السلطان الظاهر بيبرس (الملك القاهر) على مصر
سلطنة الملك الظاهر بيبرس السلطان الملك القاهر ثم الظاهر ركن الدين أبو الفتوح بيبرس بن عبد الله البندقداري الصالحي النجمي الأيوبي التركي سلطان الديار المصرية والبلاد الشامية والأقطار الحجازية وهو الرابع من ملوك الترك.
مولده في حدود العشرين وستمائة بصحراء القبجاق تخمينًا والقبجاق قبيلة عظيمة في الترك وهو بكسر القاف وسكون الباء ثانية الحروف وسكون الياء المثناة من تحتها ثم فتح الباء الموحدة وسكون الراء والسين المهملتين ومعناه باللغة التركية: أمير فهد. انتهى.
قلت: أخذ بيبرس المذكور من بلاده وأبيع بدمشق للعماد الصائغ. ثم اشتراه الأمير علاء الدين أيدكين الصالحي البندقداري وبه سمي البندقداري.
قلت: والعجيب أن علاء الدين أيدكين البندقداري المذكور عاش حتى صار من جملة أمراء الظاهر بيبرس هذا.
كان الأمير علاء الدين البندقداري الصالحي لما قبض عليه وأحضر إلى حماة واعتقل بجامع قلعتها اتفق حضور ركن الدين بيبرس مع تاجر وكان الملك المنصور - يعني صاحب حماة - إذ ذاك صبيًا وكان إذا أراد شراء رقيق تبصره الصاحبة والدته فأحضر بيبرس هذا مع آخر قرأتهما من وراء الستر فأمرت بشراء خشداشه وقالت: هذا الأسمر لا يكون بينك وبينه معاملة فإن في عينيه شرًا لائحًا فردتهما جميعًا فطلب البندقداري الغلامين يعني بيبرس ورفيقه فاشتراهما وهو معتقل ثم أفرج عنه فسار إلى مصرة وآل أمر ركن الدين إلى ما آل.
وقال الذهبي: اشتراه الأمير علاء الدين البندقداري الصالحي فطلع بطلًا شجاعًا نجيبًا لا ينبغي أن يكون إلا عند ملك فأخذه الملك الصالح منه.
وقيل: بقي بيبرس المذكور في ملك البندقداري حتى صادره أستاذه الملك الصالح نجم الدين أيوب وأخذ بيبرس هذا فيما أخذه منه في المصادرة في شهر شوال سنة أربع وأربعين وستمائة. قلت: وهذا القول هو المشهور.
ولما اشتراه الملك الصالح أعتقه وجعله من جملة مماليكه وقدمه على طائفة الجمدارية لما رأى من فطنته وذكائه وحضر مع أستاذه الملك الصالح واقعة دمياط.
وقال الشيخ عز الدين عمر بن علي بن إبراهيم بن شداد: أخبرني الأمير بدر الدين بيسري الشمسي أن مولد الملك الظاهر بأرض القبجاق سنة خمس وعشرين وستمائة تقريبا.
وسبب انتقاله من وطنه إلى البلاد أن التتار لما أزمعوا على قصد بلادهم سنة تسع وثلاثين وستمائة وبلغهم ذلك كاتبوا أنس خان ملك أولاق أن يعبروا بحر سوداق إليه ليجيرهم من التتار فأجابهم إلى ذلك وأنزلهم واديا بين جبلين وكان عبورهم إليه في سنة أربعين وستمائة فلما اطمأن بهم المقام غدر بهم وشن الغارة عليهم فقتل منهم وسبى.
قال بيسري: وكنت أنا والملك الظاهر فيمن أسر قال: وكان عمره إذ ذاك أربع عشرة سنة تقديرا فبيع فيمن بيع وحمل إلى سيواس ثم افترقنا واجتمعنا في حلب في خان ابن قليج ثم افترقنا فاتفق أن حمل إلى القاهرة فبيع على الأمير علاء الدين أيدكين البندقداري وبقي في يده إلى أن انتقل عنه بالقبض عليه في جملة ما استرجعه الملك الصالح نجم الدين أيوب منه وذلك في شوال سنة أربع وأربعين وستمائة. قلت: وهذا القول مطابق لقولنا الذي ذكرناه. قال: ثم قدمه الملك الصالح على طائفة الجمدارية. انتهى.
وقال غيره: ولما مات الملك الصالح نجم الدين أيوب وملك بعده ابنه الملك المعظم توران شاه وقتل وأجمعوا على الأمير عز الدين أيبك التركماني وولوه الأتابكية ثم استقل بالملك وقتل الأمير فارس الدين أقطاي الجمدار ركب الملك الظاهر بيبرس هذا والبحرية وقصدوا قلعة الجبل فلما لم ينالوا مقصودهم خرجوا من القاهرة مجاهرين بالعداوة للملك المعز أيبك التركماني ومهاجرين إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب الشام.
وهم: الملك الظاهر بيبرس هذا وسيف الدين بلبان الرشيدي وعز الدين أزدمر السيفي وشمس الدين سنقر الرومي وشمس الدين سنقر الأشقر وبدر الدين بيسري الشمسي وسيف الدين قلاوون الألفي وسيف الدين بلبان المستعرب وغيرهم فلما شارفوا دمشق سير إليهم الملك الناصر طيب قلوبهم فبعثوا فخر الدين إياز المقرئ يستحلفه لهم فحلف الناصر لهم ودخلوا دمشق في العشر الأخير من شهر رمضان سنة اثنتين وخمسين وستمائة فأكرمهم الملك الناصر صلاح الدين وأطلق للملك الظاهر بيبرس ثلاثين ألف درهم وثلاثة قطر بغال وثلاثة قطر جمال وملبوسًا وفرق في بقية الجماعة الأموال والخلع على قدر مراتبهم.
وكتب الملك المعز أيبك إلى الملك الناصر يحذره منهم ويغريه بهم فلم يصغ إليه الناصر ودام على إحسانه إليهم.
وكان عين الناصر لبيبرس إقطاعًا بحلب فطلب الملك الظاهر بيبرس من الملك الناصر أن يعوضه عما كان له بحلب من الإقطاع بجييين وزرعين فأجابه الملك الناصر إلى ذلك فتوجه بيبرس إليها وعاد فاستشعر بيبرس من الملك الناصر بالغمر فتوجه بمن معه ومن تبعه من خشداشيته إلى الكرك واجتمعوا بصاحب الكرك الملك المغيث عمر بن العادل أبي بكر بن الكامل محمد فجهز الملك المغيث عسكره مع بيبرس المذكور وعدة من كان جهزه معه ستمائة فارس وخرج من عسكر مصر جماعة لملتقاه فأراد بيبرس كبسهم فوجدهم على أهبة ثم واقع المصريين فانكسر ولم ينج منهم إلا القليل فالذي نجا من الأعيان: بيبرس وبيليك الخازندار وأسر بلبان الرشيدي. وقد تقدم ذكر ذلك كله في ترجمة المعز مجملًا ولكن نذكره هنا مفصلًا. وعاد بيبرس هذا إلى الكرك وأقام بها فتواترت عليه كتب المصريين يحرضونه على قصد الديار المصرية وجاءه جماعة كثيرة من عسكر الملك الناصر.
فأخذ بيبرس يطمع الملك المغيث صاحب الكرك في ملك مصر ولازال به حتى ركب معه بعسكره ونزل غزة.
وندب الملك المعز أيبك عسكرًا لقتالهم وقدم على العسكر المصري مملوكه الأمير قطز والأمير أقطاي المستعرب وساروا وهرب من عسكر مصر إلى بيبرس والمغيث الأمير عز الدين أيبك الرومي والأمير بلبان الكافوري والأمير سنقر شاه العزيزي والأمير أيبك الخواشي والأمير بدر الدين برخان والأمير بغدي وأيبك الحموي وجمال الدين هارون القيمري والجميع أمراء واجتمعوا الجميع مع بيبرس والملك المغيث بغزة فقويت شوكتهما بهؤلاء.
وساروا الجميع إلى الصالحية ولقوا عسكر مصر يوم الثلاثاء رابع عشر شهر ربيع الآخر سنة ست وخمسين فاستظهر عسكر بيبرس والمغيث أولًا ثم عادت الكسرة عليهم لثبات قطز المعزي وهرب الملك المغيث ولحقه بيبرس وأسر من عسكر بيبرس عز الدين أيبك الرومي وركن الدين منكورس الصيرفي وبلبان الكافوري وعز الدين أيبك الحموي وبدر الدين بلغان الأشرفي وجمال الدين هارون القيمري وسنقر شاه العزيزي وبهاء الدين أيدغدي الإسكندراني وبدر الدين برخان وبغدي وبيليك الخازندار الظاهري فضربت أعناق الجميع صبرًا ما خلا الخازندار فإن جمال الدين الجوكنداري شفع فيه وخيروه بين المقام والذهاب فاختار الذهاب إلى أستاذه فأطلق وتوجه إلى أستاذه ولما أن وصل الملك المغيث إلى الكرك حصل بينه وبين ركن الدين بيبرس هذا وحشة وأراد المغيث القبض عليه بعد أمور صدرت فأحس بيبرس بذلك وهرب وعاد إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب الشام بعد أن استحلفه على أن يعطيه خبز مائة فارس من جملتها قصبة نابلس وجينين وزرعين فأجاب إلى نابلس لا غير.
وكان قدومه على الناصر في شهر رجب سنة سبع وخمسين وستمائة ومعه الجماعة الذين حلف لهم الملك الناصر أيضًا وهم: بيسرى الشمسي وأيتمش السعدي وطيبرس الوزيري وآقوش الرومي الدوادار وكشتغدي الشمسي ولاجين الدرفيل وأيدغمش الحلبي وكشتغدي الشرفي وأيبك الشيخي وبيبرس خاص ترك الصغير وبلبان المهراني وسنجر الباشقردي وسنجر الهمامي وأرسلان الناصري ويكنى الخوارزمي وسيف الدين طمان الشقيري وأيبك العلائي ولاجين الشقيري وبلبان الأقسيسي وعلم الدين سلطان الإلدكزي فأكرمهم الملك الناصر ووفى لهم بما حلف.
وداموا على ذلك حتى قبض الأمير قطز على ابن أستاذه الملك المنصور علي وتسلطن وتلقب بالملك المظفر قطز شرع بيبرس يحرض الملك الناصر على التوجه إلى الديار المصرية ليملكها فلم يجبه فكلمه بيبرس في أن يقدمه على أربعة آلاف فارس أو يقدم عليهم غيره ويتوجه بها إلى شط الفرات يمنع التتار من العبور إلى الشام فلم يمكنه ابن عمه الملك الصالح إسماعيل لباطن كان له مع التتار قاتله الله! فاستمر بيبرس عند الناصر إلى سنة ثمان وخمسين فارقه بمن معه وقصد الشهرزورية وتزوج منهم ثم أرسل إلى الملك المظفر قطز من استحلفه له فحلف قطز.
ودخل بيبرس إلى القاهرة في يوم السبت الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ثمان وخمسين فركب الملك المظفر قطز للقائه وأنزله في دار الوزارة وأقطعه قصبة قليوب.
فلم تطل مدته بالقاهرة وتهيأ الملك المظفر قطز لقتال التتار وسير بيبرس هذا في عسكر أمامه كالجاليش ليتجسس أخبار التتار فكان أول ما وقعت عينه عليهم ناوشهم بالقتال.
فلما انقضت الوقعة بعين جالوت تبعهم بيبرس هذا يقتل من وجده منهم إلى حمص ثم عاد فوافى الملك المظفر قطز بدمشق وكان وعده بنيابة حلب فأعطاها قطز لصاحب الموصل فحقد عليه بيبرس في الباطن واتفق على قتله مع جماعة لما عاد الملك المظفر إلى نحو الديار المصرية.
والذين اتفقوا معه: بلبان الرشيدي وبهادر المعزي وبكتوت الجوكندار المعزي وبيدغان الركني وبلبان الهاروني وأنص الأصبهاني واتفقوا الجميع مع بيبرس على قتل الملك المظفر قطز وساروا معه نحو الديار المصرية إلى أن وصل الملك المظفر قطز إلى القصير وبقي بينه وبين الصالحية مرحلة ورحل العسكر طالبًا الصالحية وضرب دهليز السلطان بها.
واتفق عند القصير أن ثارت أرنب فساق المظفر قطز وساق هؤلاء المتفقون على قتله معه فلما أبعدوا ولم يبق مع المظفر غيرهم تقدم إليه ركن الدين بيبرس وشفع عنده في إنسان فأجابه المظفر فأهوى بيبرس ليقبل يده فقبض عليها وحمل أنص عليه وقد أشغل بيبرس يده وضربه أنص بالسيف وحمل الباقون عليه ورموه عن فرسه ورشقوه بالنشاب إلى أن مات ثم حملوا على العسكر وهم شاهرون سيوفهم حتى وصلوا إلى الدهليز السلطاني فنزلوا ودخلوه والأتابك على باب الدهليز فأخبروه بما فعلوا فقال فارس الدين الأتابك: من قتله منكم فقال بيبرس: أنا فقال: يا خوند اجلس في مرتبة السلطنة فجلس واستدعيت العساكر للحلف وكان القاضي برهان الدين قد وصل إلى العسكر متلقيا للملك المظفر قطز فاستدعي وحلف العسكر للملك الظاهر بيبرس وتم أمره في السلطنة وأطاعته العساكر ثم ركب وساق في جماعة من أصحابه حتى وصل إلى قلعة الجبل فدخلها من غير ممانع واستقر ملكه. وكانت البلد قد زينت للملك المظفر فاستمرت الزينة.
وكان الذي ركب معه من الصالحية إلى القلعة وهم خواصه من خشداشيته وهم: فارس الدين الأتابك وبيسرى وقلاوون الألفي وبيليك الخازندار وبلبان الرشيدي ثم في يوم الأحد سابع عشر ذي القعدة وهو صبيحة قتل المظفر قطز وهو أول يوم من سلطنة الظاهر بيبرس جلس بالإيوان من قلعة الجبل. قلت: ولم يذكر أحد من المؤرخين لبسه خلعة السلطنة الخليفتي ولعله اكتفى بالمبايعة والحلف. انتهى.
ولما جلس الظاهر بالإيوان رسم أن يكتب إلى الأقطار بسلطنته فأول من بدأ به الملك الأشرف صاحب حمص ثم الملك المنصور صاحب حماة ثم الأمير مظفر الدين صاحب صهيون ثم إلى الإسماعيلية ثم إلى الملك السعيد المظفر علاء الدين علي بن لؤلؤ صاحب الموصل الذي صار نائب السلطنة بحلب ثم إلى من في بلاد الشام يعرفهم بما جرى.
ثم أفرج عمن بالحبوس من أصحاب الجرائم وأقر الصاحب زين الدين يعقوب بن الزبير على الوزارة وتقدم بالإفراج عن الأجناد المحبوسين والإنعام عليهم وزيادة من رأى استحقاقه من الأمراء وخلع عليهم وسير الأمير جمال الدين آقوش المحمدي بتواقيع للأمير سنجر الحلبي نائب دمشق فتوجه إليه فوجده قد تسلطن بدمشق ودعا لنفسه وحلف الأمراء وتلقب بالملك المجاهد فعظم ذلك على الملك الظاهر بيبرس وأخذ في إصلاح أمره معه والإحسان إلى خشداشيته البحرية الصالحية وأمر أعيانهم.
ثم إنه أخرج الملك المنصور نور الدين عليًا ابن الملك المعز أيبك التركماني وأمه وأخاه ناصر الدين قاقان من مصر إلى بلاد الأشكري وكانوا معتقلين بقلعة الجبل.
وكان بيبرس لما تسلطن لقب نفسه الملك القاهر فقال الوزير زين الدين يعقوب بن الزبير وكان فاضلًا في الأدب والترسل وعلم التاريخ فأشار بتغيير هذا اللقب وقال: ما لقب به أحد فأفلح: لقب به القاهر ابن المعتضد فلم تطل مدته وخلع من الخلافة وسمل ولقب به القاهر ابن صاحب الموصل فسم فأبطل بيبرس اللقب الأول وتلقب بالملك الظاهر.
وأما أمر دمشق ففي العشر الأخير من ذي القعدة أمر الأمير عليم الدين سنجر الحلبي الذي تسلطن بدمشق بتجديد عمارة قلعة دمشق وزفت بالمغاني والطبول والبوقات وفرحت أهل دمشق بذلك وحضر كبراء الدولة وخلع على الصناع والنقباء وعمل الناس في البناء حتى النساء وكان يوم الشروع في تجديدها يوما مشهودًا.
ثم في اليوم الأول من العشر الأول من ذي الحجة دعا الأمير علم الدين سنجر الحلبي الناس بدمشق إلى الحلف له بالسلطنة فأجابوه وحضر الجند والأكابر وحلفوا له ولقب بالملك المجاهد وخطب له على المنابر وضربت السكة باسمه وكاتب الملك المنصور صاحب حماة ليحلف له فامتنع وقال: أنا مع من يملك الديار المصرية كائنًا من كان.
ولما صح عند التتار قتل الملك المظفر قطز - رحمه الله تعالى - وكان النائب ابن صاحب الموصل أساء السيرة في الجند والرعية فاجتمع رأي الأمراء والجند بحلب على قبضه وإخراجه من حلب وتحالفوا على ذلك وعينوا للقيام بالأمر الأمير حسام الدين الجوكنداري العزيزي فبينما هم على ذلك وردت عليهم بطاقة نائب البيرة يحبر أن التتار قاربوا البيرة لمحاصرتها واستصرخ بهم لينجدوه بعسكر.
وكان التتار قد هدموا أبراج البيرة وأسوارها وهي مكشوفة من جميع جهاتها فجرد الملك السعيد ابن صاحب الموصل الذي هو نائب حلب عسكره إليها وقدم عليهم الأمير سابق الدين أمير مجلس الناصري فحضر الأمراء عنده وقالوا له: هذا العسكر الذي جردته لا يمكنه رد العدو ونخاف أن يحصل النشوب بيننا وبين العدو وعسكرنا قليل فيصل العدو إلى حلب ويكون ذلك سببا لخروجنا منها فلم يقبل منهم فخرجوا من عنده وهم غضبانون وسار العسكر المذكور إلى البيرة في قلة.
فلما وصلوا إلى عمق البيرة صادفوا التتار بجموعهم فاقتتلوا قتالًا شديدًا وقصد سابق الدين البيرة فتبعه التتار وقتلوا من أصحابه جماعة كثيرة وما سلم منهم إلا القليل وورد هذا الخبر لحلب فجفل أهل حلب إلى جهة القبلة ولم يبق بها إلا القليل.
وندم الملك السعيد نائب حلب على مخالفة الأمراء وقوي بذلك غضبهم عليه وقاطعوه.
ووقعت بطاقة نائب البيرة فيها أن التتار توجهوا إلى ناحية منبج فخرج نائب حلب وضرب دهليزه بباب إله شرقي حلب.
وبعد يومين وصل الأمير عز الدين أزدمر الدوادار الغزيزي وكان قطز قد جعله نائبا باللاذقية وجبلة فقصده خشداشيته بحلب فلما قرب ركبت العزيزية والناصرية والتقوا به فأخبرهم بأن الملك المظفر قطز قتل وأن ركن الدين بيبرس ملك الديار المصرية وأن سنجر الحلبي خطب لنفسه بدمشق ونحن أيضا نعمل بعمل أولئك ونقيم واحدا من الجماعة ونقبض على هذا - يعني على نائب حلب - ونقتصر على حلب وبلادها مملكة أستاذنا وابن أستاذنا فأجابوه إلى ذلك وتقرر بينهم أنه حال دخولهم إلى المخيم يمضي إليه الأمراء: حسام الدين الجوكنداري وبكتمرالساقي وأزدمر الدوادار وكان الملك السعيد نائب حلب نازلًا بباب لا في بيت القاضي وهو فوق سطحه والعساكر حوله فعندما طلعوا إليه وحضروا عنده على السطح شرعت أعوانهم في نهب وطاقه فسمع الضجة فاعتقد أن التتار قد كبست العسكر تم شاهد لهب العزيرية والناصرية لوطاقه ووثب الأمراء الذين عنده ليقبضوا عليه فطلب منهم الأمان على نفسه فأمنوه وشرطوا عليه أن يسلم إليهم جميع ما حصله من الأموال.
ثم نزلوا به إلى الدار وقصدوا الخزانة فما وجدوا فيها طائلا فهددوه وقالوا له: أين الأموال التي حصلتها وطلبوا قتله فقام إلى ساحة بستان في الدار المذكورة وحفر وأخرج الأموال وهي تزيد على أربعين ألف دينار ففرقت على الأمراء على قدر منازلهم.
ثم رسموا عليه جماعة من الجند وسيروه إلى قلعة حبسوه بها.
ثم بعد أيام قلائل دهم العدو حلب فاندفع الأمير حسام الدين الخوكنداري المقدم على عسكر حلب بمن معه إلى جهة دمشق ودخلت التتار حلب وأخرجوا من كان فيها إلى ظاهر حلب ووضعوا السيف فيهم فقتل بعضهم وفر بعضهم.
ونزل العسكر الحلبي بظاهر حماة فقام الملك المنصور بضيافتهم ثم تقدم التتار إلى حماة فلما قاربوا منها رحل صاحبها الملك المنصور ومعه الجوكنداري بعساكر حلب إلى حمص ونزل التتار على حماة فامتنعت عليهم فاندفعوا من حماة طالبين العسكر وجفل الناس بين أيديهم وخاف أهل دمشق خوفًا شديدًا وأقاموا الجميع على حمص حتى قدم إليهم التتار في أوائل المحرم من سنة تسع وخمسين وستمائة وكانوا في ستة آلاف فارس فخرج إليهم الملك المنصور صاحب حماة والأشرف صاحب حمص والجوكنداري العزيزي بعساكر حلب وحملوا عليهم حملة رجل واحد فهزموهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وهرب الأمير بيدرا مقدم التتار في نفر يسير وكانت الوقعة عند قبر خالد بن الوليد - رضي الله عنه - ثم عاد التتار إلى حلب وفعلوا بأهلها تلك الأفعال القبيحة على عادتهم.
وأما الملك الظاهر بيبرس صاحب الترجمة فإنه كاتب أمراء دمشق يستميلهم إليه ويحضهم على منابذة الأمير علم الدين سنجر الحلبي والقبض عليه فأجابوه إلى ذلك وخرجوا من دمشق منابذين لسنجر وفيهم: الأمير علاء الدين أيدكين البندقداري - أعني أستاذ الملك الظاهر بيبرس المذكور - الذي قدمنا من ذكره أن الملك الصالح نجم الدين أيوب اشتراه منه. انتهى.
والأمير بهاء الدين بغدي فتبعهم الحلبي بمن بقي معه من أصحابه فحاربوه فهزموه وألجؤوه إلى قلعة دمشق فأغلقها دونهم وذلك في يوم السبت حادي عشر صفر من السنة.
ثم خرج الأمير علم الدين سنجر الحلبي تلك الليلة من القلعة وقصد بعلبك فدخل قلعتها ومعه قريب عشرين نفرًا من مماليكه فدخل الأمير علاء الدين أيدكين البندقداري دمشق واستولى عليها وحكم فيها نيابة عن الملك الظاهر بيبرس ثم جهز عسكرًا إلى بعلبك لحصار الحلبي وعليهم الأمير بدر الدين محمد بن رحال وكان من الشجعان وأمير آخر فحال وصولهما إلى بعلبك دخلا المدينة ونزلا بالمدرسة النورية.
وكان الحلبي لما وصلها جعل عنده طائفة كبيرة من أهل محله مقدمهم علي بن عبور فسير إليهم الأمير بدر الدين بن رحال وأفسدهم فتدلوا من القلعة ليلًا ونزلوا إليه فعند ذلك ترددت المراسلات بين الحلبي وعلاء الدين البندقداري حتى استقر الحال على نزول الحلبي وتوجهه إلى الملك الظاهر بيبرس بمصر فخرج الحلبي من قلعة بعلبك راكبا في وسطه عدته وفي قرابه قوسان وهو كالأسد فجاء حتى بعد عن القلعة قدم له بغلة فتحول إليها وقلع العدة وركبها وسار حتى وصل إلى دمشق وسار منها إلى مصر فأدخل على الملك ليلًا بقلعة الجبل فقام إليه واعتنقه وأدنى مجلسه منه وعاتبه عتابًا لطيفًا ثم خلع عليه ورسم له بخيل وبغال وجمال وقماش وغير ذلك.
ثم التفت الملك الظاهر إلى إصلاح مملكته خلع على الصاحب بهاء الدين علي بن حنا وزير شجرة الدر بالوزارة وذلك في شهر ربيع الأول من سنة تسع وخمسين وهي أول ولايته للوزر. ثم حضر عند الظاهر شخص وأنهى إليه أن الأمير عز الدين الصقلي يريد الوثوب على السلطان واتفق معه الأمير علم الدين سنجر الغتمي وبهادر المعزي والشجاع بكتوت فقبض الملك الظاهر عليهم. ثم تسلم الملك الظاهر الكرك من نواب الملك المغيث في هذه السنة.
ثم قبض على الأمير بهاء الدين بغدي الأشرفي وحمل إلى القاهرة وحبس بقلعة الجبل إلى أن مات.
ثم جهز الملك الظاهر عسكرا لخروج التتار من حلب فساروا إليها وأخرجوهم منها على أقبح وجه كل ذلك والدنيا بلا خليفة من سنة ست وخمسين وستمائة.
خليفة عباسى بالأسم فقط الخليفة رقم 38 فى بنى العباس
ففي هذه السنة كان وصول المستنصر بالله الخليفة إلى مصر وبايعه الملك الظاهر بيبرس وهو أبو القاسم أحمد كان محبوسا ببغداد مع جماعة من بني العباس في حبس الخليفة المستعصم فلما ملكت التتار بغداد أطلقوهم فخرج المستنصر هذا إلى عرب العراق واختلط بهم إلى أن سمع بسلطنة الملك الظاهر بيبرس وفد عليه مع جماعة من بني مهارش وهم عشرة أمراء مقدمهم ابن قسا وشرف اللين ابن مهنا وكان وصول المستنصر إلى القاهرة في ثامن شهر رجب من سنة تسع وخمسين وستمائة فركب السلطان للقائه ومعه الوزير بهاء الدين بن حنا وقاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز والشهود والرؤساء والقراء والمؤذنون واليهود بالتوراة والنصارى بالإنجيل في يوم الخميس فدخل من باب النصر وشق القاهرة وكان لدخوله يوم مشهود.
فلما كان يوم الاثنين ثالث عشر الشهر جلس السلطان الملك الظاهر والخليفة بالإيوان وأعيان الدولة بأجمعهم وقرئ نسب الخليفة وشهد عند القاضي بصحته فأسجل عليه بذلك وحكم به وبويع بالخلافة. وركب من يومه وشق القاهرة في وجوه الدولة وأعيانها. وكان أول من بايعه قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز عندما ثبت نسبه عنده ثم السلطان ثم الشيخ عز الدين بن عبد السلام ثم الأمراء والوزراء على مراتبهم.
والمستنصر هذا هو الثامن والثلاثون من خلفاء بني العباس - رضي الله عنهم - وهو المستنصر بالله أبو القاسم أحمد الأسمر بن الظاهر بأمر الله محمد بن الناصر لدين الله أحمد بن المستضيء الحسن ابن الخليفة المستنجد بالله يوسف ابن الخليفة المقتفي لأمر الله محمد ابن الخليفة المستظهر بالله أحمد ابن الخليفة المقتدي بأمر الله عبد الله ابن الأمير محمد الذخيرة ابن الخليفة القائم بأمر الله عبد الله ابن الخليفة القادر بالله أحمد ابن الأمير إسحاق ابن الخليفة المقتدر بالله جعفر ابن الخليفة المعتضد بالله أحمد ابن الأمير طلحة الموفق ابن الخليفة المتوكل على الله جعفر ابن الخليفة المعتصم بالله محمد ابن الخليفة الرشيد هارون ابن الخليفة المهدي محمد ابن الخليفة أبي جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي العباسي البغدادي.
وقد تقدم أن الناس كانوا بغير خليفة منذ قتل التتار ابن أخيه الخليفة المستعصم بالله في أوائل سنة ست وخمسين وستمائة إلى يومنا هذا فكانت مدة شغور الخلافة ثلاث سنين ونصفا والناس بلا خليفة.
وكان المستنصر هذا جسيمًا وسيمًا شديد السمرة عالي الهمة شديد القوة وعنده شجاعة وإقدام وهو أخو الخليفة المستنصر ولقب بلقبه وهذا لم تجر به العادة من أن خليفة يلقب بلقب خليفة تقدمه من أهل بيت
وفي يوم الجمعة سابع عشر الشهر خرج الخليفة المستنصر بالله وعليه ثياب سود إلى الجامع بالقلعة وخطب خطبة بليغة ذكر فيها شرف بني العباس ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم في مستهل شعبان من سنة تسع وخمسين المذكورة تقدم الخليفة بتفصيل خلعة سوداء وبعمل طوق ذهب وقيد ذهب وبكتابة تقليد بالسلطنة للملك الظاهر بيبرس ونصب خيمة ظاهر القاهرة.
فلما كان يوم الاثنين رابعه ركب الخليفة والسلطان والوزير والقضاة والأمراء ووجوه الدولة إلى الخيمة ظاهر القاهرة بقبة النصر فألبس الخليفة السلطان الملك الظاهر بيبرس خلعة السلطنة بيده وطوقه وقيده وصعد فخر الدين إبراهيم بن لقمان رئيس الكتاب منبرًا نصب له فقرأ التقليد وهو من إنشائه وبخطه.
ثم ركب السلطان بالخلعة والطوق والقيد ودخل من باب النصر وقد زينت القاهرة له وحمل الصاحب بهاء الدين بن حنا التقليد على رأسه راكبا والأمراء يمشون بين يديه فكان يومًا يقصر اللسان عن وصفه.
ونسخة التقليد: الحمد لله الذي أضفى على الإسلام ملابس الشرف وأظهر بهجة درره وكانت خافية بما استحكم عليها من الصدف وشيد ما وهي من علائه حتى أنسى ذكر من سلف وقيض لنصره ملوكا اتفق عليهم من اختلف.
أحمده على نعمته التي رتعت الأعين منها في الروض الأنف وألطافه التي وقف الشكر عليها فليس له عنها منصرف وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة توجب من المخاوف أمنًا وتسهل من الأمور ما كان حزنًا وأشهد أن محمدًا عبده الذي جبر من الدين وهنا ورسوله الذي أظهر من المكارم فنونًا لا فنا صلى الله عليه وسلم وعلى آله الذين أصبحت مناقبهم باقية لا تفنى وأصحابه الذين أحسنوا في الدين فاستحقوا الزيادة بالحسنى.
وبعد: فإن أولى الأولياء بتقديم ذكره وأحقهم أن يصبح القلم راكعًا وساجدًا في تسطير مناقبه وبره من سعى فأضحى سعيد الجد متقدما ودعا إلى طاعته فأجاب من كان منجدًا ومتهمًا وما بدت يد في المكرمات إلا كان لها زندًا ومعصمًا ولا استباح بسيفه حمى وغى إلا أضرم منه نارًا وأجراه دمًا.
ولما كانت هذه المناقب الشريفة مختصة بالمقام العالي المولوي السلطاني الملكي الظاهري الركني - شرفه الله وأعلاه - ذكرها الديوان العزيز النبوي الإمامي المستنصري - أعز الله سلطانه - تنويهًا بشريف قدره واعترافًا بصنعه الذي تنفد العبارة المسهبة ولا تقوم بشكره وكيف لا وقد أقام الدولة العباسية بعد أن أقعدتها زمانة الزمان وأذهبت ما كان لها من محاسن وإحسان وعتب دهرها المسيء لها فأعتب وأرضى عنها زمنها وقد كان صال عليها صوله مغضب فأعاده لها سلمًا بعد أن كان عليها حربا وصرف إليها اهتمامه فرجع كل متضايق من أمورها واسعًا رحبًا ومنح أمير المؤمنين عند القدوم عليه حنوًا وعطفًا وأظهر من الولاء رغبة في ثواب الله ما لا يخفى وأبدى من الاهتمام بأمر البيعة أمرًا لو رامه غيره لامتنع عليه ولو تمسك بحبله متمسك لانقطع به قبل الوصول إليه ولكن الله ادخر هذه الحسنة ليثقل بها في الميزان ثوابه ويخفف بها يوم القيامة حسابه والسعيد من خفف حسابه! فهذه منقبة أبى الله إلا أن يخلدها في صحيفة صنعه ومكرمة قضت لهذا البيت الشريف بجمعه بعد أن حصل الإياس من جمعه.
وأمير المؤمنين يشكر لك هذه الصنائع ويعترف أنه لولا اهتمامك لاتسع الخرق على الراقع وقد قلدك الديار المصرية والبلاد الشامية والديار البكرية والحجازية واليمنية والفراتية وما يتجدد من الفتوحات غورًا ونجدًا وفوض أمر جندها ورعاياها إليك حين أصبحت بالمكارم فردًا. ثم أخذ في آخر التقليد يذكر فضل الجهاد والرفق بالرعية وطول في الكلام إلى الغاية.
ثم إن الملك الظاهر ولى الأمير علم الدين سنجر الحلبي نيابة حلب لما بلغه أن البرنلي تغلب على حلب وسير معه عسكرا فسار إليها الأمير علم الدين سنجر الحلبي ودخل إليها وملكها وخرج منها البرنلي وتوجه إلى الرقة ثم حشد وجمع العساكر وأخذ البيرة ثم عاد إلى حلب وأخرج منها الحلبي بعد أمور ووقائع جرت بينهم.
فلما بلغ الملك الظاهر ذلك عزم على التوجه إلى البلاد الشامية وبرز من القاهرة ومعه الخليفة المستنصر وأولاد صاحب الموصل وكان خروجهم الجميع من القاهرة في تاسع عشر شهر رمضان بعد أن رتب السلطان الأمير عز الدين أيدمر الحلبي نائب السلطنة بقلعة الجبل والصاحب بهاء الدين بن حنا مدبر الأمور وخرج مع السلطان العساكر المصرية وأقام ببركة الجب إلى عيد الفطر ثم سافر في ثالث شوال بعد ما عزل قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز عن القضاء ببرهان الدين خضر السنجاري. وسار السلطان حتى دخل دمشق في يوم الاثنين سابع ذي القعدة.
وقدم عليه الملك الأشرف صاحب حمص فخلع عليه وأعطاه ثمانين ألف دينار وحملين ثيابًا وزاده على ما بيده من البلاد تل باشر ثم قدم عليه الملك المنصور صاحب حماة فخلع عليه وأعطاه ثمانين ألف درهم وحملين ثيابًا وكتب له توقيعا ببلاده التي بيده.
ثم جهز السلطان الخليفة وأولاد صاحب الموصل صحبته بتجمل زائد وبرك يضاهي برك السلطان من الأطلاب والخيول والجمال وأرباب الوظائف من الكبير إلى الصغير قيل: إن الذي غرمه السلطان الملك الظاهر على تجهيز الخليفة وأولاد صاحب الموصل فوق الألف ألف دينار عينًا.
ثم جهز السلطان الأمير علاء الدين أيدكين البندقداري لنيابة السلطنة بحلب وأيدكين هذا هو أستاذ الملك الظاهر بيبرس صاحب الترجمة المقدم ذكره فسبحان من يعز ويذل! وبعث السلطان مع البندقداري عسكرًا لمحاربة البرنلي وصحبته أيضًا الأمير بلبان الرشيدي فخرجا من دمشق في منتصف ذي القعدة فلما وصلا حماة خرج البرنلي وقصد حران فتبعه الرشيدي بالعساكر ودخل علاء الدين البندقداري إلى حلب ثم عاد الرشيدي إلى أنطاكية ثم رحل عنها بعد ما حاصرها مدة لما بلغه عود الملك الظاهر إلى مصر.
وأما الخليفة فإنه لما توجه نحو العراق ومعه أولاد صاحب الموصل وهم: الملك الصالح وولده علاء الدين والملك المجاهد سيف الدين صاحب الجزيرة والملك المظفر علاء الدين صاحب سنجار والملك الكامل ناصر الدين محمد فلما وصلوا صحبة الخليفة إلى الرحبة وافوا عليها الأمير يزيد بن علي بن حديثة أمير آل فضل وأخاه الأخرس في أربعمائة فارس من العرب.
وفارق الخليفة أولاد صاحب الموصل من الرحبة وكان الخليفة طلب منهم المسير معه فأبوا وقالوا: ما معنا مرسوم بذلك وأرسلوا معه من مماليك والدهم نحو ستين نفرا فانضافوا إليه ولحقهم الأمير عز الدين أيدكين من حماة ومعه ثلاثون فارسًا. ورحل الخليفة بمن معه من الرحبة بعدما أقام بها ثلاثة أيام ونزل مشهد علي ثم رحل إلى قائم عنقة ثم إلى عانة فوافوا الإمام الحاكم بأمر الله العباسي على عانة من ناحية الشرق ومعه نحو سبعمائة فارس من التركمان.
وكان البرنلي قد جهزه من حلب فبعث الخليفة المستنصر بالله إليهم واستمالهم فلما جاوزوا الفرات فارقوا الحاكم فبعث إليه المستنصر بالله يطلبه إليه ويؤمنه على نفسه ويرغب إليه في اجتماع الكلمة فأجاب ورحل إليه فوفى إليه المستنصر وأنزله معه في الدهليز.
وكان الحاكم لما نزل على عانة امتنع أهلها منه وقالوا: قد بايع الملك الظاهر خليفة وهو واصل فما نسلمها إلا إليه فلما وصل المستنصر بالله إليها نزل إليه نائبها وكريم الدين ناظرها وسلماها إليه وحملا له إقامة فأقطعها الخليفة للأمير ناصر الدين أغلمش أخي الأمير علم الدين سنجر الحلبي.
ثم رحل الخليفة عنها إلى الحديثة ففتحها أهلها له فجعلها خاصًا له ثم رحل عنها ونزل على شط قرية الناووسة ثم رحل عنها قاصدا هيت.
ولما اتصل مجيء الخليفة المستنصر بالله بقرابغا مقدم عسكر التتار بالعراق وبهادر علي الخوارزمي شحنة بغداد وخرج قرابغا بخمسة آلاف فارس من التتار على الشط العراقي وقصد الأنبار فدخلها إغارة وقتل جميع من فيها ثم ردفه الأمير بهادر علي الخوارزمي بمن بقي ببغداد من عساكر التتار وكان قد بعث ولده إلى هيت متشوقًا لما يرد من أخبار المستنصر وقرر معه أنه إذا اتصل به خبره بعث بالمراكب إلى الشط الآخر وأحرقها فلما وصل الخليفة هيت أغلق أهلها الباب دونه فنزل عليها وحاصرها حتى فتحها ودخلها في التاسع والعشرين من ذي الحجة ونهب من فيها من اليهود والنصارى ثم رحل عنها ونزل الحور وبعث طليعة من عسكره مقدمها الأمير أسد الدين محمود ابن الملك المفضل موسى فبات تجاه الأنبار تلك الليلة وهي ليلة الأحد ثالث المحرم من سنة ستين وستمائة فلما رأى قرابغا الطليعة أمر من معه من العساكر بالعبور إليها في المخائض والمراكب ليلًا فلما أسفر الصبح أفرد قرابغا من معه من عسكر بغداد ناحية.
وأما الخليفة فإنه رتب اثني عشر طلبا وجعل التركمان والعربان ميمنة وميسرة وباقي العساكر قلبًا ثم حمل بنفسه مبادرًا وحمل من كان معه في القلب فانكسر بهادر ووقع معظم عسكره في الفرات ثم خرج كمين من التتار فلما رآه التركمان والعرب هربوا وأحاط الكمين بعسكر الخليفة فصدق المسلمون الحملة فأفرج لهم التتار فنجا الحاكم وشرف الدين ابن مهنا وناصر الدين ابن صيرم وبوزنا وسيف الدين بلبان الشمسي وأسد الدين محمود وجماعة من الجند نحو الخمسين نفرا وقتل الشريف نجم الدين جعفر أستادار الخليفة وفتح الدين ابن الشهاب أحمد وفارس الدين أحمد بن أزدمر اليغموري ولم يوقع للخليفة المستنصر على خبر فقيل إنه قتل في الوقعة وعفي أثره وقيل إنه نجا مجروحًا في طائفة من العرب فمات عندهم وقيل سلم وأضمرته البلاد .
وأما السلطان الملك الظاهر بيبرس فإنه لما عاد إلى مصر عاد بعده بلبان الرشيدي في أثره وعاد البرنلي إلى حلب ودخلها وملكها فجرد إليه الملك الظاهر عسكرًا ثانيًا عليهم الأمير شمس الدين سنقر الرومي وأمره بالمسير إلى حلب ثم إلى الموصل وكتب إلى الأمير علاء الدين طيبرس نائب السلطنة بدمشق وإلى الأمير علاء الدين أيدكين البندقداري يأمرهما أن يكونا معه بعسكرهما حيث توجه يتوجه الجميع فسار الجميع إلى جهة حلب فخرج البرنلي من حلب وتسلم نواب أيدكين البندقداري حلب.
ثم جاء مرسوم السلطان بتوجه البندقداري إلى حلب ويعود طيبرس إلى دمشق ويعود سنقر الرومي إلى مصر فعاد الرومي إلى القاهرة. فلما اجتمع بالسلطان أوغر خاطره على طيبرس فكان ذلك سببا للقبض على طيبرس المذكور وحبسه بالقاهرة مدة سنين.
ثم وصل إلى الديار المصرية في السابع والعشرين من شهر ربيع الآخر الإمام الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد ابن الأمير أبي علي الحسن ابن الأمير أبي بكر بن الحسن بن علي القبي ابن الخليفة المسترشد بالله أبي منصور الفضل ابن الخليفة المستظهر بالله أحمد العباسي. قلت: ومن المستظهر يعرف نسبه من ترجمة المستنصر وغيره من أقاربه إلى العباس.
ووصل صحبته شمس الدين صالح بن محمد بن أبي الرشيد الأسدي الحاكمي المعروف ابن البناء وأخوه محمد ونجم الدين محمد واحتفل الملك الظاهر بيبرس بلقائه وأنزله بالبرج الكبير داخل قلعة الجبل ورتب له ما يحتاج إليه ووصل معه ولده.
وبايعه بالخلافة في يوم الخميس تاسع المحرم من سنة إحدى وستين بقلعة الجبل.وكانت المسلمون بلا خليفة منذ استشهد الخليفة المستنصر بالله في أوائل السنة الحالية.
وجلس السلطان بالإيوان لبيعته وحضر القضاة والأعيان وأرباب الدولة وقرئ نسبه على قاضي القضاة وشهد عنده جماعة بذلك فأثبته ومد يده وبايعه بالخلافة ثم بايعه السلطان ثم الوزير ثم الأعيان على طبقاتهم وخطب له على المنابر وكتب السلطان إلى الأقطار بذلك وأن يخطبوا باسمه وأنزل إلى مناظر الكبش فسكن بها إلى أن مات في ليلة الجمعة ثامن عشر جمادى الأولى سنة إحدى وسبعمائة ودفن بجوار السيدة نفيسة وهو أول خليفة مات بالقاهرة من بني العباس حسب ما يأتي ذكره - إن شاء الله تعالى - في محله بأوسع من هذا.
وأما الملك الظاهر فإنه تجهز للسفر إلى البلاد الشامية وخرج من الديار المصرية في يوم السبت سابع شهر ربيع الآخر من سنة إحدى وستين وستمائة.
وفي هذه السفرة قبض على الملك المغيث صاحب الكرك الذي كان معه تلك الأيام على قتال المصريين وغيرهم ولما قبض عليه الظاهر بعث به إلى قلعة الجبل صحبة الأمير آق سنقر الفارقاني فوصل به إلى القاهرة في يوم الأحد خامس عشر جمادى الآخرة فكان ذلك آخر العهد به.
ثم عاد الملك الظاهر إلى الديار المصرية في يوم السبت سادس عشر شهر رجب. ولما دخل إلى القاهرة قبض على الأمير بلبان الرشيدي وأيبك الدمياطي وآقوش البرنلي.
ثم في هذه السنة شرع الملك الظاهر في عمارة المدرسة الظاهرية ببين القصرين وتمت في أوائل سنة اثنتين وستين وستمائة. ورتب في تدريس الإيوان القبلي القاضي تقي الدين محمد بن الحسين بن رزين الشافعي وفي تدريس الإيوان الذي يواجهه القاضي مجد الدين عبد الرحمن بن العديم والحافظ شرف الدين الدمياطي لتدريس الحديث في الإيوان الشرقي والشيخ كمال الدين المحلي في الإيوان الذي يقابله لإقراء القران بالروايات والطرق ثم رتب جماعة يقرؤون السبع بهذا الإيوان أيضًا بعد صلاة الصبح ووقف بها خزانة كتب وبنى إلى جانبها مكتبًا لتعليم الأيتام أجرى عليهم الخبز في كل يوم وكسوة الفصلين وسقاية تعين على الطهارة وجلس للتدريس بهذه المدرسة يوم الأحد ثالث عشر صفر من سنة اثنين وستين وحضر الصاحب بهاء الدين بن حنا والأمير جمال الدين بن يغمور والأمير جمال الدين أيدغدي العزيزي وغيرهم من الأعيان. وفي سنة إحدى وستين أيضا تسلم الأمير بيليك العلائي حمص بعد وفاة صاحبها الملك الأشرف الأيوبي.
ثم أمر الملك الظاهر أيضا بإنشاء خان في القدس الشريف للسبيل وفوض بناءه ونظره إلى الأمير جمال الدين محمد بن بهادر ولما تم الخان المذكور أوقف عليه قيراطا ونصفا بالمطر وثلث وربع قرية المشيرفة من بلد بصرى ونصف قرية لبنى يصرف ريع ذلك في خبز وفلوس وإصلاح نعال من يرد عليه من المسافرين المشاة. وبنى له طاحونًا وفرنًا واستمر ذلك كله.
ثم ولى الملك الظاهر في سنة ثلاث وستين وستمائة في كل مذهب قاضيًا مستقلًا بذاته فصارت قضاة القضاة أربعة وسبب ذلك كثرة توقف قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز في تنفيذ الأحكام التي لا توافق مذهبه وكثرة الشكاوى منه بسبب ذلك.
فلما كان يوم الاثنين ثاني عشر في الحجة شكا القاضي المذكور الأمير جمال الدين أيدغدي العزيزي في المجلس وكان يكره القاضي تاج الدين المذكور فقال أيدغدي بحضرة السلطان: يا تاج الدين نترك مذهب الشافعي لك ونولي معك من كل مذهب قاضيًا فمال الملك الظاهر إلى كلامه وكان لأيدغدي منه محل عظيم فولى السلطان الشيخ صدر الدين سليمان الحنفي قاضي قضاة الحنفية بالديار المصرية وكان للقضاة الحنفية أزيد من ثلاثمائة سنة من أول الدولة الفاطمية قد بطل حكمهم من ديار مصر استقلالًا عندما أبطل الفاطميون القضاة من سائر المذاهب وأقاموا قضاة الشيعة بمصر. انتهى.
ن محمد بن الديري في أول سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة.
وأما قبل خراب الديار المصرية في الدولة العبيدية فكانت قضاة الحنفية هم حكام مصر بل حكام المشرق والمغرب إلى حدود نيف وأربعمائة لما حمل المعز بن باديس الناس ببلاد المغرب على اتباع مذهب الإمام مالك - ثم ملكت العبيدية مصر فمحوا آثار السنة وولوا قضاة الشيعة وبطل الأربعة مذاهب من مصر إلى أن زالت دولتهم وتولى السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب - رحمه الله - فولى قاضيًا شافعيًا فقط كونه كان شافعيا وأذهب الرافضة واستمر ذلك نحو تسعين سنة حتى ولي الملك الظاهر بيبرس فجدد المذاهب الثلاثة كما سقناه. انتهى. القضاة المالكية فالذي كان أولهم ولاية في دولة الظاهر بيبرس هو القاضي شرف الدين عمر السبكي المالكي
ثم أمر الملك الظاهر بأن يعمل بدمشق أيضًا كذلك في سنة أربع وستين فوقع ذلك وولى بها قضاة أربعة.
سافر الملك الظاهر من مصر إلى البلاد الشامية في هذه السنة - أعني سنة أربع وستين - فخرج منها في يوم السبت مستهل شعبان وجعل نائبه بديار مصر ولده الملك السعيد وجعل الجيش في خدمته والوزير بهاء الدين بن حنا وسار الملك الظاهر حتى نزل عين جالوت وبعث عسكرا مقدمه الأمير جمال الدين أيدغدي العزيزي ثم عسكرًا آخر مقدمه الأمير سيف الدين قلاوون الألفي للإغارة على بلاد الساحل فأغاروا على عكا وصور وطرابلس وحصن الأكراد وسبوا وغنموا ما لا يحصى.
ثم نزل الملك الظاهر بنفسه على صفد في ثامن شهر رمضان ونصب عليها المجانيق ودام الاهتمام بعمل الآلات الحربية إلى مستهل شوال إذ شرع في الزحف والحصار وأخذ النقوب من جميع الجهات إلى أن ملكها بكرة يوم الثلاثاء خامس عشر شوال واستمر الزحف والقتال ونصب السلالم على القلعة وتسلطت عليها النقوب والسلطان يباشر ذلك بنفسه حتى طلب أهل القلعة الأمان على أنفسهم وطلبوا اليمين على ذلك فأجلس السلطان الملك الظاهر الأمير كرمون أغا التتاري في دست السلطنة وحضرت رسلهم فاستحلفوه فحلف لهم كرمون التتاري وهم يظنونه الملك الظاهر فإنه كان يشبه الملك الظاهر. وكان في قلب الملك الظاهر منهم حزازة ثم شرط عليهم ألا يأخذوا معهم من أموالهم شيئا.
فلما كان يوم الجمعة ثامن عشر شوال طلعت السناجق على قلعة صفد ووقف الملك الظاهر بنفسه على بابها وأخرج من كان فيها من الخيالة والرجالة والفلاحين ودخل الأمير بدر الدين بيليك الخازندار وتسلمها واطلع على أنهم أخذوا شيئًا كثيرًا من التحف له قيمة فأمر الملك الظاهر بضرب رقابهم فضربت على ذل هناك.
وكتبت البشائر بهذا النصر إلى مصر والأقطار وزينت الديار المصرية لذلك ثم أمر الملك الظاهر بعمارة قلعة صفد وتحصينها ونقل الذخائر إليها والأسلحة وأزال دولة الكفر منها ولله الحمد وأقطع بلدها لمن رتبه لحفظها من الأجناد وجعل مقدمهم الأمير علاء الدين البكي وجعل في نيابة السلطنة بالمدينة الأمير عز الدين العلائي وولاية القلعة للأمير مجد الدين الطوري. ثم رحل الملك الظاهر إلى دمشق في تاسع عشر شوال. ولما كان الملك الظاهر نازلًا بصفد وصل إليه رسول صاحب صهيون بهدية جليلة ورسالة مضمونها الاعتذار من تأخيره عن الحضور فقبل الملك الظاهر الهدية والعذر.
ثم وصلت رسل صاحب سيس أيضا بهدية فلم يقبلها ولا سمع رسالتهم.
ثم وصلت البريدية من متولي قوص ببلاد الصعيد بخبر أنه استولى على جزيرة سواكن وأن صاحبها هرب وأرسل يطلب من الملك الظاهر الدخول في الطاعة وإبقاء سواكن عليه فرسم
ثم رحل الملك الظاهر من دمشق يوم السبت ثالث في القعدة وأمر العساكر بالتقدم إلى بلاد سيس للإغارة عليها وقدم عليهم الملك المنصور صاحب حماة وتدبير الأمور راجع إلى الأمير آق سنقر الفارقاني فساروا حتى وصلوا إلى الدرب الذي يدخلون منه إليها وكان صاحبها قد بنى عليها أبرجة فيها المقاتلة فلما رأوا العسكر تركوها ومضوا فأخذها المسلمون وهدموها ودخلوا بلاد سيس فنهبوا وأسروا وقتلوا وكان فيمن أسر ابن صاحب سيس وابن أخته وجماعة من أكابرهم. ودخلوا المدينة يوم السبت ثاني عشر ذي القعدة وأخذوا منها ما لا يحصى كثرة وعادوا نحو دمشق.
فلما قاربوها خرج الملك الظاهر لتلقيهم في ثاني ذي الحجة واجتاز بقارة في سادسه فأمر بنهبها وقتل من فيها من الفرنج فإنهم كانوا يخيفون السبيل ويستأسرون المسلمين فأراح الله منهم وجعلت كنيستها جامعًا ورتب بقارة خطيبًا وقاضيًا ونقل إليها الرعية من المسلمين ثم التقى العساكر وخلع عليهم وعاد معهم فدخل دمشق والغنائم والأسرى بين يديه في يوم الاثنين خامس عشر شهر ذي الحجة فأقام بها مدة.
ثم خرج منها طالبا الكرك في مستهل المحرم سنة خمس وستين وستمائة وأمر الملك الظاهر بعد خروجه من دمشق بعمارة جسر بالغور على نهر الشريعة وكان المتولي لعمارته جمال الدين محمد بن نهار وبدر الدين محمد بن رحال وهما من أعيان الأمراء ولما تكامل عمارته اضطرب بعض أركانه فقلق الملك الظاهر لذلك وأعاد الناس لإصلاحه فتعذر ذلك لزيادة الماء فاتفق وقوف الماء عن جريانه حتى أمكن إصلاحه فلما تم إصلاحه عاد الماء إلى حاله قيل إنه كان وقع في النهر قطعة كبيرة مما يجاوره من الأماكن العالية فسدته من غير قصد. وهذا من عجيب الاتفاق.
ثم عاد الملك الظاهر إلى ديار مصر وعند عوده إليها وصل إليه رسل صاحب اليمن الملك المظفر شمس الدين يوسف بن عمر ومعهم فيل وحمار وحش أبيض وأسود وخيول وصيني وتحف وطلب معاضدة الملك الظاهر له وشرط له أن يخطب له ببلاده.
ثم خرج السلطان في يوم السبت في ثاني جمادى الآخرة إلى بركة الجب عازمًا على قصد الشام على حين غفلة وجعل نائب السلطنة على مصر الأمير بيليك الخازندار ورحل في سابع الشهر فوردت عليه رسل صاحب يافا في الطريق فاعتقلهم وأمر العسكر بلبس آلة الحرب ليلا وسار فأصبح يافا وأحاط بها من كل جانب فهرب من كان فيها من الفرنج إلى قلعتها فملك السلطان المدينة وطلب أهل القلعة الأمان فأمنهم وعوضهم عما نهب لهم أربعين ألف درهم فركبوا في المراكب إلى عكا وكان أخذ قلعة يافا في الثاني والعشرين من الشهر المذكور وأمر بهدمها.
فلما فرغ السلطان من هدمها رحل عنها يوم الأربعاء ثاني عشر شهر رجب طالبا للشقيف فنزل عليه يوم الثلاثاء وحاصرها حتى تسلمها يوم الأحد تاسع عشرين رجب وكان الملك الظاهر أيضا ملك الباشورة بالسيف في السادس والعشرين منه. ثم رحل الملك الظاهر عنها بعد أن رتب بها عسكرًا في عاشر شعبان وبعث أكثر أثقاله إلى دمشق وسار إلى طرابلس فشن عليها الغارة وأخرب قراها وقطع أشجارها وغور أنهارها. ثم رحل إلى حصن الأكراد ونزل بالمرج الذي تحته فحضر إليه رسول من فيه بإقامة وضيافة فردها عليه وطلب منهم دية رجل من أجناده كانوا قتلوه مائة ألف دينار فأرضوه. فرحل إلى حمص ثم إلى حماة ثم إلى أفامية ثم سار ونزل منزلة أخرى.
ثم رحل ليلا وأمر العسكر بلبس آلة الحرب ونزل أنطاكية في غرة شهر رمضان فخرج إليه جماعة من أهلها يطلبون الأمان وشرطوا شروطا لم يجب إليها وزحف عليها فملكها يوم السبت رابع الشهر ورتب على أبوابها جماعة من الأمراء لئلا يخرج أحد من الحرافشة بشيء من النهب ومن يوجد معه شيء يؤخذ منه فجمع من ذلك ما أمكن جمعه وفرقه على الأمراء والأجناد بحسب مراتبهم. وحصر من قتل بأنطاكية فكانوا فوق الأربعين ألفًا وأطلق جماعة من المسلمين.
كانوا فيها أسراء من الحلبيين وكتب البشائر بذلك إلى مصر وإلى سائر الأقطار.وأنطاكية: ملينة عظيمة مشهورة مسافة سورها اثنا عشر ميلًا وعدد أبراجها مائة وستة وثلاثون برجا وعدد شرفاتها أربع وعشرون ألفًا. ولم يفتحها السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب
ولما ملك الملك الظاهر أنطاكية وصل إليه قصاد من أهل القصير يطلبون تسليمها إليه فسير السلطان الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقاني بالعساكر إليها فوصلها ووجد أكثر أهلها قد برح منها فتسلمها في ثالث عشر شهر رمضان وكان قد تسلم دركوش بواسطة فخر الدين الجناحي في تاسع شهر رمضان وعاد إلى دمشق فدخلها في سابع عشرين شهر رمضان وعيد السلطان بقلعة دمشق. ثم عاد إلى القاهرة فدخلها آخر نهار الأربعاء حادي عشر في الحجة.
السلطان بيبرس يطلب مبايعة أبنه من بعده
وبعد وصوله بمدة جلس في الإيوان بقلعة الجبل يوم الخميس تاسع صفر وأحضر القضاة والشهود والأعيان وأمر بتحليف الأمراء ومقدمي الحلقة لولده الملك السعيد بركة خان فحلفوا ثم ركب الملك السعيد يوم الاثنين العشرين من الشهر بأبهة السلطنة في القلعة ومشى والده أمامه وكتب تقليد له وقرئ على الناس بحضور الملك الظاهر وسائر أرباب الدولة.
ثم في يوم السبت ثاني عشر جمادى الآخرة خرج الملك الظاهر من القاهرة متوجهًا إلى الشام ومعه الأمراء بأسرهم جرائد واستناب بالديار المصرية في خدمة ولده الأمير بدر الدين بيليك الخازندار. ومن هذا التاريخ علم الملك السعيد على التواقيع وغيرها.
التتار يطلبون الصلح
ولما صار الملك الظاهر بدمشق وصلت إليه كتب التتار ورسلهم والرسل: محب الدين دولة خان وسيف الدين سعيد ترجمان وآخر ومعهم جماعة من أصحاب سيس فأنزلهم السلطان بالقلعة وأحضرهم من الغد وأدوا الرسالة ومضمونها: أن الملك أبغا بن هولاكو لما خرج من الشرق ملك جميع البلاد ومن خالفه قتل وأنت - يعني للملك الظاهر لو صعدت إلى السماء أو هبطت إلى الأرض ما تخلص منا فالمصلحة أن تجعل بيننا صلحًا وأنت مملوك أبعت في سيواس فكيف تشاقق ملوك الأرض وأولاد ملوكها فأجابه في وقته بأنه في طلب جميع ما استولوا عليه من العراق والجزيرة والروم والشام وسفرهم إليه بسرعة.
ثم في آخر شهر رجب خرج الملك الظاهر من دمشق ونزل خربة اللصوص فأقام بها أيامًا ثم ركب ليلة الاثنين ثامن عشر شعبان ولم يشعر به أحد وتوجه إلى القاهرة على البريد بعد أن عرف الفارقاني أنه يغيب أيامًا معلومة وقرر معه أنه يحضر الأطباء كل يوم ويستوصف منهم ما يعالج به متوعك يشكو تغيير مزاجه ليوهم الناس أن الملك الظاهر هو المتوعك فكان يدخل ما يصفونه إلى الخيمة ليوهم العسكر صحة ذلك وسار الملك الظاهر حتى وصل قلعة الجبل ليلة الخميس حادي عشرين شعبان فأقام بالقاهرة أربعة أيام ثم توجه ليلة الاثنين خامس عشرين الشهر على البريد فوصل إلى المعسكر يوم تاسع عشرين الشهر. وكان غرضه بهذا السفر كشف أحوال ولده الملك السعيد وغير ذلك.
ثم في يوم الأحد سادس عشر شهر رمضان تسلم نواب الملك الظاهر قلعة بلاطنس وقلعة كرابيل من عز الدين أحمد بن مظفر الدين عثمان بن منكورس صاحب صهيون وعوضه غيرهما قرية تعرف بالخميلة من أعمال شيزر.
ثم في يوم الخميس العشرين من شهر رمضان توجه الملك الظاهر إلى صفد فأقام بها يومين ثم شن الغارة على بلد صور وأخذ منها شيئًا كثيرًا. ثم عاد الملك الظاهر إلى دمشق وعيد بها.
ثم خرج منها في خامس عشرين شوال يريد الكرك فوصله في أوائل ذي القعدة. ثم توجه في سادسه إلى الحجاز وصحبته بيليك الخازندار والقاضي صدر الدين سليمان الحنفي وفخر الدين إبراهيم بن لقمان وتاج الدين ابن الأثير ونحو ثلاثمائة مملوك وجماعة من أعيان الحلقة فوصل المدينة الشريفة في العشر الأخير من الشهر فأقام بها ثلاثة أيام.
وكان جماز قد طرق المدينة وملكها فلما قدم الظاهر هرب فقال الملك الظاهر: لو كان جماز يستحق القتل ما قتلته لأنه في حرم النبي صلى الله عليه وسلم ثم تصدق في المدينة بصدقات كثيرة وخرج منها متوجهًا إلى مكة فوصلها في ثامن ذي الحجة فخرج إليه أبو نمي وعمه إدريس صاحبا مكة وبذلا له الطاعة فخلع عليهما وسارا بين يديه إلى عرفات فوقف بها يوم الجمعة ثم عاد إلى منى ثم إلى مكة وطاف بها طواف الإفاضة وصعد الكعبة وغسلها بماء الورد وطيبها بيده وأقام يوم الاثنين ثم ركب وتوجه إلى المدينة الشريفة فزار بها قبر النبي صلى الله عليه وسلم ثانيا.
ثم توجه إلى الكرك فوصله في يوم الخميس تاسع عشرين في الحجة فصلى به الجمعة. ثم توجه إلى دمشق فوصل يوم الأحد ثاني المحرم سنة ثمان وستين وستمائة في السحر فخرج الأمير جمال الدين آقوش فصادفه في سوق الخيل واجتمع به. ثم سار إلى حلب فوصلها في سادس المحرم.
ثم خرج منها في عاشره وسار إلى حماة ثم إلى دمشق ثم إلى مصر وصحبته الأمير عز الدين الأفرم فدخلها يوم الأربعاء رابع صفر واتفق ذلك اليوم دخول ركب الحاج وكانت العادة يوم ذاك بدخول الحاج إلى القاهرة بعد عاشر صفر فأقام الملك الظاهر بالقاهرة أيامًا وخرج منها في صفر المذكور إلى الإسكندرية ومعه ولده الملك السعيد وسائر الأمراء فتصيد أيامًا وعاد إلى نحو القاهرة في يوم الثلاثاء ثامن شهر ربيع الأول وخلع في هذه السفرة على الأمراء وفرق فيهم الخيل والحوائص الذهب والسيوف المحلاة والذهب والدراهم والقماش وغير ذلك.
فلم يقم بالقاهرة إلا مدة يسيرة وخرج منها متوجهًا إلى الشام في يوم الاثنين حادي عشرين شهر ربيع الأول في طائفة يسيرة من أمرائه وخواصه فوصل إلى دمشق في يوم الثلاثاء سابع شهر ربيع الآخر ولقي أصحابه في الطريق مشقة شديدة من البرد. ثم خرج عقيب ذلك إلى الساحل وأسر ملك عكا وقتل وأسر وسبى.
ثم قصد الغارة على المرقب فوجد من الأمطار والثلوج ما منعه فرجع إلى حمص فأقام بها نحو عشرين يومًا.
إغارة الفرنجة على الإسكندرية
ثم خرج إلى جهة حصن الأكراد ونزل تحتها وأقام يركب كل يوم ويعود من غير قتال إلى الثامن والعشرين من شهر رجب فبلغه أن مراكب الفرنج دخلت ميناء الإسكندرية وأخذت مركبين للمسلمين فرحل من فوره إلى نحو الديار المصرية فوصلها ثاني عشر شعبان. فحين دخوله إلى مصر أمر بعمارة القناطر التي على بحر أبي المنجا وهي من المباني العجيبة في الحسن والإتقان وبينما هو في ذلك ورد عليه البريد من الشام أن الفرنج قاصدون الساحل والمقدم عليهم شارل أخوريدا فرنس وربما كان محطهم عكا فتقدم الملك الظاهر إلى العسكر بالتوجه إلى الشام.
ثم ورد الخبر أيضًا بأن اثني عشر مركبا للفرنج عبروا على الإسكندرية ودخلوا ميناءها وأخذوا مركبًا للتجار واستأصلوا ما فيه وأحرقوه ولم يجسر والي الإسكندرية أن يخرج الشواني من الصناعة لغيبة رئيسها في مهم استدعاه الملك الظاهر بسببه. ولما بلغ الملك الظاهر ذلك بعث أمر بقتل الكلاب في الإسكندرية وألا يفتح أحد حانوتًا بعد المغرب ولا يوقد نارًا في البلد ليلًا ثم تجهز بسرعة وخرج نحو دمياط يوم الخميس خامس ذي القعدة في البحر.
وفي ذي الحجة أمر السلطان بعمل جسرين: أحدهما من مصر إلى الجزيرة - أعني الروضة والآخر من الجزيرة إلى الجيزة على مراكب لتجوز العساكر عليهما. ثم عاد الملك الظاهر من دمياط بسرعة ولم يلق حربا.
وخرج من مصر إلى عسقلان في يوم السبت عاشر صفر سنة تسع وستين وستمائة في جماعة يسيرة من الأمراء والأجناد فوصل إلى عسقلان وهدم من سورها ما كان أهمل هدمه في أيام الملك الصالح ووجد فيما هدم كوزان مملوءان ذهبًا مقدار ألفي دينار ففرقها على من صحبه وورد عليه الخبر وهو بعسقلان بأن عسكر ابن أخي بركة خان المغلي كسر عسكر أبغا بن هولاكو فسر الملك الظاهر بذلك سرورًا زائدًا. وعاد إلى مصر يوم السبت ثامن شهر ربيع الأول.
وفي هذه السنة انتهى الجسر والقناطر الذي عمل على بحر أبي المنجا ووقف عليه الملك الظاهر وقفا يعمر منه ما دثر منه على طول السنين.
وبنى الملك الظاهر جامع المنشية وأقيمت فيه الخطبة يوم الجمعة ثامن عشرين شهر ربيع الآخر من سنة تسع وستين وستمائة المذكورة.
ثم خرج الملك الظاهر من الديار المصرية متوجهًا إلى نحو حصن الأكراد في ثاني عشر جمادى الآخرة ودخل دمشق يوم الخميس ثامن شهر رجب وكان معه في هذه السفرة ولده الملك السعيد والصاحب بهاء الدين بن حنا واستخلف بمصر الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقاني وفي الوزارة الصاحب تاج الدين بن حنا.
ثم خرج الملك الظاهر من دمشق في يوم السبت عاشره وتوجه بطائفة من العسكر إلى جهة وولده وبيليك الخازندار بطائفة أخرى إلى جهة وتواعدوا الاجتماع في يوم واحد بمكان معين ليشنوا الغارة على جبلة واللاذقية والمرقب وعرقة ومرقية والقليعات وصافيثا والمجدل وأنطرطوس فلما اجتمعوا على أن يشنوا الغارة فتحوا صافيثا والمجدل ثم ساروا ونزلوا حصن الأكراد يوم الثلاثاء تاسع عشر شهر رجب من سنة تسع وستين وستمائة وأخذوا في نصب المجانيق وعمل الستائر ول! ذا الحصن ثلاثة أسوار فاشتد عليه الزحف والقتال وفتحت الباشورة الأولى يوم الخميس حادي عشرين الشهر وفتحت الثانية يوم السبت سابع شعبان وفتحت الثالثة الملاصقة للقلعة في يوم الأحد خامس عشره وكان المحاصر لها الملك السعيد ابن الملك الظاهر ومعه بيليك الخازندار وبيسري ودخلت العساكر البلد بالسيف وأسروا من فيه من الجبلية والفلاحين ثم أطلقوهم.
فلما رأى أهل القلعة ذلك أذعنوا بالتسليم وطلبوا الأمان فأمنهم الملك الظاهر وتسلم القلعة يوم الاثنين ثالث عشرين شعبان وكتبت البشائر بهذا الفتح إلى الأقطار وأطلق الملك الظاهر من كان فيها من الفرنج فتوجهوا إلى طرابلس.
ثم رحل الملك الظاهر بعد أن رتب الأمير عز الدين أيبك الأفرم لعمارته وأقيمت فيه الجمعة ورتب نائبًا وقاضيًا. ولما وقع ذلك بعث صاحب أنطرطوس إلى الملك الظاهر يطلب المهادنة وبعث إليه بمفاتيح أنطرطوس فصالحه على نصف ما يتحصل من غلال بلده وجعل عندهم نائبا من قبله.
ثم صالح صاحب المرقب على المناصفة أيضا وذلك في يوم الاثنين مستهل شهر رمضان من سنة تسع وستين وقررت الهدنة عشر سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام.
ثم سار الملك الظاهر في يوم الأحد رابع عشر شهر رمضان فأشرف على حصن ابن عكار وعاد إلى المرج فأقام به إلى أن سار ونزل على الحصن المذكور ثانيًا في يوم الاثنين ثاني عشرين شهر رمضان ونصب المجانيق عليه في يوم الثلاثاء.
وفي يوم الأحد ثامن عشرينه رمى المنجنيق الذي قبالة الباب الشرقي رميًا كثيرًا فخسف خسفًا كبيرًا إلى جانب البدنة ودام ذلك إلى الليل فطلبوا الأمان على أنفسهم من القتل وأن يمكنهم من التوجه إلى طرابلس فأجابهم فخرجوا يوم الثلاثاء سلخ الشهر وكتبت البشائر بالفتح والنصر إلى سائر الأقطار.
ثم في يوم السبت رابع شوال خيم السلطان الملك الظاهر بعساكره على طرابلس فسير صاحبها إليه يستعطفه فبعث إليه الملك الظاهر الأتابك وسيف الدين الدوادار الرومي على أن يكون له من أعمال طرابلس نصف بالسوية وأن يكون له دار وكالة فيها وأن يعطى جبلة واللاذقية بخراجهما من يوم خروجهما عن الملك الناصر إلى يوم تاريخه وأن يعطى نفقات العساكر من يوم خروجه فلما علم الرسالة عزم على القتال وحصن طرابلس فنصب الملك الظاهر المجانيق ثم ترددت الرسل ثانيًا وتقرر الصلح أن تكون عرقة وجبلة وأعمالها للبرنس صاحب طرابلس وأن يكون ساحل أنطرطوس والمرقب وبانياس وبلاد هذه النواحي بينه وبين الداوية والتي كانت خاصًا لهم وهي بارين وحمص القديمة تعود خاصًا للملك الظاهر وشرط أن تكون عرقة وأعمالها وهي ست وخمسون قرية صدقة من الملك الظاهر عليه فتوقف صاحب طرابلس وأنف فلما بلغ الملك نقص صفحة 138 - 139 الظاهر امتناعه صمّم على ما شَرَط عليه حتى أجابه وعُقِد الصلح بينهما مدّة عشر سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام.
وفي يوم السبت حادى عشر شوّال رَحَل الملك الظاهر عن مَرْج صافيثا وأذِن إلى صاحب حَمَاة وصاحب حِمْص بالعَوْد إلى بلادهم وسار الظاهر حتى دخل دِمَشْق يوم الأربعاء خامس عشر شوّال وعَزَل القاضي شَمسَ الدين أحمد بن خلّكان عن قضاء دِمَشْق وكانت مدّة ولايته عشر سنين وولى عِوضَه القاضيَ عِزالدين محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق المعروف بابن الصائغ.
ثم في يوم الجمعة رابع عشرين شوّال خرج الملك الظاهر من دِمَشْق قاصدًا القُرَيْن فنزل عليه يوم الاثنين سابع عشرين الشهر ونصَب عليه المجانيق ولم يكن به نساء ولا أطفال بل مُقاتِلة فقاتلوا قتالًا شديدًا وأخذت النُقُوب للحِصْن من كلّ جانب فطلب مَنْ فيِه الأمان فأُمَنوا يوم الاثنين ثالث عشر ذي القعدة وتَسَلَّم السلطانُ الحِصْن بما فيه من السلاح ثمّ هدمه وكان بناؤه من الحجر الصلْد وبين كلّ حجرين عُود حديد ملزوم بالرصاص فأقاموا في هدمه اثني عشريومًا وفي حِصارِه خمسة عشريومًا. قريبة من عكَا - ولَبِس العسكر وسار إلى عَكا وأشرف عليها ثم عاد إلى منزله.
ثم رحل منها يوم الثلاثاء قاصدًا مصر فدخلها يومَ الخميس ثالث عشر ذي الحجة وكان جملة ما صرَفه الملك الظاهر في هنه السفْرة من حين خروجه من مصر إلى حين عَوْده إليها ما ينيف على مائة ألف دينار وثمانين ألف دينار عَيْنًا.
وفي اليوم الثاني من وصوله إلى قلعة الجبل قَبَض على جماعة من الأمراء منهم: الأمير علم الدين سَنْجَر الحلبي الكبير الذي كان تسلطن بدِمَشْق في أول سلطنة الملك الظاهر بِيبَرْس والأمير جمال الدين آقوش المحمًدي والأمير جمال الدين أَيدُغْدي الحاجبي الناصري والأمير شمس الدين سُنْقُر المسّاح والأمير سيف الدين بيدغان الركْني والأمير علم الدين سَنْجَر طرطح وغيرهم وحُبِسوا الجميع بقلعة الجبل وسبب ذلك أنه بلغه أنهم تآمروا على قبضه لمّا كان بالشَقِيف فأسرَّها في نفسه إلى وقتها.
وكان بلغ الملكَ الظاهرَ وهوعلى حِصْن الأكراد أنّ صاحب قُبْرُص خرج منها في مراكبه إلى عكا فأراد السلطان اغتنام خلوّها فجهّز سبعة عشر شِينيأ فيها الرئيس ناصر الدين عمربن منصور رئيس مصر وشهاب الدين محمد بن إبراهيم بن عبد السلام رئيس الإِسكندرية وشرف الدين علوي بن أبي المجد بن علوي العَسْقلاني رئيس دِمْياط وجمال الدين مَكَي بن حسون مقدّمأ على الجميع فوصلوا الجزيرة ليلًا فهاجت عليهم ريحٌ طردتْهم عن المَرْسَى وألقتْ بعض الشَوَاني على بعض فتحطم منها أكثر من أحد عشر شِينيًا وأخِذ مَنْ فيها من الرجال والصنّاع أسَراء وكانوا زُهَاءَ ألف وثمانمائة نفس وسلِم الرئيس ناصرالدين وابن حَسّون في الشَّوَاني السالمة وعادت إلى مراكزها فعظُم ذلك على الملك الظاهر بِيبَرْس إلى الغاية.
يوم الاثنين سابع عشر ذي الحجّة أمر الملك الظاهر بإراقة الخمور
في سائر بلاده وأوعد مَنْ يَعْصِرُها بالقتل فأرِيق على الأجناد والعوام منها ما لا تُحْصَى قيمتُه وكان ضمانُ ذلك في ديار مصر خالصة ألفَ دينار في كل يوم وكُتِب بذلك توقيعٌ قُرِىء على ے وفي العَشْر الأخير من ذي الحجة آهتمّ الملك الظاهر بإنشاء شَوَانٍ عِوَضأ عمّا ذهب على قُبْرُص وانتهى العمل من الشواني في يوم الأحد رابع عشر المحرم سنة سبعين وركب السلطان إلى الصناعة لإلقاء الشواني في بحر النيل وركب السلطان في شيني منها ومعه الأمير بدر الدين بيليك الخازندار فلما صار الشيني في الماء مال بمن فيه فوقع الخازندار منه إلى البحر فنهض بعض رجال الشيني ورمى بنفسه خلفه فأدركه وأخذ بشعره وخلصه وقد كاد يهلك فخلع عليه الملك الظاهر وأحسن إليه.
وفي ليلة السبت السابع والعشرين منه خرج الملك الظاهر من الديار المصرية إلى الشام في نفر يسير من خواصه وأمرائه ودخل حصن الكرك وخرج منه وصحب معه نائبه الأمير عز الدين أيدمر وسار إلى دمشق فوصل إليه يوم الجمعة ثاني عشر صفر فعزل عنها الأمير جمال الدين آقوش النجيبي وولى مكانه الأمير عز الدين أيدمر المعزول عن نيابة الكرك.
ثم خرج منها إلى حماة في سادس عشره ثم عاد منها في السادس والعشرين.
التتار وحرب العصابات
وفيها أمر ملك التتار أبغا بن هولاكو عساكره بقصد البلاد الشامية فخرج عسكره في عدة عشرة آلاف فارس وعليهم الأمير صمغرا والبرواناه فلما بلغهم أن الملك الظاهر بالشام أرسلوا ألفا وخمسمائة من المغل ليتجسسوا الأخبار ويغيروا على أطراف بلاد حلب وكان مقدمهم أمال بن بيجونوين ووصلت غارتهم إلى عينتاب ثم إلى قسطون ووقعوا على تركمان نازلين بين حارم وأنطاكية فاستأصلوهم فتقدم الملك الظاهر بتجفيل البلاد ليحمل التتار الطمع فيدخلوا فيتمكن منهم.
وبعث إلى مصر بخروج العساكر فخرجت ومقدمها الأمير بيسري فوصلوا إلى السلطان في خامس شهر ربيع الآخر وخرج بهم في السابع منه فسبق إلى التتار خبره فولوا على أعقابهم.
وكان الظاهر لما مر بحماة استصحب معه الملك المنصور صاحب حماة ونزل الظاهر حلب يوم الاثنين ثاني عشر شهر ربع الآخر من سنة سبعين وستمائة وخيم بالميدان الأخضر ثم جهز الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقاني في عسكر وأمره أن يمضي إلى بلاده حلب الشمالية ولا يتعرض لبلاد صاحب سيس وجهز الأمير علاء الدين طيبرس الوزيري في عسكر وأمره بالتوجه إلى حران.
فاما الفارقاني فإنه سار خلف التتار إلى مرعش فلم يجد منهم أحدًا ثم عاد إلى حلب فوجد الملك الظاهر مقيما بها وقد أمر بإنشاء دار شمالي القلعة كانت تعرف بدار الأمير بكتوت أستادار الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب حلب وأضاف إليها دارًا أخرى ووكل بعمارتها الأمير عز الدين آقوش الأفرم.
ولفا عاد الفارقاني إلى حلب رحل الملك الظاهر منها نحو الديار المصرية في ثامن عشرين شهر ربيع الآخر ودخل مصر في الثالث والعشرين من جمادى الأولى.
ولما وصل الظاهر إلى مصر قبض على الأمراء الذين كانوا مجردين على قاقون بسبب الفرنج لما أغاروا على الساحل ما عدا آقوش الشمسي ثم شفع فيهم فأطلقهم.
أكتشاف مغارة بها طيور محنطة فرعونية
وفي يوم الأربعاء ثالث جمادى الآخرة عدى الملك الظاهر إلى بر الجيزة فأخبر أن ببوصير السدر مغارة فيها مطلب (كنزاً) فجمع لها خلقًا فحفروا مدى بعيدًا فوجدوا قطاطًا ميتة وكلاب صيد وطيورًا وغير ذلك من الحيوانات ملفوفًا في عصائب وخرق فإذا حلت اللفائف ولاقى الهواء ما كان فيها صار هباء منثورًا وأقام الناس ينقلون من ذلك مدة ولم ينفد ما فيها فأمر الملك بغلقها
وفي يوم السبت سابع عشرين جمادى الآخرة ركب السلطان الملك الظاهر إلى الصناعة ليرى الشواني التي عملت وهي أربعون شينيا فسر بها. وعند عوده إلى القلعة ولدت زرافة بقلعة الجبل وأرضع ولدها لبن بقرة.
ثم سافر الملك الظاهر إلى الشام في شعبان وسار حتى وصل الساحل وخيم بين قيسارية وأرسوف وكان مركزًا بها الفارقاني فرحل الفارقاني عنها إلى مصر.
ثم إن الملك الظاهر شن الغارة على عكا فطلب منه أهلها الصلح وترددوا في ذلك حتى تقررت الهدنة بينهم مدة عشر سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام وعشر ساعات أولها ثاني عشرين شهر رمضان سنة سبعين وستمائة.
ثم رحل الملك الظاهر إلى خربة اللصوص ثم سار منها إلى دمشق فدخلها في الثامن من شوال وبينما هو في دمشق ترددت الرسل بينه وبين التتار وانفصل الأمر من غير اتفاق.
وفي ذي الحجة توجه الملك الظاهر من دمشق إلى حصن الأكراد لينقل حجارة المجانيق إليها ورؤية ما عمر فيها ففعل ذلك. ثم سار إلى حصن عكار فأشرف عليها.
ثم عاد إلى دمشق في خامس المحرم من سنة إحدى وسبعين وستمائة.
وفي ثاني عشر المحرم المذكور أفرج الملك الظاهر عن الأمير أيبك النجيبي الصغير وأيدمر الحلي العزيزي وكانا محبوسين بالقاهرة.
ثم خرج الملك الظاهر من دمشق في المحرم أيضًا عائدًا إلى الديار المصرية وصحبته الأمير بدر الدين بيسري والأمير آقوش الرومي وجرمك الناصري فوصل إليها في يوم السبت ثالث عشرين المحرم فأقام بالقاهرة إلى ليلة الجمعة تاسع عشرينه خرج من مصر وتوجه إلى دمشق فدخل قلعتها ليله الثلاثاء رابع صفر فأقام بدمشق إلى خامس جمادى الأولى.
واتصل به أن فرقة من التتار قصدت الرحبة فبرز إلى القصير فبلغه أنهم عادوا من الرحبة ونزلوا على البيرة فسار إلى حمص وأخذ مراكب الصيادين على الجمال ليجوز عليها ثم سار حتى وصل إلى الباب من أعمال حلب وبعث جماعة من الأجناد والعربان لكشف أخبارهم وسار إلى منبج فعادوا وأخبروا أن طائفة من التتار مقدار ثلاثة آلاف فارس على شط الفرات مما يلي الجزيرة فرحل عن منبج يوم الأحد ثامن عشر جمادى الأولى ووصل شط الفرات وتقدم إلى العسكر بخوضها فخاض الأمير سيف الدين قلاوون الألفي والأمير بدر الدين بيسري في أول الناس ثم تبعهما هو بنفسه وتبعته العساكر فوقعوا على التتار فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأسروا تقدير مائتي نفس ولم ينج منهم إلا القليل وتبعهم بيسري إلى قريب سروج ثم عاد.
وكان على البيرة جماعة كثيرة من عسكر التتار وكانوا قد أشرفوا على أخذها فلما بلغهم الخبر رحلوا عن البيرة ودخلها السلطان في ثاني عشرين الشهر وخلع على نائبها وفرق في أهلها مائة ألف درهم وأنعم عليهم ببعض ما تركه التتار عندهم لما هربوا. ثم رحل الملك الظاهر عنها بعساكره وعاد إلى دمشق.
ثم توجه الملك الظاهر إلى نحو الديار المصرية فخرج ولده الملك السعيد لتلقيه في يوم الثلاثاء تاسع عشر جمادى الآخرة فاجتمع به بين القصير والصالحية في يوم الجمعة ثاني عشرينه فترجلا واعتنقا طويلًا ثم ركبا وسارا جميعًا إلى القلعة وبين يديهم أسارى التتار ركابًا على الخيل.
ثم في سابع شهر رجب أفرج الملك الظاهر عن الأمير عز الدين أيبك الدمياطي من الاعتقال وكانت مدة اعتقاله تسع سنين وعشرة أيام ثم خلع الملك الظاهر على أمراء الدولة ومقدمي الحلقة وأعطى كل واحد منهم ما يليق به من الخيل والذهب والحوائص والثياب والسيوف وكان قيمة ما صرفه فيهم فوق ثلاثمائة ألف دينار.
وفي سادس عشرين شعبان أفرج الملك الظاهر عن الأمير علم الدين سنجر الحلبي الغتمي المعزي.
شيخا مسلماً من خاصة الظاهر بيبرس يذبح قساٌ فى كنيسة القيامة ويحول كنيسة قبطية إلى جامع
وفي يوم الاثنين ثاني عشر شوال استدعى الملك الظاهر الشيخ خضرًا إلى القلعة وأحضره قلت: والشيخ خضر هذا هو صاحب الزاوية بالحسينية بالقرب من جامح الظاهر.انتهى. وأحضر معه جماعة من الفقراء حاققوه على أشياء كثيرة منكرة وكثر بينه وبينهم فيها المقالة ورموه بفواحش كثيرة ونسبوه إلى قبائح عظيمة فرسم الملك الظاهر باعتقاله وكان للشيخ خضر المذكور منزلة عظيمة عند الملك الظاهر بحيث إنه كان ينزل عنده في الجمعة المرة والمرتين ويباسطه ويمازحه ويقبل شفاعته ويستصحبه في سائر سفراته ومتى فتح مكانا أفرض له منه أوفر نصيب فامتدت يد الشيخ خضر بذلك في سائر المملكة يفعل ما يختار لا يمنعه أحد من النواب حتى إنه دخل إلى كنيسة قمامة ذبح قسيسها بيده وانتهب ما كان فيها تلامذته وهجم كنيسة اليهود بدمشق ونهبها وكان فيها ما لا يعبر من الأموال وعمرها مسجدًا وعمل بها سماعا ومد بها سماطا. ودخل كنيسة الإسكندرية وهي عظيمة عند النصارى فنهبها وصيرها مسجدًا وسماها المدرسة الخضراء وأنفق في تعميرها مالًا كثيرًا من بيت المال.
السلطان بيبرس يمكث فى القاهرة ثم يعود لرحلاته الحربية
وبنى له الملك الظاهر زاوية بالحسينية ظاهر القاهرة ووقف عليها وحبس عليها أرضًا تجاورها تحتكر للبناء. وبنى لأجله جامع الحسينية.
وفي يوم الاثنين سابع المحرم سنة اثنتين وسبعين وستمائة جلس الملك الظاهر بدار العدل وحكم بين الناس ونظر في أمور الرعية فأنصف المظلوم وخلص الحقوق ومال على القوي ورفق
وفي العاشر منه هدمت غرفة على باب قصر من قصور الخلفاء الفاطميين بالقاهرة. ويعرف هذا الباب بباب البحر وهو من بناء الخليفة الحاكم بأمر الله منصور المقدم ذكره فوجد في القصر الذي هدم امرأة في صندوق منقوش عليها كتابة اسم الملك الظاهر بيبرس هذا وصفته وبقي منها ما لم يمكن قراءته.
وفيها قبض على ملك الكرج وهو أنه كان قد خرج من بلاده قاصدًا زيارة القدس الشريف متنكرًا في زي الرهبان ومعه جماعة يسيرة من خواصه فسلك بلاد الروم إلى سيس فركب البحر إلى عكا ثم خرج منها إلى بيت المقدس فاطلع الأمير بدر الدين الخازندار على أمره وهو على يافا فبعث إليه من قبض عليه فلما حضر بين يديه بعثه مع الأمير ركن الدين منكورس إلى السلطان وكان السلطان قد توجه إلى دمشق فوصل إلى دمشق في رابع عشر جمادى الأولى فأقبل عليه السلطان وسأله حتى اعترف فحبسه في برج من أبراج قلعة دمشق وأمره أن يبحث من جهته إلى بلاده من يعرفهم بأسره فبعث نفرين.
وخرج الملك الظاهر من دمشق ثالث عشرين جمادى الآخرة وقدم القاهرة يوم الخميس سابع شهر رجب من سنة اثنتين وسبعين المذكورة.
ثم في يوم الخميس خامس عشرين شهر رمضان أمر السلطان العسكر أن يركب بالزينة الفاخرة ويلعب في الميدان تحت القلعة فاستمر ذلك كل يوم إلى يوم عيد الفطر ختن السلطان الملك الظاهر ولده خضرًا ومعه جماعة من أولاد الأمراء وغيرهم وكان الملك السعيد ابن الملك الظاهر في يوم الأربعاء سابع عشر شهر رمضان خرج من القاهرة وتوجه إلى دمشق ومعه شمس الدين آقسنقر الفارقاني وأربعون نفرًا من خواصه على خيل البريد وعاد إلى القاهرة في يوم الخميس الرابع والعشرين من شوال.
وفي يوم الأحد سابع صفر من سنة ثلاث وسبعين وستمائة ركب الملك الظاهر الهجن وتوجه إلى الكرك ومعه بيسري وأتامش السعدي وسبب توجهه أن وقع بالكرك برج فأحب أن يكون إصلاحه بحضوره.
ثم عاد إلى مصر فدخلها في يوم الثلاثاء ثاني عشرين شهر ربيع الأول فأقام بها مدة يسيرة.
ثم توجه إلى دمشق وأقام به إلى أن أرسل في رابع عشرين المحرم سنة أربع وسبعين وستمائة الأمير بدر الدين بيليك الخازندار على البريد إلى مصر لإحضار الملك السعيد فعاد به إلى دمشق في يوم الأربعاء سادس صفر من السنة.
وفي الثالث والعشرين من جمادى الأولى فتح حصن القصير وهو بين حارم وأنطاكية وكان فيه قسيس عظيم عند الفرنج يقصدونه للتبرك به وكان الملك الظاهر قد أمر التركمان وبعض العرب بمحاصرته وبعد أخذه عاد الملك الظاهر إلى مصر فلم تطل مدته به وعاد إلى دمشق فدخله يوم ثالث المحرم من سنة خمس وسبعين فأقام به مدة يسيرة أيضا وعاد إلى الديار المصرية في يوم الاثنين ثالث شهر ربيع الآخر وأمر بعمل عرس ولده الملك السعيد واهتم في ذلك إلى يوم الخميس خامس جمادى الأولى أمر العسكر بالركوب إلى الميدان الأسود تحت القلعة في أحسن زي وأقاموا يركبون كل يوم كذلك ويتراكضون في الميدان والناس تزدحم للفرجة عليهم خمسة أيام وفي اليوم السادس افترق الجيش فرقتين وحملت كل فرقة على الأخرى وجرى من اللعب والزينة ما لا يوصف وفي اليوم السابع خلع على سائر الأمراء والوزراء والقضاة والكتاب والأطباء مقدار ألف وثلاثمائة خلعة وأرسل إلى دمشق الخلع ففرقت كذلك وفي يوم الخميس مد السماط في الميدان المذكور في أربعة خيم وحضر السماط من علا ومن دنا ورسل التتار ورسل الفرنج وعليهم الخلع أيضا وجلس السلطان في صدر الخيمة على تخت من آبنوس وعاج مصفح بالذهب مسمر بالفضة غرم عليه ألف دينار ولما انقضى السماط قدم الأمراء الهدايا من الخيل والسلاح والتحف وسائر الملابس فلم يقبل السلطان من أحد منهم سوى ثوب واحد جبرًا له فلما كان وقت العصر ركب إلى القلعة وأخذ في تجهيز ما يليق بالزفاف والدخول ولم يمكن أحد من نساء الأمراء على الإطلاق من الدخول إلى البيوت ودخل الملك السعيد إلى الحمام ثم دخل إلى بيته الذب هيئ له بأهله وحملت العروس فدخل عليها.
ولما بلغ الملك المنصور صاحب حماة ذلك قدم القاهرة مهنئا للسلطان ومعه هدية سنية فوصل القاهرة في ثامن جمادى الآخرة فركب الملك السعيد لتلقيه ونزل بالكبش وأقام مدة يسيرة ثم عاد إلى بلده.
ثم خرج الملك الظاهر بعد ذلك من القاهرة في يوم الخميس العشرين من شهر رمضان بعد أن استناب الأمير آق سنقر الفارقاني الأستادار نائبا عنه في خدمة ولده الملك السعيد وترك معه من العسكر بالديار المصرية لحفظ البلاد خمسة آلاف فارس ورحل من المنزلة يوم السبت ثاني عشر شوال قاصدًا بلاد الروم فدخل دمشق ثم خرج منها ودخل حلب يوم الأربعاء مستهل ذي القعدة وخرج منها يوم الخميس إلى حيلان فترك بها بعض الثقل وأمر الأمير نور الدين علي بن مجلي نائب حلب أن يتوجه إلى الساجور ويقيم على الفرات بمن معه من عسكر حلب ويحفظ معابر الفرات لئلا يعبر منها أحد من التتار قاصدًا الشام ووصل إلى الأمير نور الدين الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا وأقام عنده فبلغ نواب التتار ذلك فجهزوا إليهم جماعة من عرب خفاجة لكبسهم فحشدوا وتوجهوا نحوهم.
فاتصل بالأمير عليّ نائب حلب الخبرُ وكان يقِظًا فركِب إليهم وآلتقاهم وكسرهم أقبح كسْرة وأخذ منهم ألفآ ومائتي جمل.
وأمّا الملك الظاهر فإنه ركِب من حَيْلانَ يوم الجمعة ثالث الشهر وسار إلىعيْنتَاب ثم إلى دُلُوك ثم إلى منزلة أخرى ثم إلى كَيْنُوك ثم إلى كُكْ صُو ومعناه الماء الأزرق باللغة التركيسة * ثم رَحَل عنه إلى أقجَادَرْبَنْد فقطعه في نصف نهار فلما خرجت عساكره وملكت المَفَاوِز قَدم الأميرُ شمس الدين سنْقُرَ الأشقر على جماعةٍ من العسكر وأَمَره بالمَسِير بين يديه فوقع على كَتِيبة التَّتار و عِدَّتُهم ثلاثة آلاف فارس ومقدمُهم كراي فهزمهم! سُنْقُر الأشقر وَأَسَرَ منهم طائفة. ذ لك في يوم الخميس تاسع ذي القعدة.
ثم ورد الخبرُ على الملك الظاهر بأن عسكر الروم والتتَار مع البَرْوَانَاه اجتمعوا على نهر جَيحان فلمّا صَعد العسكرُ الجبلَ أشرف على صحراءابلسْتَيْن فشاهد التَّتارَ قد رَتَبوا عساكرَهم أحدَ عَشرطُلْبًا في كل طُلْب ألف فارس وعزلوا عسمكر الروم عنهم خوفًا من باطنِ يكون لهم مع المسلمين وجعلوا عسكر الكرْج طُلْبًا واحدًا فلمّا تَرَاءَى الجَمْعَانَ حَمَلت مَيْسرة الئتار حَمْلةً واحدة وصدمواسجَق الملك الظاهر ودخلت طائفة منهم بينهم وشقُّوا المَيْسَرة وساقوا إلى المَيْمَنة فلما رأى الملك الظاهر ذلك أَرْدفهم بنفسه ثم لاحت منه التفاتةٌ فرأى المَيْسرة قد أتت عليها ميمنةُ التتار فأمر الملك الظاهر جماعةً من أصحابه الشُجْعان بإردافها ثم حَمَل هو بنفسه - رحمه اللّه - فلفا رأتْه العساكر حَمَلت نحوَه برُمتها حملةَ رجل واحد فترخل التَّتَار عن خيولهم وقاتلوا قتالَ الموت فلم يُغنِ عنهم ذلك شيئأ وصَبَر لهم الملك الظاهر وعسكره وهو يَكُر في القوم كالأسد الضارِي ويقتحم الآهوال بنفسه ويُشجع أصحابَه ويُطيب لهم الموت في الجهاد إلى أن أنزل اللهّ تعالى نصره عليه وآنكسر التتارُ أقبح كَسْرة وقُتِلوا وأسِروا وفَرّ مَنْ نجا منهم فآعتصموا بالجبال فقصدتْهم العساكرُ الإسلامية وأحاطوا بهم فترجلوا عن خيولهم وقاتلوا فقُتِل منهم جماعة كثيرة وقُتِل ممن قاتلهم من عساكر المسلمين الأميرُ ضياء الدين ابن الخَطِير وكان من الشُجْعان الفُرْسان والأميرُ شرف الدين قيران العَلائي والأميرُ عز الدين أخو المحمديّ وسيفُ الدين قفجاق الجَاشْنَكِير والأميرُ أَيْبَك الشَّقِيفِيٌ - رحمهم الله تعالى وأسكنهم الجنة -.
وأُسِر من كبار الروميين مُهًذّب الدين ابن مُعِين الدين البَرْوَانَاه وآبن بنت معين الدين المذكور والأميرُ نورالدين جبريل أبن جاجا والأميرُ قُطْب الدين محمود أخو مجد الدين الأتَابَك والأمير سِراج الدين إسماعيل أبن جاجا والأميرُ سيف الدين سُنْقُرجاه الزُوبَاشِيّ والأمير نصرة الدين بَهْمَن أخو تاج الدين كيوي يعني الصهر صاحبُ سِيواس والأمير كمال الدين إسماعيل عارض الجيش والأمير حُسام الدين كاوك والأميرُ سيف الدين بن الجاويش والأميرُ شهاب الدين غازي بن علي شِير التُّرْكُماني فوبّخهم السلطان الملك الظاهر من كونهم قاتلوه في مساعدة التتار الكَفَرة ثم سلمهم لمن آحتفظ بهم.
وأسِر من مقدمي التّتار على الألوف والمئين بركة " صهر أَبْغا بن هولاكو ملك التتار وسَرْطَق وخيز كدوس وسركده وتماديه. ولما أسر من أسر وقتل من قتل نجا البرواناه وساق حتى دخل قيصرية يوم الأحد ثاني عشر ذي القعدة واجتمع بالسلطان غياث الدين والصاحب فخر الدين والأتابك مجد الدين والأمير جلال الدين المستوفي والأمير بدر الدين ميكائيل النائب فأخبرهم بالكسرة وقال لهم: إن التتار المنهزمين متى دخلوا قيصرية فتكوا بمن فيها حنقا على المسلمين وأشار عليهم بالخروج منها فخرج السلطان غياث الدين بأهله وماله إلى توقات وبينها وبين قيصرية أربعة أيام.
ثم رحل الملك الظاهر بكرة السبت حادي عشر ذي القعدة قاصدًا قيصرية فمر في طريقه بقرية أهل الكهف ثم إلى قلعة سمندو فنزل إليه واليها مذعنًا للطاعة ثم سار إلى قلعة درندة وقلعة فالو ففعل متوليها كذلك ثم نزل بقرية من قرى قيصرية فبات بها فلما أصبح رتب عساكره وخرج أهل قيصرية بأجمعهم مستبشرين بلقائه وكانوا لنزوله نصبوا الخيام بوطاة فلما قرب الظاهر منها ترجل وجوه الناس على طبقاتهم ومشوا بين يديه إلى أن وصلها.
فلما كان يوم الجمعة سابع عشر الشهر ركب السلطان للجمعة فدخل قيصرية ونزل دار السلطنة وجلس على التخت وحضر بين يديه القضاة والفقهاء والصوفية والقراء وجلسوا في مراتبهم على عادة ملوك السلجوقية فأقبل عليهم السلطان ومد لهم سماطًا فأكلوا وانصرفوا ثم حضر الجمعة بالجامع وخطب له وحضر بين يديه الدراهم التي ضربت له باسمه.
وكتب إليه البرواناه يهنئه بالجلوس على تخت الملك بقيصرية فكتب الملك الظاهر إليه بعوده ليوليه مكانه فكتب إليه يسأله أن ينتظره خمسة عشر يومًا وكان مراد البرواناه أن يصل أبغا ويحثه على المسير ليدرك الملك الظاهر بالبلاد فاجتمع تتاوون بالأمير شمس الدين سنقر الأشقر وعرفه مكر البرواناه في ذلك فكان ذلك سببا لرحيل الملك الظاهر عن قيصرية مع ما انضاف إلى ذلك من قلق العساكر فرحل يوم الاثنين وكان على اليزك عز الدين أيبك الشيخي وكان الملك الظاهر ضربه بسبب سبقه الناس فغضب وهرب إلى التتار. وكان أولاد قرمان قد رهنوا أخاهم الصغير علي بك بقيصرية فأخرجه الملك الظاهر وأنعم عليه وسأل السلطان في تواقيع وسناجق له ولإخوته فأعطاه وتوجه نحو إخوته بجبل لارندة.
وعاد السلطان وأخذ في عوده أيضا عدة بلاد إلى أن وصل مكان المعركة يوم السبت فرأى القتلى فسأل عن عدتهم فأخبر أن المغل خاصة ستة آلاف وسبعمائة وسبعون نفسًا ثم رحل حتى وصل أقجادربند بعث الخزائن والدهليز والسناجق صحبة الأمير بدر الدين بيليك الخازندار ليعبر بها الدربند وأقام السلطان في ساقة العسكر بقية اليوم ويوم الأحد ورحل يوم الاثنين فدخل الدربند.
ثم سار إلى أن وصل دمشق في سابع المحرم سنة ست وسبعين وستمائة ونزل بالجوسق المعروف بالقصر الأبلق جوار الميدان الأخضر وتواترت عليه الأخبار بوصول أبغا ملك التتار إلى مكان الوقعة فجمع السلطان الأمراء وضرب مشورة فوقع الاتفاق على الخروج من دمشق بالعساكر وتلقيه حيث كان فأمر الملك الظاهر بضرب الدهليز على القصير وفي أثناء ذلك وصل رجل من التركمان وأخبر أن أبغا عاد إلى بلاده هاربًا خائفًا ثم وصل الأمير سابق الدين بيسري أمير مجلس الملك الناصر صلاح الدين وهو غير بيسري الكبير وأخبر بمثل ما أخبر التركماني فعند ذلك أمر الملك الظاهر برد الدهليز إلى الشام.
موت الملك الظاهر بيبرس
وكان عود أبغا من ألطاف الله تعالى بالمسلمين فإن الملك الظاهر في يوم الجمعة نصف المحرم من سنة ست وسبعين ابتدأ به مرض الموت.
مرض الملك الظاهر ووفاته لما كان يوم الخميس رابع عشر المحرم سنة ست وسبعين وستمائة جلس الملك الظاهر بالجوسق الأبلق بميدان دمشق يشرب القمز وبات على هذه الحالة فلما كان يوم الجمعة خامس عشره وجد في نفسه فتورا وتوعكا فشكا ذلك إلى الأمير شمس الدين سنقر الألفي السلحدار فأشار عليه بالقيء فاستدعاه فاستعصى عليه القيء فلما كان بعد صلاة الجمعة ركب من الجوسق إلى الميدان على عادته والألم مع ذلك يقوى عليه وعند الغروب عاد إلى الجوسق.
فلما أصبح اشتكى حرارة في باطنه فصنع له بعض خواصه دواء ولم يكن عن رأي طبيب فلم ينجع وتضاعف ألمه فأحضر الأطباء فأنكروا استعماله الدواء وأجمعوا على استعمال دواء مسهل فسقوه فلم ينجع فحركوه بدواء آخر كان سبب الإفراط في الإسهال ودفع دمًا فتضاعفت حماه وضعفت قواه فتخيل خواصه أن كبده يتقطع وأن ذلك عن سم سقيه فعولج بالجوهر وأخذ أمره في انحطاط وجهده المرض وتزايد به إلى أن قضى نحبه يوم الخميس بعد صلاة الظهر السابع والعشرين من المحرم فاتفق رأي الأمراء على إخفائه وحمله إلى القلعة لئلا تشعر العامة بوفاته ومنعوا من هو داخل من المماليك من الخروج ومن هو خارج منهم من الدخول.
فلما كان آخر الليل حمله من كبار الأمراء سيف الدين قلاوون الألفي وشمس الدين سنقر الأشقر وبدر الدين بيسري وبدر الدين بيليك الخازندار وعز الدين آقوش الأفرم وعز الدين أيبك الحموي وشمس اللين سنقر الألفي الظاهري وعلم الذين سنجر الحموي أبو خرص وجماعة من أكابر خواصه.
وتولى غسله وتحنيطه وتصبيره وتكفينه مهتاره الشجاع عنبر والفقيه كمال الدين الإسكندري المعروف بابن المنبجي والأمير عز الدين الأفرم ثم جعل في تابوت وعلق في بيت من بيوت البحرية بقلعة دمشق إلى أن حصل الاتفاق على موضع دفنه.
ثم كتب الأمير بدر الدين بيليك الخازندار إلى ولده الملك السعيد مطالعة بيده وسيرها إلى مصر على يد بدر الدين بكتوت الجوكنداري الحموي وعلاء الدين أيدغمش الحكيمي الجاشنكير فلما وصلا وأوصلاه المطالعة خلع عليهما وأعطى كل واحد منهما خمسين ألف درهم على أن ذلك بشارة بعود السلطان إلى الديار المصرية.
ولما كان يوم السبت ركب الأمراء إلى سوق الخيل بدمشق على عادتهم ولم يظهروا شيئا من زي الحزن. وكان أوصى أن يدفن على الطريق السالكة قريبًا من داريا وأن يبنى عليه هناك فرأى ولده الملك السعيد أن يدفنه داخل السور فابتاع دار العقيقي بثمانية وأربعين ألف درهم نقرة وأمر أن تغير معالمها وتبنى مدرسة. انتهى.
السلطان الملك السعيد أبن الظاهر بيبرس
وأما الملك السعيد فإنه جهز الأمير علم الدين سنجر الحموي المعروف بأبي خرص والطواشي صفي الدين جوهر الهندي إلى دمشق لدفن والده الملك الظاهر فلما وصلاها اجتمعا بالأمير عز الدين أيدمر نائب السلطنة بدمشق وعرفاه المرسوم فبادر إليه وحمل الملك الظاهر من القلعة إلى التربة ليلا على أعناق الرجال ودفن بها ليلة الجمعة خامس شهر رجب الفرد وكان قد ظهر موته بدمشق في يوم السبت رابع عشر صفر وشرع العمل في أعزيته بالبلاد الشامية والديار المصرية
قال الأمير بيبرس الدوادار في تاريخه - وهو أعرف بأحواله من غيره - قال: وكان القمر قد كسف كسوفًا كاملًا أظلم له الجو وتأول ذلك المتأولون بموت رجل جليل القدرة فقيل: إن الملك الظاهر لما بلغه ذلك حذر على نفسه وخاف وقصد أن يصرف التأويل إلى غيره لعله يسلم من شره وكان بدمشق شخص من أولاد الملوك الأيوبية وهو الملك القاهر بهاء الدين عبد الملك ابن السلطان الملك المعظم عيسى ابن السلطان الملك العادل أبي بكر بن أيوب فأراد الظاهر على ما قيل اغتياله بالسم فأحضره في مجلس شرابه فأمر الساقي أن يسقيه قمزًا ممزوجًا فيما يقال بسم فسقاه الساقي تلك الكأس فأحس به وخرج من وقته ثم غلط الساقي وملأ الكأس المذكورة وفيها أثر السم ووقعت الكأس في يد الملك الظاهر فشربه فكان من أمره ما كان. انتهى كلام بيبرس الدوادار باختصار.
وكانت مدة ملكه تسع عشرة سنة وشهرين ونصفا وملك بعده ابنه الملك السعيد ناصر الدين محمد المعروف ببركة خان وكان تسلطن في حياته من مدة سنين حسب ما تقدم ذكره.
وكان الملك الظاهر رحمه الله ملكًا شجاعًا مقدامًا غازيًا مجاهدًا مرابطًا خليقًا بالملك خفيف الوطأة سريع الحركة يباشر الحروب بنفسه.
قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي في تاريخه بعدما أثنى عليه: وكان خليقًا بالملك لولا ما كان فيه من الظلم والله يرحمه ويغفر له فإن له أياما بيضًا في الإسلام ومواقف مشهورة وفتوحات وقال الشيخ قطب الدين اليونيني في الذيل على مرآة الزمان في موت الملك الظاهر هذا نوعًا مما قاله الأمير بيبرس الدوادار لكنه زاد أمورًا نحكيها قال: حكى لي ابن شيخ السلامية عن الأمير أزدمر العلائي نائب السلطنة بقلعة صفد قال: كان الملك الظاهر مولعًا بالنجوم وما يقوله أرباب التقاويم كثير البحث عن ذلك فأخبر أنه يموت في سنة ست وسبعين ملك بالسم فحصل عنده من ذلك أثر كبير وكان عنده حسد شديد لمن يوصف بالشجاعة.
واتفق أن الملك القاهر عبد الملك بن المعظم عيسى الآتي ذكره لما دخل مع الملك الظاهر إلى الروم وكان يوم المصاف فدام الملك القاهر في القتال فتأثر الظاهر منه ثم انضاف إلى ذلك أن الملك الظاهر حصل منه في ذلك اليوم فتور على خلاف العادة وظهر عليه الخوف والندم على تورطه في بلاد الروم فحدثه الملك القاهر عبد الملك المذكور بما فيه نوع من الإنكار عليه والتقبيح لأفعاله فأثر ذلك عنده أثرًا آخر.
الظاهر يشرب سماً أعده ليسم الملك القاهر عن طريق الخطأ
فلما عاد الظاهر من غزوته سمع الناس يلهجون بما فعله الملك القاهر فزاد على ما في نفسه وحقد عليه فخيل في ذهنه أنه إذا سمه كان هو الذي ذكره أرباب النجوم فأحضره عنده ليشرب القمز معه وجعل الذي أعده له من السم في ورقة في جيبه من غير أن يطلع على ذلك أحد وكان للسلطان هنابات ثلاثة مختصة به مع ثلاثة سقاة لا يشرب فيها إلا من يكرمه السلطان فأخذ الملك الظاهر الكأس بيده وجعل فيه ما في الورقة خفية وأسقاه للملك القاهر وقام الملك الظاهر إلى الخلاء وعاد فنسي الساقي وأسقى الملك الظاهر فيه وفيه بقايا السم. انتهى كلام قطب الدين.
وخلف الملك الظاهر من الأولاد: الملك السعيد ناصر الدين محمد بركة خان. ومولده في صفر سنة ثمان وخمسين وستمائة بضواحي مصر وأمه بنت الأمير حسام الدين بركة خان بن دولة خان الخوارزمي. والملك المسعود نجم الدين خضرًا أمه أم ولد. والملك العادل بدر الدين سلامش. وولد له من البنات سبع.
وأما زوجاته فأم الملك السعيد بنت بركة خان وبنت الأمير سيف الدين نوكاي التتاري وبنت الأمير سيف الدين كراي التتاري وبنت الأمير سيف نوغاي التتاري وشهرزورية تزوجها لما قدم غزة وحالف الشهرزورية قبل سلطنته فلما تسلطن طلقها.
وأما وزراؤه لما تولى السلطنة استمر زين الدين يعقوب بن عبد الرفيع بن الزبير ثم صرفه واستوزر الصاحب بهاء الذين علي بن محمد بن سليم بن حنا.
وكان للملك الظاهر أربعة آلاف مملوك مشتريات أمراء وخاصكية وأصحاب وظائف.
وأما سيرته وأحكامه وشرف نفسه حكي: أن الأشرف صاحب حمص كتب إليه يستأذنه في الحج وفي ضمن الكتاب شهادة عليه أن جميع ما يملكه انتقل عنه إلى الملك الظاهر فلم يأذن له الملك الظاهر في تلك السنة غضبا منه لكونه كتب ذلك واتفق أن الأشرف مات بعد ذلك فتسلم الملك الظاهر حصونه التي كانت بيده ولم يتعرض للتركة ومكن ورثته من الموجود والأملاك وكان شيئًا كثيرًا إلى الغاية ودفع الملك الظاهر إليهم الشهادة وقد تجنبوا التركة لعلمهم بالشهادة.
ومنها أن شعرا بانياس وهي إقليم يشتمل على أرض كثيرة عاطلة بحكم استيلاء الفرنج على صفد فلما افتتح صفد أفتاه بعض العلماء باستحقاق الشعرا فلم يرجع إلى الفتيا وتقدم أمره أن من كان له فيها ملك قديم فليتسلمه.
وأما صدقاته فكان يتصدق في كل سنة بعشرة آلاف إردب قمح في الفقراء والمساكين وأرباب الزوايا وكان يرتب لأيتام الأجناد ما يقوم بهم على كثرتهم ووقف وقفًا على تكفين أموات الغرباء بالقاهرة ومصر ووقفا ليشترى به خبز ويفرق في فقراء المسلمين وأصلح قبر خالد بن الوليد - رضي الله عنه - بحمص ووقف وقفًا على من هو راتب فيه من إمام ومؤذن وغير ذلك ووقف على قبر أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - وقفًا مثل ذلك وأجرى على أهل الحرمين والحجاز وأهل بدر وغيرهم ما كان انقطع في أيام غيره من الملوك.
وأما عمائره: المدارس والجوامع والأسبلة والأربطة فكثيرة وغالبها معروفة به وكان يخرج كل سنة جملة مستكثرة يستفك بها من حبسه القاضي من المقلين وكان يرتب في أول شهر رمضان بمصر والقاهرة مطابخ لأنواع الأطعمة وتفرق على الفقراء والمساكين.
وأما حرمته ومهابته منها: أن يهوديا دفن بقلعة جعبر عند قصد التتار لها مصاغًا وذهبًا وهرب بأهله إلى الشام واستوطن حماة فلما أمن كتب إلى صاحب حماة يعرفه ويسأله أن يسير معه من يحفظه ليأخذ خبيئته ويدفع لبيت المال نصفه فطالع صاحب حماة الملك الظاهر بذلك فرد عليه الجواب أنه يوجهه مع رجلين ليقضي حاجته فلما توجهوا مع اليهودي ووصلوا إلى الفرات امتنع من كان معه من العبور فعبر اليهودي وحده فلما وصل وأخذ في الحفر هو وابنه وإذا بطائفة من العرب على رأسه فسألوه عن حاله فأخبرهم فأرادوا قتله وأخذ المال فأخرج لهم كتاب الملك الظاهر مطلقا إلى من عساه يقف عليه فلما رأوا المرسوم كفوا عنه وساعدوه حتى استخلص ماله. ثم توجهوا به إلى حماة وسلموه إلى صاحب حماة وأخذوا خطه بذلك.
ومنها: أن جماعة من التجار خرجوا من بلاد العجم قاصدين مصر فلما مروا بسيس منعهم صاحبها من الغبور وكتب إلى أبغا ملك التتار فأمره أبغا بالحوطة عليهم وإرسالهم إليه وبلغ الملك الظاهر خبرهم فكتب إلى نائب حلب بأن يكتب إلى نائب سيس: إن هو تعرض لهم بشيء يساوي درهما واحدًا أخذت عوضه مرارًا فكتب إليه نائب حلب بذلك فأطلقهم وصانع أبغا بن هولاكو على ذلك بأموال جليلة حتى لا يخالف مرسوم. الظاهر وهو تحت حكم غيره لا تحت حكم الظاهر.
ومنها: أن تواقيعه التي كانت بأيدي التجار المترددين إلى بلاد القبجاق بإعفائهم من الصادر والوارد كان يعمل بها حيث حلوا من مملكة بركة خان ومنكوتمر وبلاد فارس وكرمان.
ومنها: أنه أعطى بعض التجار مالًا ليشتري به مماليك وجواري من الترك فشرهت نفس التاجر في المال فدخل به قراقرم من بلاد الترك واستوطنها فوقع الملك الظاهر على خبره فبعث إلى منكوتمر في أمره فأحضروه إليه تحت الحوطة إلى مصر.
وكان يميل إلى التاريخ وأهله ميلًا زائدًا ويقول: سماع التاريخ أعظم من التجارب وكانت ترد عليه الأخبار وهو بالقاهرة بحركة العدو فيأمر العسكر بالخروج وهم زيادة على ثلاثين ألف فارس فلا يبيت منهم فارس في بيته وإذا خرج من القاهرة لا يمكن من العود إليها ثانيًا.
كلمة سياسة هى كلمة قادمة من لغة التتار
قلت: كان الملك الظاهر - رحمه الله - يسير على قاعدة ملوك التتار وغالب أحكام جنكزخان من أمر اليسق والتورا واليسق: هو الترتيب والتورا: المذهب باللغة التركية وأصل لفظة اليسق: سي يسا وهي لفظة مركبة من كلمتين صدر الكلمة: سي بالعجمي وعجزها يسا بالتركي لأن سي بالعجمي ثلاثة ويا بالمغلي الترتيب فكأنه قال: التراتيب الثلاثة.
وسبب هذه الكلمة أن جنكزخان ملك المغل كان قسم ممالكه في أولاده الثلاثة وجعلها ثلاثة أقسام وأوصاهم بوصايا لم يخرجوا عنها الترك إلى يومنا هذا مع كثرتهم واختلاف أديانهم فصاروا يقولون: سي يسا - يعني التراتيب الثلاثة التي رتبها جنكزخان - وقد أوضحنا هذا في غير هذا الكتاب بأوسع من هذا. انتهى.
فصارت الترك يقولون: إسي يسا فثقل ذلك على العامة فحرفوها على عادة تحاريفهم وقالوا: سياسة.
ثم إن الترك أيضا حذفوا صدر الكلمة فقالوا: يسا مدة طويلة ثم قالوا: يسق واستمر ذلك إلى يومنا هذا. انتهى.
الوظائف المستحدثة في أيامه قلت: والملك الظاهر هذا هو الذي ابتدأ في دولته بأرباب الوظائف من الأمراء والأجناد وإن كان بعضها قبله فلم تكن على هذه الصيغة أبدًا وأمثل لذلك مثلًا فيقاس عليه وهو أن الدوادار كان قديمًا لا يباشره إلا متعمم يحمل الدواة ويحفظها.
وأمير مجلس هو الذي كان يحرس مجلس قعود السلطان وفرشه. والحاجب هو البواب الآن لكونه يحجب الناس عن الدخول وقس على هذا.
فجاء الملك الظاهر جدد جماعة كثيرة من الأمراء والجند ورتبهم في وظائف: كالدوادار والخازندار وأمير آخور والسلاخور والسقاة والجمدارية والحجاب ورؤوس النوب فأما موضوع أمير سلاح في أيام الملك الظاهر فهو الذي كان يتحدث على السلاح دارية ويناول السلطان آلة الحرب والسلاح في يوم القتال وغيره مثل يوم الأضحى وما أشبهه.
ولم يكن إذ ذاك في هذه المرتبة - أعني الجلوس رأس ميسرة السلطان - وإنما هذا الجلوس كان إذ ذاك مختصا بأطابك.
ثم بعده في الدولة الناصرية محمد بن قلاوون برأس نوبة الأمراء كما سيأتي ذكره في محله.
وتأييد ذلك يأتي في أول ترجمة الملك الظاهر برقوق فإن برقوق نقل أمير سلاح قطلوبغا الكوكائي إلى حجوبية الحجاب.
وأمير مجلس كان موضوعها في الدولة الظاهرية بيبرس التحدث على الأطباء والكحالين والمجبرين وكانت وظيفة جليلة أكبر قدرًا من أمير سلاح.
وأما الدوادارية فكانت وظيفة سافلة.
كان الذي يليها أولًا غير جندي وكانت نوعًا من أنواع المباشرة فجعلها الملك الظاهر بيبرس على هذه الهيئة غير أنه كان الذي يليها أمير عشرة.
ومعنى دوادار باللغة العجمية: ماسك الدواة فإن لفظة دار بالعجمي: ماسك لا ما يفهمه عوام المصريين أن دار هي الدار التي يسكن فيها كما يقولون في حق الزمام: زمام الآدر وصوابه زمام دار.
وأول من أحدث هذه الوظيفة ملوك السلجوقية.
والجمدار الجمى هي البقجة باللغة العجمية ودار تقدم الكلام عليه فكأنه قال: ماسك البقجة التي للقماش.
وقس على هذا في كل لفظ يكون فيه دار من الوظائف.
وأما رأس نوبة فهي عظيمة عند التتار ويسمون الذي يليها يسوول بتفخيم السين.
والملك الظاهر أول من أحدثها في مملكة مصر.
والأمير آخور أيضًا وظيفة عظيمة والمغل تسمي الذي يليها آق طشي.
وأمير آخور لفظ مركب من فارسي وعربي فأمير معروف وآخور هو اسم المذود بالعجمي فكأنه يقول: أمير المذود الذي يأكل فيه الفرس.
وكذلك السلاخوري وغيره مما أحدثه الملك الظاهر أيضًا.
وأما الحجوبية
فوظيفة جليلة في الدولة التركية وليس هي الوظيفة التي كان يليها حجبة الخلفاء فأولئك كانوا حجبة يحجبون الناس عن الدخول على الخليفة ليس من شأنهم الحكم بين الناس والأمر والنهي وهي مما جدده الملك الظاهر بيبرس لكنها عظمت في دولة الملك الناصر محمد بن قلاوون حتى عادلت النيابة.
وأما ما عدا ذلك من الوظائف فأحدثها الملك الناصر محمد بن قلاوون كما سيأتي بيانه في تراجمه الثلاث من هذا الكتاب بعد أن جدد والده الملك المنصور قلاوون وظائف أخر كما سيأتي ذكره أيضًا في ترجمته على ما شرطناه في هذا الكتاب من أن كل من أحدث شيئًا عزيناه له.
ومما أحدثه الملك الظاهر أيضًا البريد في سائر ممالكه بحيث إنه كان يصل إليه أخبار أطراف بلاده على اتساع مملكته في أقرب وقت.
وأما ما افتتحه من البلاد وصار إليه من أيدي المسلمين فعدة بلاد وقلاع.
والذي افتتحه من أيدي الفرنج - خذلهم الله -: قيسارية وأرسوف وصفد وطبرية ويافا والشقيف وأنطاكية وبغراس والقصير وحصن الأكراد وعكار والقرين وصافيثا ومرقية.
وناصفهم على المرقب وبانياس وبلاد أنطرطوس وعلى سائر ما بقي في أيديهم من البلاد والحصون وغيرها. واستعاد من صاحب سيس دربساك ردركوش ورعبان والمرزبان وبلادًا أخر. والذي صار إليه من أيدي المسلمين: دمشق وبعلبك وعجلون وبصرى وصرخد والصلت وكانت هذه البلاد التي تغلب عليها الأمير علم الدين سنجر الحلبي بعد موت الملك المظفر قطز لما تسلطن بدمشق وتلقب بالملك المجاهد. انتهى.
وحمص وتدمر والرحبة ودلويا وتل باشر وهذه البلاد انتقلت إليه عن الملك الأشرف صاحب حمص في سنة اثنتين وستين وستمائة.
وصهيون وبلاطنس وبرزيه وهذه منتقلة إليه عن الأمير سابق الدين سليمان بن سيف الدين أحمد وعمه عز الدين.
وحصون الإسماعيلية وهي: الكهف والقدموس والمينقة والعليقة والخوابي والرصافة ومصياف والقليعة.
وأما ما انتقل إليه عن الملك المغيث ابن الملك العادل أبي بكر ابن الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب: الشوبك والكرك.
وما انتقل إليه عن التتار: بلاد حلب الشمالية بأسرها وشيزر والبيرة.
بلاد النوبة والسلطان بيبرس
وفتح الله على يديه بلاد النوبة وفيها من البلاد مما يلي أسوان جزيرة بلاق ويلي هذه البلاد بلاد العلى وجزيرة ميكائيل وفيها بلاد وجزائر الجنادل وهي أيضًا بلاد ولما فتحها أنعم بها على ابن عم المأخوذة منه ثم ناصفه عليها ووضع عليه عبيدًا وجواري وهجنًا وبقرًا وعن كل بالغ من رعيته دينارًا في كل سنة.
وكانت حدود مملكة الملك الظاهر من أقصى بلاد النوبة إلى قاطع الفرات.
ووفد عليه من التتار زهاء عن ثلاثة آلاف فارس فمنهم من أمره طبلخاناه ومنهم من جعله أمير عشرة إلى عشرين ومنهم من جعله من السقاة ثم جعل منهم سلحدارية وجمدارية ومنهم من أضافه إلى الأمراء.
مبانيه وأما مبانيه فكثيرة منها ما هدمه التتار من المعاقل والحصون.
وعمر بقلعة الجبل دار الذهب وبرحبة الحبارج قبة عظيمة محمولة على اثني عشر عمودا من الرخام الملون وصور فيها سائر حاشيته وأمرائه على هيئتهم وعمر بالقلعة أيضا طبقتين مطلتين على رحبة الجامع وأنشأ برج الزاوية المجاورة لباب القلعة وأخرج منه رواشن وبنى عليه قبة وزخرف سقفها وأنشأ جواره طباقًا للمماليك أيضًا.
وأنشأ برحبة باب القلعة دارًا كبيرة لولده الملك السعيد وكان في موضعها حفير فعقد عليه ستة عشر عقدًا وأنشأ دورًا كثيرة بظاهر القاهرة مما يلي القلعة وإصطبلات برسم الأمراء فإنه كان يكره سكنى الأمير بالقاهرة مخافة من حواشيه على الرعية. وأنشأ حمامًا بسوق الخيل لولده الملك السعيد وأنشأ الجسر الأعظم والقنطرة التي على الخليج وأظنها قنطرة السباع وأنشأ الميدان بالبورجي ونقل إليه النخيل بالثمن الزائد من الديار المصرية فكانت أجرة نقله ستة عشر ألف دينار وأنشأ به المناظر والقاعات والبيوتات.
وجدد جامع الأنور - أعني جامع الظافر العبيدي - المعروف الآن بجامع الفاكهيين والجامع الأزهر وبنى جامع العافية بالحسينية وأنفق عليه فوق الألف ألف درهم وأنشأ قريبًا منه زاوية الشيخ خضر وحمامًا وطاحونًا وفرنًا وعمر بالمقياس قبة رفيعة مزخرفة وأنشأ عدة جوامع بالديار المصرية وجدد قلعة الجزيرة وقلعة العمودين ببرقة وقلعة السويس وعمر جسرًا بالقليوبية والقناطر على بحر أبي المنجا وقنطرة بمنية السيرج وقنطرتين عند القصير على بحر إبراش بسبعة أبواب مثل قنطرة بحر أبي المنجا وأنشأ في الجسر الذي يسلك فيه إلى دمياط ست عشرة قنطرة وبنى على خليج الإسكندرية قريبًا من قنطرتها قنطرة عظيمة بعقد واحد وحفر خليج الإسكندرية وكان قد ارتدم بالطين وحفر بحر أشموم وكان قد عمي وحفر ترعة الصلاح وخورسخا وحفر المحامدي والكافوري وحفر في ترعة أبي الفضل ألف قصبة وحفر بحر الصمصام بالقليوبية وحفر بحر سردوس.
وتمم عمارة حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل منبره وجعل بالضريح النبوي درابزينًا وذهب سقوفه وجددها وبيض حيطانه وجدد البيمارستان بالمدينة النبوية ونقل إليه سائر المعاجين والأكحال والأشربة وبعث إليه طبيبًا من الديار المصرية.
وجدد في الخليل عليه السلام قبته ورم شعثه وأصلح أبوابه وميضأته وبيضه وزاد في راتبه. وجدد بالقدس الشريف ما كان قد تهدم من قبة الصخرة وجدد قبة السلسلة وزخرفها وأنشأ بها خانًا للسبيل نقل بابه من دهليز كان للخلفاء المصريين بالقاهرة وبنى به مسجدًا وطاحونًا وفرنًا وبستانًا.
وبنى على قبر موسى عليه السلام قبة ومسجدًا وهو عند الكثيب الأحمر قبلي أريحا ووقف عليه وقفًا.
وجدد بالكرك برجين كانا صغيرين فهدمهما وغيرهما.
ووسع عمارة مشهد جعفر الطيار - رضي الله عنه - ووقف عليه وقفًا زيادة على وقفه على الزائرين له والوافدين عليه.
وعمر جسرًا بقرية دامية بالغور على نهر الشريعة ووقف عليه وقفًا برسم ما عساه يتهدم منه.
وأنشأ جسورًا كثيرة بالغور والساحل.
وأنشأ قلعة قاقون وبنى بها جامعًا ووقف عليه وقفًا وبنى على طريقها حوضًا للسبيل.
وجدد جامع مدينة الرملة وأصلح جامعًا لبني أمية ووقف عليه وقفًا.
وعدة جوامع ومساجد بالساحل. وجدد باشورة لقلعة صفد وأنشأها بالحجر الهرقلي وعمر لها أبراجا وبدنات وصنع بغلات مصفحة دائر الباشورة بالحجر المنحوت وأنشأ بالقلعة صهريجًا كبيرًا مدرجًا من أربع جهاته وبنى عليه برجًا زائد الارتفاع قيل إن ارتفاعه مائة ذراع وبنى تحت البرج حمامًا وصنع الكنيسة جامعًا وأنشأ رباطًا ثانيًا وبنى حمامًا ودارًا لنائب السلطنة.
وكانت قلعة الصبيبة قد أخربها التتار ولم يبقوا منها إلا الآثار فجددها وأنشأ لجامعها منارة وبنى بها دارًا لنائب السلطنة وعمل جسرًا يمشى عليه إلى القلعة.
وكان التتار قد هدموا شراريف قلعة دمشق ورؤوس أبراجها فجدد ذلك كله وبنى فوق برج الزاوية المطل على الميادين وسوق الخيل طارمة كبيرة وجدد منظرة على قائمة مستجدة على البرج المجاور لباب النصر وبيض البحرة وجدد دهان سقوفها: وبنى حمامًا خارج باب النصر بدمشق وجمد ثلاثة إسطبلات على الشرف الأعلى وبنى القصر الأبلق بالميدان بدمشق وما حوله من العمائر.
وجدد مشهد زين العابدين رضي الله عنه بجامع دمشق وأمر بترخيم الحائط الشمالي وتجديد باب البريد وفرشه بالبلاط.
ورم شعث مغارة الدم. وجدد المباني التي هدموها التتار من قلعة صرخد.
وجدد قبر نوح عليه السلام بالكرك. وجدد أسوار حصن الأكراد وعفر قلعتها.
وعمر جوامع ومساجد بالساحل يطول الشرح في ذكرها حذفتها خوف الإطالة.
وبني في أيامه بالديار المصرية ما لم يبن في أيام الخلفاء المصريين ولا ملوك بني أيوب من الأبنية والرباع والخانات والقواسير والدور والمساجد والحمامات من قريب مسجد التبن إلى أسوار القاهرة إلى الخليج وأرض الطبالة واتصلت العمائر إلى باب المقسم إلى اللوق إلى البورجي ومن الشارع إلى الكبش وحدرة ابن قميحة إلى تحت القلعة ومشهد السيدة نفيسة رضي الله عنها إلى السور القراقوشي.
وكل ذلك من كثرة عدله وإنصافه للرعية والنظر في أمورهم وإنصاف الضعيف من المستضعف والذب عنهم من العدو المخذول رحمه الله وعفا عنه.
ما كان ينوب دولته من الكلف كانت عدة العساكر بالديار المصرية أيام الملك الكامل محمد وولده الملك الصالح أيوب عشرة آلاف فارس فضاعفها أربعة أضعاف وكان أولئك الذين كانوا قبله العشرة آلاف مقتصدين في الملبوس والنفقات والعدد وهؤلاء - أعني عسكر الظاهر الأربعين ألفا - كانوا بالضد من ذلك وكانت كلف ما يلوذ بهم من إقطاعهم وهؤلاء كلفهم على الملك الظاهرة ولذلك تضاعفت الكلف في أيامه.
فإنه كان يصرف في كلف مطبخ أستاذه الملك الصالح أيوب ألف رطل لحم بالمصري خاصة نفسه في كل يوم والمصروف في مطبخ الملك الظاهر عشرة آلاف رطل كل يوم عنها وعن توابلها عشرون ألف درهم نقرة ويصرف في خزانة الكسوة في كل يوم عشرون ألف درهم ويصرف في الكلف الطارئة المتعلقة بالرسل والوفود في كل يوم عشرون ألف درهم ويصرف في ثمن قرط دوابه ودواب من يلوذ به في كل سنة ثمانمائة ألف درهم ويقوم بكلف الخيل والبغال والجمال والحمير من العلوفات خمس عشرة ألف عليقة في اليوم عنها ستمائة إردب وما كان يقوم به لمن أوجب نفقته وألزمها عليه تطحن وتحمل إلى المخابز المعدة لعمل الجرايات خلا ما يصرف على أرباب الرواتب في كل شهر عشرون ألف إدرب وذلك بالديار المصرية خاصة. وهذا خلاف الطوارئ التي كانت تفد عليه فما يمكن حصرها.
وكلف أسفاره وتجديد السلاح في كل قليل وما كان عليه من الجوامك والجرايات لمماليكه ولأرباب الخدم فكان ديوانه يفي بذلك كله ويحمل لحاصله جملة كبيرة في السنة من الذهب.
وكان سبب ذلك أنه رفع أيدي الأقباط من غالب تعلقاته فافتقر أكثرهم في أيامه وباشروا الصنائع كالنجارة والبناية ولا زال أمرهم على ذلك حتى تراجع أواخر الدولة الناصرية محمد بن قلاوون. انتهت ترجمة الملك الظاهر بيبرس رحمه الله تعالى.
السنة الأولى من سلطنة الظاهر بيبرس البندقداري وهي سنة تسع وخمسين وستمائة على أنه حكم في آخر السنة الماضية نحو الشهر.
قلت: ودخلت سنة تسع وخمسين المذكورة وليس للمسلمين خليفة وكان أولها يوم الاثنين لأيام خلون من كانون أحد شهور الروم وكانون بالقبطي كيهك.
فدخلت السنة والسلطان بديار مصر الملك الظاهر بيبرس وصاحب مكة نجم الدين أبو نمي بن أبي سعد الحسني وصاحب المدينة جماز بن شيحة الحسيني وصاحب دمشق وبعلبك وبانياس والصبيبة الأمير علم الدين سنجر الحلبي تغلب عليها وتسلطن وتلقب بالملك المجاهد ونائب حلب من قبل الملك الظاهر بيبرس الأمير حسام الدين لاجين الجوكندار العزيزي وصاحب الموصل الملك الصالح إسماعيل ابن الملك الرحيم لؤلؤ وصاحب جزيرة ابن عمر أخوه الملك المجاهد سيف الدين إسحاق بن لؤلؤ المذكور وصاحب ماردين الملك السعيد نجم الدين إيلغازي الأرتقي وصاحب بلاد الروم ركن الدين قليج أرسلان ابن السلطان غياث الدين كيخسرو بن علاء الدين كيقباد السلجوقي وأخوه عز الدين كيكاوس والبلاد بينهما مناصفة وصاحب الكرك والشوبك الملك المغيث فتح الدين عمر ابن الملك العادل ابن الملك الكامل ابن الملك العادل بن أيوب وصاحب حماة الملك المنصور محمد الأيوبي وصاحب حمص وتدمر والرحبة الملك الأشرف مظفر الدين موسى وصاحب مراكش من بلاد المغرب أبو حفص عمر الملقب بالمرتضى وصاحب تونس أبو عبد الله محمد بن أبي زكريا وصاحب اليمن الملك المظفر شمس الدين يوسف بن عمر التركماني من وفيها ملك السلطان الملك الظاهر دمشق وأخرج منها علم الدين سنجر الحلبي وولى نيابتها الأمير علاء الدين أيدكين البندقداري أستاذ الملك الظاهر بيبرس هذا الذي أخذه الملك الصالح نجم الدين أيوب منه حسب ما ذكرنا ذلك أول ترجمة الملك الظاهر.
وفيها وصل الخليفة المستنصر بالله إلى القاهرة وبويع بالخلافة وسافر صحبة الملك الظاهر إلى الشام ثم فارقه وتوجه إلى العراق فقتل وقد مر ذكر ذلك كله أيضا.
وفيها توفي الملك الصالح نور الدين إسماعيل ابن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بن محمد ابن أسد الدين شيركوه الكبير كان الملك الصالح هذا صاحب حمص ملكها بعد موت أبيه وكان له اختصاص كبير بابن عمه الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب حلب والشام وكان الصالح هذا يداري التتار ولا يشاققهم وآخر الأمر أنه قتل في وقعة هولاكو بيد التتار - رحمه الله تعالى - لما توجه إليهم صحبة الملك الناصر صلاح الدين يوسف المذكور وكان عنده حزم وشجاعة.
ووقع للملك الناصر هذا أمور ووقائع ومحن وهو الذي كان الملك الظاهر بيبرس لما خرج من مصر في نوبة البحرية توجه إليه وصار في خدمته.
وقد مر ذكره في مواطن كثيرة من هذا الكتاب من قدومه نحو القاهرة في جفلة التتار ورجوعه من قطية إلى البلاد الشامية وغير ذلك ثم آل أمره إلى أن توجه إلى ملك التتار هولاكو وتوجه معه أخوه الملك الظاهر سيف الدين غازي وكان رشح للملك والملك الصالح نور الدين إسماعيل صاحب حمص المقدم ذكره في هذه السنة ولما وصل الملك الناصر إلى هولاكو أحسن إليه وأكرمه إلى أن بلغه كسرة عين جالوت غضب عليه وأمر بقتله فاعتذر إليه فأمسك عن قتله لكن أعرض عنه فلما بلغه كسرة بيدرا على حمص قتله وقتل أخاه سيف الدين غازيا المذكور وقتل الملك الصالح نور الدين صاحب حمص وجميع من كان معه سوى ولده الملك العزيز.
وكان الملك الناصر مليح الشكل إلا أنه كان أحول وكان عنده فصاحة ومعرفة بالأدب وكان كريمًا عاقلًا فاضلًا جليلًا متجملًا في مماليكه وملبسه ومركبه وكان فصيحًا شاعرًا لطيفًا. انتهى.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم خمس أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعا.
السنة الثانية من سلطنة الظاهر بيبرس وهي سنة ستين وستمائة
فيها استولى الملك الظاهر بيبرس صاحب الترجمة على دمشق وبعلبك والضبيبة وحلب وأعمالها خلا البيرة.
وفيها استولى التتار على الموصل وقتلوا الملك الصالح صاحبها الذي كان خرج مع الخليفة المستنصر من ديار مصر على ما يأتي ذكرهما في محله من هذه السنة.
وفيها توفي الخليفة أمير المؤمنين المستنصر بالله أبو القاسم أحمد ابن الخليفة الظاهر بأمر الله محمد ابن الناصر لدين الله أحمد الذي بويع بالقاهرة بالخلافة بعد شغور الخلافة نحو سنتين ونصف وخرج الملك الظاهر بيبرس معه إلى البلاد الشامية وقد مر ذكر قدومه القاهرة وبيعته وسفره وقتله ورفع نسبه إلى العباس رضي الله عنه في ترجمة الملك الظاهر هذا ولا حاجة للإعادة ومن أراد ذلك فلينظره هناك.
وفيها قتل الملك الصالح إسماعيل ابن الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل.
وقد ذكرنا وفوده على الملك وخروجه مع أخيه والخليفة المستنصر بالله المقدم ذكره فلا حاجة لذكره هنا ثانيًا قتل بأيدي التتار في ذي القعدة وكان عارفًا عادلًا حسن السيرة. انتهى.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم ست أذرع وسبع أصابع. مبلغ الزيادق ثماني عشرة ذراعا سواء.
السنة الثالثة من سلطنة الظاهر بيبرس وهي سنة إحدى وستين وستمائة.
فيها بايع السلطان الملك الظاهر بيبرس المذكور الخليفة الحاكم بأمر الله أبا العباس أحمد ابن الأمير أبي علي الحسن وقيل: ابن محمد بن الحسن بن علي القبي ابن الخليفة الراشد وهو التاسع والثلاثون من خلفاء بني العباس وهو أول خليفة من بني العباس سكن بمصر ومات بها وبويع يوم الخميس تاسع المحرم من سنة إحدى وستين وستمائة وكان وصوله إلى الديار المصرية في السنة الحالية.
وفيها هلك ريدا فرنس واسمه بواش المعروف بالفرنسيس ملك الفرنج الذي كان ملك دمياط في دولة الملك الصالح أيوب.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم خمس أذرع وسبع أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعا.
السنة الرابعة من سلطنة الظاهر بيبرس وهي سنة اثنتين وستين وستمائة.
فيها انتهت عمارة مدرسة السلطان الملك الظاهر بيبرس ببين القصرين من القاهرة.
وفيها استدعى الملك الظاهر الأمير علاء الدين أيدكين البندقداري إلى القاهرة وأمره أن يجعل نائبه بحلب بعد خروجه الأمير نور الدين علي بن مجلي ففعل ذلك وقدم القاهرة فلما وصل إليها عزله وأقام نور الدين عوضه في نيابة حلب.
وقد تقدم أن علاء الدين أيدكين هو أستاذ الملك الظاهر بيبرس الذي اشتراه منه الملك الصالح نجم الدين أيوب.
وفيها كان الغلاء بديار مصر فبلغ الإردب القمح مائة درهم وخمسة دراهم نقرة والشعير سبعين درهما الإردب وثلاثة أرطال خبز بالمصري بدرهم نقرة ورطل اللحم بالمصري - وهو مائة وأربعة وأربعون درهما - بدرهم وكان هذا الغلاء عظيمًا بديار مصر.
فلما وقع ذلك فرق الملك الظاهر الفقراء على الأغنياء والأمراء وألزمهم بإطعامهم ثم فرق من شونه القمح على الزوايا والأربطة ورتب للفقراء كل يوم مائة إردب مخبوزة تفرق بجامع ابن طولون.
ودام على ذلك إلى أن دخلت السنة الجديدة والمغل الجديدة وأبيع القمح في الإسكندرية في هذا الغلاء الإردب بثلاثمائة وعشرين درهمًا.
وفيها أحضر بين يدي السلطان طفل ميت له رأسان وأربع أعين وأربع أيد وأربع أرجل فأمر وفيها توفي القاضي كمال الدين أبو العباس أحمد بن عبد الله بن عبد الرحمن الأسدي الحلبي الشافعي المعروف بابن الأستاذ قاضي حلب مولده سنة إحدى عشرة وستمائة سمع الكثير وحدث ودرس وكان فاضلًا عالمًا مشكور السيرة مات في شوال.
وفيها توفي الملك المغيث فتح الدين أبو الفتح عمر صاحب الكرك ابن السلطان الملك العادل أبي بكر محمد ابن السلطان الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبي بكر محمد ابن الأمير نجم الدين أيوب الأيوبي المصري ثم الكركي.
وقد ذكرنا من أمره نبذة كبيرة في ترجمة عمه الملك الصالح ثم من بعده في عدة تراجم لا سيما لما توجه إليه الملك الظاهر بيبرس مع جماعة البحرية وأقام عنده وحركه على ملك مصر حسب ما تقدم ذكر ذلك كله. انتهى.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم أربع أذرع وأربع عشرة إصبعًا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا واثنتا عشرة إصبعا.
السنة الخامسة من سلطنة الظاهر بيبرس وهي سنة ثلاث وستين وستمائة.
فيها ولى الملك الظاهر بيبرس من كل مذهب قاضيًا وقد تقدم ذكر ذلك.
وهو الذي قتل الخليفة المستعصم المقدم ذكره وكان على قاعدة المغل لا يتدين بدين وإنما كانت زوجته طقز خاتون قد تنصرت فكانت تعضد النصارى وتقيم شعائرهم في تلك البلاد.
وكان هولاكو سعيدًا في حروبه لا يروم أمرًا إلا ويسهل عليه وكانت وفاته بعلة الصرع وكان الضرع يعتريه من عدة سنين في كل وقت حتى إنه كان يعتريه في اليوم الواحد المرة والمرتين والثلاث ثم زاد به فمرض ولم يزل ضعيفا نحو شهرين وهلك فأخفوا موته وصبروه حتى حضر ولده أبغا وجلس مكانه في الملك وقيل: إنه لم يدفن وعلق بسلاسل ومات وله ستون سنة أو نحوها. وخلف من الأولاد الذكور سبعة عشر ولدًا.
وهم أبغا الذي ملك بعده وأشموط وتمشين وتكشي وكان جبارًا وأجاي وتستر ومنكوتمر الذي التقى مع الملك المنصور قلاوون على حمص وانهزم جريحًا كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى وباكودر وأرغون وتغاي تمر والملك أحمد وجماعة أخر. والطاغية هولاكو بمراغة.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم أربع أذرع وسبع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ثماني عشرة السنة السابعة من سلطنة الظاهر بيبرس وهي سنة خمس وستين وستمائة.
فيها توفي بركة خان بن جوجي بن جنكزخان ملك التتار هو ابن عم هولاكو المقدم ذكره وكانت مملكته عظيمة متسعة جدًا وهي بعيدة عن بلادنا وله عساكر وافرة العدد وكان بركة هذا يميل إلى المسلمين ميلًا زائدًا ويعظم أهل العلم ويقصد الصلحاء ويتبرك بهم.
ووقع بينه وبين ابن عمه هولاكو وقاتله بسبب قتله للخليفة المستعصم بالله وغيره من المسلمين وكان بينه وبين الملك الظاهر مودة ويعظم رسله وكان قد أسلم هو وكثير من جنده وبنى المساجد وأقيمت الجمعة ببلاده وكان جوادًا عادلًا شجاعًا ومات ببلاده في هذه السنة وهو في عشر الستين وقام مقامه منكوتمر.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم خمس أذرع وأربع عشرة إصبعًا. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وأربع عشرة إصبعًا.
السنة الثامنة من سلطنة الظاهر بيبرس وهي سنة ست وستين وستمائة.
وفيها قتلت التتار السلطان ركن الدين كيقباد ابن السلطان غياث الدين كيخسرو ابن السلطان علاء الدين كيقباد صاحب الروم وله ثمان وعشرون سنة وأجلسوا ولده كيخسرو على التخت وهو ابن عشر سنين.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم أربع أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ثماني عشرة ذراعا سواء.
السنة التاسعة من سلطنة الظاهر بيبرس
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم خمس أذرع وست عشرة إصبعًا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وسبع أصابع.
السنة العاشرة من سلطنة الظاهر بيبرس وهي سنة ثمان وستين وستمائة.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم ست أذرع واثنتان وعشرون إصبعًا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا واثنتان وعشرون إصبعًا.
السنة الحادية عشرة من سلطنة الظاهر بيبرس البندقداري على مصر وهي سنة تسع وستين وستمائة.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم ست أذرع وإحدى وعشرون إصبعًا. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا واثنتا عشرة إصبعًا.
السنة الثانية عشرة من سلطنة الظاهر بيبرس وهي سنة سبعين وستمائة.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم سبع أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة ثماني عشرة ذراعًا وإحدى عشرة إصبعًا.
السنة الثالثة عشرة من سلطنة الظاهر بيبرس وهي سنة إحدى وسبعين وستمائة.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم سبع أذرع وإحدى عشرة إصبعًا. مبلغ الزيادة سبع عشرة
السنة الرابعة عشرة من سلطنة الظاهر بيبرس وهي سنة اثنتين وسبعين وستمائة.
فيها ملك الملك الظاهر بيبرس برقة بعد حروب كثيرة.
فلما تسلطن الملك الظاهر قام معه وحلف له وسلطنه فلم يسع الملك الظاهر إلا أن أبقاه على حاله وصار الظاهر في الباطن يتبرم منه ولا يسعه إلا تعظيمه لعدم وجود من يقوم مقامه فإنه كان من رجال الدهر حزمًا وعزمًا ورأيًا فلما أنشأ الملك الظاهر بيليك الخازندار أمره بملازمته والاقتباس منه فلازمه مدة فلما علم الظاهر منه الاستقلال جعله مشاركًا له في الجيش وقطع الرواتب التي كانت لأقطاي المذكورة فجمع أقطاي نفسه وتعلل قريب السنة وصار يتداوى إلى أن مات وكان أظهر أن به طرف جذام ولم يكن به شيء من ذلك رحمه الله تعالى.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم ست أذرع وإحدى وعشرون إصبعًا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وست أصابع.
السنة الخامسة عشرة من سلطنة الظاهر بيبرس وهي سنة ثلاث وسبعين وستمائة.
فيها كانت أعجوبة في السابع والعشرين من شعبان وهو أنه وقع رمل بمدينة الموصل ظهر من القبلة وانتشر يمينًا وشمالًا حتى ملأ الآفاق وعميت الطرق فخرج العالم إلى ظاهر البلد ولم يزالوا يبتهلون إلى الله تعالى بالدعاء إلى أن كشف الله ذلك عنهم.
أمر النيل في هذه السنة المباركة: الماء القديم خمس أذرع وأربع أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وثلاث أصابع.
السنة السادسة عشرة من سلطنة الظاهر بيبرس وهي سنة أربع وسبعين وستمائة.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم القاعدة لم تحرر لاختلاف المؤرخين. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وخمس عشرة إصبعًا
السنة السابعة عشرة من سلطنة الظاهر بيبرس وهي سنة خمس وسبعين وستمائة.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم ست أذرع وثلاث عشرة إصبعًا. مبلغ الزيادة ثماني عشرة ذراعًا وإحدى عشرة إصبعًا.
**************************************************************************
الظاهر بيبرس يريد حرق الأقباط واليهود أحياء
قال المقريزى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار - الجزء الثالث ( 98 من 167 ) : " حارة الباطلية عرفت بطائفة يقال لهم الباطلية قال ابن عبد الظاهر: وكان المعزّ لما قسم العطاء في الناس جاءت طائفة فسألت عطاء فقيل لها: أفرغ ما كان حاضرًا ولم يبق شيء فقالوا: رحنا نحن في الباطل فسمّوا الباطليّة وعرفت هذه الحارة بهم
احترقت حرة الباطليّة عندما كثر الحريق في القاهرة ومصر واتّهم النصارى بفعل ذلك فجمعهم الملك الظاهر بيبرس وحملت لهم الأحطاب الكثيرة والحّلْفاء وقُدِّموا ليحرقوا بالنار فتشفّع لهم الأمير فارس الدين أقطاي أتابك العساكر على أن يلتزموا بالأموال التي احترقت وأن يحملوا إلى بيت الماء خمسين ألف دينار فتُرِكوا.
وجرى في ذلك ما تستحسن حكايته وهو أنّه قد جمع مع النصارى سائر اليهود وركب السلطان ليحرقهم بظاهر القاهرة وقد اجتمع الناس من كلّ مكان للتشفّي بحريقهم لما نالهم من البلاء فيما دُهوا به من حريق الأماكن لاسيّما الباطليّة فإنّها أتت النار عليها حتّى حُرقت بأسرها.
فلمّا حضر السلطان وقدم اليهود والنصارى ليُحرَقوا برز ابنُ الكازروني اليهوديّ - وكان صيرفيًا - وقال للسلطان: سألتك بالله لا تحرقنا مع هؤلاء الكلاب الملاعين أعدائنا وأعدائكم احرقنا ناحية وحدنا فضحك السلطان والأمراء وحينئذٍ تقرّر الأمر على ما ذكر فندب لاستخراج المال منهم الأمير سيف الدين بلبان المهراني فاستخلص بعض ذلك في عدّة سنين وتطاول الحال فدخل كتّاب الأمراء مع مخادعيهم وتحيّلوا في إبطال ما بقي فبطل في أيام السعيد بن الظاهر.
وكان سبب فعل النصارى لهذا الحريق حقنهم لمّا أخذ الظاهر من الفرنج أرسوف وقيسارية وطرابلس ويافا وأنطاكية.
وما زالت الباطلية خرابًا والناس تضرب بحريقها المثل لمن يشرب الماء كثيرًا فيقولون: كأنّ في باطنه حريق الباطليّة.
ولما عمر الطواشي بهادر المقدّم داره بالباطليّة عمر فيها مواضع بعد سنة خمس وثمانين وسبعمائة.
**************************************
سنجر الحلبيّ:
قال المقريزى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار - الجزء الثالث ( 104 من 167 ) : "هذه الخوخة في آخر اصطبل الطارمة بجوار حمّام الأمير علم الدين سنجر الحلبيّ وفي ظهر داره.
سنجر الحلبيّ: أحد المماليك الصالحية ترقّى في الخدم إلى أن ولاّه الملك المظفر سيف الدين قطز نيابة دمشق فلما قتل قطز على عين جالوت وقالم من بعده في السلطنة بالديار المصرية الملك الظاهر بيبرس ثار سنجر بدمشق في سنة ثمان وخمسين وستمائة ودعا إلى نفسه وتلقب بالملك المجاهد وبقي أشهرًا والملك الظاهر يكاتب أمراء دمشق إلى أن خامروا على سنجر وحاصروه بقلعة دمشق أيامًا فلما خشي أن يُقبض عليه فرّ من القلعة إلى بعلبك فجهز إليه الظاهر الأمير علاء الدين طيبرس الوزيري وما زال يحاصره حتى أخذه أسيرًا وبعث به إلى الديار المصرية فاعتقله الظاهر ومازال في العتقال من سنة تسع وخمسين إلى سنة تسع وثمانين وسبعمائة مُدّة تنيف على ثلاثين سنة مدّة أيام الملك الظاهر وولديه وأيام الملك المصور قلاوون فلما ولي الملك الأشرف خليل بن قلاوون أخرجه من السجن وخلع عليه وجعله أحد الأمراء الأكابر على عادته فلم يزل أميرًا بمصر إلى أن مات على فراشه في سنة اثنين وتسعين خوخة الجوهرة: هذه الخوخة بآخر حارة زويلة عرفت اليوم بخوخة الوالي لقربها من دار الأمير علاء الدين الكورانيّ والي القاهرة وكان من خير الولاة يحفظ كتاب الحاوي في الفقه على مذهب الإمام الشافعيّ رضي الله عنه وأقام في ولاية القاهرة من محرّم سنة تسع وأربعين وسبعمائة بعد استدمر القلنجيّ وإلى القاهرة إلى خوخة مصطفى هذه الخوخة بآخر زقاق الكنيسة من حارة زويلة يخرج منها إلى القبو الذي عند حمّام طاب الزمان المسلوك منه إلى قبو منظرة اللؤلؤة على الخليج عرفت بالأمير فارس المسكين مصطفى أحد أمراء بني أيوب الملوك وهو أيضًا صاحب هذا الحمّام.
*******************************************
السلطان بيبرس يشجع الناس على الفروسية واللعب النشاب
ذكر المؤرخ المقريزى المسلم فى كتابه المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار - الجزء الثالث 116 / 167 : " ذكر ميدان القبق : هذا الموضع خارج القاهرة من شرقيها فيما بين النقرة التي ينزل من قلعة الجبل إليها وبين قبة النصر التي تحت الجبل الأحمر ويقال له أيضًا الميدان الأسود وميدان العيد والميدان الأخضر وميدان السباق وهو ميدان السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ الصالحيّ النجميّ بنى به مصطبة في المحرّم من سنة ست وستين وستمائة عندما احتفل برمي النشاب وأمور الحرب وحثّ الناس على لعب الرمح ورمي النشاب ونحو ذلك وصار ينزل كل يوم إلى هذه المصطبة من الظهر فلا يركب منها إلى العشاء الآخرة وهو يرمي ويحرّض الناس على الرمي والنضال والرهان فما بقي أمير ولا مملوك إلاّ وهذا شغله وتوفر الناس على لعب الرمح ورمي النشاب وما برح من بعده من أولاده والملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفيّ الصالحيّ النجميّ والملك الأشرف خليل بن قلاوون يركبون في الموكب لهذا الميدان وتقف الأمراء والمماليك السلطانية تسابق بالخيل فيه قدّامهم وتنزل العساكر فيه لرمي القبق.
والقبق عبارة عن خشبة عالية جدًّا تُنصب في براح من الأرض ويُعمل بأعلاها دائرة من خشب وتقف الرماة بقسيّها وترمي بالسهام جوف الدائرة لكي تمرّ من داخلها إلى غرض هناك قال جامع السيرة الظاهرية: وفي سابع عشر المحرّم من سنة سبع وستين وستمائة حثّ السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ جميع الناس على رمي النشاب ولعب الرمح خصوصًا خواصه ومماليكه ونزل إلى الفضاء باب النصر ظاهر القاهرة ويُعرف بميدان العيد وبنى مصطبة هناك وأقام ينزل في كل يوم من الظهر ويركب منها عشاء الآخرة وهو واقف في الشمس يرمي ويحرّض الناس على الرمي والرهان فما بقي أمير ولا ملوك إلا وهذا شغله واستمرّ الحال ي كل يوم على ذلك حتى صارت تلك الأمكنة لا تسع الناس وما بقي لأحد شغل إلاّ لعب الرمح ورمي النشاب.
وفي شر رمضان سنة اثنتين وسبعين وستمائة تقدّم السلطان الملك الظاهر إلى عساكره بالتأهب للركوب واللعب بالقبق ورمي النشاب واتفقت نادرة غريبة وهو أنه أمر برش الميدان الأسود تحت القلعة لأجل الملعب فشرع الناس في ذلك وكان يومًا شديد الحرّ فأمل السلطان بتبطيل الرش رحمة للناس وقال: الناس صيام وهذا يوم شديد الحرّ فبطل الرش وأرسل الله تعالى مطرًا جودًا استمرّ ليلتين ويومًا حتى كثر الوحل وتلبدت الأرض وسكن العجاج وبرد الجوّ ولطف الهواء فوكل السلطان من يحفظه من السَوْقِ فيه يوم اللعب وهو يوم الخميس السادس والعشرين من شهر رمضان وأمر بركوب جماعة لظيفة من كل عشرة اثنان وكذلك من كل أمير ومن كل مقدّم لئلا تضيق الدنيا بهم.
فركبوا في أحسن زيّ وأجمل لباس وأكمل شكل وأبهى منظر وركب السلطان ومعه من خواصه ومماليكه ألوف ودخلوا في الطعان بالرماح فكل من أصاب خلع عليه السلطان ثم ساق في مماليكه الخواص خاصة ورتبهم أجمل ترتيب واندفق بهم اندفاق البحر فشاهد الناس أبهة عظيمة ثم أقيم القبق ودخل الناس لرمي النشاب وجعل لمن أصاب من المفاردة رجال الحلقة والبحرية الصالحية وغيرهم بغلطاقًا بسنجاب وللمراء فرسًا من خيله الخاص بتشاهيره ومراواته الفضية والذهبية ومزاخمه وما زال في هذه الأيام على هذه الصورة يتنوّع في دخوله وخروجه تارة بالرماح وتارة بالنشاب وتارة بالدبابيس وتارة بالسيوف مسلولة وذلك أنه ساق على عادته في اللعب وسلّ سيفه وسلّ ماليكه سيوفهم وحمل هو ومماليكه حملة رجل واحد فرأى الناس منظرًا عجيبًا وأقام على ذلك كل يوم من بكرة النهار إلى قريب المغرب وقد ضُربت الخيام للنزول للوضوء والصلاة وتنوّع الناس في تبديل العُدد والآلات وتفاخروا وتكاثروا فكانت هذه الأيام من الأيام المشهودة ولم يبق أحد من أبناء الملوك ولا وزير ولا أمير كبير ولا صغير ولا مفردي ولا مقدّم من مقدّمي الحلقة ومقدّمي البحرية الصالحية ومقدّمي المماليك الظاهرية البحرية ولا صاحب شغل ولا حامل عصا في خدمة السلطان على بابه ولا حامل طير في ركاب السلطان ولا أحد من خواص كتاب السلطان إلاّ وشُرِّفَ بما يليق به على قدر منصبه ثم تعدّى إحسان السلطان لقضاة الإسلام والأئمة وشهود خزانة السلطان فشرّفهم جميعهم ثم الولاة كلهم وأصبحوا بكرة يوم الأحد ثمان عشري شهر رمضان لا بسين الخلع جميعهم في أحسن صورة وأبهج زي وأبهى شكل وأجمل زينة بالكلوتات الزركش بالذهب والملابس التي ما سمع بأن أحدًا جاد بمثلها وهي ألوف وخدم الناس جميعهم وقبلوا الأرض وعليهم الخلع وركبوا ولعبوا نهارهم على العادة والأموال تفرّق والأسمطة تصف والصدقات تنفق والرقاب تعتق.
وما زال إلى أن أهلّ هلال شوّال فقام الناس وطلعوا للهناء فجلس لهم وعليهم خلعه ثم ركب يوم العيد إلى مصلاه في خيمة بشعار السلطنة وأبّهة الملك فصلى ثم طلع قلعة الجبل وجلس على الأسمطة وكان الاحتفال بها كبيرًا وأكل الناس ثم انتهبه الفقراء وقام إلى مقرّ سلطانه بالقبة السعيدة وقد غُلِقت وفرشت بأنواع الستور والكلل والفرش وكان قد تقدّم إلى الأمراء بإحضار أولادهم فأُحضروا وخَلع عليهم الخلع المفصلة على قدرهم فلما كان هذا اليوم أُحضروا وختنوا بأجمعهم بين يدي السلطان وأُخرجوا فحملوا بالمحفات إلى بيوتهم وعمّ الهناء كل دار ثم أُحضر الأمير نجم الدين خضر ولد السلطان فختن ورمى للناس جملة من الأموال اجتمع منها خزانة ملك كبير فرُّقت على من باشر الختان من الحكماء والمزينين وغيرهم.
وانقضت هذه الأيام وجرى السلطان فيها على عادته كما كان من كونه لم يكلّف أحدًا من خلق الله تعالى بهدية يهديها ولا تحفة يتحفه بها في مثل هذه المسرّة كما جرت عادة من تقدّمه من الملوك ولم يبق من لا شمله إحسانه غير أرباب الملاهي والأغاني فإنه كان من أيامه لم ينفق لهم مبلغ البتة.
وممن لعب بهذا الميدان القبق السلطان الملك الأشرف خليل بن قلاوون وعمل فيه المهمّ الذي لم يُعمل في دولة ملوك الترك بمصر مثله وذلك أن خوندار دوتكين ابنة نوكيه ويُقال نوغية السلحدارية اشتملت من السلطان الملك الأشرف على حمل فظنّ أنها تلد ابنًا ذكرًا يرث الملك من بعده فأخذ عندما قاربت الوضع في الاحتفال ورسم لوزيره الصاحب شمس الدين محمد بن السلعوس أن يكتب إلى دمشق بعلم مائة شمعدان نحاس مكفت بألقاب السلطان ومائة شمعدان أخر منها خمسون من ذهب وخمسون من فضة وخمسين سرجًا من سروج الزركش ومائة وخمسين سرجًا من الخميش وألف شمعت وأشياء كثيرة غير ذلك فقدّر الله تعالى أنها ولدت بنتًا فانقبض لذلك وكره إبطا ما قد وأشياء عنه عمله فأظهر أنه يريد ختام أخيه محمد وابن أخيه مظفر الدين موسى بن الملك الصالح علي بن قلاوون فرسم لنقيب الجيش والحاجب بإعلام الأمراء والعسكر أن يلبسوا كلهم آلة الحرب من السلاح الكامل هم وخيولهم ويصيروا بأجمعهم كذلك في الميدان الأسود خارج باب النصر فاهتم الأمراء والعسكر اهتمامً كبيرًا لذلك وأخذوا في تحسين العدد وبالغوا في التأنق وتنافسوا في إظهار التجمل الزائد وخرج في اليوم الرابع من إعلام الأمراء السوقة ونصبوا عدّة صواوين فيها سائر البقول والمآكل فصار بالميدان سوق عظيم ونزل السلطان من قلعة الجبل بعساكره وعليهم لامة الحرب وقد خرج سائر من في القاهرة ومصر من الرجال والنساء إلاّ من خلفه العذر لرؤية السلطان فأقام السلطان يومه وحصل في ذلك اليوم للناس بهذا الاجتماع من السرور ما يعزّ وجود مثله وأصبح السلطان وقد استعدّ العسكر بأجمعه لرمي القبق ورسم للحجاب بأن لا يمنعوا أحدًا من الجند ولا من المماليك ولا من غيرهم من الرمي ورسم للأمير بيسري والأمير بدر الدين بكتاش الفخريّ أمير سلاح أن يتقدّما الناس في الرمي فاستقبل الأمير بيسري القبق وتحته سرج قد صنع قربوسه الذي من خلفه وطيئًا فصار مستلقيًا على قفاه وهو يرمي ويصيب يمنة ويسرة والناس بأسرهم قد اجتمعوا للنظر حتى ضاق بهم الفضاء فلما فرغ دخل أمير سلاح من بعده وتلاه الأمراء على قدر منازلهم واحدًا واحدًا فرموا.
ثم دخل بعد الأمراء مقدّموا الحلقة ثم الأجناد والسلطان يعجب برميهم وتزايد سروره حتى فرغ الرمي فعاد إلى مخيّمه ودار السقاة على الأمراء بأواني الذهب والفضة والبلور يسقون السكَّرَ المذاب وشرب الأجناد من أحواض قد ملئت من ذلك وكانت عدّتها مائة حوض فشربوا ولهوا واستمرّوا على ذلك يومين وفي اليوم الثالث ركب السلطان واستدعى الأمير بيسري وأمره بالرمي فسأل السلطان أن يعفيه من الرمي ويمنّ عليه بالتفرّج في رمي النشاب من الأمراء وغيرهم فأعفاه ووقف مع السلطان في منزلته وتقدّم طفج وعين الغزال وأمير عمر وكيلكدي وقشتمر العجمي وبرلغي وأعناق الحسامي وبكتوت ونحو الخمسين من أمراء السلطان الشبان الذين أنشأهم من خاصكيته وعليهم تتريات حرير أطلس بطرازات زركش وكلوتات زركش وحوائص ذهب وكانوا من الجمال البارع بحيث يذهب حسنهم الناظر ويدهش جمالهم الخاطر فتعاظمت مسرّة السلطان برؤيتهم وكثر إعجابه وداخله العجب واستخفه الطرب وارتجب الدنيا بكثرة من حضر هناك من أرباب الملاهي والأغاني وأصحاب الملعوب.
فلما انقضى اللعب عاد السلطان إلى دهليزه في زينته ومرح في مشيته تيهًا وصلفًا فما هو إلاّ أنّ عبر الدهليز والناس من الطرب والسرور في أحسن شيء يقع في العالم وإذا بالجوّ قد أظلم وثار ريح عاصف أسود إلى أن طبق الأرض والسماء وقلع سائر تلك الخيم والقى الدهليز السلطانيّ وتزايد حتى أن الرجل لا يرى من بجانبه فاختلط الناس وماجوا ولم يُعرف الأمير من الحقير وأقبلت السوقة والعامّة تنهب وركب السلطان يريد النجاة بنفسه إلى القلعة وتلاحق العسكر به واختلفوا في الطرق لشدّة الهول فلم يعبر إلى القلعة حتى أشرف على التلف وحصل في هذا اليوم من نهب الأموال وانتهاك الحرم والنساء ما لا يمكن وصفه وما ظنّ كل أحد إلاّ أنّ الساعة قد قامت فتنغص سرور الناس وذهب ما كان هناك وما استقرّ السلطان بالقلعة حتى سكن الريح وظهرت الشمس وكأن ما كان لم يكن فأصبح السلطان وطلب أرباب الملاهي بأجمعهم وحضر الأمراء الختان أخيه وابن أخيه وعمل مهمّ عظيم في القاعة التي أنشأها بالقلعة وعرفت بالأشرفية وقد ذكر خبر هذا المهمّ عند ذكر القلعة من هذا الكتاب.
وما برح هذا الميدان فضاء من قلعة الجبل إلى قبة النصر ليس فيه بنيان وللملوك فيه من الأعمال ما تقدّم ذكره إلى أن كانت سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون فترك النزول إليه وبنى مسطبة برسم طعم طيور الصيد بالقرب من بركة الحبش وصار ينزل هنالك ثم ترك تلك المسطبة في سنة عشرين وسبعمائة وعاد إلى ميدان القبق هذا وركب إليه على عادة من تقدّمه من الملوك إلى أن بنيت فيه الترب شيئًا بعد شيء حتى انسدّت طريقه واتصلت المباني من ميدان قبق إلى تربة الروضة خارج باب البرقية وبطل السباق منه ورمي القبق فيه من آخر أيام الملك الناصر محمد بن قلاون كما ذكر عند ذكر المقابر من هذا الكتاب وأنا أدركت عواميد من رخام قائمة بهذا الفضاء تعرف بين الناس بعواميد السباق بين كل عمودين مسافة بعيدة وما جرت قائمة هنالك إلى ما بعد سنة ثمانين وسبعمائة فهُدمت عندما عمّر الأمير يونس الدوادار الظاهريّ تربته تجاه قبة النصر ثم عمّر أيضًا الأمير قجماس ابن عمّ الملك الظاهر برقوق تربة هنالك وتتابع الناس في البنيان إلى أن صار كما هو الآن والله أعلم.
******************************
الخليفة العباسى يتخذ من مصر مقراً للخلافة العباسية بعد سقوط بغداد
ذكر المؤرخ المقريزى المسلم فى كتابه المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار - الجزء الثالث 121 / 167 : " مناظر الكبش: هذه المناظر آثارها الآن على جبل يشكر بجوار الجامع الطولونيّ مشرفة على البركة التي تعرف اليوم ببركة قارون عند الجسر الأعظم الفاصل بين بركة الفيل وبركة قارون أنشأها الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب في أعوام بضع وأربعين وستمائة.
وكان حينئذ ليس على بركة الفيل بناء ولا في المواضع التي في برّ الخليج الغربيّ من قنطرة السباع إلى المقس سوى البساتين وكانت الأرض التي من صليبة جامع ابن طولون إلى باب زويلة بساتين وكذلك الأرض التي من قناطر السباع إلى باب مصر بجوار الكبارة ليس فيها إلاّ البساتين وهذه المناظر تشرف على ذلك كله من أعلى جبل يشكر وترى باب زويلة والقاهرة وترى باب مصر ومدينة مصر وترى قلعة الروضة وجزيرة الروضة وترى بحر النيل الأعظيم وبرّ الجيزة.
فكانت من أجلّ منتزهات مصر وتأنق في بنائها أو سماها الكبش فعرفت بذلك إلى اليوم.
وما زالت بعد الملك الصالح من المنازل الملوكية وبها أنزل الخليفة الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد العباسيّ لما وصل من بغداد إلى قلعة الجبل وبايعه الملك الظاهر ركن الدين بيبرس بالخلافة فأقام بها مدّة ثم تحوّل منها إلى قلعة الجبل وسكن بمناظر الكبش أيضًا الخليفة المستكفي بالله أبو الربيع سليمان في أوّل خلافته وفيها أيضًا كانت ملوك حماه من بني أيوب تنزل عند قدومهم إلى الديار المصرية وأوّل من نزل منهم فيها الملك المنصور ولما قدم على الملك الظاهر بيبرس في المحرّم سنة ثلاث وسبعين وستمائة ومعه ابنه الملك الأفضل نور الدين عليّ وابنه الملك المظفر تقيّ الدين محمود فعندما حلّ بالكبش أتاه الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقاني بالسماط فمدّه بين يديه ووقف كما يفعل بين يدي الملك الظاهر فامتنع الملك المنصور من الرضى بقيامه على السماط وما زال به حتى جلس.
ثم وصلت الخلع والمواهب إليه وإلى ولده وخواصه.
********************************************
قناطر السباع - صائم الدهــــــــر / الشيخ محمــد الذى شوة وجة أبو الهــــــــــــول
ذكر المقريزى فى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار الجزء الثالث ( 124 من 167 ) : " قناطر السباع هذه القناطر جانبها الذي يلي خط السبع سقايات من جهة الحمراء القصوى وجانبها الآخر من جهة جنان الزهريّ وأوّل من أنشأها الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ ونصب عليها سباعًا من الحجارة فإن رنكه كان على شكل سبع فقيل لها قناطر السباع من أجل ذلك وكانت علية مرتفعة فلما أنشأ الملك الناصر محمد بن قلاون الميدان السلطانيّ في موضع بستان الخشاب حيث موردة البلاط وتردّد إليه كثيرًا وصار لا يمرّ إليه من قلعة الجبل حتى يركب قناطر السباع فتضرّر من علوّها وقال لو مراء انّ هذه القنطرة حين اركب الميدان وأركب عليها يتألم ظهري من علوّها ويقال أنه أشاع هذا والقصد إنما هو كراهته لنظر أثر أحد من الملوك قبله وبغضه أن يذكر لأحد غيره شيء يُعرف به وهو كلما يمرّ بها يرى السباع التي هي رنك الملك الظاهر فأحب أن يزيلها لتبقى القنطرة منسوبة إليه ومعروفة به كما كان يفعل دائمًا في محو آثار من تقدّمه وتخليد ذكره ومعرفة الآثار به ونسبتها له فاستدعى الأمير علاء الدين عليّ بن حسن المروانيّ والي القاهرة وشادّ الجهات وأمره بهدم قناطر السباع وعمارتها أوسع مما كانت بعشرة أذرع وأقصر من ارتفاعها الأوّل فنزل ابن المروانيّ وأحضر الصناع ووقف بنفسه حتى انتهى في جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين وسبعمائة في أحسن قالب على ما هي عليه الآن ولم يضع سباع الحجر عليها وكان الأمير الطنبغا الماردينيّ قد مرض ونزل إلى الميدان السلطانيّ فأقام به ونزل إليه السلطان مرارًا فبلغ الماردينيّ ما يتحدّث به العامّة من أن السلطان لم يخرّب قناطر السباع إلا حتى تبقى باسمه وأنه رسم لابن المروانيّ أن يكسر سباع الحجر ويرميها في البحر واتفق أنه عوفي عقيب الفراغ من بناء القنطرة وركب إلى القلعة فسرّبه السلطان وكان قد شغفه حبًان فسأله عن حاله وحادثه إلى أن جرى ذكر القنطرة فقال له السلطان: أعجبتك عمارتها فقال والله يا خوند: لم يُعمل مثلها ولكن ما كملت.
فقال كيف قال السباع التي كانت عليها لم توضع مكانها والناس يتحدّثون أن السلطان بيبرس له غرض في إزالتها لكونها رنك سلطان غيره فامتعض لذلك وأمر في الحال بإحضار ابن المروانيّ وألزمه بإعادة السباع على ما كانت عليه فبادر إلى تركيبها في أماكنها وهي باقية إلى يومنا هذا إلاّ أنّ الشيخ محمدًا المعروف بصائم الدهر شوّه صورتها كما فعل بوجه أبي الهول ظنًا منه أن هذا الفعل من جملة القربات ولله در القائل: وإنما غايةُ كلّ مَن وَصَلَ صيدًا بنى الدنيا بأنواعِ الحيل
ذكر المقريزى فى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار الجزء الثالث ( 124 من 167 ) : "
***************************************************************************
أوامر الملك بيبرس ضد الحشيش والخمور
ذكر المقريزى فى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار الجزء الثالث ( 123 من 167 ) : " قنطرة قدادار: هذه القنطرة على الخليج الناصريّ يتوصل إليها من اللوق ويُمشي فوقها إلى برّ الخليج الناصريّ مما يلي الفيل وأوّل ما وضعت كانت تجاه البستان الذي كان ميدانًا في زمن الملك الظاهر ركن الدين بيبرس إلى أن أنشأ الملك الناصر محمد بن قلاون الميدان الموجود الآن بموردة البلاط من جملة أراضي بستان الخشاب فغرس في الميدان الظاهريّ الأشجار وصار بستانًا عظيمًا كما ذكر ذلك في موضعه من هذا الكتاب وعُرفت هذه القنطرة بالأمير سيف الدين قدادار مملوك الأمير برلغي وكان من خبره أنه تنقل في الخدم حتى وليَّ الغريبة من أراضي مصر في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة فلقي أهل البلاد منه شرًّا كثيرًا ثم انتقل إلى ولاية البحيرة فلما كان في سنة أربع وعشرين كثرت الشناعة في القاهرة بسبب الفلوس وتعنت الناس فيها وامتنعوا من أخذها حتى وقف الحال وتحسن السعر وكان حينئذ يتقلد الوزارة الأمير علاء الدين مغلطاي الجماليّ ويتقلد ولاية القاهرة الأمير علم الدين سنجر الخازن فلما توجه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون من قلعة الجبل لى السرحة بناحية سرياقوس بلغه توقف الحال وطمع السوقة في الناس وأن متولي القاهرة فيه لين وانه قيل الحرمة على السوقة وكان السلطان كثير النفور من العامّة شديد البغض لهم ويريد كل وقت من الخازن أن يبطش بالحرافيش ويؤثر فيهم آثارًا قبيحة ويشهر منهم جماعة فلم يبلغ من ذلك غرضه فكرهه واستدعى الأمير أرغون نائب السلطنة وتقدّم إليه بالأغلاظ في القول على الخازن بسبب فساد حال الناس وهمّ ببروز أمره بالقبض عليه وأخذ ماله فما زال به النائب حتى عفا عنه.
وقال السلطان يعزله ويولي من ينفع في مثل هذا الأمر فاختار ولاية قدادار عوضه لما يُعرف من يقظته وشهامته وجراءته على سفك الدماء فاستدعاه من البحيرة وولاه ولاية القاهرة في أوّل شهر رمضان من السنة المذكورة.
فأوّل ما بدأ به أن أحضر الخبازين والباعة وضرب كثيرًا منهم بالمقارع ضربًا مبرّحًا وسمر عدّة منهم في دراريب حوانيتهم ونادى في البلد من ردّ فلسًا سُمِّر ثم عرض أهل السجن ووسط جماعة من المفسدين عند باب زويلة فهابته العامّة وذعروا منه وأخذ يتتبع من عَصَرَ خمرًا وأحضر عريف الحمالين وألزمه بإحضار من كان يحمل العنب فلما حضروا عنده استملاهم أسماء من يشتري العنب ومواضع مساكنهم ثم أحضر خفارء الحارات والأخطاط ولم يزل بهم حتى دلوه على سائر من عصر الخمر فاشتهر ذلك بين الناس وخافوه فحوّل أهل حارة وزيلة وأهل حارتي الروم والديلم وغير ذلك من الأماكن ما عندهم من الخمر وصبوها في البلاليع والأقنية وألقوها في الأزقة وبذلوا المال لمن يأخذها منهم فحصل لكثير من العامّة والأطراف منها شيء كثير حتى صارت تباع كل جرّة خمر بدرهم ويمرّ الناس بأبواب الدور والأزقة فترى من جرار الخمر شيئًا كثيرًا ولا يقدر أحد أن يتعرّض لشيء منها ثم ركب وكبس خط باب اللوق وأخذ منه شيئًا كثيرًا من الحشيش وأحرقه عند باب زويلة واستمرّ الحال مدّة شهر ما من يوم إلاّ ويهرق فيه خمر عند باب زويلة ويحرق حشيش فطهر الله به البلد من ذلك جميعه وتتبع الزعَار وأهل الفساد فخافوه وفرّوا من البلد فصار السلطان يشكره ويثني عليه لما يبلغه من ذلك وأما العامّة فإنه ثقل عليها وكرهته حتى أنه لما تأمّر ابن الأمير بكتمر الساقي وركب إلى القبة المنصورية على العادة ومعه أبوه النائب وسائر الأمراء صاحت العامّة للأمير بكتمر الساقي يا أمير بكتمر بحياة ولدك أعزل هذا الظالم ورد علينا وإلينا يعنون الخازن فلما عرّف بكتمر السلطان ذلك أعجبه وقال: يا أمير ما تخشى العامّة والسوقة إلاَّ ظالمًا مثل هذا ما يخاف الله تعالى وزاد إعجاب السلطان به حتى قال له: لا تشاور في أمر المفسدين فلم يغترّ بذلك ورفع إليه جميع ما يتفق له وشاوره في كل جليل وحقير وقال له إن جماعة من الكتاب والتجار قد عصر والخمر واستأذنه في طلبهم ومصادرتهم فتقدّم له بمشاورة النائب في ذلك وإعلامه أن السلطان قد رسم بالكشف عمن عصر من الكتاب والتجار الخمر فلما صار إلى النائب وعرّفه الخبر أهانه وقال: إن السلطان لا يرضى بكبس بيوت الناس وهتك حرمهم وسترهم وإقامة الشناعات وقام من فوره إلى السلطان وعرّفه ما يكون في فهل ذلك من الفساد الكبير وما زال به حتى صرف رأيه عما أشار به قدادار من كبس الدور وأخذ الناس في مماقتته والإخراق به في كل وقت فإنه كان يعني بالخازن ولم يعجبه عزله عن الولاية فكثر جورقدادار وزاد تتبعه للناس ونادى أن لا يعمل أحد حلقة فيما بين القصرين ولا يَسْمَر هناك وأمر أن لا يخرج أحد من بيته بعد عشاء الآخرة وأقام عنه نائبًا من بطالي الحسينية ضمن المسطبة منه في كل يوم بثلثمائة درهم وانحصر الناس منه وضاقوا به ذرعًا لكثرة ما هتك أستارهم وخرق بكثير من المستورين وتسلطت المستصنعة وأرباب المظالم على الناس وكانوا إذا رأوا سكران أوشموا منه رائحة خمر أحضروه إليه فتوقى الناس شرّه وشكاه الأمراء غير مرّة إلى السلطان فلم يلتفت لما يُقال فيه والنائب مستمرّ على الإخراق به إلى أن قبض عليه السلطان فخلا الجوّ لقدادار وأكثر من سفك الدماء وإتلاف النفوس والتسلط على العامّة لبغضهم إياه والسلطان يعجبه منه ذلك بحيث أنه أبرز مرسومًا لسائر عماله وولاته إن أحدًا منهم لا يقتص ممن وجب عليه القصاص في النفس أو القطع إلا أن يشاور فيه ويطالع بأمره ما خلا قدادار مستولي القاهرة فإنه لا يشاور على مفسد ولا غيره ويده مطلقة في سائر الناس فدهى الناس منه بعظائم وشرع في كبس بيوت السعداء ومشت جماعة من المستصنعين في البلد وكتبوا الأوراق ورموها في بيوت الناس بالتهديد فكثرت أسباب الضرر وكثر بلاء الناس به وتعنت على الباعة ونادى أن لا يفتح أحد حانوته بعد عشاء الآخرة فامتنع الناس من الخروج بالليل حتى كانت المدينة في الليل موحشة واستجدّ على كل حارة دربًا وألزم الناس بعمل ذلك فجبيت بهذا السبب دراهم كثيرة وصار الخفراء في الليل يدورون معهم الطبول في كل خط فظفر بإنسان قد سرق شيئًا من بيت في الليل وتزيا بزي النساء فسمَّرَهُ على باب زويلة وما زال على ذلك حتى كثرت الشناعة فعزله السلطان في سنة تسع وعشرين بناصر الدين بن الحسنيّ فأقام إلى أيام الحج وسافر إلى الحجاز ورجع وهو ضعيف فمات في سادس عشر صفر سنة ثلاثين وسبعمائة.
****************************************************************************
جسر من قليوب إلى دمياط
ذكر المقريزى فى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار الجزء الثالث ( 128 من 167 ) : "الجسر من قليوب إلى دمياط: هذا الجسر أنشأه السلطان الملك المظفر ركن الدين بيبرس المنصوريّ المعروف بالجاشنكير في أخريات سنة ثمان وسبعمائة وكان من خبره: أنه ورد القصاد بموافقة صاحب قبرس عدّة من ملوك الفرنج على غزو دمياط وأنهم أخذوا ستين قطعة فاجتمع الأمراء واتفقوا على إنشاء جسر من القاهرة إلى دمياط خوفًا من حركة الفرنج في أيام النيل فيتعذر الوصول إلى دمياط وعين لعمل ذلك الأمير أقوش الورميّ الحساميّ وكتب الأمراء إلى بلادهم بخروج الرجال والأبقار ورسم للولاة بمساعدة أقوش وأن يخرج كلّ وال إلى العمل برجال عمله وأبقارهم فما وصل أقوش إلى ناحية فارسكور حتى وجد ولاة الأعمال قد حضروا بالرجال والأبقار فرتب الأمور.
فعمل فيه ثلاثمائة جرّافة بستمائة رأس بقر وثلاثين ألف رجل وأقام أقوش الحرمة وكان عبوسًا قليل الكلام مهابًا إلى الغاية فجدّ الناس في العمل لكثرة من ضربه بالمقارع أو خزم أنفه أو قطع أذنه أو أخرق به إلى أن فرغ في نحو شهر واحد فجاء من قليوب إلى دمياط مسافة يومين في عرض أربع قصبات من أعلاه وست قصبات من أسفله ومشى عليه ستة رؤوس من الخيل صفًا واحدًا فعمّ النفع به وسلك عليه المسافرون بعدما كان يتعذر السلوك أيام النيل لعموم الماء الأراضي.
**************************************************************************
السلطان بيبرس والفقراء
ذكر المقريزى فى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار الجزء الثالث ( 133 من 167 ) : "دار العدل القديمة: هذه الدار موضعها الآن تحت القلعة يُعرف بالطبلخاناه والذي بنى دار العدل الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري في سنة إحدى وستين وستمائة وصار يجلس بها لعرض العساكر في كل اثنين وخمسين وابتدأ بالحضور في أوّل سنة اثنتين وستين وستمائة وصار يجلس بها لعرض العساكر في كلّ اثنين وخميس وابتدأ بالحضور في أوّل سنة اثنتين وستين وستمائة فوقف إليه ناصر الدين محمد بن أبي نصر وشكا أنه أُخذ له بستان في أيام المعز أيبك وهو بأيدي المقطعين وأخرج كتابًا مثبتًا وأخرج من ديوان الجيش ما يشهد بأن البستان ليس من حقوق الديوان فأمر بردّه عليه فتسلمه.
وأحضرت مرافعة في ورقة مختوم رفعها خادم أسود في مولاه القاضي شمس الدين شيخ الحنابلة تضمنت أنه يبغض السلطان ويتمنى زوال دولته فإنه لم يجعل للحنابلة مدرّسًا في المدرسة التي أنشأها بخط بين القصرين ولم يولّ قاضياَ حنبليًا وذكر عنه أمورًا قادحة فبعث السلطان الورقة إلى الشيخ فحضر إليه وحلف أنه ما جرى منه شيء وأن هذا الخادم طردتهفاختلق عليّ ما قال.
فقبل السلطان عذره وقال: ول شتمتني أنت في حلّ وأمر بضرب الخادم مائة عصا.
وغلت الأسعار بمصر حتى بلغ أردب القمح نحو مائة درهم وعُدم الخبز فنادى السلطان في الفقراء أن يجتمعوا تحت القلعة ونزل في يوم الخميس سابع ربيع الآخر منها وجلس بدار الدل هذه ونظر في أمر السعر وأبطل التسعير وكتب مرسومًا إلى الأمراء ببيع خمسمائة أردب في كلّ يوم ما بين مائتين إلى ما دونهما حتى لايشتري الخزن شيئًا وأن يكون البيع للضعفاء والأرامل فقط دون من داهم وأمر الحجاب فنزلوا تحت القلعة وكتبة أسماء الفقراء الذين تجمعوا بالرميلة وبعث إلى كلّ جهة من جهات القاهرة ومصر وضواحيهما حاجبًا لكتابة أسماء الفقراء وقال: والله لو كان عندي غلة تكفي هؤلاء لفرّقتها ولما انتهى إحضار الفقراء أخذ منهم لنفسه ألوفًا وجعل باسم ابنه الملك السعيد ألوفًا وأمر ديوان الجيش فوزع باقيهم على كلّ أمير من الفقراء بعدّة رجاله ثم فرّق ما بقي على الأجناد ومفاردة الحلقة والمقدّمين والبحرية وجعل طائفة التركمان ناحية وطائفة الأكرد ناحية وقرّر لكلّ واحد من الفقراء فرّق من بقي منهم على الأكابر والتجار والشهود وعين لأرباب الزوايا مائة أردب قمح في كلّ يوم تُخرج من الشون السلطانية إلى جامع أحمد بن طولون وتفرّق على من هناك ثم قال: هؤلاء المساكين الذين جمعناهم اليوم ومضى النهار لابدّ لهم من شيء وأمر ففرّق فيهم جملة مال وأعطى للصاحب بهاء الدين عليّ بن محمد بن حنا طائفة كبيرة من العميان وأخذ الأتابك سيف الدين أقطاي طائفة التركمان ولم يبق من أحد ن الخاص والأمراء والحواشي ولا من الحجاب والولاة وأرباب المناصب وذوي المراتب وأصحاب الأموال حتى أخذ جماعة من الفقراء على قدر حاله.
وقال السلطان للأمير صارم الدين المسعودي والي القاهرة: خذ مائة فقير وأطعمهم لله تعالى.
فقال: نعم قد أخذتهم دائمًا.
فقال له السلطان هذا شيء فعلته ابتداءً من نفسك وهذه المائة خذها لأجلي.
فقال للسلطان: السمع والطاعة وأخذ مائة فقير زيادة على المائة التي عينت له وانقضى النهار في هذا العمل وشرع الناس في فتح الشون والمخازن وتفرقة الصدقات على الفقراء فنزل سعر القمح ونقص الأردب عشرين درهمًا وقلّ وجود الفقراء إلى أن جاء رمضن وجاء المغلّ الجديد فأوّل يوم من بيع الجديد نقص سعر أردب القمح أربعين درهمًا ورقًا وفي اليوم الذي جلس فيه السلطان بدار العدل للنظر في أمور الأسعار قرئت عليه قصة ضمان دار الضرب وفيها أنه قد توقفت الدراهم وسألوا إبطال الناصرية فإن ضمانهم بمبلغ مائتين ألف وخمسين ألف درهم فوقع عليها يحط عنهم منها مبلغ خمسين ألف درهم وقال: وفي مستهل شعر رجب منها جلس أيضًا بدار العدل فوقف له بعض الأجناد بصغير يتيم ذُكر أنه وصيه وشكا في قضيته.
فقال السلطان لقاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأغر أنّ الأجناد إذا مات أحد منهم استولى خجداشه على موجود فيموت الوصيّ ويكبر اليتيم فلا يجد له مالًا وتقدّم إليه أن لا يمكن وصيًا من الانفراد بتركة ميت ولكن يكون نظر القاضي شاملًا له وتصير أموال الأيتام مضبوطة بأمناء الحكم.
ثم أنه استدعى نقباء العساكر وأمرهم بذلك فاستمرّ الحال فيه على ما ذكر.
وفي خامس عشري شعبان سنة ثلاث وستين وستمائة جلس بدار العدل واستدعى تاج الدين ابن القرطبيّ وقال له: قد أضجرتني مما تقول عندي مصالح لبيت المال فتحدّث الآن بما عندك فتكلّم في حق قاضي القضاة تاج الدين وفي حق متولي جزيرة سواكن وفي حق الأمراء وأنهم إذا مات منهم أحد أخذ ورثته أكثر من استحقاقهم فأنكر عليه وأمر بحبس وتحدّث السلطان في أمر الأجناد وأنه إذا مات أحدهم في مواطن الجهاد لا يصل إليه شاهد حتى يشهد عليه بوصيته وأنه يُشهد بعض أصحابه فإذا حضر إلى القاهرة لا تقبل شهادته وكان الجنديّ في ذلك الوقت لا تُقبل شهادته فرأى السلطان أن كل أمير يعين من جماعته عدّة ممن يعرف خيره ودينه ليسمع قولهم وألزم مقدّمي الأجناد بذلك فشرع قاضي القضاة في اختيار رجال وجلس أيضًا في تاسع عشرية بدار العدل فوقف له شخص وشكا أن الأملاك الديوانية لا يمكن أحد من سكانها أن ينتقل منها فأنكر السلطان ذلك وأمر أن من انقضت مدّة إجارته وأراد الخلوّ فلا يُمنع من ذلك وله في ذلك عدّة أخبار كلها صالحة رحمه الله تعالى.
***************************************************************************
قال المقريزى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار الجزء الثالث ( 931 من 761) : " السلطان الملك الظاهر ركن الدين أبو الفتح بيبرس البندقداري الصالحي: التركيّ الجنس أحد المماليك البحرية وجلس على تخت السلطنة بقلعة الجبل في سابع عشر ذي القعدة سنة ثمان وخمسين فلم يزل حتى مات بدمشق في يوم الخمسي سابع عشري المحرم سنة ست وسبعين وستمائة فكانت مدّته سبع عشرة سنة وشهرين واثني عشر يومًا وقام من بعده ابنه.السلطان الملك السعيد ناصر الدين أبو المعالي محمد بركة قان: وهو يومئذٍ بقلعة الجبل ينوب عن أبيه وقد عهد إليه بالسلطنة وزوجه بابنة الأمير سيف الدين قلاون الألفي فجلس على التخت في يوم الخميس سادس عشري صفر سنة ست وسبعين إلى أن خلعه الأمراء في سابع ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين وكانت مدّته سنتين وشهرين وثمانية أيام لم يحسن فيها تدبير ملكه وأوحش ما بينه وبين الأمراء. فأقيم بعده أخوه.
**************************************************************************
الوزير محمد بن عليّ بن محمد بن سليم بن حنا
المقريزى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار الجزء الرابع ( 145 من 167 ) : " محمد بن عليّ بن محمد بن سليم بن حنا: أبو عبد اللّه الوزير الصاحب فخر الدين بن الوزير الصاحب بهاء الدين ولد في سنة اثنتين وعشرين وستمائة وتزوّج بابنة الوزير الصاحب شرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزيّ وناب عن والده في الوزارة وولي ديوان الأحباس ووزارة الصحبة في أيام الظاهر بيبرس وسمع الحديث بالقاهرة ودمشق وحدّث وله شعر جيد ودرس بمدرسة أبيه الصاحب بهاء الدين التي كانت في زقاق القناديل بمصر وكان محبًالأهل الخير والصلاح مؤثرًا لهم متفقدًا لأحوالهم وعمر رباطًا حسنًابالقرافة الكبرى رتب فيه جماعة من الفقراء ومن غريب ما يتعظ به الأريب أن الوزير الصاحب زين الدين يعقوب بن عبد الرفيع بن الزبير الني كان بنو حنا يعادونه وعنه أخذوا الوزارة مات في ثالث عشر ربيع الآخر سنة ثمان وستين وستمائة بالسجن فأخرج كما تخرج الأموات الطرحاء على الطرقات من الغرباء ولم يشيع جنازته أحد من الناس مراعاة للصاحب بن حنا وكان فخر الدين هذا يتنزه في أيام الربيع بمنية القائد وقد نصبت له الخيام وأقيمت المطابخ وبين يديه المطربون فدخل عليه البشير بموت الوزير يعقوب بن الزبير وأنه أخرج إلى المقابر من غير أن يشيع جنازته أحد من الناس فسرّ بذلك ولم يتمالك نفسه وأمر المطربين فغنوه ثم قام على رجليه ورقص هو وسائر من حضره وأظهر من الفرح والخلاعة ما خرج به عن الحدّ وخلع على البشير بموت المذكور خلعًا سنية فلم يمض على ذلك سوى أقلّ من أربعة أشهر ومات في حادي عشري شعبان من السنة المذكورة ففجع به أبوه وكانت له جنازة عظيمة ولما دُلّي في لحده قام شرف الدين محمد بن سعيد البوصيريّ صاحب البرعة في ذلك الجمع الموفور بتربة ابن حنا من القرافة وأنشد: لم تزل عوننا على الدهرِ حتّى غلبتنا يد ُالمنونِ عليكا أنت أحسنتَ في الحياة إلينا أحسنَ اللَّهُ في المماتِ إليكا فتباكى الناس وكان لها محل كبير ممن حضر رحمة الله عليهم أجمعين.
المقريزى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار الجزء الرابع ( 152 من 167 ) : " وابن حنا هذا هو عليّ بن محمد بن سليم بفتح السين المهملة وكسر اللام ثم ياءآخر الحروف بعدها ميم ابن حنا بحاء مهملة مكسورة ثم نون مشدّدة مفتوحة بعدها ألف الوزير الصاحب بهاء الدين ولد بمصر في سنة ثلاث وستمائة وتنقلت به الأحوال في كتابة الدواوين إلى أن ولي المناصب الجليلة واشتهرت كفايته وعُرفت في الدولة نهضته ودرايته فاستوزره السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ في ثامن شهر ربيع الأوّل سنة تسع وخمسين وستمائة بعد القبض على الصاحب زين الدين يعقوب بن الزبير وفوّض إليه تدبير المملكة وأمور الدولة كلها فنزل من قلعة الجبل بخلع الوزارة ومعه الأمير سيف الدين بلبان الروميّ الدوادار وجميع الأعيان والأكابر إلى داره واستبدّ بجميع التصرفات وأظهر عن حزم وعزم وجودة رأي وقام بأعباء الدولة من ولايات العمال وعزلهم من غير مشاورة السلطان ولا اعتراض أحد عليه فصار مرجع جميع الأمور إليه ومصدرها عنه ومنشأ ولايات الخطط والأعمال من قلمه وزوالها عن أربابها لا يصدر إلا من قبله وما زال على ذلك طول الأيام الظاهرية فلما قام الملك السعيد بركة قان بأمر المملكة بعد موت أبيه الملك الظاهر أقرّه على ما كان عليه في حياة والده فدبر الأمور وساس الأحوال وما تعرّض له أحد بعداوة ولا سوء مع كثرة من كان يناويه من الأمراء وغيرهم إلاّ وصده الله عنه ولم يجد ما يتعلق به عليه ولا ما يبلغ به مقصوده منه وكان عطاؤه واسعًا وصلاته وكلفه للأمراء والأعيان ومن يلوذ به ويتعلق بخدمته تخرج عن الحدّ في الكثرة وتتجاوز القدر في السعة مع حسن ظنّ بالفقراء وصدق العقيدة في أهل الخير والصلاح والقيام بمعونتهم وتفقد أحوالهم وقضاء أشغالهم والمبادرة إلى امتثال أوامرهم والعفة عن الأموال حتى أنه لم يقبل من أحد في وزارته هدية إلاأن تكون هدية فقير أو شيخ معتقد يتبرّك بما يصل من أثره وكثرة الصدقات في السرّوالعلانية وكان يستعين على ما التزمه من المبرّات ولزمه من الكلف بالمتاجر وقد مدحه عدّة من الناس فقبل مديحهم وأجزل جوائزهم وما أحسن قول الرشيد الفارقيّ فيه: وقائل قالَ لي نبهِ لنا عُمَرًا فقلتُ إن عليًا قدتنبَهَ لي.
وقول سعد الدين بن مروان الفارقيّ في كتاب الدرج المختص به أيضًا: يمم عليًا فهو بحرُ الندى ونادِهِ في المضلعِ المعضِل.
فرفدُهُ بحرعلى مجدب ووفدُهُ مفض إلى مفصَل.
يسرع إن سيل نداهُ وهل أسرَعُ من سيل أتى من علي.
إلاّ أنه أحدث في وزارته حوادث عظيمة وقاس أراضي الأملاك بمصر والقاهرة وأخذ عليها مالًا وصادر أرباب الأموال وعاقبهم حتى مات كثير منهم تحت العقوبة واستخرج حوالي الذمّة مضاعفة ورزىء بفقد ولديه الصاحب فخر الدين محمد والصاحب زين الدين فعوّضه اللّه عنهما بأولادهما فما منهم إلا نجيب صدر رئيس فاضل مذكور ومامات حتى صار جد جد وهوعلى المكانة وافرالحرمة في ليلة الجمعة مستهلّ ذي الحجة سنة سبع وسبعين وستمائة ودفن بتربته من قرافة مصر ووزر من بعده الصاحب برهان الدين الخضر بن حسن بن عليّ السنجاريّ وكان بينه وبين ابن حنا عداوة ظاهرة وباطنة وحقود بارزة وكامنة فأوقع الحوطة علىالصاحب تاج الدين محمد بن حنا بدمشق وكان مع الملك السعيد بها وأخذ خطه بمائة ألف دينار وجهزه على البريد إلى مصر ليستخرج منه ومن أخيه زين الدين أحمد وابن عمه عز الدين تكملة ثلثمائة ألف دينار وأحيط بأسبابه ومن يلوذ به من أصحابه ومعارفه وغلمانه وطولبوا بالمال.
**************************************************************************
من هو السلطان بيبرس؟
المقريزى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار الجزء الرابع ( 146 من 167 ) : " بيبرس: الملك الظاهر ركن الدين البندقداريّ أحد المماليك البحرية الذين اختص بهم السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب وأسكنهم قلعة الروضة كان أوّلًا من مماليك الأمير علاء الدين أيدكين البندقداري فلما سخط عليه الملك الصالح أخذ مماليكه ومنهم الأمير بيبرس هذا وذلك في سنة أربع وأربعين وستمائة وقدمه على طائفة من الجمدارية وما زال يترقى في الخدم إلى أن قتل المعز أيبك التركمانيّ الفارس أقطاي الجمدار في شعبان سنة اثنتين وخمسين وستمائة وكانت البحرية قد انحازت إليه فركبوا في نحو السبعمائة فلما ألقيت إليهم رأس أقطاي تفرقوا واتفقوا على الخروج إلى الشام وكانت أعيانهم يومئذٍ بيبرس البندقداريّ وقلاون الألفيّ وسنقر الأشقر وبيسرى وترامق وتنكز فساروا إلى الملك الناصر صاحب الشام.
ولم يزل بيبرس ببلاد الشام إلى أن قتل المعز أيبك وقام من بعده ابنه المنصور عليّ وقبض عليه نائبه الأمير سيف الدين قطز وجلس على تخت المملكة وتلقب بالملك المظفر فقدم عليه بيبرس فأمّره المظفر قطز ولما خرج قطز إلى ملاقاة التتار وكان من نصرته عليهم ما كان رحل إلى دمشق فوشى إليه بأن الأمير بيبرس قد تنكر له وتغير عليه وأنه عازم على القيام بالحرب فأسرع قطز بالخروج من دمشق إلى جهة مصر وهومضمر لبيبرس السوء وعلم بذلك خواصه فبلغ ذلك بيبرس فاستوحش من قطز وأخذ كلّ منهما يحترس من الآخر على نفسه وينتظر الفرصة فبادر بيبرس وواعد الأمير سيف الدين بلبان الرشيديّ والأمير سيف الدين بيدغان الركنيّ المعروف بسم الموت والأمير سيف الدين بلبان الهارونيّ والأمير بدر الدين آنص الأصبهانيّ فلما قربوا في مسيرهم من القصر بين الصالحية والسعيدية عند القرين انحرف قطز عن الدرب للصيد فلما قضى منه وطره وعاد والأمير بيبرس يسايره هو وأصحابه طلب بيبرس منه امرأة من سبي التتار فأنعم عليه بها فتقدّم ليقبل يده وكانت إشارة بينه وبين أصحابه فعندما رأوا بيبرس قد فبض على يد السلطان المظفر قطز بادر الأمير بكتوت الجوكندار وضربه بسيف على عاتقه أبانه واختطفه الأمير آنص وألقاه عن فرسه إلى الأرض ورماه بهادر المغربيّ بسهم فقتله وذلك يوم السبت خامس عشر ذي القعدة سنة ثمان وخمسين وستمائة ومضوا إلى الدهليز للمشورة فوقع الاتفاق على الأمير بيبرس فتقدّم إليه أقطاي المستعرب الجمدار المعروف بالأتابك وبايعه وحلف له ثم بقية الأمراء وتلقب بالملك الظاهر وذلك بمنزلة القصير.
فلما تمت البيعة وحلف الأمراء كلهم قال له الأمير أقطاي المستعرب: يا خوند لايتم لك أمر إلاّ بعد دخولك إلى القاهرة وطلوعك إلى القلعة فركب من وقته ومعه الأمير قلاون والأمير بلبان الرشيديّ والأمير بيلبك الخازندار وجماعة يريدون قلعة الجبل فلقيهم في طريقهم الأمير عز الدين أيدمر الحلبيّ نائب الغيبة عن المظفر قطز وقد خرج لتلقيه فأخبروه بما جرى وحلفوه فتقدّمهم إلى القلعة ووقف على بابها حتى وصلوا في الليل فدخلوا إليها وكانت القاهرة قد زينت لقدوم السلطان الملك المظفر قطز وفرح الناس بكسر التتار وعود السلطان فما راعهم وقد طلع النهار إلاّ والمشّا عليّ ينادي معاشر الناس ترحموا على الملك المظفر وادعوا لسلطانكم الملك الظاهر بيبرس فدخل على الناس من ذلك غمّ شديد ووجل عظيم خوفًا من عود البحرية إلى ما كانوا عليه من الجور والفساد وظلم الناس.
فأوّل ما بدأ به الظاهر أنه أبطل ما كان قطز أحدثه من المظالم عند سفره وهو تصقيع الأملاك وتقويمها وأخذ زكاة ثمنها في كل سنة وجباية دينار من كلّ إنسان وأخذ ثلث الترك الأهلية فبلغ ذلك في السنة ستمائة ألف دينار.
وكتب بذلك مسموحًا قُريء على المنابر في صبيحة دخوله إلى القلعة وهو يوم الأحد سادس عشر ذي القعدة المذكور وجلس بالإيوان وحلّف العساكر واستناب الأمير بدر الدين بيلبك الخازندار بالديار المصرية واستقرّ الأمير فارس الدين أقطاي المستعرب أتابكًا على عادته والأمير جمال الدين أقوش التجيبيّ استادارًا والأمير عز الدين أيبك الأفرم الصالحيّ أمير جاندار والأمير لاجين الدرفيل وبلبان الروميّ دوادارية والأمير بهاء الدين يعقوب الشهرزوري أميراخور على عادته وبهاء الدين علي بن حنا وزيرًا والأمير ركن الدين التاجي الركنيّ والأمير سيف الدين بكجريّ حجابًا ورسم بإحضار البحرية الذين تفرّقوا في البلاد بطالين وسير الكتب إلى الأقطار بما تجدد له من النعم ودعاهم إلى الطاعة فأذعنوا له وانقادوا إليه.
وكان الأمير علم الدين سنجر الحلبي نائب دمشق لما قُتل قطز جمع الناس وحلفهم وتلقب بالملك المجاهد وثار علاء الدين الملقب بالملكُ السعيد بن صاحب الموصل في حلب وظلم أهلها وأخذ منهم خمسين ألف دينار فقام عليه جماعة ومقدّمهم الأمير حسام الدين لاجين العزيزيّ وقبضوا عليه فسير الظاهر إلى لاجين بنيابة حلب.
فلما دخلت سنة تسع وخمسين قبض الظاهر على جماعة من الأمراء المعزية منهم الأمير سنجر الغتميّ والأمير بهادر المعزي والشجاع بكتوت ووصل إلى السلطان الإمام أبو العباس أحمد بن الخليفة الظاهر العباسي من بغداد في تاسع رجب فتلقاه السلطان في عساكره وبالغ في إكرامه وأنزله بالقلعة وحضر سائر الأمراء والمقدّمين والقضاة وأهل العلم والمشايخ بقاعة الأعمدة من القلعة بين يدي أبي العباس فتأدّب السلطان الظاهر ولم يجلس على مرتبة ولا فوق كرسيّ وحضر العربان الذين قدموا من العراق وخادم من طواشية بغداد وشهدوا بأن العباس أحمد ولد الخليفة الظاهر بن الخليفة الناصر وشهد معهم بالاستفاضة الأمير جمال الدين يحيى نائب الحكم بمصر وعلم الدين بن رشيق وصدر الدين موهوب الجزريّ ونجيب الدين الحرّانيّ وسديد الزمنتيّ نائب الحكم بالقاهرة عند قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز الشافعيّ وأسجل على نفسه بثبوت نسب أبي العباس أحمد وهو قائم على قدميه ولُقِّب بالإمام المستنصر باللّه وبايعه الظاهر على كتاب الله وسنة نبيه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله وأخذ أموال الله بحقها وصرفها في مستحقها فلما تمت البيعة قلد المستنصر بالله السلطان الملك الظاهر أمر البلاد الإسلامية وما سيفتحه اللّه على يديه من بلاد الكفار وبايع الناس المستنصر على طبقاتهم وكتب إلى الأطراف بأخذ البيعة له إقامة الخطبة باسمه على المنابر ونقشت السكة في ديار مصر باسمه واسم الملك الظاهر معًا.
فلما كان يوم الجمعة سابع عشر رجب خطب الخليفة بالناس في جامع القلعة وركب السلطان في يوم الإثنين رابع شعبان إلى خيمة ضربت له بالبستان الكبير ظاهر القاهرة وأفيضت عليه الخلع الخليفية وهي جبة سوداء وعمامة بنفسجية وطوق من ذهب وقلد بسيف عربيّ وجلس مجلسًا عامًا حضره الخليفة والوزير وسائر القضاة والأمراء والشهود وصعد القاضي فخر الدين بن لقمان كاتب السرّ منبرًا نصب له وقرأ تقليد السلطان المملكة وهو بخطه من إنشائه ثم ركب السلطان بالخلعة والطوق ودخل من باب النصر وشق القاهرة وقد زينت له وحمل الصاحب بهاء الدين بن حنا التقليد على رأسه قدّام السلطان والأمراء مشاة بين يديه وكان يومًا مشهودًا.
وأخذ السلطان في تجهيز الخليفة ليسير إلى بغداد فرتب له الطواشي بهاء الدين صندلًا الصالحيّ شرابيًا والأمير سابق الدين بوزيا الصيرفي أتابكا والأمير جعفرًا أستادارًا والأمير فتح الدين بن الشهاب أحمد أميرجاندار والأمير ناصر الدين بن صيرم خازندار والأمير سيف الدين بلبان الشمسيّ وفارس الدين أحمد بن أزدمر اليغموريّ دوادارية والقاضي كمال الدين محمد السنجاريّ وزيرًا وشرف الدين أبا حامد كاتبًا وعين له خزانة وسلاحخاناه ومماليك عدّتهم نحو الأربعين منهم سلاحدارية وجمدارية وزردكاشية ورمحدارية وجعل له طشطخاناه وفراشخاناه وشرابخاناه وإمامًا مؤذنًا وسائر أرباب الوظائف واستخدم له خمسمائة فارس وكتب لمن قدم معه من العراق بإقطاعات وأذن له في الركوب والحركة حيث اختار وحضر الملك الصالح اسماعيل بن بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل وأخوه الملك المجاهد سيف الدين إسحاق صاحب الجزيرة وأخوهما المظفر فأكرمهم السلطان وأقرّهم على ما بأيديهم وكتب لهم تقاليد وجهزهم في خدمة الخليفة وسار الخليفة في سادس شوّال والسلطان في خدمته إلى دمشق فنزل السلطان في القلعة ونزل الخليفة في التربة الناصرية بجبل الصالحية وبلغت نفقة السلطان على الخليفة ألف ألف وستين ألف دينار وخرج من دمشق في ثالث عشر ذي القعدة ومعه الأمير بلبان الرشيدي والأمير سنقر الروميّ وطائفة من العسكر وأوصاهما السلطان أن يكونا في خدمة الخليفة حتى يصل إلى الفرات فإذا عبر الفرات أقاما بمن معهما من العسكر بالبرّ الغربيّ من جهات حلب لانتظار ما يتجدّد من أمر الخليفة بحيث إن احتاج إليهم ساروا إليه فسار إلى الرحبة وتركه أولاد صاحب الموصل وانصرفوا إلى بلادهم وسار إلى مشهد عليّ فوجد الإمام الحاكم بأمر الله قد جمع سبعمائة فارس من التركمان وهو على عانة ففارقه التركمان وصار الحاكم إلى المستنصر طائعًا له فأكرمه وأنزله معه وسارا إلى عانة ورحلا إلى الحديثة وخرجا منها إلى هيت وكانت له حروب مع التتار في ثالث محرّم سنة ستين وستمائة قتل فيها أكثر أصحابه وفرّ الحاكم وجماعة من الأجناد وفقد المستنصر فلم يوقف له على خبر فحضر الحاكم إلى قلعة الجبل وبايعه السلطان والناس واستمرّ بديار مصر في مناظر الكبش وهو جدّ الخلفاء الموجودين اليوم.
وفي سنة ست وستين قرّر الظاهر بديار مصر أربعة قضاة وهم شافعيّ ومالكي وحنفي وحنبليّ فاستمرّ الأمر على ذلك إلى اليوم وحدث غلاء شديد بمصر وعدمت الغلة فجمع السلطان الفقراء وعدّهم وأخذ لنفسه خمسمائة فقير يمونهم ولابنه السعيد بركة خان خمسمائة فقير وللنائب بيلبك الخازندار ثلاثمائة فقير وفرّق الباقي على سائر الأمراء ورسم لكلّ إنسان في اليوم برطلي خبز فلم ير بعد ذلك في البلد أحد من الفقراء يسأل.
وفي ثالث شوّال سنة اثنتين وستين أركب السلطان ابنه السعيد بركة بشعار السلطنة ومشى قدّامه وشق القاهرة والكل مشاة بين يديه من باب النصر إلى قلعة الجبل وزينت البلد وفيها رتب السلطان لعب القبق بميدان العيد خارج باب النصر وختن الملك السعيد ومعه ألف وستمائة وخمسة وأربعون صبياَ من أولاد الناس سوى أولاد الأمراء والأجناد وأمر لكلّ صغير منهم بكسوة على قدره ومائة درهم ورأس من الغنم فكان مهمًا عظيمًا وأبطل ضمان المزر وجهاته وأمر بحرق النصارى في سنة ثلاث وستين فتشفع فيهم على أن يحملوا خمسين ألف دينار فتركوا.
وفي سنة أربع وستين افتتح قلعة صفد وجهز العساكر إلى سيس ومقدّمهم الأمير قلاون الألفيّ فحصر مدينة ابناس وعدّه قلاع.
وفي سنة خمس وستين أبطل ضمان الحشيش من ديار مصر وفتح يافا والشقيف وإنطاكية.
وفي سنة سبع وستين حج فسار على غزة إلى الكرك ومنها إلى المدينة النبوية وغسل الكعبة بماء الورد بيده ورجع إلى دمشق فأراق جميع الخمور وقدم إلى مصر في سنة ثمان وستين.
وفي سنة سبعين خرج إلى دمشق.
وفي سنة إحدى وسبعين خرج من دمشق سائقًا إلى مصر ومعه بيسرى وأقوش الروميّ وجرسك الخازندار وسنقر الألفيّ فوصل إلى قلعة الجبل وعاد إلى دمشق فكانت مدّة غيبته أحد عشر يومًا ولم يعلم بغيبته من في دمشق حتى حضر ثم خرج سائقًا من دمشق يريد كبس التتار فخاض الفرات وقدّامه قلاون وبيسرى وأوقع بالتتار على حين غفلة وقتل منهم شيئًا كثيرًا وساق خلفهم بيسرى إلى سروج وتسلم السلطان البيرة.
ووقع بمصر في سنة اثنتين وسبعين وباء هلك به خلق كثير.
وفي سنة ثلاث وسبعين غزا السلطان سيس وافتتح قلاعًا عديدة.
وفي سنة أربع وسبعين تزوّج السعيد بن السلطان بابنة الأمير قلاون وخرج العسكر إلى بلاد النوبة فواقع ملكهم وقتل منهم كثيرًا وفرّ باقيهم.
وفي سنة خمس وسبعين سار السلطان لحرب التتار فواقعهم على الأبلستين وقد انضم إليهم الروم فانهزموا وقُتل منهم كثير وتسلم السلطان قيسارية ونزل فيها بدار السلطان ثم خرج إلى دمشق فوعك بها من إسهال وحمى مات منها يوم الخميس تاسع عشري محرّم سنة ست وسبعين وستمائة وعمره نحو من سبع وخمسين سنة ومدّة ملكه سبع عشرة سنة وشهران.
وكان ملكًا جليلًا عسوفًا عجولًا كثير المصادرات لرعيته ودواوينه سريع الحركة فارسًا مقدامًا وترك من الذكور ثلاثة: السعيد محمد بركة خان وملك بعده وسلامش وملك أيضًا والمسعود خضر.
ومن البنات سبع بنات وكان طويلًا مليح الشكل.
وفتح اللّه على يديه مما كان مع الفرنج قيسارية وأرسوف وصفد وطبرية ويافا والشقيف وإنطاكية وبقراص والقصير وحصن الأكراد والقرين وحصن عكا وصافيتا ومرقية وحلبا.
وناصف الفرنج على المرقب وبانياس وانطرسوس وأخذ من صاحب سيس دريساك ودركوس وتلميش وكفردين ورعبان ومرزبان وكينوك وأدنة والمصيصة.
وصار إليه من البلاد التي كانت مع المسلمين دمشق وبعلبك وعجلون وبصرى وصرخد والصلت وحمص وتدمر والرحبة وتل ناشر وصهيون وبلاطيس وقلعة الكهف والقدموس والعليقة والخوابى والرصافة ومصياف والقليعة والكرك والشوبك.
وفتح بلاد النوبة وبرقة وعمر الحرم النبويّ وقبة الصخرة ببيت المقدس وزاد في أوقاف الخليل عليه السلام وعمر قناطر شبرامنت بالجيزية وسور الإسكندرية ومنار رشيد وردم فم بحر دمياط ووعر طريقه وعمر الشواني وعمر قلعة دمشق وقلعة الصبيبة وقلعة بعلبك وقلعة الصلت وقلعة صرخد وقلعة عجلون وقلعة بصرى وقلعة شيزر وقلعة حمص وعمر المدرسة بين القصرين بالقاهرة والجامع الكبير بالحسينية خارج القاهرة وحفر خليج الإسكندرية القديم وباشره بنفسه وعمر هناك قرية سماها الظاهرية وحفر بحر أشموم طناح على يد الأمير بلبان الرشيديّ وجدّد الجامع الأزهر بالقاهرة وأعاد إليه الخطبة وعمر بلد السعيدية من الشرقية بديار مصر وعمر القصر الأبلق بدمشق وغير ذلك.
ولما مات كتم موته الأمير بدر الدين بيلبك الخازندار عن العسكر وجعله في تابوت وعلقه ببيت من قلعة دمشق وأظهر أنه مريض ورتب الأطباء يحضرون على العادة وأخذ العساكر والخزائن ومعه محفة محمولة في الموكب محترمة وأوهم الناس أن السلطان فيها وهو مريض فلم يجسر أحد أن يتفوّه بموت السلطان وسار إلى أن وصل إلى قلعة الجبل بمصر وأشيع موته رحمه اللّه تعالى.
المقريزى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار الجزء الرابع ( 158 من 167 ) : "الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير المنصوري: اشتراه الملك المنصور قلاون صغيرًا ورقاه في الخدم السلطانية إلى أن جعله أحد الأمراء وأقامه جاشنكير وعرف بالشجاعة.
فلما مات الملك المنصور خدم ابنه الملك الأشرف خليلًا إلى أن قتله الأمير بيدرا بناحية تروجة فكان أوّل من ركب على بيدرا في طلب ثار الملك الأشرف وكان مهابًا بين خشداشيته فركبوا معه وكان من نصرتهم على بيدرا وقتله ما قد ذكر في موضعه فاشتهر ذكره وصار أستادار السلطان في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون في سلطنته الثانية رفيقًا للأمير سلار نائب السلطنة وبه قويت الطائفة البرجية من المماليك واشتدّ بأسهم وصار الملك الناصر تحت حجر بيبرس وسلار إلى أن أنف من ذلك وسار إلى الكرك فأقيم بيبرس في السلطنة يوم السبت ثالث عشري شوّال سنة ثمان وسبعمائة فاستضعف جانبه وانحط قدره ونقصت مهابته وتغلب عليه الأمراء والمماليك واضطربت أمور المملكة لمكان الأمير سلار وكثرة حاشيته وميل القلوب إلى الملك الناصر وفي أيامه عمل الجسر من قليوب إلى مدينة دمياط وهو مسيرة يومين طولًا في عرض أربع قصبات من أعلاه وست قصبات من أسفله حتى أنه كان يسير عليه ستة من الفرسان معًا بحذاء بعضهم وأبطل سائر الخمارات من السواحل وغيرها من بلاد الشام وسامح بما كان من المقرّر عليها للسلطان وعوّض الأجناد بدله وكُبست أماكن الريب والفواحش بالقاهرة ومصر وأريقت الخمور وضرب أناس كثير في ذلك بالمقارع وتتبع أماكن الفساد وبالغ في إزالته ولم يراع في ذلك أحدًا من الكتاب ولا من الأمراء فخف المنكر وخفي الفساد إلا أن الله أراد زوال دولته فسوّلت له نفسه أن بعث إلى الملك الناصر بالكرك يطلب منه ما خرج به معه من الخيل والمماليك وحمل الرسول إليه بذلك مشافهة أغلظ عليه فيها فحنق من ذلك وكاتب نوّاب الشام وأمراء مصر في السر يشكو ما حلّ به وترفق بهم وتلطف بهم فرقوا له وامتعضوا لما به ونزل الناصر من الكرك وبرز عنها فاضطرب الأمر بمصر واختلّ الحال من بيبرس وأخذ العسكر يسير من مصر إلى الناصر شيئًا بعد شيء وسار الناصر من ظاهر الكرك يريد دمشق في غرّة شعبان سنة تسع وسبعمائة فمندما نزل الكسوة خرج الأمراء وعامّة أهل دمشق إلى لقائه ومعهم شعار السلطنة ودخلوا به إلى المدينة وقد فرحوا به فرحًا كثيرًا في ثاني عشر شعبان ونزل بالقلعة وكاتب النوّاب فقدموا عليه وصارت ممالك الشام كلها تحت طاعته يخطب له بها ويُجبى إليه مالها ثم خرج من دمشق بالعساكر يريد مصر وأمرُ بيبرس كلّ يوم في نقص إلى أن كان يوم الثلاثاء سادس عشر رمضان فترك بيبرس المملكة ونزل من قلعة الجبل ومعه خواصه إلى جهة باب القرافة والعامة تصيح عليه وتسبه وترجمه بالحجارة عصبية للملك الناصر وحبًا له حتّى سار عن القرافة ودعا الحرس بالقلعة في يوم الأربعاء للملك الناصر فكانت مدّة سلطنة بيبرس عشرة أشهر وأربعة وعشرين يومًا وقدم الملك الناصر إلى قلعة الجبل أوّل يوم من شوال وجلس على تخت المملكة واستولى على السلطنة مرّة ثالثة ونزل بيبرس بأطفيح ثم سار منها إلى أخميم فلما صار بها تفرّق عنه من كان معه من الأمراء والمماليك فصاروا إلى الملك الناصر فتوجه في نفر يسير على طريق السويس يريد بلاد الشام فقُبض عليه شرقيّ غزة وحُمل مقيدًا إلى الملك الناصر فوصل قلعة الجبل يوم الأربعاء ثالث عشر ذي القّعدة وأوقف بين يدي السلطان وقبل الأرض فعنفه وعدّد عليه ذنوبًا ووبخه ثم أمر به فسُجن في موضع إلى ليلة الجمعة خامس عشرة وفيها لحق بربه تعالى فحُمل إلى القرافة ودفن في تربة الفارس أقطاي ثم نُقل منها بعد مدّة إلى تربته بسفح المقطم فقبر بها زمانًاطويلًا ثم نقل منها ثالث مرّة إلى خانقاهه ودفن بقبتها وقبره هناك إلى يومنا هذا.
=======================================================================
الألعاب والأحتفالات فى عصر المماليك
"الجوكندار: وهو لقب على الذي يحمل الجوكان مع السلطان في لعب الكرة، ويجمع على جوكان دارية، وهو مركب من لفظتين فارسيتين أيضاً: إحداهما جوكان وهو المحجن الذي تضرب به الكرة، ويعبر عنه بالصولجان أيضاً، والثانية دار، ومعناه مُمسك كما تقدم. فيكون المعنى ممسك الجوكان. والعامة تقول: "جكندار" بحذف الواو بعد الجيم والألف بعد الكاف."
رنك الجوكندار يرسم كجوكانين متقابلين. يمكن رؤية أمثلة جميلة جداً هنا: 1 و 2
أما اللعبة الثانية فهي "القبق" التي يصفها المقريزي في الخطط كما يلي:
"والقبق عبارة عن خشبة عالية جداً تُنصب في براح من الأرض ويُعمل بأعلاها دائرة من خشب وتقف الرماة بقسيها وترمي بالسهام جوف الدائرة لكي تمر من داخلها إلى غرض هناك، تمريناً لهم على إحكام الرمي."
كان المماليك يلعبون القبق بالميدان الأسود وهو ما يقول عنه المقريزي في نفس المصدر أنه الميدان الخاص برمي القبق، خارج القاهرة فيما بين النقرة التي يُنزل من قلعة الجبل إليها وبين قبة النصر، ويُسمى أيضاً ميدان الصيد، والميدان الأخضر، وميدان السباق، وهو ميدان السلطان الملك الظاهر بيبرس.
يصف بدر الدين العيني - أحد مؤرخي المماليك - الاحتفال بزفاف السعيد بركة خان ابن السلطان الظاهر بيبرس على إبنة الأمير قلاوون عام 675 هجرية (1276-1277 ميلادية) فيقول:
"واحتفل السلطان به احتفالاً عظيماً، وركب الجيش خمسة أيام في الميدان يلعبون ويتطاردون، ويحمل بعضهم على بعض، وقد لبسوا أكمل العُدد، ورتب لهم السلطان لعب القبق، فلعب السلطان بالميدان الأسود تحت القلعة، ولبس جوشنا وخوذة، وتقلد تُرساً، وألبس فرسه العُدة الكاملة من البركستوان والوجه والرقبة، وساق تحت القبق، ورماه باليد اليسرى فأصابه، وأخطأ غيرُه باليد اليمنى بغير لُبس، وأُنعم على كل من أصاب من الأمراء بفرس بسرجه ولجامه وزينته من المراوات الفضة، ومن أصاب من المماليك والأجناد خُلع عليه، وبقى هذا المهم ثلاثة أيام متوالية والناس في أفراح وسرور، وشاهد الناس منه ومن ولده الأسد وشبله ما يحار الناظرون ويدهش المتفرجون، ثم في اليوم الرابع خُلع على الأمراء وجميع أكابر الدولة وأرباب المناصب من القضاة والوزراء والكُتاب والمقدمين والمتعممين، فكان بلغ ما خُلع ألفاً وثلاثمائة خُلعة، وراحت مراسيمهما إلى الشام بالخلع على أهلها، ومُدَّ في ذلك اليوم سماط عظيم لا يوصف، حضره الشارد والوارد، والخاص والعام، وجلس رسل التتار ورسل الفرنج والأمراء وجميع أكابر الدولة، وعليهم كلهم الخُلع الهائلة، وكان وقتاً مشهوداً.