Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم عزت اندراوس

سنة أربع وثمانين وخمسمائة

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
بقية سنة575 وسنة576
سنة577 وسنة578
سنة579
سنة580 وسنة581
سنة582 وسنة583
سنة584
سنة585
سنة586
سنة587
سنة588
سنة589
سنة590 وسنة591
سنة592 وسنة593
سنة594
سنة595
سنة596 وسنة597
سنة598 وسنة599
سنة600
سنة601 وسنة602
سنة603
سنة604
سنة605 وسنة606
سنة607 وسنة608 وسنة609
سنة610 وسنة611 وسنة612
سنة613 وسنة614
سنة615
سنة616 وسنة617
سنة618 وسنة619
سنة620 وسنة621
سنة621

 

الجزء التالى من كتاب: الكامل في التاريخ المؤلف: أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير (المتوفى: 630هـ) تحقيق: عمر عبد السلام تدمري الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1417هـ / 1997م عدد الأجزاء:  10

**************************************************************************************************************************

ثم دخلت سنة أربع وثمانين وخمسمائة
ذكر حصر صلاح الدين كوكب

في هذه السنة، في المحرم انحسر الشتاء، فسار صلاح الدين من عكا فيمن تخلف عنده من العسكر إلى قلعة كوكب، فحصرها، ونازلها، ظناً منه أن ملكها سهل وأن أخذها، وهو في قلة من العسكر، متيسر، فلما رآها عالية منيعة أدرك أن الوصول إليها متعذر، وكان عنده منها ومن صفد والكرك المقيم المقعد، لأن البلاد الساحلية، من عكا إلى جهة الجنوب، كانت قد ملك جميعها، ما عدا هذه الحصون، وكان يختار أن يبقى في وسطها ما يشغل قلبه، ويقسم همه، ويحتاج إلى حفظه، ولئلا ينال الرعايا والمجتازين منهم الضرر والعظيم. (5/182)
فلما حصر كوكب، ورآها منيعة، يبطئ ملكها وأخذها، رحل عنها، وجعل عليها قايماز النجمي، مستديماً لحصاره. وكان رحيله عنها في ربيع الأول. وأتاه رسل الملك قلج أرسلان. وقزل أرسلان وغيرهما. وينئونه بالفتح والظفر، وسار من كوكب إلى دمشق، ففرح الناس بقدومه، وكتب إلى البلاد جميعها باجتماع العساكر. وأقام بها إلى أن سار إلى الساحل.
ذكر رحيل صلاح الدين إلى بلد الفرنج
لما أراد صلاح الدين المسير عن دمشق حضر عند القاضي الفاضل مودعاً له ومستشيراً، وكان مريضاً، وودعه وسار عن دمشق منتصف ربيع الأول إلى حمص، فنزل على بحيرة قدس، غربي حمص، وجاءته العساكر: فأول من أتاه من أصحاب الأطراف عماد الدين زنكي بن مودود بن اقسنقر. صاحب سنجار، ونصيبين. الخابور، وتلاحقت العساكر من الموصل وديار الجزيرة وغيرها. فاجتمعت عليه، وكثرت عنده. فسار حتى نزل تحت حصن الأكراد من الجانب الشرقي؛ وكنت معه حينئذ، فأقام يومين، وسار جريدة، وترك أثقال العسكر موضعها تحت الحصن، ودخل إلى بلد الفرنج، فأغار على صافيثا، والعريمة، ويحمور، وغيرها من البلاد والولايات، ووصل إلى قرب طرابلس، وأبصر البلاد، وعرف من أين يأتيها، وأين يسلك منها، ثم عاد إلى معسكره سالماً.
وقد غنم العسكر من الدواب، على اختلاف أنواعها، ما لا حد له، وأقام تحت حصن الأكراد إلى آخر ربيع الآخر.
ذكر فتح جبلة
لما أقام صلاح الدين تحت حصن الأكراد، أتاه قاضي جبلة، وهو منصور بن نبيل، يستدعيه إليها ليسلمها إليه، وكان هذا القاضي عند بيمند، صاحب أنطاكية وجبلة، مسموع القول مقبول الكلمة، له الحرمة الوافرة، والمنزلة العالية، وهو يحكم على جميع المسلمين، بجبلة ونواحيها، على ما يتعلق بالبيمند، فحملته الغيرة للدين على قصد السلطان، وتكفل له بفتح جبلة ولاذقية والبلاد الشمالية، فسار صلاح الدين معه رابع جمادى الأولى، فنزل بأنطرطوس سادسه، فرأى الفرنج قد أخلوا المدينة، واحتموا في برجين حصينين، كل واحد منهما قلعة حصينة ومعقل منيع، فخرب المسلمون دورهم ومساكنهم وسور البلد، ونهبوا ما وجدوه من ذخائرهم.
وكان الداوية بأحد البرجين، فحصرهما صلاح الدين، فنزل إليه من في أحد البرجين بأمان وسلموه، فأمنهم، وخرب البرج وألقى حجارته في البحر، وبقي الذي فيه الداوية لم يسلموه، وكان معهم مقدمهم الذي أسره صلاح الدين يوم المصاف، وكان قد أطلقه لما ملك البيت المقدس، فهو الذي حفظ هذا الحصن، فخرب صلاح الدين ولاية أنطرطوس، ورحل عنها وأتى مرقية، وقد أخلاها أهلها، ورحلوا عنها، وساروا إلى المرقب، وهو من حصونهم التي لا ترام، ولا يحدث أحد نفسه بملكه لعلوه وامتناعه، وهو للإسبتار، والطريق تحته، فيكون الحصن على يمين المجتاز إلى جبلة، والبحر عن يساره، والطريق مضيق لا يسلكه إلا الواحد بعد الواحد.
فاتفق أن صاحب صقلية من الفرنج قد سير نجدة إلى فرنج الساحل في ستين قطعة من الشواني، وكانوا بطرابلس، فلما سمعوا بمسير صلاح الدين جاؤوا ووقفوا في البحر، تحت المرقب، في شوانيهم، ليمنعوا من يجتاز بالسهام. فلما رأى صلا الدين ذلك أمر بالطارقيات والجفتيات، فصفت على الطريق ما يلي البحر من أول المضيق إلى آخره، وجعل وراءها الرماة، فمنعوا الفرنج من الدنو إليهم. فاجتاز المسلمون عن آخرهم، حتى عبروا المضيق ووصلوا إلى جبلة ثامن عشر جمادى الأولى. وتسلمها وقت وصوله.
وكان قاضيها قد سبق إليها ودخل. فلما وصل صلاح الدين رفع أعلامه على سورها وسلمها إليه ، وتحصن الفرنج الذين كانوا بها بحصنها، واحتموا بقلعتها، فما زال قاضي جبلة يخوفهم ويرغبهم، حتى استنزلهم بشرط الأمان، وأن يأخذ رهائنهم يكونون عنده إلى أن يطلق الفرنج رهائن المسلمين من أهل جبلة.(5/183)
وكان بيمند. صاحبها، قد أخذ رهائن القاضي ومسلمي جبلة، وتركهم عنده بأنطاكية، فأخذ القاضي رهائن الفرنج فأنزلهم عنده حتى أطلق بيمند رهائن المسلمين فأطلق المسلمون رهائن الفرنج، وجاء رؤساء أهل الجبل إلى صلاح الدين بطاعة أهله، وهو من أمنع الجبال وأشقها مسلكاً، وفيه حصن يعرف ببكسرائيل، بين جبلة ومدينة حماة، فملكه المسلمون، وصار الطريق في هذا الوقت عليه من بلاد الإسلام إلى العسكر، وكان الناس يلقون شدة في سلوكه. وقرر صلاح الدين أحوال جبلة، وجعل فيها لحفظها الأمير سابق الدين عثمان بن الداية، صاحب شيزر، وسار عنها.
ذكر فتح لاذقية
لما فرغ السلطان من أمر جبلة، سار عنها إلى لاذقية، فوصل إليها في الرابع والعشرين من جمادى الأولى، فترك الفرنج المدينة لعجزهم عن حفظها، وصعدوا إلى حصنين لها على الجبل فامتنعوا بهما، فدخل المسلمون المدينة وحصروا القلعتين اللتين فيهما الفرنج، وزحفوا إليهما، ونقبوا السور ستين ذراعاً، وعلقوه، وعظم القتال، واشتد الأمر عند الوصول إلى السور؛ فلما أيقن الفرنج بالعطب، ودخل إليهم قاضي جبلة فخوفهم من المسلمين، طلبوا الأمان فأمنهم صلاح الدين، ورفعوا الأعلام الإسلامية إلى الحصنين، وكان ذلك في اليوم الثالث من النزول عليها.
وكانت عمارة اللاذقية من أحسن الأبنية وأكثرها زخرفة مملوءة بالرخام على اختلاف أنواعها، فخرب المسلمون كثيراً منها، ونقلوا رخامها، وشعثوا كثيراً من بيعها التي قد غرم على كل واحد منها الأموال الجليلة المقدار، وسلمها إلى ابن أخيه تقي الدين عمر، فعمرها، وحصن قلعتها، حتى إذا رآها اليوم من رآها قبل ينكرها، فلا يظن أن هذه تلك؛ وكان عظيم الهمة في تحصين القلاع والغرامة الوافرة عليها، كما فعل بقلعة حماة.
ذكر حال أسطول صقلية
لما نازل صلاح الدين لاذقية جاء أسطول صقلية الذي تقدم ذكره، فوقف بإزاء ميناء لاذقية، فلما سلمها الفرنج الذين بها إلى صلاح الدين، عزم أهل هذا الأسطول على أخذ من يخرج منها من أهلها غيظاً وحنقاً، حيث سلموها سريعاً، فسمع بذلك أهل لاذقية، فأقاموا، وبذلوا الجزية، وكان سبب مقامهم.
ثم إن مقدم هذا الأسطول طلب من السلطان الأمان ليحضر عنده، فأمنع، وحضر وقبل الأرض بين يديه، وقال ما معناه: إنك سلطان رحيم وكريم، وقد فعلت بالفرنج ما فعلت فذلوا، فاتركهم يكونون مماليكك وجندك تفتح بهم البلاد والممالك، وترد عليهم بلادهم، وإلا جاءك من البحر ما لا طاقة لك به، فيعظم عليك الأمر ويشتد الحال.
فأجابه صلاح الدين بنحو من كلامه من إظهار القوة والاستهانة بكل من يجيء من البحر، وإنهم إن خرجوا أذاقهم ما أذاق أصحابهم من القتل والأسر؛ فصلب على وجهه، ورجع إلى أصحابه.
ذكر فتح صهيون وعدة من الحصون
ثم رحل صلاح الدين عن لاذقية في السابع والعشرين من جمادى الأولى، وقصد قلعة صهيون، وهي قلعة منيعة شاهقة في الهواء، صعبة المرتقى، على قرنة جبل، يطيف بها واد عميق، فيه ضيق في بعض المواضع، بحيث إن حجر المنجنيق يصل منه إلى الحصن، إلا أن الجبل متصل بها من جهة الشمال، وقد عملوا لها خندقاً عميقاً لا يرى قعره، وخمسة أسوار منيعة، فنزل صلاح الدين على هذا الجبل الملتصق بها، ونصب عليه المجانيق ورماها، وتقدم إلى ولده الظاهر، صاحب حلب، فنزل على المكان الضيق من الوادي، ونصب عليه المجانيق أيضاً، فرمى الحصن منه.
وكان معه من الرجالة الحلبيين كثير، وهم في الشجاعة بالمنزلة المشهورة، ودام رشق السهام من قسي اليد، والجرخ، والزنبورك، والزيار، فجرح أكثر من بالحصن، وهم يظهرون التجلد والامتناع، وزحف المسلمون إليهم ثاني جمادى الآخرة، فتعلقوا بقرنة من ذلك الجبل قد أغفل الفرنج إحكامها، فتسلقوا منها بين الصخور، حتى التحقوا بالسور الأول فقاتلوهم عليه حتى ملكوه، ثم إنهم قاتلوهم على باقي الأسوار فملكا منها ثلاثة وغنموا ما فيها من أبقار ودواب وذخائر وغير ذلك، واحتمى الفرنج بالقلة التي للقلعة، فقاتلهم المسلمون عليها، فنادوا وطلبوا الأمان، فلم يجبهم صلاح الدين إليه، فقرروا على أنفسهم مثل قطيعة البيت المقدس، وتسلم الحصن وسلمه إلى أمير يقال له ناصر الدين منكوبرس، صاح قلعة أبي قبيس، فحصنه وجعله من أحصن الحصون.(5/184)
ولما ملك المسلمون صهيون تفرقوا في تلك النواحي، فملكوا حصن بلاطنوس، وكان من به من الفرنج قد هربوا منه وتركوه خوفاً ورعباً. وملك أيضاً حصن العيدو، وحصن الجماهرتين، فاتسعت المملكة الإسلامية بتلك الناحية، إلا أن الطريق إليها من البلاد الإسلامية على عقبة بكسرائيل شاق شديد، لان الطريق السهلة كانت غير مسلوكة، لأن بعضها بيد الإسماعيلية، وبعضها بيد الفرنج.
ذكر فتح حصن بكاس والشغر
ثم سار صلاح الدين عن صهيون، ثالث جمادى الآخرة، فوصل إلى قلعة بكاس فرأى الفرنج قد أخلوها، وتحصنوا بقلعة الشغر، فملك قلعة بكاس بغير قتال، وتقدم إلى قلعة الشغر وحصرها، وهي وبكاس على الطريق السهل المسلوك إلى لاذقية وجبلة، والبلاد التي افتتحها صلاح الدين من بلاد الشام الإسلامية.
فلما نازلها رآها منيعة حصينة لا ترام، ولا يوصل إليها بطريق من الطرق؛ إلا أنه أمر بمزاحفتهم ونصب منجنيق عليهم، ففعلوا ذلك، ورمى بالمنجنيق، فلم يصل من أحجاره إلى القلعة شيء إلا القليل الذي لا يؤذي، فبقي المسلمون عليه أياماً لا يرون فيه طمعاً، وأهله غير مهتمين بالقتال لامتناعهم عن ضرر يتطرق إليهم، وبلاء ينزل عليهم.
فبينما صلاح الدين جالس، وعنده أصحابه، وهم في ذكر القلعة وإعمال الحلية في الوصول إليها. قال بعضهم: هذا الحصن كما قال الله تعالى: (فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً) الكهف 97، فقال صلاح الدين: أو يأتي الله بنصر من عنده وفتح.
فبينما هم في هذا الحديث إذ قد أشرف عليهم فرنجي ونادى بطلب الأمان لرسول يحضر عند صلاح الدين، فأجيب إلى ذلك، ونزل رسول، وسأل إنظارهم ثلاثة أيام، فإن جاءهم من يمنعهم، وإلا سلموا القلعة بما فيها من ذخائر ودواب وغير ذلك، فأجابهم إليه وأخذ رهائنهم على الوفاء به.
فلما كان اليوم الثالث سلموها إليه، واتفق يوم الجمعة سادس عشر جمادى الآخرة؛ وكان سبب استمهالهم أنهم أرسلوا إلى البيمند، صاحب أنطاكية، وكان هذا الحصن له، يعرفونه أنهم محصورون، ويطلبون منه أن يرحل عنهم المسلمين، فإن فعل، إلا سلموها، وإنما فعلوا ذلك لرعب قذفه الله تعالى في قلوبهم، وإلا فلو أقاموا الدهر الطويل لم يصل إليهم أحد، ولا بلغ المسلمون منهم غرضاً؛ فلما تسلم صلاح الدين الحصن سلمه إلى أمير يقال له قلج، وأمره بعمارته، ورحل عنه.
ذكر فتح سرمينية
لما كان صلاح الدين مشغولاً بهذه القلاع والحصون، سير ولده الظاهر غازي، صاحب حلب، فحصر سرمينية، وضيق على أهلها، واستنزلهم على قطيعة قررها عليهم، فلما أنزلهم، وأخذ منهم المقاطعة، هدم الحصن وعفى أثره وعالي بنيانه.
وكان فيه وفي هذه الحصون من أسارى المسلمين الجم الغفير، فأطلقوا، وأعطوا كسوة ونفقة، وكان فتحه في يوم الجمعة الثالث والعشرين من جمادى الآخرة.
واتفق أن فتح هذه المدن والحصون جميعها من جبلة إلى سرمينية، مع كثرتها، كان في ست جمع مع أنها في أيدي أشجع الناس وأشدهم عداوة للمسلمين، فسبحان من إذا أراد أن يسهل الصعب فعل؛ وهي جميعها من أعمال أنطاكية، ولم يبق لها سوى القصير، وبغراس، ودرب ساك، وسيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى في مكانه.
ذكر فتح برزية
لما رحل صلاح الدين من قلعة الشغر سار إلى قلعة برزية، وكانت قد وصفت له، وهي تقابل حصن أفامية، وتناصفها في أعمالها، وبينهما بحيرة تجتمع من ماء العاصي وعيون تتفجر من جبيل برزية وغيره، وكان أهلها أضر شيء على المسلمين، يقطعون الطريق، ويبالغون في الأذى، فلما وصل إليها نزل شرقيها في الرابع والعشرين من جمادى الآخرة، ثم ركب من الغد وطاف عليها لينظر موضعاً يقاتلها منه، فلم يجد إلا من جهة الغرب، فنصب له هناك خيمة صغيرة، ونزل فيها ومعه بعض العسكر جريدة لضيق المواضع.
وهذا القلعة لا يمكن أن تقاتل من جهة الشمال والجنوب البتة، فإنها لا يقدر أحد أن يصعد جبلها من هاتين الجهتين، وأما الجانب الشرقي فيمكن الصعود منه لكن لغير مقاتل، لعلوه وصعوبته، وأما جهة الغرب فإن الوادي المطيف بجبلها قد ارتفع هناك ارتفاعاً كثيراً، حتى قارب القلعة، بحيث يصل منه حجر المنجنيق والسهام، فنزله المسلمون ونصبوا عليه المجانيق، ونصب أهل القلعة عليها منجنيقاً بطلها. (5/185)
ورأيت أنا من رأس جبل عال يشرف على القلعة، لكنه لا يصل منه شيء إليها، امرأة ترمي من القلعة عن المنجنيق، وهي التي بطلت منجنيق المسلمين، فلما رأى صلاح الدين أن المنجنيق لا ينتفعون به، عزم على الزحف، ومكاثرة أهلها بجموعه، فقسم عسكره ثلاثة أقسام: يزحف قسم، فإذا تعبوا وكلوا عادوا وزحف القسم الثاني، فإذا تعبوا وضجروا عادا وزحف القسم الثالث، ثم يدور الدور مرة بعد أخرى حتى يتعب الفرنج وينصبوا، فإنهم لم يكن عندهم من الكثرة ما يتقسمون كذلك، فإذا تعبوا وأعيوا سلموا القلعة.
فلما كان الغد، وهو السابع والعشرون من جمادى الآخرة، تقدم أحد الأقسام، وكان المقدم عليهم عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي، صاحب سنجار، وزحفوا، وخرج الفرنج من حصنهم، فقاتلهم على فصليهم، ورماهم المسلمون بالسهام من وراء الجفتيات والجنويات والطارقيات، ومشوا إليهم حتى قربوا إلى الجبل، فلا قاربوا الفرنج عجوزا عن الدنو منهم لخشونة المرتقى، وتسلط الفرنج عليهم، لعلو مكانهم، بالنشاب والحجارة، فإنهم كانوا يلقون الحجارة الكبار فتتدحرج إلى أسفل الجبل، فلا يقوم لها شيء.
فلما تعب هذا القسم انحدروا، وصعد القسم الثاني، وكانوا جلوساً ينتظرونهم، وهم حلقة صلاح الدين الخاص، فقاتلوا قتالاً شديداً، وكان الزمان حراً شديداً، فاشتد الكرب على الناس، وصلاح الدين في سلاحه يطوف عليهم ويحرضهم، وكان تقي الدين ابن أخيه كذلك، فقاتلوهم إلى قريب الظهر ثم تعبوا، ورجعوا.
فلما رآهم صلاح الدين قد عادوا تقدم إليهم وبيده جماق يردهم، وصاح في القسم الثالث، وهم جلوس ينتظرون نوبتهم، فوثبوا ملبين، وساعدوا إخوانهم، وزحفوا معهم، فجاء الفرنج ما لا قبل لهم به، وكان أصحاب عماد الدين قد استراحوا، فقاموا أيضاً معهم، فحينئذ اشتد الأمر على الفرنج وبلغت القلوب الحناجر، وكانوا قد اشتد تعبهم ونصبهم، فظهر عجزهم عن القتال، وضعفهم عن حمل السلاح لشدة الحر والقتال، فخالطهم المسلمون فعاد الفرنج يدخلون الحصن، فدخل المسلمون معهم، وكان طائفة قليلة في الخيام، شرقي الحصن، فرأوا الفرنج قد أهملوا ذلك الجانب، لأنهم لا يرون فيه مقاتلاً، وليكثروا في الجهة التي فيها صلاح الدين، فصعدت تلك الطائفة من العسكر، فلم يمنعهم مانع، فصعدوا أيضاً الحصن من الجهة الأخرى، فالتقوا مع المسلمين الداخلين مع الفرنج؛ فملكوا الحصن عنوة وقهراً، ودخل الفرنج القلة التي للحصن، وأحاط بها المسلمون، وأرادوا نقبها.
وكان الفرنج قد رفعوا من عندهم من أسرى المسلمين إلى سطح القلة، وأرجلهم في القيود والخشب المنقوب، فلما سمعوا تكبير المسلمين في نواحي القلعة كبروا في سطح القلة، وظن الفرنج أن المسلمين قد صعدوا على السطح فاستسلموا وألقوا بأيديهم إلى الأسر، فملكها المسلمون عنوة، ونهبوا ما فيها، وأسروا وسبوا من فيها، وأخذوا صاحبها وأهلها، وأمست خالية لا ديار بها، وألقى المسلمون النار في بعض بيوتهم فاحترقت.
ومن أعجب ما يحكى من السلامة أنني رأيت رجلاً من المسلمين على هذا الحصن قد جاء من طائفة من المؤمنين شمالي القلعة إلى طائفة أخرى من المسلمين جنوبي القلعة، وهو يعدو في الجبل عرضاً، فألقيت عليه الحجارة، وجاءه حجر كبير لو ناله لبعجه، فنزل عليه، فناداه الناس يحذرونه، فالتفت ينظر ما الخبر، فسقط على وجهه من عثرة، فاسترجع الناس، وجاء الحجر إليه، فلا قاربه وهو منبطح على وجهه، لقيه حجر آخر ثابت في الأرض فوق الرجل، فضبه المنحدر فارتفع عن الأرض، وجاز الرجل، ثم عاد إلى الأرض من جانبه الآخر لم ينله منه أذى ولا ضرر، وقام يعدو حتى لحق بأصحابه، فكان سقوطه سبب نجاته فتعست أم الجبان.
وأما صاحب برزية، فإنه أسر هو وامرأته وأولاده، ومنهم بنت له معها زوجها، فتفرقهم العسكر، فأرسل صلاح الدين في الوقت وبحث عنهم واشتراهم، وجمع شمل بعضهم ببعض؛ فلما قارب أنطاكية أطلقهم وسيرهم إليها، وكانت امرأة صاحب برزية أخت امرأة بيمند، صاحب أنطاكية، وكانت تراسل صلاح الدين وتهاديه، وتعلمه كثيراً من الأحوال التي تؤثر، فأطلق هؤلاء لأجلها.
ذكر فتح درب ساك (5/186)
لما فتح صلاح الدين حصن برزية رحل عنه من الغد، فأتى جسر الحديد، وهو على العاصي، بالقرب من أنطاكية، فأقام عليه حتى وافاه من تخلف عنه من عسكره، ثم سار عنه إلى قلعة درب ساك، فنزل عليها ثامن رجب، وهي من معاقل الداوية الحصينة وقلاعهم التي يدخرونها لحماياتهم عند نزول الشدائد.
فلما نزل عليها نصب المجانيق، وتابع الرمي بالحجارة، فهدمت من سورها شيئاً يسيراً، فلم يبال من فيه بذلك، فأمر بالزحف عليها ومهاجمتها، فبادرها العسكر بالزحف وقاتلوها، وكشفوا الرجال عن سورها، وتقدم النقابون فنقبوا منها برجاً وعلقوه، فسقط واتسع المكان الذي يريد المقاتلة أن يدخلوا منه، وعادوا يومهم ذلك، ثم باكروا الزحف من الغد.
وكان من فيه قد أرسلوا إلى صاحب أنطاكية يستنجدونه، فصروا، وأظهروا الجلد، وهم ينظرون وصول جوابه إما بإنجادهم وإزاحة المسلمين عنهم، وإما بالتخلي عنهم ليقوم عذرهم في التسليم، فلما علموا عجزه عن نصرتهم، وخافوا هجوم المسلمين عليها، وأخذهم السيف، وقتلهم وأسرهم، ونهب أموالهم، طلبوا الأمان، فأمنهم على شرط أن لا يخرج أحد إلا بثيابه التي عليه بغير مال، ولا سلاح، ولا أثاث بيت، ولا دابة، ولا شيء مما بها، ثم أخرجهم منه وسيرهم إلى أنطاكية، وكان فتحه تاسع عشر رجب.
ذكر فتح بغراس
ثم سار عن درب ساك إلى قلعة بغراس، فحصرها، بعد أن اختلف أصحابه في حصرها، فمنهم من أشار به، ومنهم من نهى عنه وقال: هو حصن حصين، وقلعة منيعة، وهو بالقرب من أنطاكية، ولا فرق بين حصره وحصرها، ويحتاج أن يكون أكثر العسكر في اليزك مقابل أنطاكية، فإذا كان الأمر كذلك قل المقاتلون عليها، ويتعذر حينئذ الوصول إليها.
فاستخار الله تعالى وسار إليها، وجعل أكثر عسكره يزكاً مقابل أنطاكية، يغيرون على أعمالها، وكانوا حذرين من الخوف من أهلها، إن غفلوا، لقربهم منها، وصلاح الدين في بعض أصحابه على القلعة يقاتلها، ونصب المجانيق، فلم يؤثر فيها شيئاً لعلوها وارتفاعها، فغلب على الظنون تعذر فتحها وتأخر ملكها، وشق على المسلمين قلة الماء عندهم، إلا أن صلاح الدين نصب الحياض، وأمر بحمل الماء إليها، فخفف الأمر عليهم.
فبينما هو على هذه الحال إذ قد فتح باب القلعة، وخرج منه إنسان يطلب الأمان ليحضر، فأجيب إلى ذلك، فأذن له في الحضور، فحضر، وطلب الأمان لمن في الحصن حتى يسلموه إليه، بما فيه على قاعدة درب ساك، فأجابهم إلى ما طلبوا؛ فعاد الرسول ومعه الأعلام الإسلامية، فرفعت على رأس القلعة، ونزل من فيها، وتسلم المسلمون القلعة بما فيها من ذخائر وأموال وسلاح، وأمر صلاح الدين بتخريبه، فخرب، وكان ذلك مضرة عظيمة وأتقنه، وجعل فيه جماعة من عسكره يغيرون منه على البلاد، فتأذى بهم السواد الذي بحلب، وهو إلى الآن بأيديهم.
ذكر الهدنة بين المسلمين وصاحب أنطاكية
لما فتح صلا ح الدين بغراس عزم على التوجه إلى أنطاكية وحصرها، فخاف البيمند صاحبها من ذلك، وأشفق منه، فأرسل إلى صلاح الدين يطلب الهدنة، وبذل إطلاق كل أسير عنده من المسلمين، فاستشار من عنده من أصحاب الأطراف وغيرهم، فأشار أكثرهم بإجابته إلى ذلك ليعود الناس ويستريحوا ويجددوا ما يحتاجون إليه، فأجاب إلى ذلك، واصطلحوا ثمانية أشهر، أولها: أول تشرين الأول، وآخرها: آخر أيار، وسير رسوله إلى صاحب أنطاكية يستخلفه، ويطلق من عنده من الأسرى.
وكان صاحب أنطاكية، في هذا الوقت، أعظم الفرنج شأناً، وأكثرهم ملكاً، فإن الفرنج كانوا قد سلموا إليه طرابلس، بعد موت القمص، وجميع أعمالها، مضافاً إلى ما كان له، أن القمص لم يخلف ولداً، فلما سلمت إليه طرابلس جعل ولده الأكبر فيها نائباً عنه.
وأما صلاح الدين فإنه عاد إلى حلب ثالث شعبان، فدخلها وسار منها إلى دمشق، وفرق العساكر الشرقية، كعماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار والخابور، وعسكر الموصل، وغيرها، ثم رحل من حلب إلى دمشق، وجعل طريقه على قبر عمر بن عبد العزيز، فزاره، وزار الشيخ الصالح أبا زكرياء المغربي، وكان مقيماً هناك، وكان من عباد الله الصالحين، وله كرامات ظاهرة. (5/187)
وكان مع صلاح الدين الأمير عز الدين أبو الفليتة قاسم بن المهنا العلوي الحسيني، وهو أمير مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، كان قد حضر عنده، وشهد معه مشاهده وفتوحه، وكان صلاح الدين قد تبارك برؤيته، وتيمن بصحبته، وكان يكرمه كثيراً، وينبسط معه، ويرجع إلى قوله في أعماله كلها، ودخل دمشق أول شهر رمضان، فأشير عليه بتفريق العساكر، فقال: إن العمر قصير والأجل غير مأمون؛ وقد بقي بيد الفرنج هذه الحصون: كوكب، وصفد، والكرك، وغيرها، ولا بد من الفراغ منها، فإنها في وسط بلاد الإسلام، ولا يؤمن شر أهلها، وإن أغفلناهم ندمنا فيما بعد، والله أعلم.
ذكر فتح الكرك وما يجاوره
كان صلاح الدين قد جعل على الكرك عسكراً يحصره، فلازموا الحصار هذه المدة الطويلة، حتى فنيت أزواد الفرنج وذخائرهم، وأكلوا دوابهم، وصبروا حتى لم يبق للصبر مجال، فراسلوا الملك العادل، أخا صلاح الدين، وان جعله صلاح الدين على قلعة الكرك في جمع من العسكر يحصرها، ويكون مطلعاً على هذه الناحية من البلاد لما أبعد هو إلى درب ساك، وبغراس، فوصلته رسل الفرنج من الكرك يبذلون تسليم القلعة إليه، ويطلبون الأمان، فأجابهم إلى ذلك، وأرسل إلى مقدم العسكر الذي يحصرها في المعنى، فتسلم القلعة منهم وأمنهم.
وتسلم أيضاً ما يقاربه من الحصون كالشوبك وهرمز والوعيرة والسلع، وفرغ القلب من تلك الناحية، وألقى الإسلام هناك جرانه، وأمنت قلوب من في ذلك السقع من البلاد، كالقدس وغيره، فإنهم كانوا ممن بتلك الحصون وجلين، ومن شرهم مشفقين.
ذكر فتح قلعة صفد
لما وصل صلاح الدين إلى دمشق، وأشير عليه بتفريق العساكر، وقال: لا بد من الفراغ من صفد وكوكب وغيرهما، أقام بدمشق إلى منتصف رمضان، وسار عن دمشق إلى قلعة صفد فحصرها وقاتلها، ونصب عليها المجانيق، وأدام الرمي إليها ليلاً ونهاراً بالحجارة والسهام.
وكان أهلها قد قاربت ذخائرهم وأزوادهم أن تفنى في المدة التي كانوا فيها محاصرين، فإن عسكر صلاح الدين كان يحاصرهم، كما ذكرناه، فلما رأى أهله جد صلاح الدين في قتالهم، خافوا أن يقيم إلى أن يفنى ما بقي معهم من أقواتهم، وكانت قليلة، ويأخذهم عنوة ويهلكهم، أو أنهم يضعفون عن مقاومته قبل فناء ما عندهم من القوت فيأخذهم، فأرسلوا يطلبون الأمان، فأمنهم وتسلمها منهم، فخرجوا عنها وساروا إلى مدينة صور، وكفى الله المؤمنين شرهم، فإنهم كانوا وسط البلاد الإسلامية.
ذكر فتح كوكب
لما كان صلاح الدين يحاصر صفد، اجتمع من بصور من الفرنج، وقالوا: إن فتح المسلمون قلعة صفد لم تبق كوكب، ولو أنها معلقة بالكوكب، وحينئذ ينقطع طمعنا من هذا الطرف من البلاد؛ فاتفق رأيهم على إنفاذ نجدة لها سراً من رجال وسلاح وغير ذلك، فأخرجوا مائتي رجل من شجعان الفرنج وأجلادهم، فساروا الليل مستخفين، وأقاموا النهار مكمنين.
فاتفق من قدر الله تعالى أن رجلاً من المسلمين الذين يحاصرون كوكب خرج متصيداً، فلقي رجلاً من تلك النجدة، فاستغربه بتلك الأرض، فضربه ليعلمه بحاله، وما الذي أقدمه إلى هناك، فأقر بالحال، ودله على أصحابه، فعاد الجندي المسلم إلى قايماز النجمي، وهو مقدم ذلك العسكر، فأعلمه الخبر، والفرنجي معه، فركب في طائفة من العسكر إلى الموضع الذي قد اختفى فيه الفرنج، فكبسهم، فأخذهم، وتتبعهم في الشعاب والكهوف، فلم يفلت منهم أحد، فكان معهم مقدمان من فرسان الإسبتار، فحملا إلى صلاح الدين وهو على صفد، فأحضرهما ليقتلهما، وكانت عادته قتل الداوية والإسبتارية لشدة عداوتهم للمسلمين وشجاعتهم، فلما أمر بقتلهما قال له أحدهما: ما أظن ينالنا سوء وقد نظرنا إلى طلعتك المباركة ووجهك الصبيح. وكان رحمه الله، كثير العفو، يفعل الاعتذار والاستعطاف فيه، فيعفو ويصفح، فلما سمع كلامهما لم يقتلهما، وأمر بهما فسجنا.
ولما فتح صفد سار عنها إلى كوكب ونازلها وحصرها، وأرسل إلى من بها من الفرنج يبذل لهم الأمان إن سلموا، ويتهددهم بالقتل والسبي والنهب إن امتنعوا، فلم يسمعوا قولهن وأصروا على الامتناع، فجد في قتالهم، ونصب عليهم المجانيق، وتابع رمي الأحجار إليهم، وزحف مرة بعد مرة، وكانت الأمطار كثيرة، لا تنقطع ليلاً ولا نهاراً، فلم يتمكن المسلمون من القتال على الوجه الذي يريدوه، وطال مقامهم عليها. (5/188)
وفي آخر الأمر زحفوا إليها دفعات متناوبة في ويم واحد، ووصلوا إلى باشورة القلعة، ومعهم النقابون والرماة يحمونهم بالنشاب عن قوس اليد والجروخ، فلم يقدر أحد منهم أن يخرج رأسه من أعلى السور، فنقبوا الباشورة فسقطت، وتقدموا إلى السور الأعلى، فلما رأى الفرنج ذلك أذعنوا بالتسليم، وطلبوا الأمان فأمنهم، وتسلم الحصن منهم منتصف ذي القعدة، وسيرهم إلى صور، فوصلوا إليها.
واجتمع بها من شياطين الفرنج وشجعانهم كل صنديد، فاشتدت شوكتهم، وحميت جمرتهم، وتابعوا الرسل إلى من بالأندلس وصقلية وغيرهما من جزائر البحر يستغيثون ويستنجدون، والأمداد كل قليل تأتيهم، وكان ذلك كله بتفريط صلاح الدين في إطلاق كل من حصره، حتى عض بنانه ندماً وأسفاً حيث لم ينفعه ذلك.
واجتمع للمسلمين بفتح كوكب وصفد من حد أيلة إلى أقصى أعمال بيروت، لا يفصل بينه غير مدينة صور، وجميع أعمال أنطاكية، سوى القصير، ولما ملك صلاح الدين صفد سار إلى البيت المقدس، فعيد فيه عيد الأضحى، ثم سار منه إلى عكا، فأقام بها حتى انسلخت السنة.
ذكر ظهور طائفة من الشيعة بمصر
في هذه السنة ثار بالقاهرة جماعة من الشيعة، عدتهم اثنا عشر رجلاً، ليلاً، ونادوا بشعار العلويين،: يال علي، يال علي، وسلكوا الدروب ينادون، ظناً منهم أن رعية البلد يلبون ويملكون البلد، فلم يلتفت أحد منهم إليهم، ولا أعارهم سمعه.
فلما رأوا ذلك تفرقوا خائفين، فأخذوا، وكتب بذلك إلى صلاح الدين، فأهمه أمرهم وأزعجه، فدخل عله القاضي الفاضل، فأخبره الخبر، فقال القاضي الفاضل: ينبغي أن تفرح بذلك ولا تحزن ولا تهتم، حيث علمت من بواطن رعيتك المحبة لك والنصح، وترك الميل إلى عدوك، ولو وضعت جماعة يفعلون مثل هذه الحالة لتعلم بواطن أصحابك ورعيتك، وخسرت الأموال الجليلة عليهم، لكان قليلاً؛ فسري عنه.
وكان هذا القاضي صاحب دولة صلاح الدين، وأكبر من بها، وستأتي مناقبه عند وفاته، ما تراه.
ذكر انهزام عسكر الخليفة من السلطان طغرل
في هذه السنة جهز الخليفة الناصر لدين الله عسكراً كثيراً، وجعل المقدم عليهم وزيره جلال الدين عبيد الله بن يونس، وسيرهم إلى مساعدة قزل، ليكف السلطان طغرل عن البلاد، فسار العسكر ثالث صفر إلى أن قارب همذان، فلم يصل قزل إليهم، وأقبل طفرل إليهم في عساكره، فالتقوا ثامن ربيع الأول بداي مرج عند همذان، واقتتلوا، فلم يثبت عسكر بغداد، بل انهزموا وتفرقوا، وثبت الوزير قائماً، ومعه مصحف وسيف، فأتاه من عسكره طغرل من أسره، وأخذ ما معه من خزانة وسلاح ودواب وغير ذلك، وعاد العسكر إلى بغداد متفرقين.
وكنت حينئذ بالشام في عسكر صلاح الدين يريد الغزاة، فأتاه الخبر مع النجابين بميسر العسكر البغدادي، فقال: كأنكم وقد وصل الخبر بانهزامهم. فقال له بعض الحاضرين: وكيف ذلك؟ فقال: لا شك أن أصحابي وأهيل أعرف بالحرب من الوزير، وأطوع في العسكر منه، ومع هذا، فما أرسل أحداً منهم في سرية للحرب إلا وأخاف عليه، وهذا الوزير غير عارف بالحرب، وقريب العهد بالولاية، ولا يراه الأمراء أهلاً أن يطاع، وفي مقابلة سلطان شجاع قد باشر الحرب بنفسه، ومن معه يطيعه، وكان الأمر كذلك، ووصل الخبر إليه بانهزامهم فقال لأصحابه: كنت أخبرتكم بكذا وكذا، وقد وصل الخبر بذلك.
ولما عادت عساكر بغداد منهزمة قال بعض الشعراء، وهو أحمد بن الواثق بالله:
أتركونا من جائحات الجريمة ... طلعة طلعة تكون وخيمة
بركات الوزير قد شملتنا ... فلهذا أمورنا مستقيمة
خرجت جندنا تريد خراسا ... ن جميعاً بأبهات عظيمة
بخيول وعدة وعديد ... وسيوف مجربات قديمة
ووزير وطاق طنب ونفش ... وخيول معدة للهزيمة
هم رأوا غرة العدو وقد أق ... بل ولوا وانحل عقد العزيمة
وأتونا ولا بخفي حنين ... بوجوه سود قباح دميمة
لو رأى صاحب الزمان ولوعا ... ين أفعالهم وقبح الجريمة
قابل الكل بالنكال وناهي ... ك بها سبة عليهم مقيمة
كان ينبغي أن تتقدم هذه الحادثة، وإنما أخرتها لتتبع الحوادث المتقدمة بعضها بعضاً، لتعلق كل واحدة منها بالأخرى.(5/189)
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة توفي شيخنا أبو محمد عبد الله بن علي بن عبد الله بن سويدة التكريتي، كان عالماً بالحديث، وله تصانيف حسنة.
وفيها توفيت سلجوقة خاتون بنت قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان زوجة الخليفة وكانت قبله زوجة نور الدين محمد بن قرا أرسلان، صاحب الحصن، فلما توفي عنها تزوجها الخليفة، ووجد الخليفة عليها وجداً عظيماً ظهر للناس كلهم، وبنى على قبرها تربة بالجانب الغربي، وإلى جانب التربة رباطه المشهور بالرملة.
وفيها توفي علاء الدين تنامش وحمل تابوته إلى مشهد الحسين، عليه السلام.
وفيها توفي خالص خادم الخليفة، و كان أكبر أمير ببغداد؛ ومات أبو الفرج بن النقور العدل ببغداد، وسمع الحديث الكثير، وهو بيت الحديث، رحمه الله.

This site was last updated 07/28/11