Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم عزت اندراوس

 سنة ستمائة

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
بقية سنة575 وسنة576
سنة577 وسنة578
سنة579
سنة580 وسنة581
سنة582 وسنة583
سنة584
سنة585
سنة586
سنة587
سنة588
سنة589
سنة590 وسنة591
سنة592 وسنة593
سنة594
سنة595
سنة596 وسنة597
سنة598 وسنة599
سنة600
سنة601 وسنة602
سنة603
سنة604
سنة605 وسنة606
سنة607 وسنة608 وسنة609
سنة610 وسنة611 وسنة612
سنة613 وسنة614
سنة615
سنة616 وسنة617
سنة618 وسنة619
سنة620 وسنة621
سنة621

 

الجزء التالى من كتاب: الكامل في التاريخ المؤلف: أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير (المتوفى: 630هـ) تحقيق: عمر عبد السلام تدمري الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1417هـ / 1997م عدد الأجزاء:  10

**************************************************************************************************************************

ثم دخلت سنة ستمائة
ذكر حصار خوارزم شاه هراة ثانية

في هذه السنة، أول رجب، وصل خوارزم شاه محمد إلى مدينة هراة، فحصرها، وبها ألب غازي ابن أخت شهاب الدين الغوري ملك غزنة، بعد مراسلات جرت بينه وبين شهاب الدين في الصلح، فلم يتم. وكان شهاب الدين قد سار عن غزنة إلى لهاوور عازماً على غزو الهند، فأقام خوارزم شاه على حصار هراة إلى سلخ شعبان.
وكان القتال دائماً، والقتل بين الفريقين كثيراً، وممن قتل رئيس خراسان، وكان كير القدر يقيم بمشهد طوس؛ وكان الحسين بن خرميل بكرزيان، وهي إقطاعة، فأرسل إلى خوارزم شاه يقول له: أرسل إلي عسكراً لنسلم إليهم الفيلة وخزانة شهاب الدين؛ فأرسل إليه ألف فارس من أعيان عسكره إلى كرزيان، فخرج عليه هو والحسين بن محمد المرغني، فقتلوهم إلا القليل، فبلغ الخبر إلى خوارزم شاه، فسقط في يده وندم على إنفاذ العسكر، وأرسل إلى ألب غازي يطلب منه أن يخرج إليه من البلد ويخدمه خدمة سلطانية ليرحل عنه، فلم يجبه إلى ذلك، فاتفق أن ألب غازي مرض واشتد مرضه، فخاف أن يشتغل بمرضه فيملك خوارزم شاه البلد، فأجاب إلى ما طلب منه، واستحلفه على الصلح، وأهدى له هدية جليلة، وخرج من البلد ليخدمه، فسقط إلى الأرض ميتاً، ولم يشعر أحد بذلك، وارتحل خوارزم شاه عن البلد وأحرق المجانيق وسار إلى سرخس فأقام بها.
ذكر عود شهاب الدين من الهند وحصره خوارزم وانهزامه من الخطا
في هذه السنة، في رمضان، عاد شهاب الدين الغوري إلى خراسان من قصد الهند، وسبب ذلك أنه بلغه حصر خوارزم شاه هراة، وموت ألب غازي نائبه بها، فعاد حنقاً على خوارزم شاه، فلما بلغ ميمند عدل على طريق أخرى قاصداً إلى خوارزم، فأرسل إليه خوارزم شاه يقول له: ارجع إلي لأحاربك، وإلا سرت إلى هراة، ومنها إلى غزنة. (5/245)
وكان خوارزم شاه قد سار من سرخس إلى مرو، فأقام بظاهرها، فأعاد إليه شهاب الدين جوابه: لعلك تنهزم كما فعلت تلك الدفعة، لكن خوارزم تجمعنا؛ ففرق خوارزم شاه عساكره، وأحرق ما جمعه من العلف، ورحل يسابق شهاب الدين إلى خوارزم، فسبقه إليها، فقطع الطريق، وأجرى المياه فيها، فتعذر على شهاب الدين سلوكها، وأقام أربعين يوماً يصلحها حتى أمكنه الوصول إلى خوارزم، والتقى العسكران بسوقرا، ومعناه الماء الأسود، فجرى بينهم قتال شديد كثير القتلى فيه بين الفريقين، وممن قتل من الغورية الحسني المرغني وغيره، وأسر جماعة من الخوارزمية، فأمر شهاب الدين بقتلهم فقتلوا.
وأرسل خوارزم شاه إلى الأتراك الخطا يستنجدهم، وهم حينئذ أصحاب ما وراء النهر، فاستعدوا، وساروا إلى بلاد الغورية، فلما بلغ شهاب الدين ذلك عاد من خوارزم، فلقي أوائلهم في صحراء أندخوي أول صفر سنة إحدى وستمائة، فقتل فيهم وأسر كثيراً، فلما كان اليوم الثاني دهمه من الخطا ما لا طاقة له بهمم، فانهزم المسلمون هزيمة قبيحة، وكان أول من انهزم الحسين بن خرميل صاب طالقان وتبعه الناس وبقي شهاب الدين في نفر يسير، وقتل بيده أربعة أفيال لأنها أعيت، وأخذ الكفار فيلين، ودخل شهاب الدين أندخوي فيمن معه، وحصره الكفار، ثم صالحوه على أن يعطيهم فيلاً آخر، ففعل، وخلص.
ووقع الخبر في جميع بلاده بأنه قد عدم، وكثرت الأراجيف بذلك، ثم وصل إلى الطالقان في سبعة نفر، وقد قتل أكثر عسكره، ونهبت خزائنه جميعها، فلم يبق منها شيء، فأخرج له الحسين بن خرميل، صاحب الطالقان، خياماً وجميع ما يحتاج إليه، وسار إلى غزنة، وأخذ معه الحسين بن خرميل، لأنه قيل له عنه إنه شديد الخوف لانهزامه، وإنه قال: إذا سار السلطان هربت إلى خوارزم شاه؛ فأخذه معه، وجعله أمير حاجب.
ولما وقع الخبر بقتله جمع تاج الدين الدز، وهو مملوك اشتراه شهاب الدين، أصحابه وقصد قلعة غزنة ليصعد إليها، فمنعه مستحفظها، فعاد إلى داره فأقام بها، وأفسد الخلج وسائر المفسدين في البلاد، وقطعوا الطرق، وقتلوا كثيراً، فلما عاد شهاب الدين إلى غزنة بلغه ما فعله الدز، فأراد قتله، فشفع فيه سائر المماليك، فأطلقه، ثم اعتذر، وسار شهاب الدين في البلاد، فقتل من المفسدين من تلك الأمم نفراً كثيراً.
وكان له أيضاً مملوك آخر اسمه أيبك بال تر، فسلم من المعركة، ولحق بالهند، ودخل المولتان، وقتل نائب السلطان بها، وملك البلد، وأخذ الأموال السلطانية، وأساء السيرة في الرعية، وأخذ أموالهم، وقال: قتل السلطان، وأنا السلطان؛ وكان يحمله على ذلك، ويحسنه له إنسان اسمه عمر ابن يزان، وكان زنديقاً، ففعل ما أمره، وجمع المفسدين، وأخذ الأموال، فأخاف الطريق، فبلغ خبره إلى شهاب الدين فسار إلى الهند، وأرسل إليه عسكراً، فأخذوه ومعه عمر بن يزان فقتلهما أقبح قتلة، وقتل من وافقهما، في جمادى الآخرة من سنة إحدى وستمائة؛ ولما رآهم قتلى قرأ: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا) الآية المائدة: 33، وأمر شاب الدين فنودي في جميع بلاده بالتجهز لقتال الخطا وعزوهم والأخذ بثأرهم. (5/246)
وقيل: كان سبب انهزامه أنه لما عاد إلى الخطا من خوارزم فرق عسكره في المفازة التي في طريقه لقلة الماء، وكان الخطا قد نزلوا على طريق المفازة، فكلما خرج من أصحابه طائفة فتكوا فيهم بالقتل والأسر، ومن سلم من عسكره انهزم نحو البلاد، ولم يرجع إليه أحد يعلم الحال، وجاء شهاب الدين في ساقة العسكر في عشرين ألف فارس ولم يعلم الحال، فلما خرج من البرية لقيه الخطا مستريحين، وهو ومن معه قد تعبوا وأعيوا، وكان الخطا أضعاف أصحابه، فقاتلهم عامة نهاره، وحمى نفسه منهم، وحصروه في أندخوي، فجرى بينهم في عدة أيام أربعة عشر مصافاً منها مصاف واحد كان من العصر إلى الغد بكرة، ثم إنه بعد ذلك سير طائفة من عسكره ليلاً سراً، وأمرهم أن يرجعوا إليه بكرة كأنهم قد أتوه مدداً من بلاده، فلما فعلوا ذلك خافه الخطا، وقال لهم صاحب سمرقند، وكان مسلماً، وهو في طاعة الخطا، وقد خاف على الإسلام والمسلمين إن هم ظفروا بشهاب الدين، فقال لهم: إن هذا الرجل لا تجدونه قط أضعف منه لما خرج من المفازة، ومع ضعفه وتعبه وقلة من معه لم نظفر به، والأمداد أتته، وكأنكم بعساكره وقد أقبلت من كل طريق، وحينئذ نطلب الخلاص منه فلا نقدر عليه، والرأي لنا الصلح معه، فأجابوا إلى ذلك، فأرسلوا إليه في الصلح.
وكان صاحب سمرقند قد أرسل إليه وعرفه الحال سراً، وأمره بإظهار الامتناع من الصلح أولاً والإجابة إليه أخيراً؛ فلما أتته الرسل امتنع، وأظهر القوة بانتظار الأمداد، وطال الكلام، فاصطلحوا على أن الخطا لا يعبرون النهر إلى بلاده، ولا هو يعبره إلى بلادهم، ورجعوا عنه، وخلص هو وعاد إلى بلاده، والباقي نحو ما تقدم.
ذكر قتل طائفة من الإسماعيلية بخراسان
في هذه السنة وصل رسول إلى شهاب الدين الغوري من عند مقدم الإسماعيلية بخراسان برسالة أنكرها، فأمر علاء الدين محمد بن أبي علي متولي بلاد الغور بالمسير في عساكر إليهم ومحاصرة بلادهم، فسار في عساكر كثيرة إلى قهستان، وسمع به صاحب زوزن، فقصده وصار معه وفارق خدمة خوارزم شاه، ونزل علاء الدين على مدينة قاين، وهي للإسماعيلية، وحصرها، وضيق على أهلها، ووصل خبر قتل شهاب الدين، على ما نذكره، فصالح أهلها على ستين ألف دينار ركنية، ورحل عنهم، وقصد حصن كاخك فأخذه وقتل المقاتلة، وسبى الذرية، ورحل إلى هراة ومنها إلى فيروزكوه.
ذكر ملك القسطنطينية من الروم
في هذه السنة، في شعبان ملك الفرنج مدينة القسطنطينية من الروم، وأزالوا ملك الروم عنها، وكان سبب ذلك أن ملك الروم بها تزوج أخت ملك إفرنسيس، وهو من أكبر ملوك الفرنج، فرزق منها ولداً ذكراً، ثم وثب على الملك أخ له، فقبض عيه، وملك البلد منه، وسمل عينيه، وسجنه، فهرب ولده ومضى إلى خاله مستنصراً به عل عمه. فاتفق ذلك وقد اجتمع كثير من الفرنج ليخرجوا إلى بلاد الشام لاستنقاذ البيت المقدس من المسلمين، فأخذوا ولد الملك معهم، وجعلوا طريقهم على القسطنطينية قصداً لإصلاح الحال بينه وبين عمه، ولم يكن له طمع في سوى ذلك، فلما وصلوا خرج عمه في عساكر الروم محارباً لهم، فوقع القتال بينهم في رجب سنة تسع وتسعين وخمسمائة، فانهزمت الروم، ودخلوا البلد، فدخله الفرنج معهم، فهرب ملك الروم إلى أطراف البلاد، وقيل إن ملك الروم لم يقاتل الفرنج بظاهر البلد، وإنما حصروه فيها. (5/247)
وكان بالقسطنطينية من الروم من يريد الصبي، فألقوا النار في البلد، فاشتغل الناس بذلك، ففتحوا باباً من أبواب المدينة، فدخلها الفرنج، وخرج ملكها هارباً، وجعل الفرنج الملك في ذلك الصبي، وليس له من الحكم شي، وأخرجوا أباه من السجن، إنما الفرنج هم الحكام في البلد، فثقلوا الوطأة على أهله، وطلبوا منهم أموالاً عجزوا عنها، وأخذوا أموال البيع وما فيها من ذهب ونقرة وغير ذلك حتى ما على الصلبان، وما هو عل صورة المسيح، عليه السلام، والحواريين، وما على الأناجيل من ذلك أيضاً، فعظم ذلك على الروم، وحملوا منه خطباً عظيماً، فعمدوا إلى ذلك الصبي الملك فقتلوه، وأخرجوا الفرنج من البلد، وأغلقوا الأبواب، وكان ذلك في جمادى الأولى سنة ستمائة، فأقام الفرنج بظاهره محاصرين للروم، وقاتلوهم، ولازموا قتالهم ليلاً ونهاراً، وكان الروم قد ضعفوا ضعفاً كثيراً، فأرسلوا إلى السلطان ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان، صاحب قونية وغيرها من البلاد، يستنجدونه، فلم يجد إلى ذلك سبيلاً.
وكان بالمدينة كثير من الفرنج، مقيمين، يقاربون ثلاثين ألفاً، ولعظم البلد لا يظهر أمرهم، فتواضعوا هم والفرنج الذين بظاهر البلد، ووثبوا فيه، وألقوا النار مرة ثانية، فاحترق نحو ربع البلد، وفتحوا الأبواب فدخلوها ووضعوا السيف ثلاثة أيام، وفتكوا بالروم قتلاً ونهباً، فأصبح الروم كلهم ما بين قتيل أو فقير لا يملك شيئاً، ودخل جماعة من أعيان الروم الكنيسة العظمة التي تدعى صوفيا، فجاء الفرنج إليها، فخرج إليهم جماعة من القسيسين والأساقفة والرهبان، بأيديهم الإنجيل والصليب يتوسلون بهما إلى الفرنج ليبقوا عليهم، فلم يلتفتوا إليهم، وقتلوهم أجمعين ونهبوا الكنيسة.
وكانوا ثلاثة ملوك: دوقس البنادقة، وهو صاحب المراكب البحرية، وفي مراكبه ركبوا إلى القسطنطينية، وهو شيخ أعمى، إذا ركب تقاد فرسه؛ والأخر يقال له المركيس، وهو مقدم الإفرنسيس، والآخر يقال له كند أفلند، وهو أكثرهم عدداً، فلما استولوا على القسطنطينية اقترعوا على الملك، فخرجت القرعة على كند أفلند، فأعادوا القرعة ثانية وثالثة، فخرجت ليه، فملكوه، والله يؤتي ملكه من يشاء، وينزعه ممن يشاء، فلما خرجت القرعة عليه ملكوه عليها وعلى ما يجاورها، وتكون لدوقس البنادقة الجزائر البحرية مثل جزيرة إقريطش وجزيرة رودس وغيرهما، ويكون لمركيس الإفرنسيس البلاد التي هي شرقي الخليج مثل أزنيق ولاذيق، فلم يحصل لأحد منهم شيء غير الذي أخذ القسطنطينية، وأما الباقي فلم يسلم من به من الروم، وأما البلاد التي كانت لملك القسطنطينية، شرقي الخليج، المجاورة لبلاد ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان، ومن جملتها أزنيق ولاذيق، فإنها تغلب عليها بطريق كبير من بطارقة الروم، اسمه لشكري، وهي بيده إلى الآن.
ذكر انهزام نور الدين صاحب الموصل من العساكر العادلية
في هذه السنة، في العشرين من شوال، انهزم نور الدين أرسلان شاه، صاحب الموصل، من العساكر العادلية، وسبب ذلك أن نور الدين كان بينه وبين عمه قطب الدين محمد بن زنكي، صاحب سنجار، وحشة مستحكمة أولاً ثم اتفقا، وسار معه إلى ميافارقين سنة خمس وتسعين، وقد ذكرناه، فلما كان الآن أرسل الملك العادل أبو بكر بن أيوب، صاحب مصر ودمشق وبلاد الجزيرة، إلى قطب الدين، واستماله، فمال إليه، وخطب له، فلما سمع نور الدين ذلك سار إلى مدينة نصيبين، وسلخ شعبان، وهي لقطب الدين، فحصرها، وملك المدينة، وبقيت القلعة فحصرها عدة أيام، فبينما هو يحاصرها وقد أشرف على أن يتسلمها أتاه الخبر أن مظفر الدين دوكبري بن زين الدين علي، صاحب إربل، قد قصد أعمال الموصل، فنهب نينوى، وأحرق غلاتها، فلما بلغه ذلك من نائبه المراتب بالموصل يحفظها، سار عن نصيبين إلى الموصل على عزم العبور إلى بلد إربل ونهبه جزاء بما فعل صاحبها ببلده، فوصل إلى مدينة بلد، وعاد مظفر الدين إلى بلده، وتحقق نور الدين أن الذي قيل له وقع فيه زيادة، فسار إلى تل أعفر من بلد وحصرها، وأخذها ورتب أمورها، وأقام عليها سبعة عشر يوماً. (5/248)
وكان الملك الأشرف موسى ابن الملك العادل بن أيوب قد سار من مدينة حران إلى رأس عين نجدة لقطب الدين، صاح بسنجار ونصيبين، وقد اتفق هو ومظفر الدين، صاح إربل، وصاحب الحصن وآمد، وصاحب جزيرة ابن عمر، وغيرهم، على ذلك، وعلى منع نور الدين من أخذ شيء من بلاده، وكلهم خائفون منه، ولم يمكنهم الاجتماع وهو على نصيبين، فلما فارقها نور الدين سار الأشرف إليها، وأتاه صاحب الحصن، وصاحب الجزيرة، وصاحب دارا، وساروا عن نصيبين نحو بلد البقعا قريباً من بوشرى، وسار نور الدين من تل أعفر إلى كفر زمار، وعزم على المطاولة ليتفرقوا، فأتاه كتاب من بعض مماليكه، يسمى جرديك، وقد أرسله يتجسس أخبارهم، فيقللهم في عينه، ويطمعه فيهم، ويقول: إن أذنت لي لقيتهم بمفردي؛ فسار حينئذ نور الدين إلى بوشرى فوصل إليها من الغد الظهر وقد تعبت دوابه وأصحابه، ولقوا شدة من الحر، فنزل بالقرب منهم أقل من ساعة.
وأتاه الخبر أن عساكر الخصم قد ركبوا، فركب هو وأصحابه وساروا نحوهم، فلم يروا لهم أثراً، فعاد إلى خيامه، ونزل هو وعساكره، وتفرق كثير منهم في القرى لتحصيل العلوفات وما يحتاجون إليه، فجاءه من أخبره بحركة الخصم وقصده، فركب نور الدين وعسكره، وتقدموا إليهم، وبينهم نحو فرسخين، فنزلوا وقد ازداد تعبهم، والخصم مستريح، فالتقوا، واقتتلوا، فلم تطل الحرب بينهم حتى انهزم عسكر نور الدين، وانهزم هو أيضاً، وطلب الموصل، فوصل إليها في أربعة أنفس، وتلاحق الناس، وأتى الأشرف ومن معه، فنزلوا في كفر زمار، ونهبوا البلاد نهباً عظيماً، وأهلكوا ما لم يصلح لهم لا سيما مدينة بَلدَ فإنهم أفحشوا في نهبها.
ومن أعجب ما سمعنا أن امرأة كانت تطبخ، فرأت النهب، فألقت سوارين كانا في يديها في النار وهربت، فجاء بعض الجند ونهب ما في البيت، فرأى فيه بيضاً، فأخذه وجعله في النار ليأكله، فحركها، فرأى السوارين فيها فأخذهما.
وطال مقامهم والرسل تتردد في الصلح، فوقف الأمر على إعادة تل أعفر، ويكون الصلح على القاعدة الأولى، وتوقف نور الدين في إعادة تل أعفر، فلما طال الأمر سلمها إليهم، وأصطلحوا أوائل سنة إحدى وستمائة، وتفرقت العساكر من البلاد.
ذكر خروج الفرنج بالشام إلى بلد الإسلام والصلح معهم
في هذه السنة خرج كثير من الفرنج في البحر إلى الشام، وسهل الأمر عليهم بذلك لملكهم قسطنطينية، وأرسلوا بعكا، وعزموا على قصد البيت المقدس، حرسه الله، واستنقاذه من المسلمين، فلما استراحوا بعكا ساروا فنهبوا كثيراً من بلاد الإسلام بنواحي الأردن، وسبوا، وفتكوا في المسلمين.
وكان الملك العادل بدمشق، فأرسل في جمع العساكر من بلاد الشام ومصر، وسار فنزل عند الطور بالقرب من عكا، لمنع الفرنج من قصد بلاد الإسلام، ونزل الفرنج بمرج عكا، وأغاروا على كفركنا، فأخذوا كل من بها وأموالهم، والأمراء يحثون العادل على قصد بلادهم ونهبها، فلم يفعل، فبقوا كذلك إلى أن انقضت السنة، وذلك سنة إحدى وستمائة، فاصطلح هو والفرنج على دمشق وأعمالها، وما بيد العادل من الشام، ونزل لهم عن جميع المناصفات في الصيدا والرملة وغيرهما، وأعطاهم ناصرة وغيرها، وسار نحو الديار المصرية. فقصد الفرنج مدينة حماة، فلقيهم صاحبها ناصر الدين محمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، فقاتلهم، وكان في قلة، فهزموه وتبعوه إلى البلد، فخرج العامة إلى قتالهم، فقتل الفرنج منهم جماعة وعاد الفرنج.
ذكر قتل كوكجة ببلاد الجبل
قد ذكرنا قبل تغلب كوكجة مملوك البهلوان على الري، وهمذان، وبلد الجبل، وبقي إلى الآن، وكان قدج اصطنع مملوكاً آخر للبهلوان، اسمه إيدغمش، وقدمه، وأحسن إليه، ووثق به، فجمع إيدغمش الجموع من المماليك وغيرهم، ثم قصد كوكجة، فتصافا، واقتتل الفريقان، فقتل كوكجة في الحرب، واستولى إيدغمش على البلاد، وأخذ معه أوزبك بن البهلوان، له اسم الملك، وإيدغمش هو المدبر له والقيم بأمر المملكة، وكان شهماً، شجاعاً، ظالماً، وكان كوكجة عادلاً حسن السيرة، رحمه الله.
ذكر وفاة ركن الدين بن قلج أرسلان وملك ابنه بعده (5/249)
وفي هذه السنة، سادس ذي القعدة، توفي ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش بن سلجوق، صاحب ديار الروم، ما بين ملطية وقونية، وكان موته بمرض القولنج في سبعة أيام، وكان قبل مرضه بخمسة أيام قد غدر بأخيه صاحب أنكورية، وتسمى أيضاً أنقرة، وهي مدين منيعة، وكان مشاقاً لركن الدين، فحصره عدة سنين حتى ضعف وقلت الأقوات عنده، فأذعن بالتسليم على عوض يأخذه، فعوضه قلعة في أطراف بلده وحلف له عليها، فنزل أخوه عن مدينة أنقرة، وسلمها، ومعه ولدان له، فوضع ركن الدين عليه من أخذه، وأخذ أولاده معه، فقتله، فلم يمض غير خمسة أيام حتى أصابه القولنج فمات.
واجتمع الناس على ولده قلج أرسلان، وكان صغيراً، فبقي في الملك إلى بعض سنة إحدى وستمائة، وأخذ منه، على ما نذكره هناك.
وكان ركن الدين شديداً على الأعداء، قيماً بأمر الملك، إلا أن الناس كانوا ينسبونه إلى فساد الاعتقاد؛ كان يقال إنه يعتقد أن مذهبه مذهب الفلاسفة، وكان كل من يرمى بهذا المذهب يأوي إليه، ولهذه الطائفة منه إحسان كثير، إلا أنه كان عاقلاً يحب ستر هذا المذهب لئلا ينفر الناس عنه.
حكي لي أنه كان عنده إنسان، وكان يرمى بالزندقة ومذهب الفلاسفة، وهو قريب منه، فحضر يوماً عنده فقيه، فتناظرا، فأظهر شيئاً من اعتقاد الفلاسفة، فقام الفقيه إليه ولطمه وشتمه بحضرة ركن الدين، وركن الدين ساكت، وخرج الفقيه فقال لكرن الدين: يجري علي مثل هذا في حضرتك ولا تنكره؟ فقال: لو تكلمت لقتلنا جميعاً، ولا يمكن إظهار ما تريده أنت؛ ففارقه.
ذكر قتل الباطنية بواسط
في هذه السنة قتل الباطنية بواسط، وسبب كونهم بها وقتلهم أنه ورد إليها رجل يعرف بالزكم محمد بن طالب بن عصية، وأصله من القارب، من قرى واسط، وكان باطنياً ملحداً، ونزل مجاوراً لدور بني الهروي، وغشيه الناس، وكثر أتباعه.
وكان ممن يغشاه رجل يعرف بحسن الصابوني، فاتفق أنه اجتاز بالسويقة، فكلمه رجل نجار في مذهبهم، فرد عليه الصابوني رداً غليظاً، فقام إليه النجار وقتله، وتسامع الناس بذلك، فوثبوا وقتلوا من وجدوا ممن ينتسب إلى هذا المذهب، وقصدوا دار ابن عصية وقد اجتمع إليه خلق من أصحابه، وأغلقوا الباب، وصعدوا إلى سطحها، ومنعوا الناس عنهم، فصعدوا إليهم من بعض الدور من على السطح، وتحصن من بقي في الدار بإغلاق الأبواب والممارق، فكسروها، ونزلوا فقتلوا من وجدوا في الدار وأحرقوا، وقتل ابن عصية، وفتح الباب، وهرب منهم جماعة فقتلوا؛ وبلغ الخبر إلى بغداد، وانحدر فخر الدين أبو البدر بن أمسينا الواسطي لإصلاح الحال، وتسكين الفتنة.
ذكر استيلاء محمود على مرباط وغيرها من حضرموت
في هذه السنة استولى إنسان اسمه محمود بن محمد الحميري على مدينة مرباط وظفار وغيرهما من حضرموت، وإن ابتداء أمره أنه له مركب يكريه في البحر للتجار، ثم وزر لصاحب مرباط، وفيه كرم وشجاعة وحسن سيرة، فلما توفي صاحب مرباط ملك المدينة بعده، وأطاعه الناس محبة له لكرمه وسيرته، ودامت أيامه بها؛ فلما كان سنة تسع عشرة وستمائة خرب مرباط وظفار، وبنى مدينة جديدة على ساحل البحر بالقرب من مرباط، وعندها عين عذبة كبيرة أجراها إلى المدينة، وعمل عليها سوراً وخندقاً، وحصنها وسماها الأحمدية، وكان يحب الشعر، ويكثر الجائزة عليه.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة خرج أسطول من الفرنج إلى الديار المصرية، فنهبوا مدينة فوة، وأقاموا خمسة أيام يسبون وينهبون، وعساكر مصر مقابلهم، بينهم النيل، ليس لهم وصول إليهم لأنهم لم تكن لهم سفن.
وفيها كانت زلزلة عظيمة عمت أكثر البلاد مصر، والشام، والجزيرة، وبلاد الروم، وصقلية، وقبرس، ووصلت إلى الموصل والعراق وغيرهما، وخرب من مدينة صور سورها وأثرت في كثير من الشام.
وفيها، في رجب، اجتمع جماعة من الصوفية برباط شيخ الشيوخ ببغداد وفيهم صوفي اسمه أحمد بن إبراهيم الداري من أصحاب شيخ الشيوخ عبد الرحيم بن إسمعيل، رحمهم الله، ومعهم مغن يغني ويقول الشعر:
عويذلتي أقصري كفى بمشيبي عذل ... شباب كأن لم يكن وشيب كأن لم يزل
وحق ليالي الوصال أواخرها والأول ... وصفرة لون المحب عند استماع العذل (5/250)
لئن عاد عيشي بكم ... حلا العيش لي واتصل
فتحرك الجماعة، عادة الصوفية في السماع، وطرب الشيخ المذكور، وتواجد، ثم سقط مغشياً عيه، فحركوه فإذا هو ميت، فصلي عليه ودفن، وكان رجلاً صالحاً.
وفيها توفي أبو الفتوح أسعد بن محمود العجلي، الفقيه الشافعي، بأصفهان في صفر، وكان إماماً فاضلاً.
وفي رمضان منها توفي قاضي هراة عمدة الدين الفضل بن محمود بن صاعد الساوي، وولي بعده ابنه صاعد.

This site was last updated 07/28/11