Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم عزت اندراوس

سنة سبع وثمانين وخمسمائة

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
بقية سنة575 وسنة576
سنة577 وسنة578
سنة579
سنة580 وسنة581
سنة582 وسنة583
سنة584
سنة585
سنة586
سنة587
سنة588
سنة589
سنة590 وسنة591
سنة592 وسنة593
سنة594
سنة595
سنة596 وسنة597
سنة598 وسنة599
سنة600
سنة601 وسنة602
سنة603
سنة604
سنة605 وسنة606
سنة607 وسنة608 وسنة609
سنة610 وسنة611 وسنة612
سنة613 وسنة614
سنة615
سنة616 وسنة617
سنة618 وسنة619
سنة620 وسنة621
سنة621

 

الجزء التالى من كتاب: الكامل في التاريخ المؤلف: أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير (المتوفى: 630هـ) تحقيق: عمر عبد السلام تدمري الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1417هـ / 1997م عدد الأجزاء:  10

**************************************************************************************************************************

ثم دخلت سنة سبع وثمانين وخمسمائة
ذكر حصر عز الدين صاحب الموصل الجزيرة

في هذه السنة، في ربيع الأول، سار أتابك عز الدين مسعود بن مودود ابن زنكي صاحب الموصل إلى جزيرة ابن عمر، فحصرها، وكان بها صاحبها سنجر شاه بن سيف الدين غازي بن مودود، وهو ابن أخي عز الدين.
وكان سبب حصره أن سنجر شاه كان كثير الأذى لعمه عز الدين، والشناعة عليه، والمراسلة إلى صلاح الدين في حقه، تارة يقول إنه يريد قصد بلادك، وتارة يقول إنه يكاتب أعداءك ويحثهم على قصدك، إلى غير ذلك من الأمور المؤذية، وعز الدين يصبر منه على ما يكره لأمور تارة للرحم، وتارة خوفاً من تسليمها إلى صلاح الدين؛ فلما كان في السنة الماضية سار صاحبها إلى صلاح الدين، وهو على عكا، في جملة من سار من أصحابه الأطراف، وأقام عنده قليلاً، وطلب دستوراً للعود إلى بلده، فقال له صلاح الدين: عندنا من أصحاب الأطراف جماع منهم عماد الدين، صاحب سنجار وغيرها، وهو أكبر منك، ومنهم ابن عمك عز الدين، وهو أصغر منك، وغيرهم، ومتى فتحت هذا الباب اقتدى بك غيرك؛ فلم يلتفت إلى قوله، وأصر على ذلك. وكان عند صلاح الدين جماعة من أهل الجزيرة يستغيثون على سنجر شاه لأنه ظلمهم، وأخذ أموالهم وأملاكهم، فكان يخافه لهذا.
ولم يزل في طلب الإذن في العود إلى ليلة الفطر من سنة ست وثمانين، فركب تلك الليلة في السحر وجاء إلى خيمة صلاح الدين أرسل يطلب الإذن عليه، وكان صلاح الدين قد بات محموماً، وقد عرق، فلم يمكن أن يأذن له، فبقي كذلك متردداً على باب خيمته إلى أن أذن له، فلما دخل عليه هنأه بالعيد، وأكب عليه يودعه، فقال له: ما علمنا بصحة عزمك على الحركة، فتصبر علينا حتى نرسل ما جرت به العادة، فما يجوز أن تنصرف عنا، بعد مقامك عندنا، على هذا الوجه. فلم يرجع وودعه وانصرف.
وكان تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين قد أقبل من بلده حماة في عسكره، فكتب إليه صلاح الدين يأمره بإعادة سنجر شاه طوعاً أو كرهاً؛ فحكى له عن تقي الدين أنه قال: ما رأيت مثل سنجر شاه، لقيته بعقبة فيق، فسألته عن سبب انصرافه، فغالطني، فقلت له: سمعت بالحال، ولا يليق أن تنصرف بغير تشريف السلطان وهديته، فيضع تعبك؛ وسألته العود فلم يصغ إلى قولي، فكلمني كأنني بعض مماليكه، فلما رأيت ذلك منه قلت له: إن رجعت بالتي هي أحسن، وإلا أعدتك كارهاً؛ فنزل عن دابته وأخذ ذيلي وقال: قد استجرت بك؛ وجعل يبكي، فعجبت من حماقته أولاً، وذلته ثانياً، فعاد معي.
فلما عاد بقي عند صلاح الدين عدة أيام، وكتب صلاح الدين إلى عز الدين أتابك يأمره بقصد الجزيرة، ومحاصرتها، وأخذها، وأنه يرسل إلى طريق سنجر شاه ليقبض عليه إذا عاد؛ فخاف عز الدين أن صلاح الدين قد فعل ذلك مكيدة ليشنع عليه بنكث العهد، فلم يفعل شيئاً من ذلك بل أرسل إليه يقول: أريد خطك بذلك ومنشوراً منك بالجزيرة؛ فترددت الرسل في ذلك إلى أن انقضت سنة ست وثمانين، ودخلت هذه السنة فاستقرت القاعدة بينهما، فسار عز الدين إلى الجزيرة، فحصرها أربعة أشهر وأياماً آخرها شعبان، ولم يملكها بل استقرت القاعدة بينه وبين سنجر شاه على يد رسول صلاح الدين، فإنه كان قد أرسله بعد قصدها يقول: إن صاحب سنجار، وصاحب إربل وغيرهما قد شفعا في سنجر شاه، فاستقر الصلح على أن لعز الدين نصف أعمال الجزيرة، ولسنجر شاه نصفها، وتكون الجزيرة بيد سنجر شاه من جملة النصف. (5/202)
وعاد عز الدين في شعبان إلى الموصل، وكان صلاح الدين بعد ذلك يقول: ما قيل لي عن أحد شيء من الشر فرأيته إلا كان دون ما يقال فيه، إلا سنجر شاه، فإنه كان يقال لي عنه شيئاً استعظمتها، فلما رأيته صغر في عيني ما قيل فيه.
ذكر عبور تقي الدين الفرات
وملكه حران وغيرها من البلاد الجزرية ومسيره إلى خلاط ومؤتة
في هذه السنة، في صفر، سار تقي الدين من الشام إلى البلاد الجزرية: حران والرها، كان قد أقطعه إياها عمه صلاح الدين، بعد أخذها من مظفر الدين، مضافاً إلى ما كان له بالشام، وقرر معه أنه يقطع البلاد للجند، ويعود وهم معه إليه ليتقوى بهم على الفرنج؛ فلما عبر الفرات، وأصلح حال البلاد، سار إلى ميافارقين، وكانت له، فلما بلغها تجدد له طمع في غيرها من البلاد المجاورة لها، فقصد مدينة حاني من ديار بكر، فحصرها وملكها، وكان في سبع مائة فارس؛ فلما سمع سيف الدين بكتمر، صاحب خلاط، بملكه حاني جمع عساكره وسار إليه، فاجتمعت عساكره أربعة آلاف فارس، فلما التقوا اقتتلوا فلم يثبت عسكر خلاط لتقي الدين، بل انهزموا، وتبعهم تقي الدين، ودخل بلادهم.
وكان بكتمر قد قبض على مجد الدين بن رشيق، وزير صاحبه شاه أرمن، وسجنه في قلعة هناك، فلما انهزم كتب إلى مستحفظ القلعة يأمره بقتل ابن رشيق، فوصل القاصد وتقي الدين قد نازل القلعة، فأخذ الكتاب، وملك القلعة، وأطلق ابن رشيق، وسار إلى خلاط فحصرها، ولم يكن في كثرة من العسكر فليم يبلغ منها غرضاً، فعاد عنها، وقصد ملازكرد وحصرها، وضيق على من بها، وطال مقامه عليها؛ فلما ضاق عيهم الأمر طلبوا منه المهلة أياماً ذكروها، فأجابهم إليها.
ومرض تقي الدين، فمات قبل انقضاء الأجل بيومين، وتفرقت العساكر عنها، وحمله ابنه وأصحابه ميتاً إلى ميافارقين، وعاد بكتمر فقوي أمره، وثبت ملكه بعد أن أشرف على الزوال، وهذه الحادثة من الفرج بعد الشدة، فإن ابن رشيق نجا من القتل وبكتمر نجا من أن يؤخذ.
ذكر وصول الفرنج من الغرب في البحر إلى عكا
وفي هذه السنة وصلت أمداد الفرنج في البحر إلى الفرنج الذين على عكا، وكان أول من وصل منهم الملك فليب، ملك إفرنسيس، وهو من أشرف ملوكهم نسباً، وإن كان ملكه ليس بالكثير، وان وصوله إليها ثاني عشر ربيع الأول، ولم يكن في الكثرة التي ظنوها وإنما كان معه ست بطس كبار عظام فقويت به نفوس من على عكا منهم، ولجوا في قتال المسلمين الذين فيها.
وكان صلاح الدين على شفرعم، فكان يركب كل يوم ويقصد الفرنج ليشغلهم بالقتال عن مزاحفة البلد، وأرسل إلى الأمير أسامة، مستحفظ بيروت، يأمره بتجهيز ما عنده من الشواني والمراكب وتشحينها بالمقاتلة، وتسييرها في البحر ليمنع الفرنج من الخروج إلى عكا، ففعل ذلك، وسير الشواني في البحر، فصادفت خمسة مراكب مملوءة رجالاً من أصحاب ملك انكلتار الفرنج، كان قد سيرهم بين يديه، وتأخر هو بجزيرة قبرس ليملكها، فأقبلت شواني المسلمين مع مراكب الفرنج، فاستظهر المسلمون عليهم، وأخذوهم، وغنموا ما معهم من قوت ومتاع ومال وأسروا الرجال.
وكتب أيضاً صلاح الدين إلى من بالقرب من النواب له يأمرهم بمثل ذلك ففعلوا.
وأما الفرنج الذين على عكا، فإنهم لازموا قتال من بها، ونصبوا عليها سبعة مجانيق رابع جمادى الأولى، فلما رأى صلاح الدين ذلك تحول من شفرعم، ونزل عليهم لئلا يتعب العسكر كل يوم في المجيء إليهم والعود عنهم، فقرب منهم. وكانوا كلما تحركوا للقتال ركب وقاتلهم من وراء خندقهم، فكانوا يشتغلون بقتالهم، فيخف القتال عمن بالبلد.
ثم وصل ملك انكلتار ثالث عشر جمادى الأولى. وكان قد استولى في طريقه على جزيرة قبرس، وأخذها من الروم؛ فإنه لما وصل إليها غدر بصاحبها وملكها جميعاً، فكان ذلك زيادة في ملكه وقوة للفرنج؛ فلما فرغ منها سار عنها إلى من على عكا من الفرنج، فوصل إليهم في خمس وعشرين قطعة كباراً مملوءة رجالاً وأموالاً، فعظم به شر الفرنج، واشتدت نكايتهم في المسلمين. وكان رجل زمانه شجاعة ومكراً وجلداً وصبراً، وبلي المسلمون منه بالداهية التي لا مثل لها. (5/203)
ولما وردت الأخبار بوصوله أمر صلاح الدين بتجهيز بطسة كبيرة مملوءة من الرجال والعدة والقوت، فجهزت وسيرت من بيروت، وفيها سبع مائة مقاتل، فلقيها ملك إنكلتار مصادفة، فقاتلها، وصبر من فيها على قتالها، فلما أيسوا من الخلاص نزل مقدم من بها إلى أسفلها، وهو يعقوب الحلبي مقدم الجندارية، يعرف بغلام ابن شقين، فخرقها خرقاً واسعاً لئلا يظفر الفرنج بمن فيها وما معهم من الذخائر، فغرق جميع ما فيها.
وكانت عكا محتاجة إلى رجال لما ذكرناه من سبب نقصهم، ثم إن الفرنج عملوا دبابات زحفوا بها فأحرق المسلمون بعضها وأخذوا بعضها، ثم عملوا كباشاً وزحفوا بها، فخرج المسلمون وقاتلوهم بظاهر البلد، وأخذوا تلك الكباش، فلما رأى الفرنج أن ذلك جميعه لا ينفعهم عملوا تلاً كبيراً من التراب مستطيلاً، وما زالوا يقربونه إلى البلد ويقاتلون من ورائه لا ينالهم من البلد أذى، حتى صار على نصف علوه، فكانوا يستظلون به، ويقاتلون من خلفه، فلم يكن للمسلمين فيه حيلة لا بالنار ولا بغيرها، فحينئذ عظمت المصيبة على من بعكا من المسلمين، فأرسلوا إلى صلاح الدين يعرفونه حالهم، فلم يقدر لهم على نفع.
ذكر ملك الفرنج عكا
في يوم الجمعة، سابع عشر جمادى الآخرة، استولى الفرنج، لعنهم الله، على مدينة عكا، وكان أول وهن دخل على من بالبلد أن الأمير سيف الدين علي بن أحمد الهكاري، المعروف بالمشطوب، كان فيها، ومعه عدة من الأمراء كان هو أمثلهم وأكبرهم، خرج إلى ملك إفرنسيس وبذل له تسليم البلد بما فيه على أن يطلق المسلمين الذين فيه، ويمكنهم من اللحاق بسلطانهم، فلم يجبه إلى ذلك، فعاد علي بن أحمد إلى البلد، فوهن من فيه، وضعفت نفوسهم، وتخاذلوا، وأهمتهم أنفسهم.
ثم إن أميرين ممن كان بعكا، لما رأوا ما فعلوا بالمشطوب، وأن الفرنج لم يجيبوا إلى الأمان، اتخذوا الليل جملاً، وركبوا في شيني صغير، وخرجوا سراً من أصحابهم، ولحقوا بعسكر المسلمين، وهم عز الدين أرسل الأسدي، وابن عز الدين جاولي، ومعهم غيرهم، فلما أصبح الناس ورأوا ذلك ازدادوا وهناً إلى وهنهم، وضعفاً إلى ضعفهم، وأيقنوا بالعطب.
ثم إن الفرنج أرسلوا إلى صلاح الدين في معنى تسليم البلد، فأجابهم إلى ذلك، والشرط بينهم أن يطلق من أسراهم بعدد من في البلد ليطلقوا هم من بعكا، وأن يسلم إليهم صليب الصلبوت، فلم يقنعوا بما بذل، فأرسل إلى من بعكا من المسلمين يأمرهم أن يخرجوا من عكا يداً واحدة ويسيروا مع البحر ويحملوا على العدو حملة واحدة، ويتركوا البلد بما فيه، ووعدهم أنه يتقدم إلى تلك الجهة التي يخرجون منها بعساكره، يقاتل الفرنج فيها ليلحقوا به، فشرعوا في ذلك، واشتغل كل منهم باستصحاب ما يملكه، فما فرغوا من أشغالهم حتى أسفر الصبح، فبطل ما عزموا عليه لظهوره.
فلما أصبحوا عجز الناس عن حفظ البلد، وزحف إليهم الفرنج بحدهم وحديدهم، فظهر من بالبلد على سوره يحركون أعلامهم ليراها المسلمون، وكانت هي العلامة إذا حزبهم أمر، فلما رأى المسلمون ذلك ضجوا بالبكاء والعويل، وحملوا على الفرنج من جميع جهاتهم ظناً منهم أن الفرنج يشتغلون عن الذين بعكا، وصلا الدين يحرضهم، وهو في أولهم.
وكان الفرنج قد زحفوا من خنادقهم ومالوا إلى جهة البلد، فقرب المسلمون من خنادقهم، حتى كادوا يدخلونها عليهم ويضعون السيف فيهم، فوقع الصوت فعاد الفرنج ومنعوا المسلمين، وتركوا في مقابلة من بالبلد من يقاتلهم.
فلما رأى المشطوب أن صلاح الدين لا يقدر على نفع، ولا يدفع عنهم ضراً، خرج إلى الفرنج، وقرر معهم تسليم البلد، وخروج من فيه بأموالهم وأنفسهم، وبذلك لهم عن ذلك مائتي ألف دينار وخمسمائة أسير من المعروفين، وإعادة صليب الصلبوت، وأربعة عشر ألف دينار للمركيس صاحب صور، فأجابوه إلى ذلك، وحلفوا له عليه، وأن تكون مدة تحصيل المال والأسرى إلى شهرين.
فلما حلفوا له سلم البلد إليهم، ودخلوه سلماً، فلما ملكوه غدروا واحتاطوا على من فيه من المسلمين وعلى أموالهم، وحبسوهم، وأظهروا أنهم يفعلون ذلك ليصل إليهم ما بذل لهم، وراسلوا صلاح الدين في إرسال المال والأسرى والصليب، حتى يطلقوا من عندهم، فشرع في جمع المال، وكان هو لا مال له، إنما يخرج ما يصل إليه من دخل البلاد أولاً بأول. (5/204)
فلما اجتمع عنده من المال مائة ألف دينار جمع الأمراء واستشارهم، فأشاروا بأن لا يرسل شيئاً حتى يعود فيستحلفهم على إطلاق أصحابه، وأن يضمن الداوية ذلك، لأنهم أهل تدين يرون الوفاء. فراسلهم صلاح الدين في ذلك، فقال الداوية: لا نحلف ولا نضمن لأننا نخاف غدر من عندنا؛ وقال ملوكهم: إذا سلمتم إلينا المال والأسرى والصليب فلنا الخيار فيمن عندنا؛ فحينئذ علم صلا الدين عزمهم على الغدر، فلم يرسل إليهم شيئاً، وأعاد الرسالة إليهم، وقال: نحن نسلم إليكم هذا المال والأسرى والصليب، ونعطيكم رهناً على الباقي، وتطلقون أصحابنا، وتضمن الداوية الرهن، ويحلفون على الوفاء لهم؛ فقالوا: لا نحلف، إنما ترسل إلينا المائة ألف دينار التي حصلت، والأسرى، والصليب، ونحن نطلق من أصحابكم من نريد ونترك من نريد حتى يجيء باقي المال؛ فعلم الناس حينئذ غدرهم، وإنما يطلقون غلمان العسكر والفقراء والأكراد ومن لا يؤبه له، ويمسكون عندهم الأمراء وأرباب الأموال، يطلبون منهم الفداء، فلم يجبهم السلطان إلى ذلك.
فلما كان يوم الثلاثاء السابع والعشرين من رجب، ركب الفرنج، وخرجوا إلى ظاهر البلد بالفارس والراجل، وركب المسلمون إليهم وقصدوهم، وحملوا عليهم، فانكشفوا عن موقفهم، وإذا أكثر من كان عندهم من المسلمين قتلى قد وضعوا فيهم السيف وقتلوهم واستبقوا الأمراء والمقدمين ومن كان له مال، وقتلوا من سواهم من سوادهم وأصحابهم ومن لا مال له، فلما رأى صلاح الدين ذلك تصرف في المال الذي كان جمعه، ورد الأسرى والصليب إلى دمشق.
ذكر رحيل الفرنج إلى ناحية عسقلان
لما فرغ الفرنج، لعنهم الله، من إصلاح أمر عكا، برزوا منها في الثامن والعشرين من رجب، وساروا مستهل شعبان نحو حيفا مع شاطئ البحر لا يفارقونه؛ فلما سمع صلاح الدين برحيلهم نادى في عسكره بالرحيل فساروا.
وكان على اليزك، ذلك اليوم، الملك الأفضل ولد صلاح الدين، ومعه سيف الدين إيازكوش وعز الدين جورديك، وعدة من شجعان الأمراء، فضايقوا الفرنج في مسيرهم، وأرسلوا عليهم من السهام ما كاد يحجب الشمس، ووقعوا على ساقة الفرنج، فقتلوا منها جماعة، وأسروا جماعة.
وأرسل الأفضل إلى والده يستمده ويعرفه الحال، فأمر العساكر بالمسير إليه، فاعتذروا بأنهم ما ركبوا بأهبة الحرب، وإنما كانوا على عزم المسير لا غير، فبطل المدد وعاد ملك الإنكلتار إلى ساقة الفرنج، فحماها، وجمهم، وساروا حتى أتوا حيفا، فنزلوا بها، ونزل المسلمون بقيمون، قرية بالقرب منهم، وأحضر الفرنج من عكا عوض من قتل منهم وأسر ذلك اليوم، وعوض ما هلك من الخيل، ثم ساروا إلى قيسارية، والمسلمون يسايرونهم ويتخطفون منهم من قدروا عليه فيقتلونه، لأن صلاح الدين كان قد أقسم أنه لا يظفر بأحد منهم إلا قتله بمن قتلوا ممن بعكا.
فلما قاربوا قيسارية لاصقهم المسلمون، وقاتلوهم أشد قتال، فنالوا منهم نيلاً كثيراً، ونزل الفرنج بها، وبات المسلمون قريباً منهم، فلما نزلوا خرج من الفرنج جماعة فأبعدوا عن جماعتهم، فأوقع بهم المسلمون الذين كانوا في اليزك، فقتلوا منهم وأسروا، ثم ساروا من قيسارية إلى أرسوف، وكان المسلمون قد سبقوهم إليها، ولم يمكنهم مسايرتهم لضيق الطريق، فلما وصل الفرنج إليهم حمل المسلمون علهم حملة منكرة وألحقوهم بالبحر، ودخله بعضهم فقتل منهم كثير.
فلما رأى الفرنج ذلك اجتمعوا، وحملت الخيالة على المسلمين حملة رجل واحد، فولوا منهزمين لا يلوي أحد على أحد. وكان كثير من الخيالة والسوقة قد ألفوا القيام وقت الحرب قريباً من المعركة، فلما كان ذلك اليوم كانوا على حالهم، فلما انهزم المسلمون عنهم قتل خلق كثير، والتجأ المنهزمون إلى القلب، وفيه صلاح الدين، فلو علم الفرنج أنها هزيمة لتبعوهم واستمرت الهزيمة وهلك المسلمون، لكن كان بالقرب من المسلمين شعرة كثيرة الشجر، فدخلوها وظنها الفرنج مكيدة، فعادوا، وزال عنهم ما كانوا فيه من الضيق، وقتل من الفرنج كند كبير من طواغيتهم، وقتل من المسلمين مملوك لصلاح الدين اسمه أياز الطويل، وهو من الموصوفين بالشجاعة والشهامة لم يكن في زمانه مثله.
فلما نزل الفرنج نزل المسلمون وأعنة خيلهم بأيديهم، ثم سار الفرنج إلى يافا فنزلوها، ولم يكن بها أحد من المسلمين، فملكوها. (5/205)
ولما كان من المسلمين بأرسوف من الهزيمة ما ذكرناه، سار صلاح الدين عنهم إلى الرملة، واجتمع بأثقاله بها، وجمع الأمراء واستشارهم فيما يفعل، فأشاروا عليه بتخريب عسقلان، وقالوا له: قد رأيت ما كان منا بالأمس، وإذا جاء الفرنج إلى عسقلان ووقفنا في وجوههم نصدهم عنها فهم لا شك يقاتلوننا لننزاح عنها فينزلوا عليها، فإذا كان ذلك عدنا إلى مثل ما كنا عليه على عكا، ويعظم الأمر علينا، لأن العدو قد قوي بأخذ عكا وما فيها من الأسلحة وغيرها، وضعفنا نحن بما خرج عن أيدينا، ولم تطل المدة حتى نستجد غيرها.
فلم تسمح نفسه بتخريبها، وندب الناس إلى دخولها وحفظها، فلم يجبه أحد إلى ذلك وقالوا: إن أردت حفظها فادخل أنت معنا، أو بعض أولادك الكبار، وإلا فما يدخلها منا أحد لئلا يصيبنا ما أصاب أهل عكا، فلما رأى الأمر كذلك سار إلى عسقلان، وأمر بتخريبها، فخربت تاسع عشر شعبان، وألقيت حجارتها في البحر، وهلك فيها من الأموال والذخائر التي للسلطان والرعية ما لا يمكن حصره، وعفى أثرها حتى لا يبقى للفرنج في قصدها مطمع.
ولما سمع الفرنج بتخريبها أقاموا مكانهم ولم يسيروا إليها، وكان المركيس، لعنه الله، لما أخذ الفرنج عكا قد أحس من ملك إنكلتار بالغدر به، فهرب من عنده إلى مدينة صور، وهي له وبيده، وكان رجل الفرنج رأياً شجاعة، وكل هذه الحروب هو أثارها، فلما خربت عسقلان أرسل إلى ملك إنكلتار يقول له: مثلك لا ينبغي أن يكون ملكاً ويتقدم على الجيوش، تسمع أن صلاح الدين قد خرب عسقلان وتقيم مكانك؟ يا جاهل، لما بلغك أنه قد شرع في تخريبها كنت سرت إليه مجداً فرحلته وملكتها صفواً بغير قتال ولا حصار، فإنه ما خربها إلا وهو عاجز عن حفظها. وحق المسيح لو أنني معك كانت عسقلان اليوم بأيدينا لم يخرب منها غير برج واحد.
فلما خربت عسقلان رحل صلاح الدين عنها ثاني شهر رمضان، ومضى إلى الرملة فخربت حصنها وخب كنيسة لد، وفي مدة مقامه لتخريب عسقلان كانت العساكر مع الملك العادل أبي بكر بن أيوب نجاه الفرنج، ثم سار صلا الدين إلى القدس بعد تخريب الرملة، فاعتبره وما فيه من سلاح وذخائر، وقرر قواعده وأسبابه، وما يحتاج إليه، وعاد إلى المخيم ثامن رمضان.
وفي هذه الأيام خرج ملك إنكلتار من يافا، ومعه نفر من الفرنج من معسكرهم، فوقع به نفر من المسلمين، فقاتلوهم قتالاً شديداً، وكاد ملك إنكلتار يؤسر، ففداه بعض أصحابه بنفسه، فتخلص الملك وأسر ذلك الرجل.
وفيها أيضاً كانت وقعة بين طائفة من المسلمين وطائفة من الفرنج انتصر فيها المسلمون.
ذكر رحيل الفرنج إلى نطرون
لما رأى صلاح الدين أن الفرنج قد لزموا يافا ولم يفارقوها، وشرعوا في عمارتها. رحل من منزلته إلى النطرون ثالث عشر رمضان، وخيم به، فراسله ملك إنكلتار يطلب المهادنة، فكانت الرسل تتردد إلى الملك العادل أبي بكر بن أيوب، أخي صلاح الدين، فاستقرت القاعدة أن ملك إنكلتار يزوج أخته من العادل أبي بكر بن أيوب، أخي صلاح الدين، فاستقرت القاعدة أن ملك إنكلتار يزوج أخته من العادل، ويكون القدس وما بأيدي المسلمين من بلاد الساحل للعادل، وتكون عكا وما بيد الفرنج من البلاد لأخت ملك إنكلتار، مضافاً إلى مملكة كانت لها داخل البحر قد ورثتها من زوجها، وأن يرضى الداوية بما يقع الاتفاق عليه، فعرض العادل ذلك على صلاح الدين، فأجاب إليه، فلما ظهر الخبر اجتمع القسيسون، والأساقفة، والرهبان إلى أخت ملك إنكلتار وأنكروا عيها، فامتنعت من الإجابة، وقيل كان المانع منه غير ذلك، والله أعلم.
وكان العادل وملك إنكلتار يجتمعان بعد ذلك ويتجاريان حديث الصلح، وطلب من العادل أن يسمعه غناء المسلمين، فأحضر له مغنية تضرب بالجنك، فغنت له، فاستحسن ذلك، ولم يتم بينهما صلح، وكان ملك إنكلتار يفعل ذلك خديعة ومكراً. (5/206)
ثم إن الفرنج أظهروا العزم على قصد البيت المقدس، فسار صلاح الدين إلى الرملة، جريدة، وترك الأثقال بالنطرون، وقرب من الفرنج، وبقي عشرين يوماً ينتظرهم، فلم يبرحوا، فكن بين الطائفتين، مدة المقام، عدة وقعات في كلها ينتصر المسلمون على الفرنج، وعاد صلاح الدين إلى النطرون، ورحل الفرنج من يافا إلى الرملة ثالث ذي القعدة، على عزم قصد البيت المقدس، فقرب بعضهم من بعض فعظم الخطب واشتد الحذر، فكان كل ساعة يقع الصوت في العسكرين بالنفير فلقوا من ذلك شدة شديدة، وأقبل الشتاء، وحالت الأوحال والأمطار بينهما.
ذكر مسير صلاح الدين إلى القدس
لما رأى صلاح الدين أن الشتاء قد هجم، والأمطار متوالية متتابعة، والناس منها في ضنك وحرج، ومن شدة البرد ولبس السلاح والسهر في تعب دائم، وكان كثير من العساكر قد طال بيكارها، فأذن لهم في العود إلى بلادهم للاستراحة والإراحة، وسار هو إلى البيت المقدس فيمن بقي معه، فنزلوا جميعاً داخل البلد، فاستراحوا مما كانوا فيه، ونزل هو بدار الأقسا مجاور بيعة قمامة، وقدم إليه عسكر من مصر مقدمهم الأمير أبو الهيجاء السمين، فقويت نفوس المسلمين بالقدس.
وسار الفرنج من الرملة إلى النطرون ثالث ذي الحجة، على عزم قصد القدس، فكانت بينهم وبين يزك المسلمين وقعات، أسر المسلمون في وقعة منها نيفاً وخمسين فارساً من مشهوري الفرنج وشجعانهم، وكان صلاح الدين لما دخل القدس أمر بعمارة سوره، وتجديد ما رث منه، فأحكم الموضع الذي ملك البلد منه، وأتقنه، وأمر بحفر خندق خارج الفصيل، وسلم كل برج إلى أمير يتولى عمله، فعمل ولده الأفضل من ناحية باب عمود إلى باب الرحمة، وأرسل أتابك عز الدين مسعود، صاحب الموصل، جماعة من الحصاصين، ممن له في قطع الصخر اليد الطولى، فعملوا له هناك برجاً وبدنة، وكذلك جميع الأمراء.
ثم إن الحجارة قلت عند العمالين، فكان صلاح الدين، رحمه الله يركب وينقل الحجارة بنفسه على دابته من الأمكنة البعيدة، فيقتدي به العسكر، فكان يجمع عنده ن العمالين في اليوم الواحد ما يعملونه عدة أيام.
ذكر عود الفرنج إلى الرملة
في العشرين من ذي الحجة عاد الفرنج إلى الرملة، وكان سبب عودهم أنهم كانوا ينقلون ما يريدونه من الساحل، فلما أبعدوا عنه كان المسلمون يخرجون على من يجلب لهم الميرة فيقطعون الطريق ويغنمون ما معهم، ثم إن ملك إنكلتار قال لمن معه من الفرنج الشاميين: صوروا لي مدينة القدس، فإني ما رأيتها؛ فصوروها له، فرأى الوادي يحيط بها ما عدا موضعاً يسير من جهة الشمال، فسأل عن الوادي وعن عمقه، فأخبر أنه عميق، وعر المسلك.
فقال: هذه مدينة لا يمكن حصرها ما دام صلاح الدين حياً وكلمة المسلمين مجتمعة، لأننا إن نزلنا في الجانب الذي يلي المدينة بقيت سائر الجوانب غير محصورة، فيدخل إليهم منها الرجال والذخائر وما يحتاجون إليه، وإن نحن افترقنا فنزل بعضنا من جانب الوادي وبعضنا من الجانب الآخر، جمع صلاح الدين عسكره وواقع إحدى الطائفتين، ولم يمكن الطائفة الأخرى إنجاد أصحابهم، لأنهم إن فارقوا مكانهم خرج من بالبلد من المسلمين فغنموا ما فيه، وإن تركوا فيه من يحفظه وساروا نحو أصحابهم، فإلى أن يتخلصوا من الوادي ويلحقوا بهم يكون صلاح الدين قد فرغ منهم، هذا سوى ما يتعذر علينا من إيصال ما يحتاج إليه من العلوفات والأقوات.
فلا قال لهم ذلك علموا صدقه، ورأوا قلة الميرة عندهم، وما يجري للجالبين لها من المسلمين، فأشاروا عليه بالعود إلى الرملة، فعادوا خائبين خاسرين.
ذكر قتل قزل أرسلان
في شعبان من هذه السنة قتل قزل أرسلان، واسمه عثمان بن إيلدكز، وقد ذكرنا أنه ملك البلاد، بعد وفاة أخيه البهلوان، ملك أران، وأذربيجان، وهمذان، وأصفهان، والري، وما بينها، وأطاعه صاحب فارس وخوزستان، واستولى على السلطتان طغرل بن أرسلان بن طغرل، فاعتقله في بعض القلاع، ودانت له البلاد. (5/207)
وفي آخر أمره سار إلى أصفهان، والفتن بها متصلة من لدن توفي البهلوان إلى ذلك الوقت، فتعصب على الشافعية، وأخذ جماعة من أعيانهم فصلبهم، وعاد إلى همذان، وخطب لنفسه بالسلطنة، وضرب النوب الخمس، ثم إنه دخل ليلة قتل إلى منزله لينام، وتفرق أصحابه، فدخل إليه من قتله على فراشه، ولم يعرف قاتله، فأخذ أصحابه صاحب بابه ظناً وتخميناً؛ وكان كريماً حسن الأخلاق، يحب العدل ويؤثره، ويرجع إلى حلم وقلة عقوبة.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة قدم معز الدين قيصر شاه بن قلج أرسلان، صاحب بلاد الروم، على صلاح الدين في رمضان، وكان سب قدومه أن والده عز الدين قلج أرسلان فرق مملكته على أولاده، وأعطى ولده هذا ملطية وأعطى ولده قطب الدين ملك شاه سيواس، فاستولى قطب الدين على أبيه، وحجر عليه، وأزال حكمه، وألزمه أن يأخذ ملطية من أخيه هذا ويسلمها إليه، فخاف معز الدين، فسار إلى صلاح الدين ملتجئاً إليه، معتضداً به، فأكرمه صلاح الدين، وزوجه بابنه أخيه الملك العادل، فامتنع قطب الدين من قصده، وعاد معز الدين إلى ملطية في ذي القعدة.
وحدثني من أثق به قال: رأيت صلاح الدين وقد ركب ليودع معز الدين هذا، فترجل له معز الدين، وترجل صلاح الدين، وودعه راجلاً، فلما أراد الركوب عضده معز الدين هذا، وأركبه، وسوى ثيابه علاء الدين خرمشاه بن عز الدين، صاحب الموصل، قال: فعجبت من ذلك، وقلت ما تبالي يا ابن أيوب أي موتة تموت؟ يركبك ملك سلجوقي وابن أتابك زنكي.
وفيها توفي حسام الدين محمد بن لاجين، وهو ابن أخت صلاح الدين؛ وعلم الدين سليمان بن جندر، وهو من أكابر أمراء صلاح الدين أيضاً.
وفي رجب توفي الصفي بن القابض، وكان متولي دمشق لصلاح الدين، يحكم في جميع بلاده.

This site was last updated 07/28/11