Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم عزت اندراوس

سنة ثمان وثمانين وخمسمائة

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
بقية سنة575 وسنة576
سنة577 وسنة578
سنة579
سنة580 وسنة581
سنة582 وسنة583
سنة584
سنة585
سنة586
سنة587
سنة588
سنة589
سنة590 وسنة591
سنة592 وسنة593
سنة594
سنة595
سنة596 وسنة597
سنة598 وسنة599
سنة600
سنة601 وسنة602
سنة603
سنة604
سنة605 وسنة606
سنة607 وسنة608 وسنة609
سنة610 وسنة611 وسنة612
سنة613 وسنة614
سنة615
سنة616 وسنة617
سنة618 وسنة619
سنة620 وسنة621
سنة621

 

الجزء التالى من كتاب: الكامل في التاريخ المؤلف: أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير (المتوفى: 630هـ) تحقيق: عمر عبد السلام تدمري الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1417هـ / 1997م عدد الأجزاء:  10

**************************************************************************************************************************

ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وخمسمائة
ذكر عمارة الفرنج عسقلان

في هذه السنة، في المحرم، رحل الفرنج نحو عسقلان وشرعوا في عمارتها، وكان صلاح الدين بالقدس، فسار ملك إنكلتار، جريدة، من عسقلان إلى يزك المسلمين، فواقعهم، وجرى بين الطائفتين قتال شديد انتصف بعضهم من بعض.
وفي مدة مقام صلاح الدين بالقدس ما برحت سراياه تقصد الفرنج، فتارة تواقع طائفة منهم، وتارة تقطع الميرة عنهم، ومن جملتها سرية كان مقدمها فارس الدين ميمون القصري، وهو من مقدمي المماليك الصلاحية، خرج على قافلة كبيرة للفرنج، فأخذها وغنم ما فيها.
ذكر قتل المركيس وملك الكندهر
في هذه السنة، في ثالث عشر ربيع الآخر، قتل المركيس الفرنجي، لعنه الله، صاحب صور، وهو أكبر شياطين الفرنج.
وكان سبب قتله أن صلاح الدين راسل مقدم الإسماعيلية، وهو سنان، وبذل له أن يرسل من يقتل ملك إنكلتار، وإن قتل المركيس فله عشرة آلاف دينار، فلم يمكنهم قتل ملك إنكلتار، ولم يره سنان مصلحة لهم لئلا يخلو وجه صلاح الدين من الفرنج ويتفرغ لهم، وشره في أخذ المال، فعدل إلى قتل المركيس، فأرسل رجلين في زي الرهبان، واتصلا بصاحب صيدا وابن بارزان، صاحب الرملة، وكانا مع المركيس بصور، فأقاما معهما ستة أشهر يظرهان العبادة، فأنس بهما المركيس، ووثق بهما، فلما كان بعد التاريخ عمل الأسقف بصور دعوة للمركيس، فحضرها، وأكل طعامه، وشرب مدامه، وخرج من عنده، فوثب عليه الباطنيان المذكوران، فجرحاه جراحاً وثيقة، وهرب أحدهما، ودخل كنيسة يختفي فيها، فاتفق أن المركيس حمل إليها ليشد جراحه، فوثب عليه ذلك الباطني فقتله، وقتل الباطنيان بعده.
ونسب الفرنج قتله إلى وضع من ملك إنكلتار لينفرد بملك الساحل الشامي، فلما قتل ولي بعده مدينة صور كند من الفرنج، من داخل البحر، يقال له الكند هري، وتزوج بالملكة في ليلته، ودخل بها وهي حامل، وليس الحمل عندهم مما يمنع النكاح.
وهذا الكند هري هو ابن أخت ملك إفرنسيس من أبيه، وابن أخت ملك إنكلتار من أمه، وملك كند هري هذا بلاد الفرنج بالساحل بعد عود ملك إنكلتار، وعاش إلى سنة أربع وتسعين وخمسمائة، فسقط من سطح فمات؛ وكان عاقلاً، كثير المدارة والاحتمال.
ولما رحل ملك إنكلتار إلى بلاده أرسل كند هري هذا إلى صلاح الدين يستعطفه، ويستميله، يطلب منه خلعة، وقال: أنت تعلم أن لبس القباء والشربوش عندنا عيب، وأنا ألبسهما منك محبة لك؛ فأنفذ إليه خلعة سنية منها القباء والشربوش، فلبسهما بعكا. (5/208)
ذكر نهب بني عامر البصرة
في هذه السنة، في صفر، اجتمع بنو عامر في خلق كثير، وأميرهم اسمه عميرة، وقصدوا البصرة، وكان الأمير بها اسمه محمد بن إسمعيل، ينوب عن مقطعها الأمير طغرل، مملوك الخليفة الناصل لدين الله، فوصلوا إليها يوم السبت سادس صفر، فخرج إليهم الأمير محمد فيمن معه من الجند، فوقعت الحرب بينهم بدرب الميدان، بجانب الخريبة، ودام القتال إلى آخر النهار، فلما جاء الليل ثلم العرب في السور عدة ثلم، ودخلوا البلد من الغد، فقاتلهم أهل البلد، فقتل بينهم قتلى كثيرة من الفريقين، ونهبت العرب الخانات بالشاطئ وبعض محال البصرة، وعبر أهلها إلى شاطئ الملاحين، وفارق العرب البلد في يومهم وعاد أهله إليه.
وكان سبب سرعة العرب في مفارقة البلد أنهم بلغهم أن خفاجة والمنتفق قد قاربوهم، فساروا إليهم وقاتلوهم أشد قتال، فظفرت عامر، وغنمت أموال خفاجة والمنتفق، وعادوا إلى البصرة بكرة الاثنين، وكان الأمير قد جمع من أهل البصرة والسواد جمعاً كثيراً، فلما عادت عامر قاتلهم أهل البصرة ومن اجتمع معهم، فلم يقوموا للعرب وانهزموا، ودخل العرب البصرة ونهبوها، وفارق البصرة أهلها، ونهبت أموالهم، وجرت أمور عظيمة، ونهبت القسامل وغيرها يومين، وفارقها العرب وعاد أهلها إليها، وقد رأيت هذه القصة بعينها في سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة، والله أعلم.
ذكر ما كان من ملك إنكلتار
في تاسع جمادى الأولى من هذه السنة استولى الفرنج على حصن الداروم، فخربوه، ثم ساروا إلى البيت المقدس وصلاح الدين فيه، فبلغوا بيت نوبة.
وكان سبب طمعهم أن صلاح الدين فرق عساكره الشرقية وغيرها لأجل الشتاء، وليستريحوا، وليحضر البدل عوضهم، وسار بعضهم مع ولده الأفضل وأخيه العادل إلى البلاد الجزرية، لما نذكره إن شاء الله تعالى، وبقي من حلقته الخاص بعض العساكر المصرية، فظنوا أنهم ينالون غرضاً، فلما سمع صلاح الدين بقربهم منه فرق أبراج البلد على الأمراء، وسار الفرنج من بيت نوبة إلى قلونية، سلخ الشهر، وهي على فرسخين من القدس، فصب المسلمون عليهم البلاء، وتابعوا إرسال السرايا فبلي الفرنج منهم بما لا قبل لهم به، وعلموا أنهم إذا نازلوا القدس كان الشر إليهم أسرع والتسلط عليهم أمكن، فرجعوا القهقرى، وركب المسلمون أكتافهم بالرماح والسهام.
ولما أبعد الفرنج عن يافا سير صلاح الدين سرية من عسكره إليها، فقاربوها، وكمنوا عندها، فاجتاز بهم جماعة من فرسان الفرنج مع قافلة، فخرجوا عليهم، فقتلوا منهم وأسروا وغنموا، وكان ذلك آخر جمادى الأولى.
ذكر استيلاء الفرنج على عسكر المسلمين
في تاسع جمادى الآخرة بلغ الفرنج الخبر بوصول عسكر من مصر، ومعهم قفل كبير، ومقدم العسكر فلك الدين سليمان، أخو العادل لأمه، ومعه عدة من الأمراء، فأسرى الفرنج إليهم، فواقعهم بنواحي الخليل، فانهزم الجند، ولم يقتل منهم رجل من المشهورين إنما قتل من الغلمان والأصحاب، وغنم الفرنج خيامهم وآلاتهم؛ وأما القفل فإنه أخذ بعضه، وصعد من نجا جبل الخليل، فلم يقدم الفرنج على أتباعهم، ولو اتبعوهم نصف فرسخ لأتوا عليهم؛ وتمزق من نجا من القفل، وتقطعوا، ولقوا شدة إلى أن اجتمعوا.
حكى لي بعض أصحابنا، وكنا قد سيرنا معه شيئاً للتجارة إلى مصر، وكان قد خرج في هذا القفل، قال: لما وقع الفرنج علينا كنا قد رفعنا أحمالنا للسير، فحملوا علينا وأوقعوا بنا، فضربت أحمالي وصعدت الجبل ومعي عدة أحمال لغيري. فلحقنا قوم من الفرنج، فأخذوا الأحمال التي في صحبتي، وكنت بين أيديهم بمقدار رمية سهم، فلم يصلوا إلي، فنجوت بما معي، وسرت لا أدري أين أقصد، وإذ قد لاح لي بناء كبير على جبل، فسألت عنه، فقيل لي: هذا الكرك؛ فوصلت إليه ثم عدت منه إلى القدس سالماً. وسار هذا الرجل من القدس سالماً، فلما بلغ بزاعة، عند حلب، أخذه الحرامية، فنجا من العطب، وهلك عند ظنه السلامة.
ذكر سير الأفضل والعادل إلى بلاد الجزيرة (5/209)
قد تقدم ذكر موت تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين، واستيلاء ولده ناصر الدين محمد على بلاد الجزيرة، فلما استولى عليها أرسل إلى صلاح الدين يطلب تقريرها عليه، مضافاً إلى ما كان لأبيه بالشام، فلم ير صلاح الدين أن مثل تلك البلاد تسلم إلى صبي، فما أجابه إلى ذلك، فحدث نفسه بالامتناع على صلاح الدين لاشتغاله بالفرنج، فطلب الأفضل علي بن صلاح الدين من أبيه أن يقطعه ما كان لتقي الدين، وينزل عن دمشق، فأجابه إلى ذلك، وأمره بالمسير إليها، فسار إلى حلب في جماعة من العسكر، وكتب صلاح الدين إلى أصحاب البلاد الشرقية، مثل صاحب الموصل، وصاحب سنجار، وصاحب الجزيرة، وصاحب ديار بكر، وغيرها، يأمرهم بإنفاذ العساكر إلى ولده الأفضل.
فلما رأى ولد تقي الدين ذلك علم أنه لا قوة له بهم، فراسل الملك العادل، عم أبيه، يسأله إصلاح حاله مع صلاح الدين، فأنهى ذلك إلى صلاح الدين، وأصلح حاله، وقرر قاعدته بأن يقرر له ما كان لأبيه بالشام، وتؤخذ منه البلاد الجزرية، واستقرت القاعدة على ذلك.
وأقطع صلاح الدين البلاد الجزرية، وهي حران، والرها، وسميساط، وميافارقين، وحاني العادل، وسيره إلى ابن تقي الدين ليتسلم منه البلاد، ويسيره إلى صلاح الدين، ويعيد الملك الأفضل أين أدركه؛ فسار العادل، فلحق الأفضل بحلب، فأعاده إلى أبيه، وعبر العادل الفرات وتسلم البلاد من ابن تقي الدين وجعل نوابه فيها، واستصحب ابن تقي الدين معه، وعاد إلى صلاح الدين بالعساكر، وكان عوده في جمادى الآخرة من هذه السنة.
ذكر عود الفرنج إلى عكا
لما عاد الملك الأفضل فيمن معه، وعاد الملك العادل وابن تقي الدين فيمن معهما من عساكرهما، ولحقتهم العساكر الشرقية، عسكر الموصل وعسكر ديار بكر وعسكر سنجار وغير ذلك من البلاد، واجتمعت العساكر بدمشق، أيقن الفرنج أنهم لا طاقة لهم بها، إذا فارقوا البحر، فعادوا نحو عكا يظهرون العزم على قصد بيوت ومحاصرتها، فأمر صلاح الدين ولده الأفضل أن يسير إليها في عسكره والعساكر الشرقية جميعها، معارضاً للفرنج في مسيرهم نحوها، فسار إلى مرج العيون، واجتمعن العساكر معه، فأقام هنالك ينتظر مسير الفرنج، فلما بلغهم ذلك أقاموا بعكا ولم يفارقوها.
ذكر ملك صلاح الدين يافا
لما رحل الفرنج نحو عكا كان قد اجتمع عند صلاح الدين عسكر حلب وغيره، فسار إلى مدينة يافا، وكانت بيد الفرنج، فنازلها وقاتل من بها منهم، وملكها في العشرين من رجب بالسيف عنوة، ونهبها المسلمون، وغنموا ما فيها، وقتلوا الفرنج وأسروا كثيراً، وكان بها أكثر ما أخذوه من عسكر مصر والقفل الذي كان معهم، وقد ذكر ذلك.
وكان جماعة من المماليك الصلاحية قد وقفوا على أبواب المدينة، وكل من خرج من الجند ومعه شيء من الغنيمة أخذوه منه، فإن امتنع ضربوه وأخذوا ما معه قهراً، ثم زحفت العساكر إلى القلعة، فقاتلوا عيها آخر النهار، وكادوا يأخذونها، فطلب من بالقلعة الأمان على أنفسهم، وخرج البطرك الكبير الذي لهم، ومعه عدة من أكابر الفرنج، في ذلك، وترددوا، وكان قصدهم منع المسلمين عن القتال، فأدركهم الليل، وواعدوا المسلمين أن ينزلوا بكرة غد ويسلموا القلعة.
فلما أصبح الناس طالبهم صلاح الدين بالنزول عن الحصن، فامتنعوا، وإذا قد وصلهم نجدة من عكا، وأدركهم ملك إنكلتار، فأخرج من بيافا من المسلمين، وأتاه المدد من عكا وبرز إلى ظاهر المدينة، واعترض المسلمين وحده، وحمل علهم، فلم يتقدم إليه أحد، فوقف بين الصفين واستدعى طعاماً من المسلمين، ونزل فأكل، فأمر صلاح الدين عسكره بالحملة عليهم، وبالجد في قتالهم، فتقدم إليه بعض أمرائه يعرف بالجناح، وهو أخو المشطوب ابن عي بن أحمد الهكاري، فقال له: يا صلاح الدين قل لمماليكك الذين أخذوا أمس الغنيمة، وضربوا الناس بالحماقات، أن يتقدموا فيقاتلوا، إذا كان القتال فنحن، وإذا كان الغنيمة فلهم. فغضب صلاح الدين من كلامه وعاد عن الفرنج.
وكان رحمه الله حليماً كريماً كثير العفو عند المقدرة، ونزل في خيامه، وأقام حتى اجتمعت العساكر، وجاء إليه ابنه الأفضل وأخوه العادل وعساكر الشرق، فرحل بهم إلى الرملة لينظر ما يكون منه ومن الفرنج، فلزم الفرنج يافا ولم يبرحوا منها.
ذكر الهدنة مع الفرنج وعود صلاح الدين إلى دمشق (5/210)
في العشرين من شعبان من هذه السنة عقدت بين المسلمين والفرنج هدنة لمدة ثلاث سنين وثمانية أشهر، أولها هذا التاريخ، وافق أول أيلول؛ وكان سبب الصلح أن ملك إنكلتار لما رأى اجتماع العساكر، وأنه لا يمكنه مفارقة ساحل البرح، وليس بالساحل للمسلمين بلد يطمع فيه، وقد طالت غيبته عن بلاده، راسل صلاح الدين في الصلح، وأظهر من ذلك ضد ما كان يطلب منه المصاف والحرب، فأعاد الفرنجي رسله مرة بعد مرة، ونزل عن تتمة عمارة عسقلان وعن غزة والداروم والرملة، وأرسل إلى الملك العادل في تقرير هذه القاعدة، فأشار هو وجماعة الأمراء بالإجابة إلى الصلح، وعرفوه ما عند العسكر من الضجر والملل، وما قد هلك من أسلحتهم ودوابهم ونفد من نفقاتهم، وقالوا: إن هذا الفرنجي إنما طلب الصلح ليركب البحر ويعود إلى بلاده، فإن تأخرت إجابته إلى أن يجيء الشتاء وينقطع الركوب في البحر نحتاج للبقاء هاهنا سنة أخرى، وحينئذ يعظم الضرر على المسلمين.
وأكثروا القول له في هذا المعنى، فأجاب حينئذ إلى الصلح، فحضر رسل الفرنج وعقدوا الهدنة، وتحالفوا على هذه القاعدة، وكان في جملة من حضر عند صلاح الدين باليان بن بارزان الذي كان صاحب الرملة ونابلس، فلما حلف صلاح الدين قال له: اعلم أنه ما عمل أحد في الإسلام ما عملت، ولا هلك من الفرنج مثل ما هلك منهم هذه المدة فإننا أحصينا من خرج إلينا في البحر من المقاتلة، فكانوا ستمائة ألف رجل ما عاد منهم إلى بلادهم من كل عشرة واحد، بعضهم قتلته أنت، وبعضهم مات، وبعضهم غرق.
وأما صلاح الدين، فإنه بعد تمام الهدنة سار إلى البيت المقدس، وأمر بإحكام سوره، وعمل المدرسة والرباط والبيمارستان وغير ذلك من مصالح المسلمين، ووقف عليها الوقوف، وصام رمضان بالقدس، وعزم على الحج والإحرام منه، فلم يمكنه ذلك، فسار عنه خامس شوال نحو دمشق، واستناب بالقدس أميراً اسمه عز الدين جورديك، وهو من المماليك النورية.
ولما سار عنه جعل طريقه على الثغور الإسلامية كنابلس وطبرية وصفد وتبنين وقصد بيروت، وتعهد هذه البلاد، وأمر بإحكامها، فلما كان في بيروت أتاه بيمند صاحب أنطاكية وأعمالها، واجتمع به وخدمه، فخلع عليه صلاح الدين وعاد إلى بلده، فلما عاد رحل صلاح الدين إلى دمشق، فدخلها في الخامس والعشرين من شوال، وكان يوم دخوله إليها يوماً مشهوداً، وفرح الناس به فرحاً عظيماً لطول غيبته، وذهاب العدو عن بلاد الإسلام.
ذكر وفاة قلج أرسلان
في هذه السنة، منتصف شعبان، توفي الملك قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش بن سلجوق السلجوقي بمدينة قونية، وكان له من البلاد قونية وأعمالها، وأقصرا، وسيواس، وملطية، وغير ذلك من البلاد، وكانت مدة ملكه نحو تسع وعشرين سنة، وكان ذا سياسة حسنة، وهيبة عظيمة، وعدل وافر، وغزوات كثيرة إلى بلاد الروم، فلما كبر فوق بلاده على أولاده، فاستضعفوه، ولم يلتفتوا إليه، وحجر عليه ولده قطب الدين.
وكان قلج أرسلان قد استناب، في تدبير ملكه، رجلاً يعرف باختيار الدين حسن، فلما غلب قطب الدين على الأمر قتل حسناً، ثم أخذ والده وسار به إلى قيسارية ليأخذها من أخيه الذي سلمها إليه أبوه، فحصرها مدة، فوجد والده قلج أرسلان فرصة، فهرب ودخل قيسارية وحده. فلما علم قطب الدين ذلك عاد إلى قونية وأقصر فملكهما، ولم يزل قلج أرسلان يتحول من ولد إلى ولد، وكل منهم يتبرم به، حتى مضى إلى ولده غياث الدين كيخسرو، صاحب مدينة برغلوا، فلما رآه فرح به، وخدمه، وجمع العساكر، وسار هو معه إلى قونية، فملكها، وسار إلى اقصرا ومعه والده قلج أرسلان، فحصرها، فمرض أبوه، فعاد به إلى قونية فتوفي بها ودفن هناك، وبقي ولده غياث الدين في قونية مالكاً لها، حتى أخذتها منه أخوه ركن الدين سليمان، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وقد حدثني بعض من أثق به من أهل العلم بما يحكيه، وكان قد وصل تلك البلاد بغير هذا، ونحن نذكره، قال إن قلج أرسلان قسم بلاده بين أولاده في حياته، فسلم دوقاط إلى ابنه ركن الدين سليمان، وسلم قونية إلى ولده كيخسر وغياث الدين، وسلم أنقرة، وهي التي تسمى انكشورية إلى ولده محيي الدين، وسلم ملطية إلى ولده معز الدين قيصر شاه، وسلم أبلستين إلى ولده قطب الدين، وسلم نكسار إلى ولد آخر، وسلم أماسيا إلى ولد أخيه. (5/211)
هذه أمهات البلاد، وينضاف إلى كل بلد من هذه ما يجاورها من البلاد الصغار التي ليست مثل هذه، ثم إنه ندم على ذلك، وأراد أن يجمع الجميع لولده الأكبر قطب الدين، وخطب له ابنه صلاح الدين يوسف، صاحب مصر والشام، ليقوى به، فلما سمع باقي أولاده بذلك امتنعوا عليه، وحرجوا عن طاعته، وزال حكمه عنهم، فسار يتردد بينهم على سبيل الزيارة، فيقيم عند كل واحد منهم مدة، وينتقل إلى الآخر، ثم إنه مضى إلى ولده كيخسرو، صاحب قونية، على عادته، فخرج إليه، ولقيه، وقبل الأرض بين يديه، وسلم قونية إليه وتصرف عن أمره، فقال لكيخسرو: أريد أن أسير إلى ولدي الملعون محمود، وهو صاحب قيسارية، وتجيء أنت معي لأخذها منه؛ فتجهز وسار معه، وحصر محموداً بقيسارية، فمرض قلج أرسلان، وتوفي عليها. فعاد كيخسرو، وبقي كل واحد من الأولاد على البلد الذي بيده.
وكان قطب الدين، صاحب أقصرا وسيواس، إذا أراد أن يسير من إحدى المدينتين إلى الأخرى يجعل طريقه على قيسارية، وبها أخوه نور الدين محمود، وليست على طريقه إنما كان يقصدها ليظهر المودة لأخيه والمحبة له، وفي نفسه الغدر، فكان أخوه محمود يقصده ويجتمع به، ففي بعض المرات نزل بظاهر البلد على عادته، وحضر أخوه محمود عنده غير محتاط، فقتله قطب الدين، وألقى رأسه إلى أصحابه، وأراد أخذ البلد، فامتنع من به من أصحاب أخيه عليه، ثم إنهم سلموه إليه على قاعدة استمرت بينهم.
وكان عند محمود أمير كبير، وكان يحذره من أخيه قطب الدين ويخوفه، فلم يصغ إليه، وكان جواداً، كثير الخير، والتقدم في الدولة عند نور الدين، فلما قتل قطب الدين أخاه قتل حسناً معه، وألقاه على الطريق، فجاء كلب يأكل من لحمه، فثار الناس، وقالوا: لا سمعاً ولا طاعة! هذا رجل مسلم، وله هاهنا مدرسة، وتربة، وصدقات دارة، وأفعال حسنة، لا نتركه تأكله الكلاب؛ فأمر به فدفن في مدرسته، وبقي أولاد قلج أرسلان على حالهم.
ثم إن قطب الدين مرض ومات، فسار أخوه ركن الدين سليمان صاحب دوقاط إلى سيواس، وهي تجاوره، فملكها، ثم سار منها إلى قيسارة وأقصرا، ثم بقي مديدة، وسار إلى قونية وبها أخوه غياث الدين، وفحصره بها وملكها ففارقها غياث الدين إلى الشام، ثم إلى بلد الروم، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى؛ ثم سار بعد ذلك إلى ركن الدين إلى نكسار وأماسيا، فملكها، وسار إلى ملطية سنة سبع وتسعين وخمسمائة، فملكها وفارقها أخوه معز الدين إلى الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وكان معز الدين هذا تزوج ابنة للعادل، فأقام عنده. واجتمع لركن الدين ملك جميع الإخوة ما عدا أنقرة فإنه منيعة لا يوصل إليها، فجعل عليها عسكراً يحصرها صيفاً وشتاء ثلاث سنين، فتسلمها سنة إحدى وستمائة، ووضع على أخيه الذي كان بها من يقتله إذ فارقها، فلما سار عنها قتل.
وتوفي ركن الدين في تلك الأيام، ولم يسمع خبر قتل أخيه بل عاجله الله تعالى لقطع رحمه.
وإنما أوردنا هذه الحادثة هاهنا لنتبع بعضها بعضاً، ولأني لم أعلم تاريخ كل حادثة منها لأثبتها فيه.
ذكر ملك شهاب الدين أجمير وغيرها من الهند
قد ذكرنا سنة ثلاث وثمانين غزوة شهاب الدين الغوري إلى بلد الهند، وانهزامه، وبقي إلى الآن وفي نفسه الحقد العظيم على الجند الغورية الذين انهزموا، وما ألزمهم من الهوان.
فلما كان هذه السنة خرج من غزنة وقد جمع عساكره وسار منهم يطلب عدوه الهندي الذي هزمه تلك النوبة، فلما وصل إلى برشاوور تقدم إليه شيخ من الغورية كان يدل عليه، فقال له: قد قربنا من العدو؛ وما يعلم أحد أني نمضي ولا من نقصد ولا نرد على الأمراء سلاماً، وهذا لا يجوز فعله، فقال له السلطان: اعلم أنني منذ هزمني هذا الكافر ما نمت مع زوجتي، ولا غيرت ثياب البياض عني، وأنا سائر إلى عدوي، ومعتمد على الله تعالى لا على الغورية، ولا على غيرهم، فإن نصرني الله، سبحانه، ونصر دينه فمن فضله وكرمه، وإن انهزمنا فلا تطلبوني فيمن انهزم، ولو هلكت تحت حوافر الخيل.
فقال له الشيخ: سوف ترى بني عمك من الغورية ما يفعلون، فينبغي أن تكلمهم وترد سلامهم. ففعل ذلك، وبقي أمراء الغورية يتضرعون بين يديه، ويقولون سوف ترى ما نفعل. (5/212)
وسار إلى أن وصل إلى موضع المصاف الأول، وجازه مسيرة أربعة أيام، وأخذ عدة مواضع من بلاد العدو، فلما سمع الهندي تجهز، وجمع عساكره، وسار يطلب المسلمين، فلما بقي بين الطائفتين مرحلة عاد شهاب الدين وراءه والكافر في أعقابه أربع منازل، فأرسل الكافر إليه يقول له: أعطني يدك، إنك تصاففني في باب غزنة حتى أجيء وراءك إلا فنحن مثقلون، ومثلك لا يدخل البلاد شبه اللصوص ثم يخرج هارباً، ما هذا فعل السلاطين، فأعاد الجواب: إنني لا أقدر على حربك.
وتم على حاله عائداً إلى أن بقي بينه وبين بلاد الإسلام ثلاثة أيام، والكافر في أثره يتبعه، حتى لحقه قريباً من مرندة فجرد شهاب الدين من عسكره سبعين ألفاً، وقال: أريد هذه الليلة تدورون حتى تكونوا وراء عسكر العدو، وعند صلاة الصبح تأتون أنتم من تلك الناحية، وأنا من هذه الناحية؛ ففعلوا ذلك، وطلع الفجر.
ومن عادة الهنود أنهم لا يبرحون من مضجعهم إلى أن تطلع الشمس، فلما أصبحوا حمل عليهم عسكر المسلمين من كل جانب، وضربت الكوسات، فلم يلتفت ملك الهند إلى ذلك وقال: من يقدم علي، أنا هذا؟ والقتل قد كثر في الهنود، والنصر قد ظهر للمسلمين؛ فلما رأى ملك الهند ذلك أحضر فرساً له سابقاً، وركب ليهرب، فقال له أعيان أصحابه: إنك حلفت لنا أنك لا تخلينا وتهرب؛ فنزل عن الفرس وركب الفيل ووقف موضعه، والقتال شديد، والقتل قد كثر في أصحابه، فانتهى المسلمون إليه وأخذوه أسيراً، وحينئذ عظم القتل والأسر في الهنود، ولم ينج منهم إلا القليل.
وأحضر الهندي بين يدي شهاب الدين، فلم يخدمه فأخذ بعض الحجاب بلحيته، وجذبه إلى الأرض، حتى أصابها جبينه، وأقعده بين يدي شهاب الدين، فقال له شهاب الدين: لو استأسرتني ما كنت تفعل بي؟ فقال الكافر: كنت استعملت لك قيداً من ذهب أقيدك به، فقال شهاب الدين: بل نحن ما نجعل لك من القذر ما نقيدك.
وغنم المسلمون من الهنود أموالاً كثيرة وأمتعة عظيمة، وفي جملة ذلك أربعة عشر فيلاً، من جملتها الفيل الذي جرح شهاب الدين في تلك الوقعة. وقال ملك الهند لشهاب الدين: إن كنت طالب بلاد، فما بقي فيها من يحفظها، وإن كنت طالب مال، فعندي أموال تحمل أجمالك كلها.
فسار شهاب الدين وهو معه إلى الحصن الذي له يعول عليه، وهو أجمير، فأخذه، وأخذ جميع البلاد التي تقاربه، وأقطع جميع البلاد لمملوكه قطب الدين أيبك، وعاد إلى غزنة، وقتل ملك الهند.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة قبض على أمير الحاج طاشتكين ببغداد، وكان نعم الأمير، عادلاً في الحاد، رفيقاً بهم، نحباً لهم، له أوراد كثيرة من صلوات وصيام، وكان كثير الصدقة، لا جرم، وقفت أعماله بين يديه فخلص من السجن، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها خرج السلطان طغرل بن أرسلان بن طغرل من الحبس بعد موت قزل أرسلان بن إيلدكز، والتقى هو وقتلغ إينانج بن البهلوان بن إيلدكز، فانهزم إينانج إلى الري، وكان ما نذكره، إن شاء الله تعالى، سنة تسعين وخمسمائة.
وفيها، في رجب، توفي الأمير السيد علي بن المرتضى العلوي الحنفي مدرس جامع السلطان ببغداد.
وفي شعبان منها توفي أبو علي الحسن بن هبة الله بن البوقي، الفقيه الشافعي الواسطي، وكان عالماً بالمذهب انتفع به الناس.

This site was last updated 07/28/11