Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم عزت اندراوس

سنة خمس وثمانين وخمسمائة

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
بقية سنة575 وسنة576
سنة577 وسنة578
سنة579
سنة580 وسنة581
سنة582 وسنة583
سنة584
سنة585
سنة586
سنة587
سنة588
سنة589
سنة590 وسنة591
سنة592 وسنة593
سنة594
سنة595
سنة596 وسنة597
سنة598 وسنة599
سنة600
سنة601 وسنة602
سنة603
سنة604
سنة605 وسنة606
سنة607 وسنة608 وسنة609
سنة610 وسنة611 وسنة612
سنة613 وسنة614
سنة615
سنة616 وسنة617
سنة618 وسنة619
سنة620 وسنة621
سنة621

 

الجزء التالى من كتاب: الكامل في التاريخ المؤلف: أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير (المتوفى: 630هـ) تحقيق: عمر عبد السلام تدمري الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1417هـ / 1997م عدد الأجزاء:  10

**************************************************************************************************************************

ثم دخلت سنة خمس وثمانين وخمسمائة
ذكر فتح شقيف أرنون

في هذه السنة، في ربيع الأول، سار صلاح الدين إلى شقيف أرنون، وهو من أمنع الحصون، ليحصره، فنزل بمرج عيون، فنزل صاحب الشقيف، وهو أرناط صاحب صيدا، وكان أرناط هذا من أعظم الناس دهاء ومكراً، فدخل إليه واجتمع به، وأظهر له الطاعة والمودة، وقال له: أنا محب لك، ومعترف بإحسانك، وأخاف أن يعرف المركيس ما بيني وبينك، فينال أولادي وأهلي منه أذى، فإنهم عنده، فأشتهي أن تمهلني حتى أتوصل في تخليصهم من عنده، وحينئذ أحضر أنا وهم عندك، ونسلم الحصن إليك، ونكون في خدمتك، ونقنع بما تعطينا من إقطاع؛ فظن صلاح الدين صدقه، فأجابه إلى ما سأل، فاستقر الأمر بينهما أن يسلم الشقيف في جمادى الآخرة.
وأقام صلاح الدين بمرج عيون ينتظر الميعاد، وهو قلق مفكر، لقرب انقضاء مدة الهدنة بينه وبين البيمند، صاحب أنطاكية، فأمر تقي الدين ابن أخيه أن يسير في من معه من عساكره، ومن يأتي من بلاد المشرق، ويكون مقابل أنطاكية لئلا يغير صاحبها على بلاد الإسلام عند انقضاء الهدنة.
وكان أيضاً منزعج الخاطر، كثير الهم، لما بلغه من اجتماع الفرنج بمدينة صور، وما يتصل بهم من الأمداد في البحر، وأن ملك الفرنج الذي كان قد أسره صلاح الدين وأطلقه، بعد فتح القدس، قد اصطلح هو والمركيس، بعد اختلاف كان بينهما، وأنهم قد اجتمعوا في خلق لا يحصون، فإنهم قد خرجوا من مدينة صور إلى ظاهرها؛ فكان هذا وأشباهه مما يزعجه، ويخاف من ترك الشقيف وراء ظهره والتقدم إلى صور وفيها الجموع المتوافرة فتنقطع الميرة عنه، إلا أنه مع هذه الأشياء مقيم على العهد مع أرناط صاحب الشقيف.
وكان أرناط، في مدة الهدنة، يشتري الأقوات من سوق العسكر والسلاح وغير ذلك مما يحصن به شقيفه، وكان صلاح الدين يحسن الظن، وإذا قيل له عنه مما هو فيه من المكر، وإن قصده المطاولة إلى أن يظهر الفرنج من صور، وحينئذ يبدي فضيحته، ويظهر مخالفته، لا يقبل فيه، فلما قارب انقضاء الهدنة تقدم صلاح الدين من معسكره إلى القرب من شقيف أرنون وأحضر عنده أرناط وقد بقي من الأجل ثلاثة أيام، فقال له في معنى تسليم الشقيف، فاعتذر بأولاده وأهله، وأن المركيس لم يمكنهم من المجيء إليه وطلب التأخير مدة أخرى، فحينئذ علم السلطان مكره وخداعه، فأخذه وحبسه، وأمره بتسليم الشقيف، فطلب قسيساً، ذكره، لحمله رسالة إلى من بالشقيف ليسلموه، فأحضروه عنده، فساره بما لم يعلموا، فمضى ذلك القسيس إلى الشقيف، فأظهر أهله العصيان، فسير صلاح الدين أرناط إلى دمشق وسجنه، وتقدم إلى الشقيف فحصره وضيق عليه، وجعل عليه من يحفظه ويمنع عنه الذخيرة والرجال.
ذكر وقعة اليزك مع الفرنج
لما كان صلاح الدين بمرج عيون، وعلى الشقيف، جاءته كتب من أصحابه الذين جعلهم يزكاً في مقابل الفرنج على صور، يخبرونه فيها أن الفرنج قد أجمعوا على عبور الجسر الذي لصور، وعزموا على حصار صيدا، فسار صلاح الدين جريدة في شجعان أصحابه، سوى من جعله على الشقيف، فوصل إليهم وقد فات الأمر. (5/190)
وذلك أن الفرنج قد فارقوا صور وساروا عنها لمقصدهم، فلقيهم اليزك على مضيق هناك، وقاتلوهم ومنعوهم، وجرى لهم معهم حرب شديدة يشيب لها الوليد، وأسروا من الفرنج جماعة، وقتلوا جماعة منهم سبعة رجال من فرسانهم المشهورين وجرحوا جماعة، وقتل من المسلمين أيضاً جماعة منهم مملوك لصلاح الدين كان من أشجع الناس، فحمل وحده على صف الفرنج، فاختلط بهم، وضربهم بسيفه يميناً وشمالاً، فتكاثروا عليه فقتلوه، رحمه الله؛ ثم إن الفرنج عجوزا عن الوصول إلى صيدا فعادوا إلى مكانهم.
ذكر وقعة ثانية للغزاة المتطوعة
لما وصل صلاح الدين إلى اليزك وقد فاتته تلك الوقعة أقام عندهم في خيمة صغيرة، ينتظر عودة الفرنج لينتقم منهم، ويأخذ بثأر من قتلوه من المسلمين. فركب في بعض الأيام في عدة يسيرة على أن ينظر إلى مخيم الفرنج من الجبل ليعمل بمقتضى ما يشاهده، وظن من هناك من غزاة العجم والعرب المتطوعين أنه على قصد المصاف والحرب، فساروا مجدين وأوغلوا في أرض العدو مبعدين، وفارقوا الحزم، وخلفوا السلطان وراء ظهورهم، وقاربوا الفرنج، فأرسل صلاح الدين عدة من الأمراء يردونهم ويحمونهم إلى أن يخرجوا، فلم يسمعوا ولم يقبلوا.
وكان الفرنج قد اعتقدوا أن وراءهم كميناً، فلم يقدموا عليهم، فأرسلوا من ينظر حقيقة الأمر، فاهم الخبر أنهم منقطعون عن المسلمين، وليس وراءهم ما يخاف، فحملت الفرنج عليهم حملة رجل واحد، فقاتلوهم، وفلم يلبثوا أن أناموهم، وقتل معهم جماعة من المعروفين، وشق على صلاح الدين والمسلمين ما جرى عليهم، وكان ذلك بتفريطهم في حق أنفسهم، رحمهم الله ورضي عنهم.
وكانت هذه الوقعة تاسع جمادى الأولى، فلما رأى صلاح الدين ذلك انحدر من الجبل إليهم في عسكره، فحملوا على الفرنج فألقوهم إلى الجسر وقد أخذوا طريقهم، فألقوا أنفسهم في الماء، فغرق منهم نحو مائة دارع سوى من قتل، وعزم السلطان على مصابرتهم ومحاصرتهم، فتسامع الناس، فقصدوه من كل ناحية واجتمع معه خلق كثير، فلما رأى الفرنج ذلك عادوا إلى مدينة صور، فلما عادوا إليها سار صلاح الدين إلى تبنين، ثم إلى عكا ينظر حالها، ثم عاد إلى العسكر والمخيم.
ذكر وقعة ثالثة
لما عاد صلاح الدين إلى العسكر أتاه الخبر أن الفرنج يخرجون من صور للاحتطاب والاحتشاش، متبددين، فكتب إلى من بعكا من العسكر وواعدهم يوم الاثنين ثامن جمادى الآخرة ليلاقوهم من الجانبين، ورتب كمناء في موضع من تلك الأدوية والشعاب، واختار جماعة من شجعان عسكره، وأمرهم بالتعرض للفرنج، وأمرهم أنهم إذا حمل عليهم الفرنج قاتلوهم شيئاً من قتال، ثم تطاردوا لهم، وأروهم العجز عن مقاتلتهم، فإذا تبعهم الفرنج استجروهم إلى أن يجوزوا موضع الكمين، ثم يعطفوا عليهم، ويخرج الكمين من خلفهم؛ فخرجوا على هذه العزيمة.
فلما تراءى الجمعان، والتقت الفئتان واقتتلوا، أنف فرسان المسلمين أن يظهر عنهم اسم الهزيمة، وثبتوا، فقاتلوهم، وصبر بعضهم لبعض، واشتد القتال وعظم الأمر، ودامت الحرب، وطال على الكمناء الانتظار، فخافوا على أصحابهم فخرجوا من مكامنهم نحوهم مسرعين، وإليهم قاصدين، فأتوهم وهم في شدة الحرب، فازداد الأمر شدة على شدة، وكان فيهم أربعة أمراء من ربيعة وطي، وكانوا يجهلون تلك الأرض، فلم يسلكوا مسلك أصحابهم، فسلكوا الوادي ظناً منهم أنه يخرج بهم إلى أصحابهم، وتبعهم بعض مماليك صلاح الدين، فلما رآهم الفرنج بالوادي علموا أنهم جاهلون فأتوهم وقاتلوهم.
وأما المملوك فإنه نزل عن فرسه، وجلس على صخرة، وأخذ قوسه بيده، وحمى نفسه، وجعلوا يرمونه بسهام الزنبورك وهو يرميهم فجرح منهم جماعة وجرحوه جراحات كثيرة، فسقط فأتوه وهو بآخر رمق، فتركوه وانصرفوا وهم يحسبونه ميتاً؛ ثم إن المسلمين جاؤوا من الغد إلى موضعهم، فرأوا القتلى، ورأوا المملوك حياً، فحملوه في كساء، وهو يكاد لا يعرف من كثرة الجراحات، فأيسوا من حياته، فأعرضوا عنه وعرضوا عليه الشهادة، وبشروه بالشهادة، فتركوه، ثم عادوا إليه، فرأوه وقد قويت نفسه، فأقبلوا عليه بمشروب، فعوفي، ثم كان بعد ذلك لا يحضر مشهداً إلا كان له فيه الأثر العظيم.
ذكر مسير الفرنج إلى عكا ومحاصرتها (5/191)
لما كثر جمع الفرنج بصور على ما ذكرناه من أن صلاح الدين كان كلما فتح مدينة أو قلعة أعطى أهلها الأمان، وسيرهم إليها بأموالهم ونسائهم وأولادهم، فاجتمع بها منهم عالم كثير لا يعد ولا يحصى، ومن الأموال ما لا يفنى على كثرة الإنفاق في السنين الكثيرة، ثم إن الرهبان والقسوس وخلقاً كثيراً من مشهوريهم وفرسانهم لبسوا السواد، وأظهروا الحزن على خروج البيت المقدس من أيديهم، وأخذهم البطرك الذي كان بالقدس، ودخل بهم بلاد الفرنج يطوفها بهم جميعاً، ويستنجدون أهلها، ويستجيرون بهم، ويحثونهم على الأخذ بثأر البيت المقدس، وصوروا المسيح، عليه السلام، وجعلوه مع صورة عربي يضربه، وقد جعلوا الدماء على صورة المسيح، عليه السلام، وقالوا لهم: هذا المسيح يضربه محمد نبي المسلمين وقد جرحه وقتله.
فعظم ذلك على الفرنج، فحشروا وحشدوا حتى النساء، فإنهم كان معهم على عكا عدة من النساء يبارزن الأقران، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، ومن لم يستطع الخروج استأجر من يخرج عوضه، أو يعطيهم مالاً على قدر حالهم، فاجتمع لهم من الرجال والأموال ما لا يتطرق إليه الإحصاء.
ولقد حدثني بعض المسلمين المقيمين بحصن الأكراد، وهو من أجناد أصحابه الذين سلموه إلى الفرنج قديماً، وكان هذا الرجل قد ندم على ما كان منه من موافقة الفرنج في الغارة على بلاد الإسلام، و القتال معهم، والسعي معهم، وكان سبب اجتماعي به ما أذكره سنة تسعين وخمسمائة، إن شاء اله تعالى.
قال لي هذا الرجل إنه دخل مع جماعة من الفرنج من حصن الأكراد إلى البلاد البحرية التي للفرنج والروم في أربع شوان، يستنجدون؛ قال: فانتهى بنا التطواف إلى رومية الكبرى، فخرجنا منها، وقد ملأنا الشواني نقرة.
وحدثني بعض الأسرى منهم أنه له والدة ليس لها ولد سواه، ولا يملكون من الدنيا غير بيت باعته وجهزته بثمنه، وسيرته لاستنقاذ بيت واحد فأخذ أسيراً.
وكان عند الفرنج من الباعث الديني والنفساني ما هذا حده، فخرجوا على الصعب والذلول، براً وبحراً، من كل فج عميق، ولولا أن الله تعالى لطف بالمسلمين، وأهلك ملك الألمان لما خرج على ما نذكره عند خروجه إلى الشام ، وإلا كان يقال: إن الشام ومصر كانتا للمسلمين.
فهذا كان سبب خروجهم، فلما اجتمعوا بصور تموج بعضهم في بعض، ومعهم الأموال العظيمة، والبحر بمدهم بالأقوات والذخائر، والعدد والرجال، من بلادهم، فضاقت عليهم صور، باطنها وظاهرها، فأرادوا قصد صيدا، وكان ما ذكرناه، فعادوا واتفقوا على قصد عكا ومحاصرتها ومصابرتها، فساروا إليها بفارسهم وراجلهم، وقضهم وقضيضهم، ولزموا البحر في مسيرهم لا يفارقونه في السهل والوعر، والضيق السعة، ومراكبهم تسير مقابلة في البحر، فيها سلاحهم وذخائرهم، ولتكون عدة لهم، إن جاءهم ما لا قبل لهم به ركبوا فيها وعادوا؛ وكان رحيلهم ثامن رجب، ونزولهم على عكا في منتصفه، ولما كانوا سائرين كان يزك المسلمين يتخطفونهم، ويأخذون المنفرد منهم.
ولما رحلوا جاء الخبر إلى صلاح الدين برحيلهم، فسار حتى قاربهم، ثم جمع أمراءه واستشارهم: هل يكون المسير محاذاة الفرنج ومقاتلتهم وهم سائرون، أو يكون في غير الطريق التي سلكوها؟ فقالوا: لا حاجة بنا إلى احتمال المشقة في مسايرتهم، فإن الطريق وعر وضيق ولا يتهيأ لنا ما نريده منهم، والرأي أننا نسير في الطريق المهيع، ونجتمع عليهم عند عكا، فتفرقهم ونمزقهم.
فعلم ميلهم إلى الراحة المعجمة، فوافقهم، وكان رأيه مسايرتهم ومقاتلتهم وهم سائرون، وقال: إن الفرنج إذا نزلوا لصقوا بالأرض، فلا يتهيأ لنا إزعاجهم، ولا نيل الغرض منهم، والرأي قتالهم قبل الوصول إلى عكا؛ فاخالفوه، فتبعهم، وساروا على طريق كفر كنا، فسبقهم الفرنج، وكان صلا الدين قدج جعل في مقابل الفرنج جماعة من الأمراء يسايرونهم، ويناوشونهم القتال، ويتخطفونهم، ولم يقدم الفرنج عليهم مع قتلهم، فلو أن العساكر اتبعت رأي صلاح الدين في مسايرتهم ومقاتلتهم قبل نزولهم على عكا، لكان بلغ غرضه وصدهم عنها، ولكن إذا أراد الله أمراً هيأ أسبابه. (5/192)
ولما وصل صلاح الدين إلى عكا رأى الفرنج قد نزلوا عليها من البحر إلى البحر، من الجانب الآخر، ولم يبق للمسلمين إليها طريق، فنزل صلاح الدين عليهم، وضرب خيمته على تل كيسان، وامتدت ميمنته إلى تل الغياظية، وميسرته إلى النهر الجاري، ونزلت الأثقال بصفورية، وسير الكتب إلى الأطراف باستدعاء العساكر، فأتاه عسكر الموصل، وديار بكر، وسنجار وغيرها من بالد الجزيرة، وأتاه تقي الدين ابن أخيه، وأتاه مظفر الدين بن زين الدين، وهو صاحب حران والرها.
وكانت الأمداد تأتي المسلمين في البر وتأتي الفرنج في البحر، وكان بين الفريقين مدة مقامهم على عكا حروب كثيرة ما بين صغيرة وكبيرة، منها اليوم المشهور ومنها ما هو دون ذلك، وأنا أذكر الأيام الكبار لئلا يطول ذلك، ولأن ما عداها كان قتالاً يسيراً من بعضهم مع بعض، فلا حاجة إلى ذكره.
ولما نزل السلطان عليهم لم يقدر على الوصول إليهم، ولا إلى عكا حروب كثيرة ما بين صغيرة وكبيرة، منها اليوم المشهور ومنها ما هو دون ذلك. وأنا أذكر الأيام الكبار لئلا يطول ذلك، ولأن ما عداها كان قتالاً يسيراً من بعضهم مع بعض، فلا حاجدة إلى ذكره.
ولما نزل السلطان عليهم لم يقدر على الوصول إليهم، ولا إلى عكا، حتى انسلخ رجل، قم قاتلهم مستهل شعبان، فلم ينل منهم ما يريد، وبات الناس على تعبئة، فلما كان الغد باكرهم القتال بحده وحديده، واستدار عليهم من سائر جهاتهم من بكرة إلى الظهر، وصبر الفريقان صبراً حار له من رآه.
فلما كان وقت الظهر حمل عليهم تقي الدين حملة منكرة من الميمنة على من يليه منهم، فأزاحهم عن مواقفهم يركب بعضهم لا يلوي أخ على أخ، والتجأوا إلى من يليهم من أصحابهم، واجتمعوا بهم واحتموا بهم، وأخلوا نصف البلد، وملك تقي الدين مكانهم، والتصق بالبلد، وصار ما أخلوه بيده، ودخل المسلمون البلد، وخرجوا منه، واتصلت الطرق، وزال الحصر عمن فيه، وأدخل صلاح الدين إليه من أراد من الرجال، وما أراد من الذخائر والأموال والسلاح وغير ذلك، ولو أن المسلمين لزموا قتالهم إلى الليل لبلغوا ما أرادوه، فإن للصدمة الأولى روعة، لكنهم لما نالوا منهم هذا القدر أخلدوا إلى الراحة، وتركوا القتال وقالوا: نباكرهم غداً، ونقطع دابرهم.
وكان في جملة من أدخله صلاح الدين إلى عكا من جملة الأمراء حسام الدين أبو الهيجاء السمين، وهو من أكابر أمراء عسكره، وهو من الأكراد الحكيمة من بلد إربل. وقتل من الفرنج هذا اليوم جماعة كبيرة.
ذكر وقعة أخرى ووقعة العرب
ثم إن المسلمين نهضوا إلى الفرنج من الغد وهو سادس شعبان عازمين على بذل جهدهم، واستنفاد وسعهم في اسئصالهم فتقدموا على تعبئتهم، فرأوا الفرنج حذرين محتاطين، قد ندموا على ما فرطوا فيه بالأمس، وهم قد حفظوا أطرافهم ونواحيهم، وشرعوا في حفر خندق يمنع من الوصول إليهم، فألح المسلمون عليهم في القتال، فلم يتقدم الفرنج إليهم، ولا فارقوا مرابضهم؛ فلما رأى المسلمون ذلك عادوا عنهم.
ثم إن جماعة من العرب بلغهم أن الفرنج تخرج من الناحية الأخرى إلى الاحتطاب وغيره من أشغالهم، فكمنوا لهم في معاطف النهر ونواحيه سادس عشر شعبان، فلما خرج جمع من الفرنج على عادتهم حملت عليهم العرب، فقتلوهم عن آخرهم، وغنموا ما كان معهم، وحملوا الرؤوس إلى صلاح الدين، فأحسن إليهم، وأعطاهم الخلع.
ذكر الوقعة الكبرى على عكا
لما كان بعد هذه الوقعة المذكورة بقي المسلمون إلى العشرين من شعبان، كل يوم يغادرون القتال مع الفرنج ويرواحونه، والفرنج لا يظهرون من معسكرهم ولا يفارقونه، ثم إن الفرنج اجتمعوا للمشورة، فقالوا: إن عسكر مصر لم يحضر والحال مع صلاح الدين هكذا، فكيف يكون إذا حضر، والرأي أننا نلقي المسلمين غداً لعلنا نظفر بم قبل اجتماع العساكر والأمداد إليهم.
وكان كثير من عسكر صلاح الدين غائباً عنه، بعضها مقابل أنطاكية ليردوا عادية بيمند صاحبها عن أعمال حلب، وبعضها في حمص مقابل طرابلس لتحفظ ذلك الثغر أيضاً، وعسكر في مقابل صور لحماية ذلك البلد، وعسكر بمصر يكون بثغر دمياط والإسكندرية وغيرهما، والذي بقي من عسكر مصر كانوا لم يصلوا لطول بيكارهم، كما ذكرناه قبل، وكان هذا مما أطمع الفرنج في الظهور إلى قتال المسلمين. (5/193)
وأصبح المسلمون على عادتهم، منم من يتقدم إلى القتال، ومنهم من هو في خيمته، ومنهم من قد توجه في حاجته من زيارة صديق وتحصيل ما يحتاج إليه هو وأصحابه ودوابه، إلى غير ذلك، فخرج الفرنج من معسكرهم كأنهم الجراد المنتشر، يدبون على وجه الأرض، قد ملأوها طولاً وعرضاً، وطلبوا ميمنة المسلمين وعليها تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين، فلما رأى الفرنج نحوه قاصدين حذر هو وأصحابه، فتقدموا إليه، فلما قربوا منه تأخر عنهم.
فلما رأى صلاح الدين الحال، وهو في القلب، أمد تقي الدين برجال من عنده ليتقوى بهم، وكان عسكر ديار بكر وبعض الشرقيين في جناح القلب، فلما رأى الفرنج قلة الرجال في القلب، وأن كثيراً منهم قد سار نحو الميمنة مدداً لهم، عطفوا على القلب، فحملوا حملة رجل واحد، فاندفعت العساكر بين أيديهم منهزمين، وثبت بعضهم، فاستشهد جماعة منهم كالأمير مجلى بن مروان والظهير أخي الفقيه عيس، وكان والي بعضهم، فاستشهد جماعة منهم كالأمير مجلى بن مروان والظهير أخي الفقيه عيسى، وكان والي البيت المقدس قد جمع بين الشجاعة والعلم والدين، وكالحاجب خليل الهكاري وغيرهم من الشجعان الصابرين في مواطن الحرب، ولم يبق بين أيديهم في القلب من يردهم، فقصدوا التل الذي عليه خيمة صلاح الدين، فقتلوا من مروا به، ونهبوا، وقتلوا عند خيمة صلاح الدين جماعة، منهم شيخنا جمال الدين أبو علي بن رواحة الحموي، وهو من أهل العلم، وله شعر حسن، وما ورث الشهادة من بعيد، فإن جده عبد الله بن رواحة، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتله الروم يوم مؤتة، وهذا قتله الفرنج يوم عكا، وقتلوا غيره، وانحدروا إلى الجانب الآخر من التل، فوضعوا السيف فيمن لقوه، وكان من لطف الله تعالى بالمسلمين أن الفرنج لم يلقوا خيمة صلاح الدين، ولو لقوها لعلم الناس وصولهم إليها، وانهزام العساكر بين أيديهم، فكانوا انهزموا أجمعون.
ثم إن الفرنج نظروا وراءهم، فرأوا أمدادهم قد انقطعت عنهم، فرجعوا خوفاً أن ينقطعوا عن أصحابهم، وكان سبب انقطاعهم أن الميمنة وقفت مقابلتهم، فاحتاج بعضهم أن يقف مقابلها، وحملت ميسرة المسلمين على الفرنج، فاشتغل المدد بقتال من بها عن الاتصال بأصحابهم، وعادوا إلى طرف خنادقهم، فحملت الميسرة على الفرنج، الواصلين إلى خيمة صلاح الدين، فصادفوهم وهم راجعون، فقاتلوهم، وثار بهم غلمان العسكر.
وكان صلاح الدين لما انهزم القلب قد تبعهم يناديهم، ويأمرهم بالكرة، ومعاودة القتال، فاجتمع معه منهم جماعة صالحة، فحمل بهم على الفرنج من وراء ظهورهم وهم مشغولين بقتال الميسرة، فأخذتهم سيوف الله من كل جانب، فلم يفلت منهم أحد، بل قتل أكثرهم، وأخذ الباقون أسرى، وفي جملة من أسر مقدم الداوية الذي كان قد أسره صلاح الدين وأطلقه، فلما ظفر به الآن قتله.
وكانت عدة القتلى، سوى من كان إلى جانب البحر، نحو عشرة آلاف قتيل، فأمر بهم، فألقوا في النهر الذي يشرب الفرنج منه؛ وكان عامة القتلى من فرسان الفرنج، فإن الرجالة لم يلحقوهم، وكان في جملة الأِسرى ثلاث نسوة فرنجيات كن يقاتلن على الخيل، فلما أسرن، وألقي عنهن السلاح عرفن أنهن نساء.
وأما المنهزمون من المسلمين، فمنهم من رجع من طبرية، ومنهم من جاز الأردن وعاد، ومنهم من بلغ دمشق، ولولا أن العساكر تفرقت في الهزيمة لكانوا بلغوا من الفرنج من الاستئصال، والإهلاك، مرادهم، على أن الباقين بذلوا جهدهم، وجدوا في القتال وصمموا على الدخول مع الفرنج إلى معسكرهم لعلهم يفزعون منهم، فجاءهم الصريخ بأن رحالهم وأموالهم قد نهبت، وكان سبب هذا النهب أن الناس لما رأوا الهزيمة حملوا أثقالهم على الدواب، فثار بهم أوباش العسكر وغلمانه، فنهبوه وأتوا عليه، وكان في عزم صلاح الدين أن يباكرهم القتال والزحف، فرأى اشتغال الناس بما ذهب من أموالهم، وهم يسعون في جمعها وتحصيلها، فأمر بالنداء بإحضار ما أخذ، فأحضر منه ما ملأ الأرض من المفارش، والعيب المملوءة والثياب والسلاح وغير ذلك، فرد الجميع على أصحابه، ففاته ذلك اليوم ما أراد، فسكن روع الفرنج، وأصلحوا شأن الباقين منهم.
ذكر رحيل صلاح الدين عن الفرنج
وتمكنهم من حصر عكا
(5/194)
لما قتل من الفرنج ذلك العدد الكثير، جافت الأرض من نتن ريحهم، وفسد الهواء والجو، وحدث للأمزجة فساد، وانحرف مزاج صلاح الدين، وحدث له قولنج مبرح كان يعتاده، فحضر عنده الأمراء، وأشاروا عليه بالانتقال من ذلك الموضع، وترك مضايقة الفرنج، وحسنوه له، وقالوا: قد ضيقنا على الفرنج، ولو أرادوا الانفصال عن مكانهم لم يقدروا، والرأي أننا نبعد عنهم بحيث يتمكنون من الرحيل والعود، فإن رحلوا، وهو ظاهر الأمر، فقد كفينا شرهم وكفوا شرنا، وإن أقاموا عاودنا القتال ورجعنا معهم إلى ما نحن فيه، ثم إن مزاجك منحرف، والألم شديد، ولو وقع إرجاف لهلك الناس، والرأي على كل تقدير البعد عنهم.
ووافقهم الأطباء على ذلك، فأجابهم إليه إلى ما يريد الله يفعله: (وإذا أراد الله بقوم سواء فلا مرد له وما لهم من دونه من والٍ) الرعد 11، فرحلوا إلى الخروبة رابع شهر رمضان وأمر من بعكا من المسلمين بحفظها، وإغلاق أبوابها، والاحتياط، وأعلمهم بسبب رحيله.
فلما رحل هو وعساكره أمن الفرنج وانبسطوا في تلك الأرض، وعادوا فحصروا عكا، وأحاطوا بها من البحر إلى البحر، ومراكبهم أيضاً في البحر تحصرها، وشرعوا في حفر الخندق، وعمل السور من التراب الذي يخرجونه من الخندق، وجاؤوا بما لم يكن في الحساب؛ وكان اليزك كل يوم يوافقهم، وهم لا يقاتلون، ولا يتحركون، إنما هم مهتمون بعمل الخندق والسور عليهم ليتحصنوا به من صلاح الدين، إن عاد إلى قتالهم، فحينئذ ظهر رأي المشيرين بالرحيل.
وكان اليزك كل يوم يخبرون صلاح الدين بما يصنع الفرنج، ويعظمون الأمر عليه، وهو مشغول بالمرض، لا يقدر على النهوض للحرب، وأشار عليه بعضهم بأن يرسل العساكر جميعها إليهم ليمنعهم من الخندق والسور، ويقاتلوهم، ويتخلف هو عنهم، فقال: إذا لم أحضر معهم لا يفعلون شيئاً، وربما كان من الشر أضعاف ما نرجوه من الخير؛ فتأخر الأمر إلى أن عوفي، فتمكن الفرنج وعملوا ما أرادوا، وأحكموا أمورهم، وحصنوا نفوسهم بما وجدوا إليه السبيل، وكان من بعكا يخرجون إليهم كل يوم، ويقاتلونهم، وينالون منهم بظاهر البلد.
ذكر وصول عسكر مصر والأسطول المصري في البحر
في منتصف شوال وصلت العساكر المصرية، ومقدمها الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب، فلما وصل قويت نفوس الناس به وبمن معه، واشتدت ظهورهم، وأحضر معه من آلات الحصار، من الدرق والطارقيات والنشاب والأقواس، شيئاً كثيراً، ومعهم من الرجالة الجم الغفير، وجمع صلاح الدين من البلاد الشامية راجلاً كثيراً، وهو على عزم الزحف إليهم بالفارس والراجل.
ووصل بعده الأسطول المصري، ومقدمه الأمير لؤلؤ، وكان شهماً، شجاعاً، مقداماً، خبيراً بالبحر والقتال فيه، ميمون النقيبة، فوصل بغتة، فوقع على بطسة كبيرة للفرنج، فغنمها، وأخذ منها أموالاً كثيرة وميرة عظيمة، فأدخلها إلى عكا، فسكنت نفوس من بها بوصول الأسطول وقوي جنانهم.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة، في صفر، خطب لولي العهد أبي نصر محمد بن الخليفة الناصر لدين الله ببغداد، ونثرت الدنانير والدراهم، وأرسل إلى البلاد في إقامة الخطبة، ففعل ذلك.
وفيها، في شوال، ملك الخليفة تكريت، وسب ذلك أن صاحبها، وهو الأمير عيسى، قتله إخوته، وملكوا القلعة بعده، فسير الخليفة إليهم عسكراً فحصروها وتسلموها، ودخل أصحابه إلى بغداد فأعطوا أقطاعاً.
وفيها، في صفر، فتح الرباط الذي بناه الخليفة بالجانب الغربي من بغداد، وحضر الخلق العظيم، فكان يوماً مشهوداً.
وفي هذه السنة، في رمضان، مات شرف الدين أبو سعد عبد الله بن محمد ابن هبة الله بن أبي عصرون، الفقيه الشافعي بدمشق، وكان قاضيها، وأضر، وولي القضاء بعده ابنه، وكان الشيخ من أعيان الفقهاء الشافعية.
وفيها، في ذي القعدة، توفي الفقيه ضياء الدين عيسى الهكاري بالخروبة مع صلاح الدين، وهو من أعيان أمراء عسكره، ومن قدماء الأسدية، وكان فقيهاً، جندياً، شجاعاً، كريماً، ذا عصبية ومروءة، وهو من أصحاب الشيخ الإمام أبي القاسم بن البرزي، تفقه عليه بجزيرة ابن عمر، ثم اتصل بأسد الدين شيركوه فصار إماماً له، فرأى من شجاعته ما جعل له أقطاعاً، وتقدم عند صلاح الدين تقدماً عظيماً. (5/195)
وفيها، في صفر توفي شيخنا أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن وهبان، المعروف بابن أفضل الزمان، بمكة، وكان رحمه الله عالماً متبحراً في علوم كثيرة، خلاف فقه مذهبه والأصولين، والحساب والفرائض، والنجوم، والهيئة، والمنطق، وغير ذلك، وختم أعماله بالزهد، ولبس الخشن، وأقام بمكة، حرسها الله تعالى، مجاوراً، فتوفي بها، وكان من أحسن الناس صحبة وخلقاً.
وفيها، في ذي القعدة، مات أبو طالب المبارك بن المبارك بن المبارك الكرخي مدرس النظامية، وكان من أصحاب أبي الحسن بن الخل، وكان صالحاً خيراً له عند الخليفة والعامة حرمة عظيمة، وجاه عريض، وكان حسن الخط يضرب به المثل.

This site was last updated 07/28/11