Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم عزت اندراوس

سنة ثمانين وخمسمائة سنة إحدى وثمانين وخمسمائة

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
بقية سنة575 وسنة576
سنة577 وسنة578
سنة579
سنة580 وسنة581
سنة582 وسنة583
سنة584
سنة585
سنة586
سنة587
سنة588
سنة589
سنة590 وسنة591
سنة592 وسنة593
سنة594
سنة595
سنة596 وسنة597
سنة598 وسنة599
سنة600
سنة601 وسنة602
سنة603
سنة604
سنة605 وسنة606
سنة607 وسنة608 وسنة609
سنة610 وسنة611 وسنة612
سنة613 وسنة614
سنة615
سنة616 وسنة617
سنة618 وسنة619
سنة620 وسنة621
سنة621

 

الجزء التالى من كتاب: الكامل في التاريخ المؤلف: أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير (المتوفى: 630هـ) تحقيق: عمر عبد السلام تدمري الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1417هـ / 1997م عدد الأجزاء:  10

**************************************************************************************************************************

ثم دخلت سنة ثمانين وخمسمائة
ذكر إطلاق مجاهد الدين من الحبس وانهزام العجم
(5/160)
في هذه السنة، في المحرم، أطلق أتابك عز الدين، صاحب الموصل، مجاهد الدين قايماز من الحبس بشفاعة شمس الدين البهلوان، صاحب همذان، وبلاد الجبل، وسيره إلى البهلوان وأخيه قزل يستنجدهما على صلاح الدين، فسار إلى قزل أولاً، وهو صاحب أذربيجان، فلم يمكنه من المضي إلى البهلوان، وقال: ما تختاره أنا أفعله؛ وجهز معه عسكراً كثيراً نحو ثلاثة آلاف فارس، وساروا نحو إربل ليحصروها، فلما قاربوها أفسدوا في البلاد وخربوها، ونهبوا وسبوا، وأخذوا النساء قهراً، ولم يقدر مجاهد الدين على منعهم، فسار إليهم زين الدين يوسف، صاحب إربل، في عسكره، فلقيهم وهم متفرقون في القرى ينهبون ويحرقون، فانتهز الفرصة فيهم بتفرقهم، وألقى بنفسه وعسكره على أول من لقيه منهم، فهزمهم وتمت الهزيمة على الجميع، وغنم الأربليون أموالهم ودوابهم وسلاحهم، وعاد العجم إلى بلادهم منهزمين، وعاد صاحب إربل إلى بلده مظفراً غانماً، وعاد مجاهد الدين إلى الموصل، فكان يحكي: إنني ما زلت أنتظر العقوبة من الله تعالى على سوء أفعال العجم، فإنني رأيت منهم ما لم أكن أظنه يفعله مسلم بمسلم، وكنت أنهاهم فلا يسمعون، حتى كان من الهزيمة ما كان.
ذكر وفاة يوسف بن عبد المؤمن وولاية ابنه يعقوب
في هذه السنة سار أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن إلى بلاد الأندلس، وجاز البحر إليها في جمع عظيم من عساكر المغرب، فإنه جمع وحشد الفارس والراجل؛ فلما عبر الخليج قصد غربي البلاد، فحصر مدينة شنترين، وهي للفرنج، شهراً، فأصابه بها مرض فمات منه في ربيع الأول، وحمل في تابوت إلى مدينة إشبيلية من الأندلس.
وكانت مدة ملكه اثنتين وعشرين سنة وشهراً، ومات عن غير وصية بالملك لأحد من أولاده، فاتفق رأي قواد الموحدين وأولاد عبد المؤمن على تمليك ولده أبي يوسف يعقوب بن يوسف ابن عبد المؤمن فملكوه من الوقت الذي مات فيه أبوه لئلا يكونوا بغير ملك يجمع كلمتهم لقربهم من العدو؛ فقام في ذلك أحسن قيام، وأقام راية الجهاد، وأحسن السيرة في الناس. وكان ديناً مقيماً للحدود في الخاص والعام، فاستقامت له الدولة وانقادت إليه بأسرها مع سعة أقطارها، ورتب ثغور الأندلس وشحنها بالرجال، ورتب المقاتلة في سائر بلادها، وأصلح أحوالها وعاد إلى مراكش.
وكان أبوه يوسف حسن السيرة، وكان طرقه ألين من طريق أبيه مع الناس، يحب العلماء ويقربهم ويشاورهم، وهم أهل خدمته وخاصته. وأحبه الناس ومالوا إليه، وأطاعه من البلاد ما امتنع على أبيه، وسلك في جباية الأموال ما كان أبوه يأخذه، ولم يتعده إلى غيره، واستقامت له البلاد بحسن فعله مع أهلها، ولم يزل كذلك إلى أن توفي، رحمه الله تعالى.
ذكر غزو صلاح الدين الكرك
في هذه السنة، في ربيع الآخر، سار صلاح الدين من دمشق يريد الغزو، وجمع عساكره، فأتته من كل ناحية، ومن أتاه نور الدين محمد بن قرا أرسلان، صاحب الحصن. وكتب إلى مصر ليحضر عسكرها عنده على الكرك، فنازل الكرك وحصره، وضيق على من به، وأمر بنصب المجانيق على ربضه، واشتد القتال، فملك المسلمون الربض، وبقي الحصن، وهو الربض على سطح جبل واحد، إلا أن بينهما خندقاً عظيماً عمقه نحو ستين ذراعاً، فأمر صلاح الدين بإلقاء الأحجار والتراب فيه ليطمه، فلم يقدر أحد على الدنو منه لكثرة الرمي عليهم بالسهام من الجرخ والقوس والأحجار من المجانيق، فأمر أن يبني بالأخشاب واللبن ما يمكن الرجال يمشون تحته إلى الخندق ولا يصل إليهم شيء من السهام والأحجار، ففعل ذلك، فصاروا يمشون تحت السقائف ويلقون في الخندق ما يطمه، ومجانيق المسلمين مع ذلك ترمي الحصن ليلاً نهاراً. (5/161)
وأرسل من فيه من الفرنج إلى ملكهم وفرسانهم يستمدونهم ويعرفونهم عجزهم وضعفهم عن حفظ الحصن، فاجتمعت الفرنج عن آخرها، وساروا إلى نجدتهم عجلين، فلما بلغ الخبر بمسيرهم إلى صلاح الدين رحل عن الكرك إلى طرقهم ليلقاهم ويصاففهم، ويعود بعد أن يهزمهم إلى الكرك، فقرب منهم وخيم ونزل، ولم يمكنه الدنو منهم لخشونة الأرض وصعوبة المسلك إليهم وضيقه، فأقام أياماً ينتظر خروجهم من ذلك المكان ليتمكن منهم، فلم يبرحوا منه خوفاً على نفوسهم، فلما رأى ذلك رحل عنهم عدة فراسخ، وجعل بإزائهم من يعلمه بمسيرهم، فساروا ليلاً إلى الكرك، فلما علم صلاح الدين ذلك علم أنه لا يتمكن حينئذ ولا يبلغ غرضه، فسار إلى مدينة نابلس، ونهب كل ما على طريقه من البلاد؛ فلما وصل إلى نابلس أحرقها وخربها ونهبها، وقتل فيها وأسر من المسلمين، فاستنقذهم، ورحل إلى جينين فنهبها وخربها، وعاد إلى دمشق ونهب ما على طريه وخربه، وبث السرايا في طريقه يميناً وشمالاً يغنون ويخربون، ووصل إلى دمشق.
ذكر ملك الملثمين بجاية وعودها إلى أولاد عبد المؤمن
في هذه السنة في شعبان، خرج علي بن إسحاق المعروف بابن غانية وهو من أعيان الملثمين الذين كانوا ملوك المغرب، وهو حينئذ صاحب جزيرة ميورقة، إلى بجاية فملكها، وسبب ذلك أنه لما سمع بوفاة يوسف بن عبد المؤمن عمر أسطوله فكان عشرين قطعة وسار في جموعه فأرسى في ساحل بجاية، وخرجت خيله ورجاله من الشواني فكانوا نحو مائتي فارس من الملثمين وأربعة آلاف راجل، فدخل مدينة بجاية بغير قتال لأنه اتفق أن واليها سار عنها قبل ذلك بأيام إلى مراكش ولم يترك فيها جيشاً ولا ممانعاً لعدم عدو يحفظها منه، فجاء الملثم ولم يكن في حسابهم أنه يحدث نفسه بذلك، فأرسى بها ووافقه جماعة من بقايا الدولة بين حماد وصاروا معه فكثر جمعه بهم وقويت نفسه، فسمع خبره والي بجاية فعاد من طريقه ومعه من الموحدين ثلثمائة فارس، فجمع من العرب والقبائل الذين في تلك الجهات نحو ألف فارس، فسمع بهم الملثم وبقربهم منه، فخرج إليهم وقد صار معه قدر ألف فارس، وتواقفوا ساعة فانضاف جميع الجموع التي كانت مع والي بجاية إلى الملثم، فانهزم حينئذ والي بجاية ومن معه من الموحدين وساروا إلى مراكش، وعاد الملثم إلى بجاية فجمع جيشه وخرج إلى أعمال بجاية فأطاعه جميعهم إلا قسنطينة الهوى فحصرها إلى أن جاء جيش من الموحدين من مراكش في صفر سنة إحدى وثمانين وخمسمائة في البر والبحر وكان بها يحيى وعبد الله أخو علي بن إسحق الملثم، فخرجا منها هاربين ولحقا بأخيهما فرحل عن قسنطينة وسار إلى إفريقية. وكان سبب إرسال الجيش من مراكش أن والي بجاية وصل إلى يعقوب بن يوسف صاحب المغرب وعرفه ما جرى ببجاية واستيلاء الملثمين عليها وخوفه عاقبة التواني فجهز العساكر في البر عشرين ألف فارس وجهز الأسطول في البحر في خلق كثير واستعادوها.
ذكر وفاة صاحب ماردين وملك ولده
في هذه السنة مات قطب الدين إيلغازي بن نجم الدين بن ألبي بن تمرتاش ابن إيلغازي بن أرتق صاحب ماردين، وملك بعده ابنه حاسم الدين بولق أرسلان وهو طفل وقام بتربيه وتدبير مملكته نظام الدين البقش مملوك أبيه، وكان شاه أرمن صاحب خلاط خال قطب الدين فحكم في دولته، وهو رتب البقش مع ولده، وكان البقش ديناً خيراً عادلاً حسن السيرة حليماً، فأحسن تربيته وتزود أمه، فلما كبر الولد لم يمكنه النظام من مملكته لخبط وهوج فيه، وكان لنظام الدين هذا مملوك اسمه لؤلؤ قد تحكم في دولته وحكم فيها فكان يحمل النظام على ما يفعله مع الولد، ولم يزل الأمر كذلك إلى أن مات الولد وله أخ أصغر منه لقبه قطب الدين فرتبه النظام في الملك وليس له منه إلا الاسم والحكم إلى النظام ولؤلؤ، فبقي كذلك إلى سنة إحدى وستمائة، فمرض النظام البقش فأتاه قطب الدين يعوده، فلما خرج من عنده معه لؤلؤ وضربه قطب الدين بسكين معه فقتله ثم دخل إلى النظام وبيده السكين فقتله أيضاً وخرج وحده ومعه غلام له وألقى الرأسين إلى الأجناد وكانوا كلهم قد أنشأهم النظام ولؤلؤ فأذعنوا له بالطاعة، فلما تمكن أخرج من أراد وترك من أراد واستولى على قلعة ماردين وأعمالها وقلعة البارعية وصور وهو إلى الآن حاكم فقيهاً حازم في أفعاله.
ذكر عدة حوادث (5/162)
في هذه السنة توفي صدر الدين شيخ الشيوخ عبد الرحمن بن شيخ الشيوخ إسماعيل بن شيخ الشيوخ أبي سعيد أحمد في شعبان، وكان قد سار في ديوان الخلافة رسولاً إلى صلاح الدين ومعه شهاب الدين بشير الخادم في معنى الصلح بينه وبين عز الدين صاحب الموصل، فوصلا إلى دمشق وصلاح الدين بحصر الكرك، فأقاما إلى أن عاد فلم يستقر في الصلح أمر ومرضا وطلبا العودة إلى العراق، فأشار عليهما صلاح الدين بالمقام إلى أن يصطلحا، فلم يفعل وسارا في الحر فمات بشير بالحسنة.
ومات صدر الدين بالرحبة، ودفن بمشهد البوق، وكان واحد زمانه، قد جمع بين رياسة الدين والدنيا، وكان ملجأ لكل خائف، صالحاً، كريماً، حليماً، وله مناقب كثيرة، ولم يستعمل في مرضه هذا دواء توكلاً على الله تعالى.
وفيها توفي عبد اللطيف بن محمد بن عبد اللطيف الخجندي الفقيه الشافعي، رئيس أصفهان، وكان موته بباب همذان وقد عاد الحج، وله شعر فمنه:
بالحمى دار سقاها مدمعي ... يا سقى الله الحمى من مربع
ليت شعري والأماني ضلة ... هل إلى وادي الغض من مرجع
أذنت علوة للواشي بنا ... ما على علوة لو لم تسمع
أو تحرت رشداً فيما وشى ... أو عفت عني فما قلبي معي
رحمه الله، ورضي عنه وأرضاه.


ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وخمسمائة
ذكر حصر صلاح الدين الموصل ورحيله عنها لوفاة شاه أرمن

في هذه السنة حصر صلاح الدين يوسف بن أيوب الموصل مرة ثانية، وكان مسيره من دمشق في ذي القعدة من السنة الماضية، فوصل إلى حلب، وأقام بها إلى أن خرجت السنة، وسار منها فعبر إلى أرض الجزيرة. فلما وصل حران قبض على مظفر الدين كوكبري بن زين الدين الذي كان سبب ملكه الديار الجزرية.
وسبب قبضه عليه أن مظفر الدين كان يراسل صلاح الدين كل وقت، ويشير عليه بقصد الموصل، ويحسن له ذلك ويقوي طمعه، حتى إنه بذل له، إذا سار إليها، خمسين ألف دينار، فلما وصل صلاح الدين إلى حران لم يف له بما بذل من المال، وأنكر ذلك، فقبض عليه، ووكل به، ثم أطلقه، وأعاد إليه مدينتي حران والرها، وكان قد أخذهما منه، وإنما أطلقه لأنه خاف انحراف الناس عنه بالبلاد الجزرية، لأنهم كلهم علموا بما اعتمده مظفر الدين معه من تمليكه البلاد فأطلقه.
وسار صلاح الدين عن حران في ربيع الأول، فحضر عنده عساكر الحصن ودارا ومعز الدين سنجر شاه، صاحب الجزيرة، وهو ابن عز الدين صاحب الموصل، وكان قد فارق طاعة عمه بعد قبض مجاهد الدين، وسار مع صلاح الدين إلى الموصل، فلما وصلوا إلى مدينة بلد سير أتابك عز الدين والدته إلى صلاح الدين ومعها ابنة عمه نور الدين محمود بن زنكي وغيرهما من النساء، وجماعة من أعيان الدولة، يطلبون منه المصالحة، وبذلوا الموافقة، والإنجاد بالعساكر ليعود عنهم، وإنما أرسلهن لأنه وكل من عنده ظنوا أنهن إذا طلبن منه الشام أجابهن إلى ذلك، لا سيما ومعهن ابنة مخدومه وولي نعمته نور الدين، فلما وصلن إليه أنزلهن، وأحضر أصحابه واستشارهم فيما يفعله ويقوله، فأشار أكثرهم بإجابتهن إلى ما طلبن منه؛ وقال له الفقيه عيسى وعلي نب أحمد المشطوب، وهما من بلد الهكارية من أعمال الموصل: مثل الموصل لا يترك لامرأة، فإن عز الدين ما أرسلهن إلا وقد عجز عن حفظ البلد.
ووافق ذلك هواه، فأعادهن خائبات، واعتذر بأعذار غير مقبولة، ولم يكن إرسالهن عن ضعف ووهن، إنما أرسلهن طلباً لدفع الشر بالتي هي أحسن. فلما عدن رحل صلاح الدين إلى الموصل وهو كالمتيقن أنه يملك البلد، وكان الأمر بخلاف ذلك، فلما قارب البلد نزل على فرسخ منه، وامتد عسكره في تلك الصحراء بنواحي الحلة المراقية، وكان يجري بين العسكرين مناوشات بظاهر الباب العمادي، وكنت إذا ذاك بالموصل، وبذل العامة نفوسهم غيظاً وحنقاً لرده النساء؛ فرأى صلاح الدين ما لم يكن يحسبه، فندم على رجه النساء ندامة الكسعي، حيث فاته حسن الذكر وملك البلد، وعاد على الذين أشاروا بردهن باللوم والتوبيخ. (5/163)
وجاءته كتب القاضي الفاضل وغيره ممن ليس له هوى في الموصل يقبحون فعله وينكرونه، وأتاه وهو على الموصل زين الدين يوسف بن زين الدين صاحب إربل، فأنزله ومعه أخوه مظفر الدين كوكبري وغيرهما من الأمراء بالجانب الشرقي من الموصل، وسير من المنزلة علي بن أحمد المشطوب الهكاري إلى قلعة الجديدة من بلد الهكارية، فحصرها واجتمع عليه من الأكراد والهكارية كثير، وبقي هناك إلى أن رحل صلاح الدين عن الموصل.
وكان عامة الموصل يعبرون دجلة فيقاتلون من الجانب الشرقي من العسكر ويعودون؛ ولما كان صلاح الدين يحاصر الموصل بلغ أتابك عز الدين صاحبها أن نائبه بالقلعة زلفندار يكاتبه، ويصدر عن رأيه، وضبط الأمور، وأصلح ما كان فسد من الأحوال، حتى آل الأمر إلى الصلح، على ما نذكره إن شاء الله.
وحضر عند صلاح الدين إنسان بغدادي أقام بالموصل، ثم خرج إلى صلاح الدين، فأشار عليه بقطع دجلة عن الموصل إلى ناحية نينوى، وقال: إن دجلة إذا نقلت عن الموصل عطش أهلها فملكناها بغير قتال. فظن صلاح الدين أن قوله صدق، فعزم على ذلك، حتى علم أنه لا يمكن قطعه بالكلية، فإن المدة تطول، والتعب يكثر، ولا فائدة وراءه، وقبحه عنده أصحابه، فأعرض عنه.
وأقام بمكانه من أول ربيع الآخر إلى أن قارب آخره، ثم رحل عنها إلى ميافارقين. وكان سبب ذلك أن شاه أرمن، صاحب خلاط، توفي بها تاسع ربيع الآخر، فوصل الخبر بوفاته في العشرين منه، فعزم على الرحيل إليها وتملكها، حيث إن شاه أرمن لم يخلف ولداً ولا أحداً من أهل بيته يملك بلاده بعده، وإنما قد استولى عليها مملوك له اسمه بكتمر ولقبه سيف الدين، فاستشار صلاح الدين أمراءه ووزراءه، فاختلفوا، فأما من هواه بالموصل فيشير بالمقام وملازمة الحصار لها؛ وأما من يكره أذى البيت الأتابكي فإنه أشار بالرحيل، وقال: إن ولاية خلاط أكبر وأعظم، وهي سائبة لا حافظ لها، و هذه لها سلطان يحفظها ويذب عنها، وإذا ملكنا تلك سهل أمر هذه وغيرها؛ فتردد في أمره، فاتفق أنه جاءه كتب جماعة من أعيان خلاط، من أهلها وأمرائها، يستدعونه ليسلموا إليه البلد، فسار عن الموصل، وكانت مكاتبة من كاتبه خديعة ومكراً، فإن شمس الدين البهلوان بن إيلدكز، صاحب أذربيجان وهمذان وتلك المملكة، قد قصدهم ليأخذ البلاد منهم، وكان قبل ذلك قد زوج شاه أرمن، على كبر سنه، بنتاً له ليجعل ذلك طريقاً إلى ملك خلاط وأعمالها، فلما بلغهم مسيره إليهم كاتبوا صلاح الدين يستدعونه إليهم ليسلموا البلد إليه ليدفعوا به البهلوان يدفعوه بالبهلوان، ويبقى البلد بأيديهم؛ فسار صلاح الدين وسير في مقدمته ابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه، ومظفر الدين بن زين الدين وغيرهم، فساروا إلى خلاط، ونزلوا بطوانة بالقرب من خلاط، وسار صلاح الدين إلى ميافارقين،؛ وأما البهلوان فإنه سار إلى خلاط، ونزل قريباً منها، وترددت رسل أهل خلاط بينهم وبينه وبين صلاح الدين، ثم إنهم أصلحوا أمرهم مع البهلوان، وصاروا من حزبه وخطبوا له.
ذكر وفاة نور الدين صاحب الحصن
في هذه السنة توفي نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود، صاحب الحصن وآمد، لما كان صلاح الدين على الموصل، وخلف ابنين، فملك الأكبر منهما واسمه سقمان، ولقبه قطب الدين، وتولى تدبير الأمور وزيره القوام بن سماقا الأسعردي.
وكان عماد الدين بن قرا أرسلان قد سيره أخوه نور الدين في عساكره إلى صلاح الدين، وهو يحاصر الموصل، وهو معه، فلما بلغه خبر وفاة أخيه سار ليملك البلاد بعد لصغر أولاده، فتعذر عليه ذلك، فسار إلى خرت برت فملكها، وهي بيد أولاده إلى سنة عشرين وستمائة، ولما حصر صلاح الدين ميافارقين حضر عنده ولد نور الدين فأقره على ملك أبيه، ومن جملته آمد، وكانوا خافوا أن يأخذها منهم، فلم يفعل، وردهم إلى بلادهم، وشرط عليهم أن يراجعوه فيما يفعلونه، ويصدروا عن أمره ونهيه، ورتب معه أميراً لقبه صلاح الدين من أصحابه أبيه.
ذكر ملك صلاح الدين ميافارقين (5/164)
لما سار صلاح الدين إلى خلاط جعل طريقه على ميافارقين مطمع ملكها، حيث كان صاحبه قطب الدين، صاحب ماردين، قد توفي كما ذكرنا، وملك بعد ابنه، وهو طفل، وكان حكمها إلى شاه أرمن، وعسكره فيها، فلما توفي طمع في أخذها، فلما نازلها رآها مشحونة بالرجال، وبها زوجة قطب الدين المتوفي، ومعها بنات لها منه، وهي أخت نور الدين محمد، صاحب الحصن، فأقام صلاح الدين عليها يحصرها من أول جمادى الأولى.
وكان المقدم على أجنادها أميراً اسمه يرنقش، ولقبه أسد الدين، وكان شجاعاً شهماً، يحفظ البلد، فأحسن إليه، واشتد القتال عليه ونصبت المجانيق والعرادات، فلم يصل صلاح الدين إلى ما يريد منها؛ فلما رأى ذلك عدل عن القوة والحرب إلى أعمال الحيلة، فراسل امرأة قطب الدين المقيمة بالبلد يقول لها: إن أسد الدين يرنقش قد مال إلينا في تسليم البلد ونحن نرعى حق أخيك نور الدين فيك بعد وفاته، ونريد أن يكون لك في هذا الأمر نصيب، وأنا أزوج بناتك بأولادي وتكون ميافارقين وغيرها لك وبحكمك؛ ووضع من أرسل إلى أسد يعرفه أن الخاتون قد مالت للمقاربة والانقياد إلى السلطان، وأن من بخلاط قد كاتبوه ليسلموا إليه، فخذ لنفسك.
واتفق أن رسولاً وصله من خلاط، يبذلون له الطاعة، وقالوا له من الاستدعاء إليهم ما كانوا يقولونه، فأمر صلاح الدين الرسول، فدخل إلى ميافارقين، وقال لأسد: أنت عمن تقاتل، وأنا قد جئت في تسليم خلاط إلى صلاح الدين! فسقط في يده، وضعفت نفسه، وأرسل يقترح أقطاعاً ومالاً، فأجيب إلى ذلك، وسمل البلد سلخ جمادى الأولى، وعقد النكاح لبعض أولاده على بعض بنات الخاتون، وأقر بيدها قلعة الهتاخ لتكون فيها هي وبناتها.
ذكر عود صلاح الدين إلى بلد الموصل والصلح بينه وبين أتابك عز الدين
لما فرغ صلاح الدين من أمر ميافارقين، وأحكم قواعدها، وقرر أقطاعها وولاياتها، أجمع على العود إلى الموصل، فسار نحوها، وجعل طريقه على نصيبين، فوصل إلى كفر زمار، والزمان شتاء، فنزلها في عسكره، وعزم على المقام بها وإقطاع جميع بلاد الموصل، وأخذ غلالها ودخلها، وإضعاف الموصل بذلك، إذ علم أنه لا يمكنه التغلب عليها؛ وكان نزوله في شعبان، وأقام بها شعبان ورمضان، وتردد الرسل بينه وبين عز الدين، صاحب الموصل، وصار مجاهد الدين يراسل ويتقرب، وكن قوله مقبولاً عند سائر الملوك لما علموا من صحته.
فبينما الرسل تتردد في الصلح، إذ مرض صلاح الدين، وسار من كفر زمار عائداً إلى حران، فلحقه الرسل بالإجابة إلى ما طلب، فتقرر الصلح، وحلف على ذلك، وكاتب القاعدة أن يسلم إليه عز الدين شهرزور وأعمالها وولاية القرابلي، وجميع ما وراء الزاب من الأعمال، وأن يخطب له على منابر بلاده، ويضرب اسمه على السكة، فلما حلف أرسل رسله فحلف عز الدين له، وتسلموا البلاد التي استقرت القاعدة على تسليمها.
ووصل صلاح الدين إلى حران، فأقام بها مريضاً، وأمنت الدنيا، وسكنت الدهماء، وانحسمت مادة الفتن، وكان ذلك بتوصل مجاهد الدين قايماز، رحمه الله.
وأما صلاح الدين فإنه طال مرضه بحران، وكان عنده من أهله أخوه الملك العادل، وله حينئذ حلب، وولده الملك العزيز عثمان، واشتد مرضه حتى أيسوا من عافيته، فحلف الناس لأولاده، وجعل لكل منهم شيئاً من البلاد معلوماً، وجعل أخاه العادل وصياً على الجميع، ثم إنه عوفي وعاد إلى دمشق في المحرم سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة. (5/165)
ولما كان مريضاً بحران كان عنده ابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه، وله من الأقطاع حمص والرحبة، فسار من عنده إلى حمص، فاجتاز بحلب وأحضر جماعة من أحداثها وأعطاهم مالاً، ولما وصل إلى حمص راسل جماعة من الدمشقيين وواعدهم على تسليمهم البلد إليه إذا مات صلاح الدين، وأقام بحمص ينتظر موته ليسير إلى دمشق فيملكها، فعوفي وبلغه الخبر على جهته، فلم يمض غير قليل حتى مات ابن شيركوه ليلة عيد الأضحى فإنه شرب الخمر وأكثر منها، فأصبح ميتاً، فذكروا، والعهدة عليهم، أن صلاح الدين وضع عليه إنساناً يقال له الناصح بن العميد، وهو من دمشق، فحضر عنده، ونادمه وسقاه سماً، فلما أصبحوا من الغد لم يروا الناصح، فسألوا عنه، فقيل: إنه سار من ليلته إلى صلاح الدين؛ فكان هذا مما قوى الظن. فلما توفي أعطى أقطاعه لولده شيركوه، وعمره اثنتا عشرة سنة. وخلف ناصر الدين من الأموال والخيل والآلات شيئاً كثيراً، فحضر صلاح الدين في حمص واستعرض تركته، وأخذ أكثرها ولم يترك إلا ما لا خير فيه.
وبلغني أن شيركوه بن ناصر الدين حضر عند صلاح الدين، بعد موت أبيه بسنة، فقال له: إلى أين بلغت من القرآن؟ فقال: إلى قوله تعالى: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً) النساء 10، فعجب صلاح الدين والحاضرون من ذكائه.
ذكر الفتنة بين التركمان والأكراد بديار الجزيرة والموصل
في هذه السنة ابتدأت الفتنة بين التركمان والأكراد بديار الجزيرة والموصل وديار بكر وخلاط والشام وشهرزور وأذربيجان، وقتل فيها من الخلق ما لا يحصى، ودامت عدة سنين، وتقطعت الطرق، ونهبت الأموال، وأريقت الدماء.
وكان سببها أن امرأة من التركمان تزوجت بإنسان تركماني، واجتازوا في طريقهم بقلعة من الزوزان للأكراد، فجاء أهلها وطلبوا من التركمان وليمة العرس، فامتنعوا من ذلك، وجرى بينهم كلام صاروا منه إلى القتال، فنزل صاحب تلك القلعة فأخذ الزوج فقتله، فهاجت الفتنة، وقام التركمان على ساق، وقتلوا جمعاً كثيراً من الأكراد، وثار الأكراد فقتلوا من التركمان أيضاً كذلك، وتفاقم الشر ودام.
ثم إن مجاهد الدين قايماز، رحمه الله، جمع عنده جمعاً من رؤساء الأكراد والتركمان، وأصلح بينهم، وأعطاهم الخلع والثياب وغيرها، وأخرج عليهم مالاً جماً، فانقطعت الفتنة وكفى الله شرها، وعاد الناس إلى ما كانوا عليه من الطمأنينة والأمان.
ذكر ملك الملثمين والعرب إفريقية وعودها إلى الموحدين
قد ذكرنا سنة ثمانين ملك علي بن إسحق الملثم بجاية، وإرسال يعقوب ابن يوسف بن عبد المؤمن، صاحب المغرب، العساكر واستعادتها، فسار علي إلى إفريقية، فلما وصل إليها اجتمع سليم ورباح ومن هناك من العرب، وانضاف إليهم الترك الذين كانوا قد دخلوا من مصر مع قراقوش، وقد تقدم ذكر وصوله إليها، ودخل أيضاً من أتراك مصر مملوك لتقي الدين ابن أخي صلاح الدين، اسمه بوزابة، فكثر جمعهم، وقويت شوكتهم، فلما اجتمعوا بلغت عدتهم مبلغاً كثيراً، وكلهم كاره لدولة الموحدين، واتبعوا جميعهم علي ابن إسحاق الملثم، لأنه من بيت المملكة والرياسة القديمة، وانقادوا إليه، ولقبوه بأمير المسلمين، وقصدوا بلاد إفريقية فملكوها جميعها شرقاً وغرباً إلا مدينتي تونس والمهدية، فإن الموحدين أقاموا بهما، وحفظوهما على خوف وضيق شدة، وانضاف إلى المفسد الملثم كل مفسد في تلك الأرض، ومن يريد الفتنة والنهب والفساد والشر، فخربوا البلاد والحصون والقرى، وهتكوا الحزم، وقطعوا الأشجار. (5/166)
وكان الوالي على إفريقية حينئذ عبد الواحد بن عبد الله الهنتاتي وهو بمدينة تونس، فأرسل إلى ملك المغرب يعقوب وهو بمراكش يعلمه الحال، وقصد اللثم جزيرة باشرا، وهي بقرب تونس، تشتمل على قرى كثيرة، فنازلها وأحاط بها، فطلب أهلا منه الأمان، فأمنهم، فلما دخلها العسكر نهبوا جميع ما فيها من الأموال والدواب والغلات، وسلبوا الناس حتى أخذوا ثيابهم، وامتدت الأيدي إلى النساء والصبيان، وتركوهم هلكى، فقصدوا مدينة تونس، فأما الأقوياء فكانوا يخدمون ويعملون ما يقوم بقوتهم، وأما الضعفاء فكانوا يستعطون ويسألون الناس؛ ودخل عليهم فصل الشتاء، فأهلكهم البرد ووقع فيهم الوباء، فأحصي الموتى منهم فكانوا اثنتي عشر ألفاً، هذا من موضع واحد، فما الظن بالباقي؟.
ولما استولى الملثم على إفريقية قطع خطبة أولاد عبد المؤمن وخطب للإمام الناصر لدين الله الخليفة العباسي، وأرسل إليه يطلب الخلع والأعلام السود. وقصد في سنة اثنتين وثمانين مدينة قفصة فحصرها، فأخرج أهلها الموحدين من عساكر ولد عبد المؤمن وسلموها إلى الملثم، فرتب فيها جنداً من الملثمين والأتراك، وحصنها بالرجال مع حصانتها في البناء.
وأما يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن فإنه لما وصله الخبر اختار من عساكره عشرين ألف فارس من الموحدين، وقصد قلة العسكر لقلة القوت في البلاد، ولما جرى فيها من التخريب والأذى، وسار في صفر سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، فوصل إلى مدينة تونس، وأرسل ستة آلاف فارس مع ابن أخيه، فساروا إلى علي بن إسحق الملثم ليقاتلوه، وكان بقفصة، فوافوه، وكان مع الموحدين جماعة من الترك، فخامروا عليهم، فانهزم الموحدون، وقتل جماعة من مقدميهم، وكان ذلك في ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين.
فلما بلغ يعقوب الخبر أقام بمدينة تونس إلى نصف رجب من السنة، ثم خرج فيمن معه من العساكر يطلب الملثم والأتراك، فوصل إليهم، فالتقوا بالقرب من مدينة قابس، واقتتلوا، فانهزم الملثم ومن معه، فأكثر الموحدون القتل حتى كادوا يفنونهم، فلم ينج منهم إلا القليل فقصدوا البر، ورجع يعقوب من يومه إلى قابس ففتحها وأخذ منها أهل قراقوش وأولاده وحملهم إلى مراكش، وتوجه إلى مدينة قفصة فحصرها ثلاثة أشهر، وقطع أشجارها، وخرب ما حولها، فأرسل إليه الترك الذين فيها يطلبون الأمان لأنفسهم ولأهل البلد، فأجابهم إلى ذلك، وخرج الأتراك منها سالمين، وسير الأتراك إلى الثغور لما رأى من شجاعتهم ونكايتهم في العدو، وتسلم يعقوب البلد وقتل من فيه من الملثمين، وهدم أسواره، وترك المدينة مثل قرية، وظهر ما أنذر به المهدي بن تومرت، فإنه قال إنها تخرب أسوارها وتقطع أشجارها، وقد تقدم ذلك ذلك؛ فلما فرغ يعقوب من أمر قفصة واستقامت إفريقية عاد إلى مراكش، وكان وصوله إليها سنة أربع وثمانين وخمسمائة.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة فارق الرضي أبو الخير إسماعيل القزويني الفقيه الشافعي بغداد، وكان مدرس النظامية بها، وعاد إلى قزوين، ودرس فيها بعده الشيخ أبو طالب المبارك صاحب ابن الخل، وكان من العلماء الصالحين.
وفيها كان بني أهل الكرخ ببغداد وبين أهل باب البصرة فتنة عظيمة جرح فيها كثير منهم وقتل، ثم أصلح النقيب الظاهر بينهم.
وفيها توفي الفقيه مهذب الدين عبد الله بن أسعد الموصلي، وكان عالماً بمذهب الشافعي، وله نظم حسن ونثر أجاد فهي، وكان من محاسن الدنيا، وكانت وفاته بحمص.

This site was last updated 07/28/11