Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم عزت اندراوس

سنة إحدى وستمائة سنة اثنتين وستمائة

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
بقية سنة575 وسنة576
سنة577 وسنة578
سنة579
سنة580 وسنة581
سنة582 وسنة583
سنة584
سنة585
سنة586
سنة587
سنة588
سنة589
سنة590 وسنة591
سنة592 وسنة593
سنة594
سنة595
سنة596 وسنة597
سنة598 وسنة599
سنة600
سنة601 وسنة602
سنة603
سنة604
سنة605 وسنة606
سنة607 وسنة608 وسنة609
سنة610 وسنة611 وسنة612
سنة613 وسنة614
سنة615
سنة616 وسنة617
سنة618 وسنة619
سنة620 وسنة621
سنة621

 

الجزء التالى من كتاب: الكامل في التاريخ المؤلف: أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير (المتوفى: 630هـ) تحقيق: عمر عبد السلام تدمري الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1417هـ / 1997م عدد الأجزاء:  10

**************************************************************************************************************************

ثم دخلت سنة إحدى وستمائة
ملك كيخسرو بلاد الروم من ابن أخيه
ذكر ملك كيخسرو بن قلج أرسلان بلاد الروم من ابن أخيه

في هذه السنة، في رجب، ملك غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان بلاد الروم التي كانت بيد أخيه ركن الدين سليمان وانتقلت بعد موته إلى ابنه قلج أرسلان بن ركن الدين.
وكان سبب ملك غياث الدين لها أن ركن الدين كان قد أخذ ما كان لأخيه غياث الدين، وهو مدينة قونية، فهرب غياث الدين منه، وقصد الشام إلى الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين، صاحب حلب، فلم يجد عنده قبولاً، وقصر به، فسار من عنده، وتقلب في البلاد إلى أن وصل إلى القسطنطينية، فأحسن إليه ملك الروم وأقطعه وأكرمه، فأقام عنده، وتزوج بابنة بعض البطارقة الكبار.
وكان لهذا البطريق قلعة من عمل القسطنطينية، فلما ملك الفرنج القسطنطينية هرب غياث الدين إلى حميه، وهو بقلعته، فأنزله عنده وقال له: نشترك في هذه القلعة، ونقنع بدخلها. فأقام عنده؛ فلما مات أخوه سنة ستمائة، كما ذكرناه، اجتمع الأماء على ولده، وخالفهم الأتراك الأوج، وهم كثير بتلك البلاد، وأنف من اتباعهم، وأرسل إلى غياث الدين يستدعيه إليه ليملكه البلاد، فسار إليه، فوصل في جمادى الأولى، واجتمع به، وكثر جمعه، وقصد مدينة قونية ليحصرها، وكان ولد ركن الدين والعساكر بها، فأخرجوا إليه طائفة من العسكر، فلقوا فهزموه، فبقي حيران لا يدري أين يتوجه، فقصد بلدة صغيرة يقال لها أوكرم بالقرب من قونية.
فقدر الله تعالى أن أهل مدينة أقصر وثبوا على الوالي فأخرجوه منها ونادوا بشعار غياث الدين، فلما سمع أهل قونية بما فعله أهل أقصرا قالوا: نحن أولى من فعل هذا؛ لأنه كان حسن السيرة فيهم لما كان مالكهم، فنادوا باسمه أيضاً، وأخرجوا من عندهم، واستدعوه، فحضر عندهم، وملك المدينة وقبض على ابن أخيه ومن معه، وآتاه الله الملك، وجمع له البلاد جميعها في ساعة واحدة، فسبحا من إذا أراد أمراً هيأ أسبابه.
وكان أخوه قيصر شاه الذي كان صاحب ملطية، لما أخذها ركن الدين منه سنة سبع وتسعين، خرج منها، وقصد الملك العادل أبا بكر بن أيوب، لأنه كان تزوج ابنته مستنصراً به، فأمره بالمقام بمدينة الرها، فأقام بها، فلما سمع بملك أخيه غياث الدين سار إليه، فلم يجد عنده قبولاً، إنما أعطاه شيئاً وأمره بمفارقة البلاد، فعاد إلى الرها وأقام بها، فلما استقر ملك غياث الدين سار إليه الأفضل صاحب سميساط، فلقيه بمدينة قيسارية، وقصده أيضاً نظام الدين صاحب خرت برت، وصار معه، فعظم شأنه وقوي أمره.
ذكر حصر صاحب آمد خرت برت ورجوعه عنها
كانت خرت برت لعماد الدين بن قرا أرسلان، فمات، وملكها بعده ابنه نظام الدين أبو بكر، والتجأ إلى ركن الدين بن قلج أرسلان، وبعده إلى أخيه غياث الدين ليمتنع به من ابن عمه ناصر الدين محمود بن محمد بن قرا أرسلان، فامتنع به. (5/251)
وكان صاح بآمد ملتجئاً إلى الملك العادل، وفي طاعته، وحضر مع ابنه الملك الأشرف قتال صاحب الموصل على شرط أنه يسير معه في عساكره، ويأخذ له خرت برت، وإنما طمع فيها بموت ركن الدين، فلما دخلت هذه السنة طلب ما كان استقر الأمر عليه، فسار معه الملك الأشرف وعساكر ديار الجزيرة من سنجار، وجزيرة ابن عمر، والموصل، وغيرها، وكان نزولهم عليها في شعبان؛ وفي رمضان تسلموا ربضها؛ وكان صاحبها قد اجتمع بغياث الدين، بعد أن ملك البلاد الرومية، وصار معه في طاعته، فلما نزل صاحب آمد على خرت برت خاطب صاحبها غياث الدين ينجده بعسكره يرحلهم عنه، فجهز عسكراً كثيراً عدتهم ستة آلاف فارس، وسيرهم مع الملك الأفضل علي بن صلاح الدين وهو صاحب سميساط، فلما وصل العسكر إلى ملطية فارق صاحب آمد ومن معه من خرت برت، ونزلوا إلى الصحراء، وحصروا البحيرة المعروفة ببحيرة سمنين وبها حصنان أحدهما لصاحب خرت برت، فحصره وزاحفه، ففتحه ثاني ذي الحجة.
ووصل صاحب خرت برت مع العسكر الرومي إلى خرت برت، فرحل صاحب آمد عن البحيرة وقوى الحصن الذي فتحه فيها، فأزاح علته، ورحل إلى خلف مرحلة ونزل، وترددت الرسل؛ والعسكر الرومي يطلب البحيرة، وصاحب آمد يمتنع من ذلك، فلما طال الأمر بقي الحصن بيد صاحب آمد، وانفصل العسكران، وعاد كل فريق إلى بلاده.
ذكر الفتن ببغداد
في سابع عشر رمضان جرت فتنة ببغداد بين أهل باب الأزج وأهل المأمونية، وسببها أن أهل باب الأزج قتلوا سبعاً وأرادوا أن يطوفوا به، فمنعهم أهل المأمونية، فوقعت الفتنة بينهما عند البستان الكبير، فجرح منه خلق كثير، وقتل جماعة، وركب صاحب الباب لتسكين الفتنة فجرح فرسه، فعاد.
فلما كان الغد سار أهل المأمونية إلى أهل باب الأزج، فوقعت بينهم فتنة شديدة وقتال بالسيوف والنشاب، واشتد الأمر، فنهبت الدور القريبة منهم، وسعى الركن ابن عبد القادر ويوسف العقاب في تسكين الناس، وركب الأتراك، فصاروا يبيتون تحت المنظرة، فامتنع أهل الفتنة من الاجتماع، فسكنوا.
وفي العشرين منه جرت فتنة بين أهل قطفتا والقرية، من محال الجانب الغربي، بسبب قتل سبع أيضاً، أراد أهل قطفتا أن يجتمعوا ويطوفوا به، فمنعهم أهل القرية أن يجوزوا به عندهم، فاقتتلوا، وقتل بينهم عدة قتلى، فأرسل إليهم عسكر من الديوان لتلافي الأمر ومنع الناس عن الفتنة، فامتنعوا.
وفي تاسع رمضان كانت فتنة بين أهل سوق السلطان والجعفرية، منشأها أن رجلين من المحلتين اختصما وتوعد كل واحد منهما صاحبه، فاجتمع أهل المحلتين. واقتتلوا في مقبرة الجعفرية، فسير إليهم من الديوان من تلافى الأمر وسكنه؛ فلما كثرت الفتن رتب أمير كبير من مماليك الخليفة، ومعه جماعة كثيرة، فطاف في البلد، وقتل جماعة من فيه شبهة، فسكن الناس.
ذكر غارة الكرج على بلاد الإسلام
في هذه السنة أغارت الكرج على بلاد الإسلام من ناحية أذربيجان، فأكثروا العيث والفساد والنهب والسبي، ثم أغاروا على ناحية خلاط من أرمينية، فأوغلوا في البلاد حتى بلغوا ملازكرد، ولم يخرج إليهم أحد من المسلمين يمنعهم، فجاسوا خلال البلاد ينهبون ويأسرون ويسبون، وكلما تقدموا تأخرت عساكر المسلمين عنهم، ثم إنهم رجعوا، فالله تعالى ينظر إلى الإسلام وأهله، وييسر لهم من يحمي بلادهم، ويحفظ ثغورهم، ويغزو أعداءهم.
وفيها أغارت الكرج على بلاد خلاط، فأتوا إلى أرجيش ونواحيها، فنهبوا، وسبوا، وخربوا البلاد، وساروا إلى حصن التين، من أعمال خلاط، وهو مجاور أرزن الروم، فجمع صاحب خلاط عسكره وسار إلى ولد قلج أرسلان، صاحب أرزن الروم، فاستنجده على الكرج، فسير عسكره جميعه معه، فتوجهوا نحو الكرج، فلقوهم، وتصافوا، واقتتلوا، فانهزمت الكرج، وقتل زكري الصغير، وهو من أكابر مقدميهم، وهو الذي كان مقدم هذا العسكر من الكرج والمقاتل بهم، وغنم المسلمون ما معهم من الأموال والسلاح والكراع وغير ذلك، وقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وأسروا كذلك، وعاد إلى بلاده.
ذكر الحرب بين أمير مكة وأمير المدينة (5/252)
وفي هذه السنة أيضاً كانت الحرب بين الأمير قتادة الحسني، أمير مكة، وبين الأمير سالم بن قاسم الحسيني، أمير المدينة، ومع كل واحد منهما جمع كثير، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وكانت الحرب بذي الحليفة، بالقرب من المدينة، وكان قتادة قد قصد المدينة ليحصرها ويأخذها، فلقيه سالم بعد أن قصد الحجرة، على ساكنها الصلاة والسلام، فصلى عندها، ودعا وسار فلقيه، فانهزم قتادة، وتبعه سالم إلى مكة فحصره بها، فأرسل قتادة إلى من مع سالم من الأمراء، فأفسدهم عليه، فمالوا إليه وحالفوه، فلما رأى سالم ذلك رحل عنه عائداً إلى المدينة وعاد أمر قتادة قوياً.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة، في يوم الجمعة رابع عشر جمادى الآخرة، قطعت خطبة ولي العهد، وأظهر خط قرئ بالدار الوزير نصير الدين ناصر بن مهدي الرازي، وإذا هو خط ولي العهد الأمير أبي نصر ابن الخليفة إلى أبيه الناصر لدين الله أمير المؤمنين، يتضمن العجز عن القيام بولاية العهد، ويطلب الإقالة، وشهد عدلان أنه خطه، وأن الخليفة أقاله، وعمل بذلك محضر شهد فيه القضاة والعدول والفقهاء.
وفي هذه السنة ولدت امرأة ببغداد ولداً له رأسان وأربع أرجل ويدان، ومات في يومه.
وفيها أيضاً وقع الحريق في خزانة السلاح التي للخليفة، فاحترق فيها منه شيء كثير، وبقيت النار يومين، وسار ذكر هذا الحريق في البلدان، فحمل الملوك من السلاح إلى بغداد شيئاً كثيراً.
وفي هذه السنة وقع الثلج بمدينة هراة أسبوعاً كاملاً، فلما سكن جاء بعده سيل من الجبل من باب سرا، خرب كثيراً من البلد، ورمى من حصنه قطعة عظيمة، وجاء بعده برد شديد أهلك الثمار، فلم يكن بها تلك السنة شيء إلا اليسير.
وفيها، في شعبان، خرج عسكر من الغورية مقدمهم الأمير زنكي بن مسعود إلى مدينة مرو، فلقيهم نائب خوارزم شاه بمدينة سرخس، وهو الأمير جقر، وكمن لهم كميناً، فلما وصولا إليه هزمهم، وأخذ وجوه الغورية أسرى، فلم يفلت منهم إلا القليل، وأخذ أميرهم زنكي أسيراً، فقتل صبراً، وعلقت رؤوسهم بمرو أياماً.
وفيها، في ذي القعدة، سار الأمير عماد الدين عمر بن الحسين الغوري، صاحب بلخ، إلى مدينة ترمذ، وهي للأتراك الخطا، فافتتحها عنوة، وجعل بها ولده الأكبر، وقتل من بها من الخطا، ونقل العلويين منها إلى بلخ، وصارت ترمذ دار إسلام، وهي من أمنع الحصون وأقواها.
وفيها توفي صدر الدين السجزي شيخ خانكاه السلطان بهراة.
وفيها، في صفر، توفي أبو علي الحسن بن محمد بن عبدوس الشاعر الواسطي، وهو من الشعراء المجيدين، واجتمعت به بالموصل، وردها مادحاً لصاحبها نور الدين أرسلان شاه وغيره من المقدمين، وكان نعم الرجل، حسن الصحبة والعشرة.
وفيها اجتمع ببغداد رجلان أعميان على رجل أعمى أيضاً، وقتلاه بمسجد طمعاً في أن يأخذا منه شيئاً، فلم يجدا معه ما يأخذانه، وأدركهما الصباح، فهربا من الخوف يريدان الموصل، ورؤي الرجل مقتولاً، ولم يعلم قاتله، فاتفق أن بعض أصحاب الشحنة اجتاز من الحريم في خصومة جرت، فرأى الرجلين الضريرين، فقال لمن معه: هؤلاء الذين قتلوا الأعمى؛ يقوله مزحاً، فقال أحدهما: هذا والله قتله؛ فقال الآخر: بل أنت قتلته، فأخذا إلى صاحب الباب، فأقرا، فقتل أحدهما، وصلب الآخر على باب المسجد الذي قتلا فيه الرجل.


ثم دخلت سنة اثنتين وستمائة
ذكر الفتنة بهراة

في هذه السنة، في المحرم، ثار العامة بهراة، وجرت فيه فتنة عظيمة بين أهل السوقين: الحدادين والصفارين، قتل فيها جماعة، ونهبت الأموال، وخربت الديار، فخرج أمير البلد ليكفهم، فضربه بعض العامة بحجر ناله منه ألم شديد، واجتمع الغوغاء عليه، فرفع إلى القصر الفيروزي، واختفى أياماً إلى أن سكنت الفتنة ثم ظهر.
ذكر قتال شهاب الدين الغوري بني كوكر (5/253)
قد ذكرنا انهزام شهاب الدين محمد بن سام الغوري، صاحب غزنة، من الخطا الكفار، وأن الخبر ظهر ببلاده أنه عدم من المعركة ولم يقف أصحابه له على خبر، فلما اشتهر هذا الخبر ثار المفسدون في أطراف البلاد، وكان ممن أفسد دانيال، صاحب جبل الجودي، فإنه كان قد أسلم، فلما بلغه الخبر ارتد عن الإسلام، وتابع بني كوكر، وكان في جملة الخارجين عليه بنو كوكر ومساكنهم في جبال بين لهاوور والمولتان حصينة منيعة، وكانوا قد أطاعوا شهاب الدين، وحملوا له الخراج، فلما بلغهم خبر عدمه ثاروا فيمن معهم من قبائلهم وعشائرهم، وأطاعهم صاحب جبل الجودي وغيره من القانطين بتلك الجبال، ومنعوا الطريق من لهاوور وغيرها إلى غزنة.
فلما فرغ شهاب الدين من قتل مملوكه أيبك باك، وقد ذكرناه، أرسل إلى نائبه بلهاوور والمولتان، وهو محمد بن أبي علي، يأمره بحمل المال لسنة ستمائة، وسنة إحدى وستمائة، ليتجهز به لحرب الخطا، فأجاب أن أولاد كوكر قد قطعوا الطريق، لا يمكنه إرسال المال، وحضر جماعة من التجار، وذكروا أن قفلا كبيراً أخذه أولاد كوكر، ولم ينج منه إلا القليل؛ فأمر شهاب الدين مملوكه أيبك، مقدم عساكر الهند، أن يراسل بني كوكر يدعوهم إلى الطاعة، ويتهددهم إن لم يجيبوا إلى ذلك، ففعل ذلك، فقال ابن كوكر: لأي معنى لم يرسل السلطان إلينا رسولاً؟ فقال له الرسول: وما قدركم أنتم حتى يرسل إليكم، وإنما مملوكه يبصركم رشدكم، ويهددكم. فقال ابن كوكر: لو كان شهاب الدين حياً لراسلنا، وقد كنا ندفع الأموال إليه، فحيث عدم فقل لأيبك يترك لنا لهاوور وما والاها، وفرشابور، ونحن نصالحه؛ فقال الرسول: أنفذ أنت جاسوساً تثق به فيأتيك بخبر شهاب الدين ن فرشابور؛ فلم يصغ إلى قوله، فرده، فعاد وأخبر بما سمع ورأى، فأمر شهاب الدين مملوكه قطب الدين أيبك بالعود إلى بلاده، وجمع العساكر، وقتال بني كوكر، فعاد إلى دهلي، وأمر عساكره بالاستعداد، فأقام شهاب الدين في فرشابور إلى نصف شعبان من سنة إحدى وستمائة، ثم عاد إلى غزنة فوصلها أول رمضان، وأمر بالنداء في العساكر بالتجهز لقتال الخطا، وأن المسير يكون أول شوال، فتجهزوا لذلك.
فاتفق أن الشكايات كثرت من بني كوكر وما يتعهدونه من إخافة السبل وأنهم قد أنفذوا شحنة إلى البلاد، ووافقهم أكثر الهنود، وخرجوا من طاعة أمير لهاوور والمولتان وغيرهما.
ووصل كتاب الوالي يذكر ما قد دهمه منهم، وأن عماله قد أخرجهم بنو كوكر، وجبوا الخراج، وأن ابن كوكر مقدمهم أرسل إليه ليترك له لهاوور والبلاد والفيلة ويقول أن يحضر شهاب وإلا قتله، ويقول: إن لم يحضر السلطان شهاب الدين بنفسه ومعه العساكر وإلا خرجت البلاد من يده.
وتحدث الناس بكثرة من معهم من الجموع، وما هم من القوة، فتغير عزم شهاب الدين حينئذ عن غزو الخطا، وأخرج خيامه وسار عن غزنة خامس ربيع الأول سنة اثنتين وستمائة، فلما سار وأبعد انقطعت أخباره عن الناس بغزنة وفرشابور، حتى أرجف الناس بانهزامه.
وكان شهاب الدين لما سار عن فرشابور أتاه خبر ابن كوكر أنه نازل في عساكره ما بين جيلم وسودرة، فجد السير إليه، فدهمه قبل الوقت الذي كان يقدر وصوله فيه، فاقتتلوا قتالاً شديداً يوم الخميس لخمس بقين من ربيع الآخر، من بكرة إلى العصر، واشتد القتال، فبينما هم في القتال أقبل قطب الدين أيبك في عساكره، فنادوا بشعار الإسلام، وحملوا حملة صادقة، فانهزم الكوكرية ومن انضم إليهم، وقتلوا بكل مكان، وقصدوا أجمة هناك، فاجتمعوا بها، وأضرموا ناراً، فكان أحدهم يقول لصاحبه: لا تترك المسلمين يقتلونك؛ ثم يلقي نفسه في النار فيلقي صاحبه نفسه بعده فيها، فعمهم الفناء قتلاً وحرقاً، ف (بعداً للقوم الظالمين) هود 44.
وكان أهلهم وأموالهم معهم لم يفارقوها، فغنم المسلمون منهم ما لم يسمع بمثله، حتى أن المماليك كانوا يباعون كل خمسة بدينار ركني ونحوه، وهرب ابن كوكر بعد أن قتل إخوته وأهله. (5/254)
وأما ابن دانيال، صاحب جبل الجودي، فإنه جاء ليلاً إلى قطب الدين أيبك، فاستجار به، فأجاره، وشفع فيه إلى شهاب الدين، فشفعه فيه، وأخذ منه قلعة الجودي؛ فلما فرغ منهم سار نحو لهاوور ليأمن أهلها ويسكن روعهم، وأمر الناس بالرجوع إلى بلادهم والتجهز لحرب بلاد الخطا، وأقام شهاب الدين بلهاوور إلى سادس عشر رجب، وعاد نحو غزنة، وأرسل إلى بهاء الدين سام، صاحب باميان، ليتجهز للمسير إلى سمرقند، ويعمل جسراً ليعبر هو وعساكره عليه.
ذكر الظفر بالتيراهية
كان من جملة الخارجين المفسدين أيضاً على شهاب الدين التيراهية، فإنهم خرجوا إلى حدود سوران ومكرهان للغارة على المسلمين، فأوقع بهم نائب تاج الدين الدز، مملوك شهاب الدين بتلك الناحية، ويعرف بالحلحي، وقتل منهم خلقاً كثيراً، وحمل رؤوس المعروفين فعلقت ببلاد الإسلام.
وكانت فتنة هؤلاء التيراهية على بلاد الإسلام عظيمة قديماً وحديثاً؛ وكانوا إذا وقع بأيديهم أسير من المسلمين عذبوه بأنواع العذاب.
وكان أهل فرشابور معهم في ضر شديد لأنهم يحيطون بتلك الولاية من جوانبها، لا سيما آخر أيام بيت سكتكين، فإن الملوك ضعفوا وقوي هؤلاء عليهم، وكانوا يغيرون على أطراف البلاد، وكانوا كفاراً لا دين لهم يرجعون إليه، ولا مذهب يعتمدون عليه، إلا أنهم كانوا إذا ولد لأحدهم بنت وقف على باب داره ونادى: من يتزوج هذه؟ من يقبلها؟ فإن أجابه أحد تركها، وإلا قتلها، ويكون للمرأة عدة أزواج، فإذا كان أحدهم عندها جعل مداسه على الباب، فإذا جاء غيره من أزواجها ورأى مداسه عاد.
ولم يزالوا كذلك حتى أسلم طائفة منهم آخر أيام شهاب الدين الغوري، فكفوا عن البلاد. وسبب إسلامهم أنهم أسروا إنساناً من فرشابور، فعذبوه فلم يمت، ودامت أيامه عندهم، فأحضره يوماً مقدمهم وسأله عن بلاد الإسلام، وقال له: لو حضرت أنا عند شهاب الدين ماذا كان يعطيني؟ فقال له المعلم: كان يعطيك الأموال والأقطاع ويرد إليك حكم جميع البلاد التي لكم؛ فأرسله إلى شهاب الدين في الدخول في الإسلام، فأعاده ومعه رسول بالخلع والمنشور بالأقطاع، فلما وصل إليه الرسول سار هو وجماعة من أهله إلى شهاب الدين، فأسلموا وعادوا، وكان للناس بهم راحة؛ فلما كانت هذه الفتنة واختلفت البلاد نزل أكثرهم من الجبال، فلم يكن لهذه الطائفة بهم قدرة ليمنعوهم، فأفسدوا وعملوا ما ذكرناه.
ذكر قتل شهاب الدين الغوري
في هذه السنة، أول ليلة من شعبان، قتل شهاب الدين أبو المظفر محمد ابن سام الغوري، ملك غزنة وبعض خراسان، بعد عوده من لهاوور، بمنزل يقال له دميل، وقت صلاة العشاء.
وكان سبب قتله أن نفراً من الكفار الكوكرية لزموا عسكره عازمين على قتله، كما فعل بهم من القتل والأسر والسبي، فلما كان هذه الليلة تفرق عنه أصحابه، وكان قد عاد ومعه من الأموال ما لا يحد، فإنه كان عازماً على قصد الخطا، والاستكثار من العساكر، وتفريق المال فيهم؛ وقد أمر عساكره بالهند باللحاق به، وأمر عساكره الخراسانية بالتجهز إلى أن يصل إليهم، فأتاه الله من حيث لم يحتسب، ولم يغن عنه ما جمع من مال وسلاح ورجال، لكن كان على نية صالحة من قتال الكفار.
فلما تفرق عنه أصحابه، وبقي وحده في خركاه، ثار أولئك النفر، فقتل أحدهم بعض الحراس بباب سرادق شهاب الدين، فلما قتلوه صاح، فثار أصحابه من حول السرادق لينظروا ما بصاحبهم، فأخلوا مواقفهم، وكثر الزحام، فاغتنم الكوكرية غفلتهم عن الحفظ، فدخلوا على شهاب الدين وهو في الخركاه، فضربوه بالسكاكين اثنتين وعشرين ضربة فقتلوه، فدخل عليه أصحابه، فوجدوه على مصلاه قتيلاً وهو ساجد، فأخذوا أولئك الكفار فقتلوهم، وكان فيهم اثنان مختونان.
وقيل إنما قتله الإسماعيلية لأنهم خافوا خروجه إلى خراسان، وكان له عسكر يحاصر بعض قلاعهم على ما ذكرناه.
فلما قتل اجتمع الأمراء عند وزيره مؤيد الملك بن خوجا سجستان، فتحالفوا على حفظ الخزانة والملك، ولزوم السكينة إلى أن يظهر من يتولاه، وأجلسوا شهاب الدين وخيطوا جراحه وجعلوه في المحفة وساروا به، ورتب الوزير الأمور، وسكن الناس بحيث لم ترق محجمة دم، ولم يوجد في أحد شيء.(5/255)
وكانت المحفة محفوفة بالحشم، والوزير، والعسكر، والشمسة، على حاله في حياته، وتقدم الوزير إلى أمير داذ العسكر بإقامة السياسة، وضبط العسكر، وكانت الخزانة التي في صحبته ألفي حمل ومائتي حمل؛ وشغب الغلمان الأتراك الصغار لينهبوا المال، فمنعهم الوزير والأمراء الكبار من المماليك، وهو صونج صهر الدز وغيره، وأمروا كل من له إقطاع عند قطب الدين أيبك مملوك شهاب الدين ببلاد الهند بالعود إليه، وفرقوا فيهم أموالاً كثيرة فعادوا.
وسار الوزير ومعه من له إقطاع وأهل بغزنة، وعلموا أنه يكون بين غياث الدين محمود بن غياث الدين أخي شهاب الدين الأكبر، وبين بهاء الدين صاحب باميان، وهو ابن أخت شهاب الدين، حروب شديدة، وكان ميل الوزير والأتراك وغيرهم إلى غياث الدين محمود، وكان الأمراء الغورية يميلون إلى بهاء الدين سام، صاحب باميان، فأرسل كل طائفة إلى من يميلون إليه يعرفونه قتل شهاب الدين وجلية الأمور، وجاء بعض المفسدين من أهل غزنة، فقال للماليك: إن فخر الدين الرازي قتل مولاكم لأنه هو أوصل من قتله، بوضع من خوارزم شاه، فثاروا به ليقتلوه، فهرب، وقصد مؤيد الملك الوزير، فأعلمه الحال فسيره سراً إلى مأمنه.
ولما وصل العسكر والوزير إلى فرشابور اختلفوا، فالغورية يقولون نسير إلى غزنة على طريق مكرهان، وكان غرضهم أن يقربوا من باميان ليخرج صاحبها بهاء الدين سام فيملك الخزانة، وقال الأتراك بل نسير على طريق سوران، وكان مقصودهم أن يكونوا قريباً من تاج الدين الدز مملوك شهاب الدين، وهو صاحب كرمان، مدينة بين غزنة ولهاوور، وليست بكرمان التي تجاور بلاد فارس، ليحفظ الدز الخزانة، ويرسلوا من كرمان إلى غياث الدين يستدعونه إلى غزنة ويملكونه.
وكثر بينهم الاختلاف، حتى كادوا يقتتلون، فتوصل مؤيد الملك مع الغورية حتى أذنوا له وللأتراك بأخذ الخزانة والمحفة التي فيها شهاب الدين والمسير على كرمان، وساروا هم على طريق مكرهان؛ ولقي الوزير ومن معه مشقة عظيمة، وخرج عليهم الأمم الذين في تلك الجبال التيراهية وأوغان وغيرهم، فنالوا من أطراف العسكر إلى أن وصلوا إلى كرمان، فخرج إليهم تاج الدين الدز يستقبلهم، فلما عاين المحفة، وفيها شهاب الدين ميتاً، نزل وقبل الأرض على عادته في حياة شهاب الدين، وكشف عنه، فلما رآه ميتاً مزق ثيابه وصاح وبكى فأبكى الناس، وكان يوماً مشهوراً.
ذكر ما فعله الدز
كان الدز من أول مماليك شهاب الدين وأكبرهم وأقدمهم، وأكبرهم محلاً عنده، بحيث إن أهل شهاب الدين كانوا يخدمونه ويقصدونه في أشغالهم؛ فلما قتل صاحبه طمع أن يملك غزنة، فأول ما عمل أنه سأل الوزير مؤيد الملك عن الأموال والسلاح والدواب، فأخبره بما خرج من ذلك وبالباقي معه، فأنكر الحال، وأساء أدبه في الجواب، وقال: إن الغورية قد كاتبوا بهاء الدين سام صاحب باميان ليملكوه غزنة، وقد كتب إلي غياث الدين محمود، وهو مولاي، يأمرني أنني لا أترك أحداً يقرب من غزنة، وقد جعلني نائبه فيها وفي سائر الولاية المجاورة لها لأنه مشتغل بأمر خراسان.
وقال للوزير: إنه قد أمرني أيضاً أن أتسلم الخزانة منك؛ فلم يقدر على الامتناع لميل الأتراك إليه، فسلمها إليه، وسار بالمحفة والمماليك والوزير إلى غزنة، فدفن شهاب الدين في التربة بالمدرسة التي أنشأها ودفن ابنته فيها، وكان وصوله إليها في الثاني والعشرين من شعبان من السنة.
ذكر بعض سيرة شهاب الدين
كان رحمه الله شجاعاً مقدماً، كثير الغزو إلى بلاد الهند، عادلاً في رعيته، حسن السيرة فيهم، حاكماً بينهم بما يوجبه الشرع المطهر، وكان القاضي بغزنة يحضر داره كل إسبوع السبت والأحد والاثنين والثلاثاء، ويحضر معه أمير حاجب، وأمير داذ، وصاحب البريد، فيحكم القاضي، وأصحاب السلطان ينفذون أحكامه على الصغير والكبير، والشريف والوضيع؛ وإن طلب أحد الخصوم الحضور عنده أحضره وسمع كلامه، وأمضى عليه، أوله، حكم الشرع، فكانت الأمور جارية على أحسن نظام.
حكي لي عنه أنه لقيه صبي علوي، عمره نحو خمس سنين، فدعا له، وقال: لي خمسة إيام ما أكلت شيئاً؛ فعاد من الركوب لوقته، ومعه الصبي، فنزل في داره، وأطعمه العلوي أطيب الطعام بحضرته، ثم أعطاه مالاً، بعد أن أحضر أباه وسلمه إليه، وفرق في سائر العلويين مالاً عظيماً.(5/256)
وحكي عنه أن تاجراً من مراغة كان بغزنة، وله على بعض مماليك شهاب الدين دين مبلغه عشرة آلاف دينار، فقتل المملوك في حرب كانت له، فرفع التاجر حاله، فأمر بأن يقر أقطاع المملوك بيد التاجر إلى أن يستوفي دينه، ففعل ذلك.
وحكي عنه أنه كان يحضر العلماء بحضرته، فيتكلمون في المسائل الفقهية وغيرها، وكان فخر الدين الرازي يعظ في داره، فحضر يوماً فوعظ، وقال في آخر كلامه: يا سلطان، لا سلطانك يبقى ولا تلبيس الرازي، وإن مردنا إلى الله! فبكى شهاب الدين حتى رحمه الناس لكثرة بكائه.
وكان رقيق القلب، وكان شافعي المذهب مثل أخيه؛ قيل: وكان حنفياً، والله أعلم.
ذكر مسير بهاء الدين سام إلى غزنة
لما ملك غياث الدين باميان أقطعها ابن عمه شمس الدين محمد بن مسعود، وزوجه أخته، فأتاه منها ولد اسمه سام، فبقي فيها إلى أن توفي، وملك بعده ابنه الأكبر، واسمه عباس، وأمه تركية، فغضب غياث الدين وأخوه شهاب الدين منن ذلك، وأرسلا من أحضر عباساً عندهما، فأخذا الملك منه، وجعلا ابن أختهما سام ملكاً على باميان، وتقلب بهاء الدين، وعظم شأنه ومحله، وجمع الأموال ليملك لبلاد بعد خاليه، وأحبه الغورية حباً شديداً وعظموه.
فلما قتل خاله شهاب الدين سار بعض الأمراء الغورية إلى بهاء الدين سام فأخبره بذلك، فلما بلغه قتله كتب إلى من بغزنة من الأمراء الغورية يأمرهم بحفظ البلد، ويعرفهم أنه على الطريق سائر إليهم.
وكان والي قلعة غزنة، ويعرف بأمير داذ، وقد أرسل ولده إلى بهاء الدين سام يستدعيه إلى غزنة، فأعاد جوابه أنه ت جهز، ويصل إليه، ويعده الجميل والإحسان.
وكتب بهاء الدين إلى علاء الدين محمد بن أبي علي ملك الغور يستدعيه إليه؛ وإلى غياث الدين محمود بن غياث الدين، وإلى ابن خرميل، وإلي هراة، يأمرهما بإقامة الخطبة له، وحفظ ما بأيديهما من الأعمال، ولم يظن أن أحداً يخالفه، فأقام أهل غزنة ينتظرون وصوله، أو وصول غياث الدين محمود، والأتراك، ويقولون: لا نترك غير ابن سيدنا، يعنون غياث الدين، يدخل غزنة.
والغورية يتظاهرون بالميل إلى بهاء الدين ومنع غيره، فسار من باميان إلى غزنة في عساكره، ومعه ولداه علاء الدين محمد وجلال الدين، فلما سار عن باميان مرحلتين وجد صداعاً، فنزل يستريح، ينتظر خفته عنه، فازداد الصداع، وعظم الأمر عليه، فأيقن بالموت، فأحضر ولديه، وعهد إلى علاء الدين، وأمرهما بقصد غزنة، وحفظ مشايخ الغورية، وضبط الملك، وبالرفق بالرعايا، وبذلك الأموال، وأمرهما أن يصالحا غياث الدين على أن يكون له خراسان وبلاد الغور، ويكون لهما غزنة وبلاد الهند.
ذكر ملك علاء الدين غزنة وأخذها منه
لما فرغ بهاء الدين من وصيته توفي، فسار ولداه إلى غزنة، فخرج أمراء الغورية وأهل البلد فلقوهما، وخرج الأتراك معهم على كره منهم، ودخلوا البلد وملكوه، ونزل علاء الدين وجلال الدين دار السلطنة مستهل رمضان، وكانوا قد وصلوا في ضر وقلة من العسكر، وأراد الأتراك منعهم، فنهاهم مؤيد الملك وزير شهاب الدين لقلتهم، ولإشتغال غياث الدين بابن خرميل، والي هراة، على ما نذكره، فلم يرجعوا عن ذلك.
وملا استقرا بالقلعة، ونزلا بدار السلطانية، راسلهما الأتراك بأن يخرجا من الدار وإلا قاتلوهما، ففرقا فيهم أموالاً كثيرة، واستحلفاهم فحلفوا، واستثنوا غياث الدين محموداً، وأنفذا خلعاً إلى تاج الدين الدز، وهو بإقطاعه، مع رسول، وطلباه إلى طاعتهما، ووعداه بالأموال والزيادة في الإقطاع، وإمارة الجيش، والحكم في جميع المماليك؛ فأتاه الرسول فلقيه وقد سار عن كرمان في جيش كثير من الترك والخلج والغز وغيرهم يريد غزنة، فأبلغه الرسالة، فلم يلتفت إليه، وقال له: قل لهما أن يعودا إلى باميان، وفيها كفاية، فإني قد أمرني مولاي غياث الدين أن أسير إلى غزنة وأمنعهما عنها، فإن عادا إلى بلدهما، وإلا فعلت بهما وبمن معهما ما يكرهون.
ورد ما معهما من الهدايا والخلع، لم يكن قصد الدز بهذا حفظ بيت صاحبه، وإنما أراد أن يجعل هذا طريقاً إلى ملك غزنة لنفسه. (5/257)
فعاد الرسول وأبلغ علاء الدين رسالة الدز، فأرسل وزيره، وكان قبله وزير أبيه، إلى باميان وبلخ وترمذ وغيرها من بلادهم، ليجمع العساكر ويعود إليه، فأرسل الدز إلى الأتراك الذين بغزنة يعرفهم أن غياث الدين أمره أن يقصد غزنة ويخرج علاء الدين وأخاه منها، فحضروا عند ابن وزير علاء الدين، وطلبوا منه سلاحاً، ففتح خزانة السلاح، وهرب ابن الوزير إلى علاء الدين وقال له: قد كن كذا وكذا؛ فلم يقدر أن يفعل شيئاً.
وسمع مؤيد الملك، وزير شهاب الدين، فركب وأنكر على الخازن تسليم المفاتيح، وأمره فاسترد ما نهبه الترك جميعه، لأنه كان مطاعاً فيهم.
ووصل الدز إلى غزنة، فأخرج إليه علاء الدين جماعة من الغورية ومن الأتراك، وفيهم صونج صهر الدز، فأشار عليه أصحابه أن لا يفعل، وينتظر العسكر مع وزيره، فلم يقبل منهم، وسير العساكر، فالتقوا خامس رمضان، فلما لقوه خدمه الأتراك وعادوا معه على عسكر علاء الدين فقاتلوهم فهزموهم وأسروا مقدمهم، وهو محمد بن علي بن حردون، ودخل عسكر الدز المدينة فنهبوا بيوت الغورية والبامانية، وحصر الدز القلعة، فخرج جلال الدين منها في عشرين فارساً، وسار عن غزنة، فقالت له امرأة تستهزئ به: أين تمضي؟ خذ الجتر والشمسة معك! ما أقبح خروج السلاطين هكذا! فقال لها: إنك سترين اليوم، وأفعل بكم ما تقرون به بالسلطنة لي.
وكان قد قال لأخيه: احفظ القلعة إلى أن آتيك بالعساكر؛ فبقي الدز يحاصرها، وأراد من مع الدز نهب البلد، فنهاهم عن ذلك، وأرسل إلى علاء الدين يأمره بالخروج من القلعة، ويتهدده إن لم يخرج منها، وترددت الرسل إلى علاء الدين يأمره بالخروج من القلعة، ويتهدده إن لم يخرج منها، وترددت الرسل بينهما في ذلك، فأجاب إلى مفارقتها والعود إلى بلده، وأرسل من حلف له الدز أن لا يؤذيه، ولا يتعرض له، ولا لأحد ممن يحلف له.
وسار عن غزنة، فلما رآه الدز وقد نزل من القلعة عدل إلى تربة شهاب الدين مولاه، ونزل إليها، ونهب الأتراك ما كان منع علاء الدين، وألقوه عن فرسه، وأخذوا ثيابه، وتركوه عرياناً بسراويله.
فلما سمع الدز ذلك أرسل إليه بدواب وثياب ومال، واعتذر إليه، فأخذ ما لبسه ورد الباقي، فلما وصل إلى باميان لبس ثياب سوادي، وركب حماراً، فأخرجوا له مراكب ملوكية، وملابس جميلة، فلم يركب، ولم يلبس، وقال: أريد أن يراني الناس وما صنع بي أهل غزنة، حتى إذا عدت إليها وخربتها ونهبتها لا يلومني أحد. ودخل دار الإمارة وشرع في جمع العساكر.
ذكر ملك الدز غزنة
قد ذكرنا استيلاء الدز على الأموال والسلاح والدواب وغير ذلك مما كان صحبة شهاب الدين وآخذه من الوزير مؤيد الملك، فجمع به العساكر من أنواع الناس، الأتراك والخلج والغز وغيرهم، وسار إلى غزنة وجرى له مع علاء الدين ما ذكرنا.
فلما خرج علاء الدين من غزنة أقام الدز بداره أربعة أيام يظهر طاعة غياث الدين، إلا أنه لم يأمر الخطيب بالخطبة له ولا لغيره، وإنما يخطب للخليفة، ويترحم على شهاب الدين الشهيد حسب.
فلما كان في اليوم الرابع أحضر مقدمي الغورية والأتراك، وذم من كاتب علاء الدين وأخاه، وقبض على أمير داذ والي غزنة، فلما كان الغد، وهو سادس عشر رمضان، أحضر القضاة والفقهاء والمقدمين وأحضر أيضاً رسول الخليفة، وهو الشيخ مجد الدين أبو علي بن الربيع، الفقيه الشافعي مدرس النظامية ببغداد، وكان قد ورد إلى غزنة رسولاً إلى شهاب الدين، فقتل شهاب الدين وهو بغزنة، فأرسل إليه وإلى قاخضي غزنة يقول له: إنني أريد أن أنتقل إلى دار السلطانية، وأن أخاطب بالملك، ولا بد من حضورك؛ والمقصود من هذا أن تستقر أمور الناس، فحضر عنده، فركب الدز، والناس في خدمته، وعليه ثياب الحزن، وجلس في الدار في غير المجلس الذي كان يجلس فيه شهاب الدين، فتغيرت لذلك نيات كثير من الأتراك، لأنهم كانوا يطيعونه ظناً منهم أنه يريد الملك لغياث الدين، فحيث رأوه يريد الانفراد تغيروا عن طاعته، حتى إن بعضهم بكى غيظاً من فعله؛ وأقطع الإقطاعات الكثيرة، وفرق الأموال الجليلة. (5/258)
وكان عند شهاب الدين جماعة من أولاد ملوك الغور وسمرقند وغيرهم، فأنفوا من خدمة الدز، وطلبوا منه أن يقصد خدمة غياث الدين، فأذن لهم وفارقه كثير من أصحابه إلى غياث الدين وإلى علاء الدين وأخيه صاحبي باميان، وأرسل غياث الدين إلى الدز يشكره، ويثني عليه لإخراج أولاد بهاء الدين من غزنة، وسير له الخلع، وطلب منه الخطبة والسكة، فلم يفعل، وأعاد الجواب فغالطه، وطلب منه أن يخاطبه بالملك، وأن يعتقه من الرق لأن غياث الدين ابن أخي سيده لا وارث له سواه، وأن يزوج ابنه بابنة الدز، فلم يجبه إلى ذلك.
واتفق أن جماعة من الغوريين، من عسكر صاحب باميان، أغاروا على أعمال كرمان وسوران، وهي أقطاع الدز القديمة، فغنموا، وقتلوا، فأرسل صهره صونج في عسكر، فلقوا عسكر الباميان فظفر بهم، وقتل منهم كثيراً، وأنفذ رؤوسهم إلى غزنة فنصبت بها.
وأجرى الدز في غزنة رسوم شهاب الدين، وفرق في أهلها أموالاً جليلة المقدار، وألزم مؤيد الملك أن يكون وزيراً له، فامتنع من ذلك، فألح عليه، فأجابه على كره منه، فدخل على مؤيد الملك صديق له يهنئه، فقال: بماذا تهنئني؟ من بعد ركوب الجواد بالحمار؟ وأنشد:
ومن ركب الثور بعد الجوا ... د أنكر إطلاقه والغبب
بينا الدز يأتي إلى بابي ألف مرة حتى آذن له في الدخول أصبح على بابه! ولولا حفظ النفس مع هؤلاء الأتراك لكان لي حكم آخر.
ذكر حال غياث الدين بعد قتل عمه
وأما غياث الدين محمود بن غياث الدين فإنه كان في إقطاعه، وهو بست وأسفزار، لما قتل عمه شهاب الدين، وكان الملك علاء الدين بن محمد بن أبي علي قد ولاه شهاب الدين بلاد الغور وغيرها من أرض الروان، فلما بلغه قتله سار إلى فيروزكوه خوفاً أن يسبقه إليها غياث الدين فيملك البلد ويأخذ الخزائن التي بها.
وكان علاء الدين حسن السيرة من أكابر بيوت الغورية، إلا أن الناس كرهوه لميلهم إلى غياث الدين، وأنف الأمراء من خدمته مع وجود ولد غياث الدين سلطانهم، ولأنه كان كرامياً مغالباً في مذهبه، وأهل فيروزكوه شافعية، وألزمهم أن يجعلوا الإقامة مثنى؛ فلما وصل إلى فيروزكوه أحضر جماعة من الأمراء منهم: محمد المرغني وأخوه، ومحمد بن عثمان، وهم من أكابر الأمراء، وحلفهم على مساعدته على قتال خوارزم شاه وبهاء الدين، صاحب باميان، ولم يذكر غياث الدين احتقاراً له، فحلفوا له ولولده من بعده.
وكان غياث الدين بمدينة بست لم يتحرك في شيء انتظاراً لما يكون من صاحب باميان، لأنهما كانا قد تعاهدا أيام الدين أن تكون خراسان لغياث الدين وغزنة والهند لبهاء الدين، وكان بهاء الدين صاحب باميان بعد موت شهاب الدين أقوى منه، فلهذا لم يفعل شيئاً، فلما بلغه خبر موت بهاء الدين جلس على التخت، وخطب لنفسه بالسلطنة عاشر رمضان، وحلف الأمراء الذين قصدوه، وهم إسمعيل الخلجي، وسونج أمير أشكار، وزنكي بن خرجوم، وحسين الغوري صاحب تكياباذ وغيرهم، وتلقب بألقاب أبيه غياث الدنيا والدين، وكتب إلى علاء الدين محمد بن أبي علي وهو بفيروزكوه يستدعيه إليه، ويستعطفه ليصدر عن رأيه، ويسلم مملكته إليه؛ وكتب إلى الحسين بن خرميل، والي هراة، مثل ذلك أيضاً، ووعده الزيادة في الإقطاع.
فأما علاء الدين فأغلظ له في الجواب، كتب إلى الأمراء الذين معه يتهددهم، فرحل غياث الدين إلى فيروزكوه، فأرسل علاء الدين عسكراً مع ولده، وفرق فيهم مالاً كثيراً، وخلع عليهم لمنعوا غياث الدين، فقوه قريباً من فيروزكوه، فلما تراءى الجمعان كشف إسمعيل الخلجي المغفر عن وجهه وقال: الحمد لله إذ الأتراك الذين لا يعرفون آباءهم لم يضيعوا حق التربية، وردوا ابن ملك باميان، وأنتم مشايخ الغورية الذين أنعم عليكم والد هذا السلطان، ورباكم، وأحسن إليكم كفرتم الإحسان، وجئتم تقاتلون ولده، أهذا فعل الأحرار؟ فقال محمد المرغني، وهو مقدم العسكر الذين يصدرون عن رأيه: لا والله! ثم ترجل عن فرسه، وألقى سلاحه، وقصد غياث الدين، وقبل الأرض بين يديه، وبكرى بصوت عال، وفعل سائر الأمراء كذلك، فانهزم أصحاب علاء الدين مع ولده.(5/259)
فلما بلغه الخبر خرج عن فيروزكوه هارباً نحو الغور، وهو يقول: أنا أمشي أجاور بمكة؛ فأنفذ غياث الدين خلفه من رده إليه، فأخذه وحبسه، وملك فيروزكوه، وفرح به أهل البلد، وقبض غياث الدين على جماعة من أصحاب علاء الدين الكرامية، وقتل بعضهم.
ولما دخل غياث الدين فيروزكوه ابتدأ بالجامع فصلى فيه، ثم ركب إلى دار أبيه فسكنها، وأعاد رسوم أبيه، واستخدم حاشية، وقدم عليه عبد الجبار بن محمد الكيراني، وزير أبيه، واستوزره، وسلك طريق أبيه في الإحسان والعدل.
ولما فرغ غياث الدين من علاء الدين لم يكن له همة إلا ابن خرميل بهراة واجتذابه إلى طاعته، فكاتبه وراسله، واتخذه أباً، واستدعاه إليه.
وكان ابن خرميل قد بلغه موت شهاب الدين ثامن رمضان، فجمع أعيان الناس، منهم: قاضي هراة صاعد بن الفضل السياري، وعلي بن عبد الخلاق بن زياد مدرس النظامية بهراة، وشيخ الإسلام رئيس هراة، ونقيب العلويين ومقدمي المحال، وقال لهم: قد بلغني وفاة السلطان شهاب الدين أنا في نحر خوارزم شاه، وأخاف الحصار، وأريد أن تحلفوا لي على المساعدة على كل من نازعني. فأجابه القاضي وابن زياد: إننا نحلف على كل الناس إلا ولد غياث الدين؛ فحقدها عليهما، فلما وصل كتاب غياث الدين خاف ميل الناس إليه، فغالطه في الجواب.
وكان ابن خرميل قد كاتب خوارزم شاه يطلب منه أن يرسل إليه عسكراً ليصير في طاعته ويمتنع به على الغورية، فطلب منه خوارزم شاه إنفاذ ولده رهينة، ويرسل إليه عسكراً، فسير ولده إلى خوارزم شاه، فكتب خوارزم شاه إلى عسكره الذين بنيسابور وغيرها من بلاد خراسان يأمرهم بالتوجه إلى هراة، وأن يكونوا يتصرفون بأمر ابن خرميل ويتمثلون أمره.
هذا وغياث الدين يتابع الرسل إلى ابن خرميل، وهو يحتج بشيء بعد شيء انتظاراً لعسكر خوارزم شاه، ولا يؤيسه من طاعته، ولا يخطب له ويطيعه طاعة غير مستوية.
ثم إن الأمير علي بن أبي علي، صاحب كالوين، أطلع غياث الدين على حال ابن خرميل، فعزم غياث الدين على التوجه إلى هراة، فثبطه بعض الأمراء الذين معه، و أشاروا عليه بانتظار آخر أمره وترك محاقته.
واستشار ابن خرميل الناس في أمر غياث الدين، فقال له علي بن عبد الخلاق بن زياد، مدرس النظامية بهراة، وهو متولي وقوف خراسان التي بيد الغورية جميعها: ينبغي أن تخطب للسلطان غياث الدين، وتترك المغالطة؛ فأجابه: إنني أخافه على نفسي، فامض أنت وتوثق لي منه.
وكان قصده أن يبعده عن نفسه، فمضى برسالته إلى غياث الدين، وأطلعه على ما يريد ابن خرميل بفعله من الغدر به، والميل إلى خوارزم شاهن وحثه على قصد هراة، وقال له: أنا أسلمها إليك ساعة تصل إليها؛ ووافقه بعض الأمراء، وخالفه غيرهم،! وقال: ينبغي أن لا تترك له حجة، فترسل إليه تقليداً بولاية هراة، ففعل ذلك، وسيره مع ابن زياد وبعض أصحابه.
ثم إن غياث الدين كاتب أميران بن قيصر، صاحب الطالقان، يستدعيه إليه، فتوقف؛ و أرسل إلى صاحب مرو ليسير إليه، فتوقف أيضاً، فقال له أهل البلد: إن لم تسلم البلد إلى غياث الدين، وتتوجه إليه، وإلا سلمناك، وقيدناك، وأرسلناك إليه، فاضطر إلى المجيء إلى فيروزكوه، فخلع عليه غياث الدين، وأقطعه إقطاعاً، وأقطع الطالقان سونج مملوك أيبه المعروف بأمير أشكار.
ذكر استيلاء خوارزم شاه على بلاد الغورية
قد ذكرنا مكاتبة الحسين بن خرميل، والي هراة، خوارزم شاه، ومراسلته في الانتماء إليه والطاعة له، ترك طاعة الغورية، وخداعه لغياث الدين، ومغالطته له بالخطبة له والطاعة، انتظاراً لوصول عسكر خوارزم شاه، ووصول رسول غياث الدين وابن زياد بالخلع إلى ابن خرميل، فلما وصلت الخلع إليه لبسها هو وأصحابه، وطالبه رسول غياث الدين بالخطبة، فقال: يوم الجمعة نخطب له.
فاتفق قرب عسكر خوارزم شاه منهم، فلما كان يوم الجمعة قيل له في معنى الخطبة، فقال: نحن في شغل أهم منها بوصول هذا العدو، فطالت المجادلات بينهم في ذلك، وهو مصر على الامتناع منها، ووصل عسكر خوارزم شاه، فلقيهم ابن خرميل، وأنزلهم على باب البلد، فقالوا له: قد أمرنا خوارزم شاه أن لا نخالف لك أمراً؛ فشكرهم على ذلك؛ وكان يخرج إليهم كل يوم، وأقام لهم الوظائف الكثيرة. (5/260)
وأتاه الخبر أن خوارزم شاه نزل على بلخ فحاصرها، فلقيه صاحبها، وقاتله بظاهر البلد، فلم ينزل بالقرب منها، فنزل على أربعة فراسخ، فندم ابن خرميل على طاعة خوارزم شاه، وقال لخواصه: لقد أخطأنا حيث صرنا مع هذا الرجل، فإنني أراه عاجزاً.
وشرع في إعادة العسكر، فقال للأمراء: إن خوارزم شاه قد أرسل إلى غياث الدين يقول له: إنني على العهد الذي بيننا، وأنا أترك ما كان لأبيك بخراسان؛ والمصلحة أن ترجعوا حتى ننظر ما يكون. فعادوا، وأرسل إليهم الهدايا الكثيرة.
وكان غياث الدين حيث اتصل به وصول عسكر خوارزم شاه إلى هراة، فأخذ إقطاع ابن خرميل وأرسل إلى كرزبان وأخذ كل ما له بها من مال. وأولاد، ودواب، وغير ذلك. وأخذ أصحابه في القيود، وأتاه كتب من يميل إليه من الغوية يقولون له: إن رآك غياث الدين قتلك.
ولما سمع أهل هراة بما فعل غياث الدين بأهل ابن خرميل وماله عزموا على قبضه والمكاتبة إلى غياث الدين بإنفاذ من يتسلم البلد، وكتب القاضي صاعد، قاضي هراة، وابن زياد إلى غياث الدين بذلك؛ فلما سمع ابن خرميل بما فعله غياث الدين بأهله، وبما عزم عليه أهل هراة، خاف أن يعاجلوه بالقبض، فحضر عند القاضي، وأحضر أعيان البلد، وألان لهم القول، وتقرب إليهم، وأظهر طاعة غياث الدين، وقال: قد رددت عسكر خورازم شاه، وأريد أن أرسل رسولاً إلى غياث الدين بطاعتي، والذي أوثره منكم أن تكتبوا معه كتاباً بطاعتي. فاستحسنوا قوله، وكتبوا له بما طلب، وسير رسوله إلى فيروزكوه، وأمره، إذا جنه الليل، أن يرجع على طريق نيسابور يلحق عسكر خوارزم شاه ويجد السير فإذا لحقهم ردهم إليه.
ففعل الرسول ما أمره، ولحق العسكر على يومين من هراة، فأمرهم بالعود، فعادوا، فلما كان اليوم الرابع من سير الرسول وصلوا إلى هراة والرسول بين أيديهم، فلقيهم ابن خرميل، وأدخلهم البلد والطبول تضرب بين أيديهم، فلما دخلوا أخذ ابن زياد الفقيه فسلمه، وأخرج القاضي صاعداً من البلد، فسار إلى غياث الدين بفيروزكوه، وأخرج من عنده من الغورية، وكل من يعلم أنه يريدهم، و سلم أبواب البلد إلى الخوارزمية.
وأما غياث الدين فإنه برز عن فيروزكوه نحو هراة، وأرسل عسكراً، فأخذوا حشيراً كان لأهل هراة، فخرج الخوارزمية، فشنوا الغارة على هراة الروذ وغيرها، فأمر غياث الدين عسكره بالتقدم إلى هراة، وجعل المقدم عليهم علي بن أبي علي، وأقام هو بفيروزكوه لما بلغه أن خوارزم شاه على بلخ، فسار العسكر وعلى يزكه الأمير أميران بن قيصر الذي كان صاحب الطالقان، وكان منحرفاً عن غياث الدين حيث أخذ منع الطالقان، فأرسل إلى ابن خرميل يعرفه أنه على اليزك، ويأمره بالمجيء إليه، فإنه لا يمنعه، وحلف له على ذلك.
فسار ابن خرميل في عسكره، فكبس عسكر غياث الدين، فلم يلحقوا يركبون خيولهم حتى خالطوهم، فقتلوا فيهم، فكف ابن خرميل أصحابه عن الغورية خوفاً أن يهلكوا، وغنم أموالهم وأسر إسمعيل الخلجي، وأقام بمكانه، وأرسل عسكره فشنوا الغارة على البلاد باذغيس وغيرها.
وعظم الأمر على غياث الدين، فعزم على المسير إلى هراة بنفسه، فأتاه الخبر أن علاء الدين، صاحب باميان، قد عاد إلى غزنة على ما نذكره، فأقام ينتظر ما يكون منهم من الدز.
وأما بلخ فإن خوارزم شاه لما بلغه قتل شهاب الدين أخرج من كان عنده من الغوريين الذين كان أسرهم في المصاف على باب خوارزم، فخلع عليهم، وأحسن إليهم، وأعطاهم الأموال، وقال: إن غياث الدين أخي، ولا فرق بيني وبينه، فمن أحب منكم المقام عندي فليقم، ومن أحب أن يسير إليه فإنني أسيره، ولو أراد مني مهما أراد نزلت له عنه. (5/261)
عهد إلى محمد بن علي بن بشير، وهو من أكابر الأمراء الغورية، فأحسن إليه، وأقطعه استمالة للغورية، وجعله سفيراً بينه وبين صاحب بلخ، فسير أخاه علي شاه بين يديه في عسكره إلى بلخ، فلما قاربها خرج إليه عماد الدين عمر بن الحسني الغورية أميرها، فدفعه عن النزول عليها، فنزل على أربعة فراسخ عنها، فأرسل إلى أخيه خوارزم شاه يعلمه قوتهم، فسار إليها في ذي القعدة من السنة، فلما وصل إلى بلخ خرج صاحبها فقاتلهم، فلم يقو بهم لكثرتهم، فنزلوا فصار يوقع بهم ليلاً، فكانوا معه على أقبح صورة، فأقام صاحب بلخ محاصراً وهو ينتظر المداد من أصحابه أولاد بهاء الدين، صاحب باميان، وكانوا قد اشتغلوا عنه بغزنة على ما نذكره.
فأقام خوارزم شاه على بلخ أربعين يوماً، كل يوم يركب إلى الحرب، فيقتل من أصحابه كثير، ولا يظفر بشيء، فراسل صاحبها عماد الدين مع محمد بن علي بن بشير الغوري في بذل بذله له ليسلم إليه البلد، فلم يجبه إلى ذلك، وقال: لا أسلم البلد إلا إلى أصحابه؛ فعزم على المسير إلى هراة، فلما سار أصحابه أولاد بهاء الدين، صاحب باميان، إلى غزنة، المرة الثانية، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، وأسرهم تاج الدين الدز، عاد عن ذلك العزم، وأرسل محمد بن علي بن بشير إلى عماد الدين نائبه يعرفه حال أصحابه وأسرهم، وأنه لم يبق عليه حجة، ولا له في التأخر عنه عذر. فدخل إليه، ولم يزل يخدعه تارة يرغبه، وتارة يرهبه، حتى أجاب إلى طاعة خوارزم شاه والخطبة له، وذكر اسمه على السكة، وقال: أنا أعلم أنه لا يفي لي؛ فأرسل من يستحلفه على ما أراد، فتم الصلح، وخرج إلى خوارزم شاه، فخلع عليه، وأعاده إلى بلده، وكان سلخ ربيع الأول سنة ثلاث وستمائة.
ثم سار خوارزم شاه إلى كرزبان ليحاصرها، وبها علي بن أبي علي، وأرسل إلى غياث الدين يقول: إن هذه كان قد أقطعها عمك لابن خرميل، فتنزل عنها؛ فامتنع، وقال، بيني وبينكم السيف؛ فأرسل اله خوارزم شاه مع محمد بن علي بن بشير فرغبه، وآيسه من نجدة غياث الدين، ولم يزل به حتى نزل عنها وسلمها، وعاد إلى فيروزكوه، فأمر غياث الدين بقتله، فشفع فيه الأمراء، فتركه، وسلم خوارزم شاه كرزبان إلى ابن خرميل. ثم أسل إلى عماد الدين، صاحب بلخ، يطلبه إليه، ويقول: قد حضر مهم ولا غنى عن حضورك، فأنت اليوم من أخص أوليائنا؛ فحضر عنده، فقبض عيه وسيره إلى خوارزم، ومضى هو إلى بلخ، فأخذها واستناب بها جعفراً التركي.
ذكر ملك خوارزم شاه ترمذ وتسليمها إلى الخطا
لما أخذ خوارزم شاه مدينة بلخ سار عنها إلى مدينة ترمذ مجداً، وبها ولد عماد الدين كان صاحب بلخ، فأرسل إليه محمد بن بشير يقول له: إن أباك قد صار من أخص أصحابي وأكابر أمراء دولتي، وقد سلم إلى بلخ، وإنما ظهر لي منه ما أنكرته، فسيرته إلى خوارزم مكرماً محترماً، وأما أنت فتكون عندي أخاً.
ووعده، وأقطعه الكثير، فخدعه محمد بن علي، فرأى صاحبها أن خوارزم شاه قد حصره من جانب والخطا قد حصره من جانب آخر، وأصحابه قد أسرهم الدز بغزنة، فضعف نفسه، وأرسل من يستحلف له خوارزم شاه، فحلف له، وتسلم منه ترمذ وسلمها إلى الخطا، فلقد اكتسب بها خوارزم شاه سبة عظيمة، وذكراً قبيحاً في عاجل الأمر؛ ثم ظهر للناس، بعد ذلك، أنه إنما سلمها إليهم ليتمكن بذلك من ملك خراسان، ثم يعود إليهم فيأخذها وغيرها منها، لأنه لمتا ملك خراسان وقصد بلاد الخطا وأخذها وأفناهم علم الناس أنه فعل ذلك خديعة ومكراً، غفر الله له.
ذكر عود أولاد صاحب باميان إلى غزنة
قد ذكرنا قبل وصول الدز التركي إلى غزنة، وإخراجه علاء الدين وجلال الدين ولدي بهاء الدين سام، صاحب باميان، منها، بعد أن ملكها، وأقام هو في غزنة من عاشر رمضان سنة اثنتين وستمائة إلى خامس ذي القعدة من السنة، يحسن السيرة، ويعدل في الرعية، وأقطع البلاد للأجناد، فبعضهم أقام، وبعضهم سار إلى غياث الدين بفيروزكوه، وبعضهم سار إلى علاء الدين، صاحب باميان، ولم يخطب لأحد، ولا لنفسه، وكان يعد الناس بأن رسولي عند مولاي غياث الدين، فإذا عاد خطبت؛ ففرح الناس بقوله. (5/262)
وكان يفعل ذلك مكراً وخديعة بهم وبغياث الدين، لأنه لو لم يظهر ذلك لفارقه أكثر الأتراك وسائر الرعايا، وكان حينئذ يضعف عن مقاومة صاحب باميان، في العساكر الكثيرة، وأنهم قد عزموا على نهب غزنة، واستباحة الأموال والأنفس، فخاف الناس خوفاً شديداً، وجهز الدز كثيراً من عسكره وسيرهم إلى طريقهم، فلقوا أوائل العسكر، فقتل من الأتراك جماعة، و أدركهم العسكر، فلم يكن لهم قوة بهم، فانهزموا، وتبعهم عسكر علاء الدين يقتلون ويأسرون، فوصل المنهزمون إلى غزنة، فخرج عنها الدز منهزماً يطلب بلده كرمان، فأدركه بعض عسكر باميان، نحو ثلاثة آلاف فارس، فقاتلهم قتالاً شديداً، فردهم عنه، وأحضر من كرمان مالاً كثيراً، وسلاحاً، ففرقه في العسكر.
وأما علاء الدين وأخوه فإنهما تركا غزنة لم يدخلاها، وسارا في أثر الدز، فسمع بهم، فسار عن كرمان، فنهب الناس بعضهم بعضاً، وملك علاء الدين كرمان، وأمنوا أهلها، وعزموا على العود إلى غزنة ونهبها، فسمع أهلها بذلك، فقصدوا القاضي سعيد بن مسعود وشكوا إليه حالهم، فمشى إلى وزير علاء الدين المعروف بالصاحب، وأخبره بحال الناس، فطيب قلوبهم، و أخبرهم غيره ممن يثقون به أنهم مجمعون على النهب، فاستعدوا وضيقوا أبواب الدروب والشوارع، وأعدوا العرادات والأحجار، وجاءت التجار من العراق، والموصل، والشام، وغيرها، وشكوا إلى أصحاب السلطان، فلم يشكهم أحد، فقصدوا دار مجد الدين بن الربيع، رسول الخليفة، واستغاثوا به، فسكنهم، ووعدهم الشفاعة فيهم وفي أهل البلد، فأرسل إلى أمير كبير من الغورية يقال له سليمان بن سيس، وكان شيخاً كبيراً يرجعون إلى قوله، يعرفه الحال، ويقول له ليكتب إلى علاء الدين وأخيه يتشفع في الناس، ففعل، وبالغ في الشفاعة، وخوفهم من أهل البلد إن أصروا على النهب، فأجابوه إلى العفو عن الناس بعد مراجعات كثيرة.
وكانوا قد وعدوا من معهم من العساكر بنهب غزنة، فعوضوهم من الخزانة، فسكن الناس، وعاد العسكر إلى غزنة أواخر ذي القعدة ومعهم الخزانة التي أخذها الدز من مؤيد الملك لما عاد ومعه شهاب الدين قتيلاً، فكانت مع ما أضيف إليها من الثياب والعين تسع مائة حمل، ومن جملة ما كان فيها من الثياب الممزج، المنسوج بالذهب، اثنا عشر ألف ثوب.
وعزم علاء الدين أن يستوزر مؤيد الملك، فسمع أخوه جلال الدين، فأحضره وخلع عليه، على كراهة منه للخلعة، واستوزره؛ فلما سمع علاء الدين بذلك قبض على مؤيد الملك، وقيده، وحبسه، فتغيرت نيات الناس، واختلفوا، ثم إن علاء الدين وجلال الدين اقتسما الخزانة، وجرى بينهما من المشاحنة في القسمة ما لا يجري بين التجار، فاستدل بذلك الناس على أنهما لا يستقيم لهما حال لبخلهما، واختلافهما، وندم الأمراء على ميلهم إليهما، وتركهم غياث الدين مع ما ظهر من كرمه وإحسانه.
ثم إن جلال الدين وعمه عباساً سارا في بعض العسكر إلى باميان، وبقي علاء الدين بغزنة، فأساء وزيره عماد الملك السيرة مع الأجناد والرعية، ونهبت أموال الأتراك، حتى إنهم باعوا أمهات أولادهم وهن يبكين ويصرخن ولا يلتفت إليهن.
ذكر عود الدز إلى غزنة
لما سار جلال الدين عن غزنة، وأقام بها أخوه علاء الدين، جمع الدز ومن معه من الأتراك عسكرًاً كثيراً وعادوا إلى غزنة، فوصلوا إلى كلوا فملكوها وقتلوا جماعة من الغورية، ووصل المنهزمون منها إلى كرمان، فسار الدز إليهم، وجعل على مقدمته مملوكاً كبيراً من مماليك شهاب الدين، اسمه أي دكز التتر، في ألفي فارس من الخلج والأتراك والغز والغورية وغيرهم.
وكان بكرمان عسكر لعلاء الدين مع أمير يقال له ابن المؤيد، ومعه جماعة من الأمراء، منهم أبو علي بن سليمان بن سيس، وهو وأبوه من أعيان الغورية، وكانا مشتغلين باللعب واللهو والشرب، لا يفتران عن ذلك، فقيل لهما: إن عسكر الأتراك قد قربوا منكم؛ فلم يلتفتا إلى ذلك، ولا تركا منا كانا عليه، فهجم عليهم أي دكز التتر ومن معه من الأتراك، فلم يمهلهم يركبون خيولهم، فقتلوا عن آخرهم، منهم من قتل في المعركة، ومنهم من قتل صبراً، ولم ينج إلا من تركه الأتراك عمداً. (5/263)
ولما وصل الدز فرأى أمراء الغورية كلهم قتلى قال: كل هؤلاء قاتلونا؟ فقال أي دكز التتر: لا بل قتلناهم صبراً؛ فلامه على ذلك، ووبخه، وأحضر رأس ابن المؤيد بين يديه، فسجد شكراً لله تعالى، وأمر بالمقتولين فغسلوا ودفنوا، وكان في جملة القتلى أبو علي بن سليمان بن سيس.
ووصل الخبر إلى غزنة في العشرين من ذي الحجة من هذه السنة، فصلب علاء الدين الذي جاء بالخبر، فتغميت السماء، وجاء مطر شديد خرب بعض غزنة، وجاء بعه برد كبار مثل بيض الدجاج، فضج الناس إلى علاء الدين بإنزال المصلوب، فأنزله آخر النهار، فانكشفت الظلمة، وسكن ما كانوا فيه.
وملك الدز كرمان، وأحسن إلى أهلها، وكانوا في ضر شديد مع أولئك.
ولما صح الخبر عند علاء الدين أرسل وزيره الصاحب إلى أخيه جلال الدين في باميان يخبره بحال الدز، ويستنجده، وكان قد أعد العساكر ليسير إلى بلخ يرحل عنها خوارزم شاه، فلما أتاه هذا الخبر ترك بلخ وسار إلى غزنة، وكان أكثر عسكره من الغورية قد فارقوه، وفارقوا أخاه، وقصدوا غياث الدين، فلما كان أواخر ذي الحجة وصل الدز إلى غزنة، ونزل هو وعسكره بإزاء قلعة غزنة، وحصر علاء الدين، وجرى بينهم قتال شديد، وأمر الدز فنودي في البلد بالأمان، وتسكين الناس من أهل البلد، والغورية، وعسكر باميان، وأقام الدز محاصراً للقلعة، فوصل جلال الدين في أربعة آلاف من عسكر باميان وغيرهم، فرحل الدز إلى طريقهم، وكان مقامه إلى أن سار إليهم أربعين يوماً، فلما سار الدز سير علاء الدين من كان عنده من العسكر، وأمرهم أن يأتوا الدز من خلفه، ويكون أخوه من بين يديه، فلا يسلم من عسكره أحد. فلما خرجوا من القلعة سار سليمان بن سيس الغوري إلى غياث الدين بفيروزكوه، فلما وصل إليه أكرمه وعظمه، وجعله أمير داذ فيروزكوه، وكان ذلك في صفر سنة ثلاث وستمائة.
وأما الدز فإنه سار إلى طريق جلال الدين، فالتقوا بقرية بلق، فاقتتلوا قتالاً صبروا فيه، فانهزم جلال الدين وعسكره، وأخذ جلال الدين أسيراً، وأتى به إلى الدز، فلما رآه ترجل وقبل يده، وأمر الاحتياط عليه، وعاد إلى غزنة وجلال الدين معه وألف أسير من الباميانية، وغنم أصحابه أموالهم.
ولما عاد إلى غزنة أرسل إلى علاء الدين يقول له ليسلم القلعة إليه، وإلا قتل من عنده من الأسرى، فلم يسلمها، فقتل منهم أربع مائة أسير بإزاء القلعة، فلما رأى علاء الدين ذلك أرسل مؤيد الملك يطلب الأمان، فأمنه الدز، فلما خرج قبض عليه ووكل به وبأخيه من يحفظهما، وقبض على وزيره عماد الملك لسوء سيرته، وكان هندوخان بن ملكشاه بن خوارزم شاه تكش مع علاء الدين بقلعة غزنة، فلما خرج منها قبض عليه أيضاً، وكتب إلى غياث الدين بالفتح، وأرسل إليه الأعلام وبعض الأسرى.
ذكر قصد صاحب مراغة وصاحب إربل أذربيخان
في هذه السنة اتفق صاحب مراغة، وهو علاء الدين، هو ومظفر الدين كوكبري، صاحب إربل، على قصد أذربيجان وأخذها من صاحبها أبي بكر بن البهلوان، لاشتغاله بالشرب ليلاً ونهاراً، وتركه النظر في أحوال المملكة، وحفظ العساكر والرعايا، فسار صاحب إربل إلى مراغة، واجتمع هو وصاحبها علاء الدين، وتقدما نحو تبريز، فلا علم صاحبها أبو بكر أرسل إلى إيدغمش، صاحب بلاد الجبل، همذان وأصفهان والري وما بينها من البلاد، وهو مملوك أبيه البهلوان، وهو في طاعة أبي بكر، إلا أنه قد غلب على البلاد، فلا يلتفت إلى أبي بكر، فأرسل إليه أبو بكر يستنجده، ويعرفه الحال، وكان حينئذ ببلد الإسماعيلية، فلما أتاه الخبر سار إليه في العساكر الكثيرة.
فلما حضر عنده أرسل إلى صاحب إربل يقول له: إننا كنا نسمع عنك أنك تحب أهل العلم والخير وتحسن إليهم، فكنا نعتقد فيك الخير والدين، فلما كان الآن ظهر لنا منك ضد ذلك لقصدك بلاد الإسلام، وقتال المسلمين، ونهب أموالهم، وإثارة الفتنة، فإذا كنت كذلك فما لك عقل؛ تجيء إلينا، وأنت صاحب قرية، ونحن لنا من باب خراسان إلى خلاط وإلى إربل، واحسب أنك هزمت هذا، أما تعلم أن له مماليك، أنا أحدهم، ولو أخذ من كل قرية شحنة، أو من كل مدينة عشرة رجال، لاجتمع له أضعاف عسكر، فالمصلحة أنك ترجع إلى بلدك؛ وإنما أقول لك هذا إبقاء عليك. (5/264)
ثم سار نحوه عقيب هذه الرسالة، فلما سمعها مظفر الدين وبلغه مسير إيدغمش عزم على العود؛ فاجتهد به صاحب مراغة ليقيم بمكانه، ويسلم عسكره إليه، وقال له: إنني قد كاتبني جميع أمرائه ليكونوا معي إذا قصدتهم؛ فلم يقبل مظفر الدين من قوله، وعاد إلى بلده، وسلك الطريق الشاقة، والمضايق الصعبة، والعقاب الشاهقة، خوفاً من الطلب.
ثم سار نحوه عقيب هذه الرسالة، فلما سمعها مظفر الدين وبلغه مسير إيدغمش عزم على العود، فاجتهد به صاحب مراغة ليقيم بمكانه، ويسلم عسكره إليه، وقال له: إنني قد كاتبني جميع أمرائه ليكونوا معي إذا قصدتهم؛ فلم يقبل مظفر الدين من قوله، وعاد إلى بلده، وسلك الطريق الشاقة، والمضايق الصعبة، والعقاب الشاهقة، خوفاً من الطلب.
ثم إن أبا بكر وإيدغمش قصد مراغة وحصراها، فصالحهما صاحبها على تسليم قلعة من حصونه إلى أبي بكر، وهي كانت سبب الاختلاف، وأقطعه أبو بكر مدينتي أستوا وأرمية وعاد عنه.
ذكر الغارة من ابن ليون على أعمال حلب
وفي هذه السنة توالت الغارة من ابن ليون الأرمني، صاحب الدروب، على ولاية حلب، فنهب، وحرق، وأسر، وسبى، فجمع الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف، صاحب حلب، عساكره، واستنجد غيره من الملوك، فجمع كثيراً من الفارس والراجل، وسار عن حلب نحو ابن ليون.
وكان ابن ليون قد نزل في طرف بلاده مما يلي بلد حلب، فليس إليه طريق، لأن جميع بلاده لا طريق إليها إلا من جبال وعرة، ومضايق صعبة، فلا يقدر غيره على الدخول إليها، لا سيما من ناحية حلب، فإن الطريق منها متعذر جداً، فنزل الظاهر على خمسة فاراسخ من حلب، وجعل على مقدمته جماعة من عسكره مع أمير كبير من مماليك أبيه، يعرف بميمون القصري، ينسب إلى قصر الخلفاء العلويين بمصر، لأن أباه منهم أخذه، فأنفذ الظاهرة ميرة وسلاحاً إلى حصن له مجاور لبلاد ابن ليون، اسمه دربساك، وأنفذ إلى ميمون ليرسل طائفة من العسكر الذين عنده إلى طريق هذه الذخيرة ليسيروا معها إلى دربساك، ففعل ذلك، وسير جماعة كثيرة من عسكره، وبقي في قلة، فبلغ الخبر إلى ابن ليون، فجد، فوافاه وهو مخف من العسكر، فقاتله، واشتد القتال بينهم، فأرسل ميمون إلى الظاهر يعرفه، وكان بعيداً عنه، فطالت الحرب بينهم، وحمى ميمون نفسه وأثقاله على قلة من المسلمين وكثرة من الأرمن، فانهزم المسلمون، ونال العدو منهم، فقتل وأسر، وكذلك أيضاً فعل المسلمون بالأرمن من كثرة القتل.
وظفر الأرمن بأثقال المسلمين فغنموها وساروا بها، فصادفهم المسلمون الذين كانوا قد ساروا مع الذخائر إلى دربساك، فلم يشعروا بالحال، فلم يرعهم إلا العدو وقد خالطهم ووضع السيف فيهم، فاقتتلوا أشد قتال، ثم انهزم المسلمون أيضاً، وعاد الأرمن إلى بلادهم بما غنموا واعتصموا بجبالهم وحصونهم.
ذكر نهب الكرج أرمينة
في هذه السنة قصدت الكرج في جموعها ولاية خلاط من أرمينية، ونهبوا، وقتلوا، وأسروا وسبوا أهلها كثيراً، وجاسوا خلال الديار آمنين، ولم يخرج إليهم من خلاط من يمنعهم فبقوا متصرفين في النهب والسبي، والبلاد شاغرة لا مانع لها، لأن صاحبها صبي، والمدبر لدولته ليست له تلك الطاعة على الجند.
فلما اشتد البلاء على الناس تذامروا، وحرض بعضهم بعضاً، واجتمعت العساكر الإسلامية التي بتلك الولاية جميعها، وانضاف إليهم من المتطوعة كثير، فساروا جميعهم نحو الكرج وهم خائفون، فرأى بعض الصوفية الأخيار الشيخ محمداً البستي، وهو من الصالحين، وكان قد مات، فقال له الصوفي: أراك ها هنا؟ فقال: جئت لمساعدة المسلمين على عدوهم. فاستيقظ فرحاً بمحل البستي من الإسلام، وأتى إلى مدبر العسكر، والقيم بأمره، وقص عليه رؤياه، ففرح بذلك، وقوي عزمه على قصد الكرج، وسار بالعساكر إليهم فنزل منزلاً.
فوصلت الأخبار إلى الكرج؛ فعزموا على كبس المسلمين، فانتقلوا من موضعهم بالوادي إلى أعلاه، فنزلوا فيه ليكبسوا المسلمين إذا أظلم الليل، فأتى المسلمين الخبر، فقصدوا الكرج وأمسكوا عليهم رأس الوادي وأسفله، وهو واد ليس إليه غير هذين الطريقين، فلما رأى الكرج ذلك أيقنوا بالهلاك، وسقط في أيديهم، وطمع المسلمون فيهم، وضايقوهم، وقاتلوهم، فقتلوا منهم كثيراً، وأسروا مثلهم، ولم يفلت من الكرج إلا القليل، وكفى الله المسلمين شرهم بعد أن كانوا أشرفوا على الهلاك. (5/265)
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة، في جمادى الآخرة، توفي الأمير طاشتكين مجير الدين، أمير الحاج، بتستر، وكان قد ولاه الخليفة على جميع خوزستان، وكان أمير الحاج سنين كثيرة، وكان خيراً صالحاً، حسن السيرة، كثير العبادة، بتشيع.
ولما مات ولى الخليفة على خوزستان مملوكه سنجر، وهو صهر طاشتكين زوج ابنته.
وفيها قتل سنجر بن مقلد بن سليمان بن مهارش، أمير عبادة، بالعراق. وكان سبب قتله أنه سعى بأبيه مقلد إلى الخليفة الناصر لدين الله، فأمر بالتوكيل على أبيه، فبقي مدة ثم أطلقه الخليفة، ثم إن سنجر قتل أخاً له اسمه ........ فأوغر بهذه الأسباب صدور أهله وإخوته، فلما كان هذه السنة في شعبان نزل بأرض المعشوق، وركب في بعض الأيام، ومعه إخوته وغيرهم من أصحابه، فلما انفرد عن أصحابه ضربه أخوه علي بن مقلد بالسيف فسقط إلى الأرض، فنزل إخوته إليه فقتلوه.
وفيها تجهز غياث الدين خسروشاه، صاحب مدينة الروم، إلى مدينة طرابزون، وحصر صاحبها لأنه كان قد خرج عن طاعته، فضيق عليه. فانقطعت لذلك الطرق من بلاد الروم، والروس، قفجاق وغيرها، براً وبحراً، ولم يخرج منهم أحد إلى بلاد غياث الدين، فدخل بذلك ضرر عظيم على الناس، لأنهم كانوا يتجرون معهم، ويدخلون بلادهم، ويقصدهم التجار من الشام، والعراق، والموصل، والجزيرة وغيرها، فاجتمع منهم بمدينة سيواس خلق كثير، فحيث لم ينفتح الطريق تأذوا أذى كثيراً، فكان السعيد منهم من عاد إلى رأس ماله.
وفيها تزوج أبو بكر بن البهلوان، صاحب أذربيجان وأران، بابنة ملك الكرج، وسبب ذلك أن الكرج تابعة الغارات منهم على بلاده لما رأوا من عجزه وانهماكه في الشرب واللعب وما جانسهما، وإعراضه عن تدبير الملك وحفظ البلاد، فلما رأى هو أيضاً ذلك، ولم يكن عنده من عدل إلى الذب عنها بأيره، فخطب ابنة ملكهم، فتزوجها، فكف الكرج عن النهب والإغارة والقتل، فكان كما قيل: أغمد سيفه، وسل أيره.
وفيها حمل إلى أزبك خروف وجهه صورة آدمي، وبدنه بدن خروف، وكان هذا من العجائب.
وفيها توفي القاضي أبو حامد محمد بن المانداي الوسطي بها.
وفيها، في شوال، توفي فخر الدين مبارك شاه بن الحسن المروروذي، وكان حسن الشعر بالفارسية والعربية، وله منزلة عظيمة عند غياث الدين الكبير، صاحب غزنة وهراة وغيرهما، وكان له دار ضيافة، فيها كتب وشطرنج، فالعلماء يطالعون الكتب، والجهال يلعبون بالشطرنج.
وفيها، في ذي الحجة توفي أبو الحسن علي بن علي بن سعادة الفارقي، الفقيه الشافعي، ببغداد، وبقي مدة طويلة معيداً بالنظامية، وصار مدرساً بالمدرسة التي أحدثتها أم الخليفة الناصر لدين الله، وكان مع علمه صالحاً، طلب للنيابة في القضاء ببغداد، فامتنع فألزم بذلك، فوليه يسيراً، ثم في بعض الأيام مشى إلى جامع ابن المطلب، فنزل، ولبس مئزر صوف غليظ، وغير ثيابه، وأمر الوكلاء وغيرهم بالانصراف عنه، وأقام به حتى سكن الطلب عنه، وعاد إلى منزله بغير ولاية.
وفيها وقع الشيخ أبو موسى المكي، المقيم بمقصورة جامع السلطان ببغداد، من سطح الجامع، فمات، وكان رجلاً صالحاً كثير العبادة.
وفيها أيضاً توفي العفيف أبو المكارم عرفة بن علي بن بصلا البندنيجي ببغداد، وكان رجلاً صالحاً، منقطعاً إلى العبادة، رحمه الله.

This site was last updated 07/28/11