Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم عزت اندراوس

سنة ست وثمانين وخمسمائة

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
بقية سنة575 وسنة576
سنة577 وسنة578
سنة579
سنة580 وسنة581
سنة582 وسنة583
سنة584
سنة585
سنة586
سنة587
سنة588
سنة589
سنة590 وسنة591
سنة592 وسنة593
سنة594
سنة595
سنة596 وسنة597
سنة598 وسنة599
سنة600
سنة601 وسنة602
سنة603
سنة604
سنة605 وسنة606
سنة607 وسنة608 وسنة609
سنة610 وسنة611 وسنة612
سنة613 وسنة614
سنة615
سنة616 وسنة617
سنة618 وسنة619
سنة620 وسنة621
سنة621

 

الجزء التالى من كتاب: الكامل في التاريخ المؤلف: أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير (المتوفى: 630هـ) تحقيق: عمر عبد السلام تدمري الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1417هـ / 1997م عدد الأجزاء:  10

**************************************************************************************************************************

ثم دخلت سنة ست وثمانين وخمسمائة
ذكر وقعة الفرنج واليزك وعود صلاح الدين إلى منازلة الفرنج

قد ذكرنا رحيل صلاح الدين عن عكا إلى الخروبة لمرضه، فما برأ أقام بمكانه إلى أن ذهب الشتاء؛ وفي مدة مقامه بالخروبة كان يزكه وطلائعه لا تنقطع عن الفرنج.
فلما دخل صفر من سنة ست وثمانين وخمسمائة سمع الفرنج أن صلاح الدين قد سار للصيد، ورأى العسكر الذي ي اليزك عندهم قليلاً، وأن الوحل الذي في مرج عكا كثير يمنع من سلوكه من أراد أن ينجد اليزك، فاغتنموا ذلك، وخرجوا من خندقهم على اليزك وقت العصر، فقاتلهم المسلمون، وحموا أنفسهم بالنشاب، وأحجم الفرنج عنهم، وحتى فني نشابهم، فحملوا عليهم حينئذ حملة رجل واحد، فاشتد القتال، وعظم الأمر، وعلم المسلمون أنه لا ينجيهم إلا الصبر وصدق القتال، فقاتلوا قتال مستقتل إلى أن جاء الليل، وقتل من الفريقين جماعة كثيرة، وعاد الفرنج إلى خندقهم.
ولما عاد صلاح الدين إلى المعسكر سمع خبر الوقعة، فندب الناس إلى نصر إخوانهم، فأتاه الخبر أن الفرنج عادوا إلى خندقهم، فأقام، ثم إنه رأى الشتاء قد ذهب، وجاءته العساكر من البلاد القريبة منه دمشق وحمص وحماة وغيرها، فتقدم من الخروبة نحو عكا، فنزل بتل كيسان، وقاتل الفرنج كل يوم ليشغلهم عن قتال من بعكا من المسلمين، فكانوا يقاتلون الطائفين ولا يسأمون.
ذكر إحراق الأبراج ووقعة الأسطول
كان الفرنج، في مدة مقامهم على عكا، قد عملوا ثلاثة أبراج من الخشب عالية جداً، طول كل برج منها في السماء ستون ذراعاً، وعملوا كل برج منها خمس طبقات، كل طبقة مملوءة من المقاتلة، وقد جمعوا أخشابها من الجزائر، فإن مثل هذه الأبراج العظيمة لا يصلح لها من الخشب إلا القليل النادر، وغشوها بالجلود والخل والطين والأدوية التي تمنع النار من إحراقها، وأصلحوا الطرق لها، وقدموها نحو مدينة عكا من ثلاث جهات، وزحفوا بها في العشرين من ربيع الأول، فأشرفت على السور، وقاتل من بها من عليه، فانكشفوا، وشرعوا في طم خندقها، فأشرف البلد على أن يملك عنوة وقهراً.
فأرسل أهله إلى صلاح الدين إنساناً سبح في البحر، فأعلمه ما هم فيه من الضيق، وما قد أشرفوا عليه من أخذهم وقتلهم، فركب هو وعساكره وتقدموا إلى الفرنج وقاتلوهم من جميع جهاتهم قتالاً عظيماً دائماً يشغلهم عن مكاثرة البلد، فافترق الفرنج فرقتين: فرقة تقاتل صلاح الدين، وفرقة تقاتل أهل عكا، إلا أن الأمر قد خف عمن بالبلد، ودام القتال ثمانية أيام متتابعة، آخرها الثامن والعشرون من الشهر، وسئم الفريقان القتال، وملوا منه لملازمته ليلاً ونهاراً، والمسلمون قد تيقنوا استيلاء الفرنج على البلد، لما رأوا من عجز من فيه عن دفع الأبراج، فإنهم لم يتركوا حيلة إلا وعملوها، فلم يفد ذلك ولم يغن عنهم شيئاً، وتابعوا رمي النفط الطيار عليها، فلم يؤثر فيها، فأيقنوا بالبوار والهلاك، فأتاهم الله بنصر من عنده وإذن في إحراق الأبراج.
وكان سبب ذلك أن إنساناً من أهل دمشق كان مولعاً بجمع آلات النفاطين، وتحصيل عقاقير تقوي عمل النار، فكان من يعرفه يلومه على ذلك وينكره عليه، وهو يقول: هذه حالة لا أباشرها بنفسي إنما أشتهي معرفتها، وكان بعكا لأمر يريده الله، فلما رأى الأبراج قد نصبت على عكا شرع في عمل ما يعرفه من الأدوية المقوية للنار، بحيث لا يمنعها شيء من الطين والخل وغيرهما، فلما فرغ منها حضر عند الأمير قراقوش، وهو متولي الأمور بعكا والحاكم فيها، وقال له: تأمر المنجنيقي أن يرمي في المنجنيق المحاذي لبرج من هذه الأبراج ما أعطيه حتى أحرقه. (5/196)
وكان عند قراقوش من الغيظ والخوف على البلد ومن فيه ما يكاد يقتله، فازداد غيظاً بقوله وحرد عليه، فقال له: قد بالغ أهل هذه الصناعة في الرمي بالنفط وغيره فلم يفلحوا؛ فقال له من حضر: لعل الله تعالى قد جعل الفرنج على يد هذا، ولا يضرنا أن نوافقه على قوله؛ فأجابه إلى ذلك، وأمر المنجنيقي بامتثال أمره، فرمى عدة قدور نفطاً وأدوية ليس فيها نار، فكان الفرنج إذا رأوا القدر لا يحرق شيئاً يصيحون، ويرقصون، ويلعبون على سطح البرج، حتى إذا علم أن الذي ألقاه قد تمكن من البرج، ألقى قدراً مملوءة وجعل فيها النار فاشتعل البرج، وألقى قدراً ثانية وثالثة، فاضطرمت النار في نواحي البرج، وأعجلت من في طبقاته الخمس عن الهرب والخلاص، فاحترق هو ومن فيه، وكان فيه من الزرديات والسلاح شيء كثير.
وكان طمع الفرنج بما رأوا أن القدور الأولى لا تعمل شيئاً يحملها على الطمأنينة وترك السعي في الخلاص، حتى عجل الله لهم النار في الدنيا قبل الآخرة، فلما احترق البرج الأول انتقل إلى الثاني، وقد هرب من فيه لخوفهم، فأحرقه، وكذلك الثالث، وكان يوماً مشهوداً لم ير الناس مثله، والمسلمون ينظرون ويفرحون، وقد أسفرت وجوههم بعد الكآبة فرحاً بالنصر وخلاص المسلمين من القتل لأنهم ليس فيهم أحد ألا وله في البلد إما نسيب وإما صديق.
وحمل ذلك الرجل إلى صلاح الدين فبذل له الأموال الجزيلة والإقطاع الكثير فلم يقبل منه الحبة الفرد، وقال: إنما عملته لله تعالى، ولا أريد الجزاء إلا منه.
وسيرت الكتب إلى البلاد بالبشائر، وأرسل يطلب العساكر الشرقية، فأول من أتاه عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي، وهو صاحب سنجار وديار الجزيرة، ثم أتاه علاء الدين ولد عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، سيره أبوه مقدماً على عسكره وهو صاحب الموصل، ثم وصل زين الدين يوسف صاحب إربل؛ وكان كل منهم إذا وصل يتقدم إلى الفرنج بعسكره، وينضم إليه غيرهم، ويقاتلونهم، ثم ينزلون.
ووصل الأسطول من مصر، فلما سمع الفرنج بقربه منهم جهزوا إلى طريقه أسطولاً ليلقاه ويقاتله، فركب صلاح الدين في العساكر جميعها، وقاتلهم من جهاتهم ليشتغلوا بقتاله عن قتال الأسطول ليتمكن من دخول عكا، فلم يشتغلوا عن قصده بشيء، فكان القتال بين الفريقين براً وبحراً، وكان يوماً مشهوداً لم يؤرخ مثله، وأخذ المسلمون من الفرنج مركباً بما فيه من الرجال والسلاح، وأخذ الفرنج من المسلمين مثل ذلك، إلا أن القتل في الفرنج كان أكثر منه في المسلمين، ووصل الأسطول الإسلامي سالماً.
ذكر وصول ملك الألمان إلى الشام
في هذه السنة خرج ملك الألمان من بلاده، وهم نوع من الفرنج، من أكثرهم عدداً، وأشدهم بأساً، وكان قد أزعجه ملك الإسلام البيت المقدس، فجمع عساكره، وأزاح علتهم، وسار عن بلاده وطريقه على القسطنطينية، فأرسل ملك الروم بها إلى صلاح الدين يعرفه الخبر ويعد أنه لا يمكنه من العبور في بلاده.
فلما وصل ملك الألمان إلى القسطنطينة عجز ملكها عن منعه من العبور لكثرة جموعه، لكنه منع عنهم الميرة، ولم يمكن أحداً من رعيته من حمل ما يريدونه إليهم، فضاقت بهم الأزواد والأقوات، وساروا حتى عبروا خليج القسطنطينية، وصاروا على أرض بلاد الإسلام، وهي مملكة الملك قلج أرسلان ابن مسعود بن سليمان بن قتلمش بن سلجق. فلما وصلوا إلى أوائلها ثار بهم التركمان الأوج، فما زالوا يسايرونهم ويقتلون من انفرد ويسرقون ما قدروا عليه، وكان الزمان شتاء والبرد يكون في تلك البلاد شديداً، والثلج متراكماً، فأهلكهم البرد والجوع والتركمان فقل عددهم. (5/197)
فلما قاربوا مدينة قونية خرج إليهم الملك قطب الدين ملكشاه بن قلج أرسلان ليمنعهم، فلم يكن له بهم قوة، فعاد إلى قونية وبها أبوه قد حجر ولده المذكور عليه، وتفرق أولاده في بلاده، وتغلب كل واحد منهم على ناحية منها، فلما عاد عنهم قطب الدين أسرعوا السير في أثره، فنازلوا قونية، وأرسلوا إلى قلج أرسلان هدية وقالوا له: ما قصدنا بلادك ولا أردناها، وإنما قصدنا البيت المقدس؛ وطلبوا منه أن يأذن لرعيته في إخراج ما يحتاجون إليه من قوت وغيره، فأذن في ذلك، فأتاهم ما يريدون، فشبعوا، وتزودوا، وساروا؛ ثم طلبوا من قطب الدين أن يأمر رعيته بالكف عنهم، وأن يسلم إليهم جماعة من أمرائه رهائن، وكان يخافهم، فسلم إليهم نيفاً وعشرين أميراً كان يكرههم، فساروا بهم معهم ولم يمتنع اللصوص وغيرهم من قصدهم والتعرض إليهم، فقبض ملك الألمان على من منعه من الأمراء وقيدهم، فمنهم من هلك في أسره، ومنهم من فدى نفسه.
وسار ملك الألمان حتى أتى بلاد الأرمن وصاحبها لافون بن اصطفانة بن ليون، فأمدهم بالأقوات والعلوفات، وحكمهم في بلاده، وأظهر الطاعة لهم، ثم ساروا نحو أنطاكية، وكان في طريقهم نهر، فنزلوا عنده، ودخل ملكهم إليه ليغتسل، فغرق في مكان منه لا يبلغ الماء وسط الرجل وكفى الله شره.
وكان معه ولد له، فصار ملكاً بعده، وسار إلى أنطاكية، فاختلف أصحابه عليه، فأحب بعضهم العود إلى بلاده، فتخلف عنه، وبعضهم مال إلى تمليك أخ له، فعاد أيضاً، وسار فيمن صحت نيته له، فعرضهم، وكانوا نيفاً وأربعين ألفاً، ووقع فيهم الوباء والموت، فوصلوا إلى أنطاكية وكأنهم قد نبشوا من القبور، فتبرم بهم صاحبها، وحسن لهم المسير إلى الفرنج الذين على عكا، فساروا على جبلة ولاذقية وغيرهما من البلاد التي ملكها المسلمون، وخرج أهل حلب وغيرها إليهم، وأخذوا منهم خلقاً كثيراً، ومات أكثر ممن أخذ، فبلغوا طرابلس، وأقاموا بها أياماً، فكثر فيهم الموت، فلم يبق منهم إلا نحو ألف رجل، فركبوا في البحر إلى الفرنج الذين على عكا، ولما وصولا ورأوا ما نالهم في طريقهم وما هم فيه من الاختلاف عادوا إلى بلادهم فغرقت بهم المراكب ولم ينج منهم أحد.
وكان الملك قلج أرسلان يكاتب صلاح الدين بأخبارهم، ويعده أنه يمنعهم من العبور في بلاده، فلما عبروها وخلفوها أرسل يعتذر بالعجز عنهم، لأن أولاده حكموا عليه، وحجروا عليه، وتفرقوا عنه، وخرجوا عن طاعته.
وأما صلاح الدين عند وصول الخبر بعبور ملك الألمان، فإنه استشار أصحابه، فأشار كثير منهم عليه بالمسير إلى طريقهم ومحاربتهم قبل أن يتصلوا بمن على عكا، فقال: بل نقيم إلى أن يقربوا منا، وحينئذ نفعل ذلك لئلا يستسلم من بعكا من عساكرنا؛ لكنه سير بعض من عنده من العساكر، منها عسكر حلب وجبلة ولاذقية وشيزر وغير ذلك، إلى أعمال حلب ليكونوا في أطراف البلاد يحفظونها من عاديتهم، وكان حال المسلمين كما قال الله عز وجل: (إذ جاءكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا، هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً) الأحزاب 10 - 11، فكفى الله شرهم ورد كيدهم في نحرهم.
ومن شدة خوفهم أن بعض أمراء صلاح الدين كان له ببلد الموصل قرية، وكان أخي، رحمه الله، يتولاها، فحصل دخلها من حنطة وشعير وتبن، فأرسل إليه في بيع الغلة، فوصل كتابه يقول: لا تبع الحبة الفرد، واستكثر لنا من التبن؛ ثم بعد ذلك وصل كتابه يقول: تبيع الطعام فما بنا حاجة إليه، ثم إن ذلك الأمير قدم الموصل، فسألناه عن المنع من بيع الغلة، ثم الإذن فيها بعد مدة يسيرة، فقال: لما وصلت الأخبار بوصول ملك الألمان أيقنا أننا ليس لنا بالشام مقام، فكتبت بالمنع من بيع الغلة لتكون ذخيرة لنا إذا جئنا إليكم، فلما أهلكهم الله تعالى وأغنى عنها كتبت ببيعها والانتفاع بثمنها.
ذكر وقعة للمسلمين والفرنج على عكا (5/198)
وفي هذه السنة، في العشرين من جمادى الآخرة، خرجت الفرنج فأرسلها وراجلها من وراء خنادقهم، وتقدموا إلى المسلمين، وهم كثير لا يحصى عددهم، وقصدوا نحو عسكر مصر، ومقدمهم الملك العادل أبو بكر بن أيوب، وكان المصريون قد ركبوا واصطفوا للقاء الفرنج، فالتقوا، واقتتلوا قتالاً شديداً، فانحاز المصريون عنهم، ودخل الفرنج خيامهم، ونهبوا أموالهم، فعطف المصريون عليهم، فقاتلوهم من وسط خيامهم فأخرجوهم عنها، وتوجهت طائفة من المصريين نحو خنادق الفرنج، فقطعوا المدد عن أصحابهم الذين خرجوا، وكانوا متصلين كالنمل، فلما انقطعت أمدادهم ألقوا بأيديهم، وأخذتهم السيوف من كل ناحية فلم ينج منهم إلا الشريد، وقتل منهم مقتلة عظيمة، يزيد عدد القتلى على عشرة آلاف قتيل.
وكانت عساكر الموصل قريبة من عسكر مصر، وكان مقدمهم علاء الدين خرمشاه بن عز الدين مسعود صاحب الموصل، فحملوا أيضاً على الفرنج، وبالغوا في قتالهم، ونالوا منهم نيلاً كثيراً، هذا جميعه، ولم يباشر القتال أحد من الحلقة التي مع صلاح الدين، ولا أحد من الميسرة، وكان بها عماد الدين زنكي، صاحب سنجار، وعسكر إربل وغيرهم.
ولما جرى على الفرنج هذه الحادثة خمدت جمرتهم، ولانت عريكتهم، وأشار المسلمون على صلاح الدين بمباكرتهم القتال، ومناجزتهم وهم على هذه الحال من الهلع والجزع، فاتفق أنه وصله من الغد كتاب من حلب يخبر فيه بموت ملك الألمان، وما أصاب أصحابه من الموت والقتل والأسر، وما صار أمرهم إليه من القلة والذلة، واشتغل المسلمون بهذه البشرى والفرح بها عن قتال من بإزائهم، وظنوا أن الفرنج إذا بلغهم هذا الخبر ازدادوا وهناً على وهنهم وخوفاً على خوفهم؛ فلما كان بعد يومين أتت الفرنج أمداد في البحر مع كند كبير من الكنود البحرية يقال له الكند هري ابن أخي ملك إفرنسيس لأبيه، وابن أخي ملك انكلتار لأمه، ووصل معه من الأموال شيء كثير يفوق الإحصاء، فوصل إلى الفرنج، فجند الأجناد، وبذل الأموال فعادت نفوسهم فقويت واطمأنت، وأخبرهم أن الأمداد واصلة إليهم يتلو بعضها بعضاً، فتماسكوا وحفظوا مكانهم، ثم أظهروا أنهم يريدون الخروج إلى لقاء المسلمين وقتالهم، فانتقل صلاح الدين من مكانه إلى الخروبة في السابع والعشرين من جمادى الآخرة، ليتسع المجال، وكانت المنزلة قد أنتنت بريح القتلى.
ثم إن الكند هري نصب منجنيقاً ودبابات وعرادات، فخرج من بعكا من المسلمين فأخذوها، وقتلوا عندها كثيراً من الفرنج؛ ثم إن الكند هري بعد أخذ مجانيقه أراد أن ينصب منجنيقاً، فلم يتمكن من ذلك لأن المسلمين بعكا كانوا يمنعون من عمل ستائر يستتر بها من يرمي من المنجنيق، فعمل تلاً من تراب بالبعد من البلد.
ثم إن الفرنج كانوا ينقلون التل إلى البلد بالتدريج، ويستترون به، ويقربونه إلى البلد، فلما صار من البلد بحيث يصل من عنده حجر منجنيق، نصبوا وراءه منجنيقين، وصار التل سترة لهما، وكانت الميرة قد قلت بعكا، فأرسل صلاح الدين إلى الإسكندرية يأمرهم بإنفاذ الأقوات واللحوم وغير ذلك في المراكب إلى عكا، فتأخر إنفاذها، فسير إلى نائبه بمدينة بيروت في ذلك، فسير بطسة عظيمة مملوءة من كل ما يريدونه، وأمر من بها فلبسوا ملبس الفرنج وتشبهوا بهم ورفعوا عليها الصلبان، فلما وصلوا إلى عكا لم يشك الفرنج أنها لهم، فلم يتعرضوا لها، فلما حاذت ميناء عكا أدخلها من بها، ففرح بها المسلمون، وانتعشوا وقيت نفوسهم، وتبلغوا بما فيها إلى أن أتتهم الميرة من الإسكندرية.
وخرجت ملكة من الفرنج من داخل البحر في نحو ألف مقاتل، فأخذت بنواحي الإسكندرية، وأخذ من معها، ثم إن الفرنج وصلهم كتاب من بابا، وهو كبيرهم الذي يصدرون عن أمره، وقوله عندهم كقول النبيين لا يخالف، والمحروم عندهم من حرمه، والمقرب من قربه، وهو صاحب رومية الكبرى، يأمرهم بملازمة ما هم بصدده، ويعلمهم أنه قد أرسل إلى جميع الفرنج يأمرهم بالمسير إلى نجدتهم براً وبحراً، ويعلمهم بوصول الأمداد إليهم، فازدادوا قوة وطمعاً.
ذكر خروج الفرنج من خنادقهم (5/199)
لما تتابعت الأمداد إلى الفرنج، وجند لهم الكند هري جمعاً كثيراً بالأموال التي وصلت معه عزموا على الخروج من خنادقهم ومناجزة المسلمين، فتركوا على عكا من يحصرها ويقاتل أهلها، وخرجوا، حادي عشر شوال، في عدد كالرمل كثرة وكالنار جمرة؛ فلما رأى صلاح الدين ذلك نقل أثقال المسلمين إلى قيمون، وهو على ثلاثة فراسخ عن عكا، وكان قد عاد إليه من فرق من عساكره لما هلك ملك الألمان، ولقي الفرنج على تعبئة حسنة.
وكان أولاده الأفضل علي والظاهر غازي والظافر مما يلي القلب، وأخوه العادل أبو بكر في الميمنة، ومعه عساكر مصر ومن انضم إليهم، وكان في الميسرة عماد الدين، صاحب سنجار، وتقي الدين، صاحب حماة، ومعز الدين سنجر شاه، صاحب جزيرة ابن عمر، مع جماعة من أمرائه، واتفق أن صلاح الدين أخذه مغس كان يعتاده، فنصب له خيمة صغيرة على تل مشرف على العسكر، ونزل فيها ينظر إليهم، فسار الفرنج، شرقي نهر هناك، حتى وصلوا إلى رأس النهر، فشاهدوا عساكر الإسلام وكثرتها، فارتاعوا لذلك، ولقيهم الجالشية، وأمطروا عليهم من السهام ما كاد يستر الشمس، فلما رأوا ذلك تحولوا إلى غربي النهر، ولزمهم الجالشية يقاتلونهم، والفرنج قد تجمعوا، ولزم بعضهم بعضاً، وكان غرض الجالشية أن تحمل الفرنج عليهم، فيلقاهم المسلمون ويلتحم القتال، فيكون الفصل، ويستريح الناس، وكان الفرنج قد ندموا على مفارقة خنادقهم، فلزموا مكانهم، وباتوا ليلتهم تلك.
فلما كان الغد عادوا نحو عكا ليعتصموا بخندقهم، والجالشية في أكتافهم يقاتلونهم تارة بالسيوف وتارة بالرماح وتارة بالسهام، وكلما قتل من الفرنج قتيل أخذوه معهم لئلا يعلم المسلمون ما أصابهم، فلولا ذلك الألم الذي حدث بصلاح الدين لكانت هي الفصيل، وإنما لله أمر هو بالغه، فلما بلغ الفرنج خندقهم، ولم يكن لهم بعدها ظهور منه، عاد المسلمون إلى خيامهم، وقد قتلوا من الفرنج خلقاً كثيراً.
وفي الثالث والعشرين من شوال أيضاً كمن جماعة من المسلمين، وتعرض للفرنج جماعة أخرى، فخرج إليهم أربع مائة فارس، فقاتلهم المسلمون شيئاً من قتال، وتطاردوا لهم، وتبعهم الفرنج حتى جازوا الكمين، فخرجوا عليهم فلم يفلت منهم أحد.
واشتد الغلاء على الفرنج، حتى بلغت غرارة الحنطة أكثر من مائة دينار صوري، فصبروا على هذا، وكان المسلمون يحملون إليهم الطعام من البلدان منهم الأمير أسامة، مستحفظ بيروت، كان يحمل الطعام وغيره؛ ومنهم سيف الدين علي بن أحمد المعروف بالمشطوب، كان يحمل من صيدا أيضاً إليهم؛ وكذلك من عسقلان وغيرها، ولولا ذلك لهلكوا جوعاً خصوصاً في الشتاء عند انقطاع مراكبهم عنهم لهياج البحر.
ذكر تسيير البدل إلى عكا والتفريط فيه حتى أخذت
لما هجم الشتاء، وعصفت الرياح، خاف الفرنج على مراكبهم التي عندهم لأنها لم تكن في الميناء، فسيروها إلى بلاد صور والجزائر، فانفتح الطريق إلى عكا في البحر، فأرسل أهلها إلى صلاح الدين يشكون الضجر والملل والسآمة، وكان بها الأمير حسام الدين أبو الهيجاء السمين مقدماً على جندها، فأمر صلاح الدين بإقامة البدل وإنفاذه إليها، وإخراج من فيها، وأمر أخا الملك العادل بمباشرة ذلك، فانتقل إلى جانب البحر، ونزل تحت جبل حيفا، وجمع المراكب والشواني، وكلما جاءه جماعة من العسكر سيرهم إليها، وأخرج عوضهم، فدخل إليها عشرون أميراً، وكان بها ستون أميراً، فكان الذين دخلوا قليلاً بالنسبة إلى الذين خرجوا، وأهمل نواب صلاح الدين تجنيد الرجال وإنفاذهم.
وكان على خزانة ماله قوم من النصارى، وكانوا إذا جاءهم جماعة قد جندوا تعنتوهم بأنواع شتى، تارة بإقامة معرفة، وتارة بغير ذلك، فتفرق بهذا السبب خلق كثير، وانضاف إلى ذلك تواني صلاح الدين ووثوقه بنوابه، وإهمال النواب، فانحسر الشتاء والأمر كذلك، وعادت مراكب الفرنج إلى عكا وانقطع الطريق إلا من سابح يأتي بكتاب. (5/200)
كان من جملة الأمراء الذين دخلوا إلى عكا سيف الدين علي بن أحمد المشطوب، وعز الدين أرسل مقدم الأسدية بعد جاولي وابن جاولي، وغيرهم، وكان دخولهم عكا أول سنة سبع وثمانين، وكان قد أشار جماعة على صلاح الدين بأن يرسل إلى من بعكا النفقات الواسعة والذخائر والأقوات الكثيرة، ويأمرهم بالمقام، فإنهم قد جربوا وتدربوا واطمأنت نفوسهم على ما هم فيه، فلم يفعل، وظن فيهم الضجر والملل، وأن ذلك يحملهم على العجز والفشل، فكان الأمر بالضد.
ذكر وفاة زين الدين يوسف صاحب إربل ومسير أخيه مظفر الدين إليها
كان زين الدين يوسف بن زين الدين علي، صاحب إربل، قد حضر عند صلاح الدين بعساكره، فمرض ومات ثامن عشر شهر رمضان، وذكر العماد الكاتب في كتابه البرق الشامي قال: جئنا إلى مظفر الدين نعزيه بأخيه، وظنناً به الحزن، وليس له أخ غيره، ولا ولد يشغله عنه، فإذا هو في شغل شاغل عن العزاء، مهتم بالاحتياط على ما خلفه، وهو جالس في خيام أخيه المتوفي، وقد قبض على جماعة من أمرائه، واعتقلهم، وعجل عليهم، وما أغفلهم، منهم بلداجي، صاحب قلعة خفتيذكان، وأرسل إلى صلاح الدين يطلب منه إربل لنزل عن حران والرها، فأقطعه إياها، وأضاف إليها شهرزور وأعمالها ودربند قرابلي، وبنيث قفجاق؛ ولما مات زين الدين كاتب من كان بإربل مجاهد الدين قايماز لهواهم فيه، وحسن سيرته فيهم، وطلبوه إليهم لملكوه، فلم يجسر هو ولا صاحبه عز الدين أتابك مسعود بن مودود على ذلك، خوفاً من صلاح الدين.
وكان أعظم الأٍسباب في تركها أن عز الدين كان قد قبض على مجاهد الدين، فتمكن زين الدين من إربل، ثم إن عز الدين أخرج مجاهد الدين من القبض، وولاه نيابته، وقد ذكرنا ذلك أجمع.
فلما ولاه النيابة عنه لم يمكنه، وجعل معه إنساناً كان من بعض غلمان مجاهد الدين، فكان يشاركه في الحكم ويحل عليه ما يعقده، فلحق مجاهد الدين من ذلك غيظ شديد، فلما طلب إلى إربل قال لمن يثق به: لا أفعل لئلا يحكم فيها فلان، ويكف يدي عنها؛ فجاء مظفر الدين إليها وملكها، وبقي غصة في حلق البيت الأتابكي لا يقدرون على إساغتها. وسنذكر ما اعتمده معهم مرة بعد أخرى، إن شاء الله تعالى.
ذكر ملك الفرنج مدينة شلب وعودها إلى المسلمين
في هذه السنة ملك ابن الرنك، وهو من ملوك الفرنج، غرب بلاد الأندلس، مدينة شلب وهي من كبار مدن المسلمين بالأندلس، واستولى عليها، فوصل الخبر بذلك إلى الأمير أبي يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، صاحب الغرب والأندلس، فتجهز في العساكر الكثيرة وسار إلى الأندلس، وعبر المجاز، وسير طائفة كثيرة من عسكره في البحر، ونازلها وحصرها، وقاتل من بها قتالاً شديداً، حتى ذلوا وسألوا الأمان فأمنهم وسلموا البلد وعادوا إلى بلادهم.
وسير جيشاً من الموحدين ومعهم جمع من العرب إلى بلاد الفرنج، ففتحوا أربع مدن كان الفرنج قد ملكوها قبل ذلك بأربعين سنة، وفتكوا في الفرنج، فخافهم ملك طليطلة من الفرنج، وأرسل يطلب الصلح، فصالحه خمس سنين، وعاد أبو يوسف إلى مراكش، وامتنع من هذه الهدنة طائفة منالفرنج لم يرضوها ولا أمكنهم إظهار الخلاف، فبقوا متوقفين حتى دخلت سنة تسعين وخمسمائة، فتحركوا. وسنذكر خبرهم هناك، إن شاء الله تعالى.
ذكر الحرب بين غياث الدين وسلطان شاه بخراسان
كان سلطان شاه أخو خوارزم شاه قد تعرض إلى بلاد غياث الدين ومعز الدين ملكي الغورية، من خراسان، فتجهز غياث الدين وخرج من فيروزكوه إلى خراسان سنة خمس وثمانين وخمسمائة، فبقي يتردد بين بلاد الطالقان، وبنجده، ومرو، وغيرها يريد حرب سلطان شاه، فلم يزل كذلك إلى أن دخلت سنة ست وثمانين، فجمع سلطان شاه عساكره وقصد غياث الدين، فتصافاً واقتتلا، فانهزم سلطان شاه، وأخذ غياث الدين بعض بلاده وعاد إلى غزنة.
ذكر عدة حوادث (5/201)
في هذه السنة، في ربيع الأول، تسلم الخليفة الناصر لدين الله حديثة عانة، وكان سير إليها جيشاً حصروها سنة خمس وثمانين فقاتلوا عليها قتالاً شديداً، ودام الحصار، وقتل من الفريقين خلق كثير، فلما ضاقت عليهم الأقوات سلموها على أقطاع عينوها، ووصل صاحبها وأهلها إلى بغداد وأعطوا أقطاعاً ثم تفرقوا في البلاد واشتدت الحاجة بهم حتى رأيت بعضهم وإنه ليتعرض بالسؤال وبعض خدم الناس، ونعوذ بالله من زوال نعمته وتحول عافيته.
وفي هذه السنة توفي مسعود بن النادر الصفار ببغداد، وكان مكثراً من الحديث، حسن الخط، خيراً ثقة.
وفيها توفي أبو حامد محمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري بالموصل، وكان قاضيها، وقبلها ولي قضاء حلب وجميع الأعمال بها، وكان رئيساً جواداً ذا مروءة عظيمة، يرجع إلى دين وأخلاق جميلة.

This site was last updated 07/28/11