Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم عزت اندراوس

سنة خمس عشرة وستمائة

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
بقية سنة575 وسنة576
سنة577 وسنة578
سنة579
سنة580 وسنة581
سنة582 وسنة583
سنة584
سنة585
سنة586
سنة587
سنة588
سنة589
سنة590 وسنة591
سنة592 وسنة593
سنة594
سنة595
سنة596 وسنة597
سنة598 وسنة599
سنة600
سنة601 وسنة602
سنة603
سنة604
سنة605 وسنة606
سنة607 وسنة608 وسنة609
سنة610 وسنة611 وسنة612
سنة613 وسنة614
سنة615
سنة616 وسنة617
سنة618 وسنة619
سنة620 وسنة621
سنة621

 

الجزء التالى من كتاب: الكامل في التاريخ المؤلف: أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير (المتوفى: 630هـ) تحقيق: عمر عبد السلام تدمري الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1417هـ / 1997م عدد الأجزاء:  10

**************************************************************************************************************************

ثم دخلت سنة خمس عشرة وستمائة
ذكر وفاة الملك القاهر وولاية ابنه
(5/295)
نور الدين وما كان من الفتن بسبب موته إلى أن استقرت الأمور
في هذه السنة توفي الملك القاهر عز الدين مسعود بن أرسلان شاه بن مسعود ابن مودود بن زنكي بن آقسنقر، صاحب الموصل، ليلة الاثنين لثلاث بقين من شهر ربيع الأول، وكانت ولايته سبع سنين وتسعة أشهر.
وكان سبب موته أنه أخذته حمى، ثم فارقته الغد، وبقي يومين موعوكاً، ثم عاودته الحمى مع فيء كثير، وكرب شديد، وقلق متتابع، ثم برد بدنه، وعرق، وبقي كذلك إلى وسط الليل، ثم توفي.
وكان كريماً حليماً، قليل الطمع في أموال الرعية، كافاً عن أذى يوصله إليهم، مقبلاً على لذاته كأنما ينهبها ويبادر بها الموت؛ وكن عنده رقة شديدة، ويكثر ذكر الموت.
حكى لي بعض من كان يلازمه قال: كنا ليلة، قبل وفاته بنصف شهر، عنده، فقال لي: قد وجدت ضجراً من القعود، فقم بنا نتمشى إلى الباب العمادي؛ قال: فقمنا، فخرج من داره نحو الباب العمادي، فوصل التربة التي عملها لنفسه عند داره، فوقف عندها مفكراً لا يتكلم، ثم قال لي: والله ما نحن في شيء! أليس مصيرنا إلى هاهنا، وندفن تحت الأرض؟ وأطال الحديث في هذا ونحوه، ثم عاد إلى الدار، فقلت له: ألا نمشي إلى الباب العمادي؟ فقال: ما بقي عندي نشاط إلى هذا ولا إلى غيره، ودخل داره وتوفي بعد أيام.
وأصيب أهل بلاده بموته، وعظم عليهم فقده، وكان محبوباً إليهم، قريباً من قلوبهم، ففي كل دار لأجله رنة وعويل؛ ولما حضرته الوفاة أوصى بالملك لولده الأكبر نور الدين أرسلان شاه، وعمره حينئذ نحو عشر سنين، وجعل الوصي عليه والمدبر لدولته بدر الدين لؤلؤ، وهو الذي كان يتولى دولة القاهر ودولة أبيه نور الدين قبله، وقد تقدم من أخباره ما يعرف به محله، وسيرد منها أيضاً ما يزيد الناظر بصيرة فيه.
فلما قضى نحبه قام بدر الدين بأمر نور الدين، وأجلسه في مملكة أبيه، وأرسل إلى الخليفة يطلب له التقليد والتشريف، وأرسل إلى الملوك، وأصحاب الأطراف المجاورين لهم، يطلب منهم تجديد العهد لنور الدين على القاعدة التي كانت بينهم وبين أبيه، فلم يصبح إلا وقد فرغ من كل ما يحتاج إليه، وجلس للعزاء، وحلف الجند والرعايا، وضبط المملكة من التزلزل والتغير مع صغر السلطان وكثرة الطامعين في الملك، فإنه كان معه في البلد أعمام أبيه، وكان عمه عماد الدين زنكي بن أرسلان شاه بولايته، وهي قلعة عقر الحميدية، يحدث نفسه بالملك، لا يشك في أن الملك يصير إليه بعد أخيه، فرقع بدر الدين ذلك الخرق، ورتق ذلك الفتق، وتابع الإحسان والخلع على الناس كافة، وغير ثياب الحداد عنهم، فلم يخص بذلك شريفاً دون مشروف، ولا كبيراً دون صغير، وأحسن السيرة، وجلس لكف ظلامات الناس، وإنضاف بعضهم من بعض.
وبعد أيام وصل التقليد من الخليفة لنور الدين بالولاية، ولبدر الدين بالنظر في أمر دولته، والتشريفات لهما أيضاً، وأتتهما رسل الملوك بالتعزية، وبذل ما طلب منهم من العهود، واستقرت القواعد لهما.
ذكر ملك عماد الدين زنكي قلاع الهكارية والزوزان
قد ذكرنا عند وفاة نور الدين سنة سبع وستمائة أنه أعطى ولده الأصغر زنكي قلعتي العقر وشوش، وهما بالقرب من الموصل، فكان تارة يكون بالموصل، وتارة بولايته، متجنياً لكثرة تلونه، وكان بقلعة العمادية مستحفظ من مماليك جده عز الدين مسعود بن مودود، قيل إنه جرى له منع زنكي مراسلات في معنى تسليم العمادية إليه، فنمى الخبر بذلك إلى بدر الدين، فبادره بالعزل مع أمير كبير وجماعة من الجند لم يمكنه الامتناع، وسلم القلعة إلى نائب بدر الدين كذلك، وجعل بدر الدين في غير العمادية من القلاع نواباً له.
وكان نور الدين بن القاهر لا يزال مريضاً من جروح كانت به، وغيرها من الأمراض، وكان يبقى المدة الطويلة لا يركب، ولا يظهر للناس، فأرسل زنكي إلى من بالعمادية من الجند يقول: إن ابن أخي توفي، ويريد بدر الدين أن يملك البلاد، وأنا أحق بملك آبائي وأجدادي؛ فلم يزل حتى استدعاه الجند منها، وسلموا إليه، ثامن عشر رمضان سنة خمس عشرة وستمائة، وقبضوا على النائب البدري وعلى من معه. (5/296)
فوصل الخبر إلى بدر الدين ليلاً فجد في الأمر، ونادى في العسكر لوقته بالرحيل، فساروا مجدين إلى العمادية وبها زنكي ليحصروه فيها، فلم يطلع الصبح إلا وقد فرغ من تسيير العساكر، فساروا إلى العمادية وحصروها، وكان الزمان شتاء، والبرد شديد، والثلج هناك كثير، فلم يتمكنوا من قتال من بها، لكنهم أقاموا يحصرونها، وقام مظفر الدين كوكبري بن زين الدين، صاحب إربل، في نصر عماد الدين، وتجرد لمساعدته، فراسله بدر الدين يذكره الأيمان والعهود التي من جملتها أنه لا يتعرض إلى شيء من أعمال الموصل، ومنها قلاع الهكارية والزوزان بأسمائها، ومتى تعرض إليها أحد من الناس، من كان، منعه بنفسه وعساكره، وأعان نور الدين وبدر الدين على منعه، ويطالبه بالوفاء بها.
ثم نزل عن هذا، ورضي منه بالسكوت لا لهم ولا عليهم، فلم يفعل، وأظهر معاضدة عماد الدين زنكي، فحينئذ لم يمكن مكاثرة زنكي بالرجال والعساكر لقرب هذا الخصم من الموصل وأعمالها، إلا أن العسكر البدري محاصر للعمادية وبها زنكي.
ثم إن بعض الأمراء من عسكر الموصل، ممن لا علم له بالحرب، وكان شجاعاً وهو جديد الإمارة أراد أن يظهر شجاعته ليزداد بها تقدماً، أشار على من هناك من العسكر بالتقدم إليها ومباشرتا بالقتال، وكانوا قد تأخروا عنها شيئاً يسيراً لشدة البرد والثلج، فلم يوافقوه، وقبحوا رأيه، فتركهم ورحل متقدماً إليهم ليلاً، فاضطروا إلى اتباعه خوفاً عليه من أذى يصيبه ومن معه، فساروا إليه على غير تعبئة لضيق المسلك، ولأنه أعجلهم عن ذلك، وحكم الثلج عليهم أيضاً.
فسمع زنكي ومن مه، فنزلوا، ولقوا أوائل الناس، وأهل مكة أخبر بشعابها، فلم يثبتوا لهم، وانهزموا وعادوا إلى منزلتهم، ولم يقف العسكر عليهم، فاضطروا إلى العود، فلما عادوا راسل زنكي باقي قلاع الهكارية والزوزان، واستدعاهم إلى طاعته، فأجابوه، وسلموا إليه، فجعل فيها الولاة، وتسلمها وحكم فيها.
ذكر اتفاق بدر الدين مع الملك الأشرف
لما رأى بدر الدين خروج القلاع عن يده، واتفاق مظفر الدين وعماد الدين عليه، ولم ينفع معهما اللين ولا الشدة، وإنهما لا يزالان يسعيان في أخذ بلاده، ويتعرضان إلى أطرافها بالنهب والأذى، أرسل إلى الملك الأشرف موسى ابن الملك العادل، وهو صاحب ديار الجزيرة كلها، إلا القليل، وصاحب خلاط وبلادها، يطلب منه الموافقة والمعاضدة، وانتمى إليه، وصار في طاعته منخرطاً في سلك موافقته، فأجابه الأشرف بالقبول لذلك والفرح به والاستبشار، وبذل له المساعدة والمعاضدة، والمحاربة دونه، واستعادة ما أخذ من القلاع التي كانت له.
وكان الملك الأشرف حينئذ بحلب، نازلاً بظاهرها، لما ذكرناه من تعرض كيكاوس، ملك بلاد الروم التي بيد المسلمين، قونية وغيرها، إلى أعمالها، وملكه بعض قلاعها، فأرسل إلى مظفر الدين يقبح هذه الحالة، ويقول له: إن هذه القاعدة تقررت بين جميعنا بحضور رسلك، وإننا نكون على الناكث إلى أن يرجع الحق، ولا بد من إعادة ما أخذ من بلد الموصل لندوم على اليمين التي استقرت بيننا، فإن امتنعت، وأصررت على معاضدة زنكي ونصرته، فأنا أجيء بنفسي وعساكري، وأقصد بلادك وغيرها، وأسترد ما أخذتموه وأعيده إلى أصحابه، والمصلحة أنك توافق، وتعود إلى الحق، لنجعل شغلنا جمع العساكر، وقصد الديار المصرية، وإجلاء الفرنج عنها قبل أن يعظم خطبهم ويستطير شرهم.
فلم تحصل الإجابة منه إلى شيء من ذلك؛ وكان ناصر الدين محمود، صاحب الحصن وآمد، قد امتنع عن موافقة الأشرف ذلك جهز عسكراً وسيره إلى نصيبين نجدة لبدر الدين إن احتاج إليهم.
ذكر انهزام عماد الدين من العسكر البدري
لما عاد العسكر البدري من حصار العمادية وبها زنكي، كما ذكرناه، قويت نفسه، وفارقها، وعاد إلى قلعة العقر التي له ليتسلط على أعمال الموصل بالصحراء، فإن بلد الجبل كان قد فرغ منه، وأمده مظفر الدين بطائفة كثيرة من العسكر. (5/297)
فلما اتصل الخبر ببدر الدين سير طائفة من عسكره إلى أطراف بلد الموصل يحمونها، فأقاموا على أربعة فراسخ من الموصل، ثم إنهم اتفقوا بينهم على المسير إلى زنكي، وهو عند العقر في عسكره، ومحاربته، ففعلوا ذلك، ولم يأخذوا أمر بدر الدين بل أعلموه بمسيرهم جريدة ليس معهم إلا سلاحهم، ودواب يقاتلون عليها، فساروا ليلتهم، وصبحوا زنكي بكرة الأحد لأربع بقين من المحرم من سنة ست عشرة وستمائة، فالتقوا واقتتلوا تحت العقر، وعظم الخطب بينهم، فأنزل الله نصره على العسكر البدري، فانهزم عماد الدين وعسكره، وسار إلى إربل منهزماً، وعاد العسكر البدري إلى منزلته التي كان بها، وحضرت الرسل من الخليفة الناصر لدين الله ومن الملك الأشرف في تجديد الصلح، فاصطلحوا، وتحالفوا بحضور الرسل.
ذكر وفاة نور الدين صاحب الموصل وملك أخيه
ولما تقرر الصلح توفي نور الدين أرسلان شاه ابن مالك القاهرة، صاحب الموصل، وكان لا يزال مريضاً بعدة أمراض، فرتب بدر الدين في الملك بعده أخاه ناصر الدين محموداً وله من العمر نحو ثلاث سنين، ولم يكن للقاهر ولد غيره، وحلف له الجند، وركبه، فطابت نفوس الناس، لأن نور الدين كان لا يقدر على الركوب لمرضه، فلما ركبوا هذا علموا أن لهم سلطاناً من البيت الأتابكي، فاستقروا واطمأنوا، وسكن كثير من الشغب بسببه.
ذكر انهزام بدر الدين من مظفر الدين
لما توفي نور الدين، وملك أخوه ناصر الدين، تجدد لمظفر الدين ولعماد الدين طمع لصغر سن ناصر الدين، فجمعا الرجال، وتجهز للحركة، فظهر ذلك، وقصد بعض أصحابهم طرف ولاية الموصل بالنهب والفساد.
وكان بدر الدين قد سير ولده الأكبر في جمع صالح من العسكر إلى الملك الأشرف بحلب، نجدة له بسبب اجتماع الفرنج بمصر، وهو يريد أن يدخل بلاد الفرنج التي بساحل الشام ينهبها، ويخربها، ليعود بعض من بدمياط إلى بلادهم، فيخف الأمر على الملك الكامل، صاحب مصر؛ فلما رأى بدر الدين تحرك مظفر الدين وعماد الدين، وأن بعض عسكره بالشام، أرسل إلى عسكر الملك الأشرف الذي بنصيبين يستدعيهم ليعتضد بهم، وكان المقدم عليهم مملوك الأشرف، اسمه أيبك، فساروا إلى الموصل رابع رجب سنة ست عشرة.
فلما رآهم بدر الدين استقلهم لأنهم كانوا أقل من العسكر الذي له بالشام، أو مثلهم، فألح أيبك على عبور دجلة وقصد بلاد إربل، فمنعه بدر الدين من ذلك، وأمره بالاستراحة، فنزل بظاهر الموصل أياماً، وأصر على عبور دجلة، فعبرها بدر الدين موافقة له، ونزلوا على فرسخ من الموصل، شرقي دجلة، فلما سمع مظفر الدين ذلك جمع عسكره وسار إليهم ومعه زنكي، فعبر الزاب وسبق خبره، فسمع به بدر الدين فعبأ أصحابه، وجعل أيبك في الجالشية، ومعه شجعان أصحابه، وأكثر معه منهم، بحيث إنه لم يبق معه إلا اليسير، وجعل في ميسرته أميراً كبيراً، وطلب الانتقال عنها إلى الميمنة، فنقله.
فلما كان وقت العشاء الآخرة أعاد ذلك الأمير الطلب بالانتقال من الميمنة إلى الميسرة، والخصم بالقرب منهم، فمنعه بدر الدين، وقال: متى انتقلت أنت ومن معك في هذا الليل، ربما ظنه الناس هزيمة فلا يقف أحد؛ فأقام بمكانه، وهو في جمع كبير من العسكر، فلما انتصف الليل سار أيبك، فأمره بدر الدين بالمقام إلى الصبح لقرب العدو منهم، فلم يقبل لجهله بالحرب، فاضطر الناس لاتباعه، فتقطعوا في الليل والظلمة، والتقوا هم والخصم في العشرين من رجب على ثلاثة فراسخ من الموصل، فأما عز الدين فإنه تيامن والتحق بالميمنة، وحمل في اطلابه هو والميمنة على ميسرة مظفر الدين، فهزمها وبها زنكي.
وكان الأمير الذي انتقل إلى الميمنة قد أبعد عنها، فلم يقاتل ، فلما رأى أيبك قد هزم الميسرة تبعها والتحق به وانهزمت ميسرة بدر الدين فبقي هو في النفر الذين معه، وتقدم إليه مظفر الدين فيمن معه في القلب لم يتفرقوا، فلم يمكنه الوقوف، فعاد إلى الموصل، وعبر دجلة إلى القلعة، ونزل منها إلى البلد؛ فلما رآه الناس فرحوا به، وساروا معه، وقصد باب الجسر، والعدو بإزائه، بينهما دجلة، فنزل مظفر الدين فيمن سلم معه من عسكره وراء تل حصن نينوى، فأقام ثلاثة أيام. (5/298)
فلما رأى اجتماع العسكر البدري بالموصل، وأنهم لم يفقد منهم إلا اليسير، وبلغه الخبر أن بدر الدين يريد العبور إليه ليلاً بالفارس والراجل، على الجسور وفي السفن، ويكبسه، رحل ليلاً من غير أن يضرب كوساً أو بوقاً، وعادوا نحو إربل، فلما عبروا الزاب نزلوا، ثم جاءت الرسل وسعوا في الصلح، فاصطلحوا على أن كل من بيده شيء هو له، وتقررت العهود والأيمان على ذلك.
ذكر ملك عماد الدين قلعة كواشى وملك بدر الدين تل يعفر وملك الملك الأشرف سنجار
كواشى هذه من أحصن قلا الموصل وأعلاها وأمنعها، وكان الجند الذين بها، لما رأوا ما فعل أهل العمادية وغيرها من التسليم إلى زنكي، وأنهم قد تحكموا في القلاع، لا يقدر أحد على الحكم عليهم، أحبوا أن يكونا كذلك، فأخرجوا نواب بدر الدين عنهم، وامتنعوا بها، وكانت رهائنهم بالموصل، وهم يظهرون طاعة بدر الدين، ويبطنون المخالفة، فترددت الرسل في عودهم إلى الطاعة، فلم يفعلوا، وراسلوا زنكي في المجيء إليهم، فسار إليهم وتسلم القلعة، وأقام عندهم، فرسول مظفر الدين يذكر بالأيمان القريبة العهد، ويطلب منه إعادة كواشى، فلم تقع الإجابة إلى ذلك، فأرسل حينئذ بدر الدين إلى الملك الأشرف، وهو بحلب، يستنجده، فسار وعبر الفرات إلى حران، واختلفت عليه الأمور من عدة جهات منعته من سرعة السير.
وسبب هذا الاختلاف أن مظفر الدين كان يراسل الملوك أصحاب الأطراف ليستميلهم، ويحسن لهم الخروج على الأشرف، ويخوفهم منه، إن خلا وجهه، فأجابه إلى ذلك عز الدين كيكاوس بن كيخسرو بن قلج أرسلان، صاحب بلاد الروم، وصاحب آمد، وحصن كيفا، وصاحب ماردين، واتفقوا كلهم على طاعة كيكاوس، وخطبوا له في بلادهم، ونحن نذكر ما كان بينه وبين الأشراف عند منبج لما قصد بلاد حلب، فهو موغر الصدر عليه.
فاتفق أن كيكاوس مات في ذلك الوقت، وكفي الأشرف وبدر الدين شره، ولا جد إلا ما أقعص عنك الرجال، وكان مظفر الدين قد راسل جماعة من الأمراء الذين مع الأشرف، واستمالهم، فأجابوه، منهم: أحمد بن علي بن المشطوب، الذي ذكرنا أنه فعل على دمياط ما فعل، وهو أكبر أمير معه، ووافقه غيره، منهم: عز الدين محمد بن بدر الحميدي وغيرهما، وفارقوا الأشرف، ونزلوا بدنيسر، تحت ماردين، ليجتمعوا مع صاحب آمد، ويمنعوا الأشراف من العبور إلى الموصل لمساعدة بدر الدين.
فلما اجتمعوا هناك عاد صاحب آمد إلى موافقة الأشرف، وفارقهم، واستقر الصلح بينهما، وسلم إليه الأشرف مدينة حاني، وجبل جور، وضمن له أخذ دارا وتسليمها إليه، فلما فارقهم صاحب آمد انحل أمرهم، فاضطر بعض أولئك الأمراء إلى العود إلى طاعة الأشرف، وبقي ابن المشطوب وحده، فسار إلى نصيبين ليسير إلى إربل، فخرج إليه شحنة نصيبين فيمن عنده من الجند، فاقتتلوا، فانهزم ابن المشطوب، وتفرق من معه من الجمع، ومضى منهزماً، فاجتاز بطرف بلد سنجار، فسير إليه صاحبها فروخ شاه بن زنكي ابن مودود بن زنكي عسكراً فهزموه وأخذوه أسيراً وحملوه إلى سنجار، وكان صاحبها موافقاً للأشرف وبدر الدين.
فلما صار عند ابن المشطوب حسن عنده مخالفة الأشرف، فأجابه إلى ذلك وأطلقه، فاجتمع معه من يريد الفساد، فقصدوا البقعا من أعمال الموصل، ونهبوا فيها عدة قرى، وعادوا إلى سنجار، ثم ساروا وهو معهم إلى تل يعفر، وهي لصاحب سنجار، ليقصدوا بلد الموصل وينهبوا في تلك الناحية، فلما سمع بدر الدين بذلك سير إليه عسكراً، فقاتلوهم، فمضى منهزماً، وصعد إلى تل يعفر، واحتمى بها منعم، ونازلوه وحصروه فيها، فسار بدر الدين من الموصل إليه يوم الثلاثاء لتسع بقين من ربيع الأول سنة سبع عشرة وستمائة، وجد في حصره، وزحف إليها مرة بعد أخرى، فملكها سابع عشر ربيع الآخر من هذه السنة، وأخذ ابن المشطوب معه إلى الموصل فسجنه بها، ثم أخذه منه الأشرف فسجنه بحران إلى أن توفي في ربيع الآخر سنة تسع عشرة وستمائة، ولقاه الله عقوبة ما صنع بالمسلمين بدمياط. (5/299)
وأما الملك الأشرف، فإنه لما أطاعه صاحب الحصن وآمد، وتفرق الأمراء عنه كما ذكرناه، رحل من حران إلى دنيسر، فنزل علها، واستولى على بلد ماردين، وشحن عليه، وأقطعه، ومنع الميرة عن ماردين، وحضر معه صاحب آمد وترددت الرسل بينه وبين صاحب ماردين في الصلح، فاصطلحوا على أن يأخذ الأشرف رأس عين، وكان هو قد أقطعها لصاحب ماردين، ويأخذ منه أيضاً ثلاثين ألف دينار، ويأخذ منه صاحب آمد الموزر، من بلد شبختان.
فلما تم الصلح سار الأشرف من دنيسر إلى نصيبين يريد الموصل، فبينما هو في الطريق لقيه رسل صاحب سنجار يبذل تسليمها إليه، ويطلب العوض عنها مدينة الرقة.
وكان السبب في ذلك أخذ تل يعفر منه، فانخلع قلبه، وانضاف إلى ذلك أن ثقاته ونصحاءه خانوه، وزادوه رعباً وخوفاً، لأنه تهددهم، فتغدوا به قبل أن يتعشى بهم، ولأنه قطع رحمه، وقتل أخاه الذي ملك سنجار بعد أبيه؛ وقتله كما نذكره إن شاء الله، وملكها، فلقاه الله سوء فعله، ولم يمتنعه بها، فلما تيقن رحيل الأشرف تحير في أمره، فأرسل في التسليم إليه، فأجابه الأشرف إلى العوض، وسلم إليه الرقة، وتسلم سنجار مستهل جمادى الأولى سنة سبع عشرة وستمائة، وفارقها صاحبها وإخوته بأهليهم وأموالهم، وكان هذا آخر ملوك البيت الأتابكي بسنجار، فسبحا الحي الدائم الذي ليس لملكه آخر. وكان مدة ملكهم لها أربعاً وتسعين سنة، وهذا دأب الدنيا بأبنائها، فتعساً لها من دار ما أغدرها بأهلها!
ذكر وصول الأشرف إلى الموصل والصلح مع مظفر الدين
لما ملك الملك الأشرف سنجار سار يري الموصل ليجتاز منها، فقدم بين يديه عساكره، فكان يصل كل يوم منهم جمع كثير، ثم وصل هو في آخرهم يوم الثلاثاء تاسع عش جمادى الأولى من السنة المذكورة، وكان يوم وصوله مشهوداً، وأتاه رسل الخليفة ومظفر الدين في الصلح، وبذل تسليم القلاع المأخوذة جميعها إلى بدر الدين، ما عدا قلعة العمادية فإنها تبقى بيد زنكي، وإن المصلحة قبول هذا لتزول الفتن، ويقع الاشتغال بجهاد الفرنج.
وطال الحديث في ذلك نحو شهرين، ثم رحل الأشرف يريد مظفر الدين صاحب إربل، فوصل إلى قرية السلامية، بالقرب من نهر الزاب، وكان مظفر الدين نازلاً عليها من جانب إربل، فأعاد الرسل، وان العسكر قد طال بيكاره، والناس قد ضجروا، وناصر الدين صاحب آمد يميل إلى مظفر الدين، فأشار بالإجابة إلى ما بذل، وأعانه عليه غيره، فوقعت الإجابة إليه، واصطلحوا على ذلك، وجعل لتسليمها أجل، وحمل زنكي إلى الملك الأشرف يكون عنده رهينة إلى حين تسليم القلاع.
وسملت قلعة العقر، وقلعة شوش أيضاً، وهما لزنكي، إلى نواب الأشرف، رهناً على تسليم ما استقر من القلاع، فإذا سلمت أطلب زنكي، وأعيد عليه قلعة العقر، وقلعة شوس، وحفوا على هذا، وسلم الأشرف زنكي القلعتين وعاد إلى سنجار، وكان رحيله عن الموصل ثاني شهر رمضان من سنة سبع عشرة وستمائة، فأرسلوا إلى القلاع لتسلم إلى نواب بدر الدين، فلم يسلم إليه غير قلعة جل صورا، من أعمال الهكارية، وأما باقي القلاع فإن جندها أظهروا الامتناع من ذلك، ومضى الأجل ولم يسلم غير جل صورا.
ولزم عماد الدين زنكي لشهاب الدين غازي ابن الملك العادل، وخدمه، وتقرب إليه، فاستعطف له أخاه الملك الأشرف، فمال إليه وأطلقه، وأزال نوابه من قلعة العقر وقلعة شوش، وسلمهما إليه.
وبلغ بدر الدين عن الملك الأشرف ميل إلى قلعة تل يعفر، وإنها كانت لسنجار من قديم الزمان وحديثه وطال الحديث في ذلك، فسلمها إليه بدر الدين.
ذكر عود قلاع الهكارية والزوزان إلى بدر الدين
لما ملك زنكي قلاع الهكارية والزوزان لم يفعل مع أهلها ما ظنوه من الإحسان والإنعام، بل فعل ضده، وضيق عليهم، وكان يبلغهم أفعال بدر الدين مع جنده ورعاياه، وإحسانه إليهم، وبذله الأموال لهم، وكانوا يريدون العود إليه، ويمنعهم الخوف منه لما أسلفوه من ذلك، فلما كان الآن أعلنوا بما فعل معهم، فأرسلوا إلى بدر الدين في المحرم سنة ثماني عشرة وستمائة في التسليم إليه، وطلبوا منه اليمين، والعفو عنهم، وذكروا شيئاً من إقطاع يكون لهم، فأجابهم إلى ذلك، وأرسل إلى الملك الأشرف يستأذنه في ذلك، فلم يأذن له. (5/300)
وعاد زنكي من عند الأشرف، فجمع جموعاً، وحصر قلعة العمادية، فلم يبلغ منهم غرضاً، وأعادوا مراسلة بدر الدين في التسليم إليه، فكتب إلى الملك الأشرف في المعنى، وبذل هل قلعة جديدة نصيبين، وولاية بني النهرين ليأذن له في أخذها، فأذن له، فأرسل إليها كلها النواب وتسلموها، وأحسن إلى أهلها، ورحل زنكي عنها، ووفى له بدر الدين بما بذله لهم.
فلما سمع جند باقي القلاع بما فعلوا وما وصلهم من الإحسان والزيادة، رغبوا كلهم في التسليم إليه، فسير إليهم النواب، واتفقت كلمة أهلها على طاعته والانقياد إليه؛ والعجب أن العساكر اجتمعت من الشام، والجزيرة، وديار بكر، وخلاط، وغيرها، في استعادة هذه القلاع، فلم يقدروا على ذلك، فلما تفرقوا حضر أهلها وسألوا أن تؤخذ منهم، فعادت صفواً عفواً بغير منة، ولقد أحسن من قال:
لا سهل إلا ما جعلت سهلاً ... وإن تشأ تجعل بحزن وحلا
فتبارك الله الفعال لما يريد، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وهو على كل شيء قدير.
ذكر قصد كيكاوس ولاية حلب وطاعة صاحبها للأشرف وانهزام كيكاوس
في هذه السنة سار عز الدين كيكاوس بن كيخسرو ملك الروم إلى ولاية حلب، قصداً للتغلب عليها، ومعه الأفضل بن صلاح الدين يوسف.
وسبب ذلك أنه كان بحلب رجلان فيما شر كثير وسعاية بالناس، فكانا ينقلان إلى صاحبها الملك الظاهر بن صلاح الدين عن رعيته، فأوغرا صدره، فلقي الناس منهما شدة؛ فلما توفي الظاهر وولي الأمر شهاب الدين طغرل أبعدهما وغيرهما ممن يفعل مثل فعلهما، وسد هذا الباب على فاعله، ولم يطرق إليه أحداً من أهله؛ فلما رأى الرجلان كساد سوقهما لزما بيوتهما، وثار بهما الناس، وآذوهما، وتهددوهما لما كانا أسلفاه من الشر، فخافا، ففارقا حلب، وقصدا كيكاوس فأطمعاه فيها، وقررا في نفسه أنه متى قصدها لا تثبت بين يديه، وأنه يملكها، ويهون عليه ملك ما بعدها.
فلما عزم على ذلك أشار عليه ذوو الرأي من أصحابه، وقالوا له: لا يتم لك هذا إلا بأن يكون معك أحد من بيت أيوب ليسهل على أهل البلاد وجندها الانقياد إليه؛ وهذا الأفضل بن صلاح الدين هو في طاعتك، والمصلحة أنك تستصحبه معك، وتقرر بينكما قاعدة فيما تفتحانه من البلاد، فمتى كان معك أطاعك الناس وسهل عليك ما تريد.
فأحضر الأفضل من سميساط إليه، وأكرمه وحمل إليه شيئاً كثيراً من الخيل والخيام والسلاح وغير ذلك، واستقرت القواعد بينهما أن يكون ما يفتحه نم حلب وأعمالها للأفضل، وهو في طاعة كيكاوس، والخطبة له في ذلك أجمع، ثم يقصدون ديار الجزيرة، فما يفتحونه مما بيد الملك الأشرف مثل: حران والرها من البلاد الجزرية، تكون لكيكاوس. وجرت الأيمان على ذلك، وجمعوا العساكر وساروا، فملكوا قلعة رغبان، فتسلمها الأفضل، فمال الناس حينئذ إليهما.
ثم سارا إلى قلعة تل باشر، وفيها صاحبها ولد بدر الدين دلدرم الياروقي، فحصروه، وضيقوا عليه، وملكوها منه، فأخذها كيكاوس لنفسه، ولم يسلمها إلى الأفضل، فاستشعر الأفضل من ذلك، وقال: هذا أول الغدر؛ وخاف أنه إن ملك حلب يفعل به هكذا، فلا يحصل إلا أن يكون قد قلع بيته لغيره،، ففترت نيته، وأعرض عما كان يفعله؛ وكذلك أيضاً أهل البلاد، فكانوا يظنون أن الأفضل يملكها، فيسهل عليهم الأمر، فلما رأوا ضد ذلك وقفوا.
وأما شهاب الدين أتابك ولد الظاهر، صاحب حلب، فإنه ملازمه قلعة حلب لا ينزل منها، ولا يفارقها البتة، وهذه كانت عادته مذ مات الظاهر، خوفاً من ثائر يثور به، فلما حدث هذا الأمر خاف أن يحصروه، وربما سلم أهل البلد والجند المدينة إلى الأفضل لميلهم إليه، فأرسل إلى الملك الأشرف ابن الملك العادل، صاحب الديار الجزرية وخلاط وغيرها، يستدعيه إليه لتكون طاعتهم له، ويخطبون له، ويجعل السكة باسمه، ويأخذ من أعمال حلب ما اختار، ولأن ولد الظاهر هو ابن أخته، فأجاب إلى ذلك، وسار إليهم في عساكره التي عنده، وأرسل إلى الباقين يطلبهم إليه، وسره ذلك للمصلحة العامة لجميعهم، وأحضر إليه العرب من طيء وغيرهم، ونزل بظاهر حلب. (5/301)
ولما أخذ كيكاوس تل باشر كان الأفضل يشير بمعاجلة حلب قبل اجتماع العساكر بها، وقبل أن يحتاطوا ويتجهزوا، فعاد عن ذلك، وصار يقول: الرأي أننا نقصد منبج وغيرها لئلا يبقى لهم وراء ظهورنا شيء، قصداً للتمادي ومرور الزمان في لا شيء؛ فتوجهوا من تل باشر إلى جهة منبج، وتقدم الأشرف نحوهم، وسارت العرب في مقدمته؛ وكان طائفة من عسكر كيكاوس، نحو ألف فارس، قد سبقت مقدمته له، فالتقوا هم والعرب ومن معهم من العسكر الأشرفي، فاقتتلوا، فانهزم عسكر كيكاوس، وعادوا إليه منهزمين، وأكثر العرب الأسر منهم والنهب لجودة خيلهم ودبر خيل الروم.
فلما وصل إليه أصحابه منهزمين لم يثبت، بل ولى على أعقابه يطوي المراحل إلى بلاده خائفاً يترقب. فلما وصل إلى أطرافها أقام.
وإنما فعل هذا لأنه صبي غر لا معرفة له بالحرب، وإلا، فالعساكر ما برحت تقع مقدماتها بعضها على بعض، فسار حينئذ الأشرف، فملك رعبان، وحصر تل باشر، وبها جمع من عسكر كيكاوس، فقاتلوه حتى غلبوا، فأخذت القلعة منهم، وأطلقهم الأشرف، فلما وصولا إلى كيكاوس جعلهم في دار وأحرقها عليهم، فهلكوا، فعظم ذلك على الناس كافة، واستقبحوه، واستضعفوه، لا جرم لم يمهله الله تعالى لعدم الرحمة في قلبه، ومات عقيب هذه الحادثة.
وسلم الأشرف تل باشر وغيرها من بلد حلب إلى شهاب الدين أتابك، صاحب حلب، وكان عازماً على اتباع كيكاوس، ودخول بلاده، فأتاه الخبر بوفاة أبيه الملك العادل، فاقتضت المصلحة العود إلى حلب، لأن الفرنج بديار مصر، ومثل ذلك السلطان العظيم إذا توفي ربما جرى خلل في البلاد لا تعرف العاقبة فيه، فعاد إليها، وكفي كل منهما أذى صاحبه.
ذكر وفاة الملك العادل وملك أولاده بعده
توفي الملك العادل أبو بكر بن أيوب سابع جمادى الآخرة من سنة خمس عشرة وستمائة؛ وقد ذكرنا ابتداء دولتهم عند ملك عمه أسد الدين شيركوه ديار مصر سنة أربع وستين وخمسمائة؛ ولما ملك أخوه صلاح الدين يوسف بن أيوب ديار مصر، بعد عمه، وسار إلى الشام استخلفه بمصر ثقة به، واعتماداً عليه، وعلماً بما هو عليه من توفر العقل وحسن السيرة.
فلما توفي أخوه صلاح الدين ملك دمشق وديار مصر، كما ذكرناه، وبقي مالكاً للبلاد إلى الآن، فلما ظهر الفرنج، كما ذكرناه سنة أربع عشرة وستمائة، قصد هو مرج الصفر، فلما سار الفرنج إلى ديار مصر انتقل هو إلى عالقين، فأقام به، ومرض، وتوفي، وحمل إلى دمشق، فدفن بالتربة التي له بها.
وكان عاقلاً، ذا رأي سديد، ومكر شديد، وخديعة، صبوراً حليماً، ذا أناة، يسمع ما يكره، ويغضي عليه حتى كأنه لم يسمعه، كثير الحرج وقت الحاجة لا يقف في شيء وإذا لم تكن حاجة فلا.
وكان عمره خمساً وسبعين سنة وشهوراً لأن مولده كان في المحرم من سنة أربعين وخمسمائة، وملك دمشق في شعبان سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة من الأفضل ابن أخيه، وملك مصر في ربيع الآخر من سنة ست وتسعين منه أيضاً.
ومن أعجب ما رأيت من منافاة الطوالع أنه لم يملك الأفضل مملكة قط إلا وأخذها منه عمه العادل، فأول ذلك أن صلاح الدين أقطع ابنه الأفضل حران، والها، وميافارقين، سنة ست وثمانين، بعد وفاة تقي الدين، فسار إليها، فلما وصل إلى حلب أرسل أبوه الملك العادل بعده، فرده من حلب، وأخذ هذه البلاد منه.
ثم ملك الأفضل بعد وفاة أبيه مدينة دمشق فأخذها منه؛ ثم ملك مصر بعد وفاة أخيه الملك العزيز فأخذها أيضاً منه، ثم ملك صرخد فأخذها منه.
وأعجب من هذا أنني رأيت بالبيت المقدس سارية من الرخام ملقاة في بيعة صهيون، ليس مثلها، فقال القس الذي بالبيعة: هذه كان قد أخذها الملك الأفضل لينقلها إلى دمشق، ثم إن العادل أخذها بعد ذلك من الأفضل؛ طلبها منه فأخذها. وهذا غاية، وهو من أعجب ما يحكى. (5/302)
وكان العادل قد قسم البلاد في حياته بني أولاده، فجعل بمصل ملك الكامل محمداً، وبدمشق، والقدس، وطبرية، والأردن والكرك وغيرها من الحصون المجاورة لها، ابنه المعظم عيسى؛ وجعل بعض ديار الجزيرة وميافارقين وخلاط وأعمالها لابنه الملك الأشرف موسى، وأعطى الرها لولده شهاب الدين غازي، وأعطى قلعة جعبر لولده الحافظ أرسلان شاه؛ فلما توفي ثبت كل منهم في المملكة التي أعطاه أبوه، واتفقوا اتفاقاً حسناً لم يجر بنيهم من الاختلاف ما جرت العادة أن يجري بين أولاد الملوك بعد آبائهم، بل كانوا كالنفس الواحدة، كل منهم يثق بالآخر بحيث يحضر عنده منفرداً من عسكره ولا يخافه، فلا جرم زاد ملكهم، ورأوا من نفاذ الأمر والحكم ما لم يره أبوهم.
ولعمري إنهم نعم الملوك، فيهم الحلم، والجهاد، والذب عن الإسلام، وفي نوبة دمياط كفاية؛ وأما الملك الأشرف فليس للمال عنده محل، بل يمطره مطراً كثيراً لعفته عن أموال الرعية، دائم الإحسان، لا يسمع سعاية ساع.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة، في ذي القعدة، رحل الملك الكامل بن العادل عن أرض دمياط، لأنه بلغه أن جماعة من الأمراء قد اجتمعوا على تمليك أخيه الفائز عوضه، فخافهم، ففارق منزلته، فانتقل الفرنج إليها، وحصروا حينئذ دمياط براً وبحراً، وتمكنوا من ذلك، وقد تقدم مستقضى سنة أربع عشرة وستمائة.
وفيها، في المحرم، توفي شرف الدين محمد بن علوان بن مهاجر، الفقيه الشافعين وكان مدرساً في عدة مدارس بالموصل، وكان صالحاً كثير الخير والدين، سليم القلب، رحمه الله.
وفيها توفي عز الدين نجاح الدين الشرابي خاص الخليفة، وأقرب الناس إليه، وكان الحاكم في دولته، كثير العدل والإحسان والمعروف والعصبية للناس؛ وأما عقله وتدبيره فإليه كانت النهاية وبه يضرب المثل.
وفيها توفي علي بن نصر بن هرون أبو الحسن الحلي، النحوي، الملقب بالحجة، قرأ على ابن الخشاب وغيره.

This site was last updated 07/28/11