Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم عزت اندراوس

سنة ست عشرة وستمائة سنة سبع عشرة وستمائة

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
بقية سنة575 وسنة576
سنة577 وسنة578
سنة579
سنة580 وسنة581
سنة582 وسنة583
سنة584
سنة585
سنة586
سنة587
سنة588
سنة589
سنة590 وسنة591
سنة592 وسنة593
سنة594
سنة595
سنة596 وسنة597
سنة598 وسنة599
سنة600
سنة601 وسنة602
سنة603
سنة604
سنة605 وسنة606
سنة607 وسنة608 وسنة609
سنة610 وسنة611 وسنة612
سنة613 وسنة614
سنة615
سنة616 وسنة617
سنة618 وسنة619
سنة620 وسنة621
سنة621

 

الجزء التالى من كتاب: الكامل في التاريخ المؤلف: أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير (المتوفى: 630هـ) تحقيق: عمر عبد السلام تدمري الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1417هـ / 1997م عدد الأجزاء:  10

**************************************************************************************************************************

ثم دخلت سنة ست عشرة وستمائة
ذكر وفاة كيكاوس وملك كيقباذ أخيه

في هذه السنة توفي الملك الغالب عز الدين كيكاوس بن كيخسرو بن قلج أرسلان، صاحب قونية، وأقصرا وملطية وما بينهما من بلد الروم، وكان قد جمع عساكره، وحشد، وسار إلى ملطية على قصد بلاد الملك الأشرف لقاعدة استقرت بينه وبين ناصر الدين، صاحب آمد، ومظفر الدين، صاحب إربل، وكانوا قد خطبوا له، وضربوا اسمه على السكة في بلادهم، واتفقوا على الملك الأشرف وبدر الدين بالموصل.
فسار كيكاوس إلى ملطية ليمنع الملك الأشرف بها عن المسير إلى الموصل نجدة لصاحبها بدر الدين، لعل مظفر الدين يبلغ من الموصل غرضاً، وكان قد علق به السل، فلما اشتد مرضه عاد عنها، فتوفي وملك بعده أخوه كيقباذ، وكان محبوساً، قد حبسه أخوه كيكاوس لما أخذ البلاد منه، وأشار عليه بعض أصحابه بقتله، فلم يفعل، فلما توفي لم يخلف ولداً يصلح للملك لصغرهم، فأخرج الجند كيقباذ وملكوه. ومن (بغي عليه لنصرنه الله).
وقيل بل أرسل كيكاوس لما اشتد مرضه، فأحضره عنده من السجن، ووصى له بالملك وحلف الناس له؛ فلما ملك خالفه عمه صاحب أرزن الروم، وخاف أيضاً من الروم المجاورين لبلاده، فأرسل إلى الملك الأشرف وصالحه، وتعاهدا على المصافاة والتعاضد، وتصاهرا، وكفي الأشرف شر تلك الجهة، وتفرغ باله لإصلاح ما بين يديه، ولقد صدق القائل: (لا جد إلا ما أقعص عنك الرجال). وكأنه بقوله أراد: (وجدك طعان بغير سنان).
وهذا ثمرة حسن النية، فإنه حسن النية لرعيته وأصحابه، كاف عن أذى يتطرق إليهم منه، غير قاصد إلى البلاد المجاورة لبلاده بأذى وملك مع ضعف أصحابها وقوته، لا جرم تأتيه البلاد صفواً عفواً.

ذكر موت صاحب سنجار
وملك ابنه ثم قتل ابنه وملك أخيه

وفي هذه السنة، ثامن صفر، توفي قطب الدين محمد بن زنكي بن مودود ابن زنكي، صاحب سنجار، وكان كريماً، حسن السيرة في رعيته، حسن المعاملة مع التجار، كثير الإحسان إليهم، وأما أصحابه فكانوا معه في أرغد عيش يعمهم بإحسانه، ولا يخافون أذاه، وكان عاجزاً عن حفظ بلده، مسلماً الأمور إلى نوابه.(5/303)
ولما توفي ملك بعده ابنه عماد الدين شاهنشاه، وركب الناس معه، وبقي مالكاً لسنجار عدة شهور، وسار إلى تل أعفر وهي له، فدخل عليه أخوه عمر بن محمد بن زنكي، ومعه جماعة، فقتلوه، وملك أخوه عمر بعده فبقي كذلك إلى أن سلم سنجار إلى الملك الأشرف، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، ولم يمتع بملكه الذي قطع رحمه، وأراق الدم الحرام لأجله.
ولما سلم سنجار أخذ عوضها الرقة، ثم أخذت منه عن قريب، وتوفي بعد أخذها منه بقليل، وعدم روحه وشبابه. وهذه عاقبة قطيعة الرحم، فإن صلتها تزيد في العمر وقطيعتها تهدم العمر.
ذكر إجلاء بني معروف عن البطائح وقتلهم
في هذه السنة، في ذي القعدة، أمر الخليفة الناصر لدين الله الشريف معداً، متولي بلاد واسط، أن يسير إلى قتال بني معروف، فتجهز، وجمع معه من الرجالة من تكريت، وهيت، والحديثة، والأنبار، والحلة، والكوفة، وواسط، والبصرة، وغيرها، خلقاً كثيراً، وسار إليهم، ومقدمهم حينئذ معلى بن معروف، وهم قوم من ربيعة.
وكانت بيوتهم غبي الفرات، تحت سوراء، وما يتصل بذلك من البطائح، وكثر فسادهم وأذاهم لما يقاربهم من القرى، وقطعوا الطريق، وأفسدوا في النواحي المقاربة لبطيحة العراق، فشكا أهل تلك البلاد إلى الديوان منهم، فأمر معداً أن يسير إليهم في الجموع، فسار إليهم، فاستعد بنو معروف لقتاله، فاقتتلوا بموضع يعرف بالمقبر، وهو تل كبير بالبطيحة بقرب العراق، وكثر القتل بينهم، ثم انهزم بنو معروف، وكثر القتل فيهم، والأسر، والغرق، وأخذت أموالهم، حملت رؤوس كثيرة من القتلى إلى بغداد في ذي الحجة من السنة.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة، في المحرم، انهزم عماد الدين زنكي من عسكر بدر الدين.
وفيها، في العشرين من رجب، انهزم بدر الدين من مظفر الدين، صاحب إربل، وعاد مظفر الدين إلى بلده، وقد تقدم ذلك مستوفى في سنة خمس عشرة وستمائة.
وفيها، ثامن صفر، توفي قطب الدين محمد بن زنكي بن مودود ابن زنكي، صاحب سنجار، وملك بعده ابنه شاهنشاه.
وفيها، في التاسع والعشرين من شعبان، ملك الفرنج مدينة دمياط، وقد ذكر سنة أربع عشرة مشروحاً.
وفيها توفي افتخار الدين عبد المطلب بن الفضل الهاشمي العباسي، الفقيه الحنفي، رئيس الحنيفية بحلب، روى الحديث عن عمر البسطامي نزيل بلخ، وعن أبي سعد السمعاني وغيرهما.
وفيها توفي أبو البقاء عبد الله بن الحسين بن عبد الله العكبري، الضرير، النحوي وغيره، وفيها توفي أبو الحسن علي بن أبي محمد القاسم بن علي بن الحسن بن عبد الله الدمشقي، الحافظ ابن الحافظ، المعروف بابن عساكر، وكان قد قصد خراسان وسمع بها الحديث فأكثر، وعاد إلى بغداد، فوقع على القفل حرامية، فجرح، وبقي ببغداد، وتوفي في جمادى الأولى، رحمه الله.


ثم دخلت سنة سبع عشرة وستمائة
ذكر خروج التتر إلى بلاد الشام

لقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلاً وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عله أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسياً منسياً، إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعاً، فنقول: عمت الخلائق، وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم، وإلى الآن، لم يبتلوا بمثلها؛ لكان صادقاً، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها.
ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله بخت نصر ببني إسرائيل ن القتل، وتخريب البيت المقدس، وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد، التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس، وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى من قتلوا، فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم، وتفنى الدنيا، إلا يأجوج ومأجوج.
وأما الدجال فإنه يبقي على من اتبعه، ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، شقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. (5/304)
لهذه الحادثة التي استطار شررها، وعم ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح، فإن قوماً خرجوا من أطراف الصين، فقصدوا بلا تركستان مثل كاشغر وبلاساغون، ثم منها إلى بلاد ما وراء النهر، مثل سمرقند وبخارى وغيرهما، فيملكونها، ويفعلون بأهلها ما نذكره، ثم تعبر طائفة منهم إلى خراسان، فيفرغون منها ملكاً، وتخريباً، وقتلاً، ونهباً، ثم يتجاوزونها إلى الري، وهمذان، وبلد الجبل وما فيه من البلاد إلى حد العراق، ثم يقصدون بلاد أذريبجان وأرانية، ويخربونها، ويقتلون أكثر أهلها، ولم ينج إلا الشريد النادر في أقل من سنة، هذا ما لم يسمع مثله.
ثم لما فرغوا من أذربيجان وأرانية ساروا إلى دربند شروان فملكوا مدنه، ولم يسلم غير القلعة التي بها ملكهم، وعبروا عندها إلى بلد اللان، واللكز، ومن في ذلك الصقع من الأمم المختلفة، فأوسعوهم قتلاً، ونهباً، وتخريباً؛ ثم قصدوا بلاد قفجاق، وهم من أكثر الترك عدداً، فقتلوا كل من وقف لهم، فهرب الباقون إلى الغياض ورؤس الجبال، وفارقوا بلادهم، واستولى هؤلاء التتر عليها، فعلوا هذا في أسرع زمان، ولم يلبثوا إلا بمقدار مسيرهم لا غير.
ومضى طائفة أخرى غير هذه الطائفة إلى غزنة وأعمالها، وما يجاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان، ففعلوا فيه مثل فعل هؤلاء وأشد.
هذا ما لم يطرق الأسماع مثله، فإن الإسكندر الذي اتفق المؤرخون على أنه ملك الدنيا لم يملكها في هذه السرعة، إنما ملكها في نحو عشر سنين، ولم يقتل أحداً، إنما رضي من الناس بالطاعة؛ وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض وأحسنه، وأكثره عمارة وأهلاً، وأعدل أهل الأرض أخلاقاً وسيرة، في نحو سنة، ولم يبق أحد في البلاد التي لم يطرقوها إلا وهو خائف يتوقعها، ويترقب وصولهم إليه.
ثم إنهم لا يحتاجون إلى ميرة ومدد يأتيهم، فإنهم معهم الأغنام، والبقر، والخيل، وغير ذلك من الدواب، يأكلون لحومها لا غير؛ وأما دوابهم التي يركبونها فإنها تحفر الأرض بحوافرها، وتأكل عروق النبات لا تعرف الشعير، فهم إذا نزلوا منزلاً لا يحتاجون إلى شيء من خارج.
وأما ديانتهم، فإنهم يسجدون للشمس عند طلوعها، ولا يحرمون شيئاً، فإنهم يأكلون جميع الدواب، حتى الكلاب، والخنازير، وغيرها، ولا يعرفون نكاحاً بل المرأة يأتيها غير واحد من الرجال، فإذا جاء الولد لا يعرف أباه.
ولقد بلي الإسلام والمسلمون في هذه المدة بمصائب لم يبتل بها أحد من الأمم، منها هؤلاء التتر، قبحهم الله، أقبلوا من المشرق، ففعلوا الأفعال التي يستعظمها كل من سمع بها، وستراها مشروحة متصلة، إن شاء الله تعالى.
ومنها خروج الفرنج، لعنهم الله، من المغرب إلى الشام، وقصدهم ديار مصر، وملكهم ثغر دمياط منها، وأشرفت ديار مصر والشام وغيرها على أن يملكوها لولا لطف الله تعالى ونصره عليهم، وقد ذكرناه سنة أربع عشرة وستمائة.
ومنها الذي سلم من هاتين الطائفتين فالسيف بينهم مسلول، والفتنة قائمة على ساق، وقد ذكرناه أيضاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون، نسأل الله أن ييسر للإسلام والمسلمين نصراً من عنده، فإن الناصر، والمعين، والذاب عن الإسلام معدوم، (وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من والٍ)، فإن هؤلاء التتر إنما استقام لهم هذا الأمر لعدم المانع.
وسبب عدمه أن خوارزم شاه محمداً كان قد استولى على البلاد، وقتل ملوكها، وأفناهم، وبقي هو وحده سلطان البلاد جميعها، فلما انهزم منهم لم يبق في البلاد من يمنعهم، ولا من يحميها (ليقضي الله أمراً كان مفعولاً)، وهذا حين نذكر ابتداء خروجهم إلى البلاد.
ذكر خروج التتر إلى تركستان وما وراء النهر وما فعلوه
في هذه السنة ظهر التتر إلى بلاد الإسلام، وهم نوع كثير من الترك، ومساكنهم جبال طمغاج من نحو الصين، وبينها وبين بلاد الإسلام ما يزيد على ستة أشهر. (5/305)
وكان السب في ظهورهم أن ملكهم، ويسمى بجنكزخان، المعروف بتموجين، كان قد فارق بلاده وسار إلى نواحي تركستان، وسير جماعة من التجار والأتراك، ومعهم شيء كثير من النقرة والقندر وغيرهما، إلى بلاد ما وراء النهر سمرقند وبخارى ليشتروا له ثياباً للكسوة، فوصلوا إلى مدينة من بلاد الترك تسمى أوترا، وهي آخر ولاية خوارزم شاه، وكان له نائب هناك، فلما ورد عليه هذه الطائفة من التتر أرسل إلى خوارزم شاه يعلمه بوصولهم ويذكر له ما معهم من الأموال، فبعث إليه خوارزم شاه يأمره بقتلهم وأخذ ما معهم من الأموال وإنفاذه إليهم، فقتلهم، وسيّر ما معهم، وكان شيئاً كثيراً، فلما وصل إلى خوارزم شاه فرقه على تجار بخارى، وسمرقند، وأخذ ثمنه منهم.
وكان بعد أن ملك ما وراء النهر من الخطا قد سد الطرق عن بلاد تركستان وما بعدها من البلاد، وإن طائفة من التتر أيضاً كانوا قد خرجوا قديماً والبلاد للخطا، فلما ملك خوارزم شاه البلاد بما وراء النهر من الخطا، وقتلهم، واستولى هؤلاء التتر على تركستان: كاشغار، وبلاساغون وغيرهما، وصاروا يحاربون عساكر خوارزم شاه، فلذلك منع الميرة عنهم من الكسوات وغيرها. وقيل في سبب خروجهم إلى بلاد الإسلام غير ذلك مما لا يذكر في بطون الدفاتر:
فكان ما كان ما لست أذكره ... فظن خيراً ولا ولا تسأل عن الخبر
فلما قتل نائب خوارزم شاه أصحاب جنكزخان أرسل جواسيس إلى جنكزخان لينظر ما هو، وكم مقدار ما معه من الترك، وما يريد أن يعمل، فمضى الجواسيس، وسلكوا المفازة والجبال التي على طريقهم، حتى وصوا إليه، فعادوا بعد مدة طويلة وأخبروه بكثرة عددهم، وأنهم يخرجون عن الإحصاء، وأنهم من أصبر خلق الله على القتال لا يعرفون هزيمة، وأنهم يعملون ما يحتاجون إليه من السلاح بأيديهم، فندم خوارزم شاه على قتل أصحابهم وأخذ أموالهم، وحصل عنده فكر زائد، فأحضر الشهاب الخيوفي، وهو فقيه فاضل، كبير المحل عنده، لا يخالف ما يشير به، فحضر عنده، فقال له: قد حدث أمر عظيم لا بد من الفكر فيه وأخذ رأيك في الذي نفعله، وذاك أنه قد تحرك إلينا خصم من ناحية الترك في كثرة لا تحصى.
فقال له: في عساكرك كثرة ونكاتب الأطراف، ونجمع العساكر، ويكون النفير عاماً، فإنه يجب على المسلمين كافة مساعدتك بالمال والنفس، ثم نذهب بجميع العساكر إلى جانب سيحون، وهو نهر كبير يفصل بين بلاد الترك وبلاد الإسلام، فنكون هناك، فإذا جاء العدو، وقد سار مسافة بعيدة، لقيناه ونحن مستريحون، وهو وعساكره قد مسهم النصب والتعب.
فجمع خوارزم شاه أمراءه ومن عنده من أرباب المشورة، فاستشارهم، فلم يوافقوه على رأيه، بل قالوا: الرأي أن نتركهم يعبرون سيحون إلينا، ويسلكون هذه الجبال والمضايق، فإنهم جاهلون بطرقهم، ونحن عارفون بها، فنقوى حينئذ عليهم، ونهلكهم فلا ينجو منهم أحد.
فبينما هم كذلك إذ ورد رسول من هذا اللعين جنكزخان معه جماعة يتهد خوارزم شاه، ويقول: تقتلون أصحابي وتجاري وتأخذون مالي منهم! استعدوا للحرب فإني واصل إليكم بجمع لا قبل لكم به.
وكان جنكزخان قد سار إلى تركستان، فملك كاشغار، وبلاساغون، وجميع تلك البلاد، وأزال عنها التتر الأولى، فلم يظهر لهم خبر، ولا بقي لهم أثر، بل بادوا كما أصاب الخطا، وأرسل الرسالة المذكورة إلى خوارزم شاه؛ فلما سمعها خوارزم شاه أمر بقتل رسوله، فقتل، وأمر بحلق لحى الجماعة الذين كانوا معه، وأعادهم إلى صاحبهم جنكزخان يخبرونه بما فعل بالرسول، ويقولون له: إن خوارزم شاه يقول لك: أنا سائر إليك ولو أنك في آخر الدنيا، حتى أنتقم وأفعل بك كما فعلت بأصحابك.
وتجهز خوارزم شاه، وسار بعد الرسول مبادراً ليسبق خبره ويكسبهم، فأدمن السير، فمضى، وقطع مسيرة أربعة أشهر، فوصل إلى بيوتهم، فلم ير فيها إلا النساء والصبيان والأثقال، فأوقع بهم وغنم الجميع، وسبى النساء والذرية.
وكان سبب غيبة الكفار عن بيوتهم أنهم ساروا إلى محاربة ملك من ملوك الترك يقال له كشلوخان، فقاتلوه، وهزموه، وغنموا أمواله وعادوا، فلقيهم في الطريق الخبر بما فعل خوارزم شاه بمخلفيهم، فجدوا السير، فأدركوه قبل أن يخرج عن بيوتهم، وتصافوا للحرب، واقتتلوا قتالاً لم يسمع بمثله، فبقوا في الحرب ثلاثة أيام بلياليها، فقتل من الطائفتين ما لا يعد، ولم ينهزم أحد منهم. (5/306)
أما المسلمون فإنهم صبروا حمية للدين، وعلموا أنهم إن انهزموا لم يبق للمسلمين باقية، وأنهم يؤخذون لبعدهم عن بلادهم.
وأما الكفار فصبروا لاستنقاذ أهليهم وأموالهم، واشتد بهم الأمر، حتى إن أحدهم كان ينزل عن فرسه ويقاتل قرنه رجلاً، ويتضاربون بالسكاكين، وجرى الدم على الأرض، حتى صارت الخيل تزلق من كثرته، واستنفذ الطائفتان وسعهم في الصبر والقتال. هذا القتال جميعه مع ابن جنكزخان ولم يحضر أبوه الوقعة، ولم يشعر بها، فأحصي من قتل من المسلمين في هذه الوقعة فكانوا عشرين ألفاً، وأما من الكفار فلا يحصى من قتل منهم.
فلما كان الليلة الرابعة افترقوا، فنزل بعضهم مقابل بعض، فلما أظلم الليل أوقد الكفار نيرانهم وتركوها بحالها وساروا، وكذلك فعل المسلمون أيضاً، كل منهم سئم القتال؛ فأما الكفار فعادوا إلى ملكهم جنكزخان؛ وأما المسلمون فرجعوا إلى بخارى، فاستعد للحصار لعلمه بعجزه، لأن طائفة عسكره لم يقدر خوارزم شاه على أن يظفر بهم، فكيف إذا جاؤوا جميعهم مع ملكهم؟ فأمر أهل بخار وسمرقند بالاستعداد للحصار، وجمع الذخائر للامتناع، وجعل في بخارى عشرين ألف فارس من العسكر يحمونها، وفي سمرقند خمسين ألفاً، وقال لهم: احفظوا البلد حتى أعود إلى خوارزم وخراسان وأجمع العساكر واستنجد بالمسلمين وأعود إليكم.
فلما فرغ من ذلك رحل عائداً إلى خراسان، فعبر جيحون، ونزل بالقرب من بلخ فعسكر هناك.
وأما الكفار فإنهم رحلوا بعد أن استعدوا يطلبون ما وراء النهر، فوصلوا إلى بخارى بعد خمسة أشهر من وصول خوارزم شاه، وحصروها، وقاتلوهما ثلاثة أيام قتالاً شديداً متتابعاً، فلم يكن للعسكر الخوارزمي بهم قوة، ففارقوا البلد عائدين إلى خراسان، فلما أصبح أهل البلد وليس عندهم من العسكر أحد ضعفت نفوسهم، فأرسلوا القاضي، وهو بدر الدين قاضي خان، ليطلب الأمان للناس، فأعطوهم الأمان.
وكان قد بقي من العسكر طائفة لم يمكنهم الهرب مع أصحابهم، فاعتصموا بالقلعة، فلما أجابهم جنكزخان إلى الأمان فتحت أبواب المدينة يوم الثلاثاء رابع ذي الحجة من سنة ست عشرة وستمائة، فدخل الكفار بخارى، ومل يتعرضوا لأحد بل قالوا لهم: كل ما هو للسلطان عندكم من ذخيرة وغيره أخرجوه إلينا، وساعدونا على قتال من بالقلعة؛ وأظهروا عندهم العدل وحسن السيرة، ودخل جنكزخان بنفسه وأحاط بالقلعة، ونادى في البلد بأن لا يتخلف أحد ون تخلف قتل، فحضروا جميعهم، فأمرهم بطم الخندق، فطموه بالأخشاب والتراب وغير ذلك، حتى إن الكفار كانوا يأخذون المنابر وربعات القرآن فيلقونهم في الخندق، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وبحق سمى الله نفسه صبوراً حليماً، وإلا كان خسف بهم الأرض عند فعل مثل هذا.
ثم تابعوا الزحف إلى القلعة وبها نحو أربع مائة فارس من المسلمين، فبذلوا جهدهم، ومنعوا القلعة اثني عشر يوماً يقاتلون جميع الكفار وأهل البلد، فقتل بعضهم، ولم يزالوا كذلك حتى زحفوا إليهم، ووصل النقابون إلى سور القلعة فنقبوه، واشتد حينئذ القتال، ومن بها من المسلمين يرمون ما يجدون من حجارة ونار وسهام، فغضب اللعين، ورد أصحابه ذلك اليوم، وباكرهم من الغد، فجدوا في القتال، وقد تعب من بالقلعة ونصبوا، وجاءهم ما لا قبل لهم به، فقهرهم الكفار ودخلوا القلعة، وقاتلهم المسلمون الذين فيها حتى قتلوا عن آخرهم، فلما فرغ من القلعة نادى أن يكتب له وجوه الناس ورؤساؤهم، ففعلوا ذلك، فلما عرضوا عليه أمر بإحضارهم فحضروا، فقال: أريد منكم النقرة التي باعكم خوارزم شاه، فإنها لي، ومن أصحابي أخذت، وهي عندكم.
فأحضر كل من كان عنده شيء منها بين يديه، ثم أمرهم بالخرج من البلد، فخرجوا من البلد مجردين من أموالهم، ليس مع أحد منه غير ثيابه التي عليه، ودخل الكفار البلد فنهبوه وقتلوا من وجدوا فيه، وأحاط بالمسلمين، فأمر أصحابه أن يقتسموهم، فاقتسموهم. (5/307)
وكان يوماً عظيماً من كثرة البكاء من الرجال والنساء والولدان، وتفرقوا أيدي سبا، وتمزقوا كل ممزق، واقتسموا النساء أيضاً، وأصبحت بخارى خاوية على عروشها كأن لم تغن بالأمس، وارتكبوا من النساء العظيم، والناس ينظرون ويبكون، ولا يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم شيئاً مما نزل بهم، فمنهم من لم يرض بذلك، واختار الموت على ذلكن فقاتل حتى قتل، وممن فعل ذلك واختار أن يقتل ولا يرى ما نزل بالمسلمين، الفقيه الإمام ركن الدين إمام زاده وولده، فإنهما لما رأيا ما يفعل بالحرم قاتلا حتى قتلا.
وكذلك فعل القاضي صدر الدين خان، ومن استسلم أخذ أسيراً، وألقوا النار في البلد، والمدارس، والمساجد، وعذبوا الناس بأنواع العذاب في طلب المال؛ ثم رحلوا نحو سمرقند وقد تحققوا عجز خوارزم شاه عنهم، وهم بمكانه بين ترمذ وبلخ، واستصحبوا معهم من سلم من أهل بخارى أسارى، فساروا بهم مشاة على أقبح صورة، فكل من أعيا وعجز عن المشي قتلوه، فلما قاربوا سمرقند قدموا الخيالة، وتركوا الرجالة والأسارى والأثقال وراءهم، حتى تقدموا شيئاً فشيئاً، ليكون أرعب لقلوب المسلمين؛ فلما رأى أهل البلد سوادهم استعظموه.
فلما كان اليوم الثاني وصل الأسارى والرجالة والأثقال، ومع كل عشرة من الأسارى علم، فظن أهل البلد أن الجميع عساكر مقاتلة، وأحاطوا بالبلد وفيه خمسون ألف مقاتل من الخوارزمية، وأما عامة البلد فلا يحصون كثرة، فخرج إليهم شجعان أهله، وأهل الجلد والقوة رجالة، ولم يخرج معهم من العسكر الخوارزمي أحد لما في قلوبهم من خوف هؤلاء الملاعين، فقاتلهم الرجالة بظاهر البلد، فلم يزل التتر يتأخرون، وأهل البلد يتبعونهم، ويطمعون فيهم، وكان الكفار قد كمنوا لهم كميناً، فلما جاوزوا الكمين خرج عليهم وحال بينهم وبين البلد، ورجع الباقون الذين أنشبوا القتال أولاً، فبقوا في الوسط، وأخذهم السيف من كل جانب، فلم يسلم منهم أحد؛ قتلوا عن آخرهم شهداء، رضي الله عنهم، وكانوا سبعين ألفاً على ما قيل.
فلما رأى الباقون من الجند والعامة ذلك ضعفت نفوسهم وأيقنوا بالهلاك، فقال الجند، وكانوا أتراكاً: نحن من جنس هؤلاء ولا يقتلوننا؛ فطلبوا الأمان، فأجابوهم إلى ذلك، ففتحوا أبواب البلد، ولم يقدر العامة على منعهم، وخرجوا إلى الكفار بأهلهم وأموالهم، فقال لهم الكفار: ادفعوا إلينا سلاحكم وأموالكم ودوابكم ونحن نسيركم إلى مأمنكم؛ ففعلوا ذلك، فلما أخذوا أسلحتهم ودوابهم وضعوا السيف فيهم وقتلوهم عن آخرهم، وأخذوا أموالهم ودوابهم ونساءهم.
فلما كان اليوم الرابع نادوا في البلد أن يخرج أهله جميعهم، ومن تأخر قتلوه، فخرج جميع الرجال والنساء والصبيان، ففعلوا مع أهل سمرقند مثل فعلهم مع أهل بخارى من النهب، والقتل، والسبي، والفساد، ودخلوا البلد فنهبوا ما فيه، وأحرقوا الجامع وتركوا باقي البلد على حاله، وافتضوا الأبكار، وعذبوا الناس بأنواع العذاب في طلب المال، وقتلوا من لم يصلح للسبي، وكان ذلك في المحرم سنة سبع عشرة وستمائة.
وكان خوارزم شاه بمنزلته كلما اجتمع إليه عسكر سيره إلى سمرقند، فيرجعون ولا يقدرون على الوصول إليها، نعوذ بالله من الخذلان؛ سير مرة عشرة آلاف فارس فعادوا كالمنهزمين من غير قتال، وسير عشرين ألفاً فعادوا أيضاً.
ذكر مسير التتر الكفار إلى خوارزم شاه وانهزامه وموته
لما ملك الكفار سمرقند عمد جنكزخان، لعنه الله، وسير عشرين ألف فارس، وقال لهم: اطلبوا خوارزم شاه أين كان، ولو تعلق بالسماء، حتى تدركوه وتأخذوه.
وهذه الطائفة تسميها التتر المغربة لأنها سارت نحو غرب خراسان ليقع الفرق بينهم وبين غيرهم منهم، لأنهم هم الذين أوغلوا في البلاد؛ فلما أمرهم جنكزخان بالمسير ساروا وقصدوا موضعاً يسمى بنج آب، ومعناه خمسة مياه، فوصلوا إليه، فلم يجدوا هناك سفينة، فعلموا من الخشب مثل الأحواض الكبار وألبسوها جلود البقر لئلا يدخلها الماء، ووضعوا فيها سلاحهم وأمتعتهم وألقوا الخيل في الماء، وأمسكوا أذنابها، وتلك الحياض التي من الخشب مشدودة إليهم، فكان الفرس يجذب الرجل والرجل يجذب الحوض المملوء من السلاح وغيره، فعبروا كلهم دفعة واحدة، فلم يشعر خوارزم شاه إلا وقد صاروا معه على أرض واحدة. (5/308)
وكان المسلمون قد ملئوا منهم رعباً وخوفاً، وقد اختلفوا فيما بينهم، إلا أنهم كانوا يتماسكون بسبب أن نهر جيحون بينهم، فلما عبروه إليهم لم يقدروا على الثبات، ولا على المسير مجتمعين، بل تفرقوا أيدي سبا، وطلب كل طائفة منهم جهة، ورحل خوارزم شاه لا يلوي على شيء في نفر من خاصته، وقصدوا نيسابور، فلا دخلها اجتمع عليه بعض العسكر، فلم يستقر حتى وصل أولئك التتر إليها.
وكانوا لا يتعرضون في مسيرهم لشيء لا بنهب ولا قتل بل يجدون السير في طلبه لا يمهلونه حتى يجمع لهم، فلما سمع بقربهم منه رحل إلى مازندران، وهي له أيضاً، فرحل التتر المغربون في أثره، ولم يعرجوا على نيسابور بل تبعوه، فكان كلما رحل عن منزلة نزلوها، فوصل إلى مرسى من بحر طبرستان يعرف بباب سكون، وله هناك قلعة في البحر، فلما نزل هو وأصحابه في السفن وصلت التتر، فلما رأوا خوارزم شاه وقد دخل البحر وقفوا على ساحل البحر، فلما أيسوا من لحاق خوارزم شاه رجعوا، فهم الذين قصدوا الري وما بعدها، على ما نذكره إن شاء الله.
هكذا ذكر لي بعض الفقها ممن كان ببخارى وأسروه معهم إلى سمرقند، ثم نجا منهم ووصل إلينا، وذكر غيره من التجار أن خوارزم شاه سار من مازندان حتى وصل إلى الري، ثم منها إلى همذان، والتتر في أثره، ففارق همذان في نفر يسير، جريدة، ليستر نفسه ويكتم خبر، وعاد إلى مازندران وركب في البحر إلى هذه القلعة.
وكان هذا هو الصحيح، فإن الفقيه كان حينئذ مأسوراً، وهؤلاء التجار أخبروا أنهم كانوا بهمذان، ووصل خوارزم شاه، ثم وصل بعده من أخبره بوصول التتر، ففارق همذان، وكذلك أيضاً هؤلاء التجار فارقوها، ووصل التتر إليها بعدهم ببعض نهار، فهم يخبرون عن مشاهدة؛ ولما وصل خوارزم شاه إلى هذه القلعة المذكورة توفي فيها.
ذكر صفة خوارزم شاه وشيء من سيرته
هو علاء الدين محمد بن علاء الدين تكش، وكان مدة ملكه إحدى وعشرين سنة وشهوراً تقريباً، واتسع ملكه، وعظم محله، وأطاعه العالم بأسره، ولم يملك بعد السلجوقية أحد مثل ملكه، فإنه ملك من حد العراق إلى تركستان، وملك بلاد غزنة وبعض الهند، وملك سجستان وكرمان وطبرستان وجرجان وبلاد الجبال وخراسان وبعض فارس، وفعل بالخطا الأفاعيل العظيمة، وملك بلادهم.
وكان فاضلاً، عالماً بالفقه والأصول وغيرهما، وكان مكرماً للعلماء محباً لهم محسناً إليهم، يكثر مجالستهم ومناظراتهم بين يديه، وكان صبوراً على التعب وإدمان السير، وغير متنعم، ولا مقبل على اللذات، إنما همه في الملك وتدبيره، وحفظه ورعاياه؛ وكان معظماً لأهل الدين، مقبلاً عليهم، متبركاً بهم.
حكى لي بعض خدم حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد عاد من خراسان، قال: وصلت إلى خوارزم، فنزلت ودخلت الحمام، ثم قصدت باب السلطان علاء الدين، فحين حضرت لقيني إنسان، فقال: ما حاجتك؟ فقلت له: أنا من خدم حجرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأمرني بالجلوس، وانصرف عني قليلاً، ثم عاد إلي وأخذني وأدخلني إلى دار السلطان، فتسلمني منه حاجب من حجاب السلطان، وقال لي: قد أعلمت السلطان خبرك فأمر بإحضارك عنده؛ فدخلت إليه وهو جالس في صدر إيوان كبير، فحين توسطت صحن الدار قام قائماً، ومشى إلى بين يدي، فأسرعت السير فلقيته في وسط الإيوان، فأردت أن أقبل يده، فمنعني، واعتقني، وجلس وأجلسني إلى جانبه، وقال لي: أنت تخدم حجرة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: نعم؛ فأخذ يدي وأمرها على وجهه، وسألني عن حالنا وعيشنا، وصفة المدينة، ومقدارها، وأطال الحديث معين فلما خرجت من عنده قال: لولا أننا على عزم السفر هذه الساعة لما ودعتك، إنا نريد أن نعبر جيحون إلى الخطا، وهذا طريق مبارك حيث رأينا من يخدم حجرة النبي، صلى الله عليه وسلم؛ وثم ودعني وأرسل إلي جملة كثيرة من النفقة، ومضى، وكان منه ومن الخطا ما ذكرناهن وبالجملة فاجتمع فيه ما تفرق في غيره من ملوك العالم، رحمه الله، ولو أردنا ذكر مناقبه لطال ذلك.
ذكر استيلاء التتر المغربة على مازندران (5/309)
لما أيس التتر المغربة من إدراك خوارزم شاه، عادوا فقصدوا بلاد مازندران، فملكوها في أسرع وقت، مع حصانتها وصعوبة الدخول إليها، وامتنا قلاعها، فإنها لم تزل ممتنعة قديمة الزمان وحديثة، حتى إن المسلمين لما ملكوا بلاد الأكاسرة جميعها، من العراق إلى أقاصي خراسان، بقيت أعمال مازندران يؤخذ منهم الخراج، ولا يقدرون على دخول البلاد، إلى أن ملكت أيام سليمان بن عبد الملك سنة تسعين، وهؤلاء الملاعين ملكوها صفواً عفواً لأمر يريده الله تعالى.
ولما ملكوا بلد مازندران قتلوا، وسبوا، ونهبوا، وأحرقوا البلاد، ولما فرغوا من مازندران سلكوا نحو الري، فرأوا في الطريق والدة خوارزم شاه ونساءه، وأموالهم، وذخائرهم التي لم يسمع بمثلها من الأعلاق النفيسة، وكان سبب ذلك أن والدة خوارزم شاه لما سمعت بما جرى على ولدها خافت، ففارقت خوارزم وقصدت نحو الري لتصل إلى أصفهان وهمذان وبلد الجبل تمتنع فيها، فصادفوها في الطريق، فأخذوها وما معها قبل وصولهم إلى الري، فكان فيه ما ملأ عيونهم وقلوبهم، وما لم يشاهد الناس مثله من كل غريب من المتاع، ونفيس من الجواهر، وغير ذلك، وسيروا الجميع إلى جنكزخان بسمرقند.
ذكر وصول التتر إلى الري وهمذان
في سنة سبع عشرة وستمائة وصل التتر، لعنهم الله، إلى الري في طلب خوارزم شاه محمد، لأنهم بلغهم أنه مضى منهزماً منهم نحو الري، فجدوا السير في أثره، وقد انضاف إليهم كثير من عساكر المسلمين والكفار، وكذلك أيضاً من المفسدين من يريد النهب والشر، فوصلوا إلى الري على حين غفلة من أهلها، فلم يشعروا بهم إلا وقد وصلوا إليها، وملكوها، ونهبوها، وسبوا الحريم، واستقرقوا الأطفال، وفعلوا الأفعال التي لم يسمع بمثلها، ولم يقيموا، ومضوا مسرعين في طلب خوارزم شاه، فنهبوا في طريقهم كل مدينة وقرية مروا عليها، وفعلوا في الجميع أضعاف ما فعلوا في الري، وأحرقوا، وخربوا ووضعوا السيف في الرجال والنساء والأطفال، فلم يبقوا على شيء.
وتموا على حالهم إلى همذان، وكان خوارزم شاه قد وصل إليها في نفر من أصحابه، ففارقها وكان آخر العهد به، فلا يدرى ما كان منه فيما حكاه بعضهم عنه، وقيل غير ذلك، وقد ذكرناه.
فلما قاربوا همذان خرج رئيسها ومعه الحمل من الأموال والثياب والدواب وغير ذلك، يطلب الأمان لأهل البلد، فأمنوهم، ثم فارقوها وساروا إلى زنجان ففعلوا أضعاف ذلك؛ وساروا ووصلوا إلى قزوين، فاعتصم أهلها منهم بمدينتهم، فقاتلوهم، وجدوا في قتالهم، ودخلوها عنوة بالسيف، فاقتتلوا هم وأهل البلد في باطنه، حتى صاروا يقتتلون بالسكاكين، فقتل من الفريقين ما لا يحصى، ثم فارقوا قزوين، فعد القتلى من أهل قزوين، فزادوا على أربعين ألف قتيل.
ذكر وصول التتر إلى أذربيجان
لما هجم الشتاء على التتر في همذان، وبلد الجبل، رأوا برداً شديداً، وثلجاً متراكماً، فساروا إلى أذربيجان، ففعلوا في طريقهم بالقرى والمدن الصغار من القتل والنهب مثل ما تقدم منهم، وخربوا وأحرقوا، ووصلوا إلى تبريز وبها صاحب أذربيجان أوزبك بن البهلوان، فلم يخرج إليهم، ولا حدث نفسه بقتالهم لاشتغاله بما هو بصدده من إدمان الشرب ليلاً ونهاراً لا يخرج إليهم، ولا حدث نفسه بقتالهم لاشتغاله بما هو بصدده من إدمان الشرب ليلاً ونهاراً لا يفيق، وإنما أرسل إليهم وصالحهم على مال، وثياب، ودواب، وحمل الجميع إليهم، فساروا من عنده يريدون ساحل البحر، لأنه يكون قليل البرد، ليشتوا عليه والمراعي به كثيرة لأجل دوابهم، فوصلوا إلى موقان، تطرقوا في طريقهم إلى بلاد الكرج، فجاء إليهم من الكرج جمع كثير من العسكر، نحو عشرة آلاف مقاتل، فقاتلوهم، فانهزمت الكرج، وقتل أكثرهم. (5/310)
وأرسل الكرج إلى أوزبك، صاحب أذربيجان، يطلبون منه الصلح والاتفاق معهم على دفع التتر، فاصطلحوا ليجتمعوا إذا انحسر الشتاء؛ وكذلك أرسلوا إلى الملك الأشرف ابن الملك العادل، صاحب خلاط وديار الجزيرة، يطلبون منه الموافقة عليهم، وظنوا جميعهم أن التتر يصبرون في الشتاء إلى الربيع، فلم يفعلوا كذلك، بل تحركوا وساروا نحو بلاد الكرج، وانضاف إليهم مملوك تركي من مماليك أوزبك، اسمه أقوش، وجمع أهل تلك الجبال والصحراء من التركمان والأكراد وغيرهم، فاجتمع معه خلق كثير؛ وراسل التتر في الانضمام إليهم، فأجابوه إلى ذلك، ومالوا إليه للجنسية، فاجتمعوا وساروا في مقدمة التتر إلى الكرج، فملكوا حصناً من حصونهم وخربوه، ونهبوا البلاد وخربوها، وقتلوا أهلها، ونهبوا أموالهم، حتى وصلوا إلى قرب تفليس.
فاجتمعت الكرج وخرجت بحدها وحديدها إليهم، فلقيهم أقوش ألاً فيمن اجتمع إليه، فاقتتلوا قتالاً شديداً صبروا فيه كلهم، فقتل من أسحاب أقوش خلق كثير، وأدركهم التتر وقد تعب الكرج من القتال، وقتل منهم أيضاً كثير، فلم يثبتوا للتتر، وانهزموا أقبح هزيمة، وركبهم السيف من كل جانب، فقتل منهم ما لا يحصى كثرة، وكانت الوقعة في ذي القعدة من هذه السنة ونهبوا من البلاد ما كان سلم منهم.
ولقد جرى لهؤلاء التتر ما لم يسمع بمثله من قديم الزمان وحديثه: طائفة تخرج من حدود الصين لا تنقضي عليهم سنة حتى يصل بعضهم إلى بلاد أرمينية من هذه الناحية، ويجاوزوا العراق من ناحية همذان، وتالله لا شك أن من يجيء بعدنا، إذا بعد العهد، ويرى هذه الحادثة مسطورة ينكرها، ويستبعدها، والحق بيده، فمتى يجيء بعدنا، إذا بعد العهد، ويرى هذه الحادثة مسطورة ينكرها، ويستبعدها، والحق بيده، فمتى استبعد ذلك فلينظر أننا سطرنا نحن، وكل من جمع التاريخ في أزماننا هذه في وقت كل من فيه يعلم هذه الحادثة، استوى في معرفتها العالم والجاهل لشهرتها، يسر اله للمسلمين والإسلام من يحفظهم ويحوطهم، فلقد دفعوا من العدو إلى عظيم، ومن الملوك المسلمين إلى من لا تتعدى همته بطنه وفرجه، ولم ينل المسلمين أذى وشدة مذ جاء النبي، صلى الله عليه وسلم إلى هذا الوقت مثل ما دفعوا إليه الآن.
هذا العدو الكافر التتر قد وطئوا بلاد ما وراء النهر وملكوها وخربوها، وناهيك به سعة بلاد، وتعدت هذه الطائفة منهم النهر إلى خراسان فملكوها وفعلوا مثل ذلك، ثم إلى الري وبلد الجبل وأذربيجان، وقد اتصلوا بالكرج فغلبوهم على بلادهم.
والعدو الآخر الفرنج قد ظهروا من بلادهم في أقصى بلاد الروم، بين الغرب والشمال، ووصلوا إلى مصر فملكوا مثل دمياط، وأقاموا فيها، ولم يقدر المسلمون على إزعاجهم عنها، ولا إخراجهم منها، وباقي ديار مصر على خطر، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ومن أعظم الأمور على المسلمين أن سلطانهم خوارزم شاه محمداً قد عدم لا يعرف حقيقة خبره، فتارة يقال مات عند همذان وأخفي موته، وتارة دخل أطراف بلاد فارس ومات هناك وأخفي موته لئلا يقصدها التتر في أثره، وتارة يقال عاد إلى طبرستان وركب البحر، فتوفي في جزيرة هناك، وبالجملة فقد عدم، ثم صح موته ببحر طبرستان، وهذا عظيم، إن مثل خراسان وعراق العجم أصبح سائباً لا مانع له، ولا سلطان يدفع عنه، والعدو يجوس البلاد، يأخذ ما أراد ويترك ما أراد، على أنهم لم يبقوا على مدينة إلا خربوا كل ما مروا عليه، وأحرقوه، ونهبوه، وما لا يصلح لهم أحرقوه، فكانوا يجمعون الإبريسم تلالاً ويلقون فيه النار، وكذلك غيره من الأمتعة.
ذكر ملك التتر مراغة
في صفر سنة ثماني عشرة وستمائة ملك التتر مدينة مراغة من أذربيجان. (5/311)
وسبب ذلك أننا ذكرنا سنة سبع عشرة وستمائة ما فعله التتر بالكرج، وانقضت تلك السنة وهم في بلاد الكرج، فلما دخلت سنة ثماني عشرة وستمائة ساروا من ناحية الكرج لأنهم رأوا أن بين أيديهم شوكة قوية، ومضايق تحتاج إلى قتال وصراع، فعدلوا عنهم، وهذه كانت عادتهم، إذا قصدوا مدينة ورأوا عندها امتناعاً عدلوا عنها، فوصلوا إلى تبريز، وصانعهم صاحبها بمال وثياب ودواب، فساروا عنه إلى مدينة مراغة، فحصروها وليس بها صاحب يمنعها، لأن صاحبها كانت امرأة، وهي مقيمة بقلعة رويندز، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة).
فلما حصروها قاتلهم أهلها، فنصبوا عليها المجانيق، وزحفوا إليها، وكانت عادتهم إذا قاتلوا مدينة قدموا من معهم من أسارى المسلمين بين أيديهم يزحفون ويقاتلون، فإن عادوا قتلوهم، فكانوا يقاتلون كرهاً، وهم المساكين، كما قيل: (كالأشقر إن تقدم ينحر وإن تأخر يعقر)؛ وكانوا هم يقاتلون وراء المسلمين، فيكون القتل في المسلمين الأسارى، وهم بنجوة منه.
فأقاموا عليها عدة أيام، ثم ملكوا عنوة وقهراً رابع صفر، ووضعوا السيف في أهلها، فقتل منهم ما يخرج عن الحد والإحصاء، ونهبوا كل ما يصلح لهم، وما لا يصلح لهم أحرقوه، واختفى بعض الناس منهم، فكانوا يأخذون الأسارى ويقولون لهم: نادوا في الدرب أن التتر قد رحلوا؛ فإذا نادى أولئك خرج من اختفى فيؤخذ ويقتل.
وبلغني أن امرأة من التتر دخلت داراً وقتلت جماعة من أهلها وهم يظنونها رجلاً، فوضعت السلاح وإذا هي امرأة، فقتلها رجل أخذته أسيراً؛ وسمعت من بعض أهلها أن رجلاً من التتر دخل درباً فيه مائة رجل، فما زال يقتلهم واحداً واحداً حتى أفناهم، ولم يمد أحد يده إليه بسوء، ووضعت الذلة على الناس فلا يدفعون عن نفوسهم قليلاً ولا كثيراً، نعوذ بالله من الخذلان.
ثم رحلوا عنها نحو مدينة إربل، ووصل الخبر إلينا بذلك بالموصل، فخفنا، حتى إن بعض الناس هم بالجلاء خوفاً من السيف، وجاءت كتب مظفر الدين، صاحب إربل، إلى بدر الدين، صاحب الموصل، يطلب منه نجدة من العساكر، فسير إليه جمعاً صالحاً من عسكره، وأراد أن يمضي إلى طرف بلاده من جهة التتر، ويحفظ المضايق لئلا يجوزها أحد، فإنها جميعها جبال وعرة ومضايق لا يقدر أن يجوزها إلا الفارس بعد الفارس، ويمنعهم من الجواز إليه.
ووصلت كتب الخليفة ورسله إلى الموصل وإلى مظفر الدين يأمر الجميع بالاجتماع مع عساكره بمدينة دقوقا لمنعوا التتر، فإنهم ربما عدلوا عن جبال إربل، لصعوبتها، إلى هذه الناحية، ويطرقون العراق، فسار مظفر الدين من إربل في صفر، وسار إليهم جمع من عسكر الموصل، وتبعهم من المتطوعة كثير.
وأرسل الخليفة أيضاً إلى الملك الأشرف يأمره بالحضور بنفسه في عساكره ليجتمع الجميع على قصد التتر وقتالهم، فاتفق أن الملك المعظم ابن الملك العادل وصل من دمشق إلى أخيه الأشرف وهو بحران يستنجده على الفرنج الذين بمصر، وطلب منه أن يحضر بنفسه ليسروا كلهم إلى مصر ليستنقذوا دمياط من الفرنج، فاعتذر إلى الخليفة بأخيه، وقوة الفرنج، وإن لم يتداركها، وإلا خرجت هي وغيرها، وشرع يتجهز للمسير إلى الشام ليدخل مصر. وكان ما ذكرناه من استنقاذ دمياط.
فلما اجتمع مظفر الدين والعساكر بدقوقا سير الخليفة إليهم مملوكه قشتمر، وهو أكبر أمير بالعراق، ومعه غيره من الأمراء، في نحو ثماني مائة فارس، فاجتمعوا هناك ليتصل بهم باقي عسكر الخليفة، وكان المقدم على الجميع مظفر الدين، فلما رأى قلة العسكر لم يقدم على قصد التتر.
وحكى مظفر الدين قال: لما أرسل إلي الخليفة في معنى قصد التتر قلت له: إن العدو قوي، وليس لي من العسكر ما ألقاه به، فإن اجتمع معي عشرة آلاف فارس استنقذت ما أخذ من البلاد؛ فأمرين بالمسير، ووعدني بوصول العسكر، فلما سرت لم يحضر عندي غير عدد لم يبلغوا ثماني مائة طواشي، فأقمت، وما رأيت المخاطرة بنفسي وبالمسلمين.
ولما سمع التتر باجتماع العساكر لهم رجعوا القهقرى ظناً منهم أن العسكر يتبعهم، فلما لم يروا أحداً يطلبهم أقاموا، وأقام العسكر الإسلامي عند دقوقا، فلما لم يروا العدو يقصدهم، ولا المدد يأتيهم، تفرقوا، وعادوا إلى بلادهم.
ذكر ملك التتر همذان وقتل أهلها (5/312)
لما تفرق العسكر الإسلامي عاد التتر إلى همذان، فنزلوا بالقرب منها، وكان لهم بها شحنة يحكم فيها، فأرسلوا إليه ليطلب من أهلها مالاً وثياباً، وكانوا قد استنقذوا أموالهم في طول المدة. وكان رئيس همذان شريفاً علوياً، وهو من بيت رئاسة قديمة لهذه المدينة، هو الذي يسعى في أمورهم أهل البلد مع التتر، ويوصل إليهم ما يجمعه من الأموال؛ فلما طلبوا الآن منهم المال لم يجد أهل همذان ما يحملونه إليهم، فحضروا عند الرئيس ومعه إنسان فقيه قد قام في اجتماع الكلمة على الكفار قياماً مرضياً، فقالوا لهما: هؤلاء الكفار قد أفنوا أموالنا، ولم يبق لنا ما نعطيهم، وقد هلكنا من أخذهم أموالنا، وما يفعله النائب عنهم بنا من الهوان.
وكانوا قد جعلوا بهمذان شحنة لهم يحكم في أهلها بما يختاره، فقال الشريف: إذا كنا نعجز عنهم فكيف الحيلة؟ فليس لنا إلا مصانعتهم بالأموال؛ فقالوا له: أنت أشد علينا من الكفار! وأغلظوا له في القول، فقال: أنا واحد منكم، فاصنعوا ما شئتم. فأشار الفقيه بإخراج شحنة التتر من البلد والامتناع فيه، ومقاتلة التتر؛ فوثب العامة على الشحنة فقتلوه وامتنعوا في البلد؛ فتقدم التتر إليهم وحصروهم، وكانت الأقوات متعذرة في تلك البلاد جميعها، لخرابها، وقتل أهلها، وجلاء من سلم منهم، فلا يقدر أحد على الطعام إلا قليلاً؛ وأما التتر فلا يبالون بعدم الأقوات لأنهم لا يأكلون إلا اللحم، ولا تأكل دوابهم إلا نبات الأرض، حتى إنها تحفر بحوافرها الأرض عن عروق النبات فتأكلها.
فلما حصروا همذان قاتلهم أهلها والرئيس والفقيه في أوائلهم، فقتل من التتر خلق كثير، وجرح الفقيه عدة جراحات، وافترقوا، ثم خرجوا من الغد فاقتتلوا أشد من القتال الأول، وقتل أيضاً من التتر أكثر من اليوم الأول، وجرح الفقيه أيضاً عدة جراحات وهو صابر؛ وأرادوا أيضاً الخروج، اليوم الثالث، فلم يطق الفقيه الركوب، وطلب الناس الرئيس العلوي فلم يجدوه، كان قد هرب في سرب صنعه إلى ظاهر البلد هو وأهله إلى قلعة هناك على جبل عال فامتنع فيها.
فلما فقده الناس بقوا حيارى لا يدرون ما يصنعون، إلا أنهم اجتمعت كلمتهم على القتال إلى أن يموتوا، فأقاموا في البلد ولم يخرجوا منه.
وكان التتر قد عزموا على الرحيل عنهم لكثرة من قتل منهم؛ فلما لم يروا أحداً خرج إليهم من البلد طمعوا واستدلوا على ضعف أهله، فقصدوهم وقاتلوهم في رجب من سنة ثماني عشرة وستمائة، ودخلوا المدينة بالسيف، وقاتلهم الناس في الدروب، فبطل السلاح للزحمة، واقتتلوا بالسكاكين، فقتل من الفريقين ما لا يحصيه إلا الله تعالى، وقوي التتر على المسلمين فأفنوهم قتلاً، ولم يسلم إلا من كان عمل له نفقاً يختفي فيه، وبقي القتل في المسلمين عدة أيام، ثم ألقوا النار في البلد فأحرقوه ورحلوا عنه إلى مدينة أردويل.
وقيل كان السبب في ملكها أن أهل البلد لما شكوا إلى الرئيس الشريف ما يفعل بهم الكفار، أشار عليهم بمكاتبة الخليفة لينفذ إليهم عسكراً مع أمير يجمع كلمتم، فاتفقوا على ذلك، فكتب إلى الخليفة ينهي إليه ما هم عليه من الخوف والذل، وما يركبهم به العدو من الصغار والخزي، ويطلب نجدة ولو ألف فارس مع أمير يقاتلون معه ويجتمعون عليه؛ فلما سار القصاد بالكتب أرسل بعض من علم بالحال إلى التتر يعلمهم ذلك، فأرسلوا إلى الطريق فأخذوهم، وأخذوا الكتب منهم، وأرسلوا إلى الرئيس ينكرون عليه الحال، فجحد، فأرسلوا إليه كتبه وكتب الجماعة، فسقط في أيديهم، وتقدم إليهم التتر حينئذ وقاتلوهم، وجرى في القتال كما ذكرنا.
ذكر مسير التتر إلى أذربيجان وملكهم أردويل وغيرها
لما فرغ التتر من همذان ساروا إلى أذربيجان، فوصلوا إلى أردويل فملكوها وقتلوا فيها وأكثروا، وخربوا أكثرها، وساروا منها إلى تبريز، وكان قد قام بأمرها شمس الدين الطغرائي، وجمع كلمة أهلها، وقد فارقها صاحبها أوزبك بن البهلوان، وكان أميراً متخلفاً، لا يزال منهمكاً في الخمر ليلاً ونهاراً، يبقى الشهر والشهرين لا يظهر، وإذا سمع هيعة طار مجفلاً له، وله جميع أذربيجان وأران، وهو أعجز خلق الله عن حفظ البلاد من عدو يريدها ويقصدها. (5/313)
فلما سمع بمسير التتر من همذان فارق هو تبريز وقصد نقجوان، وسير أهله ونساءه إلى خوي ليبعد عنهم، فقام هذا الطغرائي بأمر البلد، وجمع الكلمة وقوى نفوس الناس على الامتناع، وخذرهم عاقبة التخاذل والتواني، وحصن البلد بجهده وطاقته؛ فلما قاربه التتر، وسمعوا بما أهل البلد عليه من اجتماع الكلمة على قتالهم، وأنهم قد حصنوا المدينة، وأصلحوا أسواها وخندقها، أرسلوا يطلبون منهم مالاً وثياباً، فاستقر الأمر بينهم عل قدر معلوم من ذلك، فسيروه إليهم، فأخذوه ورحلوا إلى مدينة سراو فنهبوها، وقتلوا كل من فيها.
ورحلوا منها إلى بيلقان، من بلاد أران، فنهبوا كل ما مروا به من البلاد والقرى، وخربوا، وقتلوا من ظفروا به من أهلها، فلما وصولا إلى بيلقان حصروها، فاستدعى أهلها منهم رسولاً يقرون معه الصلح، فأرسلوا إليهم رسولاً من أكابرهم ومقدميهم، فقتله أهل البلد، فزحف التتر إليهم وقاتلوهم، ثم إنهم ملكوا البلد عنوة في شهر رمضان سنة ثماني عشرة ووضعوا فيهم السيف فلم يبقوا على صغير ولا كبير، ولا امرأة، حتى إنهم كانوا يشقون بطون الحبالى، ويقتلون الأجنة، وكانوا يفجرون بالمرأة ثم يقتلونها، وكان الإنسان منهم يدخل الدرب فيه الجماعة، فيقتلهم واحداً بعد واحد حتى يفرغ من الجميع لا يمد أحد منهم إليه يداً.
فلما فرغوا منها استقصوا ما حولها بالنهب والتخريب، وساروا إلى مدينة كنجة، وهي أم بلاد أران، فعلموا بكثرة أهلها وشجاعتهم لكثرة ذريتهم بقتال الكرج، وحصانتها، فلم يقدموا عليها، فساروا إلى أهلها يطلبون منهم المال والثياب، فحملوا إليهم ما طلبوا، فساروا عنهم.
ذكر قصد التتر بلاد الكرج
لما فرغ التتر من بلاد المسلمين بأذربيجان وأران، بعضه بالملك، وبعضه بالصلح، ساروا إلى بلاد الكرج من هذه الأعمال أيضاً، وكان الكرج قد أعدوا لهم، واستعدوا، وسيروا جيشاً كثيراً إلى طرف بلادهم ليمنعوا التتر عنها، فوصل إليهم التتر، فالتقوا، فلم يثبت الكرج بل ولوا منهزمين، فأخذهم السيف، فلم يسلم منهم إلا الشريد.
ولقد بلغني أنهم قتل منهم نحو ثلاثين ألفاً، ونهبوا ما وصلوا إليه من بلادهم، وخربوها، وفعلوا بها ما هو عادتهم، فلما وصل المنهزمون إلى تفليس وبها ملكهم جمعوا جموعاً أخرى وسيرهم إلى التتر أيضاً ليمنعوهم من توسط بلادهم، فرأوا التتر وقد دخلوا البلاد لم يمنعهم جبل ولا مضيق ولا غير ذلك، فلما رأوا فعلهم عادوا إلى تفليس، فأخلوا البلاد، ففعل التتر فيها ما أرادوا من النهب، والقتل، والتخريب، ورأوا بلاداً كثيرة المضايق والدربندات، فلم يتجاسروا على الوغول فيها، فعادوا عنها.
وداخل الكرج منهم خوف عظيم، حتى سمعت عن بعض أكابر الكرج، قدم رسولاً، أنه قال: من حدثكم أن التتر انهزموا وأسروا فلا تصدقوه، وإذا حدثتم أنهم قتلوا فصدقوا، فإن القوم لا يفرون أبداً، ولقد أخذنا أسيراً منهم، فألقى نفسه من الدابة وضرب رأسه بالحجر إلى أن مات، ولم يسلم نفسه للأسر.
ذكر وصولهم إلى دربند شروان وما فعلوه فيه
لما عاد التتر من بلد الكرج قصدوا دربند شروان، فحصروا مدينة شماخي وقاتلوا أهلها، فصبروا على الحصر، ثم إن التتر صعدوا سورها بالسلاليم، وقيل بل جمعوا كثيراً من الجمال والبقر والغنم وغير ذلك، ومن قتلى الناس منهم ومن غيرهم، وألقوا بعضه فوق بعض، فصار مثل التل، وصعدوا عليه فأشرفوا على المدينة وقاتلوا أهلها، فصبروا، واشتد القتال ثلاثة أيام، فأشرفوا على أن يؤخذوا، فقالوا: السيف لا بد منه، فالصبر أولى بنا نموت كراماً.
فصبوا تلك الليلة، فأنتنت تلك الجيف وانهضمت، فلم يبق للتتر على السور استعلاء، ولا تسلط على الحرب، فعاودوا الزحف وملازمة القتال، فضجر أهلها، ومسهم التعب والكلال والإعياء، فضعفوا، فملك التتر البلد، وقتلوا فيه فأكثروا، ونهبوا الأموال فاحتازوها. (5/314)
فلما فرغوا منه أرادوا عبور الدربند، فلم يقدروا على ذلك، فأرسلوا رسولاً إلى شروان شاه ملك دربند شروان يقولون له ليرسل إليهم رسولاً يسعى بينهم في الصلح، فأرسل عشرة رجال من أعيان أصحابه، فأخذوا أحدهم فقتلوه، ثم قالوا للباقين: إن أنتم عرفتمونا طريقاً نعبر فيه فلكم الأمان، وإن لم تفعلوا قتلناكم كما قتلنا هذا. فقالوا لهم: إن هذا الدربند ليس فيه طريق البتة، ولكن فيه موضع هو أسهل ما فيه من الطرق؛ فساروا معهم إلى ذلك الطريق، فعبروا فيه، وخلفوه وراء ظهورهم.
ذكر ما فعلوه باللان وقفجاق لما عبر التتر دربند شروان ساروا في تلك الأعمال، وفيها أمم كثيرة منهم: اللان واللكز، وطوائف من الترك، فنهبوا، وقتلوا من اللكز كثيراً، وهم مسلمون وكفار، وأوقعوا بمن عداهم من أهل تلك البلاد، ووصلوا إلى اللان، وهم أمم كثيرة، وقد بلغهم خبرهم، فحذروا، وجمعوا عندهم جمعاً من قفجاق، فقاتلوهم، فلم تظفر أحدى الطائفتين بالأخرى، فأرسل التتر إلى قفجاق يقولون: نحن وأنتم جنس واحد، وهؤلاء اللان ليسوا منكم حتى تنصروهم، ولا دينكم مثل دينهم، ونحن نعاهدكم أننا لا نتعرض لكم، ونحمل إليكم من الأموال والثياب ما شئتم وتتركون بيننا وبينهم.
فاستقر الأمر بينهم على مال حملوه وثياب وغير ذلك، فحملوا إليهم ما استقر وفارقهم قفجاق فأوقع التتر باللان، فقتلوا منهم وأكثروا ونهبوا، وسبوا، وساروا إلى قفجاق وهم آمنون متفرقون لما استقر بينهم من الصلح، فلم يسمعوا بهم إلا وقد طرقوهم ودخلوا بلادهم فأوقعوا بهم الأول فالأول، وأخذوا منهم أضعاف ما حملوا إليهم، وسمع من كان بعيد الدار من قفجاق الخبر، ففروا من غير قتال، وأبعدوا، فبعضهم اعتصم بالغياض، وبعضهم بالجبال، وبعضهم لحق ببلاد الروس.
وأقام التتر في بلاد قفجاق، وهي أرض كثيرة المراعي في الشتاء والصيف، وفيها أماكن باردة في الصيف كثيرة المرعى، وأماكن حارة في الشتاء كثيرة المرعى، وهي غياض على ساحل البحر، ووصلوا إلى مدينة سوادق، وهي مدينة قفجاق التي منها مادتهم، فإنهم على بحر الخزر، والمراكب تصل إليها وفيها الثياب، فيشتري قفجاق منهم ويبيعون عليهم الجواري، والمماليك، والبرطاسي، والقندر، والسنجاب، وغير ذلك مما هو في بلادهم، وبحر الخزر هذا هو بحر متصل بخليج القسطنطينية.
ولما وصل التتر إلى سوادق ملكوها، وتفرق أهلها منها، فبعضهم صعد الجبال بأهله وماله، وبعضهم ركب البحر وسار إلى بلاد الروم التي بيد المسلمين من أولاد قلج أرسلان.
ذكر ما فعله التتر بقفجاق والروس لما استولى التتر على أرض قفجاق، وتفرق قفجاق، كما ذكرنا، سار طائفة كثيرة منهم إلى بلاد الروس، وهي بلاد كثيرة، طويلة عريضة، تجاورهم، وأهلها يدينون بالنصرانية، فلما وصلوا إليهم اجتمعوا كلهم، واتفقت كلمتهم على قتال التتر إن قصدوهم، وأقام التتر بأرض قفجاق مدة، ثم إنهم ساروا سنة عشرين وستمائة إلى بلاد الروس، فسمع الروس وقفجاق خبرهم، وكانوا مستعدين لقتالهم، فساروا إلى طريق التتر ليلقوهم قبل أن يصلوا إلى بلادهم ليمنعوهم عنها، فبلغ مسيرهم إلى التتر، فعادوا على أعقابهم راجعين، فطمع الروس وقفجاق فيهم، وظنوا أنهم عادوا خوفاً منهم وعجزاً عن قتالهم، فجدوا في اتباعهم، ولم يزل التتر راجعين، وأولئك يقفون أثرهم، اثني عشر يوماً.
ثم إن التتر عطفوا على الروس وقفجاق، فلم يشعروا بهم إلا وقد لقوهم على غرة منهم، لأنهم كانوا قد أمنوا التتر، واستشعروا القدرة عليهم، فلم تتكامل عدتم للقتال إلا وقد بلغ التتر منهم مبلغاً عظيماً، فصبر الطائفتان صبراً لم يسمع بمثله.
ودام القتال بينهم عدة أيام، ثم إن التتر ظفروا واستظهروا، فانهزم قفجاق والروس هزيمة عظيمة بعد أن أثخن فيهم التتر، وكثر القتل في المنهزمين فلم يسلم منهم إلا القليل، ونهب جميع ما معهم، ومن سلم وصل إلى البلاد على أقبح صورة لبعد الطريق والهزيمة، وتبعهم التتر يقتلون وينهبون ويخربون البلاد، حتى خلا أكثرها، فاجتمع كثير من أعيان تجار الروس وأغنيائهم وحملوا ما يعز عليهم، وساروا يقطعون البحر إلى بلاد الإسلام في عدة مراكب. (5/315)
فلما قاربوا المرسى الذي يريدونه انكسر مركب من مراكبهم، فغرق إلا أن الناس نجوا، وكانت العادة جارية أن السلطان له كل مركب ينكسر، فأخذ من ذلك شيئاً كثيراً، وسلم باقي المراكب، وأخبر من بها بهذه الحال.
ذكر عود التتر من بلاد الروس وقفجاق إلى ملكهم
لما فعل التتر بالروس ما ذكرناه، ونهبوا بلادهم، عادوا عنها وقصدوا بلغار أواخر سنة عشرين وستمائة، فلما سمع أهل بلغار بقربهم منهم كمنوا لهم في عدة مواضع، وخرجوا إليهم فلقوهم، واستجروهم إلى أن جاوزوا موضع الكمناء، فخرجوا عليهم من وراء ظهورهم، فبقوا في الوسط، وأخذهم السيف من كل ناحية، فقتل أكثرهم، ولم ينج منهم إلا القليل.
قيل: كانوا نحو أربعة آلاف رجل، فساروا إلى سقسين عائدين إلى ملكهم جنكزخان، وخلت أرض قفجاق منهم، فعاد من سلم منهم إلى بلادهم، وكان الطريق منقطعاً مذ دخلها التتر، فلم يصل منهم شيء من البرطاسي والسنجاب والقندر وغيرها مما يحمل من تلك البلاد، فلما فارقوها عادوا إلى بلادهم، واتصلت الطريق، وحملت الأمتعة كما كانت.
هذه أخبار التتر المغربة قد ذكرناها سياقة واحدة لئلا تنقطع.
ذكر ما فعله التتر بما وراء النهر بعد بخارى وسمرقند
قد ذكرنا ما فعله التتر المغربة التي سيرها ملكهم جنكزخان، لعنه الله، إلى خوارزم شاه؛ وأما جنكزخان فإنه بعد أن سير هذه الطائفة إلى خوارزم شاه وبلغه انهزام خوارزم شاه من خراسان، قسم أصحابه عدة أقسام، فسير قسماً منها إلى بلاد فرغانة ليملكوها؛ وسيسر قسماً آخر منها إلى ترمذ؛ وسير قسماً منها إلى كلانة، وهي قلعة حصينة على جانب جيحون، من أحصن القلاع وأمنع الحصون، فسارت كل طائفة إلى الجهة التي أمرت بقصدها، ونازلتها، واستولت عليها، وفعلت من القتل، والأسر، والسبي، والنهب، والتخريب، وأنواع الفساد، مثل ما فعل أصحابها.
فلما فرغوا من ذلك عادوا إلى ملكهم جنكزخان وهو بسمرقند، فجهز جيشاً عظيماً مع أحد أولاده وسيرهم إلى خوارزم، وسير جيشاً فعبروا جيحون إلى خراسان.
ذكر ملك التتر خراسان
لما سار الجيش المنفذ إلى خراسان عبروا جيحون، وقصدوا مدينة بلخ، فطلب أهلها الأمان، فأمنوهم، فسلم البلد سنة سبع عشرة وستمائة، ولم يتعرضوا له بنهب ولا قتل، بل جعلوا فيه شحنة وساروا وقصدوا الزوزان، وميمند، وأندخوي، وقاريات، فملكوا الجميع وجعلوا فيه ولاة، ولم يتعرضوا لأهلها بسوء ولا أذى، سوى أنهم كانوا يأخذون الرجال ليقاتلوا بهم من يمتنع عليهم، حتى وصلوا إلى الطالقان، وهي ولاية تشتمل على عدة بلاد، وفيها قلعة حصينة يقال لها منصوركوه، لا ترام علواً وارتفاعاً، وبها رجال يقاتلون، شجعان، فحصروها مدة ستة أشهر يقاتلون أهلها ليلاً ونهاراً ولا يظفرون منها بشيء.
فأرسلوا إلى جنكزخان يعرفونه عجزهم عن ملك هذه القلعة، لكثرة من فيها من المقاتلة، ولامتناعها بحصانتها، فسار بنفسه وبمن عنده من جموعه إليهم، وحصرها، ومعه خلق كثير من المسلمين أسرى، فأمرهم بمباشرة القتال وإلا قتلهم، فقاتلوا معه، وأقام عليها أربعة أشهر أخرى فقتل من التتر عليها خلق كثير، فلما رأى ملكهم ذلك أمر أن يجمع له من الحطب والأخشاب ما أمكن جمعه، ففعلوا ذلك، وصاروا يعملون صفاً من خشب، وفوقه صفاً من تراب، فلم يزالوا كذلك حتى صار تلاً عالياً يوازي القلعة، وصعد الرجالة فوقه ونصبوا عليه منجنيقاً فصار يرمي إلى وسط القلعة وحملوا على التتر حملة واحدة فسلم الخيالة منهم ونجوا، وسلكوا تلك الجبال والشعاب.
وأما الرجالة فقتلوا، ودخل التتر القلعة، وسبوا النساء والأطفال، ونهبوا الأموال والأمتعة.
ثم إن جنكزخان جمع أهل البلاد الذين أعطاهم الأمان ببلخ وغيرها، وسيرهم مع بعض أولاده إلى مدينة مرو، فوصلوا إليها وقد اجتمع بها من الأعراب والأتراك وغيرهم ممن نجا من المسلمين ما يزيد على مائتي ألف رجل، وهم معسكرون بظاهر مرو، وهم عازمون على لقاء التتر، ويحدثون نفوسهم بالغلبة لهم، والاستيلاء عليهم؛ فلما وصل التتر إليهم التقوا واقتتلوا، فصبر المسلمون؛ وأما التتر فلا يعرفون الهزيمة، حتى إن بعضهم أسر، فقال وهو عند المسلمين: إن قيل إن التتر يقتلون فصدقوا، وإن قيل إنهم انهزموا فلا تصدقوا. (5/316)
فلما رأى المسلمون صبر التتر وإقدامهم، ولو منهزمين، فقتل التتر منهم وأسروا الكثير، ولم يسلم إلا القليل، ونهبت أموالهم، وسلاحهم، ودوابهم، وأرسل التتر إلى ما حولهم من البلاد يجمعون الرجال لحصار مرو، فلما اجتمع لهم ما أرادوا تقدموا إلى مرو وحصروها، وجدوا في حصرها، ولازموا القتال.
وكان أهل البلد قد ضعفوا بانهزام ذلك العسكر، وكثرة القتل والأسر فيهم، فلما كان اليوم الخامس من نزولهم أسل التتر إلى الأمي الذي بها متقدماً على من فيها يقولون له: لا تهلك نفسك وأهل البلد، واخرج إلينا فنحن نجعلك أمير هذه البلدة ونرحل عنك؛ فأرسل يطلب الأمان لنفسه ولأهل البلد، فأمنهم، فخرج إليهم، فخلع عليه ابن جنكزخان، واحترمه، وقال له: أريد أن تعرض علي أصحابك حتى ننظر من يصلح لخدمتنا استخدمناه، وأعطيناه إقطاعاً، ويكون معنا.
فلما حضروا عنده، وتمكن منهم، قبض عليهم وعلى أميرهم، وكتفوهم؛ فلما فرغ منهم قال لهم: اكتبوا إلى تجار البلد ورؤسائه، وأرباب الأموال في جريدة، واكتبوا إلى أرباب الصناعات والحرف في نسخة أخرى، واعرضوا ذلك علينا؛ ففعلوا ما أمرهم، فلما وقف على النسخ أمر أن يخرج أهل البلد منه بأهليهم، فخرجوا كلهم، ولم يبق فيه أحد، فجلس على كرسي من ذهب وأمر أن يحضر أولئك الأجناد الذين قبض عليهم، فأحضروا، وضربت رقابهم صبراً والناس ينظرون إليهم ويبكون.
وأما العامة فإنهم قسموا الرجال والنساء والأطفال والأموال، فكان يوماً مشهوداً من كثرة الصراخ والبكاء والعويل، وأخذوا أرباب الأموال فضربوهم، وعذبوهم بأنواع العقوبات في طلب الأموال، فربما مات أحدهما من شدة الضرب، ولم يكن بقي له ما يفتدي به نفسه، ثم إنهم أحرقوا البلد، وأحرقوا تربة السلطان سنجر، ونبشوا القبر طلباً للمال، فبقوا كذلك ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الرابع أمر بقتل أهل البلد كافة، وقال: هؤلاء عصوا علينا، فقتلوهم أجمعين؛ وأمر بإحصاء القتلى، فكانوا نحو سبعمائة ألف قتيل، فإنا لله وإنا إليه راجعون مما جرى على المسلمين ذلك اليوم.
ثم ساروا إلى نيسابور فحصروها خمسة أيام، وبها جمع صالح من العسكر الإسلامي، فلم يكن لهم بالتتر قوة، فملكوا المدينة، وأخرجوا أهلها إلى الصحراء فقتلوهم، وسبوا حريمهم، وعاقبوا من اتهموه بالمال، كما فعلوا بمرو، وأقاموا خمسة عشر يوماً يخربون، ويفتشون المنازل عن الأموال.
وكانوا لما قتلوا أهل مرو قيل لهم إن قتلاهم سلم منهم كثير، ونجوا إلى بلاد الإسلام، فأمروا بأهل نيسابور أن تقطع رؤوسهم لئلا يسلم من القتل أحد، فلما فرغوا من ذلك سيروا طائفة منهم إلى طوس، ففعلوا بها كذلك أيضاً، وخربوها وخربوا المشهد الذي فيه علي بن موسى الرضى، والرشيد، حتى جعلوا الجميع خراباً.
ثم ساروا إلى هراة، وهي من أحصن البلاد، فحصروها عشرة أيام فملكوها وأمنوا أهلها، وقتلوا منهم البعض، وجعلوا عند من سلم منهم شحنة، وساروا إلى غزنة، فلقيهم جلال الدين بم خوارزم شاه فقاتلهم وهزمهم على ما نذكره إن شاء الله، فوثب أهل هراة على الشحنة فقتلوه، فلما عاد المنهزمون إليهم دخلوا البلد قهراً وعنوة، وقتلوا كل من فيه، ونهبوا الأموال وسوبا الحريم، ونهبوا السواد وخربوا المدينة جميعها وأحرقوها، وعادوا إلى ملكهم جنكزخان وهو بالطالقان يرسل السرايا إلى جميع بلاد خراسان، ففعلوا بها كذلك، ولم يسلم من شرهم وفسادهم شيء من البلاد، وكان جميع ما فعلوه بخراسان سنة سبع عشرة.
ذكر ملكهم خوارزم وتخريبها
وأما الطائفة من الجيش التي سيرها جنكزخان إلى خوارزم، فإنها كانت أكثر السرايا جميعها لعظم البلد، فساروا حتى وصلوا إلى خوارزم وفيها عسكر كبير، وأهل البلد معروفون بالشجاعة والكثرة، فقاتلوهم أشد قتال سمع به الناس، ودام الحصر لهم خمسة أشهر، فقتل من الفريقين خلق كثير، إلا أن القتلى من التتر كانوا أكثر لأن المسلمين كان يحميهم السور. (5/317)
فأرسل التتر إلى ملكهم جنكزخان يطلبون المدد، فأمدهم بخلق كثير، فلما وصلوا إلى البلد زحفوا زحفاً متتابعاً، فملكوا طرفاً منه، فاجتمع أهل البلد وقاتلوهم في طرف الموضع الذي ملكوا، فلم يقدروا على إخراجهم، ولم يزالوا يقاتلونهم، والتتر يملكون منهم محلة بعد محلة، وكلما ملكوا محلة قاتلهم المسلمون في المحلة التي تليهم، فكان الرجال والنساء والصبيان يقاتلون، فلم يزالوا كذلك حتى ملكوا البلد جميعه، وقتلوا كل من فيه، ونهبوا كل ما فيه؛ ثم إنهم فتحوا السكر الذي يمنع ماء جيحون عن البلد فدخله الماء، فغرق البلد جميعه، وتهدمت الأبنية، وبقي موضعه ماء، ولم يسلم من أهله أحد البتة، فإن غيره من البلاد قد كان يسلم بعض أهله، منهم من يختفي، ومنهم من يهرب، ومنهم من يخرج ثم يسلم، ومنهم من يلقي نفسه بين القتلى فينجو؛ وأما أهل خوارزم فمن اختفى من التتر غرقه الماء، أو قتله الهدم، فأصبحت خراباً يباباً:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
وهذا لم يسمع بمثله في قديم الزمان وحديثه، نعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الخذلان بعد النصر، فلقد عمت هذه المصيبة الإسلامية وأهله، فكم من قتيل من أهل خراسان وغيرها، لأن القاصدين من التجار وغيرهم كانوا كثيراً، مضى الجميع تحت السيف.
ولما فرغوا من خراسان وخوارزم عادوا إلى ملكهم بالطالقان.
ذكر ملك التتر غزنة وبلاد الغور
لما فرغ التتر من خراسان وعادوا إلى ملكهم جهز جيشاً كثيفاً وسيره إلى غزنة وبها جلال الدين بن خوارزم شاه مالكاً لها، وقد اجتمع إليه من سمل من عسكر أبيه، قيل: كانوا ستين ألفاً، فلما وصلوا إلى أعمال غزنة خرج إليهم المسلمون مع ابن خوارزم شاه إلى موضع يقال له بلق، فالتقوا هناك واقتتلوا قتالاً شديداً، وبقوا كذلك ثلاثة أيام، ثم أنزل الله نصره على المسلمين، فانهزم التتر وقتلهم المسلمون كيف شاؤوا، ومن سلم منهم عاد إلى ملكهم بالطالقان، فلما سمع أهل هراة بذلك ثاروا بالوالي الذي عندهم للتتر فقتلوه، فسير إليهم جنكزخان عسكراً فملكوا البلد وخربوه كما ذكرناه.
فما انهزم التتر أرسل جلال الدين رسولاً إلى جنكزخان يقول له: في أي موضع تريد أن يكون الحرب حتى نأتي أليه؟ فجهز جنكزخان عسكراً كثيراً، أكثر من الأول مع بعض أولاده، وسيره إليه، فوصل إلى كابل، فتوجه العسكر الإسلامي إليهم، وتصافوا هناك، وجرى بنيهم قتال عظيم، فانهزم الكفار ثانياً، فقتل كثير منهم، وغنم المسلمون ما معهم، وكان عظيماً؛ وكان معهم من أسارى المسلمين خلق كثير، فاستنقذوهم وخلصوهم.
ثم إن المسلمين جرى بينهم فتنة لأجل الغنيمة، وسبب ذلك أن أميراً منهم يقال له سيف الدين بغراق، أصله من الأتراك الخلج، كان شجاعاً مقداماً، ذا رأي في الحرب ومكيدة، واصطلى الحرب مع التتر بنفسه، وقال العسكر جلال الدين: تأخروا أنتم فقد ملثم منهم رعباً؛ وكان معهم من أسارى المسلمين خلق كثير، فاستنقذوهم وخلصوهم.
وكان من المسلمين أيضاً أمير كبير يقال له ملك خان، بينه وبين خوارزم شاه نسب، وهو صاحب هراة، فاختلف هذان الأميران في الغنيمة، فاقتتلوا، فقتل بينهم أخ لبغراق. فقال بغراق: أنا أهزم الكفار ويقتل أخي لأجل هذا السحت! فغضب وفارق العسكر وسار إلى الهند، فتبعه من العسكر ثلاثون ألفاً كلهم يريدونه، فاستعطفه جلال الدين بكل طريق، وسار بنفسه إليه، وذكره الجهاد، وخوفه من الله تعالى، وبكى بين يديه، فلم يرجع، وسار مفارقاً، فانكسر لذلك المسلمون وضعفوا.
فبينما هم كذلك إذ ورد الخبر أن جنكزخان قد وصل في جموعه وجيوشه، فلما رأى جلال الدين ضعف المسلمين لأجل من فارقهم من العسكر، ولم يقدر على المقام، سار نحو بلاد الهند، فوصل إلى ماء السند، وهو نهر كبير، فلم يجد من السفن ما يعبر فيه. (5/318)
وكان جنكزخان يقص أثره مسرعاً، فلم يتمكن جلال الدين من العبور، حتى أدركه جنكزخان في التتر، فاضطر المسلمون حينئذ إلى القتال والصبر لتعذر العبور عليهم، وكانوا في ذلك كالأشقر إن تأخر يقتل وإن تقدم يعقر، فتصافوا واقتتلوا أشد قتال، اعترفوا كلهم أن كل ما مضى من الحروب كان لعباً بالنسبة إلى هذا القتال، فبقوا كذلك ثلاثة أيام، فقتل الأمير ملك خان المقدم ذكره وخلق كثير، وكان القتل في الكفار أكثر، و الجراح أعظم، فرجع الكفار عنهم، فأبعدوا، ونزلوا على بعد، فلما رأى المسلمون أنهم لا مدد لهم، وقد ازدادوا ضعفاً بمن قتل منهم وجرح، ولم يعلموا بما أصاب الكفار من ذلك، أرسلوا يطلبون السفن، فوصلت، وعبر المسلمون ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
فلما كان الغد عاد الكفار إلى غزنة، وقد قويت نفسوهم بعبور المسلمين الماء إلى جهة الهند وبعدهم، فلما وصلوا إليها ملكوها لوقتها لخلوها من العسكر والمحامي، فقتلوا أهلها، ونهبوا الأموال، وسبوا الحريم، ولم يبق أحد، وخربوها وأحرقوها، وفعلوا بسوادها كذلك، ونهبوا وقتلوا وأحرقوا، فأصبحت تلك الأعمال جميعها خالية من الأنيس، خاوية على عروشها كأن لم تغن بالأمس.
ذكر تسليم الأشرف خلاط إلى أخيه شهاب الدين غازي
أواخر هذه السنة أقطع الملك الأشرف موسى بن العادل مدينة خلاط وجميع الأعمال: أرمينية، ومدينة ميافارقين من ديار بكر، ومدينة حاني، أخاه شهاب الدين غازي بن العادل، وأخذ منه مدينة الرها، ومدينة سروج من بلاد الجزيرة، وسيره إلى خلاط أول سنة ثماني عشرة وستمائة.
وسب ذلك أن الكرج لما قصد التتر بلادهم وهزموهم، ونهبوها، وقتلوا كثيراً من أهلها، أرسلوا إلى أوزبك، صاحب أذربيجان وأران، يطلبون منه المهادنة والموافقة على دفع التتر، وأرسلوا إلى الملك الأشرف في هذا المعنى، وقالوا للجميع: إن لم توافقونا على قتال هؤلاء القوم ودفعهم عن بلادنا، وتحضروا بنفوسكم وعساكركم لهذا المهم، وإلا صالحناهم عليكم.
فوصلت رسلهم إلى الأشرف وهو يتجهز إلى الديار المصرية لأجل الفرنج، وكانوا عنده أهم الوجوه، لأسباب: أولها أن الفرنج كانوا قد ملكوا دمياط، وقد أشرفت الديار المصرية على أن تملك، فلو ملكوها لم يبق بالشام ولا غيره معهم ملك لأحد.
وثانيها أن الفرنج أشد شكيمة، وطالبوا ملك، فإذا ملكوا قرية لا يفارقونها إلا بعد أن يعجزوا عن حفظها يوماً واحداً.
وثالثها أن الفرنج قد طمعوا في كرسي مملكة البيت العادلي، وهي مصر، والتتر لم يصلوا إليها، ولم يجاوزوا شيئاً من بلادهم، وليسوا أيضاً ممن يريد المنازعة في الملك، وما غرضهم إلا النهب، والقتل، وتخريب البلاد، والانتقال من بلد إلى آخر.
فلما أتاه رسل الكرج بما ذكرناه، أجابهم يعتذر بالمسير إلى مصر لدفع الفرنج، ويقول لهم: إنني قد أقطعت ولاية خلاط لأخي، وسيرته إليها ليكون بالقرب منكم، وتركت عنده العساكر، فمتى احتجتم إلى نصرته حضر لدفع التتر؛ وسار هو إلى مصر كما ذكرناه.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة، في ربيع الآخر، ملك بدر الدين قلعة تل أعفر.
وفيها، في جمادى الأولى، ملك الأشرف مدينة سنجار.
وفيها أيضاً وصل الموصل، وأقام بظاهرها، ثم سار يريد إربل لقصد صاحبها، فترددت الرسل بينهم في الصلح، فاصطلحوا في شعبان، وقد تقدم هذا جميعه مفصلاً سنة خمس عشرة وستمائة.
وفيها وصل التتر الري فملكوها وقتلوا كل من فيها، ونهبوها، وساروا عنها، فوصلوا إلى همذان، فلقيهم رئيسها بالطاعة والحمل، فأبقوا على أهلها وساروا إلى أذربيجان، فخربوا، وحرقوا البلاد، وقتلوا، وسبوا، وعملوا ما لم يسمع بمثله، وقد تقدم أيضاً مفصلاً.
وفيها توفي نصير الدين ناصر بن مهدي العلوي الذي كان وزير الخليفة، وصلي عليه بجامع القصر، وحضره أرباب الدولة ودفن بالمشهد.
وفيها توفي صدر الدين أبو الحسن محمد بن حموية الجويني، شيخ الشيوخ بمصر والشام، وكان موته بالموصل وردها رسولاً، وكان فقيهاً فاضلاً، وصوفياً صالحاً، من بيت كبير من خراسان، رحمه الله، كان نعم الرجل. (5/319)
وفيها عاد جمع بني معروف إلى مواضعهم من البطيحة، وكانوا قد ساروا إلى الأجنا والقطيف، فلم يمكنهم المقام لكثرة أعدائهم، فقصدوا شحنة البصرة، وطلبوا منه أن يكاتب الديوان ببغداد بالرضى عنهم، فكتب معهم بذلك وسيرهم مع أصحابه إلى بغداد، فلما قاربوا واسط لقيهم قاصد من الديوان بقتلهم، فقتلوا.

This site was last updated 07/28/11