المشورة وأن نيابة الشام أنعم بها السلطان على الأمير أرغون شاه نائب حلب ظن يلبغا أن استدعاءه حقيقة وقرأ كتاب السلطان فأجاب بالسمع والطاعة وأنه إذا وصل أرغون ش
اه إلى دمشق توجه هو إلى مصر وكتب الجواب بذلك وأعاده سريعًا.
فتحللت عند ذلك عزائم أمراء دمشق وغيرها عن يلبغا وتجهز يلبغا وخرج إلى الكسوة ظاهر دمشق في خامس عشره. وكانت ملطفات السلطان قد وردت إلى أمراء دمشق بإمساكه فركبوا على حين غفلة وقصدوه ففر منهم بمماليكه وأهله وهم في أثره إلى خلف ضمير.
ثم سار في البرية يريد أولاد تمرداش ببلاد الشرق حتى نزل على حماة بعد أربعة أيام وخمس ليال فركب الأمير قطليجا نائب حماة بعسكره فتلقاه ودخل به إلى المدينة وقبض عليه وعلى من كان معه من الأمراء وهم الأمير قلاوون والأمير سيفة والأمير محمد بك بن جمق وأعيان مماليكه وكتب للسلطان بذلك فقدم الخبر بذلك على السلطان في جمادى الأولى أيضًا فسر سرورًا زائدًا ورسم في الوقت بإبطال التجريدة.
ثم كتب بحمل يلبغا اليحياوي المذكور إلى مصر. ثم بدا للسلطان غير ذلك وهو أنه أخرج الأمير منجك اليوسفي السلاح دار بقتله فسار منجك حتى لقي آقجبا الحموي ومعه يلبغا اليحياوي وأبوه بقاقون.
فنزل منجك بقاقون وصعد بيلبغا اليحياوي إلى قلعة قاقون وقتله بها في يوم الجمعة عشرين جمادى الأولى وحز رأسه وحمله إلى السلطان. قال الشيخ صلاح الدين الصفدي: " وكان يلبغا حسن الوجه مليح الثغر أبيض اللون طويل القامة من أحسن الأشكال قل أن ترى العيون مثله.
كان ساقيًا وكانت الإنعامات . التي تصل إليه من السلطان لم يفرح بها أحد قبله.
كان يطلق له الخيل بسروجها وعددها وآلاتها الزركش والذهب المصوغ خمسة عشر فرسًا والأكاديش ما بين مائتي رأس فينعم بها عليه وتجهز إليه الخلع والحوائص وغير ذلك من التشاريف التي يرسم له بها خارجة عن الحد.
وبنى له الإسطبل الذي في سوق الخيل تجاه القلعة ". قلت: والإسطبل المذكور كان مكان مدرسة السلطان حسن الآن اشتراه السلطان حسن وهدمه وبنى مكان مدرسته المعروفة به. وقد سقنا ترجمته أي يلبغا اليحياوي بأوسع من هذا في تاريخنا " المنهل الصافي " إذ هو كتاب تراجم. انتهى.
وفي يوم الأحد خامس عشرين جمادى الأولى المذكور أخرج السلطان الوزير نجم الدين محمودًا والأمير بيدمر البدري نائب حلب كان والأمير طغيتمر النجمي الدوادار إلى الشام وسببه أن الأمير شجاع الدين غرلو لما كان شاد الدواوين قبل تاريخه حقد على الوزير نجم الدين المذكور وعلى طغيتمر الدوادار فحسن للسلطان أخذ أموالهما.
فقال السلطان للنائب أرقطاي عنهما وعن بيدمر أنهم كانوا يكاتبون يلبغا فأشار عليه النائب بإبعادهم وأن يكون الوزير نجم الدين نائب غزة وبيدمر نائب حمص وطغيتمر نائب طرابلس فأخرجهم السلطان على البريد فلم يعجب غرلو ذلك وأكثر عند السلطان من الوقيعة في الأمير أرقطاي النائب حتى غير السلطان عليه وما زال به حتى بعث السلطان بأرغون الإسماعيلي إلى نائب غزة بقتلهم.
فدخل أرغون معهم إلى غزة بعد العصر وعرف النائب ما جاء بسببه فقبض عليهم نائب غزة وقتلهم في ليلته. وعاد أرغون وعرف السلطان الخبر فتغير قلب الأمراء ونفر خواطرهم في الباطن من السلطان وميله إلى غرلو.
وتمكن غرلو من السلطان وأخذ أموال من قتل وتزايد أمره وآشتدت وطأته وكثر إنعام السلطان عليه حتى إنه لم يكن يوم إلا وينعم عليه فيه بشيء. ثم أخذ غرلو في العمل على علم الدين عبد الله بن زنبور ناظر الخاص وعلى القاضي علاء الدين علي بن فضل الله العمري كاتب السر وصار يحسن للسلطان القبض عليهما وأخذ أموالهما فتلطف النائب بالسلطان في أمرهما حتى كف عنهما.
فلم يبق بعد ذلك أحد من أهل الدولة حتى خاف من غرلو وصار يصانعه بالمال حتى يسترضيه. ثم حسن غرلو للسلطان قتل الأمراء المحبوسين بالإسكندرية فتوجه الطواشي مقبل الرومي بقتلهم فقتل الأمير أرغون العلائي وقرابغا القاسمي وتمر الموساوي واستمر السلطان على الانهماك في لهوه فصار يلعب في الميدان تحت القلعة بالكرة في يومي الأحد والثلاثاء ويركب إلى الميدان الذي على النيل في يوم السبت.
فلما كان آخر ركوبه إلى الميدان رسم السلطان بركوب الأمراء المقدمين بمضافيهم ووقوفهم صفين من الصليبة إلى فوق القلعة ليرى السلطان عسكره. فضاق الموضع فوقف كل مقدم بخمسة من مضافيه. وجمعت أرباب الملاهي ورتبت في عدة أماكن من القلعة إلى الميدان. ثم ركبت أم السلطان في جمعها وأقبل الناس من كل جهة.
فبلغ كراء كل طبقة مائة درهم وكل بيت كبير لنساء الأمراء مائتي درهم وكل حانوت خمسين درهمًا وكل موضع إنسان بدرهمين. فكان يومًا لم يعهد في ركوب الميدان مثله.
ثم في يوم الخميس خامس عشره قبض السلطان الملك المظفر هذا على أعظم أمرائه ومدبر مملكته الأمير شجاع الدين غرلو وقتله وسبب ذلك أمور: منها شدة كراهية الأمراء له لسوء سيرته فإنه كان يخلو بالسلطان ويشير عليه بما يشتهيه فما كان السلطان يخالفه في شيء وكان عمله أمير سلاح فخرج عن الحد في التعاظم وجسر السلطان على قتل الأمراء وقام في حق النائب أرقطاي يريد القبض عليه وقتله واستمال المماليك الناصرية والصالحية والمظفرية بكمالهم وأخذ يقرر مع السلطان أن يفوض إليه أمور المملكة بأسرها ليقوم عنه بتدبيرها ثم لم يكفه ذلك حتى أخذ يغري السلطان بألجيبغا وطنيرق وكانا أخص الناس بالسلطان ولا زال يمعن في ذلك حتى تغير السلطان عليهما وبلغ ذلك ألجيبغا وتناقلته المماليك فتعصبوا عليه وأرسلوا إلى الأمراء الكبار حتى حدثوا السلطان في أمره وخوفوه عاقبته.
فلم يعبأ السلطان بقولهم فتنكروا بأجمعهم على السلطان بسبب غرلو إلى أن بلغه ذلك عنهم من بعض ثقاته فآستشار النائب في أمر غرلو المذكور فلم يشر عليه في أمره بشيء وقال للسلطان: " لعل الرجل قد كثرت حساده على تقريب السلطان له والمصلحة التثبت في أمره ". وكان أرقطاي النائب عاقلًا سيوسًا يخشى من معارضته غرض السلطان فيه.
فاجتهد ألجيبغا وعدة من الخاصكية في التدبير على غرلو وتخويف السلطان منه ومن سوء عاقبته حتى أثر قولهم في نفس السلطان. وأقاموا الأمير أحمد شاد الشرابخاناه وكان مزاحًا للوقيعة فيه فأخذ أحمد شاد الشرابخاناه في خلوته مع السلطان يذكر كراهية الأمراء لغرلو وموافقة المماليك له وأنه يريد أن يدبر المملكة ويكون نائب السلطنة ليتوثب بذلك على المملكة ويصير سلطانًا ويخرج له قوله هذا في صورة السخرية والضحك.
وصار أحمد المذكور يبالغ في ذلك على عدة فنون من الهزل إلى أن قال السلطان: " أنا الساعة أخرجه وأعمله أمير آخور " فمضى أحمد شاد الشربخاناه إلى النائب وعرفه بما وقع في السر وأنه جسر السلطان على الوقيعة في غرلو.
فبعث السلطان وراء النائب أرقطاي وآستشاره في أمر غرلو ثانيًا فأثنى عليه النائب وشكره فعرف السلطان كثرة وقيعة الخاصكية فيه وأنه قصد أن يعمله أمير آخور فقال النائب: " غرلو رجل شجاع جسور لا يليق أن يعمل أمير آخور ".
فكأنه أيقظ السلطان من رقدته بحسن عبارة وألطف إشارة فأخذ السلطان في الكلام معه بعد ذلك فيما يوليه! فأشار عليه النائب بتوليته نيابة غزة فقبل السلطان ذلك وقام عنه النائب.
فأصبح السلطان بكرة يوم الجمعة وبعث الأمير طنيرق إلى النائب أن يخرج غرلو إلى نيابة غزة. فلم يكن غير قليل حتى طلع غرلو على عادته إلى القلعة وجلس على باب القلة فبعث النائب يطلبه فقال: " مالي عند النائب شغل وما لأحد معي حديث غير أستاذي ". فأرسل النائب يعرف السلطان جواب غرلو فأمر السلطان مغلطاي أمير شكار وجماعة من الأمراء أن يعرفوا غرلو عن السلطان أن يتوجه إلى غزة وإن امتنع يمسكوه فلما صار غرلو بداخل القصر لم يحدثوه بشيء وقبضوا عليه وقيدوه وسلموه لألجيبغا فأدخله إلى بيته بالأشرفية.
فلما خرج السلطان لصلاة الجمعة على العادة قتلوا غرلو وهو في الصلاة. وأخذ السلطان بعد عوده من الصلاة يسأل عنه فنقلوا عنه أنه قال: " أنا ما أروح مكانا " وأراد سل سيفه وضرب الأمراء به فتكاثروا عليه فما سلم نفسه حتى قتل.
فعز قتله على السلطان وحقد عليهم لأجل قتله ولم يظهر لهم ذلك. ورسم بإيقاع الحوطة على ثم أخرج بغرلو المذكور ودفن بباب القرافة فأصبح وقد خرجت يده من القبر فأتاه الناس أفواجًا ليروه ونبشوا عليه وجروه بحبل في رجله إلى تحت القلعة وأتوا بنار ليحرقوه وصار لهم ضجيج عظيم.
فبعث السلطان عدة من الأوجاقية قبضوا على كثير من العامة فضربهم الوالي بالمقارع وأخذ منهم غرلو المذكور ودفنه. ولم يظهر لغرلو المذكور كثير مال. قلت: ومن الناس من يسميه " أغزلو " بألف مهموزة وبعدها غين معجمة مكسورة وزاي ساكنة ولام مضمومة وواو ساكنة.
ومعنى أغزلو باللغة التركية: له فم وقد ذكرناه نحن أيضًا في المنهل الصافي في حرف الهمزة غير أن جماعة كثيرة ذكروه " غرلو " فآقتدينا بهم هنا وخالفناهم هناك وكلاهما آسم باللغة التركية. انتهى.
وكان غرلو هذا أصله من مماليك الحاج بهادر العزي وخدم بعده عند بكتمر الساقي وصار أمير آخوره ثم خدم بعد بكتمر عند بشتك وصار أمير آخوره أيضا ثم ولي بعد ذلك ناحية أشمون ثم ولي نيابة الشوبك ثم ولي القاهرة وأظهر العفة والأمانة وحسنت سيرته ثم تقرب عند الملك الكامل شعبان وفتح له باب الأخذ في الولايات والإقطاعات وعمل لذلك ديوانًا قائم الذات سمي ديوان البدل.
فلما تولى الصاحب تقي الدين بن مراحل الوزرشاححه في الجلوس والعلامة فترجح الصاحب تقي الدين وغزل غرلو هذا عن شد الدواوين ودام على ذلك إلى أن كانت نوبة السلطان الملك المظفر كان غرلو هذا ممن قام معه لما كان في نفسه من الكامل من عزله عن شد الدواوين وضرب في الوقعة أرغون العلائي بالسيف في وجهه وتقرب من يوم ذاك إلى الملك المظفر حتى كان من أمره ما حكيناه. ثم خرج السلطان الملك المظفر بعد قتله إلى سرياقوس على العادة وأقام بها أيامًا.
ثم عاد وخلع على الأمير منجك اليوسفي السلاح دار باستقراره حاجبًا بدمشق عوضًا عن أمير علي بن طغربل. وأنعم السلطان على اثني عشر من المماليك السلطانية بإمريات ما بين طبلخاناه وعشرة وأنعم بتقدمة الأمير منجك السلاح دار على بعض خواصه. وفي يوم مستهل شعبان خرج الأمير طيبغا المجدي والأمير أسندمر الغمري والأمير بيغرا والأمير أرغون الكاملي والأمير بيبغا أرس والأمير بيبغا ططر إلى الصيد ثم خرج الأمير أرقطاي النائب بعدهم إلى الوجه القبلي بطيور السلطان.
ورسم السلطان لهم ألا يحضروا إلى العشر الأخير من شهر رمضان. فخلا الجو للسلطان وأعاد حضير الحمام وأعاد أرباب الملاعيب من الصراع والثقاف والشباك وجري السعاة ونطاح الكباش ومناقرة الديوك والقمار وغير ذلك من أنواع الفساد. ونودي بإطلاق اللعب بذلك بالقاهرة ومصر وصار للسلطان آجتماع بالأوباش وأراذل الطوائف من الفراشين والبابية ومطيري الحمام فكان السلطان يقف معهم ويراهن على الطير الفلاني والطيرة الفلانية.
وبينما هو ذات يوم معهم عند حضير الحمام وقد سيبها إذ أذن العصر بالقلعة والقرافة فجفلت الحمام عن مقاصيرها وتطايرت فغضب وبعث إلى المؤذنين يأمرهم أنهم إذا رأوا الحمام لا يرفعون أصواتهم. وكان السلطان يلعب مع العوام بالعصي وكان إذا لعب مع الأوباش يتعرى ويلبس تبان جلد ويصارع معهم ويلعب بالرمح والكرة فيظل نهاره مع الغلمان والعبيد في الدهيشة وصار يتجاهر بما لا يليق به أن يفعله.
ثم أخذ مع ذلك كله في التدبير على قتل أخيه حسين وأرصد له عدة خدام ليهجموا عليه عند إمكان الفرصة ويغتالوه فبلغ حسينًا ذلك فتمارض واحترس على نفسه فلم يجدوا منه غفلة.
ثم في سابع عشر شعبان توفي الخليفة أبو الربيع سليمان وبويع بالخلافة ابنه أبو بكر ولقب بالمعتصم بالله أبي الفتح.
وفي آخر شعبان قدم الأمراء من الصيد شيئًا بعد شيء وقد بلغهم ما فعله السلطان في غيبتهم. وقدم ابن الحراني من دمشق بمال يلبغا اليحياوي فتسلمه الخدام.
وأنعم السلطان من ليلته على حظيته " كيدا " من المال بعشرين ألف دينار سوى الجواهر واللآلئ ونثر الذهب على الخدام والجواري فاختطفوه وهو يضحك.
وفرق على لعاب الحمام والفراشين والعبيد الذهب واللؤلؤ وهو يحذفه عليهم وهم يترامون عليه ويأخذوه بحيث إنه لم يدع من مال يلبغا سوى القماش فكان جملة التي فرقها ثلاثين ألف دينار وثلاثمائة ألف درهم وجواهر وحليًا ولؤلؤًا وزركشًا ومصاغًا قيمته زيادة على ثمانين ألف دينار.
فعظم ذلك على الأمراء وأخذ ألجيبغا وطنيرق يعرفان السلطان ما ينكره عليه الأمراء من لعب الحمام وتقريب الأوباش وخوفاه فساد الأمر فغضب وأمر آقجبا شاد العمائر بخراب حضير الحمام ثم أحضر الحمام وذبحهم واحدًا بعد واحد بيده وقال لألجيبغا وطنيرق: " والله لأذبحنكم كلكم كما ذبحت هذا الحمام " وتركهم وقام.
أمراء المماليك يذبحون السلطــــــــــان
وفرق جماعة من خشداشية ألجيبغا وطنيرق في البلاد الشامية وآستمر على إعراضه عن الجميع ثم قال لحظاياه وعنده معهن الشيخ علي بن الكسيح: " والله ما بقي يهنأ لي عيش وهذان الكذابان بالحياة يعني بذلك عن ألجيبغا وطنيرق فقد أفسدا علي جميع ما كان لي فيه سرور واتفقا علي ولا بد لي من ذبحهما " فنقل ذلك ابن الكسيح لألجيبغا فإن ألجيبغا هو الذي أوصله إلى السلطان وقال: " مع ذلك خذ لنفسك فوالله لا يرجع عنك وعن طنيرق " فطلب ألجيبغا طنيرق وعرفه ذلك فأخذا في التدبير عليه في الباطن وأخذ في التدبير عليهما.
وخرج الأمير بيبغا أرس للصيد بالعباسة فإنه كان صديقًا لألجيبغا وتنمر السلطان على طنيرق وآشتد عليه وبالغ في تهديده. فبعث طنيرق وألجيبغا إلى الأمير طشتمر طلليه وما زالا به حتى وافقهما.
ودارا على الأمراء وما منهم إلا من نفرت نفسه من السلطان الملك المظفر وتوقع به أنه يفتك به فصاروا معهما يدًا واحدة لما في نفوسهم. ثم كلموا النائب في موافقتهم وأعلموه أنه يريد القبض عليه وكان عنده أيضًا حس من ذلك وأكثروا من تشجيعه حتى وافقهم وأجابهم.
وتواعدوا جميعًا في يوم الخميس تاسع شهر رمضان على الركوب على السلطان في يوم الأحد ثاني عشر شهر رمضان.
فبعث السلطان في يوم السبت يطلب بيبغا أرس من العباسة وقد قرر مع الطواشي عنبر مقدم المماليك أن يعرف المماليك السلاح دارية أن يقفوا خلفه فإذا دخل بيبغا أرس وقبل الأرض ضربوه بالسيوف وقطعوه قطعًا. فعلم بذلك ألجيبغا وبعث إليه يعلمه بما دبره السلطان عليه من قتله ويعرفه بما وقع آتفاق الأمراء عليه وأنه يوافيهم بكرة يوم الأحد على قبة النصر.
فآستعدوا ليلتهم ونزل ألجيبغا من القلعة وتلاه بقية الأمراء حتى كان آخرهم ركوبًا الأمير أرقطاي نائب السلطنة. وتوافوا بأجمعهم عند مطعم الطير وإذا ببيبغا أرس قد وصل إليهم فعبوا أطلابهم ومماليكهم ميمنة وميسرة وبعثوا في طلب بقية الأمراء فما ارتفع النهار حتى وقفوا بأجمعهم ملبسين عند قبة النصر. وبلغ السلطان ذلك فأمر بضرب الكوسات فدقت وبعث الأوجاقية في طلب الأمراء فجاءه طنجرق وشيخون وأرغون الكاملي وطاز ونحوهم من الأمراء الخاصكية.
ثم بعث المقدمين في طلب أجناد الحلقة فحضروا. ثم أرسل السلطان يعتب النائب أرقطاي على ركوبه فرد جوابه بأن مملوكك الذي ربيته ركب عليك يعني عن ألجيبغا وأعلمنا فساد نيتك لنا وقد قتلت مماليك أبيك وأخذت أموالهم وهتكت حريمهم بغير موجب وعزمت على الفتك بمن بقي.
وأنت أول من حلف أنك لا تخون الأمراء ولا تخرب بيت أحد فرد السلطان الرسول إليه يستخبره عما يريده الأمراء من السلطان حتى يفعله لهم فعاد جوابهم أنه لا بد أن يسلطنوا غيره فقال: " ما أموت إلا على ظهر فرسي " فقبضوا على رسوله وهموا بالزحف عليه فمنعهم النائب أرقطاي من ذلك حتى يكون القتال أولًا من السلطان.
فبادر السلطان بالركوب إليهم وأقام أرغون الكاملي وشيخون في الميمنة ثم أقام عدة أمراء أخر في الميسرة وسار بمماليكه حتى وصل إلى قريب قبة النصر فكان أول من تركه ومضى إلى القوم الأمير طاز ثم الأمير أرغون الكاملي ثم الأمير ملكتمر السعدي ثم الأمير شيخون وانضافوا الجميع إلى النائب أرقطاي والأمراء وتلاهم بقيتهم حتى جاء الأمير طنرق والأمير لاجين أمير جاندار صهر السلطان آخرهم.
وبقي السلطان في نحو عشرين فارسًا فبرز له الأمير بيبغا أرس والأمير ألجيبغا فولى السلطان فرسه وآنهزم عنهم فتبعوه وأدركوه وأحاطوا به فتقدم إليه بيبغا أرس فضربه السلطان بالطبر فأخذ بيبغا الضربة بترسه.
ثم حمل عليه بالرمح وتكاثروا عليه حتى قلعوه من سرجه وضربه طنيرق بالسيف فجرح وجهه وأصابعه. ثم ساروا به على فرس غير فرسه محتفظين به إلى تربة آق سنقر الرومي تحت الجبل وذبحوه من ساعته قبيل عصر يوم الأحد ثاني عشر شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وسبعمائة ودفن بتربة أمه.
ولما أنزلوه وأرادوا ذبحه قال لهم: " بالله لا تستعجلوا علي خلوني ساعة " فقالوا: كيف استعجلت أنت على قتل الناس! لو صبرت عليهم صبرنا عليك فذبحوه.
وقيل: إنهم لما أنزلوه عن فرسه كتفوه وأحضروه بين يدي النائب أرقطاي ليقتله فلما رآه النائب نزل عن فرسه وترجل ورمى عليه قباءه وقال: " أعوذ بالله هذا سلطان ابن سلطان ما أقتله "! فأخذوه ومضوا إلى الموضع الذي ذبحوه فيه.
وفيه يقول الشيخ صلاح الدين الصفدي: أيها العاقل اللبيب تفكر في المليك المظفر الضرغام كم تمادى في البغي والغي حتى كان لعب الحمام جد الحمام وفيه يقول: حان الردى للمظفر وفي التراب تعفر وقاتل النفس ظلمًا ذنوبه ما تكفر ثم صعد الأمراء القلعة من يومهم ونادوا في القاهرة بالأمان والاطمئنان وباتوا بالقلعة ليلة الإثنين وقد اتفقوا على مكاتبة نائب الشام الأمير أرغون شاه بما وقع وأن يأخذوا رأيه فيمن يقيموه سلطانًا.
فأصبحوا وقد آجتمع المماليك على إقامة حسين ابن الملك الناصر محمد عوضًا عن أخيه المظفر في السلطنة ووقعت بين حسين وبينهم مراسلات. فقام المماليك في أمره فقبضوا الأمراء على عدة منهم ووكلوا الأمير طاز بباب حسين حتى لا يجتمع به أحد من جهة المماليك وأغلقوا باب القلعة واستمروا بآلة الحرب يومهم وليلة الثلاثاء.
وقصد المماليك إقامة الفتنة فخاف الأمراء تأخير السلطنة حتى يستشيروا نائب الشام أن يقع من المماليك ما لا يدرك فارطه فوقع آتفاقهم عند ذلك على حسن فسلطنوه فتم أمره.
وكانت مدة سلطنة الملك المظفر هذا على مصر سنة واحدة وثلاثة أشهر وأربعة عشر يومًا.
وكان المظفر أهوج سريع الحركة عديم المداراة سيئ التدبير يؤثر صحبة الأوباش على أرباب الفضائل والأعيان. وكان فيه ظلم وجبروت وسفك للدماء. قتل في مدة سلطنته مع قصرها خلائق كثيرة من الأمراء وغيرهم.
وكان مسرفًا على نفسه يحب لعب الحمام وغيره ويحسن فنونًا كثيرة من الملاعيب كالرمح قلت: وبالجملة هو أسوأ سيرة من جميع إخوته ممن تسلطن قبله من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاوون على أن الجميع غير نجباء وحالهم كقول القائل: " عجيب نجيب من نجيب " اللهم إن كان السلطان حسن الآتي ذكره فهو لا بأس به. انتهى.
السنة التي حكم في أولها الملك الكامل شعبان إلى سلخ جمادى الأولى ثم حكم في باقيها الملك المظفر حاجي صاحب الترجمة وهي سنة سبع وأربعين وسبعمائة.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم خمس أذرع سواء. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وخمس أصابع.
السنة الثانية من سلطنة المظفر حاجي وهي سنة ثمان وأربعين وسبعمائة.
على أنه قتل في شهر رمضان منها وحكم في باقيها أخوه السلطان الملك الناصر حسن.
فيها توفي الأمير شمس الدين آق سنقر بن عبد الله الناصري مقتولًا بقلعة الجبل.
وقد تقدم ذكر قتله وهو أن الملك المظفر حاجيًا أمر بالقبض على آق سنقر وعلى الحجازي بالقصر ثم قتلا من ساعتهما تهبيرًا بالسيوف في يوم الأحد تاسع عشر شهر ربيع الآخر.
وكان آق سنقر هذا اختص به أستاذه الملك الناصر محمد بن قلاوون وزوجه إحدى بناته وجعله أمير شكار ثم أمير آخور ثم نائب غزة وأعيد بعد موت الناصر في أيام الملك الصالح إسماعيل ثانيًا واستقر أمير آخور على عادته ثم ولي نيابة طرابلس مدة ثم أحضر إلى مصر في أيام الملك الكامل شعبان وعظم قدره ودبر الدولة في أيام الملك المظفر حاجي. ثم ثقل عليه وعلى حواشيه فوشوا به وبملكتمر حتى قبض عليهما وقتلهما في يوم واحد. وكان آق سنقر أميرًا جليلًا كريمًا شجاعًا عارفًا مدبرًا. وإليه ينسب جامع آق سنقر بخط التبانة خارج القاهرة بالقرب من باب الوزير.
وتوفي الأمير سيف الدين بيدمر البدري مقتولًا بغزة في أول جمادى الآخرة وهو أيضًا أحد المماليك الناصرية وترقى إلى أن ولي نيابة حلب. وقد تقدم ذكر مقتله في ترجمة الملك المظفر حاجي.
وإليه تنسب المدرسة البيدمرية قريبًا من مشهد الحسين رضى الله عنه.
أمر النيل في هذه السنة:
***************************************************************************************
قال المقريزى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار الجزء الثالث ( 921 من 761 ) : " الجزيرة التي عرفت بحليمة: هذه الجزيرة خرجت في ستة سبع وأربعين وسبعمائة ما بين بولاق والجزيرة الوسطى مستها العامّة بحليمة ونصبوا فيها عدّة أخصاص بلغ مصروف الخص الواحد منها ثلاثة آلاف درهم نقرة في ثمن رخام ودهان فكان فيها من هذه الأخصاص عدّة وافرة وزرع حول كل خص من المقائي وغيرها ما يستحسن وأقام أهل الخلاعة والمجون هناك وتهتكوا بأنواع المحرمات وتردّد إلى هذه الجزيرة أكثر الناس حتى كادت القاهرة أن لا يثبت بها أحد وبلغ أجرة كل قصبة بالقياس في هذه الجزيرة وفي الجزيرة التي عرفت بالطمية فيما بين مصر والجيزة مبلغ عشرين درهمًا نقرة فوقف الفدّان هناك بمبلغ ثمانية آلاف درهم نقرة ونصبت في هذه الافدنة الأخصاص المذكورة وكان الانتفاع بها فيما ذكر نحو ستة أشهر من السنة فعلى ذلك يكون الفدّان فيها بمبلغ ستة عشر ألف درهم نقرة وأتلف الناس هناك من الأموال ما يجل وصفه فلما كثر تجاهرهم بالقبيح قام الأمير أرغون العلائيّ مع الملك الكامل شعبان بن محمد بن قلاون في هدم هذه الأخصاص التي بهذه الجزيرة قيامًا زائدًا حتى أذن له في ذلك فأمر والي مصر والقاهرة فنزلا على حين غفلة وكبسا الناس وأراقا الخمور وحرّقا الأخصاص فتلف للناس في النهب والحريف وغير ذلك شيء كثير إلى الغاية والنهاية
****************************************************************************
قال المقريزى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار الجزء الثالث ( 931 من 761 ) : " السلطان الملك الكامل سيف الدين شعبان: بعهد أخيه وجلس على التخت من غد فأوحش ما بينه وبين الأمراء حتى ركبوا عليه فركب لقتالهم فلم يثبت من معه وعاد إلى القلعة منهزمًا فتبعه الأمراء وخلعوه وذلك في يوم الإثنين مستهلّ جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين وسبعمائة فكانت مدّته سنة ثمانية وخمسين يومًا. فأقيم بعده أخوه.
============================================================