Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم عزت اندراوس

السلطان الملك الأشرف سيف الدين أبو النصر برسباي الدقماقي الظاهري 202/ 12 م.ج

ذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس بها تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
برقوق بن آنص191/ 1م.ج
حاجى 192/ 2 م.ج
برقوق بن آنص193/ 3م.ج
فرج194/ 4 م.ج
عبد العزيز195/ 5/ م.ج
فرج 196/ 6 م.ج
سلطان وخليفة 197/ 7م.ج
شيخ198/ 8 م.ج
أحمد 199/ 9 م.ج
ططر 200/ 10 م.ج
محمد ططر201/ 11 م.ج
برسباى 202/ 12 م.ج
يوسف203/ 13 م.ح
جقمق204/ 14 م.ج
عثمان 205/ 15 م.ج
إينال 206/ 16 م.ج
أحمد
خشقدم
يلباى
تمبرغا
قايتباى
الغورى

Hit Counter

 


السلطان الملك الأشرف سيف الدين أبو النصر برسباي الدقماقي الظاهري سنة 825 هـ .

سلطنة الملك الأشرف برسباي السلطان الملك الأشرف سيف الدين أبو النصر برسباي الدقماقي الظاهري سلطان الديار المصرية‏.‏ جلس على تخت الملك يوم خلع الملك الصالح محمد ابن الملك الظاهر ططر في يوم الأربعاء ثامن شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين وثمانمائة بعد أن حضر الخليفة والقضاة وجميع الأمراء والأمير تنبك ميق نائب الشام‏.‏
وبويع بالسلطنة ولبس الخلعة الخليفتية السوداء وركب من طبقة الأشرفية بقلعة الجبل والأمراء مشاة بين يديه إلى أن نزل على باب القصر ودخل وجلس على تخت الملك وقبلت الأمراء الأرض بين يديه وخلع على الخليفة المعتضد بالله داود وعلى من له عادة بالخلع في مثل هذا اليوم‏.‏ وتم أمره ونودي باسمه وسلطنته بالقاهرة ومصر من غير أن يأمر للمماليك السلطانية بنفقة كما هي عادة الملوك وهذا كان من أوائل سعد ناله فإننا لم نعلم أحدًا من الملوك التركية تسلطن ولم ينفق إلا برسباي هذا‏.‏ قلت‏:‏ والأشرف هذا هو السلطان الثاني والثلاثون من ملوك الترك وأولادهم بالديار المصرية والثامن من الجراكسة وأولادهم‏.‏
وأصل الملك الأشرف هذا جاركسي الجنس وجلب من البلاد فاشتراه الأمير دقماق المحمدي الظاهري نائب ملطية وأقام عنده مدة ثم قدمه إلى الملك الظاهر برقوق في عدة مماليك أخر ولتقدمته سبب وهو أن الأمير تنبك اليحياوي الأمير آخور الكبير بلغه أن الأمير دقماق آشترى أخاه من بعض التجار وكان أخوه يسمى طيبرس فوقف الأمير تيبك إلى الملك الظاهر برقوق وطلب منه أن يرسل يطلب أخاه من دقماق فرسم السلطان بذلك وكتب لدقماق مرسومًا شريفًا بإحضار طيبرس المذكور‏.‏
وقبل أن يخرج القاصد إلى دقماق وقف الأمير علي باي الظاهري الخازندار صاحب الوقعة أيضًا إلى السلطان وذكر له أن أخته أيضًا عند الأمير دقماق فكتب السلطان بإحضارها أيضًا‏.‏
وسار البريدي من مصر إلى دقماق بذلك فامتثل دقماق المرسوم الشريف وأراد إرسال طيبرس المذكور فقال لى دواداره‏:‏ ما تريد تفعل فقال‏:‏ أرسل المملوك الذي طلبه أستاذي إليه فقال دوداره‏:‏ لا يمكن إرساله وحده جهز معه عدة مماليك وتقدمة هائلة وابعث بالمطلوب في ضمنها فأعجب دقماق ذلك وجهز نحو ثمانية عشر مملوكًا صحبة طيبرس المذكور من جملتهم برسباي هذا وتمراز القرمشي أمير سلاح وأشياء أخر من أنواع الفرو والقماش والخيل والجمال ثم اعتذر دقماق عن إرسال الجارية أنها حامل منه والجارية هي الست أردباي أم ولد دقماق وزوجة الأمير تمراز القرمشي أمير سلاح في دولة الملك الظاهر جقمق المتوفى سنة ثلاث وخمسين وثمانمائة وتوفيت هي أيضًا بعده بأيام وكلاهما بالطاعون‏.‏
فسار البريدي بالمماليك والتقدمة من ملطية إلى الديار المصرية فوصلها بعد موت الأمير تنبك اليحياوي المذكور وقد استقر عوضه في الأمير آخورية الأمير نوروز الحافظي فقبل الملك الظاهر برقوق التقدمة وفرق المماليك على الأطباق فوقع برسباي هذا بطبقة الزمامية إنيًا للأمير جاركس القاسمي المصارع وتمراز القرمشي إنيًا ليلبغا الناصري فدام برسباي بالطبقة مدة يسيرة وأعتقه السلطان وأخرج له خيلًا في عدة كبيرة من المماليك السلطانية‏.‏
وسبب سياقنا لهذه الحكاية أن قاضي القضاة شهاب الدين بن حجر رحمه الله نسبه أنه عتيق دقماق وليس الأمر على ما نقله وهو معذور فيما نقله لبعده عن معرفة اللغة التركية ومداخلة الأتراك وقد اشتهر أيضًا بالدقماقي فظن أنه عتيق دقماق ولم يعلم أن نسبته بالدقماقي كما أن نسبة الوالد رحمه الله بالبشبغاوي والملك المؤيد شيخ بالمحمودي ونوروز بالحافظي وجكم نائب حلب بالعوضي ودمرداش بالمحمدي وغيرهم إنما هي من باب نسبتهم إلى مالكيهم وليس إلى معتقيهم‏.‏
وقد وقفت على هذه المقالة في حياته على خطه ولم أعلم أن الخط خطه فإنه كان رحمه الله يكتب ألوانًا وكتبت على حاشية الكتاب وبينت خطأه وأنا أظن أن الخط خط ابن قاضي شهبة‏.‏
وعاد الكتاب إلى أن وقع في يد قاضي القضاة ابن حجر فنظر إلى خطي وعرفه واعترف بأنه وهم في ذلك‏.‏
وكان صاحبنا الحافظ قطب الدين محمد الخيضري حاضرًا فذكر لي ما وقع فركبت في الحال وهو معي وتوجهنا إلى السيفي طوغان الدقماقي وهو من أكابر مماليك دقماق وسألته عن الملك الأشرف سؤال استفهام فقال‏:‏ هو عتيق الملك الظاهر برقوق وقدمه أستاذنا إليه ثم حكى له ما حكيته من سبب إرساله‏.‏
ثم عدنا وأرسلت أيضًا خلف جماعة من مماليك دقماق لأن أغلبهم كان خدم عند الوالد بعد موت دقماق فالجميع قالوا مثل قول طوغان الدقماقي‏.‏
فتوجه قطب الدين المذكور وعرفه هذا كله فأنصف غاية الإنصاف وأصلح ما عنده‏.‏
ثم ذاكرت أنا قاضي القضاة المذكور فيما بعد وعرفته أن دقماق قدمه في أوائل أمره وأن برسباي صار ساقيًا في دولة الملك المنصور عبد العزيز معدودًا من أعيان الدولة يتقاضى حوائج دقماق بالديار المصرية ثم خرج برسباي عن طاعة الملك الناصر فرج مع الأمير إينال باي بن قجماس إلى البلاد الشامية وبقي من أعيان القوم كل ذلك ودقماق في قيد الحياة بعد سنة ثمان وثمانمائة‏.‏
وكان لما قدم دقماق إلى مصر نزل عند برسباي هذا وبرسباي المذكور يخاطبه تارة يا خوند وتارة يا أغاة‏.‏
ثم عرفته بأن ولد دقماق الناصري محمدًا من جملة أصحابي وأن والدته الست أردباي زوجة الأمير تمراز القرمشي أمير سلاح‏.‏
قلت‏:‏ وعلى كل حال إن هذا الوهم هو أقرب للعقل من مقالة المقريزي في الملك الظاهر ططر إن الملك الناصر فرجًا أعتقه بعد سنة ثمان في سلطنته الثانية وأيضا أحسن مما قاله المقريزي في حق الملك الأشرف برسباي هذا بعد وفاته في تاريخه السلوك في وفيات سنة إحدى وأربعين وثمانمائة وقد رأيت أن السكات عن ذكر ما قاله في حقه أليق والإضراب عنه أجمل لما وصفه به من الألفاظ الشنيعة القبيحة التي يستحى من ذكرها في حق كائن من كان‏.‏
انتهى‏.‏
 الملك الأشرف برسباي فنقول‏:‏ واستمر الملك الأشرف من جملة المماليك السلطانية إلى أن صار خاصكيًا ثم صار ساقيًا في سلطنة الملك المنصور عبد العزيز ابن الملك الظاهر برقوق ثم خرج مع الأمير إينال باي بن قجماس من الديار المصرية مباينًا للملك الناصر فرج إلى البلاد الشامية ثم انضم مع الأميرين شيخ ونوروز وتقلب معهما في أيام تلك الفتن ولا زال معهما إلى أن قتل الملك الناصر فرج وقدم إلى القاهرة صحبة الأمير الكبير شيخ المحمودي فأنعم عليه الأمير شيخ المذكور بإمرة عشرة ثم نقله إلى إمرة طبلخاناه بعد سلطنته فدام على ذلك سنين إلى أن نقله إلى إمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية ثم ولاه كشف التراب بالغربية من أعمال القاهرة إلى أن طلبه الملك المؤيد شيخ وولاه نيابة طرابلس بعد عزل الأمير بردبك قصقا الخليلي عنها وذلك في يوم الاثنين ثالث عشرين شهر ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين وثمانمائة‏.‏
ولما ولي نيابة طرابلس كان في خدمته جماعة من مماليك الوالد رحمه الله من جملتهم شخص يسمى سودون فطلبه أن يتوجه معه إلى طرابلس فقال سودون‏:‏ أنا ما أخلي جامع طولون وأتوجه إلى طرابلس فتوجه معه خشداشاه أزدمر وجرباش‏.‏
فلما تسلطن الأشرف بعد أمور نذكرها جعل أزدمر المذكور ساقيًا وندم سودون على مفارقته‏.‏
انتهى‏.‏
وتوجه برسباي المذكور إلى نيابة طرابلس ومعه سودون الأسندمري وقد استقر أتابك طرابلس‏.‏

سجن برسباى
وأقام بطرابلس مدة إلى أن واقع التركمان الإينالية والبياضية والأوشرية على صافيتا من عمل طرابلس وكانوا حضروا إلى الناحية المذكورة جافلين من قرا يوسف وأفسدوا بالبلاد فنهاهم الأمير برسباي المذكور فلم ينتهوا فركب عليهم وقاتلهم في يوم الثلاثاء سادس عشرين شعبان من سنة إحدى وعشرين المذكورة فقتل بينهم خلق كبير منهم‏:‏ الأمير سودون الأسندمري أتابك طرابلس وانهزم باقيهم عراة فغضب الملك المؤيد ورسم بعزله عن نيابة طرإبلس واعتقاله بقلعة المرقب وولى سودون القاضي نيابة طرابلس عوضه‏.‏
فدام برسباي في سجن المرقب مدة إلى أن كتب الملك المؤيد بالإفراج عنه في العشرين من المحرم سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بدمشق كل ذلك بسعي الأمير ططر في أمره فاستمر بدمشق إلى أن مات الملك المؤيد‏.‏
وخرج جقمق عن طاعة ططر وقبض على برسباي المذكور وسجنه بقلعة دمشق إلى أن أطلقه الأتابك ألطنبغا القرمشي‏.‏
وخرج إلى ملاقاة الأمير ططر لما قدم دمشق وانضم عليه إلى أن خلع عليه ططر باستقراره دوادارًا كبيرًا بعد الأمير على باي المؤيدي فلم تطل أيامه في الدوادارية‏.‏
ومات ططر بعد أن جعله لالا لولده الملك الصالح محمد وجعل جاني بك الصوفي الآتابك مدبر مملكة ولده الصالح المذكور ووقع ما حكيناه في ترجمة الملك الصالح من واقعته مع جاني بك الصوفي ثم مع طرباي ثم من خلعه الملك الصالح وسلطنته‏.‏
ولما تم أمر الملك الأشرف برسباي هذا في السلطنة وأصبح يوم الخميس تاسع شهر ربيع الآخر خلع على الأمير بيبغا المظفري أمير سلاح باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية عوضًا عن الأمير طرباي وكانت شاغرة من يوم أمسك طرباي وخلع على الأمير قجق العيساوي أمير مجلس باستقراره أمير سلاح عوضًا عن بيبغا المظفري وخلع على الأمير آقبغا التمرازي باستقراره أمير مجلس عوضًا عن الأمير قجق‏.‏
وأول ما بدأ به الأشرف في سلطنته أنه منع الناس كافة من تقبيل الأرض بين يديه فامتنعوا من ذلك‏.‏
وكانت هذه العادة أعني عن تقبيل الأرض جرت بالديار المصرية من أيام المعز معد أول خلفاء بني عبيد بمصر المقدم ذكره في هذا الكتاب وبقيت إلى يوم تاريخه وكان لا يعفي أحدًا عن تقبيل الأرض والكل يقبل الأرض‏:‏ الوزير والأمير والمملوك وصاحب القلم ورسل ملوك الأقطار إلا قضاة الشرع وأهل العلم وأشراف الحجاز حتى لو ورد مرسوم السلطان على ملك من نواب السلطان قام على قدميه وخر إلى الأرض وقبلها قبل أن يقرأ المرسوم فأبطل الملك الأشرف ذلك وجعل بدله تقبيل اليد‏.‏
فمشى ذلك أيامًا بطل وعاد تقبيل الأرض لكن بطريق أحسن من الأولى فإن الأولى كان الشخص يخر إلى الأرض حتى يقبلها كالساجد والآن صار الرجل ينحني كالراكع ويضع أطراف أصابع يده على الأرض كالمقبل ثم يقوم ولا يقبل الأرض بفمه أبدًا بل ولا يصل بوجهه إلى قريب الأرض فهذا على كل حال أحسن مما كان أولًا بلا مدافعة فعد ذلك من حسنات الملك الأشرف برسباي‏.‏
ثم في يوم الثلاثاء رابع عشر شهر ربيع الآخر المذكور خلع السلطان الملك الأشرف على الأمير تنبك العلائي ميق نائب الشام خلعة السفر وتوجه إلى محل كفالته‏.‏
ومن خرق العادات أيضًا في سلطنة الملك الأشرف أنه لما تسلطن لم ينفق على المماليك السلطانية وأعجب من ذلك أنه ما طولب بها وهذا أغرب وأعجب‏.‏
ثم رسم السلطان الملك الأشرف في يوم الخميس ثامن جمادى الأولى ونودي بذلك في القاهرة بأن لا يستخدم أحد من اليهود ولا من النصارى في ديوان من دواوين السلطان والأمراء وصمم الأشرف على ذلك فلم يسلم من بعض عظماء الأقباط من مباشري الدولة ولم يتم ذلك‏.‏
ثم قدم الخبر على السلطان بكثرة الوباء ببلاد حلب وحماة وحمص في عشر جمادى الآخرة‏.‏
ورسم السلطان فنودي بسفر الناس إلى مكة في شهر رجب فكثرت المسرات بذلك لبعد العهد بسفر الرجبية‏.‏
ثم جلس السلطان للحكم بين الناس كما كان الملك المؤيد ومن قبله وصار يحكم في يومي السبت والثلاثاء بالمقعد من الإسطبل السلطاني‏.‏
ثم كتب السلطان إلى الأمير تنبك البجاسي نائب حلب أن يتوجه إلى بهسنا لحصار تغري بردي المؤيدي المعزول عن نيابة حلب‏.‏
ثم في شهر رجب ورد الخبر على السلطان بخروج الأمير إينال نائب صفد عن الطاعة‏.‏
وكان سبب خروجه عن الطاعة أنه كان من جملة مماليك الملك الظاهر ططر رباه صغير ثم ولاه نيابة قلعة صفد بعد سلطنته فلما قام الملك الأشرف بعد الملك الظاهر ططر بالأمر ولى إينال المذكور نيابة صفد وبلغه خلع ابن أستاذه الملك الصالح محمد من السلطنة فشق عليه ذلك وأخذ في تدبير أمره واتفق مع جماعة على العصيان وخرج عن الطاعة وأفرج عمن كان محبوسًا بقلعة صفد وهم‏:‏ الأمير يشبك أنالي المؤيدي الأستادار ثم رأس نوبة النوب والأمير إينال الجكمي أمير سلاح ثم نائب حلب والأمير جلبان أمير آخور أحد مقدمي الألوف وقبض على من خالفه من أمراء صفد وأعيانها‏.‏
ففي الحال كتب السلطان الملك الأشرف للأمير مقبل الحسامي الدوادار حاجب حجاب دمشق باستقراره في نيابة صفد وأن يستمر إقطاع الحجوبية بيده حتى يتسلم صفد ثم كتب إلى الأمير تنبك ميق نائب الشام أن يخرج بعسكر دمشق لقتال إينال المذكور‏.‏
وبينما السلطان في ذلك ورد عليه الخبر بوقعة كانت بين الأمير يونس الركني نائب غزة وبين عرب جرم وأن يونس المذكور انهزم وقتل عدة من عسكره‏.‏
ثم وردت الأخبار بكثرة الفتن في بلاد الصعيد‏.‏
ثم ورد على السلطان كتاب الأمير تنبك ميق نائب الشام بمجيء الأمير إينال الجكمي ويشبك أنالي وجلبان أمير آخور إليه من صفد طائعين للسلطان فدقت البشائر لذلك‏.‏
وفي سابع عشرين شهر رجب قدم الأمير فارس نائب الإسكندرية إلى القاهرة بطلب وخلع عليه باستمراره على إمرته وإقطاعه بمصر وهي تقدمه ألف بالديار المصرية‏.‏
وخلع على الأمير أسندمر النوري الظاهري برقوق أحد أمراء الألوف باستقراره في نيابة الإسكندرية عوضًا عن فارس المذكور‏.‏
ولما كان يوم الخميس رابع شعبان الموافق لتاسع عشرين أبيب أوفى النيل ستة عشر ذراعًا ثم في يوم الثلاثاء سادس عشر شعبان المذكور أخرج الملك المظفر أحمد الملك المؤيد شيخ وأخوه من قلعة الجبل نهارًا وحملا في النيل إلى الإسكندرية‏.‏
وفي هذا الشهر كثر عبث الإفرنج بسواحل المسلمين وأخذوا مركبًا للتجار ميناء الإسكندرية فيها بضائع بنحو مائة ألف دينار فشق ذلك على الملك الأشرف إلى الغاية مع شغله بنائب صفد‏.‏
ثم في حادي عشرين شهر رمضان خلع السلطان على الأمير أيتمش الحضري الظاهري باستقراره أستادارًا عوضًا عن أرغون شاه النورزي الأعور‏.‏
وقدم عليه الخبير بتوجه عسكر الشام مع الأمير مقبل إلى جهة صفد وأنه مستمر على حصار صفد فسر السلطان بذلك‏.‏
وكتب إلى نائب الشام بالقبض على الأمير إينال الجكمي ويشبك أنالي وجلبان وحبسهم بقلعة دمشق‏.‏
ثم في سابع عشرين شوال قدم الخبر على السلطان بأخذ صفد‏.‏
وقدم من صفد ثلاثون رجلًا في الحديد ممن أسر من أصحاب إينال نائب صفد فرسم السلطان بقطع أيديهم فقطعوا الجميع إلا واحدًا منهم فإنه وسط‏.‏
وأخرج الذين قطعت أيديهم من القاهرة من يومهم إلى البلاد الشامية فمات عدة منهم بالرمل ولم يشكر الملك الأشرف على ما فعله من قطع أيدي هؤلاء‏.‏
وكان من خبر هؤلاء وإينال نائب صفد أنه لما قدم عليه الأمير مقبل الدوادار بعساكر دمشق انهزم إلى قلعة صفد إلى يوم الاثنين رابع شوال فنزل إليه إينال بمن معه بعد أن ترددت الرسل بينهم أيامًا كثيرة فتسلم أعوان السلطان قلعة صفد في الحال‏.‏
وعندما نزل إينال أمر الأمير مقبل أن تفاض عليه خلعة السلطان ليتوجه أميرًا بطرابلس وكان قد وعد ذلك لما ترددت الرسل بينهم وبينه مرارًا حتى استقر الأمر على أن يكون إينال المذكور من جملة أمراء طرابلس وكتب له السلطان أمانًا ونسخة يمين فانخدع الخمول ونزل من القلعة فما هو إلا أن قام بلبس الخلعة وإذا هم أحاطوا به وقيدوه وعاقبوه أشد عقوبة على إظهار المال ثم قتلوه وقتلوا معه مائة رجل ممن كان معه بالقلعة وعلقوهم بأعلاها ثم أرسلوا بهذه الثلاثين الذين قطعت أيديهم‏.‏
ثم بعد ذلك بأيام ورد الخبر بأن الأمير تغري بردي المؤيدي سلم قلعة بهسنا ونزل بالأمان فأخذه تنبك البجاسي وقيده وحمله إلى قلعة حلب فسجنه بها‏.‏
وزال ماكان بالملك الأشرف من جهة صفد وبهسنا وهدأ سره واطمأن خاطره‏.‏
ثم في يوم الاثنين ثاني ذي القعدة ركب السلطان من قلعة الجبل إلى مطعم الطيور بالريدانية خارج القاهرة ولبس به قماش الصوف برسم الشتاء على عادة الملوك‏.‏
ثم عاد إلى القاهرة من باب النصر ورأى عمارته بالركن المخلق وخرج من باب زويلة إلى القلعة ونثر عليه الدنانير والدراهم وهذه أول ركبة ركبها من يوم تسلطن‏.‏
ثم في يوم الخميس خامس ذي القعدة عزل السلطان أيتمش الخضري عن الأستادارية وأعيد إليها أرغون شاه النوروزي ولم تشكر سيرة أيتمش لشدة ظلمه مع عجزه عن القيام بالكلف السلطانية‏.‏
ثم في يوم الخميس رابع ذي الحجة اختفى الوزير تاج الدين عبد الرزاق ابن كاتب المناخ فخلع السلطان على أرغون شاه الأستادار وأضيف إليه الوزر في يوم الاثنين ثامن ذي الحجة‏.‏
ثم خلع السلطان على القاضي علم الدين صالح ابن الشيخ سراج الدين عمر البلقيني باستقراره قاضي قضاة الشافعية بالديار المصرية عوضًا عن ولي الدين أبو زرعة العراقي بحكم عزله‏.‏
ثم في المحرم أنعم السطان على مملوكه جانبك الخازندار بإمرة طبلخاناه من جملة إقطاع الأمير فارس المعزول عن نيابة الإسكندرية بعد موته‏.‏
ثم رسم السلطان بطلب الأمير إينال النوروزي نائب طرابس فحضر إلى القاهرة في يوم الاثنين سادس عشرين صفر من سنة ست وعشرين وثمانمائة وطلع إلى القلعة فأكرمه السلطان‏.‏
وخلع على الأمير قصروه من تمراز الأمير آخور الكبير باستقراره في نيابة طرابلس عوضًا عن إينال النوروزي المقدم ذكره وأنعم على الأمير إينال المذكور بإقطاع الأمير قصروه وإينال المذكور هو صهري زوج كريمتي‏.‏
وأخذ الأمير قصروه في إصلاح شأنه إلى أن خلع السلطان عليه خلعة السفر في يوم ثاني عشر صفر وخرج من يومه ولم يستقر أحد في الأمير آخورية الكبرى‏.‏

رياح شديدة ورمال  وظلمة
ثم في يوم الثلاثاء خامس عشرين شهر ربيع الأول سنة ست وعشرين ثارت ريح مريسية طول النهار فلما كان قبل الغروب بنحو ساعة ظهر في السماء صفرة من عند غروب الشمس كست الجو والجدران والأرض بالصفرة ثم أظلم الجو حتى صار النهار مثل وقت العتمة فما بقي أحد إلا واشتد فزعه ولهجت العامة بأن القيامة تقوم‏.‏
فلما كان بعد ساعة وهو وقت الغروب أخذ الظلام ينجلي قليلًا قليلًا ويعقبه ريح عاصف حتى كادت المباني تتساقط منه‏.‏ وتمادى ذلك طول ليلة الأربعاء فرأى الناس أمرًا مهولًا مزعجًا من شدة هبوب الرياح والظلمة التي كانت في النهار‏.‏
وعمت هذه الظلمة أرض مصر حتى وصلت دمياط والإسكندرية وجميع الوجه البحري وبعض بلاد الصعيد ورأى بعض من يظن به الخير والصلاح في منامه كأن قائلًا يقول له‏:‏ لولا شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل مصر لأهلكت هذه الريح الناس ولكنه شفع فيهم فحصل اللطف‏.‏ قلت‏:‏ لم أر قبلها مثلها ولا بعدها مثلها‏.‏ وكان هذا اليوم من الأيام المهولة التي لم يدركها أحد من الطاعنين في السن انتهى‏.‏
ثم في يوم الاثنين ثاني شهر ربيع الآخر ركب السلطان من قلعة الجبل وعدى النيل إلى بر الجيزة وأقام بناحية وسيم حيث مربط الخيول على الربيع بأمرائه ومماليكه يتنزه وأقام به سبعة أيام والخدمة تعمل هناك إلى أن عاد في تاسعه وأقام بالقلعة إلى يوم الخميس سادس عشرين شهر ربيع الآخر المذكور فوصل فيه الأمير تنبك البجاسي نائب حلب إلى القاهرة وطلع إلى السلطان وقبل الأرض بين يديه على ما قرره الملك الأشرف في أول سلطنته ثم خلع السلطان عليه خلعة الاستمرار وأنزله بمكان ورتب له ما يليق به‏.‏
وأقام تنبك إلى يوم الخميس ثالث جمادى الأولى وخلع السلطان عليه خلعة السفر وخرج من يومه إلى محل كفالته بحلب‏.‏ ثم في يوم الاثنين رابع عشر جمادى الأولى المذكورة خلع السلطان على الأمير جقمق العلائي حاجب الحجاب باستقراره أمير آخور كبيرًا عوضًا عن قصروه المنتقل إلى نيابة طرابلس وكانت شاغرة من يوم ولي قصروه نيابة طرابلس إلى يومنا هذا‏.‏
ثم ورد الخبر في جمادى الآخرة بعظم الوباء بدمشق وأنه وصل إلى غزة‏.‏ واستمر السلطان ولم يكن عنده ما يشوش عليه في جميع أشيائه إلى أن كان يوم الجمعة سابع شعبان ورد الخبر على السلطان بأن الأمير الكبير جاني بك الصوفي فر من الإسكندرية من البرج الذي كان مسجونًا به وخرج من الثغر المذكور ولم يفطن به أحد‏.‏
فلما سمع السلطان هذا الخبر كادت نفسه أن تزهق وقامت قيامته ومن يومئذ حل بالناس من البلاء والعقوبات والهجم على البيوت ماسنذكره في طول سلطنته‏.‏ وتنغص عيش الأشرف من يوم بلغه الخبر واستوحش من جماعة كبيرة من أمرائه وأمسكهم ونفى منهم آخرين حسبما نذكر ذلك كله في وقته‏.‏
ثم في يوم الخميس العشرين من شعبان خلع السلطان على الأمير جرباش الكريمي المعروف بقاشق باستقراره حاجب الحجاب بالديار المصرية عوضًا عن جقمق العلائي بحكم انتقال جقمق أمير آخور كبيرًا وكانت الحجوبية شاغرة عن جقمق من يوم ولي الأمير آخورية‏.‏ وفيه رسم السلطان بانتقال الأمير تنبك البجاسي نائب حلب إلى نيابة دمشق عوضًا عن الأمير تنبك ميق بحكم وفاته واستقر الأمير جارقطلو الظاهري نائب حماة في نيابة حلب عوضًا عن تنبك البجاسي‏.‏
وكان جارقطلو أيضًا ولي نيابة حماة عن تنبك البجاسي كما تقدم ذكره وكذا وقع أيضًا في الدولة المؤيدية أنه بعد عصيان تنبك البجاسي مع قاني باي نائب الشام وتوجهه إلى بلاد الشرق ولي جارقطلو نيابة حماة بعده أيضًا‏.‏ والعجب أن جارقطلو كان أغاة تنبك البجاسي فكانا إذا اجتمعا في مهم سلطاني لا يجلس تنبك البجاسي من ناحية جارقطلو لئلا يجلس فوقه حياء منه‏.‏ انتهى‏.‏
وتولى الأمير جلبان أمير آخور المؤيد وهو يوم ذاك أحد مقدمي الألوف بدمشق نيابة حماة عوضًا عن جارقطلو‏.‏ وتوجه الأمير جاني بك الخازندار الأشرفي في ثامن عشرين شعبان المذكور بتقاليد المذكورين وتشاريفهم الجميع‏.‏
وكان هذا الأمر يتوجه فيه ثلاثة من أعيان الأمراء فأضاف الأشرف جميع ذلك لجاني بك كونه كان خصيصًا عنده رباه من أيام إمرته فعاد إلى مصر ومعه من الأموال جملة مستكثرة‏.‏ ثم في يوم الاثنين ثاني شهر رمضان الموافق لسادس عشر مسري أوفى النيل ستة عشرة ذراعًا فنزل المقام الناصري محمد ابن السلطان برسباي في وجوه الأمراء وأعيان الدولة حتى خلق المقياس وفتح خليج السد على العادة وهو أول نزوله إلى ذلك‏.‏
وكان في العام الماضي توئى ذلك الأمير الكبير بيبغا المظفري‏.‏ وفيه أخرج السلطان الأمير سودون الأشقر الظاهري رأس نوبة النوب كان في دولة الملك الناصر ثم أمير مجلس فى دولة الملك المؤيد وهو يومئذ أمير عشرين بمصر منفيًا إلى القدس ثم شفع فيه فأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بدمشق وأنعم بإمرته على شريكه الأمير كزل العجمي الأجرود الذي كان حاجب الحجاب في الدولة الناصرية فرج فصار من جملة الطبلخانات والإقطاع المذكور هو ناحية ميمون بالوجه القبلي‏.‏

الفـــرنجة
وفيه ندب السلطان عدة أمراء إلى السواحل لورود الخبر بحركة الفرنج فتكامل خروجهم في ثامن عشرين شهر رمضان المذكور‏.‏ وكان الذي توجه منهم من مقدمي الألوف إلى ثغر الإسكندرية الأمير آقبغا التمرازي أمير مجلس‏.‏
ثم في يوم الخميس عاشر شوال خلع السلطان علي جمال الدين يوسف بن الصفي الكركي واستقر كاتب السر الشريف بالديار المصرية بعد موت علم الدين داود بن الكويز‏.‏
قال الشيخ تقي الدين المقريزي رحمه الله تعالى‏:‏ فأذكرتني ولايته بعد ابن الكويز قول أبي القاسم خلف الألبيري المعروف بالسميسر وقد هلك وزير يهودي لباديس بن حبوس الحميري أمير غرناطة من بلاد الأندلس فاستوزر بعد اليهودي وزيرًا نصرانيًا فقال‏:‏ الخفيف كل يوم إلى ورا بدل البول بالخرا فزمانًا تهودا وزمانًا تنصرا وسيصبو إلى المجو س إذا الشيخ عمرا قال‏:‏ وقد كان أبو الجمال هذا من نصارى الكرك وتظاهر بالإسلام في واقعة كانت للنصارى هو وأبو علم الدين داود بن الكويز وخدم كاتبًا عند قاضي الكرك عماد الدين أحمد المقيري فلما قدم عماد الدين إلى القاهرة وصل أبو جمال الدين هذا في خدمته وأقام ببابه حتى مات وهو بائس فقير لم يزل دنس الثياب مغتم الشكل وابنه جمال الدين هذا معه في مثل حاله‏.‏
ثم خدم جمال الدين هذا بعد موت القاضي عماد الدين عند التاجر برهان الدين إبراهيم المحلي كاتبًا لدخله وخرجه فحسنت حاله وركب الحمار‏.‏ ثم سار بعد المحلي إلى بلاد الشام وخدم بالكتابة هناك حتى كانت أيام الملك المؤيد شيخ فولاه علم الدين بن الكويز نظر الجيش بطرابلس فكثر ماله بها‏.‏
ثم قدم في آخر أيام ابن الكويز إلى القاهرة فلما مات ابن الكويز وعد بمال كبير حتى ولي كتابة السر بالديار المصرية فكانت ولايته من أقبح حادثة رأيناها انتهى كلام المقريزي برمته‏.‏ قلت‏:‏ وعد ولاية هذا الجاهل لمثل هذه الوظيفة العظيمة من غلطات الملك الأشرف وقبح جهله فإنه لو كان عند الملك الأشرف معرفة وفضيلة لانتظر حتى يرد عليه كتاب من بعض ملوك الأقطار يشتمل على نثر ونظم وفصاحة وبلاغة وأراد الأشرف من كاتب سره أن يجيب عن ذلك بأحسن منه أو بمثله كما كان يفعله الملك الناصر محمد بن قلاوون وغيره من عظماء الملوك لعلم تقصير من ولاه لهذه الوظيفة ولاحتاج لعزله في الحال ولولاية غيره ممن يصلح لئلا يظهر في ملكه بعض تقصير ووهن لأنه يقال في الأمثال تعرف شهامة الملك وعظمته من ثلاث‏:‏ كتابه ورسله وهديته فهذا شأن من يكون له شهامة وعلو همة من الملوك‏.‏
وأما الذي بخلاف ذلك فسد بمن شئت وول من كان بالبذل ولو كان حارس مقات‏.‏ ولهذا المقتضى ذهبت الفنون واضمحلت الفضائل وسعى الناس في جمع المال حيث علموا أن الرتب صارت معذوقة بالباذل لا بالفاضل وهذا على مذهب من قال‏:‏ الكامل المال يستر كل عيب في الفتى والمال يرفع كل وغد ساقط فعليك بالأموال فاقصد جمعها واضرب بكتب الفضل بطن الحائط انتهى‏.‏
ثم كتب السلطان باستقرار الأمير آقبغا التمرازي أمير مجلس في نيابة الإسكندرية عوضًا عن الأمير أسندمر النوري الظاهري برقوق وقدم أسندمر المذكور من الإسكندرية إلى القاهرة في رابع عشر شوال وقبل الأرض ونزل إلى داره وكان بيده إمرة مائة وتقدمة ألف زيادة على نيابة الإسكندرية‏.‏
وبعد نزوله أرسل السلطان خلف السيفي يلخجا من مامش الساقي الناصري وأمره أن يأخذ الأمير أسندمر هذا ويتوجه به إلى ثغر دمياط بطالًا وكان ذنب أسندمر المذكور تفريطه في أمر جاني بك الصوفي حتى فر من سجنه ولولا أن أسندمر المذكور كان من أغوات الملك الأشرف المذكور ومن أكابر إنيات الأمير جاركس القاسمي المصارع لكان له معه شأن آخر‏.‏
ثم في تاسع عشر شوال خرج محمل الحاج صحبة أمير الحاج الطواشي إفتخار الدين ياقوت الأرغون شاوي الحبشي مقدم المماليك السلطانية وهذه ثاني سفرة سافرها بالمحمل وكان أمير حاج الأول الأمير إينال الششماني الناصري أحد أمراء العشرات ورأس نوبة وحججت أنا أيضًا في هذه السنة‏.‏ ثم في سابع عشرين شوال أمسك السلطان الأمير أرغون شاه النوروزي الأستادار والوزير لعجزه عن القيام بجوامك المماليك السلطانية مع ظلمه وعسفه‏.‏
ثم أصبح السلطان في يوم الاثنين ثامن عشرينه خلع على ناصر الدين محمد بن شمس الدين محمد بن موسى المعروف بابن المرداوي والمعروف بابن بولي والعامة تسميه ابن أبي والي باستقراره أستادارًا عوضًا عن أرغون شاه المذكور وعوقب أرغون شاه بين يدي السلطان‏.‏ وخبر ابن بولي هذا وأصله أنه كان أبوه من حجة ومردة من أعمال الشام وسكن القدس وصار من جملة التجار وولد له ابنه هذا فتزيا بزي الجند وخدم من جملة الأجناد البلاصية عند الأمير أرغون شاه المذكور أيام أستاداريته لنوروز ثم تنقل إلى أن صار أستادار الأمير جقمق الدوادار وصادره جقمق وصرفه بعد أن كثر ماله‏.‏
ثم خدم بعد ذلك في عدة جهات إلى أن طلب إلى مصر وألزم بحمل عشرين ألف دينار فوعد أنه يحمل منها ثلاثة آلاف دينار ويمهل فيما بقي عدة أيام‏.‏ فلما قبض السلطان على أرغون شاه المذكور سولت له نفسه وزين له شيطانه أن يكون أستادارًا ويسد المبلغ الذي ألزم بحمله من وظيفة الأستادارية فكان خلاف ما أمل ونزل بالخلعة إلى بيت أرغون شاه المذكور وعليه قماشه ثم تسلم أرغون شاه وأدخله إلى داره المذكورة وهو في الحديد فرأى أرغون شاه من كان من جملة غلمانه قد جلس على مقعده وفي بيته وتحكم فيه وأخذ يعاقبه بحضرة من كان يخدمه بها فلما رأى ما حل به دمعت عيناه وبكى فكان في هذا الأمر عبرة لمن اعتبر‏.‏
وفي هذا اليوم المذكور خلع السلطان على الأمير إينال النوروزي المعزول عن نيابة طرابلس قبل تاريخه باستقراره أمير مجلس عوضًا عن آقبغا التمرازي وكلاهما صهري وزوج إحدى أخواتي‏.‏ وفيه أيضًا خلع السلطان على كريم الدين عبد الكريم ابن الوزير تاج الدين عبد الرزاق بن كاتب المناخ باستقراره وزيرًا وذلك في حياة والده‏.‏
حكى الصاحب كريم الدين قال‏:‏ دخلت بخلعة الوزارة على والدي فقال لي‏:‏ يا عبد الكريم أنا وليت هذه الوظيفة ومعي خمسون ألف دينار ذهبت فيها ولم أسد تسد أنت من أين قال فقلت‏:‏ من أضلاع المسلمين فضحك وحول وجهه عني‏.‏ ثم في يوم الخميس أول ذي القعدة قدم إلى القاهرة جماعة من إخوة السلطان وأقاربه من بلاد وفيه خرج من القاهرة الأمير قجق العيساوي أمير سلاح والأمير أركماس الظاهري أحد مقدمي الألوف وزين الدين عبد الباسط بن خليل ناظر الجيش إلى مكة على الرواحل حاجين‏.‏
ثم في سادس عشر ذي القعدة المذكورة قدم الأمير جاني بك الأشرفي الخازندار من الشام بعد تقليد نائبها الأمير تنبك البجاسي فخلع السلطان عليه باستقراره دوادارًا ثانيًا عوضًا عن الأمير قرقماس الشعباني الناصري فرج بحكم استقراره أمير مائة ومقدم ألف وتوجهه أمير مكة‏.‏ ومن يومئذ عظم أمر جاني بك المذكور في الدولة حتى صار هو صاحب عقدها وحلها ونال من السعادة والوجاهة والحرمة في الدولة ما لم ينله دوادار في عصره ولا من بعده إلى يومنا هذا‏.‏
وفي هذه الأيام اشتد طلب السلطان على جاني بك الصوفي وقبض على بعض المماليك بسببه وعوقب بعضهم حتى هلك‏.‏ ثم أمسك السلطان أصهار جاني بك الصوفي أولاد قطلوبك الأستادار وعاقب بعض حواشيهم هذا بعد الهجم على بيوت جماعة كبيرة ممن يغمز عليهم بعض أعدائهم فيحل على صاحب البيت المذكور من البلاء والرجيف ما لا مزيد عليه وتداول ذلك سنين وهذا أوله حسبما يأتي ذكره‏.‏
ثم في ثامن عشرين ذي الحجة قدم مبشر الحاج وأخبر بالأمن والرخاء وكثرة الأمطار غير أن الشريف حسن بن عجلان لم يقابل أمير الحاج ونزح عن مكة لما أشيع أن السلطان يريد القبض عليه فغضب السلطان لذلك ورسم فنودي على المماليك البطالين ليجهزوا إلى التجريدة لقتال أشراف مكة‏.‏ ثم اشتغل السلطان عن ذلك بأمر جاني بك الصوفي وأخذ فيما هو فيه من كبس البيوت وإرداع الناس وأيضًا لما ورد عليه أن متملك الحبشة وهو أبرم ويقال إسحاق بن داود بن سيف أرعد قد غضب بسبب غلق كنيسة قمامة بالقدس وقتل عامة من كان في بلاده من رجال المسلمين واسترق نساءهم وأولادهم وعذبهم عذابًا شديدا وهم ما في مملكته من المساجد وركب إلى بلاد جبرت فقاتلهم حتى هزمهم وقتل عامة من كان بها وسبى نساءهم وهم مساجدهم فكانت في المسلمين ملحمة عظيمة في هذه السنة لا يحصى فيها من قتل من المسلمين فاشتاط السلطان غضبًا وأراد قتل بطرك النصارى وجميع ما في مملكته من النصارى ثم رجع عن ذلك‏.‏
ثم في يوم الاثنين ثاني المحرم من سنة سبع وعشرين وثمانمائة قدم الأمير مقبل الحسامي الدوادار نائب صفد إلى القاهرة وقبل الأرض بين يدي السلطان فخلع عليه باستقرار على عادته‏.‏ وفي ثامن المحرم قدم الأمير قجق وأركماس الظاهري وعبد الباسط من الحج وتأخر الأمير قرقماش الشعباني بالينبع وأرسل يطلب عسكرًا ليقاتل به الشريف حسن بن عجلان صاحب مكة ويستقر عوضه في إمرة مكة فنودي على المماليك البطالة وعين منهم جماعة مع حسين الكردي الكاشف ليتوجه بهم إلى مكة‏.‏
هذا وقد اشتغل سر السلطان بما أشيع من عصيان الأمير تنبك البجاسي نائب دمشق وصار خبر الإشاعة عنده هو الأهم وأخذ يدبر في القبض عليه قبل أن يستفحل أمره وكتب عدة ملطفات لأمراء دمشق بالقبض عليه هذا وقد قوي عند الملك الأشرف خروجه عن الطاعة وبادر وخلع على الأمير سودون من عبد الرحمن الدوادار في يوم الاثنين ثالث عشرين المحرم باستقراره في نيابة دمشق عوضًا عن تنبك البجاسي فلبس سودون من عبد الرحمن الخلعة ونزل من القلعة سائرًا إلى دمشق على جرائد الخيل ولم يدخل إلى داره‏.‏
وسار سودون من عبد الرحمن إلى جهة دمشق وقد تقدمته الملطفات بمسك تنبك المذكور‏.‏ فلما وقف أمراء دمشق على الملطفات اتفق الجميع وركبوا بمن معهم وأتوا دار السعادة في ليلة الجمعة رابع صفر واستدعوا الأمير تنبك البجاسي المذكور ليقرأ كتاب السلطان فعلم بما هو القصد وخرج من باب السر وعليه السلاح في جميع مماليكه وحواشيه‏.‏
فأقبل عليه الأمراء وقاتلوه حتى مضى صدر من نهار الجمعة المذكور ثم انهزموا منه أقبح هزيمة وتشتت شملهم فتحصن منهم طائفة بقلعة دمشق ومضى منهم إلى الأمير سودون من عبد الرحمن فوافوه وهو نازل على صفد‏.‏ واستولى تنبك المذكور على دمشق وقوي بأسه‏.‏ وكان انضم عليه من أمراء دمشق الأمير قرمش الأعور المقدم ذكره من أصحاب جاني بك الصوفي والأمير تمراز المؤيدي الخازندار وغيرهما من أمراء دمشق‏.‏
ثم تجهز تنبك البجاسي هو وأصحابه لما بلغهم قدوم سودون من عبد الرحمن وخرج من دمشق بجموعه في أسرع وقت وسار حتى وافى الأمير سودون من عبد الرحمن وهو نازل على جسر يعقوب في يوم الجمعة حادي عشر صفر وقد قطع سودون من عبد الرحمن الجسر لئلا يصل إليه تنبك المذكور‏.‏
وكان سودون لما خرج من مصر بمماليكه وسار إلى جهة دمشق حتى نزل على صفد وافاه الأمير مقبل الحسامي نائب صفد وسارا معًا حتى نزلا جسر يعقوب‏.‏ فلما بلغ سودون مجيء تنبك إليه جبن عن قتاله وقطع الجسر فقدم تنبك فلم يجد سبيلًا لقتال سودون فبات كل منهما من جهة وكلاهما لا يصل إلى الآخر بسوء فباتوا يتحارسون إلى الصباح‏.‏ فلما أصبح يوم السبت ثاني عشر ضفر شرعوا يترامون بالنشاب نهارهم كله حتى حجز الليل بينهم فباتوا ليلة الأحد على تعبئتهم وقد قوي أمر تنبك‏.‏
وأصبح الأمير تنبك في يوم الأحد ثالث عشرة راحلًا إلى جهة الصبيبة في انتظار ابن بشارة ن يأتيه بجموعه وقد أرصد جماعة لسودون من عبد الرحمن بوطاقه فكتب سودون من عبد الرحمن بذلك إلى السلطان‏.‏ ثم ركب سودون بمن معه على جرائد الخيل وقصد مدينة دمشق وترك الأثقال في مواضعها مع نائب القدس يوهم عسكر تنبك البجاسي أنه مقيم بمكانه وساق حتى دخل دمشق في يوم الأربعاء سادس عشر صفر المذكور وملك المدينة وتمكن من قلعة دمشق‏.‏
وبلغ الأمير تنبك البجاسي ذلك فركب من وقته وساق حتى وافى سودون من عبد الرحمن بدمشق من يومه‏.‏ وبلغ سودون قدومه فخرج إليه وتلقاه بمن معه من عساكر دمشق بباب الجابية وقاتلوه فثبت لهم تنبك البجاسي مع قلة عسكره وكثرة عساكرهم وقاتلهم أشد قتال والرمي ينزل عليه من قلعة دمشق وهو مع ذلك يظهر التجلد إلى أن حرك فرسه في غرض له فأصابته ضربة على كتفه حلته فتقنطر عند ذلك عن فرسه فتكاثروا عليه وأخذوه أسييرًا إلى قلعة دمشق ومعه نحو عشرين من أصحابه وفر من كان معه من الأمراء إلى حال سبيلهم وكتب الأمير سودون من عبد الرحمن في الحال بجميع ذلك إلى السلطان‏.‏
وأما الملك الأشرف فإنه بعد خروج سودون من عبدالرحمن أخذ ينتظر ما يرد عليه من الأخبار في أمر تنبك فقدم عليه كتاب سودون من عبد الرحمن من جسر يعقوب أولًا في يوم الأحد عشرين صفر فعظم عليه هذا الخبر وعزم على سفر الشام‏.‏ واضطرب الناس ووقع الشروع في حركة السفر وأحضرت خيول كثيرة من مرابطها من الربيع‏.‏
وبينما الناس في ذلك قدم كتاب سودون من عبد الرحمن الثاني من دمشق يتضمن النصر على تنبك البجاسي والقبض عليه وحبسه بقلعة دمشق فسر السلطان بذلك غاية السرور ودقت البشائر وكتب بقتل تيبك البجاسي وحمل رأسه إلى مصر وبالحوطة على موجوده وتتبع حواشيه ومن كان معه من أمراء دمشق‏.‏ وهدأ سر السلطان من جهة دمشق وبطلت حركة السفر والتفت إلى ما كان عليه أولًا من الفحص على جاني بك الصوفي‏.‏
فلما كان سابع عشرين صفر المذكور نودي بالقاهرة ومصر على جاني بك الصوفي ووعد من أحضره إلى السلطان بألف دينار وإن كان جنديًا بإمرة عشرة وهدد من أخفاه وظهر عنده بعد ذلك بإحراق الحارة التي هو ساكن بها وحلف المنادي على كل واحدة مما ذكرنا يمينًا عن السلطان‏.‏ هذا بعد أن قوي عند السلطان الملك الأشرف أن جاني بك الصوفي مختف بالقاهرة ولو كان بالبلاد الشامية لظهر وانضم مع تنبك البجاسي وهو قياس صحيح‏.‏

إهتمام السلطان بمكـــة
ثم التفت السلطان أيضًا إلى أمر مكة‏.‏ فلما كان يوم الجمعة ثاني شهر ربيع الأول نودي بالقاهرة بالخروج إلى حرب مكة المشرفة فاستشنع الناس هذه العبارة‏.‏ ثم عين السلطان جماعة من المماليك السلطانية وأنفق على كل واحد منهم أربعين دينارًا‏.‏
ثم في حادي عشرين شهر ربيع الأول قدم رأس الأمير تنبك البجاسي إلى القاهرة فطيف بها وفي سابع عشري شهر ربيع الأول خلع السلطان على الأمير أزبك المحمدي الظاهري رأس نوبة النوب باستقراره دوادارًا كبيرًا عوضًا عن سودون من عبد الرحمن المنتقل إلى نيابة الشام‏.‏ وخلع على الأمير تغري بردي المحمودي الناصري باستقراره رأس نوبة النوب عوضًا عن أزبك المذكور‏.‏ ثم في يوم السبت تاسع شهر ربيع الآخر خلع السلطان على القاضي شمس الدين محمد الهروي باستقراره كاتب السر الشريف بالديار المصرية عوضًا عن جمال الدين يوسف بن الصفي الكركي ونزل في موكب جليل وكان الهروي علامة في فنون كثيرة من العلوم‏.‏
ثم في يوم الجمعة سابع جمادى الأولى أقيمت الخطبة بالمدرسة الأشرفية بخط العنبريين من القاهرة ولم يكمل منها سوى الإيوان القبلي‏.‏ وفي يوم الاثنين ثاني جمادى الآخرة خلع السلطان على الأمير صلاح الدين محمد ابن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله باستقراره أستادارًا بعد عزل ناصر الدين محمد بن بولي والقبض عليه وهذه ولاية صلاح الدين الثانية للأستادارية‏.‏
ثم في ثاني عشرة خلع السلطان على الصاحب كريم الدين بن كاتب المناخ واستقر ناظر ديوان المفرد مضافًا على الوزر عوضًا عن القاضي كريم الدين بن كاتب جكم‏.‏ وفي يوم الأحد خامس عشر جمادى المذكور توفيت زوجة السلطان الملك الأشرف ودفنت بالقبة بالمدرسة الأشرفية‏.‏
قال المقريزي‏:‏ واتفق في موتها نادرة وهي أنها لما ماتت عمل لها ختم عند قبرها في الجامع الأشرفي ونزل ابنها الأمير ناصر الدين محمد من القلعة لحضور الختم وقد ركب في خدمته الملك الصالح محمد بن ططر فشق القاهرة من باب زويلة وهو في خدمة ابن السلطان بعدما كان بالأمس سلطانًا وصار جالسًا بجانبه في ذلك الجمع وقائمًا بخدمته إذا قام فكان في ذلك موعظة لمن اتعظ‏.‏ انتهى‏.‏
قلت‏:‏ حضرت أنا هذه الختم المذكورة وشاهدت ما نقله المقريزي بعيني فهو كما قال غير أنه لم يكن في خدمته وإنما جلسا في الصدر معًا بل كان الصالح متميزًا عليه في الجلوس وكذلك في مسيره من القلعة إلى الجامع المذكور‏.‏
قال المقريزي‏:‏ إنه من النوادر‏.‏ ثم في يوم السبت حادي عشرين جمادى الأخرة خلع السلطان على قاضي القضاة نجم الدين عمر بن حجي باستقراره كاتب السر الشريف بالديار المصريه بعد عزل قاضي القضاة شمس الدين الهروي ونزل ابن حجي على فرس بسرج ذهب وكنبوش زركش في موكب جليل إلى قال المقريزي‏:‏ وقد ظهر نقص الهروي وعجزه فقد باشر بتعاظم زائد مع طمع شديد وجهل بما وسد إليه بحيث كان لا يحسن قراءة القصص ولا الكتب الواردة فتولى قراءة ذلك بدر الدين محمد بن مزهر نائب كاتب السر وصار يحضر الخدمة ويقف على قدميه وابن مزهر هو الذي يتولى القراءة على السلطان‏.‏ انتهى كلام المقريزي برمته‏.‏
قلت لا يسمع قول المقريزي في الهروي فأما قوله باشر بتعاظم زائدًا فكان أهلًا لذلك لغزير علمه ولما تقدم له من الولايات الجليلة بممالك العجم ثم بالديار المصرية‏.‏ وقوله وعجزه بما وسد إليه يعني عن وظيفة كتابة السر نعم كان لا يدري الاصطلاح المصري ولم يكن فيه طلاقة لسان بالكلام العربي كما هي عادة الأعاجم‏.‏
وأما علمه وفضله وتبحره في العلوم العقلية فلا يشك فيه إلا جاهل وهو أهل لهذه الرتبة وزيادة غير أنه صرف عن الوظيفة بمن هو أهل لها أيضًا وهو القاضي نجم الدين بن حجي قاضي قضاة دمشق ورئيسهم وكلاهما أعني المتولي والمعزول من أعيان العلماء وقدماء الرؤساء والتعصب في غير محله مردود من كل أحد على كائن من كان‏.‏ انتهى‏.‏
خلع السلطان على القاضي الشريف شهاب الدين نقيب الأشراف بدمشق باستقراره قاضي قضاة دمشق عوضًا عن القاضي نجم الدين بن حجي المقدم ذكره‏.‏ ثم في يوم الخميس رابع شهر رجب خلع السلطان على العلامة علاء الدين علي الرومي الحنفي باستقراره شيخ الصوفية ومدرس الحنفية بالمدرسة الأشرفية بخط العنبريين بالقاهرة وكان له مدة يسيرة من يوم قدم من بلاد الروم‏.‏ ثم قدم الخبر على السلطان بأخذ الفرنج مركبين من مراكب المسلمين قريبًا من ثغر دمياط فيهما بضائع كثيرة وعدة أناس يزيدون على مائة رجل فكتب السلطان بإيقاع الحوطة على أموال تجار الفرنج التي ببلاد الشام والإسكندرية ودمياط والختم عليها وتعويقهم عن السفر إلى بلادهم حتى ترد الفرنج ما أخذوه من المسلمين فكلمه أهل الدولة في إطلاقهم فلم يقبل وأخذ في تجهيز غزوهم‏.‏
ثم ركب السلطان من قلعة الجبل ونزل إلى جامعه الذي أنشأه بخط العنبريين المقدم ذكره وجلس به ساعة ثم عاد إلى القلعة بغير قماش الموكب‏.‏ ثم في يوم الأربعاء أول شعبان ابتدىء بقراءة صحيح البخاري بين يدي السلطان‏.‏ قال المقريزي‏:‏ وحضر القضاة ومشايخ العلم والهروي والشيخ شمس الدين محمد بن الجزري بعد قدومه بأيام وكاتب السر نجم الدين بن حجي ونائبه بدر الدين ابن مزهر وزين الدين عبد الباسط ناظر الجيش والفقهاء الذين رتبهم المؤيد فاستجد في هذه السنة حضور المباشرين‏.‏
وكانت العادة من أيام الأشرف شعبان بن حسين أن تبدأ قراءة البخاري في أول يوم من شهر رمضان ويحضر قاضي القضاة الشافعي والشيخ سراج الدين عمر البلقيني وطائفة قليلة العدد لسماع البخاري ويختم في سابع عشرينه ويخلع على قاضي القضاة ويركب بغلة بزناري تخرج له من الإسطبل السلطاني‏.‏
ولم يزل الأمر على هذا حتى تسلطن المؤيد شيخ فابتدأ بالقراءة من أول شعبان إلى سابع عشرين شهر رمضان وطلب قضاة القضاة الأربعة ومشايخ العلم وقرر عدة من الطلبة يحضرون أيضًا فكانت تقع بينهم أبحاث يسيء بعضهم على بعض فيها إساءات منكرة فجرى السلطان برسباي على هذا واستجد كما ذكرنا حضور المباشرين وكثر الجمع وصار المجلس جميعه صياحًا‏.‏ انتهى‏.‏
قلت‏:‏ ليس في هذا شيء منكر وكما جدد الأشرف شعبان قراءة البخاري في شهر رمضان جعله غيره من أول شعبان وكل ممن فعل ذلك سلطان يتصرف كيف شاء‏.‏ ولا يشد أحد أن التأني في القراءة أفضل من الإدراج لاسيما كتب الحديث ليفهمه كل أحد من مبتدىء أو منته وأيضًا كلما كثر الجمع عظم الأجر والثواب‏.‏ وأما الصياح فلم تبرح مجالس العلم فيها البحوث والمشاحنة ولو وقع منهم ما عسى أن يقع فهم في أجر وثواب وليس للاعتراض هنا محل بالجمة‏.‏ انتهى‏.‏
ثم في يوم الأحد رابع شهر رمضان أخرج السلطان الأمير أرغون شاه النوروزي والأمير ناصر الدين محمد بن بولي من القاهرة إلى دمشق بطالين وقد تقدم أن كليهما قد ولي الأستادارية بالديار المصرية‏.‏
وفي هذه الأيام
ندب السلطان جماعة من المماليك السلطانية للغزاة
أول غزوة للسلطان الملك برسباى
ولما كان يوم الجمعة تاسع شهر رمضان سار غرابان من ساحل بولاق ظاهر القاهرة في بحر النيل بعد أن أشحنا بالمقاتلة والأسلحة وكان فيهما من المماليك السلطانية ثمانون نفرًا غير المطوعة ورسم السلطان لهم أن يسيروا في البحر إلى طرابلس ويأخذوا أيضًا من سواحل الشام عدة أغربة أخر فيها المقاتلة ويسيروا في البحر المالح لعلهم يجدون من يتجرم في البحر من الفر ج وهذه أول غزوة جهزها السلطان الملك الأشرف برسباي رحمه الله‏.‏
حفر صهريج بوسط صحن جامع الأزهر وما هو سر الأموات الذين كانوا مدفونين
فى عصر السلطان الملك الأشرف سيف الدين أبو النصر برسباي الدقماقي الظاهري 202/ 12 م.ج ثم في يوم الثلاثاء رابع شوال أمر السلطان بحفر صهريج بوسط صحن جامع الأزهر فابتدأوا فيه من هذا اليوم وحفروا بوسط صحن الجامع المذكور فوجدوا فيه آثار فسقية قديمة وبها عدة أموات ثم شرعوا في بنائها حتى كملت وعمر فوقها مقعد لطيف على صفة السبيل وانتفع أهل الجامع به ودام سنين إلى أن أمر السلطان الملك الظاهر جقمق بهدمه فهدم وردم‏.‏
ثم في يوم السبت تاسع عشرين شوال المذكور حضر الأمراء الخدمة السلطانية على العادة ونزلوا إلى دورهم فاستدعى السلطان بعد نزولهم الأمير بيبغا المظفري أتابك العساكر إلى القلعة فلما صار إليها قبض عليه وقيد وحمل إلى الإسكندرية من يومه‏.‏
ثم في يوم الخميس رابع ذي القعدة خلع السلطان على الأمير قجق العيساوي أمير سلاح باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية عوضًا عن بيبغا المظفري بحكم القبض عليه وخلع على إينال النوروزي أمير مجلس باستقراره أمير سلاح عوضًا عن قجق المذكور وأنعم السلطان بإقطاع بيبغا المذكور على الأمير إينال الجكمي أحد الأمراء البطالين بالقدس وكتب بإحضاره وعلى الأمير حسين بن أحمد المدعو تغري برمش البهنسي التركماني نائب قلعة الجبل نصفين بالسوية بعد أن أخرج منه بلدة القليوبية‏.‏
ثم في يوم الاثنين ثامن ذي القعدة خلع السلطان على قاضي القضاة شمس الدين محمد الهروي المعزول عن وظيفة كتابة السر قبل تاريخه باستقراره قاضي قضاة الشافعية بالديار المصرية عوضًا عن قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن حجر بحكم عزله وهذه ولاية القاضي الهروي الثانية للقضاء‏.‏ وقدم الأمير إينال الجكمي من القدس في يوم الاثنين خامس عشرة وخلع السلطان عليه باستقراره أمير مجلس عوضًا عن إينال النوروزي‏.‏
وفي هذه الأيام أنعم السلطان على الأمير تنبك من بردبك الظاهري أحد أمراء العشرات ورأس نوبة بإمرة طبلخاناه عوضًا عن تغري برمش البهنسي واستقر أيضًا عوضه في نيابة قلعة الجبل‏.‏ وتنبك المذكور هو أتابك العساكر بديار مصر في زماننا هذا‏.‏
ثم في يوم السبت العشرين من ذي القعدة وصلت الغزاة المقدم ذكرهم بالغنائم والأسرى‏.‏ وكان من خبرهم أنهم لما خرجوا من ثغر دمياط تبعهم خلائق من المطوعة في سلورة وساروا إلى طرابلس وسار معهم أيضًا غرابان وتوجهوا الجميع إلى الماغوصة فأضافهم متملكها وأكرمهم فلم يتعرضوا لبلاده ومضوا عنه إلى بلد يقال لها اللمسون من جزيرة قبرص فوجدوا أهلها قد استعدوا لقتالهم وأخرجوا أهاليهم وعيالهم وخرجوا في سبعين فارسًا تقريبًا وثلاثين راجلًا فقاتلهم مسلمون حتى هزموهم وقتلوا منهم فارسًا واحدًا وعدة رجال وغرقوا بعض أغربة وأحرقوا بعضها ونهبوا ما وجدوه من ظروف السمن والعسل وغير ذلك وأسروا ثلاثة وعشرين رجلًا وأخذوا قطع جوخ كثيرة فسر الناس بعودهم وسلامتهم وتشوق كل أحد للجهاد‏.‏
انتهى‏.‏
ثم في ثامن عشرين ذي الحجة خلع السلطان على الشيخ سعد الدين سعد ابن قاضي القضاة شيخ الإسلام شمس الدين محمد الديري الحنفي باستقراره في مشيخة صوفية الجامع المؤيدي ثم في تاسع عشرين المحرم من سنة ثمان وعشرين وثمانمائة ركب السلطان مخفًا من قلعة الجبل ونزل إلى جامعه بخط العنبريين وكشف عمائره‏.‏ ثم ركب وسار إلى جامع الأزهر لرؤية الصهريج الذي عمره‏.‏ ثم تقدم وزار الشيخ خليفة والشيخ سعيدًا وهما من المغاربة لهما بالجامع الأزهر مدة سنين وشهرا بالخير والصلاح‏.‏ ثم خرج من الجامع إلى دار الشيخ محمد بن سلطان وهو أيضًا أحد من يظن فيه الخير والصلاح فزاره أيضًا وعاد إلى القلعة‏.‏

بناء مراكب لغزو بلاد الفرنجة
ثم في هذا الشهر أيضًا وقع الشروع في عمل عدة مراكب لغزو بلاد الفرنج واستمر العمل فيهم كل يوم إلى أن نزل السلطان في يوم الثلاثاء حادي عشر صفر من سنة ثمان وعشرين المذكورة وكشف عمل المراكب المذكورة ثم عاد من على جزيرة الفيل إلى جهة مناظر الخمس وجوه المعروفة بالتاج التي كان الملك المؤيد جددها فأقام بها ساعة هينة وعاد من على الخندق من جهة خليج الزعفران إلى أن طلع إلى القلعة‏.‏
هذا كله والسلطان لا يفتر عن الفحص على أخبار جاني بك الصوفي ولا يكذب في أمره خبر مخبر‏.‏
ثم في يوم الاثنين رابع عشرين صفر خلع السلطان على الشيخ محب الدين أحمد بن نصر الله بن أحمد بن محمد بن عمر الششتري البغدادي الحنبلي باستقراره قاضي قضاة الحنابلة بالديار المصرية بعد موت قاضي القضاة علاء الدين علي بن محمود بن مغلي وكل منهما كان أعجوبة زمانه في الحفظ وسعة العلم‏.‏
ثم في ليلة الجمعة خامس شهر ربيع الأول عمل السلطان المولد النبوي بالحوش السلطاني من قلعة الجبل كعادة عمله في كل سنة‏.‏ ثم فى يوم الأحد سابعه سار الأمير أرنبغا اليونسي الناصري أحد أمراء العشرات ورأس نوبة تجريدة إلى مكة ومعه مائة مملوك من المماليك السلطانية وتوجه معه سعد الدين إبراهيم المعروف بابن المرة أحد الكتاب لأخذ مكس المراكب الواردة ببندر جدة من بلاد الهند وهذا أول ظهور أمر جدة‏.‏ وكان ذلك بتدبير الأمير يشبك الساقي الأعرج فإنه نفاه الملك المؤيد شيخ إلى مكة فأقام بها سنين وعلم أحوال أشراف مكة وما هم عليه فحسن للسلطان الاستيلاء على بندر جدة ولا زال به حتى وقع ذلك وصار أمر جدة كما هي عليه الآن‏.‏
ثم في يوم الخميس سابع عشر شهر ربيع الآخر قدم الأمير سودون من عبد الرحمن نائب الشام إلى القاهرة وطلع إلى القلعة بعد أن تلقاه أكابر الدولة وقبل الأرض وخلع عليه باستمراره وأنزل بمكان يليق به إلى أن خلع السلطان عليه خلعة السفر وعاد إلى محل ولايته في سادس عشر شهر ربيع الآخر المذكور‏.‏

بناء برج بالطينة لحمايتها من الفرنجة
وفي هذا الشهر كمل عمارة البرج الذي عمر بالقرب من الطينة على بحر الملح وجاء مربع الشكل مساحة كل ربع منه ثلاثون ذراعًا وشحن بالأسلحة وأقيم فيه خمسة وعشرون مقاتلًا فيهم عشرة فرسان وأنزل حوله جماعة من عرب الطينة فانتفع به المسلمون غاية النفع‏.‏
وذلك أن الفرنج كانت تقبل في مراكبها نهارًا إلى بر الطينة وتنزل بها وتتخطف الناس من المسلمين من هناك في مرورهم من قطيا إلى جهة العريش من غير أن يمنعهم من ذلك أحد لخلو هذا المحل من الناس‏.‏ وتولى عمارة هذا البرج المذكور الزيني عبد القادر بن فخر الدين بن عبد الغني بن أبي الفرج وأخذ الأجر والحجر الذي بني هذا البرج به من خراب مدينة الفرما وأحرق أيضًا الجير من حجارتها‏.‏ وقد تقدم ذكر غزو الفرما في مجيء عمرو بن العاص إلى مصر في أول هذا الكتاب‏.‏
ثم في يوم السبت عاشر جمادى الأولى خلع السلطان على الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله ناظر الخواص الشريفة باستقراره أستادارًا عوضًا عن ولده صلاح الدين محمد‏.‏
ثم في يوم الاثنين ثاني عشر جمادى الأولى المذكورة خلع السلطان على القاضي كريم الدين عبد الكريم بن سعد الدين بركة المعروف بابن كاتب جكم باستقراره في وظيفته نظر الخاص الشريف عوضًا عن بدر الدين بن نصر الله المذكور‏.‏ وخلع على أمين الدين إبراهيم بن مجد الدين عبد الغني بن الهيصم باستقراره ناظر الدولة عوضًا عن كريم الدين بن كاتب جكم المذكور‏.‏
ثم في عاشر جمادى الآخرة أمسك السلطان القاضي نجم الدين عمر بن حجي كاتب السر وسلم إلى الأمير جاني بك الأشرفي الدوادار الثاني فسجنه بالبرج من قلعة الجبل وأحيط بداره وكان سبب مسك ابن حجي أنه التزم عن ولايته كتابة السر بعشرة آلاف دينار ثم تسلم ما كان جاريًا في إقطاع ابن السلطان من حمايات علم الدين داود بن الكويز ومستأجراته على أن يقوم لديوان ابن السلطان في كل سنة بألف وخمسمائة دينار فحمل في مدة ولايته لكتابة السر إلى الخزانة الشريفة خمسة آلاف دينار في دفعات متفرقة فلما كان هذه الأيام طلب السلطان منه حمل ما تأخر وهو ستة آلاف دينار أو خمسمائة دينار فسأل السلطان مشافهة أن ينعم عليه بالألف وخمسمائة دينار المقررة من الحمايات والمستأجرات وتشكى من قلة متحصلها معه فلم يجب السلطان سؤاله‏.‏
فنزل إلى داره وكتب ورقة إلى السلطان تتضمن أنه غرم من حين ولي كتابة السر إلى يوم تاريخه اثني عشر ألف دينار منها الحمل إلى الخزانة خمسة آلاف دينار ولمن لا يسمى مبلغ الذي دينار وللأمراء أربعة الاف دينار وذكر تفصيل الأربعة آلاف دينار‏.‏ فلما قرئت على السلطان فهم أنه أراد بمن لا يذكر أنه الأمير جاني بك الدوادار‏.‏
وأخذ السلطان يسأل من جاني بك عندما حضر هو والأمراء عما وصل إليهم وإليه من ابن حجي فأجابوه بما لا يليق في حق ابن حجي فما هو إلا أن طلع ابن حجي إلى القلعة حصل بينهما مفاحشات وله سبب آخر خفي وهو أن السلطان استدعى الأمير سودون من عبد الرحمن نائب الشام بكتاب عبد الباسط فلما وقعت بطاقة سودون من عبد الرحمن سأل ابن حجي‏:‏ لم جاء نائب الشام فقيل له‏:‏ بطلب من السلطان فقال‏:‏ أنا لم أكتب له عن السلطان بالمجيء فقال عبد الباسط‏:‏ أنا كتبت له‏.‏
فحنق نجم الدين لما سمع هذا الكلام وخاشن عبد الباسط باللفظ وقال له‏:‏ اعمل أنت كاتب السر ونظر الجيش معًا‏.‏ ثم أخذ يخاشنه بالكلام استخفافًا به لمعرفته به قديمًا لأن ابن حجي كان معدودًا من أعيان دمشق وعبد الباسط يوم ذاك بخدمة ابن الشهاب محمود‏.‏ فأسرها عبد الباسط في نفسه وعلم أنه متى طالت يده ربما يقع منه في حقه ما يكره فأخذ يدبر عليه حتى غير خاطر الأمير جاني بك عليه وتأكدت العداوة بينهما ووقع ما حكيناه‏.‏
واستمر ابن حجي في البرج من قلعة الجبل إلى ليلة الثلاثاء ثالث عشر جمادى الآخرة من سنة ثمان وعشرين المذكورة وأخرج من البرج في الحديد وحمل إلى دمشق حتى يكشف بها عن سيرته ويأخذ ابن حجي في تجهيزما بقي عليه من المال وكتب في حقه لنائب الشام ولقضاة دمشق بعظائم مستشنعة هو بريء عن غالبها‏.‏
ثم في يوم الاثنين ثامن عشرة خلع السلطان على القاضي بدر الدين محمد ابن مزهر نائب كاتب وخلع السلطان أيضًا على تاج الدين عبد الوهاب الأسلمي المعروف بالخطير باستقراره في نظر الإسطبل السلطاني عوضًا عن ابن مزهر‏.‏ وكان الخطير المذكور قريب عهد بالإسلام وله قدم في دين النصرانية وكان يباشر عند الملك الأشرف في أيام إمرته فرقاه إلى هذه الوظيفة وبعد أن كان يخاطب بالشيخ الخطير صار ينعت بالقاضي فيشترك هو وقضاة الشرع الشريف في هذا الاسم وقد تداول هذا البلاء بالمملكة قديمًا وحديثًا‏.‏
وأنا لا ألوم الملوك في تقديم هؤلاء لأنهم محتاجون إليهم لمعرفتهم لأنواع المباشرة غير أنني أقول‏:‏ كان يمكن الملك أنه إذا رقى واحدًا من هؤلاء إلى رتبة من الرتب لا ينعته بالقاضي وينعته بالرئيس أو بالكاتب أو مثل ولي الدولة وسعد الدولة وما أشبه ذلك ويدع لفظة قاض لقضاة الشرع ولكاتب السر وناظر الجيش ولفضلاء المسلمين ليعطي كل واحد حقه في شهرته والتعريف به‏.‏
وقد عيب هذا على مصر قديمًا وحديثًا فقال بعضهم‏:‏ قاضيها مسلماني وشيخها نصراني وحجها غواني‏.‏ قلت‏:‏ فإن كانت ألفاظ هذه الحكاية خالية من البلاغة فهي قريبة مما نحن فيه‏.‏
والخطير هذا إلى الآن في قيد الحياة وقد كبر سنه وهرم بعدما ولي الوزر بديار مصر ثم نظر الدولة وهو مع ذلك عليه من الغلاسة وعدم النورانية وفقد الحشمة وقلة الطلاوة ما لايعبر عنه‏.‏
وقد تخومل ولزم داره سنين طويلة من يوم صادره الملك الظاهر جقمق وحط قدره فعد وفي هذا الشهر أخذ السلطان في تجهيز الغزاة وعين جماعة كبيرة من المماليك السلطانية والأمراء وألزم كل أمير أيضًا أن يجهز عشرة مماليك من مماليكه ونجز عمل الطرائد والأغربة‏.‏
ثم في يوم الاثنين ثالث شهر رجب خلع السلطان على قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن حجر وأعيد إلى قضاء الديار المصرية بعد عزل قاضي القضاة شمس الدين الهروي‏.‏ ثم في يوم الثلاثاء رابع شهر رجب المذكور حمل الشريف مقبل أمير الينبغ والشريف رميثة بن عجلان إلى الإسكندرية وسجنا بها‏.‏
ثم في ثالث عشرة أنفق السلطان في ستمائة رجل من الغزاة مبلغ عشرين دينارًا لكل واحد منهم وجهز الأمراء أيضًا ثلاثمائة رجل ثم نودي‏:‏ من أراد الجهاد فليحضر لأخذ النفقة‏.‏ وقام السلطان في الجهاد أتم قيام وقد شرح الله صدره له‏.‏
ثم في عشرينه سارت خيول الأمراء والأعيان من المجاهدين في البر إلى طرابلس وعدتها نحو ثلاثمائة فرس لتحمل من طرابلس صحبة غزاتها في البحر لحيث هو القصد‏.‏ ثم ركب السلطان في يوم الجمعة من القلعة بغير قماش الخدمة بعد صلاة الجمعة ونزل إلى ساحل بولاق حتى شاهد الأغربة والطرائد التي عملت برسم الجهاد وقد أشحنوا بالسلاح والرجال ثم عاد إلى القلعة‏.‏
ثم ركب من الغد المقام الناصري محمد ابن السلطان الملك الأشرف من القلعة ونزل ومعه لالاته الأمير جاني بك الأشرفي الدوادار الثاني وتوجه إلى بيت زين الدين عبد الباسط المطل على النيل ببولاق حتى شاهد الأغربة عند سفرهم فانحدر أربعة أغربة بكل غراب أمير وتقدم الأربعة الأمير جرباش الكريمي الظاهري حاجب الحجاب المعروف بقاشق فكان لسفر هذه المراكب ببولاق يوم مشهود‏.‏ ثم انحدر بعد هذه الأغربة الأربعة أربعة أغربة أخر في كل واحد منهم مقدم من أعيان المماليك السلطانية وكان آخرهم سفرًا الغراب الثامن في يوم الأربعاء ثالث شعبان وهذه الغزوة الثانية من غزوات الملك الأشرف برسباي‏.‏
ثم في هذا الشهر أفرج السلطان عن الأمير الكبير طرباي من سجنه بالإسكندرية ونقل إلى القدس الشريف بطالًا ليقيم به غير مضيق عليه بعد أن أنعم عليه بألف دينار‏.‏ وكان الإفراج عن طرباي بخلاف ما كان في ظن الناس وعد ذلك من محاسن الملك الأشرف كون طرباي المذكور كان عانده في الملك وكونه أيضًا من عظماء الملوك وأكابر المماليك الظاهرية برقوق ممن يخاف منه فلم يلتفت الأشرف إلى هذا كله وأفرج عنه لما كان بينهما من الود القديم والصحبة من مبدئ أمرهما‏.‏
ثم في يوم الثلاثاء ثامن شهر رمضان المذكور أمسك السلطان الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله الأستادار وأمسك معه ولده الأمير صلاح الدين محمد المعزول عن الأستادارية بأبيه المذكور وعوقا بالقلعة أربعة أيام ثم نزلا على أنهما يقومان بنفقة الجامكية شهرًا وعليقه وكانت الجامكية يوم ذاك كل شهر ثلاثين ألف دينار‏.‏ ثم في يوم الخميس عاشره خلع السلطان على زين الدين عبد القادر بن فخر الدين حسن بن نصر الله‏.‏
ثم في رابع عشرة خلع السلطان على جمال الدين يوسف بن الصفي الكركي المعزول عن كتابة سر دمشق عوضًا عن بدر الدين حسين‏.‏ وفي يوم الثلاثاء ثاني عشرين شهر رمضان الموافق لرابع عشر مسرى أو في النيل ستة عشر ذراعًا ونزل المقام الناصري محمد ابن السلطان لتخليق المقياس وفتح خليج السد على العادة ونزل معه الملك الصالح محمد ابن الملك الظاهر ططر وحضر تخليق المقياس وفتح الخليج فتعجب الناس لنزوله مع ابن السلطان بعد خلعه من ملك مصر حسبما تقدم‏.‏
قلت‏:‏ وكان قصد الأشرف برسباي بركوب الملك الصالح محمد هذا مع ولده انبساط الصالح كونه كان كالمحجور عليه بقلعة الجبل وتنزهه لا كما زعم بعض الناس أنه يريد بذلك مشيه في خدمة ولده وازدراءه‏.‏

إنتصار المسلمين على الفرنجة
كل ذلك وخاطر السلطان مشغول بأمر جاني بك الصوفي والفحص عنه مستمر غير أن السلطان يتشاغل بشيء بعد شيء وهو الآن مشغول الفكرة في أمر المجاهدين لايبرح يترقب أخبارهم إلى أن كان يوم الخميس تاسع شوال ورد عليه الخبر من طرابلس بنصرة المسلمين على الفرنج فدقت البشائر لذلك بقلعة الجبل وغيرها وجمع القضاة وأعيان الديار المصرية بالجامع الأشرفي بخط العنبريين وقرىء عليهم الكتاب الوارد من طرابلس بنصرة المسلمين فضج الناس وأعلنوا بالتكبير والتهليل ونودي بزينة القاهرة ومصر‏.‏ ثم قرئ الكتاب المذكور من الغد بجامع عمرو بن العاص بمصر‏.‏
وبينما الناس مستبشرون في غاية ما يكون من السرور والفرح بنصر الله قدم الخبر في يوم الاثنين ثالث عشر شوال المذكور بوصول الغزاة المذكورين إلى الطينة فقلق السلطان من ذلك وتنغص فرح الناس وكثر الكلام في أمر عودهم‏.‏
وكان من خبرهم‏:‏ أنهم لما توجهوا من ساحل بولاق إلى دمياط ساروا منه في البحر المالح إلى مدينة طرابلس فطلعوا إليها فانضم عليهم بها خلائق من المماليك والعساكر الشامية وجماعة كبيرة من المطوعة إلى أن رحلوا عن طرابلس في بضع وأربعين مركبًا وساروا إلى جهة الماغوصة فنزلوا عليها بأجمعهم وخيموا في برها الغربي وقد أظهر متملك الماغوصة طاعة السلطان وعرفهم تهيؤ صاحب قبرس واستعداده لقتالهم وحربهم فاستعدوا وأخذوا حذرهم وباتوا بمخيمهم على الماغوصة وهي ليلة الأحد العشرين من شهر رمضان‏.‏
وأصبحوا يوم الاثنين شنوا الغارات على ما بغربي قبرس من الضياع ونهبوا وأسروا وقتلوا وأحرقوا وعادوا بغنائم كثيرة ثم ساروا ليله الاربعاء يريدون الملاحة وتركوا في البر أربعمائة من الرجالة يسيرون بالقرب منهم إلى أن وصلوا إليها ونهبوها وأسروا وأحرقوا يضًا‏.‏
ثم ركبوا البحر جميعًا وأصبحوا باكر النهار فوافاهم الفرنج في عشرة أغربة وقرقورة كبيرة فلم يثبتوا للمسلمين وانهزموا من غير حرب واستمر المسلمون بساحل الملاحة وقد أرست مراكبهم عليها‏.‏ وبينما هم فيما هم فيه كرت أغربة الفرنج راجعة إليهم وكان قصد الفرنج بعودهم أن يخرج المسلمون إليهم فيقاتلوهم في وسط البحر‏.‏
فلما أرست المسلمون على ساحل الملاحة كرت الفرنج عليهم فبرزت إليهم المسلمون وقاتلوهم قتالًا شديدًا إلى أن هزمهم الله تعالى وعادوا بالخزي وبات المسلمون ليلة الجمعة خامس عشرين شهر رمضان‏.‏ فلما كان بكرة نهار الجمعة أقبل عسكر قبرس وعليهم أخو الملك ومشى على المسلمين فقاتله مقدار نصف العسكر الإسلامي أشد قتال حتى كسروهم وانهزم أخو الملك بمن كان معه من العساكر بعد أن كان المسلمون أشرفوا على الهلاك ولله الحمد والمنة وقتل المسلمون من الفرنج مقتلة عظيمة‏.‏
ثم أمر الأمير جرباش بإخراج الخيول إلى البر فأخرجوا الخيول من المراكب إلى البر في ليلة السبت وتجهزوا للمسير ليغيروا على نواحي قبرس من الغد‏.‏ فلما كان بكرة يوم السبت المذكور ركبوا وساروا إلى المغارات حتر وافوها فأخذوا يقتلون ويأسرون ويحرقون وينهبون القرى حتى ضاقت مراكبها عن حمل الأسرى وامتلأت أيديهم بالغنائم وألقى كثير منهم ما أخذه إلى الأرض‏.‏
فعند ذلك كتب الأمير جرباش مقدم العساكر المجاهدة كتابًا إلى الأمير قصروه من تمراز نائب طرابلس بهذا الفتح العظيم والنصر المبين صحبة قاصد بعثه الأمير قصروه مع المجاهدين ليأتيه بأخبارهم‏.‏ فعندما وصل الخبر للأمير قصروه كتب في الحال إلى السلطان بذلك وفي طي كتابه كتاب الأمير جرباش المذكور وهو الكتاب الذي قرىء بالأشرفية بالقاهرة ثم بجامع عمرو بن العاص‏.‏
ثم إن الأمير جرباش لما رأى أن الأمر أخذ حده وأن السلامة غنيمة ثم ظهر له بعض تخوف عسكره فإنه بلغهم أن صاحب قبرس قد جمع عساكر كثيرة واستعد لقتال المسلمين فشاور من كان معه من الأمراء والأعيان فأجمع رأي الجميع على العود إلى جهة الديار المصرية مخافة من ضجر العسكر الإسلامي إن طال القتال بينهم وبين أهل قبرس إذا صاروا في مقابله‏.‏
فعند ذلك أجمع رأي الأمير جرباش المذكور أن يعود بالعساكر الإسلامية على أجمل وجه فحل القلاع بعد أن تهيأ للسفر وسار عائدًا حتى أرسى على الطينة قريبًا من قطيا وثغر دمياط ثم توجهوا إلى الديار المصرية‏.‏ ولما بلغ الناس ذلك وتحقق كل أحد ما حصل للمسلمين من النصر والظفر عاد سرورهم لأن السلطان كان لما بلغه عودهم نادى في الناس‏:‏ من أراد الجهاد فليحضر لأخذ النفقة فكثر قلق الناس لذلك وظنوا كل هذا ما كان من أمر الغزاة‏.‏
وأما السلطان فإنه أفرج في يوم الاثنين ثالث عشر شوال عن الأمير الكبير بيبغا المظفري من سجن الإسكندرية ونقله إلى ثغر دمياط وأنعم عليه بفرس بقماش ذهب ليركبه بدمياط إلى حيث يشاء‏.‏ ثم أخذ السلطان ينتظر الغزاة إلى أن قدموا عليه يوم السبت خامس عشرين شوال المقدم ذكره ومعهم ألف وستون أسيرًا ممن أسروا في هذه الغزوة‏.‏
وباتوا تلك الليلة بساحل بولاق وصعدوا في بكرة يوم الأحد سادس عشرينه إلى القلعة وبين أيديهم الأسرى والغنائم وهي على مائة وسبعين حمالًا وأربعين بغلًا وعشرة جمال ما بين جوخ وصوف وصناديق وحديد وآلات حربية وأوان وسار الجميم من شارع القاهرة وقد جلس الناس بالحوانيت والبيوت والأسطحة والشوارع بحيث إن الشخص كان لا يكاد أن يمر إلى طريقه إلا بعد مشقة كبيرة وربما لا يستطيع السير ويرجع إلى حيث أتى‏.‏
وبالجملة فإنه كان يومًا مشهودًا لم يعهد مثله في الدولة التركية‏.‏ ولما طلع ذلك كله إلى القلعة وعرض على السلطان رسم السلطان ببيع الأسرى وتقويم الأصناف فقومت الأصناف‏.‏ ثم بتددىء بالبيع في يوم الاثنين سابع عشرين شوال بالحراقة من باب السلسلة بحضرة الأمير جقمق العلائي أمير آخور الكبير وتولى البيع عن السلطان الأمير إينال الششماني الناصري أحد أمراء العشرات ورأس نوبة فاشتراهم الناس على اختلاف طبقاتهم من أمير وجندي وقاض وفقيه وتاجر وعامي‏.‏
ورسم السلطان أن لا يفرق بين الآباء وأولادهم ولا بين قريب وقريبه فكانوا يشترونهم جميعًا والذي كان وحده أبيع وحده‏.‏
واستمر البيع فيهم أيامًا وجمع ما تحصل من أثمانهم فأنفق السلطان من ذلك على المجاهدين فأعطى لطائفة سبعة دنانير ونصفًا ولطائفة ثلاثة دنانير ونصفًا وانقضى أمر المجاهدين في هذه السنة‏.‏

قطع أنف العامة وآذانهم لأنهم يطالبون برغيف العيش
قال المقريزي‏:‏ في يوم الجمعة سابع ذي الحجة اتفقت حادثة شنيعة وهي أن الخبز قل وجوده في الأسواق فعندما خرج بدر الدين محمود العيني محتسب القاهرة من داره سائرًا إلى القلعة صاحت عليه العامة واستغاثوا بالأمراء وشكوا إليهم المحتسب فعرج عن الشارع وطلع إلى القلعة وهو خائف من رجم العامة له وشكاهم إلى السلطان وكان يختص به ويقرأ له في الليل تواريخ الملوك ويترجمها له بالتركية فحنق السلطان وبعث طائفة من الأمراء إلى باب زويلة فأخذوا أفواه السكك ليقبضوا على الناس فرجم بعض العبيد بعض الأمراء بحجر أصابه فقبض عليه وضرب ثم قبض على جماعة كبيرة من الناس وأحضروا بين يدي السلطان فرسم بتوسيطهم ثم أسلمهم إلى الوالي فضربهم وقطع آنافهم وآذانهم وسجنهم ليلة السبت‏.‏ ثم عرضوا من الغد على السلطان فأفرج عنهم وعدتهم اثنان وعشرون رجلًا من المستورين ما بين شريف وتاجر فتنكرت القلوب من أجل ذلك وانطلقت الألسنة بالدعاء وغيره‏.‏ انتهى كلام المقريزي برمته‏.‏ وهو كما قال غير أنه سكت عن رجم العامة للعينتابي المذكور يريد بذلك تقوية الشناعة على العيني لبغض كان بينهما قديمًا وحديثًا‏.‏
ثم قدم كتاب الأمير تغري بردي المحمودي رأس نوبة النوب وأمير حاج المحمل من مكة في يوم الجمعة حادي عشرين ذي الحجة يتضمن أنه لما نزل عقبة أيلة بعث قاصدًا إلى الشريف حسن بن عجلان أمير مكة يرغبه في الطاعة ويحذره عاقبة المخالفة فقدم عليه ابنه بركات بن حسن بن عجلان وقد نزل بطن مر في ثامن عشرين ذي القعدة فسر بقدومه ودخل معه مكة في أول ذي الحجة وحلف له بين الحجر الأسود والملتزم أن أباه لا يناله مكروه من قبله ولا من قبل السلطان فعاد إلى أبيه وقدم به مكة في يوم الاثنين ثالث ذي الحجة وأنه حلف له ثانيًا وألبسه التشريف السلطاني وقرره في إمرة مكة على عادته وأنه عزم على حضوره إلى السلطان صحبة الركب واستخلاف ولده بركات على مكة‏.‏ انتهى‏.‏
ثم في يوم الاثنين خامس عشرين المحرم سنة تسع وعشرين وثمانمائة خلع السلطان على الأمير إينال الششماني أحد أمراء العشرات ورأس نوبة باستقراره في حسبة القاهرة عوضًا عن قاضي ثم في رابع عشرين المحرم قدم الأمير تغري بردي المحمودي رأس نوبة النوب وأمير حاج المحمل بالمحمل وقدم معه الأمير الشريف حسن بن عجلان فأكرمه السلطان وأنزله بمكان يليق به‏.‏ ثم خلع عليه في يوم سابع عشرينه باستقراره في إمرة مكة على عادته بعد أن ألتزم بحمل ثلانين ألف دينار وأرسل قاصده إلى مكة ليحضر المبلغ المذكور وأقام هو بالقاهرة رهينة‏.‏

القضاء على الثوار فى مكة
وقدم أيضًا مع الحاج الأمير قرقماش الشعباني الناصري أحد مقدمي الألوف بعد أن أقام بمكة نحو السنتين شريكًا لأمير مكة في هذه المدة ومهد أمورها وأقمع عبيد مكة ومفسديها وأبادهم‏.‏ ثم في يوم الأربعاء نصف صفر جمع السلطان الأمراء والقضاة كثيرًا من أكابر التجار وتحدث معهم في إبطال المعاملة بالذهب المشخص الذي يقال له الإفرنتي وهو من ضرب الفرنج وعليه شعار كفرهم الذي لا تجيزه الشريعة المحمدية وأن يضرب عوضه ذهبًا عليه السكة الإسلامية فصوب من حضر رأي السلطان في إبطاله‏.‏
وهذا الإفرنتي المذكور قد كثرت المعاملة به في زماننا من حمود سنة ثمانمائة في أكثر مدائن الدنيا مثل‏:‏ القاهرة ومصر والبلاد الشامية وكثر بلاد الروم وبلاد الشرق والحجاز واليمن حتى صار هو النقد الرائج والمطلوب في المعاملات‏.‏ وانفض المجلس على ذلك وقد كثر ثناء الناس على السلطان بسبب إبطال ذلك‏.‏
ولما كان الغد طلب السلطان صناع دار الضرب وشرع في ضرب الذهب الأشرفي وتطلب من ثم في سادس عشرينه نودي بالقاهرة بإبطال المعاملة بالذهب الإفرنتي وأن يتعامل الناس بالدنانير الأشرفية زنة الدينار منها زنة الإفرنتي ثم ألزم السلطان الناس بحمل ما عندهم من الإفرنتية إلى دار الضرب‏.‏ ثم في يوم الخميس رابع عشر شهر ربيع الأول قدم الأمير قصروه من تمراز نائب طرابلس وطلع إلى القلعة وقبل الأرض وخلع السلطان عليه خلعة الاستمرار بولايته على عادته‏.‏
ثم في يوم السبت قدم هديته إلى السلطان وكانت تشتمل على شيء كثير‏.‏ وفي يوم الخميس المذكور وصل إلى القاهرة الأمير يربغا التنمي أحد أمراء العشرات عائدًا من بلاد اليمن بغير طائل‏.‏
وسببه أن السلطان كان أطمعه بعض الناس في أخد اليمن وهون عليه أمرها وهو كما قيل غير أن الملك الأشرف لم يلتفت إلى ذلك بالكلية تكذيبًا للقائل له فأرسل الأمير يربغا هذا بهدية لصاحب اليمن وصحبته السيفي ألطنبغا فرنج الدمرداشي والي دمياط كان ومعهما أيضًا خمسون مملوكًا من المماليك السلطانية فساروا إلى جدة ثم ركبوا منها البحر وتوجهوا إلى جهة اليمن إلى أن وصلوا حلي بني يعقوب فسار منه يربغا التنمي ومعه من المماليك خمسة نفر لا غير ومعه الهدية والكتاب لصاحب اليمن وهو يتضمن طلب مال للإعانة على الجهاد‏.‏
وأقام ألطنبغا فرنج ببقية المماليك في المراكب فأكرم صاحب اليمن يربغا المذكور وأخذ تجهيز هدية عظيمة‏.‏ وبينما هو في ذلك قدم عليه الخبر بأن ألطنبغا فرنج نهب بعض الضياع وقتل أربعة رجال فأنكر صاحب اليمن أمرهم وتنبه لهم وقال للأمير يربغا‏:‏ ما هذا خبر خير فإن العادة لا يحضر إلينا في الرسالة إلا واحد وأنتم حضرتم في خمسين رجلًا ولم يحضر إلي منكم إلا أنت في خمسة نفر وتأخر باقيكم وقتلوا من رجالي أربعة ثم طرده عنه من غير أن يجهز هدية ولا وصله بشيء ولولا خشية العاقبة لقتله فنجا يربغا بمن معه بأنفسهم وعادوا إلى مكة وقدم يربغا إلى القاهرة مخفًا‏.‏
فلما بلغ السلطان ذلك أراد أن يجهز إلى اليمن عسكرًا فمنعه من ذلك شغله بغزو الفرنج‏.‏ ثم في يوم السبت أول شهر ربيع الآخر خلع السلطان على الأمير قصروه خلعة السفر وخرج من يومه إلى محل كفالته بطرابلس‏.‏
ئم في يوم السبت ثامنه خلع السلطان على الأمير يشبك الساقي الأعرج واستقر أمير سلاح عوضًا عن إينال النوروزي بحكم موته‏.‏ م في خامس عشرين شهر ربيع الآخر المذكور استقر العلامة كمال الدين محمد ابن همام الدين محمد السيواسي الأصل الحنفي في مشيخة التصوف بالمدرسة الأشرفية وتدريسها عوضًا عن العلامة علاء الدين علي الرومي بحكم رغبته وعوده إلى بلاده‏.‏ ثم في يوم الخميس سابع عشرينه خلع السلطان على القاضي بدر الدين محمود العينتابي باستقراره قاضي قضاة الحنفية بالديار المصرية عوضًا عن زين الدين عبد الرحمن التفهني واستقر التفهني المذكور في مشيخة صوفية خانقاه شيخون بعد موت شيخ الإسلام سراج الدين عمر قارىء الهداية‏.‏

التفتيش على جاني بك الصوفي
وفي
يوم الجمعة ثامن عشرين شهر ربيع الآخر المذكور نزل من القلعة جماعة كبيرة من الأمراء والمماليك وهم متقلدون بسيوفهم حتى طرقوا الجودرية إحدى حارات القاهرة فأحاطوا بها مع جميع جهاتها وكبسوا على دورها وفتشوها تفتيشًا عظيمًا وقد وشى بعض الناس إلى السلطان بأن جاني بك الصوفي في دار بها فلم يقعوا له على خبر‏.‏
وقبضوا على القاضي فخر الدين ماجد بن المزوق الذي كان ولي كتابة السر ونظر الجيش في دولة الملك الناصر فرج وأحضروه بين يدي السلطان فسأله عن الأمير جاني بك الصوفي وحلف له إن دله على مكانه لا يمسه بسوء‏.‏ فحلف فخر الدين المذكور أنه لا يعرف مكانه ولا وقع بصره عليه من يوم أمسك وحبس فلم يحمله السلطان على الصدق لمصاهرة كانت بينه وبين جاني بك الصوفي وصحبة قديمة وأمر به فضرب بين يديه بالمقارع وأمر بنفيه‏.‏
ثم نودي من الغد أن لايسكن أحذ بالجودرية لما ثبت عند السلطان أن جاني بك الصوفي مختف بها‏.‏ والظاهر أن الذي كان ثبت عند الأشرف أن جاني بك الصوفي كان مختفيًا بها كان على حقيقته فيما بلغنا بعد موت الملك الأشرف غير أن الستار ستره وحماه فلم يعثروا عليه حتى قيل إنه كان بالدار المهجوم عليها ولم ينهض للهروب فالتف بحصيرة بها وكل من دخل الدار رأى الحصيرة المذكورة فلم يجدها أحد بيده لتعلم أن الله على كل شيء قدير‏.‏

غـــزو قبرس
ولما نودي أن لا يسكن أحد بالجودرية انتقل منها جماعة كبيرة واستمرت خالية زمانًا طويلًا هذا والسلطان في كل قليل يقبض على جماعة من المماليك السلطانية ويعاقبهم ليقروا على جاني بك الصوفي فلم يقع له عبر خبر‏.‏ كل ذلك والسلطان في شغل بتجهيز المجاهدين لغزو قبرس‏.‏ وورد عليه في يوم السبت سابع عشرين جمادى الأولى رسول صاحب إستانبول وهي القسطنطينية بهدية وشفع في أهل قبرس أن لا يغزوا فلم يلتفت السلطان إلى شفاعته وأخذ فيما هو فيه من تجهيز العساكر‏.‏
ثم في يوم الاثنين ثالث عشر جمادى الآخرة من سنة تسع وعشرين المذكورة قدم من عساكر البلاد الشامية عدة كبيرة من الأمراء والمماليك والعشير وطائفة كبيرة من المطوعة ليسيروا إلى الجهاد فأنزلوا بالميدان الكبير‏.‏ وفيه خلع السلطان على قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن علي بن العز قاضي قضاة الحنابلة بدمشق زمن المؤيد شيخ باستقراره قاضي قضاة الحنابلة بديار مصر عوضًا عن قاضي القضاة محب الدين أحمد بن نصر الله البغدادي بحكم صرفه عنها‏.‏
وكان عزل قاضي القضاة محب الدين لسوء سيرة أخيه وابنه‏.‏ ثم في ثالث عشرين جمادى الآخرة جلس السلطان بالحوش من قلعة الجبل لعرض المجاهدين وأنفق فيهم مالًا كبيرًا فكان يومًا من أجل الأيام وأحسنها لما وقع فيه من بذل السطان الأموال على من تعين للجهاد وعلى عدم التفات المجاهدين لأخذ المال بل كان الشخص إذا وقف في مجلس السلطان ينظر رؤوس النوب تتهارب من المماليك السلطانية الذين يريدون أخذ الدستور من السلطان للتوجه إلى الجهاد والسلطان يأمرهم بعدم السفر ويعتذر أنه لم تبق مراكب تحملهم وهم يتساعون في ذلك مرة بعد أخرى وربما تكرر وقوف بعضهم الأربع مرات والخمسة وأيضًا من عظم ازدحام الناس على كتاب المماليك ليكتبوهم في جملة المجاهدين في المراكب المعينة حتى إنه سافر في هذه الغزوة عدة من أعيان الفقهاء‏.‏
ولما أن صار السلطان لا ينعم لأحد بالتوجه بعد أن استكفت العساكر سافر جماعة من غير دستور وأعجب من هذا أنه كان الرجل ينظر في وجه المسافر للجهاد يعرفه قبل أن يسأله لما بوجهه من السرور والبشر الظاهر بفرحه للسفر وبعكس ذلك فيمن لم يعين للجهاد هذا مع كثرة من تعين للسفر من المماليك السلطانية وغيرهم‏.‏
وما أرى هذا إلا أن الله تعالى قد شرح صدورهم للجهاد وحببهم في الغزو وقتال العدو ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا ولم أنظر ذلك في غزوة من الغزوات قبلها ولا بعدها‏.‏ انتهى‏.‏
ثم في يوم الخميس أول شهر رجب أدير المحمل بالقاهرة ومصر على العادة في كل سنة وعجل عن وقته لسفر المجاهدين للغزاة‏.‏ ثم في يوم الجمعة ثاني شهر رجب من سنة تسع وعشرين المذكورة خرجت المجاهدون من القاهرة وسافروا من ساحل بولاق إلى جهة الإسكندرية ودمياط ومقدمو العساكر جماعة كبيرة من أمراء الألوف وأمراء الطبلخانات وأمراء العشرات وأعيان الخاصكية وجماعة كبيرة من أعيان أمراء دمشق وغيرها فالذي كان من مقدمي الألوف‏:‏ الأمير إينال الجكمي أمير مجلس وهو مقدم العساكر في المراكب بالبحر ومعه الأمير قرامراد خجا الشعباني أمير جاندار وأحد مقدمي الألوف وعدة من الأمراء والمماليك السلطانية وغيرهم والذي كان مقدم العساكر في البر الأمير تغري بردي المحمودي الناصري رأس نوبة النوب ومعه الأمير حسين بن أحمد المدعو تغري برمش نائب القلعة كان وهو يوم ذاك أحد مقدمي الألوف فهؤلاء الأربعة من أمراء الألوف‏.‏
والذي كان من أمراء الطبلخانات الأمير قانصوه النوروزي والأمير يشبك السودوني المشد الذي صار أتابك في دولة الملك الظاهر جقمق والأمير إينال العلائي ثالث رأس نوبة أعني عن السلطان الملك الأشرف إينال سلطان زماننا وأمير آخر لا يحضرني الأن اسمه‏.‏ والذي توجه من أمراء العشرات فعدة كبيرة‏.‏
والذي كان من أمراء دمشق‏:‏ الأمير طوغان السيفي تغري بردي أحد مقدمي الألوف بدمشق وهو دوادار الوالد رحمه الله ومملوكه وجماعة كبيرة أخر دونه في الرتبة من أمراء دمشق وخرجت الأمراء في هذا اليوم وتبعهم المجاهدون في السفر في النيل أرسالًا حتى كان آخرهم سفرًا في يوم السبت حادي عشر شهر رجب المذكور‏.‏
وكان ليوم خروج المجاهدين بساحل بولاق نهار يجل عن الوصف تجمع الناس فيه للفرجة على المسافرين من الأقطار والبلاد والنواحي حتى صار ساحل بولاق لايستطيع الرجل أن يمر فيه لحاجته إلا بعد تعب ومشقة زائدة‏.‏ وعدى الناس إلى البر الغربي ببر منبابة وبولاق التكرور ونصبوا بها الخيم والأخصاص‏.‏
هذا وقد انتشر البحر بالمراكب التي فيها المتنزهون وأما بيوت بولاق فلم يقدر على بيت منها إلا من يكون له جاه عريض أو مال كبير وتقضى للناس بها أيام سرور وفرح وابتهال إلى الله تعالى بنصر المسلمين وعودهم بالسلامة والغنيمة‏.‏
الهجوم على رشيد
وسار الجميع إلى ثغر دمياط وثغر الإسكندرية وتهيأوا لسفر والسلطان متشوف لما يرد عليه وبينما هم في ذلك ورد عليه الخبر في يوم الثلاثاء ثامن عشرين شهر رجب المذكور بأن الغزاة مروا في طريقهم إلى رشيد وأقلعوا من هناك يوم رابع عشرينه وساروا إلى أن كان يوم الاثنين انكسر منهم نحو أربعة مراكب غرق فيها نحو العشرة أنفس وكانوا بالقرب من ساحل الإسلام بثغور أعمال مصر‏.‏
ولما بلغ السلطان ذلك انزعج غاية الانزعاج حتى إنه كاد يهلك وبكى بكاء كثيرًا وصار في قلق عظيم بحيث إن القلعة ضاقت عليه وعزم على عدم سفر الغزاة المذكورين‏.‏
ثم قوي عنده أنه يرسل الأمير جرباش الكريمي قاشق حاجب الحجاب لكشف خبرهم ولعمل مصالحهم وللمشورة مع الأمراء في أمر السفر‏.‏ وخرج الأمير جرباش المذكور مسافرًا إليهم وترك السلطان في أمر مريج وكذلك جميع الناس إلا أنا تباشرت بالنصر من يومئذ وقلت‏:‏ ما بعد الكسر إلا الجبر وكذا وقع فيما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى‏.‏
وسار الأمير جرباش إلى العسكر فوجد الذي حصل بالمراكب المذكورة ترميمه سهل وقد شرعت الصناع في إصلاحه فتشاور مع الأمراء فأجمع الجميع على السفر فعند ذلك جمع الأمير جرباش الصناع وأصلح جميع ما كان بالمراكب من الخلل إلى أن أمرهم فركبوا وساروا على بركة الله وعونه وعاد الأمير جرباش وأخبر السلطان بذلك فسكن ما كان به‏.‏
وكان قبل قدوم خرباش أو بعد قدومه في يوم الثلاثاء خامس شعبان ورد الخبر على السلطان بأن طائفة من غزاة المسلمين من العسكر السلطاني لما ساروا من رشيد إلى الإسكندرية صدفوا في مسيرهم أربع قطع من مراكب الفرنج وهي قاصدة ثغر الإسكندرية فكتب المسلمون لمن في رشيد من بقية الغزاة بسرعة إلحاقهم ليكونوا يدًا واحدة على قتال الفرنج المذكورين‏.‏
وتقاربوا من مراكب الفرنج وتراموا معهم يومهم كله بالنشاب إلى الليل وباتوا يتمارسون إلى الصباح فاقتتلوا أيضًا باكر النهار وبينما هم في القتال وصل بقية الغزاة من رشيد فلما رآهم الفرنج ولوا الأدبار بعدما استشهد من المسلمين عشر نفر‏.‏

حملة إلى قبرس
وساروا حتى اجتمعوا بمن تقدمهم من الغزاة من ثغر الإسكندرية وسافر الجميع معًا يريدون قبرس في يوم الأربعاء العشرين من شعبان إلى أن وصلوا إلى قلعة اللمسون في أخريات شعبان المقدم ذكره فبلغهم أن صاحب جزيرة قبرس قد استعد لقتالهم وجمع جموعًا كثيرة وأنه أقام بمدينة الأفقسية وهي مدينة قبرس وعزم على لقاء المسلمين فأرسلوا بهذا الخبر إلى السلطان ثم انقطعت أخبارهم عن السلطان إلى مايأتي ذكره‏.‏
وفي يوم السبت رابع عشر شهر رمضان خلع السلطان على الأمير يشبك الساقي الأعرج أمير سلاح باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية عوضًا عن الأمير قجق

لعيساوي بحكم وفاته وأنعم بإقطاع يشبك الأعرج المذكور على الأمير قرقماس الشعباني الناصري القادم من مكة قبل تاريخه وأنعم بإقطاع قرقماس المذكور على الأمير بردبك السيفي يشبك بن أزدمر الأمير آخور الثاني وصار من جملة مقدمي الألوف وأنعم بإقطاع بردبك على الأمير يشبك أخي السلطان الملك الأشرف برسباي القادم قبل تاريخه بمدة يسيرة من بلاد الجاركس والإقطاع إمرة طبلخاناه وخلع على سودون ميق رأس نوبة باستقراره أمير آخور ثانيًا عوضًا عن بردبك المقدم ذكره‏.‏
غزوة قبرس على حدتها ولما كان يوم الاثنين ثالث عشرين شهر رمضان ورد الخبر على السلطان بأخذ مدينة قبرس وأسر ملكها جينوس بن جاك فدقت البشائر بالقلعة لهذا الفتح ثلاثة أيام‏.‏ وكان من خبر ذلك أن الغزاة لما ساروا من الثغور المذكورة إلى جهة قبرس وصلوا إلى مدينة اللمسون مجتمعين ومتفرقين فبلغهم من أهل اللمسون أن متملك قبرس جاءه نجدة كبيرة من ملوك الفرنج وأنه استعد لقتالهم كما تقدم ذكره‏.‏
ولما وصلوا إلى اللمسون نازلوا قلعتها وقاتلوا من بها حتى أخذوها عنوة في يوم الأربعاء سادس عشرين شعبان ونهبوها وسبوا أهلها وقتلوا جماعة كبيرة ممن كان بها من الفرنج ثم هدموها عن آخرها وساروا منها في يوم الأحد أول شهر رمضان من سنة تسع وعشرين المقدم ذكرها بعد أن أقاموا عليها نحو ستة أيام وساروا فرقتين‏:‏ فرقة في البر وعليهم الأمير تغري بردي المحمودي والأمير حسين بن أحمد المدعو تغري برمش أحد مقدمي الألوف ومن انضاف إليهم من أمراء الطبلخانات والعشرات والعساكر المصرية والشامية من الخيالة والرجالة وفرقة في البحر ومقدمهم الأمير إينال الجكمي أمير مجلس والأمير قرامراد خجا الشعباني أحد مقدمي الألوف بمن انضاف إليهم من العساكر المصرية والشامية‏.‏
وكان سبب مسير هؤلاء في البحر مخافة أن يطرق الفرنج المراكب من البحر ويأخذوها ويصير المسلمون ببلادهم يقاتلونهم على هيئتهم وكان ذلك من أكبر المصالح‏.‏ ثم سار الذين فى البر متفرقين حتى صاروا بين اللمسون والملاحة وهم من غير تعبئة لقتال بل على صفة السفار غير أن على بعضهم السلاح وأكثرهم بلا سلاح لشدة الحر وصار كل واحد من القوم يطلب قدامًا من غير أن يتربص أحدهم لآخر وفي ظنهم أن صاحب قبرس لا يلقاهم إلا خارج قبرس‏.‏
وتأخر الأمراء ساقة العسكر كما هي عادة مقدمي العساكر والناس تجد في السير إلى أن يقاربوا قبرس ثم يقفوا هناك يريدون خيلهم إلى أن تكتمل العساكر وتتهيأ الأطلاب للقتال ثم يسيرون جملة واحدة بعد التعبئة والمصاففة‏.‏ وبينما هم في السير إذا هم بمتملك قبرس بجيوشه وعساكره ومن انضاف إليه من ملوك الفرنج وغيرها وقد ملأت الفضاء وكان الذين وافاهم صاحب قبرس من المسلمين الذين سبقوا طائفة قليلة جدًا وأكثرهم خيالة من أعيان المماليك السلطانية‏.‏
فعندما وقع العين على العين لم يتمالك المسلمون أن يصبروا لمن خلفهم حتى يصيروا جملة واحدة بل انتهزوا الفرصة وتعرضوا للشهادة وقال بعضهم لبعض‏:‏ هذه الغنيمة‏.‏
ثم حركوا خيولهم وقصدوا القوم بقلب صادق وقد احتسبوا نفوسهم في سبيل الله وحملوا على الفرنج حملة عظيمة وصاحوا‏:‏ الله أكبر وقاتلوهم أشد قتال وأردفهم بعض جماعة وتخلف عنهم أخر منهم رجل من أكابر الخاصكية أقام يستظل تحت شجرة كانت هناك‏.‏
وتقاتل المسلمون مع الفرنج قتالًا شديدًا قتل فيه السيفي تغري بردي المؤيدي الخازندار وكان من محاسن الدنيا لم تر عيني أكمل منه في أبناء جنسه والسيفي قطلوبغا المؤيدي البهلوان وكان رأسًا في الصراع ومن مقولة تغري بردي المقدم ذكره في الشجاعة والفروسية والسيفي إينال طاز البهلوان والسيفي نانق اليشبكي وهؤلاء الأربعة من الأعيان والأبطال المعدودة عوض الله شبابهم الجنة بمنه وكرمه ثم قتل من المسلمين جماعة أخر وهم مع قلتهم ويسير عددهم في ثبات إلى أن نصر الله الإسلام ووقع على الكفرة الخذلان وانكسروا وأسر متملك قبرس مع كثرة جموعه وعظم عساكره التي لا تحصر وقلة عسكر المسلمين حتى إن الذي كان حضر أوائل الوقعة أقل من سبعين نفسًا قبل أن يصل إليهم الأمير إينال العلائي الناصري أحد أمراء الطبلخانات ورأسه نوبة ثالث وهو الملك الأشرف إينال والأمير تغري برمش ثم تتابع القوم طائفة بعد طائفة كل ذلك بعد أن انكسرت الفرنج وأسر صاحب قبرس وقتل من قتل من المسلمين‏.‏
ولما ترادفت عساكر الإسلام ركبوا أقفية الفرنج ووضعوا في السيف وأكثروا من القتل والأسر وانهزم من بقي من الفرنج إلى مدينة قبر الأفقسية‏.‏ ثم وجد المسلمون مع الفرنج طائفة من التركمان‏.‏ المسلمين قد أمد الفرنج بهم علي بك بن قرمان عليه من الله ما يستحقه فقتل المسلمون كثيرًا منهم‏.‏ واجتمع عساكر البر والبحر من المسلمين في الملاحة يوم الاثنين ثاني شهر رمضان وتسلم الأمير تغري بردي المحمودي صاحب قبرس كل ذلك والمسلمون يقتلون ويأسرون وينبهون حتى امتلأت أيديهم وتغلبوا عن حمل الغنائم‏.‏ وأما القتلى من الفرنج فلا تحصر ويستحى من ذكرها كثرة‏.‏
حدثني بعض مماليك الوالد ممن باشر الواقعة من أولها إلى آخرها وجماعة كبيرة من الأصحاب الثقات قالوا‏:‏ كان موضع الواقعة أزيد من الفي قتيل من قتلى الفرنج هذا الموضع الذي كان فيه القتال وأما الذي قتل من الفرنج بالضياع والأماكن وبطريق قبرس فلا حد له ولا حساب فإنه استمر القتل فيهم أيامًا‏.‏
واستمروا الملاحة إلى يوم الخميس خامس شهر رمضان فساروا منها يريدون الأفقسية مدينة قبرس‏.‏ ولما ساروا وافاهم الخبر بعد أن تقدم منهم جماعة كبيرة من المطوعة والمماليك السلطانية إلى مدينة قبرس بأن أربعة عشر مركبًا من مراكب الفرنج مشحونة بالسلاح والمقاتلة أتت المراكب لقتال المسلمين منها سبعة أغربة وسبعة مربعة القلاع فلاقاهم الأمير إينال الجكمي أمير مجلس والأمير قرامرادخجا الشعباني والأمير طوغان السيفي تغري بردي أحد مقدمي دمشق والأمير جاني بك رأس نوبة السيفي يلبغا الناصري المعروف بالثور وبمن انضاف إليهم من المطوعة وغيرهم وهؤلاء الأمراء الذين كانوا مقدمي العساكر في البحر بالمراكب واقتتلوا مع الفرنج المذكورين أشد قتال حتى هزموهم وأخذوا منهم مركبًا مربعًا من مراكب الفرنج بعد أن قتلوا منهم عدة كبيرة تقارب ما ذكرنا ممن قتل بمكان الوقعة الأولى وولت الفرنج الأدبار‏.‏
واستمر الذي توجه من الغزاة إلى الأفقسية من المماليك السلطانية وغيرهم يقتلون في طريقهم ويأسرون إلى أن وصلوا إلى المدينة ودخلوا قصر الملك ونهبوه‏.‏ ثم عادوا ولم يحرقوا بمدينة قبرس إلا مواضع يسيرة ولم يدخل المدينة أحد من أعيان العسكر وغالب الذي دخلها من المماليك السلطانية والمطوعة وكان دخولهم وإقامتهم بها وعودهم منها في يومين وليلة واحدة‏.‏
اثم أقام جميع الغزاة بالملاحة وأراحوا بها أبدانهم سبعة أيام وهم يقيمون فيها شعائر الإسلام من الأذان والصلاة والتسبيح ولله الحمد على هذه المنة بهذا الفتح العظيم الذي لم يقع مثله في الإسلام من يوم غزاهم معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في سنة نيف وعشرين من ثم ركبت الغزاة المراكب عائدين إلى جهة الديار المصرية ومعهم الأسرى والغنائم ومن جملتها متملك قبرس في يوم الخميس ثاني عشر رمضان بعد أن بعث أهل الماغوصة يطلبون الأمان‏.‏ هذا ما كان من أمرهم‏.‏
وجزيرة قبرس تسمى باللغة الرومية شبرا والبحر يحيط بها مائتي ميل والميل أربعة آلاف ذراع والذراع أربعة وعشرون إصبعًا والإصبع ست شعيرات مضموم بعضها إلى بعض والفرسخ بهذا الميل ثلاثة أميال والبريد بهذا الفرسخ أربعة فراسخ‏.‏
وجزيرة قبرس من الإقليم الرابع من الأقاليم السبعة وسلطانها يقال له أراد شبرا‏:‏ أي سلطان الجزيرة وقبرس مدينة بالجزيرة تسمى الأفقسية‏.‏ ومسيرة جزيرة قبرس سبعة أيام‏.‏
وبالجزيرة المذكورة اثنا عشر ألف قرية كبارًا وصغارًا وبمدنها وقراها من الكنائس والديارات والقلالي والصوامع كثير‏.‏ وبها البساتين المشتملة على الفواكه المختلفة وبها الرياحين العطرة كالخزام والياسمين والورد والسوسن والنرجس والريحان والنسرين والأقحوان وشقائق النعمان وغير ذلك‏.‏ وبمدن الجزيرة المذكورة الأسواق والخانات والحمامات والمباني العظيمة‏.‏ انتهى‏.‏
وأما أمر السلطان الملك الأشرف برسباي فإنه لما بلغه خبر أخذ قبرس في يوم الاثنين ثالث عشرين رمضان حسبما تقدم ذكره كاد أن يطير فرحًا‏.‏ ولقد رأيته وهو يبكي من شدة الفرح وبكى الناس لبكائه وصار يكثر من الحمد والشكر لله‏.‏
ودقت البشائر بقلعة الجبل وبسائر مدن الإسلام لما بلغهم ذلك وارتخت القاهرة وماجت الناس من كثرة السرور الذي هجم عليهم وقرىء الكتاب الوارد بهذا النصر على الناس بالمدرسة الأشرفية بخط العنبريين بالقاهرة حتى سمعه كل من قصد سماعه وحضر‏.‏ وقالت الشعراء في هذا الفتح عدة قصائد من ذلك القصيدة العظيمة التي نظمها الشيخ زين الدين عبد الرحمن بن الخراط أحد أعيان موقعي الدست بالديار المصرية وأنشدها بين يدي السلطان بحضرة أرباب الدولة والقصيدة ثلاثة وسبعون بيتًا أولها‏:‏ الكامل بشراك يا ملك المليك الأشرفي بفتوح قبرس بالحسام المشرفي فتح بشهر الصوم تم له فيا لك أشرف في أشرف في أشرف فتح تفتحت السموات العلى من أجله بالنصر واللطف الخفي والله حف جنوده بملائك عاداتها التأييد وهو بها حفي ومنها‏:‏ الأشرف السلطان أشرف مالك لولاه أنفس ملكه لم تشرف حامي حمى الحرمين بيت الله وال - - قبر الشريف لزائر ومطوف وكلها على هذا النسق‏.‏ انتهى‏.‏
قلت‏:‏ وكل ذلك والنصارى تكذب هذا الخبر وتستغربه من أسر متملك قبرس وهزيمته على هذا الوجه لأن أمر هذا النصر في غاية من العجب من وجوه عديدة‏:‏ أولها‏:‏ قلة من قاتل الفرنج من المسلمين فإنهم كانوا في غاية من القلة بحيث إن العقل لا يقبل ذلك إلا بعد وقوعه في هذه المرة‏.‏ وثانيهما‏:‏ أنه لم تتعب عساكر الإسلام ولا وقع مصاف‏.‏
وثالثها‏:‏ أنه كان يمكن هزيمة صاحب قبرس من المسلمين بعد أيام كثيرة من وجوه عديدة يطول الشرح في ذكرها لا تخفى على من له ذوق‏.‏
ورابعها‏:‏ أنه كان يمكن هزيمة الفرنج ولا يمكن مسك الملك وأسره أيضًا من وجوه عديدة‏.‏
وخامسها‏:‏ أن غالب العسكر إذا حصل لهم هزيمة يتحابون ويرجعون غير مرة على من هزمهم لا سيما كثرة عساكر الفرنج وقلة من حضر الوقعة من عساكر المسلمين في هذه المرة فكان على هذا يمكنهم الكر على المسلمين بعد هزيمتهم غير مرة‏.‏
وسادسها‏:‏ أن الوقعة والقتال والهزيمة والقبض على الملك وتشتت شمل الفرنج والاستيلاء على وما أرى إلا أن الله سبحانه وتعالى أعز الإسلام وأهله وخذل الكفر وأهله بهذا النصر العظيم الذي لم يسمع بمثله في سالف الأعصار ولا فرح بمثله ملك من ملوك الترك‏.‏
ولما بلغ الملك عود الغزاة المذكورين إلى جهة الديار المصرية رسم فنودي بالقاهرة ومصر بالزينة ثم ندب السلطان جماعة كبيرة عن المماليك السلطانية بالتوجه إلى الثغور لحفظ مراكب الغزاة بعد خروجهم منها خوفًا من أن يطرقهم طارق من الفرنج مما يأتي صاحب قبرس من نجدات الفرنج وكان هذا من أكبر المصالح‏.‏
ثم رسم السلطان لهم أن يأخذوا جميع المراكب من ثغر دمياط ويأتوا بها إلى ثغر الإسكندرية لتحفظ بها وسبب ذلك أن الغزلة المذكورين كان منهم من وصل إلى ثغر الإسكندرية ومنهم من وصل الى ثغر دمياط ومنهم من وصل إلى الطينة لكثرة المراكب ولاختلاف الأرياح‏.‏
وبينما السلطان في انتظار المجاهدين قدم عليه السيد الشريف بركات بن حسن بن عجلان أمير مكة منها وقد استدير بعد موت أبيه فأكرمه السلطان وخلع عليه بإمرة مكة على أنه يقوم بما تأخر على أبيه من الذهب وهو مبلغ خمسة وعشرين ألف دينار فإن أباه الشريف حسن بن عجلان كان قد حمل من الثلاثين ألف دينار التي التزم بها قبل موته خمسة آلاف دينار‏.‏
ثم التزم بركات أيضًا بحمل عشرة آلاف دينار في كل سنة وأن لا يتعرض السلطان لما يؤخذ من بندر جدة من عشور بضائع التجار الواصلة من الهند وغيره وأن يكون ذلك جميعه لبركات المذكور‏.‏ انتهى‏.‏
ولما كان يوم عيد الفطر ابتدأ دخول الغزاة إلى ساحل بولاق أرسالًا كما خرجوا منها‏.‏ ووافق في هذه الأيام وفاء النيل ستة عشر ذراعًا فتضاعف مسرات الناس من كل جهة‏.‏ واستمر دخولهم في كل يوم إلى ساحل بولاق إلى أن تكامل في يوم الأحد سابع شوال ونزلوا بالميدان الكبير بالقرب من موردة الجبس‏.‏
وأصبحوا من الغد في يوم الاثنين ثامن شوال وهو يوم فطر السلطان فإنه كان يصوم الستة أيام من شوال طلعوا إلى القلعة على كيفية ما يذكر وهم جميع الأمراء والأعيان من المجاهدين والأسرى والغنائم بين أيديهم ومتملك قبرس الملك جينوس بن جاك أمامهم وهو منكس الأعلام وقد اجتمع لرؤيتهم خلائق لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى حتى أتت أهل القرى والبلدان من الأرياف للفرجة‏.‏
وركبت الأمراء من الميدان ومعهم غالب الغزاة وساروا من أرض اللوق حتى خرجوا من المقس ودخلوا من باب القنطرة وشقوا القاهرة إلى باب زويلة وتوجهوا من الصليبة من تحت الخانقاه الشيخونية من سويقة منعم إلى الرميلة والخلق في طول هذه المواضع تزدحم بحيث إن الرجل لا يسمع كلام رفيقه من كثرة زغاريد النساء التي صفت على حوانيت القاهرة بالشوارع من غير أن يندبهم أحد لذلك والإعلان بالتكبير والتهليل ومن عظم التهاني‏.‏
هذا مع تخليق الزعفران والزينة المخترعة بسائر شوارع القاهرة حتى في الأزقة‏.‏ وفي الجملة كان هذا اليوم من الأيام التي لم نرها قبلها ولا سمعنا بمثلها‏.‏
وساروا على هذه الصفة إلى أن طلعوا إلى القلعة من باب المدرج وهم مع ذلك في ترتيب في مشيهم يذهب العقل وهو أنهم قدموا أولًا الفرسان من الغزاة أمام الجميع ومن خلف الفرسان طوائف الرجالة من المطوعة وعشران البلاد الشامية وعربان البلاد وزعر القاهرة ومن خلف هؤلاء الجميع الغنائم محمولة على رؤوس الحمالين وعلى ظهور الجمال والخيول والبغال والحمير والتي كانت على الرؤوس فيها تاج الملك وأعلامه منكسة وخيله تقاد من وراء الغنائم ثم من بعدهم الأسرى من رجال الفرنج ثم من بعدهم السبي من النساء والصغار وهم أزيد من ألف أسير تقريبًا سوى ما ذهب في البلاد والقرى مع المطوعة وغيرهم من غير إذن مقدم العساكر وهو أيضًا يقارب ما ذكر ومن وراء الأسرى جينوس ملك قبرس وهو راكب على بغل بقيد حديد وأركب معه اثنان من خواصه وعن يمينه الأمير إينال الجكمي أمير مجلس وأمامه قرا مراد خجا الشعباني أحد مقدمي الألوف أيضًا وعن يسار الأمير تغري بردي المحمودي رأس نوبة النوب وأمامه الأمير حسين المدعو تغري برمش المحمودي رأس نوبة ترب وأمامه الأمير حسين المدعو تغري برمش أحد مقدمي الآلوف أيضًا وأمامهم أمراء الطبلخانات والعشرات على مراتبهم وأمراء البلاد الشامية‏.‏
وساروا على هذه الصفة حتى طلعوا إلى القلعة فأنزل جينوس عن البغل وكشف رأسه عند باب المدرج وقد احتاطه الحجاب وأمراء جاندار وقد صفت العساكر الإسلامية من باب المدرج إلى داخل الحوش السلطاني‏.‏
فلما دخل جينوس من باب المدرج قبل الأرض ثم قام ومشى ومعه الأمراء من الغزاة والحجاب ورؤوس النوب وهو يرسف في قيوده على مهل لكثرة الزحام‏.‏
هذا وقد جلس الملك الأشرف بالمقعد الذي على باب البحرة المقابل لباب الحوش السلطاني في موكب عظيم من الأمراء والخاصكية وعنده الشريف بركات بن حسن بن عجلان أمير مكة وهو جالس فوق الأمراء ورسل خوند كار مراد بن عثمان متملك بلاد الروم ورسل صاحب تويس من بلاد المغرب ورسول الأمير عذرا أمير العرب بالبلاد الشامية وقد طال جلوس الجميع عند السلطان إلى قريب الظهر والسلطان يرسل إلى الغزاة رسولًا بعد رسول باستعجالهم حتى اجتازوا بتلك الأماكن المذكورة فإنها مسافة طويلة وأيضًا لا يقدرون على سرعة المشي من كثرة ازدحام الناس بالطرقات‏.‏
ثم ساروا من باب المدرج إلى أن دخلوا باب الحوش فلما رأى متملك قبرس السلطان وهو جالس على المقعد المذكور في موكبه وأمره من معه بتقبيل الأرض غشي عليه وسقط إلى الأرض‏.‏ ثم أفاق وقبل الأرض وقام على قدميه عند باب الحوش تجاه السلطان على بعد‏.‏
وسارت الغنائم بين يدي السلطان حتى عرضت عليه بتمامها وكمالها ثم الأسرى بأجمعهم حتى انتهى ذلك كله فتقدمت الأمراء الغزاة وقبلوا الأرض على مراتبهم إلى أن كان آخرهم الأمير إينال الجكمي مقدم العساكر‏.‏
ثم أمر السلطان بإحضار متملك قبرس فتقدم ومشى وهو بقيوده ورأسه مكشوفة وبعد أن مشى خطوات أمر فقبل الأرض ثم قام ثم قبل الأرض ثانيًا بعد خطوات وأخذ يعفر وجهه في التراب ثم قام فلم يتمالك نفسه وقد أذهله ما رأى من هيبة الملك وعز الإسلام فسقط ثانيًا مغشيًا عليه‏.‏
ثم أفاق من غشوته وقبل الأرض وأوقف ساعة بالقرب من السلطان بحيث إنه يتحقق شكله‏.‏ هذا والجاويشية تصيح والشبابة السلطانية تزعق والأزان يضرب على آلته ورؤوس النوب والحجاب تهول الناس بالعصي من كثرة العساكر والناس بالحوش المذكور هذا مع ما الناس فيه من التهليل والتكبير بزقاقات القلعة وأطباق المماليك السلطانية وغيرها‏.‏
ثم أمر السلطان بجينوس المذكور أن يتوجه إلى مكان بالحوش السلطاني فمروا به في الحال إلى المكان المذكور‏.‏ ثم طلب السلطان مقدمي عساكر الغزاة من أمراء مصر والشام والخاصكية المقدم كل واحد منهم على مركب وكانوا كثيرًا جدًا لأن عدة مراكب الغزاة المصريين والشاميين زادت على مائة قطعة وقيل مائتان وقيل أكثر أو أقل ما بين أغربة وقراقير وزوارق وغير ذلك‏.‏
فأول من بدأ بهم السلطان وخلع عليهم أمراء الألوف بمصر والشام وخلع على كل واحد منهم أطلسين متمرًا وقيد له فرسًا بقماش ذهب وهم الأمير إينال الجكمي أمير مجلس والأمير تغري بردي المحمودي الناصري رأس نوية النوب والأمير قرامرادخجا الشعباني الظاهري برقوق أمير جاندار والأمير حسين بن أحمد المدعو تغري برمش البهسني التركماني أحد مقدمي الألوف والأمير طوغان السيفي تغري بردي أحد مقدمي الألوف بدمشق ثم أمراء الطبلخانات والعشرات من أمراء مصر والشام على كل واحد فوقاني كمخا أحمر وأخضر وبنفسجي بطرز زركش على قدر مراتبهم وكذلك كل مقدم مركب من الخاصكية والأجناد وغيرهم فكان هذا اليوم يومًا عظيمًا جليلًا لم يقع مثله في سالف الأعصار أعز الله تعالى فيه دين الإسلام وأيده وخذل فيه الكفر وبدده‏.‏
ثم انفض الموكب ونزل كل واحد إلى داره‏.‏ وقد كثرت التهاني بحارات القاهرة وظواهرها لقدوم المجاهدين حتى إن الرجل كان لا يجتاز بدرب ولا حارة إلا وجد فيها التخليق بالزعفران ثم أصبح السلطان من الغد وهو يوم الثلاثاء تاسع شوال جمع التجار لبيع الغنائم من القماش والأواني والأسرى‏.‏
ثم أرسل السلطان يطلب من متملك قبرس المال فقال‏:‏ مالي إلا روحي وهي بيدكم وأنا رجل أسير لا أملك الدرهم الفرد من أين تصل يدي إلى مال أعطيه لكم‏.‏
وتكرر الكلام معه بسبب ذلك وهو يجيب بمعنى ما أجاب به أولًا حتى طلبه السلطان بالحوش وكان به أسارى الفرنج فلما حضر بين يدي السلطان وقبل الأرض وأوقف وشاهده الأسرى من الفرنج في تلك الحالة صرخوا بأجمعهم صرخة واحدة وحثوا التراب على رؤوسهم والسلطان ينظر إليهم من مجلسه بالمقعد الذي كان جلس به من أمسه‏.‏
وسبب صراخ الأسرى وعظيم بكائهم أنه كان فيهم من لا يصدق أن ملكهم قد أسر لكثرتهم وتفرقهم في المراكب والاحتفاظ بهم وعدم اجتماع بعضهم على بعض فكان إذا قيل لبعضهم‏:‏ إن ملككم معنا أسير يضحك ثم يقول‏:‏ أين هو فإذا قيل له‏:‏ بهذه المركب ويشار إلى مركب الأمير تغري بردي المحمودي يهزأ بذلك ويبتسم‏.‏
فلما عاينوه تحققوا أسره وهالهم ذلك وقيل إن بعض سبي الفرنج سألت من رجل من المسلمين لما كسروا الصليب الكبير الذي يعرف به جبل الصليب ببلادهم وكان هذا الصليب معظمًا عندهم إلى الغاية وقالت‏:‏ نحن إذا حلف منا رجل أو امرأة على هذا الصليب باطلًا أوذي في الوقت وأنتم قد كسرتموه وأحرقتموه ولم يصبكم بأس ما سبب ذلك فقال لها الرجل‏:‏ أنتم أطعتم الشيطان فصار يغويكم ويستخف بعقولكم ونحن قد هدانا الله للإسلام وأنزل علينا القرآن فلا سبيل له علينا فعندما كسرناه بعد أن ذكرنا اسم الله تعالى عليه فر منه الشيطان وذهب إلى لعنة الله فقالت المرأة‏:‏ هو ما قلته وأسلمت هي وجماعة معها‏.‏ انتهى‏.‏
ولما أوقف جينوس المذكور بالحوش بين يدي السلطان وأوقف معه جماعة من قناصلة الفرنج ممن كان بمصر وأعمالها وتكلم الترجمان معه فيما يفدي به نفسه من المال وإلا يقتله السلطان صمم هو على مقالته الأولى فالتزم القناصلة عنه بالمال لفدائه من غير تعيين قدر بعينه ولكنهم أجابوا السلطان بالسمع والطاعة فيما طلبه وعادوا بجينوس إلى مكانه من الحوش والترسيم عليه وكان الذي رسم عليه السيفي أركماس المؤيدي الخاصكي المعروف بأركماس فرعون‏.‏
وأقام جينوس بمكانه إلى يوم الأربعاء فرسم له السلطان ببدلتين من قماشه وأمر له بعشرين رطل لحم في كل يوم وستة أطيار دجاج وخمسمائة درهم فلوسًا برسم حوائج الطعام وفسح له في الاجتماع بمن يختاره من الفرنج وغيرهم وأدخل إليه جماعة من حواشيه لخدمته‏.‏
كل ذلك والسلطان مصمم على طلب خمسمائة ألف دينار منه يفدي بها نفسه وإلا يقتله والرسل تتردد بينهم من التراجمين والقناصلة إلى أن تقرر الصلح بعد أيام على أنه يحمل مائتي ألف دينار يقوم منها بمائة ألف دينار عاجلة وإذا عاد إلى بلاده أرسل بالمائة ألف دينار الأخرى وضمنه جماعة في ذلك وأنه يقوم في كل سنة بعشرين ألف دينار جزية‏.‏
واشترط جينوس مع السلطان أن يكف عنه طائفة البنادقة وطائفة الكيتلان من الفرنج فضمن له السلطان ذلك وانعقد الصلح ثم أطلقه من السجن بعد أيام كما سنذكره في يومه‏.‏ هذا ما كان من أمر صاحب قبرس وغزوه‏.‏ انتهى‏.‏
ثم في يوم الخميس خامس جمادى الآخرة خلع السلطان على جينوس بن جاك متملك قبرس خلعة السفر‏.‏


وأما أمور المملكة فإنه لما كان يوم الخميس حادي عشر شوال المذكور سافر الشريف بركات بن حسن من القاهرة إلى مكة المشرفة أميرًا بها مكان والده حسن‏.‏
ثم في يوم الاثنين خامس عشر شوال خلع السلطان على الأمير الجكمي أمير مجلس باستقراره أمير سلاح عوضًا عن الأتابك يشبك الأعرج وكانت شاغرة عنه من يوم صار أتابك العساكر لغيبة إينال هذا في الجهاد وخلع على الأمير جرباش الكريمي قاشق حاجب الحجاب باستقراره أمير مجلس عوضًا عن إينال الجمكي وخلع على الأمير قرقماش الشعباني الناصري باستقراره حاجب الحجاب بالديار المصرية عوضًا عن جرباش المذكور‏.‏ ثم في ثامن عشرة
خلع السلطان على الشريف خشرم بن دوغان بن جعفر الحسيني باستقراره أمير المدينة النبوية عوضًا عن الشريف عجلان بن نعير منصور بن جماز على أنه يقوم بخمسة آلاف دينار‏.‏
ووقع بسبب ولاية خشرم هذا بالمدينة حادثة قبيحة وهي أن خشرمًا المذكور لما قدم المدينة وقد رحل عنها المعزول عنها وهو الشريف عجلان بن نعير لما بلغه عزله فلم يلبث خى بالمدينة غير ليلة واحدة وصبحه عجلان بجموعه وقد حشد العربان وقاتل الشريف خشرمًا وحصره ثلاثة أيام حتى كسروه ودخل العرب المدينة ونهبوا دورها وشعثوا أسوارها وأخذوا ما كان للحجاج الشاميين من ودائع وغيرها وقبضوا علىخشرم المذكور ثم أطلقوه بسبب من الأسباب واستهانوا بحرمة المسجد وارتكبوا عظائم‏.‏ كل ذلك في أواخر ذي القعدة‏.‏
ثم في يوم الخميس ثاني عشرين ذي الحجة قدم الأمير جارقطلو الظاهري برقوق نائب حلب فطلع إلى القلعة وقبل الأرض وخلع السلطان عليه خلعة الاستمرار على نيابته واستمر بالقاهرة إلى يوم السبت أول محرم سنة ثلاثين وثمانمائة خلع السلطان عليه خلعة السفر وخرج من يومه إلى محل كفالته‏.‏ ثم في يوم الخميس سادس المحرم خلع السلطان على الأمير أزدمر علي خان الظاهري أحد مقدمي الألوف بديار مصر المعروف بشايا باستقراره في حجوبية حلب قلت‏:‏ درجة إلى أسفل فإنه يستحق ذلك وزيادة لما كان يشتمل عليه من المساوىء والقبائح لا أعرف في أبناء جنسه أقذر منه كان دميم الخلق مذموم الخلق بشع المنظر كريه المعاشرة بخيلًا متكبرًا ظالمًا جبارًا هذا مع الجبن والجهل المفرط وعدم التفات الملوك إليه في كل دولة من الدول وعد إخراجه من مصر من حسنات الملك الأشرف وأنا أقول لو كان الرجل يرزق على قدر معرفته وما يحسنه من الفضائل والفنون لكانت رتبة أزدمر هذا أن يكون صبيًا لبعض أوباش السراباتية‏.‏ وقد استوعبنا مساوئه في ترجمته في تاريخنا المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي‏.‏ انتهى‏.‏ ثم أخذ السلطان في الفحص على جاني بك الصوفي على عادته‏.‏
وأهل شهر ربيع الأول ففي ليلة الجمعة رابعه عمل السلطان المولد النبوي بالحوش من قلعة الجبل‏.‏ ثم في يوم السبت حادي عشرينه أفرج السلطان عن جينوس متملك قبرس من سجنه بقلعة الجبل وخلع عليه وأركبه فرسًا بسرج ذهب وكنبوش زركش ونزل إلى القاهرة في موكب وأقام بدار أعدت له وقد استقر أركماس المؤيدي المعروف بفرعون مسفره وصار يركب من منزله المذكور ويمر بشوارع القاهرة ويزور كنائس النصارى ومعابدهم ويتوجه إلى حيث اختار من غير حجر عليه بعد أن أجرى السلطان عليه من الرواتب ما يقوم به وبمن في خدمته‏.‏
هذا والخدم تأتيه من النصارى والكتاب والقناصلة‏.‏ وحضرت أنا معه في مجلس فرأيت له فوقًا ومعرفة عرفت منه بالحدس كونه لا يعرف باللغة العربية‏.‏ ولما كان يوم الخميس سابع جمادى الأولى خلع السلطان على الأمير جرباش الكريمي قاشق أمير مجلس باستقراره في نيابة طرابلس عوضًا عن الأمير قصروه من تمراز بحكم انتقال قصروه إلى نيابة حلب عوضًا عن جارقطلو بحكم عزل جارقطلو وقدومه إلى القاهرة‏.‏ وفيه قدم رسول صاحب رودس الفرنجي فأركب فرسًا وفي صدره صليب وأطلع إلى القلعة وقبل الأرض بين يدي السلطان وسأل عن مرسله صاحب رودس أنه طلب الأمان وأنه يسأل أن يعفى من تجهيز العساكر الإسلامية إليه وأن يقوم للسلطان بما يطلبه منه وكان السلطان تكلم قبل تاريخه في غزوة رودس المذكورة‏.‏
ثم في يوم الخميس خامس جمادى الآخرة خلع السلطان على جينوس بن جاك متملك قبرس خلعة السفر‏.‏
ثم في يوم الثلاثاء عاشر جمادى الآخرة المذكورة أمسك السلطان الأمير تغري بردي المحمودي رأس نوبة النوب بعد فراغه من لعب الكرة بالحوش السلطاني فقبض على تغري بردي المذكور وهو بقماش لعب الكرة وقيد وأخرج من يومه إلى سجن الإسكندرية ولم يعلم أحد ذنبه عند السلطان حتى ولا تغري بردي المذكور فإني سألته فيما بعد فقال‏:‏ لا أعلم على ماذا أمسكت‏.‏
غير أن المقريزي ذكر أنه له ذنوب وأسباب في مسكه نذكرها بعد أن نذكر قصة مباشره‏.‏ واتفق في مسكه حادثة غريبة وهو أن رجلًا من مباشريه س يقال له ابن الشامية كان بخدمته فلما بلغه القبض عليه شق عليه ذلك وخرج إلى جهة القلعة ليسلم عليه فوافى نزوله من القلعة مقيدًا إلى الإسكندرية فصار يصيح ويبكي ويستغيث وهو ماش معه حتى وصل إلى ساحل النيل ووقف حتى أحدر أستاذه تغري بردي المحمودي في الحراقة إلى جهة الإسكندرية فلما عاين سفره اشتد صراخه إلى أن سقط ميتًا فحمل إلى داره وغسل وكفن ودفن‏.‏
ثم خلع السلطان على الأمير أركماس الظاهري باستقراره رأس نوبة النوب عوضًا عن تغري بردي المذكور وأنعم عليه بإقطاعه أيضًا وأنعم بإقطاع أركماس المذكور وتقدمته على الأمير قاني باي الأبوبكري الناصري المعروف بالبهلوان ثاني رأس نوبة وأنعم بطبلخاناه قاني باي على سودون ميق الأمير آخور الثاني وخلع على الأمير إينال العلائي الناصري باستقراره رأس نوبة ثانيا عوضًا عن قاني باي البهلوان المذكورة وإينال هذا هو الملك الأشرف إينال سلطان زماننا‏.‏
وأما ما وعدنا بذكره من قول المقريزي في سبب مسك تغري بردي المذكور قال‏:‏ وهذا المحمودي من جملة مماليك الملك الناصر فرج‏.‏ فلما قتل فرج خدم عند الأمير نوروز الحافظي بدمشق وصار له ميزة عنده فلما قتل نوروز سجنه الملك المؤيد شيخ بقلعة فما زال محبوسًا بها حتى تنكر المؤيد على الأمير برسباي الأمير الدقماقي نائب طرابلس وسجنه بالمرقب مع المحمودي وإينال الششماني فرأى تغري بردي المحمودي في ليلة من الليالي منامًا يدل على أن برسباي يتسلطن فأعلمه به فعاهده على أن يقدمه إذا تسلطن ولا يعترضه بمكروه‏.‏
فلما كان من سلطنة الملك الأشرف برسباي ما كان وتقدمته للمحمودي فيما مضى وتمادى الحال إلى أن بات بالقصر على عادته فقال لبعض من يثق به من المماليك ما تقدم من منامه بالمرقب وأنه وقع كما رأى وأنه أيضًا رأى منامًا يدل على أنه يتسلطن ولا بد فوشى ذلك المملوك به للسلطان فحرك منه كوامن منها أنه صار يقول‏:‏ لما حججنا أحضرت ابن عجلان ولما مضيت إلى قبرس أسرت ملكها أين كان الأشرف حتى يقال هذا بسعده والله ما كان هذا إلا بسعدي وتنقل كل ذلك إلى السلطان‏.‏ انتهى كلام المقريزي بتمامه‏.‏
ثم في يوم الاثنين أول شهر رجب قدم الخبر على السلطان بموت المنصور عبد الله ابن الملك الناصر أحمد صاحب اليمن وأن أخاه ملك وبعده ولقب بالأشرف إسماعيل‏.‏ ثم في يوم الاثنين ثامن شهر رجب قدم الأمير جارقطلو المعزول عن نيابة حلب إلى القاهرة وطلع إلى القلعة وقبل الأرض فخلع عليه السلطان باستقراره أمير مجلس عوضًا عن جرباش قاشق بحكم انتقال جرباش إلى طرابلس حسبما تقدم ذكره‏.‏
ثم في تاسع عشر رجب المذكور توجه الزيني عبد الباسط ناظر على الهجن إلى حلب لعمارة سورها ولغير ذلك من المهمات السلطانية بعده عدة خيول قبل ذلك بأيام‏.‏ ثم في يوم الخميس أول شهر رمضان فتح الجامع الذي أنشأه جاني بك الأشرفي الدوادار الثاني بالشارع الاعظم خارج باب زويلة القربيين وأقيم به الجمعة في يوم الجمعة ثانيه‏.‏
ثم في سابع عشر شهر رمضان المذكور قدم عبد الباسط إلى القاهرة حلب وطلع إلى القلعة وخلع السلطان عليه‏.‏ ثم في ثالث عشرينه طلع زين الدين عبد الباسط بهدية إلى السلطان فيها مائتا فرس وحلي كثير ما بين زركش ولؤلؤ وقماش مذهب برسم السلطان صوف وفرو وغيره‏.‏
ثم في عاشر ذي القعدة قدم الخبر على السلطان بأن قاضي قضاة دمشق نجم الدين عمر بن حجي وجد مذبوحًا على فراشه ببستانه بالنيرب خارج دمشق ولم يعرف قاتله واتهم الناس الشريف كاتب سر دمشق ابن الكشك وعبد الباسط بالممالأة على قتله وراحت على من راحت‏.‏
وكان ابن حجي المذكور من أهل دمشق وفضلائهم وقد تقدم من ذكره نبذة في ولايته ثم في رابع عشر ذي القعدة خلع السلطان على الأمير قاني باي البهلوان أحد مقدمي الألوف يمصر باستقراره في نيابة ملطية زيادة على ما بيده من إقطاع تقدمة ألف بديار مصر عوضًا عن أزدمر شايا المقئم ذكره لعجزه عن القيام بقتال التركمان وأعيد أزدمر شايا إلى إقطاعه بحلب كما كان أولًا‏.‏
ثم في يوم الاثنين سلخ ذي القعدة خلع السلطان على بهاء الدين محمد ابن الفاضي نجم الدين عمر بن حجي باستقراره قاضي قضاة دمشق عوضًا عن والده بحكم وفاته وولي بهاء الدين هذا القضاء قبل أن يستكمل عذاره‏.‏ ثم في سابع عشرين ذي الحجة قدم مبشر الحاج وأخبر بسلامة الحاج ورخاء الأسعار بمكة وأنه قرىء مرسوم السلطان بمكة المشرفة في الملأ بمنع الباعة من بسط البضائع أيام الموسم في المسجد الحرام ومن ضرب الناس الخيام بللمسجد المذكور على مصاطبه وأمامها ومن تحويل المنبر في يوم الجمعة والعيدين من مكانه إلى جانب الكعبة حتى يسند إليها فأمر أن يترك مكانه مسامتًا لمقام إبراهيم الخليل عليه السلام ويخطب الخطيب عليه هناك‏:‏ وأن تسد أبواب المسجد بعد انقضاء الموسم إلا أربعة أبواب من كل جهة باب واحد وأن تسد الأبواب الشارعة من البيوت إلى سطح المسجد فامتثل جميع ذلك‏.‏
قال المقريزي‏:‏ وأشبه هذا قول عبد الله بن عمر رضي الله عنه وقد سأله رجل عن دم البراغيث فقال‏:‏ عجبًا لكم يا أهل العراق تقتلون الحسين بن علي وتسألون عن البراغيث وذلك أن مكة استقرت دار مكس حتى إنه يوم عرفة قام المشاعلي والناس بذلك الموقف العظيم يسألون الله مغفرة ذنوبهم فنادى معاشر الناس كافة‏:‏ من اشترى بضاعة وسافر بها إلى غير القاهرة حل دمه وماله للسلطان فأخر التجار القادمون من الأقطار حتى ساروا مع الركب المصري على ما جرت به هذه العادة المستجدة منذ سنين لتؤخذ منهم مكوس بضائعهم ثم إذا ساروا من القاهرة إلى بلادهم من البصرة والكوفة والعراق أخذ منهم المكس ببلاد الشام وغيرها فهذا لا ينكر وتلك الأمور بعثنا بإنكارها‏.‏ انتهى كلام المقريزي‏.‏
قلت‏:‏ أنا لا أتابعه على ما أعاب وأبلق خير من أسود‏.‏ وكونه رسم برد التجار إلى الديار المصرية لتؤخذ منهم المكوس لايلزم أنه لايفعل معروفًا آخر‏.‏ وأما جميع ما أبطله ورسم بمنعه ففيه غاية الصلاح والتعظيم للبيت العتيق‏.‏ أما منع الباعة بالحرم فكان من أكبر المصالح والمعروف فإنه كان يقوم الشخص في طوافه وعبادته وأذنه ملأى من صياح الباعة والغوغاء من كثرة ازدحام الشراة‏.‏
وأما نصب الخيام فكان من أكبر القبائح ولعل الله تعالى يغفر للملك الأشرف جميع ذنوبه بإبطال ذلك من الحرم الشريف فإنه قيل إن بعض الناس كان إذا نصب خيامه بالمسجد الحرام نصب به أيضًا بيت الراحة وحفر له حفرة بالحرم وفي هذا كفاية‏.‏
وأما تحويل المنبر فإنه قيل للسلطان إن المنبر في غاية ما يكون من الثقل وأنه كلما ألصق بالبيت الشريف انزعج منه وتصدع فمنع بسبب ذلك وقد صار الآن يحول إلى القرب من البيت غير أنه لا يلصق به فحصلت المصلحة من الجهتين‏.‏
وأما غلق أبواب المسجد في غير أيام الموسم إلا أربعة فيعرف فائدة ذلك من جاوره بمكة ويطول الشرح في ذكر ما يتأتى من ذلك من المفاسد وإن كان فيه بعض مصلحة لسكان مكة‏.‏ انتهى‏.‏
ثم في رابع عشرين ذي الحجة قبض بالمدينة على أميرها الشريف خشرم بن دوغان بن جعفر بن هبة الله بن جماز بن منصور بن جماز فإنه لم يقم بالمبلغ الذي وعد به واستقر عوضه في إمرة المدينة الشريفة مانع بن علي بن عطية بن منصور بن جماز بن شيحة بن هاشم بن قاسم بن مهنا بن داود بن قاسم بن عبد الله بن طاهر بن يحيى بن الحسين بن جعفر بن الحسين بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه‏.‏
ثم في يوم الجمعة ثالث المحرم سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة قدم الحمل من جزيرة قبرس ومبلغه خمسون ألف دينار مشخصة فرسم السلطان بضربها دنانير أشرفية فضربت بقلعة الجبل والسلطان ينظر إليها إلى أن تمت‏.‏
ثم في يوم السبت حادي عشر المحرم المذكور ركب السلطان من قلعة الجبل بغير قماش الخدمة ونزل إلى دار الأمير جاني بك الأشرفي الدوادار الثاني بحدرة البقر ليعوده في مرضه‏.‏
ثم في يوم الأربعاء ثاني عشرينه قدم الركب الأول من الحاج وقدم المحمل من الغد ببقية الحاج ومعهم الشريف خشرم في الحديد وقدم معهم أيضًا الأمير بكتمر السعدي من المدينة وكان له بها من العام الماضي‏.‏
ثم في يوم الثلاثاء ثاني عشر صفر من سنة إحدى وثلاثين خلع السلطان على قاضي القضاة محب الدين أحمد بن نصر الله البغدادي الحنبلي وأعيد إلى قضاء الحنابلة بالديار المصرية بعد عزل قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز الحنبلي‏.‏
ولم يكن عزل عز الدين المذكور لسوء سيرته بل إنه سار في القضاء على طريق غير معتادة وهو أنه صار يمشي في الأسواق ويشتري ما يحتاجه بيده من الأسواق وإذا ركب أردف خلفه على بغلته عبده ويمر على هذه الهيئة بجميع شوارع القاهرة‏.‏
وكان كثير التردد إلي في كل وقت لأنه كان من جمله أصحاب الوالد فكان يأتي من المدرسة الصالحية ماشيًا ويجلس حيث انتهى به المجلس فلم يحسن ذلك ببال أعيان الدولة وحملوه على أنه يفعل ذلك تعمدًا ليقال وقالوا للسلطان وكان له إليه ميل زائد‏:‏ هذا مجنون‏.‏
ولا زالوا به حتى عزله وأعاد القاضي محب الدين‏.‏ ثم في يوم الثلاثاء تاسع عشر صفر المذكور ركب السلطان من القلعة بغير قماش الخدمة وقد صار ركوب السلطان بغير قماش الخدمة عادة وكان يقبح ذلك في سالف الأعصار وأول من فعل ذلك الملك الناصر فرج ثم المؤيد ثم الأشرف هذا‏.‏ انتهى‏.‏
وسار حتى شق القاهرة ودخل من باب زويلة وخرج من باب النصر إلى خليج الزعفران فرأى البستان الذي أنشأه هناك وعاد من خارج القاهرة على تربته التي عمرها بجوار تربة الملك الظاهر برقوق بالصحراء ثم سار حتى طلع إلى القلعة‏.‏
ثم في ليلة الجمعة‏.‏ سابع شهر ربيع الأول قرىء المولد النبوي بالحوش السلطاني من قلعة الجبل على العادة‏.‏ ثم في يوم الخميس ثالث عشر شهر ربيع الأول المذكور أنعم السلطان بإقطاع الأمير بكتمر السعدي على الأمير قجقار السيفي بكتمر جفق الزردكاش المعروف بجغتاي والإقطاع إمرة طبلخاناه بعد موت بكتمر السعدي‏.‏
وكان بكتمر من محاسن الدهمر معدودًا من أرباب الكمالات‏.‏ كان فقيهًا جنديًا شجاعًا عالمًا هنيًا قويًا عاقلًا مقدامًا عفيفًا لطيفًا لا أعلم في أبناء جنسه من يدانيه أو يقاريه في كثرة محاسنه‏.‏ صحبته سنين وانتفعت بفضله ومعرفته وأدبه‏.‏
وقد استوعبنا ترجمته في تاريخنا المنهل الصافي ويأتي ذكره أيضًا في الحوادث من هذا عقم النساء فما يلدن شبيهه إن النساء بمثله عقم ثم في آخر شهر ربيع الأول استقر تمرباي التمربغاوي الدوادار الثالث دوادارًا ثانيًا بعد موت الأمير جاني بك الأشرفي الدوادار ولم ينعم عليه بإمرة إلا بعد مدة طويلة أنعم عليه بإمرة عشرة‏.‏
وأما جاني بك فيأتي ذكره في الوفيات مطولًا إن شاء الله تعالى‏.‏ ثم في شهر ربيع الآخر من هذه السنة تشكى التجار الشاميون من حملهم البضائع التي يشترونها من بندر جدة إلى القاهرة فوقع الاتفاق على أن يؤخذ منهم بمكة عن كل حمل قل ثمنه أو كثر ثلاثة دنانير ونصف وأن يعفوا عن حمل ما يقبضونه من جدة إلى مصر فإذا حملوا ذلك إلى دمشق أخذ مكسها هناك على ما جرت به العادة وتم ذلك‏.‏
قال المقريزي‏:‏ وفي هذا الشهر يعني عن جمادى الأولى من سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة كانت الفتنة الكبيره بمدينة تعز من اليمن وذلك أن الملك الأشرف إسماعيل ابن الملك الأفضل عباس بن المجاهد علي بن المؤيد داود المظفر يوسف بن المنصور عمر بن علي بن رسول صاحب اليمن لما مات قام بعده ابنه الملك الناصر أحمد بن الأشرف إسماعيل وقام بعد الناصر أحمد الملك المنصور عبد الله في جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين وثمانماثة وفي جمادى الآخرة سنة ثلاثين وثمانمائة فأقيم بعده أخوه الملك الأشرف إسماعيل بن أحمد الناصر فتغيرت عليه نيات الجند كافة من أجل وزيره شرف الدين إسماعيل بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عمر العلوي فإنه أخر صرف جوامكهم ومرتباتهم فتغيرت منه القلوب وكثرت حساده لاستبداده على السلطان وانفراده بالتصرف دونهم وكان يليه في الرتبة الأمير شمس الدين علي بن الحسام ثم القاضي نور الدين علي المحالبي مشد الاستيفاء‏.‏
فلما اشتد الأمر على العسكر وكثرت إهانة الوزير لهم وإطراحه جانبهم ضاقت عليهم الأحوال حتى كادوا يموتوا جزعًا فائفق تجهيز خزانة من عدن وبرز الأمر بتوجه طائفة من العبيد والأتراك إليها لتلفيها فسألوا أن ينفق فيهم أربعة دراهم لكل واحد منهم يرتفق بها فامتنع الوزير ابن العلوي من ذلك وقال‏:‏ ليمضوا غصبًا إن كان غرض في الخدمة وحين وصول الخزانة يكون خيرًا وإلا ففسح الله لهم للدهر بهم حاجة والسلطان غني عنهم فهيج هذا القول خفاء بواطنهم وتحالف العبيد والترك على الفتك بالوزير وإثارة فتنة فبلغ الخبر السلطان فأعلم به الوزير فقال‏:‏ ما يسووا شيئًا بل نشق كل عشرة في موضع وهم أعجز من ذلك‏.‏
فلما كان يوم الخميس تاسع جمادى الأولى هذه قبيل المغرب هجم جماعة من العبيد والترك دار العدل بتعز وافترقوا أربع فرق‏:‏ فرقة دخلت من باب الدار وفرقة دخلت من باب السر وفرقة وقفت تحت الدار وفرقة أخذت بجانب آخر‏.‏ فخرج إليهم الأمير سنقر أمير جاندار فهبروه بالسيوف حتى هلك وقتلوا معه عليًا المحالبي مشد الدواوين وعدة رجال ثم طلعوا إلى الأشرف وقد اختفى بين نسائه وتزيا بزيهن فأخذوه ومضوا إلى الوزير العلوي فقال لهم‏:‏ ما لكم في قتلي فائدة أنا أنفق على العسكر نفقة شهرين فمضوا إلى الأمير شمس الدين علي بن الحسام فقبضوا عليه وقد اختفى وسجنوا الأشرف في طبقة المماليك ووكلوا به وسجنوا ابن العلوي الوزير وابن الحسام قريبًا من الأشرف ووكلوا بهما وقد قيدوا الجميع‏.‏
وصار كبير هذه الفتنة برقوق من جماعة الأتراك فصعد هو وجماعة ليخرج الملك الظاهر يحيى ابن الأشرف إسماعيل بن عباس من ثعبات فامتنع أمير البلد من الفتح ليلًا وبعث الظاهر إلى برقوق أن يمهل إلى الصبح فنزل برقوق ونادى في البلد بالأمان والاطمئنان والبيع والشراء وأن السلطان هو الملك الظاهر يحيى بن الأشرف‏.‏ هذا وقد نهب العسكر عند دخولهم دار العدل جميع ما في دار السطنة وأفحشوا في نهبهم فسلبوا الحريم ما عليهن وانتهكوا منهن ما حرم الله ولم يدع في الدار ما قيمته الدرهم الواحد‏.‏
فلما أصبح يوم الجمعة عاشره اجتمع بدار العدل الترك والعبيد وطلبوا بني زياد وبني السنبلي والخدام وسائر أمراء الدولة والأعيان‏.‏ فلما تكامل جمعهم وقع بينهم الكلام فيمن يقيمونه فقال بنو زياد‏:‏ وما ثم غير يحيى فاطلعوا له هذه الساعة‏.‏
فقام الأمير زين الدين جياش الكاملي والأمير برقوق وطلعا إلى ثعبات في جماعة من الخدام والأجناد فإذا الأبواب مغلقة فصاحوا بصاحب البلد حتى فتح لهم ودخلوا إلى القصر وسلموا على الظاهر يحيى بالسلطنة وسألوه أن ينزل معهم إلى دار العدل فقال‏:‏ حتى يصل العسكر أجمع‏.‏ ففكوا القيد من رجليه وطلبوا العسكر بأسرهم فطلعوا بأجمعهم وأطلعوا معهم بعشرة جنائب فتقدم الترك والعبيد وقالوا للظاهر‏:‏ لا نبايعك حتى تحلف لنا أنك لا يحدث علينا منك شيء بسبب هذه الفعلة ولا ما سبق قبلها فحلف لهم وهم يرددون عليه الأيمان وذلك بحضرة قاضي القضاة موفق الدين علي بن الناشري ثم حلفوا له على ما يحب ويختار‏.‏
فلما انقضى الحلف وتكامل العسكر ركب ونزل إلى دار العدل بأبهة السلطنة ودخلها بعد صلاة الجمعة فكان يومًا مشهودًا‏.‏ وعندما استقر بالدار أمر بإرسال ابن أخيه الأشرف إسماعيل إلى ثعبات فطلعوا به وقيدوه بالقيد الذي كان الطاهر يحيى مقيدًا به وسجنوه بالدار التي كان الظاهر مسجونًا بها‏.‏
ثم حمل بعد أيام إلى الدملوة ومعه أمه وجاريته وأنعم السلطان على أخيه الملك الأفضل عباس بما كان له وخلع عليه وجعله نائب السلطنة كما كان أول دولة الناصر وخمدت الفتنة‏.‏ وكان الذي حرك هذه الفتنة بنو زياد فقام أحمد بن محمد بن زياد الكاملي بأعباء هذه الفتنة لحنقه من الوزير ابن العلوي فإنه كان قد مالأ على قتل أخيه جياش وخذل عن الأخذ بثأره وصار يمتهن بني زياد‏.‏ ثم ألزم الوزير ابن العلوي وابن الحسام بحمل المال وعصرا على كعابهما وأصداغهما وربطا من تحت أبطيهما وعلقا منكسين وضربا بالشيب والعصي وهما يوردان المال فأخذ من ابن العلوي مابين نقد وعروض ثمانون ألف دينار ومن ابن الحسام مبلغ ثلاثين ألف دينار‏.‏
واستقر الأمير برقوق أمير جاندار‏.‏ واستقر الأمير بدر الدين محمد الشمسي أتابك العساكر‏.‏ واستقر ابنه العفيف أمير آخور‏.‏ ثم استقر الأمير بدر الدين المذكور أستادارًا وشرع في النفقة على العسكر‏.‏ وظهر من السلطان نبل وكرم وشهامة بحيث أطاعته العساكر بأجمعهم فإن له قوة وشجاعة حتى قيل إن قوسه يعجز من عندهم من الترك عن جره‏.‏ ومدحه الفقيه يحيى بن رويك بقصيدة أولها‏:‏ الوافر بدولة ملكنا يحيى اليماني بلغنا ما نريد من الأماني وعدة القصيدة واحد وأربعون بيتًا وأجيز عليها بألف دينار‏.‏ وبهذه الكائنة اختل ملك بني رسول من اليمن‏.‏ انتهى كلام المقريزي‏.‏
ولنرجع الى ما نحن بصدده من أحوال الملك الأشرف برسباي صاحب الترجمة‏.‏ ولما كان يوم الاثنين خامس جمادى الآخرة خلع السلطان على الأمير جارقطلو أمير مجلس باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية بعد موت الأمير الكبير يشبك الساقي الأعرج‏.‏ وكان يشبك الساقي المذكور من أفراد العالم وهو أحد من أدركناه من الملوك من أهل المعرفة والذوق والفضل والرأي والتدبير كما سنبينه في ترجمة وفاته من هذا الكتاب إن شاء الله‏.‏
ثم في يوم السبت عاشر جمادى الآخرة المذكورة كتب السلطان بإحضار جرباش الكريمي المعروف بقاشق نائب طرابلس ليستقر أمير مجلس على عادته أولًا عوضًا عن الأمير الكبير جارقطلو وكتب إلى الأمير الكبير طرباي الظاهري المقيم بالقدس بطالًا باستقراره في نيابة طرابلس‏.‏ ثم في يوم السبت أول شهر رجب عمل السلطان الخدمة بالإيوان بدار العدل من القلعة وأحضرت رسل مراد بك بن عثمان متملك برصا وأدرنابولي وغيرهما من ممالك الروم فكان موكبًا جليلًا أركب فيه الأمراء والمماليك السلطانية وأجناد الحلقة وغيرهم على عادة هيئة خدمة الإيوان من تلك الأشياء المهولة‏.‏
وقد بطل خدم الإيوان من أيام الملك الظاهر جقمق وذهب من كان يعرف ترتيبه حتى لو أراد أحد من الملوك أن يفعله لا يمكنه ذلك‏.‏ ثم في سابع شهر رجب المذكور خلع السلطان على القاضي الدين بن البارزي المعزول قبل تاريخه عن كتابة السر ثم عن نظر السر بالديار المصرية باستقراره في كتابة سر دمشق عوضًا عن بدر الدين حسين بحكم وفاته من غير سعي في ذلك بل طلبه السلطان وولاه‏.‏ وكان القاضي كمال الدين المذكور من يوم عزل من وظيفة نظر الجيش بعد كتابة السر ملازمًا على أجمل حالة وأحسن طريقة من الاشتغال بالعلم والوقار والسكينة وهو هيئة عمله من الحشم والخدم وبسط يديه بالإحسان لكل أحد وترداد الأكابر والأعيان والفضلاء إلى بابه‏.‏ وسافر في ثاني عشرينه‏.‏ ثم في حادي عشره أدير محمل الحاج على العادة في كل سنة‏.‏ ثم في ثالث عشرينه قدم الأمير جرباش الكريمي معزولًا عن نيابة طرابلس فخلع السلطان عليه باستقراره أمير مجلس على عادته أولًا‏.‏ كل ذلك والسلطان في قلق من جهة جاني بك الصوفي‏.‏ ثم في عشرين شعبان خلع السلطان على الأمير قانصوه النوروزي أمراء الطبلخانات باستقراره في نيابة طرسوس وأضيف إقطاعه إلى الديوان المفرد ثم في يوم الثلاثاء ثامن عشرين شوال أمسك السلطان الأمير قطج من تمراز أحد مقدمي الألوف بالديار المصرية ثم الأمير جرباش الكريمي قاشق أمير مجلس فحمل قطج في الحديد إلى الإسكندرية فسجن بها وأخرج جرباش الكريمي بغير قيد إلى ثغر دمياط بطالًا‏.‏
كل ذلك بسبب جاني بك الصوفي ولما تحدث السلطان نفسه بما ثم خلع السلطان على الأمير إينال العلائي الناصري رأس نوبة ثاني باستقراره في نيابة غزة عوضًا عن تمراز القرمشي بحكم قدوم تمراز للديار المصرية‏.‏ وأنعم السلطان بإقطاع إينال المذكور على الأمير تمرباي التمر بغاوي الدوادار الثاني‏.‏
ثم كتب بإحضار الأمير بيبغا المظفري من القدس وكان نقل إلى القدس من دمياط من نحو شهر واحد فقدم من القدس إلى القاهرة في يوم الخميس حادي عشرين ذي القعدة وطلع إلى القلعة وخلع السلطان عليه باستقراره أمير مجلس عوضًا عن جرباش الكريمي قاشق‏.‏ ومنزلة أمير مجلس في الجلوس عند السلطان يكون ثاني الميمنة تحت الأمير الكبير فلما ولي بيبغا هذا إمرة مجلس أجلسه السلطان على الميسرة فوق الأمير إينال الجكمي أمير سلاح لما سبق له من ولايته أتابكية العساكر بالديار المصرية قبل تاريخه فصار في الحقيقة رتبته أعظم من رتبة الأمير الكبير جارقطلو بجلوسه فوق أمير سلاح لأن الأمير الكبير لا يمكنه الجلوس فوق أمير سلاح إلا لضرورة‏.‏
وصار بيبغا هذا دائمًا جلوسه فوقه غير أن إقطاع الأمير الكبير أكثر متحصلًا من إقطاعه وأيضًا لالتفات السلطان إليه فإنه كان أكثر كلامه في الموكب السلطاني معه في كل تعلقات المملكة وليس ذلك لمحبته فيه غير أنه كان يداريه بذلك اتقاء فحشه‏.‏
وكان سبب القبض عليه أولًا أن السلطان شكا له بعض الأجناد من ظلم كاشف التراب فقال الملك الأشرف‏:‏ الكاشف ماله منفعة فبادره بيبغا هذا في الملأ وقال له‏:‏ أنت ما عملت كاشف ما تعرف فعظم ذلك على الأشرف وأسرها في نفسه ثم قبض عليه وكذا كان وقع لبيبغا المذكور مع الملك المؤيد حتى قبض عليه أيضًا وحبسه‏.‏ وكان هذا شأنه المغالظة مع الملوك في الكلام غير أنه كان مناصحًا للملوك ظاهرًا وباطنًا ولهذا كانت الملوك لاتبرح تغضب عليه ثم ترضى لعلمهم بسلامة باطنه‏.‏
وكان الملك الأشرف يمازحه في بعض الأحيان ويسلط عليه بعض الجراكسة بأن يزدري جنس التتار ويعظم الجراكسة فإذا سمع بيبغا ذلك سب القائل وهجر عليه وأخذ في تفضيل الأتراك على طائفة الجراكسة في الشجاعة والكرم والعظمة فيشير عليه بعض أمراء الأتراك بالكف عن ذلك فلا يلتفت ويمعن والملك الأشرف يضحك من ذلك ويساعده على غرضه حتى يسكت‏.‏
وقيل إنه جلس مرة في مجلس أنس مع جماعة من الأمراء فأخذ بيبغا في تعظيم ملك التتار جنكزخان وزاد وأمعن واخترق اختراقات عجيبة فقال له الأمير طقز الظاهري الجركسي‏:‏ وأيش هو جنكزخان فلما سمع بيبغا ذلك أخذ الطبر وأراد قتل طقز حقيقة وقال له‏:‏ كفرت فأعاقه الأمراء عنه حتى قام طقز من المجلس وراح إلى حال سبيله‏.‏
وقيل إنه لم يجتمع به بعد ذلك‏.‏ ومع هذا كله كان لجنونه طلاوة ولانحرافه حلاوة على أنه كان من عظماء الملوك وأحسنها طريقة‏.‏ ثم في يوم الخميس سادس ذي الحجة من سنة إحدى وثلاثين المذكورة أمسك السلطان الأمير أزبك المحمدي الدوادار الكبير وأخرجه من ليلته بطالًا إلى القدس بعد أن قبض السلطان على عدة من خاصكيته‏.‏
ولذلك أسباب أعظمها أمر جاني بك الصوفي وأشياء أخر منها‏:‏ أن في أواخر ذي القعدة بلغ السلطان أن جماعة من مماليكه وخاصكيته يريدون الفتك به وقتله ليلًا فقبض على جماعة منهم السيفي سنطباي الأشرفي وغيره في أيام متفرقة ونفى جماعة منهم إلى الشام وقوص بعد أن عاقب جماعة منهم فكثرت القالة في ذلك‏.‏
قيل إنه سأل بعضهم بأن قال‏:‏ لو قتلتموني من الذي تنصبونه بعدي في السلطنة فقالوا‏:‏ الأمير أزبك وقيل غير ذلك‏.‏ وأخذ السلطان في الاستعداد والحذر وسقط عليه أيضًا مرارًا سهام نشاب من أطباق المماليك السلطانية فهذا كان السبب لقبض أزبك وغيره‏.‏
وأنا أقول‏:‏ إن جميع ماوقع من مسك الأمراء وضرب جماعة من الخاصكية بالمقارع ونفي بعضهم إنما هو لسبب جاني بك الصوفي لاغير‏.‏ ثم في يوم السبت ثامنه خلع السلطان على الأمير أركماس الظاهري رأس نوبة النوب باستقراره دوادارًا كبيرًا عوضًا عن أزبك المذكور‏.‏
وخلع على الأمير تمراز القرمشي المعزول عن نيابة غزة باستقراره رأس نوبة وأنعم عليه بإقطاع أركماس المذكور‏.وأنعم بإقطاع تمراز الذي كان السلطان أنعم عليه به بعد مجيئه من غرة وهو تقدمة ألف أيضًا على الأمير يشبك السودوني شاد الشراب خاناه‏.‏ وأنعم بطبلخاناه يشبك السودوني على الأمير قرانجا الأشرفي الخازندار‏.‏
وخلع السلطان في هذه الأيام على صفي الدين جوهر السيفي قنقباي اللالا باستقراره خازندارًا عوضًا عن الأمير خشقدم الظاهري الرومي بحكم انتقاله زمامًا عوضًا عن الأمير كافور الشبلي الصرغتمشي الرومي بعد وفاته في السنة الماضية‏.‏
وكانت وظيفة الخازندارية شاغرة في يوم تاريخه والسلطان ينظر فيمن يوليه من الخدام من قدماء خدام الملوك فرشح مرجان خادم الوالد فخافه الخدام من شدة بأسه وحولوا الأشرف عنه‏.‏ وكان الطواشي جوهر الجلباني الحبشي لالا ابن السلطان له حنو وصحبة قديمة بجوهر هذا فكلم السلطان بسببه ونعته بالدين والعفة والعقل والتدبير ولا زال بالسلطان حتى طلبه وولاه الخازندارية دفعة واحدة فإنه كان من أصاغر الخدام لم تسبق له رئاسة قبل ذلك وإنما كان يعرف بين الخدام بأخي اللالا فنال جوهر هذا من الحرمة والوجاهة والاختصاص بالملك الأشرف ما لم ينله خادم قبله‏.‏ انتهى‏.‏
ثم في سابع عشرين ذي الحجة من سنة إحدى وثلاثين المذكورة قدم مبشر الحاج العراقي وأخبر بسلامة الحاج وأنه قدم محمل العراق في أربعمائة جمل جهزه السلطان حسين بن علي ابن السلطان أحمد بن أويس من الحلة‏.‏
وكان السلطان حسين هذا قد استولى على ششتر والحلة وصاهر العرب فقوي بأسه بهم وقاتل شاه محمد بن قرا يوسف صاحب بغداد وتم أسره بهذه البلاد المذكورة وجهز الحاج وكان له سنين قد انقطع لاستيلاء هذا الزنديق شاه محمد بن قرا يوسف على العراق فإنه كان محلول العقيمة لا يتدين بدين وقتل العلماء وأباد الناس وهو أحد أسباب خراب بغداد والعراق هو وأخوته كما سيأتي ذكره وذكر أقاربه في وفيات هذا الكتاب عند وفاتهم وذهاب روحهم الخبيثة اللعينة إلى جهنم وبئس المصير‏.‏
ثم في يوم الاثنين خامس عشر المحرم سنة اثنتين وثلانين وثمانمائة حدث مع غروب الشمس برق ورعد شديد متوال ثم مطر غزير خارج عن الحد وكان الوقت في أثناء فصل الخريف‏.‏
قتلة الخواجا نور الدين علي التبريزي العجمي المتوجه برسالة الحطي ملك الحبشة إلى ملوك الفرنج ولما كان يوم الثلاثاء رابع عشرين جمادى الأولى من سنة اثنتين وثلاثين وثمانمائة استدعى السلطان قضاة الشرع الشريف إلى بين يديه فاجتمعوا‏.‏
وندب السلطان قاضي القضاة شمس الدين محمدًا البساطي المالكي للكشف عن أمره وإمضاء حكم الله فيه وكان التبريزي مسجونًا فى سجن السلطان فنقله القاضي من سجن السلطان إلى سجنه وادعى عليه بالكفر وبأمور شنيعة وقامت عليه بينة معتبرة بذلك فحكم بإراقة دمه‏.‏ فشهر في يوم الأربعاء خامس عشرين جمادى الأولى المذكورة على جمل بالقاهرة ومصر وبولاق ونودي عليه‏:‏ هذا جزاء من يجلب السلاح إلى بلاد العدو ويلعب بالدينين وصار وهو راكب الجمل يتشاهد ويقرأ القرآن ويشهد الناس أنه باق على دين الإسلام والخلق صحبته أفواجًا ومن الناس من يبكي لبكائه وهم العامة الجهلة‏.‏
والذي أقوله في حقه‏:‏ إنه كان زنديقًا ضالًا مستخفًا بدين الإسلام‏.‏
ولا زالوا به إلى أن وصلوا إلى بين القصرين فأنزل عن الجمل وأقعد تحت شباك المدرسة الصالحية وضربت عنقه في الملأ من الخلائق التي لا يعلم عددها إلا الله تعالى‏.‏ فنسأل الله السلامة في الدين والموت على الإسلام‏.‏
وكان خبر هذا التبريزي أنه كان أولًا من جملة تجار الأعاجم بمصر وغيرها وكان يجول في البلاد بسبب المتجر على عادة التجار فاتفق أنه توجه إلى بلاد الحبشة فحصل له بها الربح الهائل المتضاعف‏.‏ وكان في نفسه قليل الدين مع جهل وإسراف فطلب الزيادة في المال فلم يرم بوصله إلى مراده إلا أن يتقرب إلى الحطي ملك الحبشة بالتحف‏.‏
فصار يأتيه بأشياء نادرة لطيفة من ذلك أنه صار يصنع له الصلبان من الذهب المرضع بالفصوص الثمينة ويحملها إليه غاية الاحترام والتعظيم كما هي عادة النصارى في تعظيمهم للصليب وأشياء هذه المقولة‏.‏ ثم ما كفاه ذلك حتى إنه صار يبتاع السلاح المثمن من الخوذ والسيوف الهائلة والزرديات والبكاتر بأغلى الأثمان ويتوجه بها إلى بلاد الحبشة وصار يهون عليهم أمر المسلمين ويعرفهم ما المسلمون فيه بكل ما تصل القدرة إليه فتقرب بذلك من الحطي حتى صار عنده بمنزلة عظيمة‏.‏
فعند ذلك ندبه الحطي بكتابه إلى ملوك الفرنج عندما بلغه أخذ قبرس وأسر ملكها جينوس يحثهم فيه على القيام معه لإزالة دين الإسلام وغزو المسلمين وإقامة الملة العيسوية ونصرتها وأنه يسير في بلاد الحبشة‏.‏ في البر بعساكره وأن الفرنج تسير في البحر بعساكرها في وقت معين إلى سواحل الإسلام وحمله مع ذلك مشافهات‏.‏
فخرج التبريزي هذا من بلاد الحطي بكتابه وبما حمله من المشافهات لموك الفرنج بعزم واجتهاد وسلك في مسيره من بلاد الحبشة البرية حتى صار من وراء الواحات ثم سلك من وراء الواحات إلى بلاد المغرب وركب منها البحر إلى بلاد الفرنج وأوصل إليهم كتاب الحطي وما معه من المشافهات ودعاهم للقيام مع الحطي في إزالة الإسلام وأهله واستحثهم في ذلك فأجابه غالبهم وأنعموا عليه بأشياء كثيرة فاستعمل بتلك البلاد عدة ثياب مخمل مذهبة باسم الحطي ورقمها بالصلبان فإنه شعارهم‏.‏
قلت‏:‏ لولا أنه داخلهم في كفرهم وشاركهم في مأكلهم ومشربهم طابت نفوسهم لإظهار أسرارهم عليه وكانوا يقولون‏:‏ هذا رجل مسلم يمكن أنه يتجسس أخبارنا وينقلها للمسلمين ليكونوا منا على حذر وربما أمسكوه بل وقتلوه بالكلية‏.‏ انتهى‏.‏
ثم خرج من بلاد الفرنج وسار في البحر حتى قدم الإسكندرية ومعه الثياب المذكورة ورهبان من رهبان الحبشة‏.‏ وكان له عدة عبيد فيهم رجل دين فنم عليه بما فعله ودلهم على ما معه من القماش وغيره فأحيط بمركبه وبجميع ما فيها فوجدوا بها ما قاله العبد المذكور فحمل هو والرهبان وجميع ما معه من القاهرة‏.‏ فسعى بمال كبير في إبقاء مهجته وساعده في ذلك ممن يتهم في دينه فلم يقبل السلطان ذلك وأمر به فحبس ثم قتل حسبما ذكرناه عليه من الله ما يستحقه انتهى‏.‏
ثم في يوم الخميس تاسع شهر رجب خلع السلطان على جلال الدين محمد ابن القاضي بدر الدين محمد بن مزهر باستقراره في وظيفة كتابة السر بالديار المصرية عوضًا عن والده بحكم وفاته وله من العمر دون العشرين سنة ولم يطر شاربه‏.‏ وخلع السلطان على القاضي شرف الدين أبي بكر بن سليمان سبط ابن العجمي المعروف بالأشقر أحد أعيان موقعي الدست باستقراره نائب كاتب السر ليقوم بأعباء الديوان عن هذا الشاب لعدم معرفته وقلة دربته بهذه الوظيفة‏.‏
وكانت ولاية جلال الدين المذكور لكتابة السر على حمل تسعين ألف دينار من تركة أبيه‏.‏ ثم في يوم الخميس ثالث عشرين شهر رجب المذكور قدم الأمير سودون من عبد الرحمن نائب الشام إلى القاهرة وصحبته القاضي كمال الدين محمد بن البارزي كاتب سر دمشق وطلعا إلى القلعة فخلع السلطان عليهما خلع الاستمرار‏.‏
واجتمع السلطان به غير مرة أعني بسودون من عبد الرحمن فكلمه سودون فيما يفعله مماليكه الجلبان بالمباشرين وغيرهم وخوفه عاقبة المماليك القرانيص من ذلك فقال له الملك الأشرف‏:‏ قد عجزت عن إصلاحهم ثم كشف رأسه ودعا عليهم بالفناء والموت غير مرة فقال له الأتابك جارقطلو‏:‏ ‏"‏ ضع فيهم السيف وأقم عوضهم وما دام رأسك تعيش فالمماليك كثير ومائة من القرانيص خير من ألف من هؤلاء الأجلاب ولولا حرمة السلطان لكان صغار عبيد القاهرة كفؤًا لهم‏.‏
وكان سبب ذلك أنهم صاروا يضربون مباشري الدولة وينهبون بيوتهم ووقع منهم في دوران المحمل في هذه السنة أمور شنيعة إلى الغاية وتقاتلوا مع العبيد حتى قتل بينهما جماعة وأشياء غير ذلك‏.‏ فمال السلطان إلى كلام تجار قطلو وأراد مسك جماعة كبيرة منهم ونفي آخرين وتفرقة جماعة أخر على الأمراء وقال‏:‏ أحسب أن مائة ألف دينار ما كانت ومتى حصل نفع المماليك المشتروات لأستاذهم أو لذريته‏.‏

فلما رأى الأمير بيبغا المظفري ميل السلطان لكلام جارقطلو أخذ في معارضته ورد كلامه فكان من جملة ما قاله‏:‏ والله لولا المماليك المشتروات ما أطاعك واحد منا وأشار بخروج جاني بك الصوفي من السجن واختفائه بالقاهرة وخل عنك كلام هذا وأمثاله وكان عبد الباسط مساعدًا لجارقطلو ثم التفت بيبغا وقال لعبد الباسط‏:‏ أنت تكون سببًا لزوال ملك هذا فعند ذلك أمسك الأشرف عما كان عزم عليه لعلمه بنصيحة بيبغا المظفري له‏.‏
وانفض المجلس بعد أن أمرهم السلطان بكتمان ما وقع عند السلطان من الكلام‏.‏ فلم يخف ذلك عن أحد وبلغ المماليك الأشرفية فتحلفوا لجارقطلو ولعبد الباسط ولسودون من عبد الرحمن‏.‏
فلما كان يوم الجمعة ثاني شعبان نزل المماليك الأشرفية من الأطباق إلى بيت الوزير كريم الدين بن كاتب المناخ ونهبوه لتأخر رواتبهم‏.‏ وسافر فيه الآمير سودون من عبد الرحمن إلى محل كفالته وكان السلطان أراد عزله وإبقاعه بمصر فوعد بخمسين ألف دينار حتى خلع عليه باستمراره فكلمه بعض أصحابه في ذلك فقال‏:‏ أحمل مائة ألف دينار ولا أقعد بمصر في تهديد الأجلاب‏.‏
ثم لما كان يوم الثلاثاء سادس شعبان ثارت الفتنة بين المماليك الجلبان وبين الأمير الكبير جارقطلو‏.‏
ابتداء الفتنة

أنه وقع بين بعض المماليك السلطانية وبين مماليك الأمير الكبير جارقطلو وضربت الجلبان بعض مماليك جارقطلو فأخذ المملوك يدافع عن نفسه ورد على بعضهم وكان شج بعض المماليك السلطانية‏.‏ فعند ذلك قامت قيامتهم وحرك ذلك ما كان عندهم من الكمين من أستاذهم جارقطلو فتجمعوا على المملوك المذكور وضربوه فهرب إلى بيت أستاذه واحتمى به‏.‏ فعادت المماليك إلى إخوتهم واتفقوا على جارقطلوا وترددوا إلى بابه غير مرة‏.‏
وباتت الناس على تخوف من وقوع الفتنة لوقوع هذه القضية‏.‏ وأصبحوا من الغد في جمع كثير من تحت القلعة وقد اتفقوا على قتل جارقطلو ومماليكه فماج الناس لذلك وأغلقوا الأسواق خشية من وقوع النهب وتزاحم الناس على شراء الخبز وأغلقت الدروب وانتشرت الزعر وأهل الفساد وتعوق مباشرو الدولة من النزول من القلعة إلى دورهم‏.‏
وأرسل السلطان إليهم جماعة بالكف عن ماهم فيه وهددهم إن لم يرجعوا فلم يلتفتوا إلى كلامه‏.‏ وساروا بأجمعهم إلى بيت الأمير الكبير جارقطلو وكان سكنه ببيت الأمير طاز بالشارع الأعظم عند حمام الفارقاني فأغلق جارقطلو بابه وأصعد مماليكه على طبلخاناته فوق باب داره ليمنعوا المماليك السلطانية من كسر الباب المذكور وإحراقه‏.‏
وتراموا بالنشاب وأقام الأجلاب يومهم كله مع كثرتهم لا يقدرون على الأمير الكبير جارقطلو ولا على مماليكه مع كثرة عددهم لعدم معرفتهم بالحروب ولقلة دربتهم وسلاحهم‏.‏
هذا والسلطان يرسل إليهم بالكف عما هم فيه وهم مصممون على ما هم فيه يومهم كله‏.‏ ووقع منهم أمور قبيحة في حق أستاذهم وغيره‏.‏ فلما وقع ذلك غضب السلطان غضبًا عظيمًا‏.‏ وأراد أن يوسع الأمراء في حق مماليكه فخوفه الأمراء سوء عاقبة ذلك فأخذ يكثر من الدعاء عليهم سرًا وجهرًا وباتوا على ذلك‏.‏ لما أصبحوا يوم الخميس ثامن شعبان استشار الملك الأشرف الأمراء في أمر مماليكه فأشاروا عليه بأن يرسل يطلب من الأمير الكبير جارقطلو المماليك الذين كانوا سببًا لقيام هذه الفتنة‏.‏
وكانت المماليك الجلبان لما رأوا في الأمس حالهم في إدبار أرسلوا يطلبون غرماءهم من مماليك جارقطلو من السلطان فلم يجبهم السلطان إلى ذلك‏.‏ فأرسل السلطان بعد ذلك للأمير الكبير يطلب مماليكه الذين كانوا في أول هذه الفتنة فأرسل إليه بجماعة منهم فأخذهم السلطان وضربهم ضربًا ليس بذاك ثم أمر بحبسهم‏.‏ ووافق ذلك عجز المماليك الجلبان عن قتال الأمير الكبير لعدم اجتماع كلمتهم ولفرار أكثرهم وطلوعهم إلى الطبقة فأذعنوا بالصلح وخمدت الفتنة ولله الحمد بعد أن كاد أمر هذه الوقعة أن يتسع إلى الغاية لأن غالب الأمراء شق عليهم ما وقع للأمير الكبير وقالوا‏:‏ إذا كان هذا يقع للأمير الكبير فنحن من باب أولى وأحق لأعظم من هذا‏.‏
وتنبه من كان عنده كمين من الملك الأشرف من المماليك المؤيدية شيخ وغيرهم وظهر للسطان لوايح من ذلك فاحتار بين مماليكه وأمرائه إلى أن وقع الصلح‏.‏ ومن يومئذ تغير خاطر جارقطلو من الملك الأشرف في الباطن مع خصوصيته بالأشرف حتى أبدى بعض ما كان عنده في سفرة آمد حسبما يأتي ذكره‏.‏
ثم ورد الخبر على السلطان بأن في خامس شعبان هذا ورد إلى ميناء الإسكندرية خمسة أغربة فيها مقاتلة الفرنج مشحونة بالسلاح وباتوا بها وقد استعد لهم المسلمون‏.‏ فلما أصبح النهار واقعوهم وقد أدركهم الزيني عبد القادر بن أبي الفرج الأستادار وكان مسافرًا بتروجة ومعه غالب عرب البحيرة نجدة للمسلمين‏.‏
لما كثر جمع المسلمين انهزم الفرنج وردوا من حيث أتوا في يوم الأحد حادي عشرة ولم يقتل من المسلمين سوى فارس واحد من جماعة ابن أبي الفرج‏.‏ قلت قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرًا وكفى الله المؤمنين القتال ‏"‏‏.‏
كل ذلك والسلطان مشغول بتجهيز تجريدة إلى بلاد الشرق‏.‏ فلما كان ثاني عشر شعبان المذكور أنفق السلطان في ثلاثمائة وتسعين مملوكًا من المماليك السلطانية لكل مملوك خمسين دينارًا وفي أربعة من أمراء الألوف وهم‏:‏ أركماس الظاهري الدوادار الكبير وقرقماس حاجب الحجاب وحسين بن أحمد المدعو تغري برمش البهسني ويشبك السودوني المعروف بالمشد لكل واحد الفي دينار‏.‏
وأنفق أيضًا في عدة من أمراء الطبلخانات والعشرات فبلغت نفقة الجميع نحو ثلاثين ألف دينار ورسم بسفرهم إلى الشام فسافروا في سابع عشرين شعبان المذكور‏.‏ ثم في يوم الجمعة رابع عشر شهر رمضان حملت جامكية المماليك السلطانية إلى القلعة لتنفق فيهم على العادة فامتنعوا من قبضها وطلبوا زيادة لكل واحد ستمائة درهم وصمموا على ذلك‏.‏
وترددت الرسل بينهم وبين السلطان إلى أن زيد في جوامك عدة منهم وسكن شرهم وأخذوا الجامكية في يوم الاثنين ثامن عشره‏.‏ ثم بعد ذلك وقع بين المماليك الجلبان وبين العبيد فتجمع السودان وقاتلوهم فقتل بينهم عدة وصاروا جمعين لكل جمع عصبية‏.‏ ثم في يوم الأربعاء تاسع ذي القعدة ورد الخبر على السلطان بأخذ الأمراء المتوجهين إلى جهة بلاد الشرق مدينة الرها من نواب قرايلك‏.‏
وكان من خبر ذلك أن العساكر المصرية لما سارت من القاهرة إلى جهة الشام لأخذ خرتبرت وقد مات متوليها ونازلها عسكر قرايلك صاحب آمد فلما وصلوا إلى مدينة حلب ورد عليهم الخبر بأخذ قرايلك قلعة خرتبرت وتحصينها وتسليمها لولده فأقاموا بحلب إلى أن ورد عليهم الأمير سودون من عبد الرحمن نائب الشام بعساكر دمشق ثم جميع نواب البلاد الشامية بعساكرها وتشاوروا في السير لها فأجمع رأيهم على المسير‏.‏
فمضوا بأجمعهم‏:‏ العسكر المصري والعسكر الشامي إلى جهة الرها فأتاهم بالبيرة كتاب أهل الرها بطلب الأمان وقد رغبوا في الطاعة فأمنوهم وكتبوا لهم كتابًا‏.‏ وساروا من البيرة وبين أيديهم مائتا فارس من عرب الطاعة كشافة فوصلت الكشافة المذكورون إلى الرها في شوال فوجدوا الأمير هابيل بن الأمير عثمان بن طرعلي المدعو قرايلك صاحب آمد قد وصل إليها ودخلها وحصنها وجمع فيها خلائق من أهل الضياع بمواشيهم وعيالهم وأموالهم فنزلوا عليها فرموهم بالنشاب من فوق أسوار المدينة‏.‏
فلما رأى هابيل قلة العرب برز إليهم في نحو ثلاثمائة رجل من عسكره وقاتلهم فثبتوا له وقاتلوه فقتل بين الفريقين جماعة والأكثر من العرب فأخذ هابيل رؤوسهم وعلقها على أسوار المدينة‏.‏ وبينما هم في ذلك أدركهم العسكر المصري والشامي ونزلوا على ظاهر الرها يوم الجمعة العشرين من شوال فوجدوا هابيل قد حصن المدينة وجعل جماعة من عساكره على أسوارها فلما قرب العسكر من سور مدينة الرها رماهم الرجال من أعلى السور بالنشاب والحجارة فتراجع العسكر عنهم ونزلوا بخيامهم إلى بعد الظهر‏.‏
فركبوا الجميع وأرسلوا إلى أهل الرها بالأمان وأنهم إن لم يكفوا عن القتال أخربوا المدينة فلم يلتفتوا إلى كلامهم ورموهم بالنشاب‏.‏ فاتفق العسكر حينئذ على الزحف وركبوا بأجمعهم وزحفوا على المدينة وجدوا في قتالها‏.‏
فلم يكن غير ساعة إلا وأخذوا المدينة وأستولوا عليها‏.‏ وتعلق أعيان البلد ومقاتلتها بالقلعة فانتشر العسكر وأتباعهم بالمدينة ينهبون ويأخذون ما وجدوا ويأسرون من ظفروا به وأمعنوا في ذلك حتى خرجوا عن الحد‏.‏
وأصبحوا يوم السبت جدوا في حصار القلعة وأرسلوا إلى من بها بالأمان فلم يقبلوا واستمروا بالرمي بالنشاب والحجارة وغير ذلك‏.‏ ونصبوا على القلعة المكاحل والمدافع وأخذوا في النقوب وباتوا ليلة الأحد على ذلك‏.‏
وأصبحوا يوم الأحد على ما هم عليه من القتال والحصار إلى وقت الضحى فضعف أمر من بالقلعة بعد قتال شديد وطلبوا الأمان فكفوا عند ذلك عن قتالهم‏.‏ ونزلت رسلهم إلى الأمير سودون من عبد الرحمن نائب الشام وهو مقدم العساكر وكلموهم في نزولهم وتسليمهم القلعة وحلفوه هو والأمير قصروه نائب حلب على أنهم لا يؤذونهم ولا يقتلون أحدًا منهم فركنوا إلى أيمانهم‏.‏
ونزل الأمير هابيل بن قرايلك ومعه تسعة من أعيان أمراء أبيه في وقت الظهر من يوم الأحد ثاني عشرين شوال المذكور فتسلمه الأمير أركماس الظاهري الدوادار الكبير‏.‏ وركب الأمير سودون من عبد الرحمن ومعه بقية النواب إلى القلعة ليتسلموها فوجدوا المماليك السلطانية قد وقفوا على باب القلعة ليدخلوا إليها فكلمهم النواب في عدم دخولهم وقالوا لهم‏:‏ نحن أعطيناهم أمانًا ومنعوهم من الدخول إليها فأفحشوا في الرد على النواب فراجعوهم في ذلك فهم المماليك بقتالهم وهاجموا القلعة بغير رضا النواب والأمراء ودخلوها‏.‏
فشق ذلك على النواب وعادوا إلى مخيمهم‏.‏ فمد المماليك أيديهم هم والتركمان والأعراب والغلمان في النهب والسبي حتى نهبوا جميع ما كان بالقلعة وأسروا النساء والصبيان وأفحشوا بها إلى الغاية‏.‏
ثم ألقوا النار فيها فأحرقوها بعدما أخلوها من جميع ما كان فيها وقتلوا من كان بها وبالمدينة ثم أخربوا المدينة وألقوا النار فيها فاحترقت واحترق في الحريق جماعة من النسوة فإنهن اختفين في الأماكن من البلد خوفًا من العسكر فلما احترقت المدينة احترقن الجميع في النار التي أضرمت بسكك المدينة وخباياها واحترق أيضًا معهن عدة كبيرة من أولادهن‏.‏ هذا بعد أن أسرفوا في القتل بحيث إنه كان الطريق قد ضاق من كثرة القتلى‏.‏
وفي الجملة فقد فعلوا بمدينة الرها فعل التمرلنكيين وزيادة من القتل والأسر والإحراق والفجور بالنساء فما شاء الله كان‏.‏ ثم رحلوا من الغد في يوم الاثنين ثالث عشرينه وأيديهم قد امتلأت من النهب والسبي فقطعت منهم عدة نساء من التعب فمتن عطشًا وبيعت منهن بحلب وغيرها عدة كبيرة‏.‏
قال المقريزي‏:‏ وكانت هذه الكائنة من مصيبات الدهر‏:‏ الوافر وكنا نستطب إذا مرضنا فجاء الداء من قبل الطبيب أفأما بالعهد من قدم لقد عهدنا ملك مصر إذا بلغه عن أحد من ملوك الأقطار قد فعل ما لا يجوز أو فعل ذلك رعيته بعث ينكر عليه ويهدمه فصرنا نحن نأتي من الحرام بأشنعه ومن القبيح بأفظعه وإلى الله المشتكى انتهى كلام المقريزي‏.‏
قلت‏:‏ لم يكن ما وقع من هؤلاء الغوغاء بإرادة الملك الأشرف ولا عن أمره ولا عن حضوره‏.‏
وقد تقدم أن نواب البلاد الشامية وأكابر الأمراء منعوهم من دخول القلعة بالجملة فلم يقدروا على ذلك لكثرة من كان اجتمع بالعسكر من التركمان والعرب النهابة كما هي عادة العساكر‏.‏ وإن كان كون الأشرف جهز العسكر إلى جهة الرها فهذا أمر وقع فيه كل أحد من ملوك الأقطار قديمًا وحديثًا ولا زالت الملوك على ذلك من مبدأ الزمان إلى آخره معروف ذلك عند كل أحد‏.‏ انتهى‏.‏
ثم في ليلة الخميس ثامن ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين المذكورة قدم السيد الشريف شهاب الدين أحمد بن علي بن إبراهيم بن عدنان الحسيني من دمشق بطلب من السلطان بعد أن خرج أكابر الدولة إلى لقائه واستمر بالقاهرة إلى يوم الخميس خامس عشر ذي الحجة فخلع السلطان عليه باستقراره كاتب السر الشريف بالديار المصرية عوضًا عن جلال الدين محمد بن مزهر بحكم عزله وعملت الطرحة خضراء برقمات ذهب فكان له موكب جليل إلى الغاية‏.‏

ثم في يوم الجمعة سادس عشره خلع السلطان على جلال الدين محمد بن مزهر المقدم ذكره واستقر في توقيع المقام الناصري محمد ابن السلطان‏.‏ ثم في يوم السبت رابع عشرينه قدم القاهرة الأمير هابيل بن قرايلك المقبوض عليه من الرها ومعه جماعة في الحديد فشهروا بالقاهرة إلى القلعة وسجنوا بها‏.‏
وقد تخلف العسكر المصري بحلب وفي هذه السنة كان خراب مدينة تبريز وسبب ذلك أن صاحبها إسكندر بن قرا يوسف بن قرا محمد بن بيرم خجا التركماني زحف على مدينة السلطانية وقتل متملكها من جهة القان شاه رخ بن تيمورلنك في عدة من أعيان المدينة ونهب السلطانية وأفسد بها غاية الإفساد‏.‏
فسار إليه شاه رخ في جموع كثيرة فخرج إسكندر من تبريز وجمع لحربه ولقيه وقد نزل خارج تبريز‏.‏ فانتدب شاه رخ لمحاربة إسكندر المذكور الأمير عثمان بن طر علي المدعو قرايلك صاحب آمد وقد أمده شاه رخ بعسكر كثيف وقاتله خارج تبريز في الجمعة سادس عشر ذي الحجة قتالًا شديدًا قتل فيه كثير من الفئتين إلى أن كانت الكسرة على إسكندر وجماعته وانهزم وهم في أثره يطلبونه ثلاثة أيام ففاتهم إسكندر‏.‏
فنهبت الجغتاي عامة بلاد أذربيجان وكرسي أذربيجان تبريز وقتلوا وسبوا وأسروا وفعلوا أفاعيل أصحابهم من أعوان تيمور حتى لم يدعوا بها ما تراه العين‏.‏ ثم ألزم شاه رخ أهل تبريز بمال كبير ثم جلاهم بأجمعهم إلى سمرقند فما ترك في تبريز إلا ضعيفًا أو عاجزًا لا خير فيه‏.‏ ثم بعد مدة طويلة رحل جهة بلاده‏.‏ وبعد رحيله انتشرت الأكراد بتلك النواحي تعبث وتفسد حتى فقدت الأقوات وبيع لحم الكلب الرطل بعدة دنانير‏.‏
قلت‏:‏ وقد تكرر قتال إسكندر هذا لشاه رخ المذكور غير مرة وهو في وقعة تكون الكسرة والذلة عليه وهو لا يرعوي ولا يستحي ولا يرجع عن جهله وغيه‏.‏ وقد نسبه بعض الناس للشجاعة لكثرة مواقعته مع شاه رخ المذكور أقول‏:‏ ليس ذلك من الشجاعة إنما هو من قلة مروءته وإفراط جهله وسخفه وجنونه وعدم إشفاقه على رعيته وبلاده حيث يقاتل من لا قبل له به ولا طاقة بدفعه فهذا هو الجنون بعينه وإن طاب له من هذا الكحل فليكتحل‏.‏
إسكندر فإنه بعد هزيمته جال في البلاد وتشتت شمله وتبددت عساكره وسار بلاد الأكراد وقد وقع بها الثلوج ثم سار إلى قلعة سلماس فحصره الأكراد وقاسى شدائد إلى أن نجا منها بنفسه وسار إلى جهة من الجهات انتهى‏.‏

الأحد رابع عشرين المحرم سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة
قدم إلى القاهرة رسول ملك الشرق شاه رخ بن تيمورلنك بكتابه يطلب فيه شرح البخاري للحافظ شهاب الدين أحمد بن حجر وتاريخ الشيخ تقي الدين المقريزي المسمى بالسلوك لدول الملوك ويعرض أيضًا في كتابه بأنه يريد أن يكسو الكعبة ويجري العيش بمكة فلم يلتفت السلطان إلى كتابه ولا إلى رسوله وكتب له بالمنع في كل ما طلبه‏.‏
ثم في يوم الخميس سادس عشرين صفر خلع السلطان على قاضي القضاة علم الدين صالح البلقييي وأعيد إلى قضاء الشافعية بعد عزل الحافظ شهاب الدين بن حجر‏.‏ وخلع أيضًا على القاضي زين الدين عبد الرحمن التفهني وأعيد أيضًا إلى قضاء الحنفية بعد عزل قاضي القضاة بدر الدين محمود العيني‏.‏ واستقر القاضي صدر الدين أحمد بن العجمي في مشيخة خانقاه شيخون عوضًا عن التفهني وخلع عليه في يوم الاثنين أول شهر ربيع الأول‏.‏
ثم في يوم الثلاثاء سلخ شهر ربيع الأول المذكور خلع السلطان على القاضي سعد الدين إبراهيم ابن القاضي كريم الدين عبد الكريم بن سعد الدين بركة المعروف بابن كاتب جكم باستقراره ناظر الخواص الشريفة بعد موت والده‏.‏ ثم في يوم السبت رابع شهر ربيع الآخر خلع السلطان على قاضي القضاة بدر الدين محمود العييي المقذم ذكره باستقراره في حسبة القاهرة عوضًا عن الأمير إينال الششماني مضافًا لما معه من نظر الأحباس‏.‏
ثم في يوم الخميس تاسع شهر ربيع الآخر المذكور خلع السلطان على الأمير شهاب الدين أحمد الدوادار المعروف بابن الأقطع وقد صار قبل تاريخه زردكاشًا باستقراره في نيابة الإسكندرية عوضًا عن آقبغا التمرازي بحكم عزله وقدومه إلى القاهرة على إمرته فإنه كان ولي نيابه إسكندرية على إقطاعه‏:‏ تقدمة ألف بالديار المصرية‏.‏
ثم في خامس عشرينه خلع السلطان على آقبغا الجمالي الكاشف باستقراره أستادارًا بعد عزل الزيني عبد القادر بن أبي الفرج على أن آقبغا يحمل مائة ألف دينار بعد تكفية الديوان فكذب وتخومل وعزل بعد مدة يسيرة حسبما نذكر وكان أصل آقبغا هذا من الأوباش من مماليك الأمير كمشبغا الجمالي أحد أمراء الطبلخانات وصار يتردد إلى إقطاع أستاذه كمشبغا المذكور ثم خدم بلاصيًا عند الكشاف ثم ترقى حتى ولي الكشف في دولة الملك الأشرف هذا وأثرى وكثر ماله فحسن له شيطانه أن يكون أستادارًا وأخذ يسعى في ذلك سنين إلى أن سمح له الملك الأشرف بذلك وتولى الأستادارية وأستاذه الأمير كمشبغا الجمالي في قيد الحياة من جملة أمراء الطبلخانات فلم تحسن سيرته وعزل بعد مدة‏.‏

الطاعــــــون يجتاح مصر
وفي هذا الشهر وقع الطاعون بإقليم البحيرة والغربية بحيث إنه أحصي من مات من أهل المحلة زيادة على خمسة آلاف إنسان‏.
وكان الطاعون أيضًا قد وقع بغزة والقدس وصفد ودمشق من شعبان في السنة الخالية واستمر إلى هذا الوقت وعد ذلك من النوادر لأن الوقت كان شتاء ولم يعهد وقوع الطاعون في فصل الربيع‏.‏ ويعلل الحكماء ذلك بأنه سيلان الأخلاط في فصل الربيع وجمودها في الشتاء فوقع في هذه السنة بخلاف ذلك‏.‏ وكان قدم الخبر بوقوع الطاعون بمدينة برصا من بلاد الروم وأنه زاد عدة من يموت بها في يوم على ألف وخمسمائة إنسان‏.‏
ثم بدأ الطاعون بالديار المصرية في أوائل ربيع الأخر‏.‏ قلت‏:‏ وهذا الطاعون هو الفناء العظيم الذي حصل بالديار المصرية وأعمالها في سنة ثلاث وثلاثين المذكورة‏.‏
ثم في يوم الخميس أول جمادى الأولى نودي بالقاهرة بصيام ثلاثة أيام وأن يتوبوا إلى الله تعالى من معاصيهم وأن يخرجوا من المظالم ثم إنهم يخرجون في يوم الأحد رابع جمادى الأولى المذكور إلى الصحراء‏.‏
فلما كان يوم الأحد رابعه خرج قاضي القضاة علم الدين صالح البلقيني في جمع موفور إلى الصحراء خارج القاهرة وجلس بجانب تربة الملك الظاهر برقوق ووعظ الناس فكثر ضجيج الناس وبكاؤهم في دعائهم وتضرعهم ثم انفضوا‏.‏ فتزايدت عدة الأموات في هذا اليوم عما كانت في أمسه‏.‏ ثم في ثامن جمادى الأول هذا قدم كتاب إسكندر بن قرا يوسف صاحب تبريز أنه قدم إلى بلاده وقصده أن يمشي بعد انقضاء الشتاء لمحاربة قرايلك فلم يلتفت السلطان إلى كتابه لشغله بموت مماليكه وغيرهم بالطاعون‏.‏ ثم ورد كتاب قرايلك أيضًا على السلطان يسأل فيه العفو عن ولده هابيل وإطلاقه فلم يسمح له السلطان بذلك‏.‏ ثم عظم الوباء في هذا الشهر وأخذ يتزايد في كل يوم‏.‏ ثم ورد الخبر أيضًا أنه ضبط من مات من النحريرية بالوجه البحري إلى يوم تاريخه تسعة آلاف سوى من لم يعرف وهم كثير جدًا وأنه بلغ عدة الأموات في الإسكندرية في كل يوم نحو المائة وأنه شمل الوباء غالب الأقاليم بالوجه البحري‏.‏
ثم وجد في هذا الشهر بنيل مصر والبرك كثير من السمك والتماسيح قد طفت على وجه الماء ميتة واصطيدت سمكة تسمى بنية كبيرة فإذا هي كأنما صبغت بدم من شدة ما بها من الاحمرار‏.‏ ثم وجد في البرية مابين السويس والقاهرة عدة كبيرة من الظباء والذئاب موتى‏.‏
ثم قدم الخبر بوقوع الوباء أيضًا ببلاد الفرنج‏.‏ ثم في يوم الخميس سلخه ضبطت عدة الأموات التي صلي عليها بمصليات القاهرة وظواهرها فبلغت ألفين ومائة ولم يرد منها في أوراق الديوان غير أربعمائة ونيف وببولاق سبعين‏.‏
وفشا الطاعون في الناس وكثر بحيث إن ثمانية عشر إنسانًا من صيادي السمك كانوا في موضع واحد فمات منهم في يوم واحد أربعة عشر ومضى الأربعة ليجهزوهم إلى القبور فمات منهم وهم مشاة ثلاثة فقام الواحد بشأن الجميع حتى أوصلهم إلى القبور فمات هو أيضًا قاله الشيخ تقي الدين المقريزي في تاريخه ثم قال أيضًا‏:‏ وركب أربعون رجلًا في مركب وساروا من مدينة مصر نحو بلاد الصعيد فماتوا بأجمعهم قبل وصولهم إلى الميمون‏.‏ ومرت امرأة من مصر تريد القاهرة وهي راكبة على حمار مكاري فماتت وهي راكبة وصارت ملقاة بالطريق يومها كله حتى بدأ يتغير ريحها فدفنت ولم يعرف لها أهل‏.‏
وكان الإنسان إذا مات تغير ريحه سريعًا مع شدة البرد‏.‏ وشنع الموت بخانقاه سرياقوس حتى بلغت العدة في كل يوم نحو المائتين‏.‏ وكثر أيضًا بالمنوقية والقليوبية حتى كان يموت في الكفر الواحد ستمائة إنسان‏.‏ قلت‏:‏ والذي رأيته أنا في هذا الوباء أن بيوتًا كثيرة خلت من سكانها مع كثرة عددهم وأن الإقطاع الواحد كان ينتقل في مدة قليلة عن ثلاثة أجناد وأربعة وخمسة‏.‏
ومات من مماليك الوالد رحمه الله في يوم واحد أربعة من أعيان الخاصكية وهم‏:‏ أزدمر الساقي وملج السلاح دار وبيبرس الخاصكي ويوسف الرماح ماتوا الجميع في يوم واحد فتحيرنا بمن نبدأ بتجهيزه ودفنه على اختلاف سكناهم وقلة التوابيت والدكك وبالله لم أشهد منهم غير يوسف الرماح وأرسلت لمن بقي غيري مع أن كل واحد منهم أهل لنزول السلطان للصلاة عليه‏.‏
ثم أصبح من الغد مات سنقر دوادار الوالد الثاني وكان من أكابر الخاصكية من الدولة المؤيدية‏.‏ هذا خلاف من مات منهم من الجمدارية ومن مماليك الأمراء‏.‏ وأما من مات من عندنا من المماليك والعبيد والجواري والخدم فلا يدخل تحت حصر‏.‏
ومات من إخوتي وأولادهم سبعة أنفس ما بين ذكور وإناث وأعظمهم أخي إسماعيل فإنه مات وسنه نحو العشرين سنة قال المقريزي‏:‏ ثم تزايدت عدة الأموات عما كانت فأحصي في يوم الاثنين رابع جمادى الآخرة من خرج عن أبواب القاهرة فبلغت عدتهم ألفًا ومائتي ميت سوى من خرج عن القاهرة من أهل الحكور والحسينية وبولاق والصليبة ومدينة مصر والقرافتين والصحراء وهم أكثر من ذلك‏.‏ ولم يورد بديوان المواريث بالقاهرة سوى ثلاثمائة وتسعين وذلك أن أناسًا عملوا التوابيت للسبيل فصار أكثر الناس يحملون موتاهم عليها ولا يوردون الديون أسماءهم‏.‏
قال‏:‏ وفي هذه الأيام ارتفعت أسعار الثياب التي يكفن بها الأموات وارتفع سعر سائر ما يحتاج إليه المرضى كالسكر وبزر الرجلة والكمثرى على أن القليل من المرضى هو الذي يعالج بالأدوية بل بعضهم يموت موتًا سريعًا في ساعة وأقل منها‏.‏ وعظم الوباء في المماليك السلطانية سكان الطباق بالقلعة الذين كثر فسادهم وشرهم وعظم عتوهم وضرهم بحيث إنه كان يصبح منهم أربعمائة وخمسون مملوكًا مرضى فيموت منهم في اليوم زيادة على الخمسين مملوكًا‏.‏ انتهى كلام المقريزي‏.‏
قلت‏:‏ والذي رأيته أنا أنه مات بعض أعيان الأمراء مقدمي الألوف فلم يقدروا له على تابوت حتى أخذ له تابوت من السبيل‏.‏ وأما الأخ رحمه الله فإنه لما توفي إلى رحمة الله تعالى وجدنا له تابوتًا غير أنه لا عدة فيه فلما وضع الأخ فيه طرح عليه سلاري سمور من قماشه على أن الغاسل أخذ من عليه قماشًا يساوي عشرة آلاف درهم ومع هذا لم ينهض أهل الحانوت بكسوة تابوته‏.‏
وبلغ عدة من صلي عليه من الأموات بمصلى باب النصر في يوم الأحد عاشر جمادى الآخرة خمسمائة وخمسة وقد أقام هناك جماعة كبيرة بأدويه وأقلام لضبط ذلك‏.‏ وبطلت الصلاة بالمصلاة وإنما صار الناس يصلون على أمواتهم صفًا واحدًا من باب االمصلى إلى تجاه باب دار الحاجب فكان يصلى على الأربعين والخمسين معًا دفعة واحدة‏.‏ ومات لشخص بخدمتنا يسمى شمس الدين الذهبي ولد فخرجنا معه إلى المصلى وكان سن الميت دون سبع سنين فلما أن وضعناه للصلاة عليه بين الأموات جيء بعدة كبيرة أخرى إلى أن تجاوز عددهم الحد ثم صلي على الجميع‏.‏
وتقدمنا لأخذ الميت المذكور فوجدنا غيرنا أخذه وتبرك لنا غيره في مقدار عمره فأخذه أهله ولم يفطنوا به ففهمت أنا ذلك وعرفت جماعة أخر ولم نعلم أباه بذلك وقلنا لعل الذي أخذه يواريه أحسن مواراة وليس للكلام في ذلك فائدة غير زيادة في الحزن‏.‏ فلما دفن الصبي وأخذ أهل الحانوت التابوت صاحوا وقالوا‏:‏ ليس هذا تابوتنا هذا عتيق وقماشه أيضًا خلق‏.‏ فأشرت إليهم بالسكات وهددهم بعض المماليك بالضرب فأخذوه ومضوا فكانت هذه الواقعة من الغرائب المهولة‏.‏ كل ذلك والطاعون في زيادة ونمو حتى أيقن كل أحد أنه هالك لا محالة‏.‏
وكنا نخرج من صلاة الجمعة إلى بيتنا وقد وقف جماعة من الأصحاب والخدم فنتعادد إلى الجمعة الثانية فينقص منا عدة كبيرة ما بين ميت ومريض‏.‏ واستسلم كل أحد للموت وطابت نفسه لذلك وقد أوصى وتاب وأناب ورجع عن أشياء كثيرة‏.‏
وصار غالب الشباب في يد كل واحد منهم سبحة وليس له دأب إلا التوجه للمصلاة للصلاة على الأموات وأداء الخمس والبكاء والتوجه إلى الله تعالى والتخشع وماتت عندنا وصيفة مولدة بعد أن مرضت من ضحى النهار إلى أن ماتت قبل المغرب فأصبحنا وقد عجز الخدم عن تحصيل تابوت لها فتولت تغسيلها أمها وجماعة من العجائز وكفنوها في أفخر ثيابها على أحسن وجه غير أننا لم نلق لها نعشًا‏.‏ وقد ألزمني التوجه للصلاة على الأمير الكبير بيبغا المظفري وعلى الشهابي أحمد بن الأمير تمراز النائب فوقفت على الباب والميتة محمولة على أيدي بعض الخدم إلى أن اجتازت بنا جنازة امرأة فأنزلت التابوت غصبًا ووضعتها عند الميتة واشتالتا على أعناق الرجال وسارت أمها وبعض الخدم معها إلى أن قاربت التربة فأخذوها من التابوت ودفنوها‏.‏
ثم بلغ في جمادى الأخرة المذكورة عدة من صلي عليه بمصلاة باب النصر فقط في يوم واحد زيادة على ثمانمائة ميت‏.‏ ثم في اليوم المذكور بلغ عدة من خرج من الأموات من سائر أبواب القاهرة اثني عشر ألفًا وثلاثمائة ميت محرره من الكتبة الحسبة بأمر شخص من أكابر الدولة وقيل بأمر السلطان‏.‏
ثم بلغ عدة من صلي عليه بمصلاه باب النصر من الأموات في العشر الأوسط من جمادى الأخرة المذكورة ألفًا ونيفًا وثلاثين إنسانًا ويقارب ذلك مصلاة المؤمني بالرميلة فيكون على هذا الحساب مات في هذا اليوم نحو خمسة عشر ألف إنسان‏.‏
قال المقريزي‏:‏ واتفق في هذا الوباء غرائب منها‏:‏ أنه كان بالقرافة الكبرى والقرافة الصغرى من السودان نحو ثلاثة آلاف إنسان ما بين رجل وامرأة وصغير وكبير ففنوا بالطاعون حتى لم يبق منهم إلا القليل ففروا إلى أعلى الجبل وباتوا ليلتهم سهارًا لا يأخذهم نوم لشدة ما نزل بهم من فقد أهليهم وظلوا يومهم من الغد بالجبل فلما كانت الليلة الثانية مات منهم ثلاثون إنسانًا وأصبحوا فإلى أن يأخذوا في دفنهم مات منهم ثمانية عشر‏.‏ قال‏:‏ واتفق أن إقطاعًا بالحلقة تنقل في أيام قليلة إلى تسعة نفر وكل منهم يموت‏.‏ ومن كثرة الشغل بالمرضى والأموات تعطلت الأسواق من البيع والشراء وتزايد ازدحام الناس في طلب الأكفان والنعوش فحملت الأموات على الألواح وعلى الأقفاص وعلى الأيدي‏.‏
وعجز الناس عن دفن أمواتهم فصاروا يبيتون بها في المقابر والحفارون طول ليلتهم يحفرون‏.‏ وعملوا حفائر كبيرة بلغ في الحفرة منها عدة أموات‏.‏ وأكلت الكلاب كثيرًا من أطراف الأموات‏.‏ وصار الناس ليلهم كله يسعون في طلب الغسال والحمالين والأكفان وترى النعوش في الشوارع كأنها قطارات جمال لكثرتها متواصلة بعضها في إثر بعض‏.‏ انتهى كلام المقريزي‏.‏
ثم في يوم الجمعة خامس عشر جمادى الآخرة المذكورة جمع الشريف شهاب الدين أحمد كاتب السر بالديار المصرية بأمر السلطان أربعين شريفًا اسم كل شريف منهم محمد وفرق فيهم من ماله خمسة آلاف درهم وأجلسهم بالجامع الأزهر فقرأوا ما تيسر من القرآن الكريم بعد صلاة الجمعة ثم قاموا هم والناس على أرجلهم ودعوا الله تعالى وقد غص الجامع بالناس فلم يزالوا يدعون الله حتى دخل وقت العصر فصعد الأربعون شريفًا إلى سطح الجامع وأذنوا جميعًا ثم نزلوا وصلوا مع الناس صلاة العصر وانفضوا‏.‏ وكان هذا بإشارة بعض الأعاجم وأنه عمل ذلك ببلاد الشرق في وباء حدث عندهم فارتفع عقيب ذلك‏.‏
ولما أصبح الناس في يوم السبت أخذ الوباء يتناقص في كل يوم بالتدريج حتى انقطع‏.‏ غير أنه لما نقلت الشمس إلى برج الحمل في يوم ثامن عشر جمادى الآخرة المذكورة ودخل فصل الربيع وأخذ الطاعون يتناقص غير أنه فشا الموت من يومئذ في أعيان الناس وأكابرهم ومن له شهرة بعدما كان أولًا في الأطفال والموالي والغرباء والخدم وفشا أيضًا ببلاد الصعيد وبغالب الدواب والعجب أن الشريف كاتب السر الذي جمع الأشراف بجامع الأزهر مات بعد ذلك باثني عشر يومًا وولي أخوه كتابة السر عوضه وقبل أن يلبس الخلعة وأما من مات في هذا الوباء من الأعيان فجماعة كبيرة يأتي ذكر بعضهم في وفيات هذه السنة من هذا الكتاب‏.‏
ثم في يوم الاثنين تاسع شهر رجب خلع السلطان على الأمير الطواشي زين الدين خشقدم الرومي اليشبكي نائب مقدم المماليك باستقراره مقدم المماليك السلطانية بعد موت الأمير فخر الدين ياقوت الأرغون شاوي الحبشي‏.‏ وخلع السلطان على الطوشي فيروز الركني الرومي باستقراره في نيابة مقدم المماليك عوضًا عن خشقدم المذكور‏.‏
ثم في سادس عشر شهر رجب المذكور قدم الأمير تغري بردي المحمودي من ثغر دمياط وكان قد نقل إليه من سجن الإسكندرية قبل تاريخه بمدة فرسم السلطان أن يتوجه من قليوب إلى دمشق ليكون أتابكًا بها عوضًا عن الأمير قاني باي الحمزاوي بحكم حضور قاني باي المذكور إلى القاهرة ليكون بها من جملة مقدمي الألوف‏.‏


ثم في ثالث عشرينه خلع السلطان على الشيخ بدر الدين حسن بن القدسي الحنفي باستقراره في مشيخة الشيوخ بالشيخونية بعد موت القاضي صدر الدين أحمد بن العجمي‏.‏ ثم ورد الخبر على السلطان بحركة قرايلك على البلاد الحلبية وأن شاخ رخ بن تيمورلنك قد شتى بقراباغ فأخذ السلطان في تجهيز عسكر للسفر‏.‏ هذا وقد أشيع بالقاهرة بأن الأمير جاني بك الصوفي مات بالطاعون ودفن ولم يعرف به أحد فلم تطب نفس السلطان لهذا الخبر واستمر على ما هو عليه من القلق بسببه‏.‏
ثم في يوم الأربعاء ثالث شعبان منع السلطان نواب القضاة من الحكم ورسم أن يقتصر القاضي الشافعي على أربعة نواب والحنفي على ثلاثة والمالكي والحنبلي كل منهما على اثنين‏.‏ قلت‏:‏ نعمة طائلة خمسة عشر قاضيًا بمصر بل ونصف هذا فيه كفاية‏.‏ ثم في يوم الاثنين ثامن شعبان أدير محمل الحاج على العادة في كل سنة ولم يعهد دورانه في شعبان قبل ذلك غير أن الضرورة بموت المماليك الرماحة اقتضت تأخير ذلك وكان الجمع فيه من الناس دون العادة لكثرة وجد الناس على موتاهم‏.‏
ثم في يوم السبت ثامن عشر شهر رمضان قدم شهاب الدين أحمد بن صالح بن السفاح كاتب سر حلب باستدعاء ليستقر في كتابة السر بالديار المصرية ويستقر عوضه في كتابه سر حلب ابنه زين الدين عمر على أن يحمل شهاب الدين المذكور عشرة آلاف دينار‏.‏ وكانت كتابة السر شغرت من يوم مات الشريف شهاب الدين أحمد الدمشقي وباشر أخوه عماد الدين أبو بكر أيامًا قليلة ومات أيضًا بالطاعون فباشر القاضي شرف الدين أبو بكر الأشقر نائب كاتب السر إلى يوم تاريخه بعد أن سعى في كتابة السر جماعة كبيرة بالقاهرة فاختار السلطان ابن السفاح هذا وبعث بطلبه وخلع عليه في عشرينه باستقراره في كتابة السر فباشر الوظيفة بقلة حرمة وعدم أبهة مع حدة مزاج وخفة وجهل بصناعة الإنشاء‏.‏
على أنه باشر كتابة السر بحلب سنين قبل ذلك ومع هذا كله لم ينتج أمره لعدم فضيلته فإنه كان يظهر من قراءته للقصص ألفاظًا عامية وبالجملة فإنه كان غير أهل لهذه الوظيفة‏.‏ انتهى‏.‏
ثم في يوم السبت رابع عشرين شوال قدم المماليك السلطانية من تجريدة الرها إلى القاهرة وكانوا من يوم ذاك بمدينة حلب وتخلفت الأمراء بها‏.‏ ثم في يوم الاثنين ثالث ذي القعدة خلع السلطان على الصاحب كريم الدين عبد الكريم بن كاتب المناخ باستقراره أستادارًا مضافًا إلى الوزر عوضًا عن آقبغا الجمالي بحكم عجز آقبغا عن القيام بالكلف السلطانية‏.‏
ثم في سادس ذي القعدة أمسك السلطان آقبغا المذكور وأهين وعوقب على المال فحمل جملة ثم أفرج عنه واستقر كاشفًا للجسور بعد أيام‏.‏ وفي يوم الثلاثاء ثامن عشر ذي القعدة أيضًا ويوافقه خامس عشر مسرى أو في النيل ستة عشر ذراعًا فركب السلطان الملك الأشرف من قلعة الجبل ونزل حتى خلق المقياس وعاد ثم في ليلة السبت خامس عشر ذي القعدة ظهر للحاج المصري وهم سائرون من جهة البحر المالح كوكب يرتفع ويعظم ثم تفرق منه شرر كبار ثم اجتمع‏.‏
لما أصبحوا اشتد عليهم الحر فهلك من مشاة الحاج ثم من الركبان عالم كبير وهلك أيضًا من جمالهم وحميرهم عدة كبيرة كل ذلك من شدة الحر والعطش وهلك أيضًا في بعض أودية الينبع جميع ما كان فيه من الإبل والغنم‏.‏ ثم في يوم الثلاثاء ثامن ذي الحجة ركب السلطان من قلعة الجبل ونزل إلى بيت ابن البارزي المطل على النيل بساحل بولاق وسار بين يديه غرابان في النيل حربية فلعبا كما لو حاربا الفرنج ثم ركب السلطان من وقته سريعًا وسار إلى القلعة‏.‏
ثم في عاشر ذي الحجة توجه زين الدين عبد الباسط ناظر الجيش إلى زيارة القدس الشريف وعاد في يوم تاسع عشرينه‏.‏ ثم ورد الخبر على السلطان في هذا الشهر بتوجه الأمير قصروه نائب حلب منها والأمراء المجردون معه لمحاربة قرقماس بن حسين بن نعير فلقوا جمائعه تجاه قلعة جعبر فانهزم قرقماس عن بيوته فأخذ العسكر في نهب ماله فرد عليهم العرب وهزموهم وقتلوا كثيرًا من العساكر وممن قتل الأمير قشتم المؤيدي أتابك حلب وغيره وعاد العسكر إلى حلب بأسوء حال فعظم ذلك على الملك الأشرف إلى الغاية‏.‏

وبـــــاء فى أرض مصر ومصائب فى ارض مصر
قال المقريزي‏:‏ وكان في هذه السنة حوادث شنيعة وحروب وفتن فكان بأرض مصر بحريها وقبليها وبالقاهرة ومصر وظواهرها وباء عظيم مات فيه على أقل ما قيل مائة ألف إنسان والمجازف يقول هذه المائة ألف من القاهرة ومصر فقط سوى من مات بالوجه القبلي والبحري وهم مثل ذلك‏.‏
قلت‏:‏ وليس في قول القائل إن هذه المائة ألف من القاهرة ومصر فقط مجازفة أبدًا فإن الوباء أقام أزيد من ثلاثة أشهر ابتداء وانتهاء وانحطاطًا وأقل من مات فيه دون العشرين كل يوم وأزيد من مات فيه نحو خمسة عشر ألف إنسان وبهذا المقتضى ما ثم مجازفة ومتحصل ذلك يكون بالقياس أزيد مما قيل انتهى‏.‏
قال أعني المقريزي‏:‏ وغرق ببحر القلزم مركب فيه حجاج وتجار تزيد عدتهم على ثمانمائة إنسان لم ينج منهم سوى ثلاثة رجال وهلك باقيهم‏.‏
وهلك في ذي القعدة أيضًا بطريق مكة فيما بين الأزلم والينبع بالحر والعطش ثلاثة آلاف إنسان ويقول المكثر خمسة آلاف‏.‏
وغرق في نيل مصر في مدة يسيرة اثنتا عشرة سفينة تلف فيها من البضائع والغلال ما قيمته مال عظيم‏.‏
وكان بغزة والرملة والقدس وصفد ودمشق وحمص وحماة وحلب وأعمالها وباء عظيم هلك فيه خلائق لا يحصي عددهم إلا الله تعالى‏.‏
وكان ببلاد المشرق بلاء عظيم وهو آن شاه رخ بن تيمور ملك الشرق قدم إلى تبريز في عسكر يقول المجازف عدتهم سبعمائة ألف‏.‏  انتهى‏.‏


قال‏:‏ فأقام شاه رخ على خوي نحو شهرين وقد فر منه إسكندر بن قرا يوسف فقدم عليه الأمير عثمان بن طرعلي المدعو قرايلك التركماني صاحب آمد في ألف فارس فبعثه على عسكر لمحاربة إسكندر وسار في أثره وقد جمع إسكندر جمعًا يقول المجازف إنهم سبعون ألفًا فاقتتل الفريقان خارج تبريز فقتل بينهما آلاف من الناس وانهزم إسكندر وهم في أثره يقتلون ويأسرون وينهبون فأقام إسكندر ببلاد الكرج ثم بقلعة سلماس وحصرته العساكر مدة فنجا وجمع نحو الأربعة آلاف فبعث إليه شاه رخ عسكرًا أوقعوا به وقتلوا من معه فنجا بنفسه جريحًا‏.‏
وفي مدة هذه الحروب ثار أصبهان بن قرا يوسف ونزل على الموصل ونهب تلك الأعمال وقتل وأفسد فسادًا كبيرًا‏.‏ وكانت بعراقي العرب والعجم نهوب ومقاتل حيث إن شاه محمد بن قرا يوسف متملك بغداد من عجزه لا يتجاسر على أن يتجاوز سور بغداد‏.‏ وخلا أحد جانبي بغداد من السكان وزال عن بغداد اسم التمدن ورحل منها حتى الحياك وجف أكثر النخل من أعمالها‏.‏
ومع هذا كله وضع شاه رخ على أهل تبريز مالًا ذهبت في جباياته نعمهم ثم جلاهم بأجمعهم إلى بلاده وكثر الإرجاف بقدومه إلى الشام فأوقع الله في عسكره البلاء والوباء حتى عاد إلى جهة بلاده‏.‏ وعاد قرايلك إلى ماردين فنهبها ثم عاد ونهب ملطية وما حولها‏.‏

أخبار من الحبشة

وكان أيضًا ببلاد الحبشة بلاء لا يمكن وصفه‏.‏ وذلك أنا أدركنا ملكها داود بن سيف أرعد ويقال له الحطي ملك أمحرة وهم نصارى يعقوبية فلما مات في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة قام من بعده ابنه تدرس بن داود فلم تطل مدته ومات فملك بعده أخوه أبرم ويقال إسحاق بن داود وفخم أمره وذلك أن بعض مماليك الأمير بزلار نائب الشام ترقى في الخدم وعرف بألطنبغا مغرق حتى باشر ولاية قوص من بلاد الصعيد‏.‏
ففر إلى الحبشة واتصل بالحطي هذا وعلم أتباعه لعب الرمح ورمي النشاب وغير ذلك من أدوات الحرب‏.‏ ثم لحق بالحطي أيضًا بعض المماليك الجراكسة وكان زردكاشًا فعمل له زردخاناه ملوكية‏.‏
وتوجه إليه مع ذلك رجل من كتاب مصر الأقباط النصارى يقال له فخر الدولة فرتب له ملكه وجبى له الأموال وجند له الجنود حتى كثر ترفهه بحيث أخبرني من شاهده وقد ركب في موكب جليل وبيده صليب من ياقوت أحمر قد قبض عليه ووضع يده على فخذه فصار يبين ويظهر لهذا الصليب الياقوت طرفان كبيران من قبضته فشرهت نفسه إلى أخذ ممالك الإسلام لكثرة ما وصف له هؤلاء من حسنها‏.‏ فبعث بالتبريزي التاجر ليدعو الفرنج للقيام معه وأوقع بمن في مملكته من المسلمين فقتل منهم وأسر وسبى عالمًا عظيمًا‏.‏
وكان ممن أسر منصور ومحمد ولدا سعد الدين محمد بن أحمد بن علي بن ولصمع المجبرتي ملك المسلمين بالحبشة فعاجله الله بنقمته وهلك في ذي القعدة وأقيم ابنه إندراس بن إسحاق فهلك أيضًا لأربعة أشهر فأقيم بعده عمه حزبناي ابن داود بن سيف أرعد فهلك في شهر رمضان سنة أربع وثلاثين فأقيم بعده ابن أخيه سلمون بن إسحاق بن داود بن سيف أرعد فكانت على أمحرة أربعة ملوك في أقل من سنة‏.‏ انتهى كلام المقريزي برمته‏.‏

حملة عسكرية إلى حلب
ثم إن السلطان أخذ في تجهيز عسكر إلى البلاد الحلبية إلى أن انتهى أمرهم‏.‏
فلما كان يوم الاثنين سابع عشرين محرم سنة أربع وثلاثين وثمانمائة برز الأمراء المجردون من القاهرة إلى الريدانية خارج القاهرة وهم الأمير الكبير جارقطلو أتابك العساكر والأمير إينال الجكمي أمير سلاح والأمير آقبغا التمرازي أمير مجلس والأمير تمراز القرمشي رأس نوبة النوب والأمير قرا مرادخجا الشعباني الظاهري برقوق أمير جاندار وعدة من أمراء الطبلخانات والعشرات وخمسمائة مملوك من المماليك السلطانية‏.‏
وكان سبب تجردهم ورود الخبر على السلطان بنزول قرايلك في أول هذا الشهر على معاملة ملطية وأنه نهبها وأحرقها وحصر ملطية فخرج إليه الأمير قصروه نائب حلب وقد أردفه الأمير سودون من عبد الرحمن نائب الشام بعساكر الشام فأردفهم السلطان أيضًا بالعسكر المذكور‏.‏
فلما أن رحلوا من الريدانية ورد الخبر ثانيًا من قبل نواب البلاد الشامية بعود قرايلك إلى بلاده وأن المصلحة تقتضي عدم خروج العسكر من مصر في هذه السنة فرسم السلطان بعودهم من خانقاه سرياقوس في يوم الجمعة أول صفر فرجعوا من وقتهم‏.‏
واستعيدت منهم النفقة السلطانية التي أنفقت فيهم عند سفرهم فاحتاجوا إلى رد ما اشتروه من الأمتعة بعدما استعملوها والأزواد على من ابتاعوها منهم غصبًا ثم احتاجوا إلى استعادة ما أنفقوه على غلمانهم وخدمهم وقد تصرفت الغلمان فيها واشتروا منها احتياجهم ودفعوا منها إلى أهليهم ما ينفقونه في غيبتهم فكل واحد من هؤلاء استعيد منه ما تصرف فيه‏.‏
فنزل من أجل هذا بالناس ضرر عظيم وكثرت القالة في السلطان ونفرت القلوب منه وتحدث الناس بذلك أيامًا وسنين ولعله صار مثلًا يضرب به إلى يوم القيامة‏.‏ ثم في يوم الاثنين حادي عشر صفر المذكور ركب السلطان من قلعة الجبل في موكب جليل ملوكي احتفل له ولبس قماش الموكب الكلفتاه والفوقاني الصوف الذي بوجهين أحمر وأخضر كما كان يلبس الملك الظاهر برقوق وغيره من الملوك وجر الجنائب بين يديه والجاويشية تصيح أمامه وسار وحوله الطبردارية وعلى رأسه السنجق السلطاني حتى عبر من باب زويلة فشق القاهرة وخرج من باب الشعرية يريد الصيد بالدير والمنزلة فتوجه إلى الصيد فبات هناك ليلة الثلاثاء وأصبح اصطاد الكراكي وعاد إلى مخيمه وأكل السماط‏.‏
ثم ركب وعاد في آخر يوم الثلاثاء إلى القلعة بعدما شق القاهرة في عوده أيضًا على تلك الهيئة وهذا أول ركوبه إلى الصيد منذ تسلطن‏.‏ ثم في خامس عشرينه ركب للصيد ثانيًا وعاد من الغد‏.‏ وتكرر ركوبه لذلك غير مرة وأنا ملازمه في جميع ركويه للصيد وغيره‏.‏
وفي هذا الشهر توقف الناس والتجار في أخذ الذهب من كثرة الإشاعة بأنه ينادى عليه فنودي في يوم السبت سلخ صفر المقدم ذكره أن يكون سعر الدينار الأشرفي بمائتين وخمسة وثلاثين والدينار الإفرنتي بمائتين وثلاثين وهدد من زاد على ذلك بأنه يسبك في يده فعاد الضرر على الناس في الخسارة لانحطاط سعر الدينار خمسين درهمًا فإنه كان يتعامل به الناس بمائتين وخمسة وثمانين‏.‏
 في يوم الثلاثاء رابع شهر ربيع الأول
رسم السلطان بجمع الصيارف وللتجار فجمعوا وأشهد عليهم أن لا يتعاملوا بالدراهم القرمانية ولا الدراهم اللنكية ولا القبرسية وأن هذه الثلاثة أنواع تباع بسوق الصاغة على حساب وزن كل درهم منها بستة عشر درهمًا من الفلوس حتى يدخل بها إلى دار الضرب وتضرب دراهم أشرفية خالصة من الغش ونودي بذلك وأن تكون المعاملة بالدراهم الأشرفية والدراهم البندقية والمؤيدية فإن هذه الثلاثة فضة خالصة ليس فيها نحاس بخلاف الدراهم التي منع من معاملتها فإن عشرتها إذا سبكت تجيء ستة لما فيها من النحاس‏.‏
ثم نودي بعد ذلك بأن يكون سعر الأشرفي بمائتين وثمانين والإفرنتي بمائتين وسبعين واستمر ذلك جميعه لا يقدر أحد على مخالفة شيء منه‏.‏ قلت‏:‏ وهذا بخلاف ما نحن فيه الآن فإن لنا نحو ستة أشهر والناس فيه بحسب اختيارهم في المعاملة بعد أن نودي على الذهب والفضة بعدة أسعار غير مرة فلم يلتفت أحد للمناداة وأخذوا فيما هم فيه من المعاملة بالدراهم التي لا يحل المعاملة بها لما فيها من الغش والنحاس‏.‏
وقد استوعبنا ذلك كله مفصلًا باليوم في تاريخنا حوادث الدهور في مدى الأيام والشهور إذ هو ضابط لهذا الشأن مشحون بما يقع في الزمان من ولاية وعزل وغريبة وعجيبة‏.‏ ثم تكرر ركوب السلطان في شهر ربيع الأول هذا للصيد غير مرة بعدة نواح‏.‏
كل ذلك والخواطر مشغولة بأمر جاني بك الصوفي والفحص عنه مستمر والناس بسبب ذلك في جهد وبلاء فما هو إلا أن يكون الرجل له عدو وأراد هلاكه أشاع بأن جاني بك الصوفي مختف عنده فعند ذلك حل به بلاء الله المنزل من كبس داره ونهب قماشه وهتك حريمه وسجنه في أيدي العواتية ثم بعد ذلك يصير حاله إلى أحد أمرين‏:‏ إما أن يضرب ويقرر بالعقوبة وإما أن تبرأ ساحته ويطلق بعد أن يقاسي من الأهوال ما سيذكره إلى أن يموت‏.‏
ولقد رأيت من هذا النوع أعاجيب منها أن بعض أصحابنا الخاصكية ضرب بعض السقايين على ظهره ضربة واحدة فرمى السقاء المذكور قربته وترك حمله وصاح‏:‏ هذا الوقت أعرف السلطان بمن هو مختف عندك ومشى مسرعًا خطوات إلى جهة القلعة فذهب خلفه حواشي الخاصكي المذكور ليرجعوه فلم يلتفت فنزل إليه الخاصكي بنفسه حافيًا وتبعه إلى الشارع الأعظم حتى لحقه وقد أعاقه الناس له فأخذ الخاصكي يتلطف به ويترضاه ويبوس صدره غير مرة ويترقق له وقد علاه اصفرار ورعدة والناس تسخر من حاله لكونه ما يعرف باللغة العربية إلا كلمات هينة فصار مع عدم معرفته يريد ملاطفة السقاء المذكور فيتكلم بكلام إذا سمعه الشخص لا يكاد يتمالك نفسه وسخر الناس وأهل حارته بكلامه أشهرًا وسنين‏.‏
فلما انتهى أمره وبلغني ما وقع له كلمته فيما فعله ولمته في ذلك فقال‏:‏ خل عنك هذا الكلام والله إن إينال السلحدار وأخاه يشبك الصوفي ضربا بالمقارع وعصرا أيامًا ولم يصرخ أحد في حقهما بما أراد هذا السقاء أن يقوله عني‏.‏ واستمر الخاصكي في قلبه حزارة من السقاء المذكور إلى أن تأمر عشرة فيأول دولة الملك الظاهر جقمق فطلب السقاء المذكور فوجده قد مات في شعبان من السنة الحالية ثم في أواخر شهر ربيع الأول المذكور لهج السلطان بسفره إلى البلاد الشامية لمحاربة قرايلك‏.‏
واستهل شهر ربيع الأخر أوله الأحد والسلطان والأمراء في الاهتمام بحركة السفر‏.‏ ثم في يوم الخميس رابع عشرين جمادى الأولى خلع السلطان على قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن حجر وأعيد إلى قضاء الشافعية بالديار المصرية بعد عزل قاضي القضاة علم الدين صالح البلقيني‏.‏
ثم في جمادى الآخرة خلع السلطان على الأمير جاني بك السيفي يلبغا الناصري نائب رأس نوبة النوب المعروف بجانبك الثور باستقراره في نيابة الإسكندرية بعد موت أحمد بن الأقطع‏.‏ ثم في يوم الاثنين حادي عشرين شوال خرج محمل الحاج إلى الريدانية خارج القاهرة صحبة الأمير قراسنقر الظاهري‏.‏ وحجت في هذه السنة زوجة السلطان الملك الأشرف وأم ولده الملك العزيز يوسف خوند جلبان الجاركسية بتجمل كبير إلى الغاية وفي خدمتها الزيني خشقدم الظاهري الزمام وهو أمير الركب الأول والزيني عبد الباسط ناظر الجيش‏.‏
قال المقريزي‏:‏ وحججت أنا في هذه السنة رجبية وقد استجد بعيون القصب من طريق الحجاز بئر احتفرت فعظم النفع بها وذلك أني أدركت بعيون القصب أنه كان يخرج من بين الجبلين ماء يسيح على الأرض فينبت فيه من القصب الفارسي وغيره شيء كثير ويرتفع في الماء حتى يتجاوز قامة الرجل في عرض كبير فإذا نزل الحاج عيون القصب أقاموا يومهم على هذا الماء بغتسلون منه ويبتردون به‏.‏ ثم انقطع هذا الماء وجفت تلك الأعشاب فصار الحاج إذا نزل هناك احتفر حفائر يخرج منها ماء رديء إذا بات ليلة واحدة في القرب نتن فأغاث الله العباد بهذا البئر وخرج ماؤها عذبًا‏.‏
وكان قبل ذلك بشهرين قد حفر الأمير شاهين الطويل بئرين بموضع يقال له زعم وقيقاب وذلك أن الحاج كان إذا ورد الوجه تارة يجد فيه الماء وتارة لا يجد فيه فلما هلك الناس من العطش في السنة الماضية بعث السلطان بشاهين هذا كما تقدم ذكره فحفر البئرين بناحية زعم حتى لا يحتاج الحاج إلى ورود الوجه فتروى الحاج منهما وعدم الانتفاع بهما وبطل سلوك الحاج على طريق الوجه من هذه السنة‏.‏ انتهى كلام المقريزي‏.‏
قلت‏:‏ وفرغت سنة أربع وثلانين ولم يسافر السلطان ولا أحد من أمرائه إلى البلاد الشامية‏.‏
ثم في يوم الاثنين ثالث عشرين محرم سنة خمس وثلاثين وثمانمائة وصلت زوجة السلطان خوند جلبان بعد أن حجت وقضت المناسك وقدم محمل الحاج صحبة الأمير قراسنقر‏.‏
ثم في يوم الخميس سابع شهر ربيع الآخر من سنة خمس وثلاثين وثمانمائة المذكورة نزل عدة من المماليك الجلبان من الأطباق إلى بيت الصاحب كريم الدين بن كاتب المناخ وهو يومئذ وزير وأستادار يريدون الفتك به وكان علم من الليل فتغيب واستعد وهرب من بيته فلم يظفروا به ولا بشيء في داره فعادوا بعد أن أفسدوا فيما حوله من بيوت جيرانه‏.‏
وكان لهم من أيام الطاعون قد كفوا عن هذه الفعلة فبلغ السلطان نزولهم فغضب وأخذ في الدعاء عليهم أيضًا بالفناء والوباء حتى قال له التاج الوالي بعد أن زال ما عنده‏:‏ وسط هؤلاء المعرصين ولا تدع بعود الطاعون على المسلمين فقال له السلطان‏:‏ يجوز قتل المسلم بغير استحقاق فقال التاج‏:‏ وهؤلاء مسلمون فقال السلطان‏:‏ نعم فقال التاج‏:‏ والله ما هو صحيح فضحك السلطان وأمر به فلكمه الخاصكية لكمًا مزعجًا فقال‏:‏ انظر صدق مقالتي هذا فعل مسلم بمسلم انتهى‏.‏
ثم أصبح الصاحب كريم الدين استعفى من وظيفة الأستادارية فأعفاه السلطان واستدعى الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله في يوم السبت ثالث عشرين شهر ربيع الآخر المذكور وأخلع عليه باستقراره أستادارًا عوضًا عن الصاحب كريم الدين بعد انقطاع ابن نصر الله في بيته عدة سنين وهذه ولاية ابن نصر الله الثانية لوظيفة الأستادارية‏.‏
ثم في يوم الثلاثاء خامس عشرين جمادى الأولى ركب السلطان من القلعة بغير قماش الموكب ونزل إلى بيت زين الدين عبد الباسط ناظر الجيش ثم ركب من بيت عبد الباسط إلى بيت القاضي سعد الدين إبراهيم بن كاتب جكم ناظر الخواص فجلس عنده أيضًا قليلًا ثم ركب وعاد إلى القلعة‏.‏
فلما كان يوم سادس عشرينه حمل عبد الباسط وسعد الدين ناظر الخاص تقادم جليلة إلى السلطان بسبب نزوله إليهما‏.‏ وفي هذه السنة تكرر ركوب السلطان ونزوله إلى الصيد وعبوره إلى القاهرة وتوجهه إلى النزه بخلاف ما كان عليه أولًا غير مرة‏.‏
ثم في يوم الثلاثاء ثاني جمادى الآخرة عزل السلطان الصاحب بدر الدين بن نصر الله عن الأستادارية وخلع من الغد على آقبغا الجمالي باستقراره استادارًا عوضًا عن ابن نصرالله المذكور وهذه ولاية آقبغا الثانية ولزم ابن نصر الله داره على عادته وكان سبب عزل الصاحب بدر الدين عن الأستادارية أنه لما بلغ آقبغا الجمالي عزل الصاحب كريم الدين بن كاتب المناخ عن الأستادارية سأل في الحضور وكان متولى كشف البحيرة فأجيب فحضر وسعى في الوظيفة على أنه يحمل عشرة آلاف دينار وإن سافر السلطان إلى الشام حمل معه نفقة شهرين‏.‏
مبلغ أربعين ألف دينار فأجيب وأبقي الكشف أيضًا معه وأضيف إليه كشف الوجه البحري‏.‏ ثم في يوم السبت سابع عشرينه خلع السلطان على قاضي القضاة بدر الدين محمود العيني وأعيد إلى قضاء الحنفية بالديار المصرية عوضًا عن زين الدين عبدالرحمن التفهني الحنفي بحكم طول مرضه فباشر العيني القضاء والحسبة ونظر الأحباس معًا لخصوصيته عند الملك الأشرف فإنه كان يقرأ له تواريخ الملوك وينادمه‏.‏
ثم في يوم الثلاثاء أول شهر رجب خلع السلطان على الأمير صلاح الدين محمد ابن الصاحب بدر الدين بن نصرالله باستقراره محتسب القاهرة عوضًا عن العيني بحكم عزله برغبته عنها وكان صلاح الدين هذا منذ عزل عن الأستادارية وعزل أبوه عن نظر الخاص وصودرا ملازمين لدارهما‏.‏
ثم في يوم الخميس ثالث شهر رجب أدير المحمل على العادة في كل سنة إلا أنه عجل به في هذا اليوم لأجل حركة السلطان إلى السفر إلى البلاد الشامية‏.‏ وكان السلطان أيضًا في هذه السنة أشاع سفره كما قال في العام الماضي وتجهز لذلك هو وأمراؤه‏.‏
ثم في عشرينه قدم الأمير سودون من عبد الرحمن نائب الشام باستدعاء وصحبته القاضي كمال الدين محمد بن البارزي السر بدمشق فباتا بتربة الملك الظاهر برقوق بالصحراء ثم صعدا من الغد في يوم الاثنين حادي عشرينه إلى القلعة وقبلا الأرض ولما انفضت الخدمة نزل الأمير سودون من عبد الرحمن إلى مكان بغير خلعة فعلم كل أحد أنه معزول عن نيابة الشام‏.‏
فلما كان الغد وهو يوم الثلاثاء ثاني عشرين شهر رجب عملت الخدمة بالقصر السلطاني على العادة وحضر الأمراء الخدمة على العادة فقدم سودون من عبد الرحمن قدام جارقطلو وحجبه في دخولهما على السلطان وجلس جارقطلو على ميمنة السلطان وجلس سودون من عبد الرحمن على ميسرة السلطان إلى أن قرىء الجيش ونجزت العلامة‏.‏
ودخل السلطان من الخرجة إلى داخل القصر الأبلق وجلس به واستدعى الخلع وخلع على الأمير سودون من عبد الرحمن نائب الشام باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية عوضًا عن جارقطلو وخلع على جارقطلو باستقراره في نيابة الشام عوضًا عن سودون من عبد الرحمن وقبلا الأرض‏.‏

وفي الوقت تحول سودون من عبد الرحمن إلى ميمنة السلطان وذهب جارقطلو إلى ميسرة السلطان وذهب جارقطلو إلى ميسرة السلطان بعكس ما كان أولًا ولما خرجا من لخدمة السلطانية حجب جارقطلو سودون من عبد الرحمن‏.‏
كل ذلك لما ثبت عند السلطان من القواعد القديمة الكائنة إلى يومنا هذا‏.‏ وفي هذا اليوم رسم السلطان بإبطال حركة سفر السلطان إلى البلاد الشامية فتكلم الناس أن سبب حركة السلطان للسفر إنما كانت بسبب سودون من عبد الرحمن لما أشاعه عنه المتغرضون من أنه يريد الوثوب على السلطان وليس الأمر كذلك وإنما كان لعزل سودون من عبد الرحمن أسباب‏:‏ أحدها‏:‏ أنه طالت أيامه في نيابة الشام وزادت عظمته وكثرت مماليكه وحواشيه فخاف الملك الأشرف عاقبته فعزله‏.‏
وثانيها‏:‏ وهو الأقوى عندي‏:‏ أن السلطان لما استدعاه بكتاب على يد الأمير ناصر الدين محمد بن إبراهيم بن منجك وعاد معه ابن منجك فلما كان في بعض الطريق تحادثا فكان من جملة كلام سودون من عبد الرحمن لابن منجك‏:‏ أنا أدخل أيضًا إلى مصر أميرًا بعد طول مدتي في نيابة دمشق فنقلها ابن منجك برمتها إلى الملك الأشرف فتحقق الملك الأشرف عند ذلك ما كان أشيع عنه فبادر وعزله‏.‏
وكان مراد سودون من عبد الرحمن بقوله‏:‏ أدخل مصر أميرًا غير ما حمله عليه ابن منجك وهو أن مراد سودون من عبد الرحمن أنه اعتاد بنيابة الشام وأنه يكره الإقامة بمصر وأن بعض نيابات البلاد الشامية أحب إليه من أن يكون أتابكًا بمصر وأشياء غير ذلك‏.‏ ثم في يوم الخميس ثاني شعبان خلع السلطان على الأمير جارقطلو خلعة السفر وخرج من يومه إلي مخيمه بالريدانية خارج القاهرة‏.‏ وقد استقر الأمير قراجا الخازندار الأشرفي مسفره‏.‏
ثم خلع السلطان من الغد في يوم الجمعة ثالثه على القاضي كمال الدين محمد بن البارزي كاتب سر دمشق باستقراره في قضاء دمشق مضافًا لكتابة سرها عوضًا عن شهاب الدين أحمد بن ثم في يوم الاثنين سادس عشرين شهر رمضان خلع السلطان على دولات خجا الظاهري باستقراره والي القاهرة عوضًا عن التاج الشوبكي وأخيه عمر‏.‏

أوامر جديدة
ودولات خجا هو أحد أصاغر المماليك الظاهرية برقوق ومن شرارهم وكان وضيعًا تركي الجنس كثير الشر يمشي على قدميه بالأسواق في بعض الأحيان‏.‏
وكان الملك الأشرف يعرفه أيام جنديته ويتوقى شره فلما تسلطن ولاه الكشوفية ببعض النواحي فأباد أهل تلك الناحية ثم ولاه الكشف بالوجه القبلي فتنوع في عذاب أهل الفساد وقطاع الطريق أنواعًا كثيرة منها‏:‏ أنه كان إذا قبض على الحرامي أمسكه ونفخ بالكير في دبره حتى تندر عيناه وينفلق دماغه‏.‏

ومنها أنه كان يعلق الرجل منكسًا ولا يزال يرمي عليه بالنشاب إلى أن يموت وأشياء كثيرة من ذلك‏.‏ فلما ولي الولاية بالقاهرة كان أول ما بدأ به أنه أفرج عن جميع أهل الجرائم من الحبوس وحلف لهم أنه متى ظفر بأحد منهم وقد سرق ليوسطنه‏.‏ وأرهب إرهابًا عظيمًا وصار يركب في الليل ويطوف بحرمة زائدة عن الحد وصدق في يمينه في السراق فما وقع له سارق ممن أطلقه وقد كتب أسماءهم عنده إلا وسطه فذعر أهل الفساد منه وانكفوا عن السرقة‏.‏
ثم أخذ في التضييق على الناس وإلزامهم بإلزامات منها‏:‏ أنه أمرهم بكنس الشوارع ثم رشها بالماء وبتعليق كل سوقي قنديلًا على دكانه وعاقب على ذلك خلائق‏.‏
ثم منع النساء من الخروج إلى الئرب في أيام الجمع وأشياء كثيرة إلى ثم أرسل السلطان يطلب قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن الكشك ليستقر في كتابة سر مصر بعد موت شهاب الدين أحمد بن السفاح على أنه يحمل بسبب ذلك عشرة آلاف دينار فقدم جوابه في يوم الاثنين ثالث شوال كتاب الأمير جارقطلو نائب الشام على يد نجاب وهو يعتذر لعدم حضوره بضعف بصره وألام تعتريه وأرسل بمبلغ من الذهب له صورة فأعفاه السلطان عن ذلك‏.‏
واستدعى السلطان الصاحب كريم الدين عبد الكريم بن كاتب المناخ وخل عليه في يوم الثلاثاء رابعه باستقراره كاتب السر الشريف مضافًا إلى الوزر ولم يقع ذلك في الدولة التركية لأحد أن الوزر وكتابة السر اجتمعا لواحد معًا‏.‏ ونزل الصاحب كريم الدين في موكب جليل وباشر وظيفة كتابة السر والوزر مع بعده عن صناعة الإنشاء وعن كل فضيلة وقلة دربته بقراءة القصص والمطالعات من الأعمال والأقطار‏.‏
وكان مع ما هو فيه من الجهل أجهر العينين لا ينظر في الكتابة إلا من قريب وفي صوته خشونة فكان إذا أمسك الكتاب في يده ليقرأه على السلطان تنظر أعاجيب من تبحره في الكتاب بعينه ثم من توقفه في القراءة ثم من اللحن الفاحش الخارج عن الحد مع أن قراءته للكتب ما كانت إلا نادرًا وفي الغالب لا يقرؤها على السلطان إلا القاضي شرف الدين الأشقر نائب كاتب السر‏.‏
وكنت أظن أن الأشرف إنما ولى كريم الدين هذا لكتابة السر ليطيب خاطره ويقويه حتى يعيده إلى وظيفة الأستادارية فإنه كان ماهرًا بتدبير أمور الوزر والأستادارية جيد التنفيذ فيها إلى الغاية لم تر عيني بعده أحسن تدبيرًا وتصرفًا منه في فنه غير أنه ليس من خيل هذا الميدان وبين معرفته بفنه والدربة بصناعة الإنشاء زحام إلى أن كان بعض الأيام والأشرف جالس وقدم الصاحب كريم الدين هذا فلما رآه الأشرف من بعيد قال لمن حوله‏:‏ هل رأيتم كاتب سر أحشم من هذا ولا أمثل فقال له من حضر‏:‏ لا والله يا خوند فعند ذلك تحققت خلاف ما كنت أظن وعلمت أن القوم في واد والأمم السالفة في واد‏.‏
 


ثم في يوم الخميس ثالث عشر شوال المذكور ابتدأ السلطان بالجلوس في الإيوان بدار العمل من قلعة الجبل وكان قد ترك الملوك الجلوس به بعد الملك الظاهر برقوق في يومي الاثنين والخميس إلا في النادر أيام خدمة الإيوان عند قدوم قصاد ملوك الأقطار فتشعث الإيوان ونسيت عوائده ورسومه إلى أن اقتضى رأي السلطان في هذه الأيام بعمارته وتجديد عهده فأزيل شعثه وتتبعت رسومه وجلس الملك الأشرف به وعمل الخدمة السلطانية فيه وعزم على ملازمته في يومي الخدمة ورسم بحضور القضاة وغيرهم ممن كان له عادة بحضور خدمة دار العدل فلم يتم ذلك وتركه كأنه لم يكن‏.‏
ثم في ثاني عشرين شوال هذا قدم الخبر من مكة المشرفة بأن عدة زنوك قدمت من الصين إلى سواحل الهند وأرسى منها اثنان بساحل عدن فلم تنفق بها بضائعهم من الصيني والحرير والمسك وغير ذلك لاختلال حال اليمن‏.‏
فكتب كبير هذين المركبين الزنكيين إلى الشريف تركات بن حسن بن عجلان أمير مكة وإلى سعد الدين إبراهيم بن المرة ناظر جدة يستأذن في قدومهم إلى جدة فكتبا الى السلطان في ذلك ورغباه في كثرة ما يتحصل في قدومهم من المال فكتب لهم السلطان بالقدوم إلى جدة وإكرامهم‏.‏
ثم في يوم الاثنين أول ذي القعدة استدعى السلطان القضاة الأربعة جميع نوابهم في الحكم بالقاهرة ومصر إلى القلعة لتعرض نوابهم على السلطان وقد ساءت القالة فيهم عند السلطان فدخل القضاة الأربعة إلى مجلس السلطان وعوق نوابهم عن العبور إلى السلطان فلما جلسوا خاشنهم السلطان في اللفظ بسبب كثرة نوابهم وانفض المجلس على أن يقتصر الشافعي على خمسة عشر نائبًا بمصر والقاهرة والحنفي على عشرة نواب والمالكي على سبعة والحنبلي على خمسة ونزلوا على ذلك‏.‏
فلم يزل عبد الباسط وغيره بالسلطان حتى زادهم شيئًا بعد شيء إلى أن عادت عدتهم إلى ما كانت عليه والسلطان لا يعلم بذلك‏.‏ ثم في سابعه خلع السلطان على التاج الشوبكي باستقراره والي القاهرة بعد عزل دولات خجا المقدم ذكره وقد أقمع دولات خجا المفسدين وأبادهم‏.‏

موت ملك قبرس
ثم في يوم الأحد ثامن عشرين ذي القعدة أيضًا ورد الخبر على السلطان بموت جينوس بن جاك متملك قبرس فعين السلطان شخصًا من الأعيان ومعه ستون مملوكًا للتوجه إلى قبرس فخرجوا في يوم الجمعة خامس عشرين ذي الحجة من سنة خمس وثلاثين وثمانمائة ومعهم خلعة لجوان بن جينوس باستقراره في مملكة جزيرة قبرس عوضًا عن والده جينوس نيابة عن السلطان ومطالبته بما تأخر على أبيه وهو أربعة وعشرون ألف دينار وبما التزم في كل سنة وهو خمسة آلاف دينار وساروا على ذلك إلى ما يأتي ذكره‏.‏
تحويل الخراج هذه السنة  - وأول السنة اليهود والمسلمين 
وانسلخت هذه السنة بيوم الأربعاء الموافق لرابع أيام النسيء وهي سنة تحويل تحول الخراج فيها من أجل أنه لم يقع فيها نوروز فحولت سنة ست إلى سنة سبع وثلاثين‏.‏

قال المقريزي رحمه الله‏:‏ واتفق في سنة ست وثلاثين هذه غرائب منها‏:‏ أن يوم الخميس كان أول المحرم ووافقه أول يوم من تشرين وهو رأس سنة اليهود فاتفق أول سنة اليهود مع أول سنة المسلمين ويوم الجمعة وافقه أول توت وهو أول سنة النصارى القبط فتوالت أوائل سني الملل الثلاث في يومين متوالين واتفق مع ذلك أن طائفة اليهود الربانيين يعملون رؤوس سنيهم وشهورهم بالحساب وطائفة القرائين يعملون رؤوس سنيهم وشهورهم برؤية الأهلة كما هي عند أهل الإسلام فيقع بين طائفتي اليهود في رؤوس السنين والشهور اختلاف كبير فاتفق في هذه السنة مطابقة حساب الربانئي والقرائين فعمل الطائفتان جميعًا رأس سنتهم يوم الخميس وهذا من النوادر التي لا تقع إلا في الأعوام المتطاولة انتهى‏.‏
ثم في يوم الاثنين سادس عشرين المحرم من سنة ست وثلاثين المذكورة عزل السلطان آقبغا الجمالي عن الأستادارية وجعل الزنجير الحديد في رقبته وأنزله على حمار من القلعة إلى بيت التاج الوالي بسويقة الصاحب ليعاقبه على استخراج المال‏.وأصبح السلطان من الغد خلع على الصاحب كريم الدين عبد الكريم بن كاتب المناخ بإعادته إلى وظيفة الأستادارية عوضًا عن آقبغا المذكور مضافًا إلى الوزر وعزله عن وظيفة كتابة السر‏.‏
ورسم السلطان للقاضي شرف الدين الأشقر نائب كاتب السر أن يباشر الوظيفة إلى أن يستقر فيها أحد وعين جماعة كبيرة للوظيفة المذكورة فلم يقع اختيار السلطان على أحد منهم‏.‏ ورسم السلطان بطلب القاضي كمال الدين ابن البارزي قاضي قضاة دمشق وكاتب سرها ليستقر في كتابة سر مصر‏.‏

وخرج القاصد بطلبه من القاهرة في يوم الأحد ثاني صفر من سنة ست وثلانين وثمانمائة ليستقر في كتابة سر مصر وأن بركز عوضه في قضاء القضاة بدمشق بهاء الدين محمد ابن القاضي نجم الدين عمر بن حجي وأن يستقر عوضه في كتابة سر دمشق قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن الكشك الحنفي ويستقر ولد ابن الكشك شمس الدين محمد في قضاء الحنفية بدمشق عوضًا عن أبيه ويستقر جمال الدين يوسف بن الصفي في نظر جيش دمثسق عوضًا عن بهاء الدين بن حجي‏.‏

 

ثم في سابع صفر قدمت الرسل المتوجهة إلى قبرس‏.‏ وكان من خبرهم أنهم لما توجهوا إلى دمياط ركبوا منها البحر المالح في شينيين وساروا حتى وصلوا إلى الملاحة في يوم السبت عاشر المحرم من سنة ست وثلاثين المذكورة‏.‏ فلما وصلوا إلى الملاحة سار أعيانهم في البر إلى الأفقسية وهي مدينة قبرس ودار ملكها‏.‏ وبلع متملك قبرس مجيئهم فخرج إلى لقائهم وزير الملك في أكابر أهل قبرس فأنزلوهم هناك وباتوا ليلتهم بالمكان المذكور‏.‏

ملك قبرس الجديد يلتزم بالجزية
وأصبحوا من الغد وهو يوم الاثنين ثاني عشر المحرم عبروا المدينة ودخلوا على الملك جوان بن جينوس بن جاك في قصره فإذا هو قائم على قدميه فسلموا عليه وبلغوه الرسالة وأوصلوه كتاب السلطان كل ذلك وهو قائم على قدميه فأذعن بالسمع والطاعة وقال أنا مملوك السلطان ونائبه وقد كنت على عزم أن أرسل التقدمة فبلغني قدومكم فأمسكت عن ذلك‏.‏
فكلموه أن يحلف على طاعة السلطان فأجابهم إلى ذلك واستدعى القسيسين وحلف على الوفاء وعلى الاستمرار على الطاعة والقيام بما يجب عليه من ذلك‏.‏ فعند ذلك أفيض عليه التشريف السلطاني المجهز له على يد كبير القوم فلبسه وقد أظهر السرور والبشر بذلك‏.‏
ثم خرجت الرسل من عنده فداروا بالمدينة وهم ينادى بين أيديهم باستقرار الملك جوان في نيابة السلطنة بمدينة الأفقسية وسائر ممالكها وأن لأهل قبرس الأمان والاطمئنان ومروهم بطاعته وطاعة السلطان إلى أن داروا البلد‏.‏ ثم أنزلوهم في بيت قد أعد لهم وأجري عليهم من الرواتب مايليق بهم من كل ما عندهم‏.‏ ثم حمل إليهم فيما بعد سبعمائة ثوب صوف قيمتها عشرة آلاف دينار وذلك مما تأخر على أبيه ثم أظهر خصم أربعة آلاف دينار أخرى ووعد بحمل العشرة آلاف دينار الباقية بعد سنة‏.‏
ثم بعث إليهم أيضًا بأربعين ثوبًا صوفًا برسم الهدية للسلطان ثم أرسل لكل من الرسل شيئًا بحسب مقامه وعلى قدره‏.‏
ثم أخذ في تجهيزهم وتسفيرهم حتى كان سفرهم من قبرس بعد عشرة أيام من قدومهم إلى اللمسون فأقاموا بها إلى أن تهيأوا وركبوا البحر وساروا فيه ستة أيام ووصلوا إلى ثغر دمياط‏.‏ ثم خرجوا من مراكبهم وركبوا المراكب في بحر النيل إلى أن قدموا القاهرة وطلعوا إلى السلطان وعرفوه ما وقع لهم مفصلًا وما معهم من الصوف وغيره فقبل السلطان ذلك‏.‏
وقرأ السلطان كتاب متملك قبرص فإذا هو يتضمن السمع والطاعة وأنه نائب السلطان فيما تحت يده من البلاد والمملكة وأنه في طي علمه ومن جملة مماليكه فسر السلطان بذلك غاية السرور فإنه كان أشيع بمصر أنه لما ملك بعد أبيه خرج عن طاعة السلطان ومنع الجزية فوقع خلاف ذلك‏.‏ انتهى‏.‏

ثم في يوم السبت ثامن صفر خلع السلطان على حسن بك بن سالم الدوكري أحد أمراء التركمان وهو ابن أخت قرايلك باستقراره في نيابة البحيرة عوضًا عن أمير علي وأنعم عليه بمائة قرقل ومائة قوس ومائة تركاش وثلاثين فرسًا ووجهه إلى محل تحكمه بمدينة دمنهور فأقام بها سنين عديدة وإلى الآن متوليها هو ولده وهو يومئذ متولي جعبر‏.‏ ثم ورد الخبر على السلطان بامتناع ابن الكشك من ولاية كتابة سر دمشق وأنه استعفى من ذلك فأعفاه السلطان ورسم باستقرار القاضي تاج الدين عبد الوهاب بن أفتكين أحد موقعي الدست بدمشق في كتابة سر دمشق‏.‏ وكتب أيضًا باستقرار محيي الدين يحيى بن حسن بن عبد الوسع الحبحابي المغربي المالكي في قضاء المالكية بدمشق عوضًا عن القاضي شهاب الدين أحمد بن محمدد الأموي بعد موته‏.‏


ثم في يوم الاثنين أول شهر ربيع الأول قدم إلى القاهرة رسول ملك الفطلان من الفرنج بكتابه وقد نزل على جزيرة صقلية في ثاني عشرين رمضان بما ينيف على مائة قطعة حربية وتضمن كتابه الإنكار على الدولة ما تعتمده من التجارة في البضائع وأن رعيته الفرنج لا يشترون من السلطان ولا من أهل دولته بضاعة وأنهم لا يشترون إلا من التجار ثم أعاب على السطنة صناعة المتجر فرد السلطان رسوله ردًا قبيحًا وكتب له جرابًا بمثل ذلك‏.‏
ثم في هذا الشهر تكرر توجه السلطان إلى الصيد غير مرة قبليًا وبحريًا فأبعد ما وصل قبليًا إلى إطفيح وبحريًا إلى شبين القصر بالشرقية‏.‏ ثم في تاسع عشر شهر ربيع الأول قدم القاضي كمال الدين محمد بن البارزي من دمشق بعد أن خرج أكابر الدولة إلى لقائه وطلع إلى السلطان وقبل الأرض ثم نزل إلى داره‏.‏
وطلع من الغد إلى القلعة في يوم السبت العشرين من شهر ربيع الأول المذكور وخلع السلطان عليه باستقراره في كتابة السر بالديار المصرية عوضًا عن شهاب الدين أحمد بن السفاح بعد شغور الوظيفة مدة طويلة وهذه ولاية كمال الدين المذكور لكتابة السر ثاني مرة ونزل في موكب جليل‏.‏
قال المقريزي‏:‏ وسر الناس به سرورًا كبيرًا لحسن سيرته وكفايته وجميل طريقته وكرمه وكثرة حيائه فالله يؤيده بمنه انتهى كلام المقريزي‏.‏ قلت‏:‏ هو كما قاله المقريزي وزيادة حتى إنني لا أعلم في عصرنا هذامن يدانيه في غزير محاسنه‏.‏
ثم في يوم الخميس أول جمادى الأولى قدم الأمير مقبل الحسامي الدوادار كان نائب صفد وكان السلطان قد ركب من القلعة إلى خارج القاهرة فلقيه السلطان وخلع عليه وعاد مقبل المذكور في خدمة السلطان إلى القلعة‏.‏ ثم نزل مقبل في دار أعدت له فأقام بالقاهرة إلى يوم ثم في يوم الخميس ثامنه خلغ السلطان على الأمير أسنبغا الطياري أحد أمراء العشرات واستقر في نظر جدة عوضًا عن سعد الدين إبراهيم بن المرة وأذن لابن المرة المذكور أن يتوجه إلى خدمته‏.‏
فلما كان يوم حادي عشر جمادى الأولى المذكورة نودي في الناس بالإذن في السفر إلى الحجاز رجبية صحبة الأمير أسنبغا الطياري المذكور فسر الناس بذلك سرورًا زائدًا لأن ابن المرة كان لا يدع أحدًا أن يسافر معه خوفًا عليهم من قطاع الطريق‏.‏ ثم في سابع عشرين جمادى الأولى المذكورة سافر الوزير كريم الدين بن كاتب المناخ إلى جهة الوجه القبلي وهو يوم ذاك يباشر الوزارة والأستادارية معًا وكان سفره إلى الوجه القبلي لتحصيل ما يقدر عليه من الجمال والخيل والبغال والغنم والمال لأجل سفر السلطان إلى جهة البلاد الشامية‏.‏
كل ذلك والناس يأخذون ويعطون في سفر السلطان فإنه وقع منه التجهيز للسفر غير مرة ثم تغيرعزمه عن ذلك‏.‏ ثم في تاسع عشرينه قدم إلى القاهرة كتاب القان شاه رخ بن تيمورلنك صاحب ممالك العجم وجغتاي على يد بعض تجار العجم يتضمن أنه يريد كسوة الكعبة وأرعد فيه وأبرق ولم يخاطب السلطان فيه إلا بالأمير برسباي‏.‏
وقد تكررت مكاتبته للسلطان بسبب كسوة الكعبة غير مرة وهو لا يلتفت إليه ولا يسمح له بذلك بل يكتب له بأجوبة خشنة محشونة بالتوبيخ والوعيد والبهدلة حتى إنه كلما ورد منه كتاب وأجابه السلطان بتلك الأجوية الخشنة لا يشك الناس أن شاه رخ يرد إلى البلاد الشامية عقيب ذلك فلم يظهر له خبر ولا نظر له أثر‏.‏ وقد استخف الملك الأشرف بشأنه حتى إنه صار إذا أتاه قاصده لا يلتفت إليه ولا إلى ما في يده من الكتب بالكلية‏.‏ ويأتي إن شاء الله تعالى ذكر ما فعله ببعض قصاده من الضرب والبهدلة في محله من هذا الكتاب‏.‏
قلت‏:‏ لا أعرف للملك الأشرف في سلطنته حركة بعد افتتاحه لقبرس أحسن من ثباته مع شاه رخ المذكور في أمر الكسوة وعدم اكتراثه به فإنه أقام بفعلته هذه حرمة للديار المصرية ولحكامها إلى يوم القيامة‏.‏ انتهى‏.‏
ثم في يوم الجمعة خامس عشر جمادى الآخرة أنفق السلطان في المماليك المجردين إلى مكة وهم خمسون مملوكًا لكل واحد منهم مبلغ ثلاثين دينارًا وتجهزوا للسفر إلى مكة صحبة الأمير أسنبغا الطياري فلما كان يوم الإثنين ثامن عشر جمادى الآخرة المذكورة برز فيه الأمير أسنبغا الطياري بمن معه من المماليك السلطانية والحجاج‏.‏
وفيه خلع السلطان على سعد الدين إبراهيم بن المرة ليكون رفيقًا للأمير أسنبغا الطياري في التكلم على بندر جدة‏.‏ وفي هذه الأيام قوي عزم السلطان على السفر وظهر للناس حقيقة ذلك من تجهيز أمور السلطان وتعلقاته للسفر‏.‏ وأيضا فإنه رسم في هذه الأيام بصرف نفقة المماليك السطانية بسبب السفر‏.‏ ثم في يوم الخميس حادي عشرين جمادى الآخرة المذكورة أنفق السلطان في الأمراء نفقة السفر‏.‏ فعند ذلك اضطرب الناس وأخذوا في تجهيز أمورهم وتيقنوا صدق القالة‏.‏
فحمل السلطان إلى الأمير الكبير أتابك العساكر سودون من عبد الرحمن أكياس فضة حسابًا عن ثلائة آلاف دينار وإلى كل من أمراء لألوف وهم عشرة أنفس لكل واحد الذي دينار وإلى كل من أمراء الطلبخانات خمسمائة دينار وإلى كل من أمراء العشرات مائتي دينار وكل ذلك فضة حسابًا عن الذهب من سعر الدينار بمائتين وعشرين درهمًا والدينار يومئذ بمائتين وثمانين فالنفقة على هذا الحكم تنقص مبلغًا كبيرًا غير أنه من هو المشاحح لذلك ولسان الحال يقول‏:‏ يد الخلافة لا تطاولها يد‏.‏
وكان هذا أيضًا بخلاف القاعدة فإن الملوك أن تنفق أولًا على المماليك السلطانية ثم تنفق على الأمراء فكان ذلك بخلاف ما كان‏.‏
وكان له سبب فيما قيل وهو أن الملك الأشرف كان عنده بخل وعدم محبة للسفر من مبدأ أمره إلى أيام سلطنته وكان أشاع في السنين الماضية أنه يريد السفر لقتال قرايلك‏:‏ يوهم قرايلك بذلك ليرسل إليه بالدخول في طاعته وكان قرايلك أرسل إلى السلطان في ذلك لما كان ولده هابيل في حبس الملك الأشرف فلما مات هابيل بالطاعون في سنة ثلاث وثلاثين في محبسه أمسك قرايلك عن مكاتبات السلطان وأخذ في ضرب معاملاته وصار السلطان في كل سنة يتجهز للسفر ويشيع ذلك إرداعًا لقرايلك فلم يلتفت قرايلك لذلك‏.‏
فلما طال الأمر على السلطان حقق ما كان أشاعه من السفر مخافة العار والقالة في حقه‏.‏ وتأييد ما قيل أنني سمعته يقول في بعض منازله في سفره إلى آمد وأظنه في العودة‏:‏ لو سألني قرايلك في الصلح والدخول في طاعتي بمقدار ما سأله للأمير جكم من عوض نائب حلب لما مشيت لقتاله أو أقل من ذلك لرضيت فهذا الخبر يقوي القول المقدم ذكره‏.‏
واستمر السلطان في انتظار قدوم رسل قرايلك بالصلح في كل يوم وساعة وهو يترجى أنه إذا بلغه صحة سفر السلطان إلى قتاله يرسل قضاعه في السؤال بالصلح وأرباب دولته تشير عليه بالتربص والتأني في أمر السفر مخافة من وقوعهم في الكلف الكثيرة فأشاروا عليه بأن ينفق في الأمراء أولًا فربما يأتي رسول قرايلك في السؤال ويبرم الصلح فيكون استعادة المال منهم أهون من استعادته من المماليك السلطانية‏.‏
فحسن ذلك ببال السلطان وهو كما قيل في الأمثال إن كلمة الشح مطاعة وأنفق في الأمراء وعوق نفقة المماليك إلى أن كان يوم سلخ جمادى الآخرة‏.‏ فلما يئس من قرايلك أخذ في نفقة المماليك السلطانية في سلخ الشهر المذكور فأنفق على عدة كبيره من المماليك السلطانية لا يحضرني عدتهم‏.‏ قال المقريزى‏:‏ وهم ألفان وسبعمائة‏.‏ وفي ظني أنهم كانوا أكئر من ذلك غير أني لم أحرر عدتهم‏.‏
فجلس السلطان بالمقعد الذي على باب البحرة من الحوش السلطاني بقلعة الجبل وأعطى لكل مملوك صرة فيها ألف درهم وخمسون درهمًا فضة أشرفية عنها من الفلوس اثنان وعشرون ألف درهم وهي مصارفة مائة دينار من حساب صرف كل دينار بمائتين وعشرين درهمًا فلوسًا وكان صرف الدينار يوم ذاك بمائتين وثمانين درهما‏.‏
كما حملت النفقة أيضًا للأمراء على هذا الحساب‏.‏ وكانت المماليك السلطانية اتفقوا على أنهم لا يأخذون إلا مائة دينار ذهبًا ودخلوا على ذلك‏.‏ فلما استدعى الديوان أول اسم من طبقة الرفرف خرج صاحبه وأخذ وباس الأرض وعاد إلى حال سبيله‏.‏ واستدعى الديوان من هو بعده فخرج واحد بعد واحد إلى أن تمت الطبقة ولم يتفوه أحد منهم بكلمة في معنى ما اتفقوا عليه‏.‏
ولما نزلوا بعد القبض للنفقة صار بعضهم يوبخ البعض خفية على ترك ما اتفقوا عليه إلى أن قال لهم بعض المماليك المئيدية‏:‏ احمدوا الله على هذا العطاء فوالله لو لم ينفق السلطان فيكم وأمركم بالسفر معه من غير نفقة لخرجتم معه صاغرين وأولهم أنا‏.‏
وهؤلاء القوم يأكلون الأرزاق صدقة عن تلك الأمم السالفة فإننا لا نعلم بقتال وقع في هذا القرن أعني عن قرن التسعمائة غير وقعة تيمورلنك مع نواب البلاد الشامية على ظاهر حلب لا مع العساكر المصرية‏.‏ وأما ما وقع بعد ذلك من الوقائع في الدولة الناصرية فرج والدولة المؤيدية شيخ والدولة الظاهرية ططر والدولة المنصورية محمد بن ططر فهو فرع من القتال لا القتال المعهود بعينه‏.‏ وتصديق ذلك أنه لم تكن وقعة وقعت في هذه الدول أعظم من وقعة شقحب ومع ذلك لم يقتل في المصاف خمسون رجلًا من الطائفتين‏.‏
وما وقع بعد ذلك من الوقائع فتنجلي الوقعة ولم يقتل فيها رجل واحد‏.‏ وقد ثبت عند المؤرخين أنه قتل في الوقعة التي كانت بين تيمورلنك وبين ملك دلي أحد ملوك الهند في المصاف زيادة على عشرة آلاف نفس في أقل من يوم ونحن لا نطالب أحدًا بذلك غير أن الازدراء بالغير على ماذا انتهى‏.‏
ثم في يوم الثلاثاء ثالث شهر رجب قدم الصاحب كريم الدين عبد الكريم من الوجه البحري بعد أن أخذ خيول أهله وجمالهم وأغنامهم وأموالهم هو وأتباعه فما عفوا ولا كفوا‏.‏ ثم في يوم الخميس ثاني عشر شهر رجب المذكور أدير محمل الحاج ولم يعمل فيه ما جرت به العادة من التجمل ولعب الرماحة بل أوقف المحمل تحت القلعة وأعيد ولم يتوجه إلى مصر ثم في يوم السبت رابع عشر شهر رجب المذكور خرجت مدورة السلطان وخيام الأمراء من القاهرة ونصبت بالريدانية لأجل سفر السلطان‏.‏
ثم في يوم الاثنين سادس عشره خرج أمراء الجاليش مقدمة لعسكر السلطان وهم الأمير سودون من عبد الرحمن أتابك العساكر والأمير إينال الجكمي أمير سلاح والأمير قرقماس الشعباني الناصري حاجب الحجاب والأمير قاني باي الحمزاوي والأمير سودون ميق والجميع مقدمو ألوف ونزلوا بخيمهم بطرف الريدانية تجاه مسجد التبن‏.‏
السلطان يأمر بإخراج البطالين من الأمراء من الديار المصرية

فرسم للأمير ألطنبغا المرقبي حاجب الحجاب كان في الدولة المؤيدية شيخ بالتوجه إلى القدس ثم رسم له أن يتوجه صحبة السلطان إلى السفر فسافر في ركاب السلطان وهو يوم ذاك من جملة أمراء العشرات ثم رسم السلطان بإخراج الأمير أيتمش الخضري الظاهري المعزول عن الأستادارية قبل تاريخه إلى القدس فخرج إليه ومنع السلطان من بقي من أولاد الملوك من الأسياد من ذرية الملك الناصر محمد بن قلاوون وغيره من سكنى القلعة وطلوعها في غيبة السلطان وأخرجوا من دورهم فيها‏.‏
وكانوا لما منعوا من سنين من سكن القلعة ورسم لها الملك الأشرف بالنزول منها والركوب حيث شاءوا سكن أكثرهم بالقاهرة وظواهرها فذلوا بعد عزهم وتهتكوا بعد تحجبهم وبقي من أعيانهم طائفة مقيمة بالقلعة وتنزل إلى القاهرة في حاجاتهم ثم تعود إلى دورهم فلما كان سفر السلطان في هذه السنة أخرجوا الجميع منها ومنعوا من سكنى القلعة فنزلوا وتفرقوا بالأماكن بالقاهرة‏.‏
والعجب أن الملك الناصر محمد بن قلاوون كان فعل ذلك بأولاد الملوك من بني أيوب فجوزي في ذريته وكان الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب فعل ذلك بأولاد الخلفاء الفاطميين فكل واحد من هؤلاء جوزي في أولاده بمثل فعله ووقع ذلك لابن الملك الأشرف ولغيره ولا يظلم ربك أحدًا‏.‏
ثم في يوم سابع عشره خلع السلطان على دولات خجا الظاهري بإعادته إلى ولاية القاهرة عوضًا عن التاج بن سيفة الشوبكي بحكم سفره مع السلطان مهمندارًا وأستادار الصحبة‏.‏ هذا وقد ترشح الأمير آقبغا التمرازي أمير مجلس لإقامته بالقاهرة في غيبة السلطان وترشح الأمير حسين بن أحمد المدعو تغري برمش البهنسي للإقامة بباب السلسلة في غيبة السلطان حسبما يأتي ذكره‏.‏
سفر السلطان الأشرف برسباي إلى آمد
سفر السلطان الأشرف برسباي إلى آمد لما كان يوم الخميس تاسع عشر شهر رجب من سنة ست وثلاثين وثمانمائة الموافق لأول فصل الربيع وانتقال الشمس إلى برج الحمل ركب السلطان الملك الأشرف برسباي من قلعة الجبل ببقية أمرائه ومماليكه وعبى أطلابه وتوجه في الساعة الثالثة من النهار المذكور إلى مخيمه بالريدانية خارج القاهرة تجاه مسجد التبن فسار في موكب جليل إلى الغاية وقد خرج الناس لرؤيته إلى أن وصل إلى مخيمه وصحبته من الأمراء المقدمين‏:‏ الأمير جقمق العلائي أمير آخور والأمير أركماس الظاهري الدوادار والأمير تمراز القرمشي رأس النوب والأمير يشبك السودوني المعروف بالمشد والأمير جانم ابن أخي الملك الأشرف والأمير جاني بك الحمزاوي فهؤلاء من مقدمي الألوف وسافر معه جماعة كثيرة من أمراء الطبلخاناه مثل الأمير قراخجا الشعباني الظاهري برقوق ثاني رأس نوبة والأمير قراسنقر من عبد الرحمن الظاهري برقوق والأمير قراجا الأشرفي شاد الشرابخاناه والأمير تمرباي التمربغاوي الحوادار الثاني والأمير شيخ الركني الأمير آخور الثاني والأمير خجا سودون السيفي بلاط الأعرج أحد رؤوس النوب والأمير تغري بردي البكلمشي المؤذي أحد رؤوس النوب فهؤلاء الذين يحضرني الآن أسماؤهم‏.‏
وسافر معه عدة كبيرة من الأمراء العشرات وخلع على الأمير حسين بن أحمد المدعو تغري برمش باستقراره في نيابة الغيبة ورسم له بسكنى باب ألمجسلة والحكم بين الناس‏.‏ ورسم باستقرار الأمير آقبغا التمرازي أمير مجلس بإقامته بالقاهرة وبسكنه بقصر بكتمر عند الكبش والأمير برد بك الإسماعيلي قصقا الحاجب الثاني‏.‏
وعين أيضًا عدة من أمراء العشرات والحجاب بالإقامة بالقاهرة‏.‏ واستقر بالقلعة المقام الجمالي يوسف ابن السلطان الملك الأشرف وهو أعظم مقدمي الألوف والأمير خشقدم الظاهري الزمام الرومي والأمير تنبك البردبكي نائب قلعة الجبل والأمير إينال الظاهري أحد رؤوس النوب المعروف بأبزى‏.‏
وخلع على الأمير إينال الششماني أحد أمراء العشرات ورأس نوبة باستقراره أمير حاج الموسم وخلع على الوزير الأستادار الصاحب كريم الدين بإقامته بالقاهرة وأن يتوجه أمين الدين إبراهيم بن الهيصم ناظر الدولة صحبة السلطان‏.‏ وبات السلطان ليلة الجمعة بالريدانية واشتغل بالمسير من الغد في يوم الجمعة بعد الظهر إلى البلاد الشامية ومعه من ذكرنا من الأمراء والخليفة المعتضد بالله داود والقضاة الأربعة وهم‏:‏ قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن حجر الشافعي وقاضي القضاة بدر الدين محمود العينتابي الحنفي وقاضي القضاة شمس الدين محمد البساطي المالكي وقاضي القضاة محب الدين أحمد البغدادي الحنبلي‏.‏
ومن مباشري الدولة‏:‏ القاضي كمال الدين محمد بن البارزي كاتب السر وزين الدين إبراهيم ابن كاتب جكم ناظر الخواص والقاضي شرف الدين أبو بكر الأشقر نائب كاتب السر وأئمة السلطان الذين يصلون به الخمس ونديمه ولي الدين بن قاسم الشيشيني فهؤلاء الذين سمحت القريحة بذكرهم‏.‏ وكان سفر السلطان في الغد من يوم خروجه من القاهرة بخلاف عادة الملوك انتهى‏.‏
وسار السلطان بعساكره لا يتجاوز في سيره المنازل إلى أن وصل إلى مدينة غزة في أول شعبان بعد أن خرج نائبها الأمير إينال العلائي الناصري أعني الملك الأشرف إينال إلى ملاقاته هو وأعيان غزة ودخل السلطان إليها في موكب عظيم سلطاني وأقام بها إلى أن رحل منها في يوم الخميس رابعه بعد أن نزل بالمسطبة خارج غزة ثلاثة أيام وسار إلى جهة دمشق ونحن في خدمته إلى أن وصل إلى مدينة دمشق في يوم الاثنين خامس عشر شعبان‏.‏
واجتاز بمدينة دمشق بأبهة السلطنة وشعار الملك في موكب جليل وحمل الأمير جارقطلو نائب الشام القبة والطير على رأسه إلى أن نزل بالذهليز السلطاني بمنزلة برزة خارج دمشق وكذلك جميع أمرائه وعساكره نزلوا بخيامهم بالمنزلة المذكورة ولم ينزلوا بمدينة دمشق شفقة على أهل دمشق‏.‏
وأقام السلطان بمخيمه خمسة أيام وركب فيها غير مرة ودخل دمشق وطلع إلى قلعتها مرارًا‏.‏ ثم رحل السلطان من دمشق بأمرائه وعساكره في يوم السبت عشرينه يريد البلاد الحلبية فحصل للعسكر بعيض مشقة لعدم إقامته بدمشق من أجل راحة البهائم ولم يعلم أحد قصد السلطان في سرعة السير لماذا وسار السلطان حتى وصل إلى حمص ثم إلى حماة فخرج الأمير جلبان نائب حماة إلى ملاقاة السلطان بعساكر حماه فأقام السلطان بظاهر حماة المذكورة ثلاثة أيام ثم رحل منها يريد حلب‏.‏
ولم يدخل السلطان حماة بأبهة السلطنة كما دخل دمشق لما سبق ذلك من قواعد الملوك السالفة‏:‏ أن السلطان لا يدخل أبدًا من مدن البلاد الشامية بأبهة السلطنة إلا دمشق وحلب ثم مصر وباقي البلاد يدخلها على عادة سفره إلا الملك المؤيد شيخ فإنه لما سافر إلى البلاد الشامية في واقعة نوروز الحافظي عمل بحماة الموكب السلطاني ودخلها بأبهة السلطنة وحمل على رأسه القبة والطير الأمير الكبير استقلالًا بنائبها فإنه لا يحمل القبة والطير على رأس السلطان إلا أحد هؤلاء الأربعة‏:‏ الأمير الكبير أو ابن السلطان أو نائب الشام أو نائب حلب‏.‏
وكان لعمل الملك المؤيد الموكب بحماه سبب وهو أنه كان في أيام إمرته في الدولة الناصرية فرج لما حاصر الأمير نوروز الحافظي بها تلك المدة الطويلة‏.‏ وقع من حقه من أهل حماة أمور شنيعة صار في نفسه من ذلك حزازة فلما ملك البلاد وتسلطن أراد أن ينكيهم بما هو فيه من العظمة ويريهم ما آل أمره إليه انتهى‏.‏
وسار السلطان الملك الأشرف من حماة إلى أن وصل إلى حلب في يوم الثلاثاء خامس شهر رمضان ودخلها على هيئة دخوله إلى دمشق بأبهة السلطنة وحمل القبة والطير على رأسه الأمير قوروه من تمراز نائب حلب وشق السلطان مدينة حلب في موكب عظيم إلى أن خرج منها على هيئته ونزل بمخيمه بظاهر حلب برأس العين ونزل مبه جميع عساكره بخيلهم ولم ينزل أحد منهم بمدينة حب فأقام السلطان بمكانه المذكور خمسة عشر يومًا يركب فيها ويدخل إلى حلب ويطلع على قلعتها‏.‏
وكانت إقامة السلطان بحلب هذه المدة ليرد عليه بها قصاد الأمير عثمان بن طرعلي المدعو قرايلك في طلب الصلح فلم يرد عليه أحد ممن يعتمد السلطان على كلامه فعند ذلك تهيأ السلطان للخروج إلى جهة آمد‏.‏ وسار من حلب في يوم الاثنين حادي عشرين شهر رمضان مخففًا من الأثقال والخيام الهائلة ونزل القضاة بمدينة حلب وصحب الخليفة أمير المؤمنين المعتضد داود وهو في ترسيم الأمير قراسنقر العبد رحماني أحد أمراء الطبلخاناه كما هي العادة في مشي بعض الأمراء مع الخلفاء في الأسفار كالترسيم عليه وهذا أيضًا من القواعد القديمة‏.‏
واستمر السلطان في سيره بجميع عساكره غير أنهم في خفة من أثقالهم إلى أن وصل البيرة وقد نصب جسر المراكب على بحر الفرات لتعدية العساكر السلطانية عليه إلى جهة الشرق فنزل السلطان في البر الغربي الذي جهة حلب وأقام بمخيمه وأمر الأمراء أن تعدي إلى تلك الجهة بأطلابها قبله ثم يسير السلطان بالعساكر بعدهم لئلا تروح العساكر على الجسر المذكور لأن الجسر وإن كان محكمًا فهو موضوع على المراكب والمراكب مربوطة موثوقة بالسلاسل فهو على كل حال ليس بالثابت تحت الأقدام ولا بد أن يرتج عند المرور عليه وكانت سعة الجسر بنحو أن يمر عليه قطاران من الجمال المحملة انتهى‏.‏
فأخذت الأمراء في التعدية إلى جهة البيرة والسلطان بعساكره في خيامهم إلى أن انتهى حال الأمراء فأذن السلطان عند ذلك للعساكر بالمرور على الجسر المذكور إلى البيرة من غير عجلة فكأنه استحثهم على السرعة فحملوا جمالهم للتعدية ووقع بينهم أمور وضراب ومخاصمة بسبب التعدية يطول شرحها إلى أن عدى غالبهم‏.‏ فعند ذلك ركب السلطان بخواصه ومر على الجسر المذكور إلى أن عداه‏.‏
ونزل بقلعة البيرة في يوم السبت سادس عشرين شهر رمضان ونزلت العساكر المصرية والشامية على شاطىء بدر الفرات وغيره فأقام السلطان بالبيرة إلى أن رتب أمورها وترك بها أشياء كثيرة من الأثقال السلطانية ورحل منها في أواخر شهر رمضان المذكور إلى جهة آمد حتى نزل على مدينة الرها في ليلة عيد الفطر فوجدناها خرابًا خالية من أهاليها وأصحابها لم يسكنها إلا من عجز عن الحركة من ضعف بدنه أو لقلة ماله‏.‏ ونزل السلطان على ظاهرها من جهة الشرق وعيد بها عيد الفطر ودخلت أنا إلى مدينة الرها وطلعت إلى قلعتها فإذا هي مدينة لطيفة وقلعتها في غاية الحسن على أنها صغيرة جدًا‏.‏
ثم أصبح السلطان يوم عيد الفطر وقد اشتغل بالمسير إلى جهة آمد وإلى الآن لم يعرف لقرايلك خبر والأقوال فيه مختلفة فمن الناس من يقول إنه تهيأ ويريد قتال العساكر السلطانية ومن الناس من يقول إنه دخل إلى آمد وحصنها ومن الناس من يقول إنه ترك بمدينة آمد ابنه بعد أن حصنها وتوجه إلى قلعة أرقنين وأرقنين على يسار المتوجه إلى آمد‏.‏
وسار السلطان بعساكره من الرها وعليهم الأسلحة وآلة الحرب إلى أن نزل إلى آمد في يوم الخميس ثامن شوال وقبل نزول السلطان عليها صف عساكره عدة صفوف ووراءهم الثقل والخدم حتى ملؤوا الفضاء طولًا وعرضًا‏.‏
ومشى السلطان هو والخليفة ومباشرو الدولة حولهما بغير سلاح يوهم أن المباشرين المذكورين هم قضاة الشرع لكون لبسهم على هيئة لبس الفقهاء وليس بينهم وبين القضاة فرق بل كان فيهم مثل القاضي كمال الدين بن البارزي كاتب السر وهو أفضل من قضاة كثيرة وسار السلطان بهم أمام عسكره‏.‏
وقد هال أهل آمد ما رأوه من كثرة العساكر وتلك الهيئة المزعجة التي قل أن يجتمع في عساكر الإسلام مثلها من ترادف العساكر بعضها على بعض حتى ضاق عليهم اتساع تلك البراري وخلف العساكر المذكورة الأطلاب الهائلة والكوسات تدق والبوقات تزعق وقد تجاوز عدد أطلاب الأمراء لكثرة ما اجتمع على السلطان من العساكر المصرية والنواب بالبلاد الشامية وأمراء التركمان والعربان فكانت عدة الأطلاب التي بها الطبول والزمور تزيد على مائة طلب ما بين أمراء مصر المقدمين وبعض الطبلخانات ونائب دمشق وأمرائها وهم عدة كثيرة ونائب حلب وأمرائها وطرابلس وأمرائها وكذلك حماة وصفد وغزة ونواب القلاع وأمراء التركمان الذين تضرب على بابهم الطبول فدقت عند قدوم السلطان جميع طبول هؤلاء وزعقت الزمور يدًا واحدة فانطبق الفضاء طبلًا وزمرًا حربية هذا مع كثرة البراشم والأجراس المعلقة على خيول الحرب الملبسة بالعدد الكاملة وقلاقل الجمال‏.‏
وعند القرب من مدينة آمد أخذت العساكر تلتم حتى شرف أجناد كثيرة على الهلاك من عظم ازدحام بعضهم على بعض ومع هذا أعرض العساكر مدد العين وصار الرجل من العسكر إذا تكلم مع رفيقه لا يسمع رفيقه كلامه إلا بعد جهد كبير لعظيم الغوغاء فانذهل أهل آمد مما عاينوا من كثرة هذه العساكر وشدة بأسها وحسن زيهم ومن التجمل الزائد في العدد والألات والخيول والأسلحة والكثرة الخارجة عن الحد في العدد‏.‏
وكان قرايلك قبل أن يخرج من مدينة آمد أمر أن يطلق الماء على أراضي آمد من خارج البلد من دجلة ففعلوا ذلك فارتطمت خيول كثير من العسكر بالماء والطين فلم يكترث أحد بذلك ومشى العسكر صفًا واحدًا وخلف كل صف صفوف لا تعد واستمروا في سيرهم المذكور إلى أن حاذوا خندق آمد وقد بهت أهلها لما داخلهم من الرعب والخوف مما طرقهم من العساكر ولم يرم منهم أحد بسهم في اليوم المذكور إلا نادرًا ولا علا أحد منهم على شرفات البلد إلا في النادر أيضًا وصاروا ينظرون العساكر من الفروج التي بين الشرفات‏.‏
ولم يكن لآمد المذكورة قلعة بل سور المدينة لاغير إلا أنه في غاية الحسن من إحكام بنيانه وكل بدنة بالسور المذكور تحمى البدنة الأخرى فلهذا يصعب حصارها ويبعد أخذها عنوة فوقف العسكر حول آمد ساعة‏.‏
ثم مال السلطان بفرسه إلى جهة بالقرب من مدينة آمد ونزل به في مخيمه وأمر الناس بالنزول في منازلهم وأمرهم بعدم قتال أهل آمد على أن أوباش القوم تراموا بالسهام قليلًا فتوجه كل واحد إلى مخيمه ونزل الجميع بالقرب من آمد كالحلقة عليها غير أنهم على بعد منها بحيث إنه لا يلحقهم الرمي من السور وأحدقت العساكر بالمدينة من جهتها الغربية وكان الموضع الذي نزلنا به هو أقرب الأماكن للمدينة المذكورة‏.‏
ونزل السلطان بمخيمه وقد ثبت عنده رحيل قرايلك من آمد وأنه ترك أحد أولاده بها فأقام بمخيمه إلى صبيحة يوم السبت عاشر شوال فركب وزحف بعساكره على مدينة آمد بعد أن كلمهم السلطان في تسليمها قبل ذلك وترددت الرسل بينه وبينهم فأبى من بها من الإذعان لطاعة السلطان وتسليم المدينة إلا يإذن قرايلك‏.‏
ولما زحف السلطان على المدينة اقتحمت عساكر السلطالط خندق آمد وقاتلوا من بها قتالًا شديدًا حتى أشرف القوم على الظفر وأخذ المدينة وردم غالب خندق مدينة آمد بالحجارة والأخشاب‏.‏ وبينما الناس في أشد ما هم فيه من القتال أخذ السلطان في مقت المماليك وتوبيخهم وصار كلما جرح واحد من عساكره وأتي له به يزدريه ويهزأ به وينسب القوم للتراخي في القتال‏.‏
ثم لبس هو سلاحه بالكامل وأراد أن يقتحم المدينة بنفسه حتى أعاقه عن ذلك أعيان أمرائه وهو راكب على فرسه وعليه السلاح الكامل من الخوف إلى الركب واقف على فرسه بمخيمه حيث يجلس والناس وقوف وركبان بين يديه تعده بالنصر والظفر في اليوم المذكور وإن لم يكن في هذا اليوم فيكون في الغد وتذكر له أن القلاع لا تؤخذ في يوم ولا يومين وهو يتكلم بكلام معناه أن عساكره تتهاون في قتال أهل آمدة فلا زالت الأمراء به حتى خلع عن رأسه خوذته ولبس تخفيفة على العادة واستمر القرقل عليه إلى أن ترضاه الأمراء وخلع قرقله فحمي الحر واشتدت القائلة وسئمت الناس من القتال هذا مع ما بلغهم من غضب السلطان بعد أن لم يبقوا ممكنًا في القتال وقد أثخنت جراحات الأمراء والمماليك من عظم القتال‏.‏
كل ذلك والسلطان ساخط عليهم بغير حق فعند ذلك فتر عزم القوم عن القتال من يومئذ وما أرى هذا الذي وقع إلا خذلانًا من الله تعالى لأمر سبق وإلا فالعساكر الذين اجتمعوا على آمد كان يمكنهم أخذ عدة مدن مثل آمد وغيرها‏.‏ ولما انقضى القتال وتوجه كل واحد إلى مخيمه وهو غير راض في الباطن وجد أهل آمد راحة كبيرة بعودة القوم عنهم وبلعوا ريقهم وأخذوا في تقوية أبراج المدينة وسورها بعد أن كان أمرهم قد تلاشى مما دهمهم من شدة قتال من لا قبل لهم بقتاله‏.‏
ونزل السلطان بمخيمه وندب الأمراء والعساكر للزحف على هيئة ركوبهم يوم السبت في يوم الثلاثاء وهو أيضًا في حال غضبه فابتدأ الأمير قوروه نائب حلب والأمير مقبل نائب صفد والأمير جقمق العلائي الأمير آخور في الكلام مع السلطان في تسكين غضبه وقالوا‏:‏ يا مولانا السلطان القلاع كما في علم السلطان ما تؤخذ في يوم واحد ولا في شهر وثم من القلاع ما حاوره تيمورلنك مع كثرة عساكره عشر سنين‏.‏
يا مولانا السلطان الحصون ما تبنى إلا للمنع ولولا ذاك ما بنى أحد حصنًا‏.‏ وقد اجتهد مماليك السلطان وأمراؤه في القتال وجرح الغالب منهم وكان ممن خرح من الأعيان‏:‏ الأمير تغري بردي المحمودي رأس نوبة النوب وهو كان يوم ذاك أتابك العساكع بدمشق والأمير سودون ميق أحد مقدمي الألوف بديار مصر والأمير تنبك من سيدي بك الناصري المعروف بالبهلوان أحد امراء العشرات ورأس نوبة وأما من المماليك والخاصكية فكثير‏.‏
فكان آخر كلام السلطان للأمراء‏:‏ إن العساكر تركب صحبة الأمراء في يوم الثلاثاء وتزحف على المدينة ويكون الذي يركب مع الأمراء للزحف المماليك القرانيص وأنا ومماليكي الأجلاب نكون خلفهم أراد بذلك عدم معرفة مماليكه بطرق الحرب فحمل الناس كلامه على أنه يفعل ذلك شفقة على مماليكه وأنه يريد هلاك من سواهم‏.‏
وقامت قيامة القوم وتنكرت القلوب على السلطان في الباطن وتطاولت أعناق أمرائه إلى الوثوب عليه واتفق كثير منهم على ذلك لولا أن بعضهم مات من جراحه وتخوف بعضهم أيضًا من بعض وعدم موافقة جماعة أخر من أعيان الأمراء لذلك‏.‏ وكان ممن اتهم بالوثوب على ما قيل الأتابك جارقطلو نائب الشام وطرباي نائب طرابلس ومقبل نائب صفد وتغري بردي المحمودي مات بعد أيام من جرح أصابه وسودون ميق مات أيضًا من جرح أصابه والأمير جانبك الحمزاوي مات في عود الملك الأشرف إلى مصر بعد أن ولاه نيابة غزة على كره منه وجماعة كثيرة غير هؤلاء على ما قيل‏.‏
وكان الذي لم يوافقهم على الوثوب الأمير قوروه والأمير إينال الجكمي أمير سلاح والأمير جقمق الأمير آخور وأما الأمير سودون من عبد الرحمن ألابك العساكر فلم يكن من هؤلاء ولامن هؤلاء لطول مرضه من يوم خرج من مصر وهو في محفة وكل ذلك لم يتحققه أحد غير أن القرائن الواقعة بعد ذلك تدل على صدق هذه المقالة انتهى‏.‏
ولما خرج الأمراء من عند السلطان بعد أن امتثلوا ما رسم به من الزحف في يوم الثلاثاء بلغ السلطان عن الأمراء والمماليك نوع مما ذكرناه فاضطرب أمره وصار يحاور المدينة وهو في الحقيقة محصور من احتراسه من أمرائه ومماليكه وأخذ في الندم على سفره وفتر عزمه عن أخذ المدينة في الباطن وضعف عن تدبير القتال‏.‏
كل ذلك والموكب السلطاني يعمل في كل يوم والأمراء تحضره ويركب السلطان ويسير إلى حيث شاء ومعه الأمراء والنؤاب غير أن البواطن معمورة بالغش ويمنعهم من إظهار ما في ضمائرهم موانع هذا والقتال مستمر في كل يوم بل في كل ساعة بين العسكر السلطاني وبين أهل آمد غير أنه لم يقع يوم مثل يوم السبت المذكور وقتل خلائق من الطائفتين كثيرة وصار السلطان يضايق أهل آمد بكل ما وصلت قدرته إليه هذا وقد قوي أمرهم واشتد بأسهم لما بلغهم من اختلاف عساكر السلطان وصاروا يصيحون من أعلى السور‏:‏ الله ينور جارقطلو وانطلقت ألسنتهم بالوقيعة والسب والتوبيخ من السلطان إلى من دونه‏.‏
وبينما السلطان فيما هو فيه قدم عليه الأمير دولات شاه الكردي صاحب أكل من ديار بكر فأكرمه السلطان وخلع عليه‏.‏ ثم لما بلغ الأشرف أحمد ابن الملك العادل سليمان ابن المجاهد غازي ابن الكامل محمد بن العادل أبي بكر ابن الأوحد عبد الله ابن المعظم توران شاه ابن السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن السلطان الملك الكامل محمد ابن السلطان الملك العادل أبي بكر بن أيوب بن شاذي الأيوبي صاحب حصن كيفا قدوم السلطان الملك الأشرف إلى آمد خرج من الحصن في قليل من عسكره في أوائل في القعدة يريد القدوم أعلى السلطان فاعترضه في مسيره جماعة من أعوان قرايلك على حين غفلة وقد نزل عن فرسه لصلاة العصر وقاتلوه إلى أن قتل الملك الأشرف المذكور من سهم أصابه وانهزم بقية من كان معه وانتهبوا فقدم جماعة منهم على الملك الأشرف وعرفوه بقتل الملك الأشرف صاحب الحصن فعظم عليه ذلك إلى الغاية‏.‏
ومن هذا اليوم أخذ السلطان في أسباب الرحيل عن آمد غير أنه صار يترقب حركة يرحل بها لتكون لرحيله مندوحة‏.‏ ثم ندب السلطان جماعة كبيرة من التركمان والحربان من عسكره لسع قتلة الملك الأشرف صاحب الحصن‏.‏
وكان منذ نزل السلطان على آمد وأتباع العسكر السلطاني من التركمان والعربان تعيث وتنهب في قرى آمد وغيرها ويأتون بما يأخذونه للعساكر المذكورة وصارت الغلمان تخرج من الوطاق إلى جهات آمد وتحصد الزروع وتأتي بها الأجناد حتى صار أمام خيمة كل جندي جرن كبير من الزرع وهو الذي قام بعلوفه خيول العسكر في طول مدة الإقامة على آمد ولولا ذلك لكان لهم شأن آخر‏.‏ ولما ندب السلطان الجماعة المذكورة لتتبع قتلة الملك الأشرف وغيره خرجوا إلى جهة من الجهات فوافوا جماعة كبيرة من أمراء قرايلك وقاتلوهم حتى هزموهم وأسروا منهم جماعة كبيرة من أمراء قرايلك وفرسانه وأتوا بهم إلى السلطان وهم نيف على عشرين نفسًا فأمر السلطان بقيدهم فقيدوا‏.‏
ثم توجهوا ثانيًا فوافقوا جماعة أخر فقاتلوهم أيضًا وأسروا منهم نحو الثلاثين ومن جملتهم قرا محمد أحد أعيان أمراء قرايلك فأحضر السلطان قرا محمد وهدده بالتوسيط إن لم يسلم له آمد فأخذوا قرا محمد المذكور ومروا إلى تحت سور المدينة فكلمهم قرا محمد المذكور في تسليم المدينة فلم يلتفتوا إليه فأخذوه وعادوا‏.‏
وأصبح السلطان فوسط منهم تحت سور آمد واتفق في توسيط هؤلاء غريبة وهو أن بعضهم حمل للتوسيط فاضطرب من أيدي حملته فوقع منهم إلى الأرض فقام بسرعة وهرب إلى أن ألقى بنفسه إلى الخندق بعد أن تبعه جماعة فلم يقدروا على تحصيله ثم خرج من الخندق وقد أرخي إليه من سور آمد حبل وتشبث به إلى قريب الشرفة فانقطع الحبل فوقع إلى الأرض ثم جر ثانيًا إلى أعلى المدينة ونجا وقيل إنه مات بعد ثلاثة أيام من طلوعه
ثم بلغ السلطان أن قرايلك نزل من قلعة أرقنين بجماعة من عساكره يريد أن يكبس على السلطان في الليل أو يتوجه بهم إلى حلب فندب السلطان جماعة من الأمراء والمماليك في عمل اليزك بالنوبة في كل ليلة لحفظ العساكر ثم رسم السلطان للأمير جارقطلو نائب الشام بالتوجه لقرايلك بقلعة أرقنين وندب معه جماعة من النواب والأمراء والعساكر المصرية وكنت أنا معهم فخرجنا من الوطاق السلطاني في الليل بجموع كثيرة وجددنا في السير حتى وافينا قرايلك وهو بمخيمه تحت قلعة أرقنين بمن الظهر والعصر وكان غالب العسكر قد تخلف بعدنا‏.‏
فتقدم بعض العسكر السلطاني من التركمان والعربان ومثل الأمير مقبل الحسامي نائب صفد وآقبغا الجمالي المعزول عن الأستادارية وجماعة أخر جمن الأعيان من أمراء مصر والشام واقتتلوا مع القرايلكية قتالًا جيدًا إلى أن كانت الكسرة فينا وقتل منا جماعة كثيرة من التركمان والعربان وأمراء دمشق وغيرهم مثل الأمير تمرباي الجقمقي أحد أمراء دمشق والأمير بخت خجا أيضًا من أمراء دمشق وجرح أكثر من كان معنا من الخاصكية والمماليك كل ذلك وسنجق السلطان إلى الآن لم يصل إلينا‏.‏
وأما جارقطلو فإنه لما قوي الحر عليه نزل على نهر بالقرب من أرقنين ليروي خيوله منه وصار الرائد يرد عليه بأن القوم قد التقوا مع عساكر قرايلك وهم في قلة وقد عزموا على القتال فلم يلتفت إلى ذلك وسار على هينته فتركه بعض عساكره وساروا حتى لحقوا بمن تقدمهم وقاتلوا القرايلكية وهم من تقدم ذكرهم ممن قتل من أمراء دمشق‏.‏
ولما أن بلغ من معنا من الأمراء المصريين ما وقع لجماعتنا ساقوا أيضًا حتى وافي جماعة منهم العسكر السلطاني فعند ذلك تراجع القوم وكروا القرايلكية وهزموهم أقبح هزيمة وتعلق قرايلك بقلعة أرقنين وتحصن بها ونهبت عساكره وتمزقوا كل ممزق‏.‏ ثم عدنا إلى جهة الوطاق بآمد في آخر النهار اله على أقبح وجه ممن باشر القتال وهم القليل وأما غالب العسكر فلم ير القتال بعينه‏.‏
وصار الأمير أزبك جحا بين يدي السلطان يثني على التركمان والعربان ويقول‏:‏ يا مولانا هولاء هم العسكر الذي ينتصر الملوك بهم لا غيرهم ذلك على طائفة من المماليك إلى الغاية وشنعوا القاله فيه لكونه تكلم ومن يومئذ تحقق السلطان ما قيل عن جارقطلو من تقاعده عن قتال قرايلك وأكثر أهل آمد من هذا اليوم الدعاء للأمير جارقطلو المذكور من أعلى السور خرجوا عن الحد فلم يدر الناس هل كان ذلك مكيدة من مكايد قرايلك الخلف بين العسكر بسبب ذلك أم كان ذلك عن حقيقة والله أعلم‏.‏
هذا والسلطان مجتهد في عماره قلعة من الخشب تجاه أبراج ومكاحل النفط ترمى في كل يوم بالمدافع والمناجنيق منصوبة يرمى بها وأيضًا على الأبراج وأهل آمد في أسوأ ما يكون من الحال هذا مع عدم التفات السلطان لحصار آمد الالتفات الكلي لشغل خاطره من جهة اختلاف عساكره وهو بتلك البلاد بين يدي عدوه وقد تورط في الإقامة على حصار آمد والشروع ملزم‏.‏
وطالت إقامته على آمد بعساكره نحو خمسة وثلاثين يومًا وقد ضاق الحال أيضًا على أهل آمد فعند ذلك ترددت الرسل بين السلطان وبين قرايلك في الصلح وكان قرايلك هو البادىء في ذلك حتى تم وانتظم الصلح بينهما على أن قرايلك يقبل الأرض للسلطان ويخطب باسمه في بلاده ويضرب السكة على الدينار والدرهم باسمه فأجاب إلى ذلك فأرسل إليه السلطان حمي القاضي شرف الدين الأشقر نائب كاتب السر وأرسلت أنا معه بعض أعيان مماليك الوالد ممن كان في صحبتي من المماليك السلطانية فتوجه إليه القاضي شرف الدين المذكور بالخلع والفرس الذي جهزه السلطان إليه بقماش ذهب ونحو ثلاثين قطعة من القماش السكندري‏.‏
ولما بلغ قرايلك مجيء القاضي شرف الدين نزل من قلعة أرقنين بمخيمه ولقي القاضي شرف الدين المذكور وسلم عليه ثم قام وقبل الأرض فألبسه القاضي شرف الدين الخلعة وكانت كاملية مخمل كفوي بمقلب سمور وفوقانيًا بوجهين أحمر وأخضر بطراز عريض إلى الغاية‏.‏ ثم قدم له الفرس صحبة الأوجاقي فقام إليه فأمره القاضي شرف الدين بتقبيل حافر الفرس فامتنع من ذلك قليلًا ثم أجاب بعد أن قال‏:‏ والله إن هذه عادة تعيسة أو معنى ذلك‏.‏
ثم أخذ في الكلام مع القاضي شرف الدين فأخذ القاضي شرف الدين يعظه ويحذره مخالفة السلطان وسوء عاقبة ذلك فقال‏:‏ وأنا من أين والسلطان من أين أنا رجل تركماني في جهة من الجهات ثم شرع يذكر قلة رأي السلطان في مجيئه إلى بلاده وقال‏:‏ أنا يكفيني نائب حلب وهو بعض نواب السلطان وما عسى كان يفعل السلطان لو أخذ آمد وكل شيء في آمد ما يساوي بعض ما تكلفه ثم قال‏:‏ والله لو أعطاني السلطان نصف ما ذهب من الكلف في نعل خيوله وخيول عساكره لرضيت ودخلت في طاعته ثم قال‏:‏ لو كان مع السلطان أمير من جنس هذا وأشار إلى مملوك الوالد الذي توجه مع القاضي شرف الدين مما خلاه يجيء إلى هنا وكان المملوك المذكور تتريا فقال شرف الدين‏:‏ بلى مع السلطان جماعة من جنسه فقال‏:‏ لا والله كان عندكم واحد نفيتموه إلى القدس بطالًا يعني بذلك الأمير قرامراد خجا الشعباني أمير جاندار وأحد مقدمي الألوف‏.‏
ثم قام قرايلك وقلع الخلعة من عليه وألبسها بعض حواشيه ثم فعل بالكاملية أيضًا كذلك وانفض المجلس وبات شرف الدين تلك الليلة عنده ولم يجتمع به غير المرة الأولى‏.‏ وعند السفر دخل إليه من الغد وسلم عليه فأنعم على قرايلك بأربعة أكاديش يساوي ثمنها أربعة آلاف درهم فلوسًا عند صاحب الغرض‏.‏
وعاد القاضي شرف الدين إلى السلطان فاجتمعت به قبل السلطان وعرفني جميع ما حكيته فاتفقنا على جواب نمقناه يحسن ببال السلطان من جنس كلام قرايلك لا يخفى على الذوق السليم معناه‏.‏ فلما دخل إلى السلطان وأعاد عليه الجواب المذكور سر السلطان قليلًا بذلك وعظم سرور من حضر من القوم ومعظم سرورهم بعودهم إلى بلادهم وأوطانهم سالمين مما هالهم مما كانوا فيه من المشقة وقد اعتادوا بالترف والأمن وقلة القتال‏.‏
وفي الحال أخذ السلطان في أسباب الرحيل ورحل في ليلة الخميس ثالث عشر ذي القعدة في النصف الثاني من الليل من غير ترتيب ولا تطليب ولا تعبية ورحلت العساكر من آمد كالمنهزمين لا يلوي أحد على أحد بل صار كل واحد يسير على رأيه‏.‏
وعند رحيل القوم أطلق الغلمان النيران في الزروع المحصودة برسم عليق خيول الأجناد فإنه كان كل جندي من الأجناد صار أمام خيمته جرن كبير مما يحصده غلامه ويأتيه به من زروع آمد فلما انطلق النار في هذه الأجران انطبق الوطاق بالدخان إلى الجو حتى صار الرجل لا ينظر إلى الرجل الذي بجانبه‏.‏ ورحل الناس على هذه الهيئة مسرعين مخافة أن يسير السلطان ويتركهم غنيمة لأهل آمد‏.‏ وبالله لو نزلوا في ذلك الوقت لأمسكوا من اختاروا مسكه قبضًا باليد ولو أرادوا النهب لغنموا وسعموا إلى الأبد لأن السلطان سار قبل رحيل نصف عسكره‏.‏ وسار القوم من آمد إلى جهات متفرقة إلى أن طلع النهار وقد تمزقت العساكر في طرقات متعددة لا تعرف طائفة خبر طائفة أخرى لبعد ما بينهم من المسافة‏.‏
فتوجه أتابك العساكر سودون من عبد الرحمن وهو مريض ملازم ركوب المحفة من طريق ماردين السالكة إلى مدينة الرها ومعه طائفة كبيرة ممن تبعه من العسكر السلطاني وتوجهت طائفة أخرى من العسكر من الطريق التي سلكناها في الذهاب إلى آمد من جهة قلعة أرقنين التي بها قرايلك وتبعهم خلائق وعدة أطلاب فافترق الأمراء من مماليكهم وأطلابهم وتشتت شملهم‏.‏
وسار السلطان من الطريق الوسطى من على الجبل المعروف قراضاغ وهذا الطريق أقرب الطرق كالمفازة غير أنه عسر المسلك إلى الغاية من الطلوع والنزول وضيق الطرقات‏.‏ وكنت أنا معه بهذا الطريق المذكور وأكل السبع رجلًا من غلماننا ووقع ذلك لجماعة أخر واصطادت الناس السباع من الأوكار وسرنا حتى نزلنا عن الجبل إلى فضاء غربي الجبل المذكور ومسافة الموضع الذي نزل السلطان به عن أرقنين التي بها قرايلك مقدار نصف بريد تخمينًا‏.‏
وعند نزول السلطان بالمنزلة المذكورة علم بمن فقده من عساكره وتأمل من معه منهم فإذا هم على النصف من عسكره وأيضا فيهم الذي تاه عن جماله ومنهم من لا يعرف طلبه أين ذهب وهو الأمير قرقماس الشعباني حاجب الحجاب نزل بالمنزلة المذكورة وليس معه غير أصحابه وطائفة نحو خمسة أنفس وهجان وغلام فنصب السيبة واستظل تحتها من الشمس وقد سار طلبه بجميع مماليكه ورخته من جهة لا يعرف متى تعود إليه ومثله فكثيرمن الأجناد والأمراء‏.‏
فلما رأى الملك الأشرف نفسه في قلة من عساكره ولم يبق معه إلا شرذمة قليلة ولم يعلم أين ذهب الباقون شق عليه ذلك وتخؤف من كبس قرايلك في الليل ولم يجد بدًا من المبيت في المكان المذكور لتمزق عساكره‏.‏
فلما دخل الليل ندب السلطان الأمير جقمق العلائي الأمير آخور الكبير ومعه جماعة لحفظ العسكر في الليل فركب الأمير جقمق بمماليكه ومن انضاف إليه قلت‏:‏ ومن تلك الليلة المذكورة علمت حال قرايلك وهمته فإنه لو كان بقية ما ترك عساكرنا في تلك الليلة بخير لأن الصلح الذي كان وقع بينه السلطان الملك الأشرف كلا شيء‏:‏ كان فسخ مجلس لا غير وقد بلغه ما لعسكرنا من الشتات والتفرق وعلم بجميع ما نحن فيه لقرب المسافة بينا ترك الإيقاع بنا إلا عجزًا وجبنًا وضعفًا‏.‏
وأيضًا من كان بمدينة آمد لو كان فيهم منعة وقوة بعد ما عاينوا ما وقع لعسكرنا عند الرحيل من التمزق وعظم الاضطراب لنزلوا واستولوا على جماعة من العسكر وباقي العسكر لا يعرفون بذلك من عظم الغوغاء وشغل كل واحد بنفسه مع شدة سواد الليل وظلمته انتهى‏.‏ ولما أصبح السلطان بكرة يوم الجمعة بهذه المنزلة المذكورة سار كل منها ما يريد مدينة الرها حتى وصلها بمن معه من العسكر وأقام بها حتى اجتمع به من كان ذهب من عساكره في الطرقات‏.‏
وأخذ السلطان في إصلاح أمر مدينة وطلب الأمير إينال العلائي الناوري نائب غزة وأراد أن يخلع عليه بنيابة فامتنع من ذلك أشد امتناع وأفحش في الرد وخاشن السلطان في اللفظ وصمم على عدم القبول لذلك فغضب السلطان منه واشتد حنقه وهم بالإيقاع به فخشي عاقبة ذلك من عظم شوكة إينال المذكور وأخذ يثني على نفسه من كونه يحكم على أمرائه ومماليكه وأشياء من هذا المعنى إلى أن قال‏:‏ أنا حكمي ما يسمعه إلا مماليكي وطلب الأمير قراجا الأشرفي شاد الشراب خاناه وخلع عليه باستقراره في نيابة الرها وخلع على القاضي شرف الدين نائب كاتب السر باستقراره كاتب سر الرها وخرجا من بين يدي السلطان بالخلع على كره‏.‏
ثم لما توجه الأمير إينال العلائي نائب غزة إلى مخيمه كلمه الناس من أصحابه فيما وقع منه من تمنعه ومخاشنته في الكلام مع السلطان أو كأنه خشي عواقب ما وقع منه فاعتذر من خراب مدينة الرها وأنه ليس بها ما يقوم بأوده وبلغ السلطان ذلك فضمن له ما طلبه وخلع عليه من يومه المذكور باستقراره في نيابة الرها ثم استعفى شرف الدين من كتابة سر الرها فأعفي بعد أن حمل خمسمائة‏.‏ دينار للخزانة.‏ ثم أمر السلطان المماليك السلطانية بدفع ما معهم من الشعير للأمير إينال المذكور ليكون له حاصل بالرها فبعث كل واحد منهم بشيء من عليق خيوله فاجتمع من ذلك شونة كبيرة ثم أنعم السلطان على الأمير إينال المذكور بأشياء كثيرة وأصلح أمره وسار بعساكره عن الرها إلى أن نزل البيرة‏.‏
ولما نزل السلطان بالبيرة أقام بها إلى أن عدت عساكره الجسر الذي نصب على بحر الفرات إلى البر الغربي ثم عدى السلطان إلى البر الغربي المذكور وأقام به يومه ورحل من آخر النهار المذكور بعساكره حتى وصل إلى حلب في خامس عشر ذي القعدة ونزل بظاهرها بالمنزلة التي نزل بها في ذهابه إلى آمد ونزل حوله جميع عساكره بعد أن أجهدهم التعب وماتت خيولهم وتلفت أموالهم من غير فائدة ولا قيام حرمة غير أن لسان الحال ينشد قول القائل‏:‏ الوافر‏:‏ مشيناها خطى كتبت علينا ومن كتبت عليه خطى مشاها وأقام السلطان بحلب نحو العشرة أيام وأمر النواب بالبلاد الشامية بالمسير إلى محل كفالتهم وخلع على الأمير جانبك الحمزاوي أحد مقدمي الألوف باستقراره في نيابة غزة عوضًا عن إينال العلائي المنتقل إلى نيابة الرها فامتنع جانبك الحمزاوي من ذلك امتناعًا كليًا فألبسه الخلعة كرهًا‏.‏
قيل‏:‏ إن جانبك المذكور لما لبس الخلعة وخرج هز رأسه وأمسك لحية نفسه كالمتوعد وبلغ الأشرف ذلك فقال‏:‏ حتى يصل إلى غزة فمات بالقرب من بعلبك‏.‏ وكان جانبك ممن اتهم بالممالأة من الأمراء في آمد وتكلم الناس في موت نجانبك المذكور‏:‏ أنه اغتيل بالسم لقول الملك الأشرف في حقه‏:‏ حتى يصل إلى غزة فقلت لبعض الإخوان‏:‏ يمكن أن يكون ذلك من طريق الكشف والكرامة فضحك الحاضرون وانفض المجلس‏.‏
ثم خلع السلطان على الأمير قاني باي الأبو بكري الناصري المعروف بالبهلوان أتابك حلب بانتقاله إلى أتابكية دمشق بعد مرت الأمير تغري بردي المحمودي بآمد من جرح أصابه في حصار آمد وكان المحمودي أيضًا ممن اتهم بالوثوب على الملك الأشرف‏.‏ وخلع على الأمير قطج من تمراز أحد مقدمي ألوف حلب باستقراره أتابك حلب عوضًا عن قاني باي المذكور وخلع السلطان على الأمير كمشبغا الأحمدي الظاهري أحد أمراء العشرات ورأس نوبة بتوجهه إلى الديار المصرية مبشرًا بعود السلطان إلى الديار المصرية‏.‏
وصار السلطان يركب ويسير بحلب وطلع إلى قلعتها غير مرة إلى أن خرج منها في يوم الخميس خامس في ذي الحجة من سنة ست وثلاثين المقدم ذكرها يريد جهة دمشق‏.‏ وسار حتى نزل بحماة وأقام بها أيامًا ثم رحل منها بعساكره إلى جهة دمشق حتى دخلها في يوم الخميس تاسع عشر ذي الحجة ونزل بقلعتها ونزلت عساكره بمدينة دمشق‏.‏ ودام بدمشق إلى أن برز منها يوم السبت ثامن عشرين ذي الحجة يريد الديار المصرية بعد أن خلع على جميع نواب البلاد الشامية باستمرارهم ولم يحرك ساكن في الظاهر والله متولي السرائر‏.‏
ثم سار السلطان حتى وصل غزة وقد استقر في نيابتها من دمشق الأمير يونس الركني أحد مقدمي الألوف بدمشق وكان يونس المذكور وليها مرة أخرى قبل ذلك‏.‏ وأقام السلطان بغزة ثلاة أيام ثم رحل منها يريد القاهرة حتى وصلها في يوم الأحد العشرين من محرم سنة سبع وثلاثين وثمانمائة ودخل في موكب جليل من باب النور بأبهة الملك وشعار السلطنة وعلى رأسه القبة والطير تولى حملها الأمير الكبير سودون من عبد الرحمن وهو مريض وقد ساعده جماعة من حواشيه في حملها‏.‏
وشق السلطان القاهرة وقد زينت لقدومه أحسن زينة وسار حتى نزل بمدرسته التي أنشأها بخط العنبريين من القاهرة وصلى بها ركعتين ثم ركب منها وسار حتى خرج من باب زويلة وطلع إلى القلعة بعد أن خرج المقام الجمالي يوسف ولده إلى ملاقاته بالخانقاه وعاد معه‏.‏
وكان لقدومه يوم مشهود وسر الناس بسلامته وعاد السلطان إلى مصر بعد أن أتلف في هذه السفره نحو الخمسمائة ألف دينار من النقد وتلف له من السلاح والمتاع والخيل والجمال والبغال مثل ذلك وأنفق الأمراء بمصر والشام والعساكر المصرية والشامية مثل ذلك وتلف لأهل آمد وما حولها من الغلال والزراعات والمواشي شيء كثير إلى الغاية وقتل أيضًا خلائق ومع هذا كله كانت سفرة كثيرة الضرر قليلة النفع‏.‏ ولم ينل أحد في هذه السفرة غرضًا من الأغراض ولا سكنت فتنة ولا قامت حرمة ولا ارتدع عدو‏.‏
ولهج غالب الناس بأن السلطان سعده لا يعمل إلا وهو بقلعته وحيثما تحرك بنفسه بطل سعده وعدوا حركته مع التركمان في نيابته بطرابلس ثم واقعته مع الأمير جقمق نائب الشام لما أمسكه جقمق وحبسه ثم سفرته هذه إلى آمد‏.‏ قلت‏:‏ الحركات والسكون بيد الله ولما طلع السلطان إلى القلعة خلع على الأمراء وأخذ في إصلاح أمره وخلع على التاج بإعادته إلى ولاية القاهرة بعد عزل دولات خجا الظاهري‏.‏
ثم خلع السلطان على الأمير آقبغا الجمالي المعزول عن الأستادارية قبل تاريخه باستقرارا في ولاية الوجه القبلي عوضًا عن داؤد التركماني وكان السلطان أنعم على آقبف المذكور بإمرة عشرة بعد موت الأمير تنبك من سيدي بك المعروف بالبهلوان بآمد‏.‏ ثم في يوم الثلاثاء ثاني عشر شهر ربيع الأول من سنة سبع وثلانين المذكورة رسم السلطان بإخراج الأمير الكبير سودون من عبد الرحمن إلى القدس بطالًا فاستعفى من السفر وسأل أن يقيم بداره بطالًا فأجيب إلى ذلك ولزم داره إلى ما يأتي ذكره‏.‏ وأنعم السلطان بأقطاعه على الديوان المفرد ولم يقرر أحدًا غيره في أتابكية العساكر بالديار المصرية وهذا شيء لم نعهد بمثله‏.‏ وضرب رنك السلطان على البيمارستان المنصوري بالقاهرة‏.‏
وكانت العادة جرت من مدة سنين أن كل من يلي الإمرة الكبرى يكون هو الناظر على البيمارستان المذكور فلما نفدت هذه الوظيفة تكلم السلطان على نظرها وضرب اسمه على بابها‏.‏ ثم في يوم السبت أول شهر ربيع الآخر خلع السلطان على دولات خجا المعزول عن ولاية القاهرة باستقراره في ولاية المنوفية والقليوبية‏.‏
ثم في يوم الاثنين ثالث شهر ربيع الآخر المذكور ركب السلطان من قلعة الجبل ونزل إلى الصيد وعاد في خامسه‏.‏ ثم في يوم الاثنين عاشره خلع السلطان على الأمير إينال الششماني الناصري ثاني رأس نوبة باستقراره في نيابة صفد بعد موت الأمير مقبل الحسامي الدوادار ومقبل أيضًا هو أحد من اتهم بالوثوب على السلطان في آمد‏.‏
ثم في حادي عشره خلع السلطان على آقبغا الجمالي المقدم ذكره باستقراره كاشف الوجه البحري عوضًا عن حسن بك ابن سالم الدوكري وأضيف إليه كشف الجسور أيضًا‏.‏ ثم في ثالث عشره ركب السلطاني ونزل إلى البيمارستان المنصوري للنظر في أحواله فنزل به وأقام ساعة ثم ركب وعاد إلى القلعة‏.‏ ثم في يوم الأحد ثامن عشرين جمادى الأولى خلع السلطان على حسين الكردي باستقراره كاشف الوجه القبلي بعد قتل آقبغا الجمالي في خامس عشرينه في حرب كان بينه وبين عرب البحيرة وقتل معه جماعة من مماليكه ومن العربان‏.‏
ثم خلع السلطان على الوزير الأستادار كريم الدين ابن كاتب المناخ كاملية بفرو وسمور بمقلب سمور لتوجهه إلى البحيرة وصحبته حسين الكردي المقدم ذكره لعمل مصالحها واسترجاع ما نهبه أهل البحيرة من متاع آقبغا الجمالي بعد قتله وكتب إليهم السلطان بالعفو عنهم وأن آقبغا تعدى عليهم في تحريق بيوتهم وسبي أولادهم ثم في أول جمادى الآخرة أمر السلطان بعد من بالإسكندرية من القزازين وهم الحياك فأحصي في يوم الثلاثاء أول جمادى الآخرة المذكورون فبلغت عدتهم ثمانمائة نول بعد ما بلغت عدتهم في أيام نيابة ابن محمود الأستادار في سنة بضع وتسعين وسبعمائة أربعة عشر ألف نول ونيفًا فانظر إلى هذا التفاوت في هذه السنين القليلة وذلك لظلم ولاة الأمور وسوء سيرتهم وعدم معرفتهم لكونهم يطمعون في النزر اليسير بالظلم فيفوتهم أموال كثيرة مع العدل والفرق بين العامر والخراب ظاهر‏.‏
ثم في يوم الاثنين ثاني عشر شهر رجب أدير محمل الحاج على العادة في كل سنة‏.‏ ثم في سابع عشرين شهر رجب المذكور قدم الأمير بربغا التنمي الحاجب الثالث بدمشق إلى القاهرة بسيف الأمير جارقطلو نائب دمشق وقد مات بعد مرضه بخمسة وأربعين يومًا في يوم تاسع عشره فعين السلطان عوضه لنيابة دمشق الأمير قصروه من تمراز نائب حلب وكتب له بذلك‏.‏
ثم في يوم تاسع عشرينه عين السلطان الأمير خجا سودون السيفي بلاط الأعرج أحد أمراء الطبلخاناه ورأس نوبة أن يتوجه إلى قصروه بالتقليد والتشريف‏.‏ وفي اليوم خلع السلطان على الأمير قرقماس الشعباني الناصري المعروف أهرام ضاغ حاجب الحجاب باستقراره في نيابة حلب عوضًا عن قصروه وأن يكون مسفره الأمير شاد بك الجكمي أحد أمراء الطبلخانات ورأس نوبة‏.‏
وخلع السلطان على الأمير يشبك السودوني ثم الظاهري ططر المعروف بالمشد باستقراره حاجب الحجاب عوضًا عن قرقماس المذكور وأنعم بإقطاع قرقماس على الأمير آقبغا التمرازي أمير مجلس وخلع عليه باستقراره أمير سلاح وبإقطاع آقبغا على الأمير يشبك المذكور‏.‏ وخلع السلطان على الأمير إينال الجكمي أمير سلاح باستقراره أتابك العساكر وكانت شاغرة من يوم لزم سودون من عبد الرحمن بيته واستقر عوضه في إمرة سلاح آقبغا التمرازي المقدم ذكره‏.‏
وخلع السلطان على الأمير جقمق العلاني الأمير آخور باستقرار أمير مجلس عوضًا عن آقبغا التمرازي المقدم ذكره‏.‏ وخلع على الأمير حسين بن أحمد المدعو تغري برمش باستقراره أمير آخور عوضًا عن جقمق العلائي‏.‏ فخرج الجميع وعليهم الخلع والتشاريف وجلسوا على المسطبة التي يجلس عليها مقدم المماليك عند باب السر في انتظار الخيول التي أخرجها السلطان لهم بسروج الذهب والكنابيش ما خلا تغري برمش فإنه فارقهم من داخل القصر ونزل إلى باب السلسلة وتسلمه من وقته‏.‏
فقعدوا الجميع على المسطبة صفًا واحدًا وجلس فوق الجميع إينال الجكمي ثم تحته قرقماس نائب حلب ثم آقبغا التمرازي الذي استقر أمير سلاح ثم الأمير جقمق الذي استقر أمير مجلس ثم الأمير يشبك المولى حاجب الحجاب إلى أن حضرت الخيول وركبوا ونزل كل واحد إلى داره‏.‏
فلما نزل جقمق العلائي إلى داره عرفه أصحابه وحواشيه أن وظيفة الأمير آخورية كانت خيرًا له من وظيفة أمير مجلس وإن كان ولا بد فيولى أمير سلاح فيكون ما فاته من منفوع الأمير آخورية يتعوضه من قيام الحرمة بوظيفة أمير سلاح‏.‏ وبلغ السلطان ذلك فرسم في الحال إلى آقبغا التمرازي أن يكون أمير مجلس على عادته وتكون الخلعة التي لبسها خلعة الرضى والاستمرار وأن يكون جقمق أمير سلاح ونزل الأمر إلى كل منهما بذلك فامتثلا المرسوم الشريف واستمر كل منهما على ما قرره السلطان ثانيًا‏.‏
وفي اليوم المذكور رسم السلطان بإخراج الأمير سودون من عبد الرحمن إلى ثغر دمياط وسببه أن السلطان لما بلغه موت جارقطلو استشار بعض خواصه فيمن يوئيه نيابة الشام فذكروا له سودون من عبد الرحمن وأنه يقوم للسلطان بمبلغ كبير من ذهب في نظير ذلك‏.‏
وكان في ظن السلطان أن سودون من عبد الرحمن قد استرخت أعضاؤه وتعطلت حركته من طول تمادي المرض به وقد أمن من جهته ما يختشيه فقال السلطان‏:‏ سودون من عبد الرحمن تلف ولم يبق فيه بقية لذلك فقالوا‏:‏ يا مولانا السلطان هو المتكلم في ذلك فلم يحملهم السلطان على الصدق وأرسل إليه في الحال يعرض عليه نيابة الشام فقبل وقال‏:‏ مهما أراد السلطان مني فعلته له فلما عاد الجواب على السلطان بذلك علم أن غالب ما به تضاعف وأن فيه بقية لكل شيء فأمر في الحال بإخراجه إلى ثغر دمياط‏.‏
ثم خلع السلطان على الأمير بربغا التنمي أحد حجاب دمشق وأعاده إلى دمشق‏.‏ ثم في يوم الخميس سابع شعبان من سنة سبع وثلاثين المذكورة خلع السلطان على الأمير الكبير إينال الجكمي باستقراره في نظر البيمارستان المنصوري على العادة‏.‏
وكان تولية إينال المذكور للإمرة الكبرى بغير إقطاع الأتابكية بل باستمراره على إقطاعه القديم غير أنه أنعم السلطان عليه بقرية حجة ومردة من أعمال نابلس وكانت من جملة إقطاع الأمير الكبير ثم خلع عليه بنظر البيمارستان المذكور فهذا الذي حصل له من جهة الأتابكية ولم ينله منها إلا مجرد الاسم فقط‏.‏
وفي شهر رجب وشعبان قرر السلطان على جميع بلاد الشرقية والغربية والمنوفية والبحيرة وسائر الوجه القبلي خيولًا تؤخذ من أهل النواحي فكان يؤخذ من كل قرية خمسة آلاف درهم فلوسًا عن ثمن الفرس المقرر عليها ويؤخذ من بعض النواحي عشرة آلاف عن ثمن فرسين ويحتاج أهل الناحية إلى مغرم آخر لمن يتولى أخذ ذلك منهم فنزل بسبب ذلك على فلاحي القرى بلاء الله المنزل‏.‏
وأحصى كتاب ديوان الجيش قرى أرض مصر العامرة كلها قبليها وبحريها فكانت ألفين ومائة وسبعيبن قرية وقد ذكر المسبحي في تاريخه أنها كانت في القرن الرابع عشرة آلاف قرية عامرة فانظر إلى تفاوت ما بين الزمنين مع أمن هذا الزمان وكثرة فتن ذلك الزمان غير أن السبب معروف والسكات أجمل‏.‏
ثم في يوم الخميس رابع عشر شعبان برز قرقماس نائب حلب إلى محل كفالته وعليه جمل كبيرة من الديوان‏.‏
ثم في تاسع عشر شعبان ختن السلطان ولده المقام الجمالي يوسف وختن معه نحو الأربعين صبيًا بعدما كساهم وعمل لذلك مهمًا هائلًا للرجال بالحوش السلطاني وللنساء بالدور من القلعة‏.‏
ثم في يوم السبت ثالث عشرينه فقد الوزير كريم الدين ابن كاتب المناخ بعد أن كان استعفى غير مرة من إحدى الوظيفتين‏:‏ إما الوز أو الأستادارية فلم يعفه السلطان فلما تسحب في هذا اليوم طلب السلطان أمين الدين إبراهيم بن الهيصم ناظر الدولة وخلع عليه باستقراره وزيرًا عوضًا عن الصاحب كريم الدين المذكور‏.‏
ثم في يوم الأربعاء سابع عشرين شعبان المذكور ظهر الصاحب كريم الدين المقدم ذكره وطلع إلى القلعة فخلع عليه السلطان سلاريًا من قماشه‏.‏
ثم طلع كريم الدين من الغد فخلع عليه السلطان ثانيًا خلعة جليلة باستمراره على وظيفة الأستادارية ونزل إلى داره في موكب جليل وقد سر به غالب أعيان الدولة فإن السلطان كان ألزم زين الدين عبد الباسط بوظيفة الأستادارية فقال له‏:‏ يا مولانا السلطان ما يليق بي هذه الوظيفة فقال‏:‏ يليها دوادارك جانبك فتبرم أيضًا من ذلك فخاشنه السلطان في الكلام وأهانه فأوعد بحمل مبلغ كبير من المال مساعدة للأستادار ثم حسن للسلطان في الباطن ولاية القاضي سعد الدين إبراهيم ناظر الخاص أستاذارًا وكلمه السلطان في ذلك فأبى سعد الدين إبراهيم أيضًا وأخذ يستعفي وبينما هم في ذلك ظهر كريم الدين فتنفس خناق عبد الباسط وغيره بظهور كريم الدين واستمراره على وظيفته‏.‏
وقدم الخبر في هذا الشهر من مكة المشرفة بأن الوباء قد اشتد بها وبأوديتها حتى بلغ عدة من يموت بمكة في اليوم خمسين نفسًا ما بين رجل وامرأة‏.‏ وفي شهر رمضان المذكور تحرك عزم السلطان على السفر إلى جهة آمد لقتال قرايلك وكتب إلى بلاد الشام بتعبئة الإقامات من الشعير وغيره على العادة‏.‏ وكان سبب حركة السلطان لذلك لما ورد عليه الخبر في يوم ثامن عشره أن الأمير إينار العلائي نائب الرها كان بينه وبين أعوان قرايلك وقعة هائلة‏.‏
وسببه أن بعض عساكر حلب أو عساكر الرها خرج يسير فرسه فلما كان بين بساتين الرها صادف طائفة من التركمان فقاتلهم وهزمهم وبلغ ذلك الأمير إينال فخرج مسرعًا من مدينة الرها نجدة لمن تقدم ذكره فخرجت عليه ثلاثة كمائن من القرايلكية فقاتلهم فكانت بينهم وقعة هائلة قتل فلما بلغ السلطان ذلك شق عليه وعزم على السفر ثم كتب السلطان إلى سائر البلاد الشامية بخروج نواب الممالك للحاق الأمير قرقماس نائب حلب بالرها ثم بطل ذلك وكتب بمنعهم من المسير حتى يصح عندهم نزول قرايلك على الرها بعساكره وجموعه فإذا صح لهم ذلك ساروا لقتاله‏.‏
وفي يوم الثلاثاء عشرين شوال كتب السلطان باستقرار خليل بن شاهين الشيخي ناظر الإسكندرية وحاجبها في نيابة الإسكندرية مضافًا على النظر والحجوبية عوضًا عن الأمير جانبك السيفي يلبغا الناصري فرج المعروف بالثور‏.‏
وفي شوال هذا قدم على السلطان الخبر من بغداد على يد قاصد كان السلطان وجهه قبل ذلك لكشف أخبار الشرق وأخبر‏:‏ أن أصبهان بن قرا يوسف لما ملك بغداد من أخيه شاه محمد بن قرا يوسف أساء السيرة بحيث إنه أخرج جميع أهل بغداد منها بعيالهم بعد أن أخذ جميع أموالهم من جليل وحقير فتشتتوا بنسائهم وأولادهم في نواحي الأقطار وصارت بغداد ليس بها سوى نحو ألف رجل من جند أصبهان المذكور لا غير وأنه لم يبق بها سوى ثلاثة أفران تخبز الخبز فقط ولم يبق بها سكان ولا بيعة ولا أسواق‏.‏
فكان فعل أصبهان هذا أقبح من فعل أخيه شاه محمد فإن شاه محمد لما تنصر ومال إلى دين النورانية قتل العلماء وأباد الفقهاء والصلحاء لا غير وترك من دونهم‏.‏ فجاء هذا الزنديق الفاسق تجاوز فعل شاه محمد من أنه أخرج جميع أهل بغداد وكان غرض أصبهان بذلك أن يخرب بغداد حتى لا يبقى لأخيه إسكندر ولا غيره طمع فيها فمد يده في ذلك حتى صارت بغداد خرابًا يبابًا لا يأويها إلا البوم انتهى‏.‏
قال‏:‏ وإنه أخرب أيضًا الموصل حتى صارت مثل بغداد وأعظم من أنه سلب نعم أهلها وأمر بهم فأخرجوا منها وتمزقوا في البلاد واستولت عليها العربان فصارت الموصل منزلة من منازل العرب بعد أن كانت تضاهي دار السلام‏.‏ قال أعني القاصد‏:‏ وان أصبهان أيضًا أخذ أموال أهل المشهد وأزال نعمهم وتشتتوا في البلاد‏.‏ قلت‏:‏ لا أعلم في طوائف التركمان ولا في أوباش عساكر جغتاي ولا في جهال التتار أوحش سريرة ولا أقبح طريقة ولا أسوأ سيرة ولا أضعف دينًا ولا أعدم مروءة ولا أقل نخوة ولا أبشع خبرًا من هؤلاء الزنادقة الكفرة الفسقة أولاد قرا يوسف‏.‏
وعندي أن النصارى أمثل من هؤلاء فإنهم متمسكون بدين على زعمهم وهؤلاء زنادقة لا يتدينون بدين كفرة ملحدون‏.‏
حدثني الأمير علي باي المؤيدي العجمي رحمه الله بعد عوده من عند أصبهان المذكور لما أرسله السلطان الملك الظاهر جقمق في الرسلية إليه بأشياء‏:‏ منها أنه كان يمد السماط بين يديه في بكرة أيام شهر رمضان وأنه سأل علي باي في الأكل معه من جملة عساكره فامتنع فقال له‏:‏ أمير علي باي بتتعب نفسك سخرة بني آدم هو مثاله مثال الزرع‏:‏ يطلع ويكبر ثم يحصد ويزول إلى الأبد وما ثم شيء ذلك فخل عنك ما أنت فيه وكل واشرب‏.‏
قال‏:‏ ثم سألت عن أصبهان من بعض خواصه عن أحواله فكان من جملة ما قاله إنه لا يتعبد على ملة من الملل منذ بلغ الحلم إلى يومنا بخلاف أخيه شاه محمد فإنه كان أولًا أيام أبيه قرا يوسف يصوم ويصلي ويظهر التنسك إلى أن مات أبوه فأظهر الميل إلى دين النصرانية وصار يتعبد على ملتهم‏.‏ فهذا الخبر عن شاه محمد وأصبهان وأضف إليهما إسكندر أيضًا فإنه كان أيضًا من هذه المقولة في الباطن ثم من بعدهم أخوهم جهان شاه بن قرا يوسف ملك في زماننا هذا فإنه أيضًا على طريقهم من الفسق والفجور والانهماك في المسكرات وجميع أفعاله في الباطن تقارب أفعال إخوته غير أنه يظهر خلاف ذلك لئلا ينفر الناس عنه وتسوء القالة فيه وقد استوعبنا أحوال هؤلاء الفسقة في تاريخنا الصافي والمستوفى بعد الوافي بأوسع من هذا فلينظر هناك‏.‏
ثم في يوم الأربعاء أول ذي القعدة توجه الأمير جقمق العلائي أمير سلاح إلى مكة المشرفة حاجًا وسار معه كثير ممن قدم من المغاربة وغيرهم وبسط بالإحسان إليه ذهابًا وإيابًا‏.‏

قال المقريزي‏:‏ وفي هذه السنة يعني عن سنة سبع وثلاثين طلق رجل من بني مهدي من أرض البلقاء امراته وهي حامل فنكحها رجل غيره ثم فارقها فنكحها رجل ثالث فولدت عنده ضفدعًا في قدر الطفل فأخذوه ودفنوه خوف العار‏.‏
ثم في يوم الاثنين ثالث محرم سنة ثمان وثلاثين وثمانمائة قدم قاصد قرايلك صاحب آمد بكتاب قرايلك ومعه تسعة أكاديش تقدمة للسلطان ودراهم قليلة عليها اسم السلطان لا غير فلم يحسن ذلك ببال أحد‏.‏
ثم في يوم الاثنين حادي عشر المحرم سنة ثمان وثلاثين المذكورة أمسك السلطان الأمير بردبك الإسماعيلي أحد امراء الطبلخانات وحاجب ثاني وأخرجه إلى دمياط وأنعم بإقطاعه على الأمير تغري بردي البكلمشي المعروف بالمؤذي أحد رؤوس النوب وخلع على الأمير جانبك السيفي يلبغا الناصري المعروف بالثور المعزول قبل تاريخه عن نيابة الإسكندرية باستقراره حاجبًا ثانيًا عوضًا عن بردلك الإسماعيلي المقدم ذكره‏.‏
وفي هذا الشهر أيضًا خلع السلطان على دولات خجا وأعيد إلى ولاية القاهرة عوضًا عن التاج بن سيفة الشوبكي‏.‏
ثم قي يوم الخميس سابع عشرين المحرم عملت الخدمة السلطانية بالإيوان المسمى دار العدل من قلعة الجبل بعد ما هجرت مدة لقدوم رسول القان معين الدين شاه رخ بن تيمور ملك المشرق‏.‏ وأحضر الرسول المذكور إلى الموكب بدار العمل وقد هاله ما رآه من حسن زي هذا الموكب‏.‏
وكان الرسول المذكور من أشراف شيراز يقال له السيد تاج الدين علي فحضر تاج الدين المذكور إلى بين يدي السلطان ولم يقبل الأرض لكونه من السادة الأشراف‏.‏ ودفع ما على يده من الكتاب ثم قدم ما معه من الهدية فتضمن كتابه وصول هدية السلطان المجهزة إليه وأنه نذر أن يكسو الكعبة البيت الحرام وطلب أن يبعث إليه من يتسلمها ويعلقها من داخل البيت‏.وتاريخ الكتاب في ذي الحجة سنة ست وثلاثين‏.‏
وكان قدوم القاصد من هراة إلى هرمز ومن هرمز إلى مكة ثم قدم صحبة ركب الحاج فأنزله السلطان بمكان وأجرى عليه ما يليق به من الرواتب‏.‏
واشتملت هدية شاه رخ المذكور على ثمانين ثوب حرير أطلس وألف قطعة فيروزج ليست بذاك مبلغ قيمة الجميع ثلاثة آلاف دينار لا غير‏.‏
ثم في يوم السبت سادس صفر عقد السلطان مجلسًا بين يديه بالقضاة الأربعة بسبب نذر شاه رخ بن تيمور أن يكسو الكعبة فلما جلسوا للكلام بعد أن سألهم السلطان في معنى ذلك أجاب قاضي القضاة بدر الدين محمود العيني الحنفي بأن نذره لا ينعقد فلم يتكلم أحد وانفض المجلس على ذلك‏.‏ وصار السلطان يقول‏:‏ للعيني مندوحة في منع شاه رخ من الكسوة‏.‏ ثم عين السلطان الأمير أقطوه الموساوي الظاهري برقوق للتوجه إلى شاه رخ برد الجواب صحبة قاصده‏.‏ انتهى‏.‏
ثم في يوم الاثنين خامس عشر المذكور ثارت مماليك السلطان الجلبان سكان الطباق بقلعة الجبل وطلبوا القبض على مباشري الدولة بسبب تأخر جوامكهم ففر المباشرون منهم ونزلوا إلى بيوتهم فنزل في أثرهم جمع كبير‏.‏ منهم ومضوا إلى بيت عبد الباسط ناظر الجيش ونهبوه وأخذوا ما قدروا عليه‏.‏ ثم خجوا وقصدوا بيت الوزير أمين الدين بن الهيصم وبيت الأستادار كريم الدين ابن كاتب المناخ ونهبوهما أيضًا ولم يقدروا على قبض أحد من هؤلاء الثلاثة لفرارهم منهم وغلقت الأسواق وخاف كل أحد على بيته‏.‏ هذا وقد صمم المماليك على الفتك بعبد الباسط‏.‏ والعجب أن السلطان يغضب لعبد الباسط بل انحرف عليه وأمر بنفيه إلى الإسكندرية لكسر الشر ولم يقع منه في حق مماليكه المذكورين أمر من الأمور إما لمحبته فيهم أو لبغضه في عبد الباسط‏.‏ ولزم عبد الباسط داره وتردد الناس للسلام عليه والسلطان مصمم على سفره إلى ثغر الإسكندرية‏.‏
وأصبح الناس يوم الثلاثاء سادس عشره وإذا بهجة عظيمة فغلقت جميع شوارع المدينة لإشاعة كاذبة بأن المماليك قد نزلوا ثانيًا لنهب بيت عبد الباسط فاضطرب الناس وهرب عبد الباسط من داره وانزعج إلى الغاية فكان هذا أعظم وأشنع من يوم النهب‏.‏ ثم ظهر للناس أن المماليك لم يتحركوا ولا نزل منهم‏.‏ وأما عبد الباسط فإنه لا زال يسعى ويتكلم له خواص السلطان في‏.‏
خروجه إلى الإسكندرية حتى تم له ذلك وطلع إلى القلعة في يوم سابع عشره بعد أن التزم عبد الباسط بأن يقوم للوزير من ماله بخمسمائة ألف درهم مصرية تقوية له وأن السلطان يساعد أستاداره كريم الدين بعليق المماليك شهرًا هذا بعد أن قدم عبد الباسط للأشرف تقدمة من المال في خفية من الناس لإقامة حرمته ولم يخف ذلك عن أحد‏.‏
وأخذ أمر عبد الباسط في انحطاط وصار السلطان يهدده إن لم يل الأستادارية هو أو مملوكه جانبك وهو يتبرم من ذلك كله‏.‏
ثم استعفى الصاحب أمين الدين إبراهيم بن الهيصم من الوزارة فعين السلطان شمس الدين بن سعد الدين بن قطارة القبطي لنظر الدولة وألزمه بتكفية يومه‏.‏ ورسم السلطان بطلب أرغون شاه النوروزي من دمشق وهو يومذاك أستادار السلطان بدمشق ليستقر في الوزارة عوضًا عن ابن الهيصم على عادته قديمًا بعدما عرض السلطان الوزارة على الأستادار كريم الدين ابن كاتب المناخ فأبى كريم الدين قبول ذلك وقال‏:‏ يا مولانا السلطان يختار السلطان إما أكون وزيرًا أو أستادارًا‏.‏
وأما جمعهما معًا فلا أقدر على ذلك‏.‏ فغضب السلطان عليه وهم بضربه ومسكه فضمنه القاضي سعد الدين ابن كاتب جكم ناظر الخاص ونزل الجميع إلى دورهم إلى أن عملت مصالح الجماعة‏.‏
فلما كان يوم السبت عشرين صفر خلع السلطان على أستاداره الصاحب كريم الدين باستمراره وخلع على الصاحب أمين الدين بن الهيصم باستقراره في نظر الدولة على عادته قديمًا كما كان قبل الوزارة وألزمه بتكفية الدولة إلى حين قدوم أرغون شاه من الشام وانفض الموكب‏.‏
فلما نزل الصاحب أمين الدين بالخلعة إلى داره اختفى في ليلة الاثنين ولم يعلم له خبر‏.‏ فأصبح السلطان في يوم الاثنين ثاني عشرينه أمسك الصاحب كريم الدين الأستادار وخلع في الحال على جانبك دوادار عبد الباسط باستقراره أستادارًا عوضًا عن صاحب كريم الدين بن كاتب المناخ فلبس جانبك الخلعة ولم يقدر عبد الباسط أن يتكلم في حقه كلمة واحدة‏.‏
وكان قصد الملك الأشرف أنه متى تكلم أو تمنع عبد الباسط من ذلك قبض عليه فأحس عبد الباسط بالشر فكف عن الكلام‏.‏ ثم ألزم السلطان القاضي سعد الدين إبراهيم ابن كاتب جكم ناظر الخواص بوظيفة الوزارة فلم يوافق على ذلك وانفض المجلس على ذلك‏.‏
وفي هذا اليوم خرج قاصد شاه رخ الشريف تاج الدين من الديار المصرية إلى جهة مرسله وصحبته الأمير أقطوه الموساوي وعلى يده هدية من السلطان إلى شاه رخ المذكور وكتاب جواب كتابه يتضمن منعه من كسوة الكعبة بأن العادة قد جرت قديمًا وحديثًا أن لا يكسو الكعبة إلا ملوك مصر والعادة اعتبرت في الشرع في مواضع وأن للكسوة أوقافًا تقوم بعملها لا يحتاج إلى مساعدة في ذلك وإن أراد الملك وفاء نذره فليبع الكسوة ويتصدق بثمنها في فقراء مكة فهو أكثر ثوابًا حيث يتعدى نفع ذلك إلى جماعة كبيرة وأشياء من هذه المقولة‏.‏
ثم في يوم الخميس خامس عشرينه بعد انقضاء الموكب من القصر وتوجه السلطان إلى الحوش على العادة غضب على القاضي سعد الدين إبراهيم ناظر الخواص بسبب تمنعه من ولاية الوزارة وأمر به فضرب بين يديه ضربًا مبرحًا ثم أقيم ونزل إلى داره‏.‏
ثم طلب السلطان الصاحب كريم الدين ابن كاتب المناخ من محبسه بالقلعة وأمر به فعري من ثيابه وضربه بالمقارع زيادة على مائة شيب ثم ضربه على أكتافه بالعصي ضربًا مبرحًا وعصرت رجلاه بالمعاصير ثم أعيد إلى محبسه يومه وأنزل من الغد في يوم الجمعة على بغل في أسوإ حال ومضي به إلى بيت التاج وإلى القاهرة كان وهو يومذاك شاد الدواوين ليورد ما ألزم به بعد أن حوسب فوقف عليه خمسة وخمسون دينار ذهبًا صولح عنها بعشرين ألف دينار فنزل إلى بيت التاج وأخذ في بيع موجوده وإيراد المال المقرر عليه إلى أن أفرج عنه في ثامن عشر ربيع الأول بعدما حمل نحو العشرين ألف دينار وضمنه فيما بقي أعيان الدولة‏.‏
ثم في يوم الثلاثاء أول شهر ربيع الآخر من سنة ثمان وثلاثين المذكورة خلع السلطان على القاضي سعد الدين ناظر الخواص خلفة الرضى والاستمرار على وظيفته نظر الخواص وخلع على أخيه القاضي جمال الدين يوسف ابن القاضي كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب جكم باستقراره وزيرًا على كره منه بعد تمنع زائد وكان منذ تغيب ابن الهيصم لا يلي الوزارة أحد والقاضي سعد الدين ناظر الخاص يباشرها ويسدد أمورها من غير لبس تشريف فغرم فيها جملة كبيرة لعجز جهاتها عن مصارفها‏.‏
والقاضي جمال الدين يوسف المذكور هو عظيم الدولة في زماننا هذا وناظر جيشها وخاصها كان وهي أول ولاياته للمناصب الجليلة على ما يأتي ذكر ولاياته لغيرها مفصلًا في هذا الكتاب وغيره‏.‏ وخلع السلطان على شمس الدين بن قطارة باستقراره ناظر الدولة فكان الوزير وناظر الدولة في طرفي نقيض فالوزير في الغاية من حسن الشكالة والزي البهيج وسنه دون العشرين سنة وناظر الدولة في الغاية من قبح الشكالة والزي الرديء وسنه نحو السبعين سنة انتهى‏.‏
ثم في يوم الأحد رابع شهر ربيع الأخر قدم الأمير أرغون شاه النوروزي الأعور أستادار السلطان بدمشق إلى مصر بطلب حسبما تقدم ذكره ليلي الوزارة‏.‏ وطلع إلى القلعة من الغد بتقادم جليلة وخلع عليه باستمراره على أستادارية السلطان بدمشق على عادته‏.‏ وفي هذا ثم في جمادى الأولى وقع الشروع في حركة السلطان إلى السفر لقتال قرائلك والفحص أيضًا عن جانبك الصوفي‏.‏ وفي خامس عشره خلع على دولات خجا والي القاهرة باستقراره في ولاية منفلوط وشغرت الولاية إلى يوم الأحد سابع عشره فاستقر فيها علاء الدين علي بن الطبلاوي‏.‏
ثم في يوم السبت أول جمادى الآخرة خلع السلطان على الصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ باستقراره كاشف الوجه القبلي ورسم السلطان أن يستقر محمد الصغير المعزول عن الكشف قبل تاريخه دوادار الصاحب كريم الدين وأمير علي الذي كان كاشفًا بالوجه القبلي والوجه البحري رأس نوبته ونزل إلى داره من القلعة في موكب جليل كل ذلك والصاحب كريم الدين لم يتغير زيه من لبس الكتبة ولم يلبس الكلفتاه ولا تقلد بسيف‏.‏
وكان الصاحب أمين الدين إبراهيم بن الهيصم قد خرج من اختفائه وطلع إلى السلطان بشفاعة الأمير إينال الأبو بكري الأشرفي الخازندار فطلبه السلطان هذا اليوم وخلع عليه باستقراره شريكًا لعبد العظيم بن صدقة الأسلمي في نظر ديوان المفرد‏.‏
ثم في يوم الأحد سادس عشر جمادى الآخرة المذكورة أمسك السلطان القاضي سعد الدين إبراهيم ناظر الخاص وأخاه الصاحب جمال الدين يوسف رسم عليهما ثم أفرج عنهما من الغد وخلع على سعد الدين المذكور باستمراره وأعفي الصاحب جمال الدين من الوزارة بعد أن ألزمهما بحمل ثلاثين ألف دينار‏.‏
وألزم السلطان تاج الدين عبد الوهاب بن الشمس نصر الله الخطير لبن الوجيه توما ناظر الإسطبل بولاية الوزارة وخلع عليه من الغد في يوم الثلاثاء ثامن عشره فباشر ابن الخطير هذه الوزارة أقبح مباشرة من العجز والتشكي والقلق وعدم القيام بالكلف السلطانية مع قيام السلطان معه وإقامه حرمته وهو مع ذلك يزداد في أعين الناس إلا بهدلة‏.‏
وظهر منه في أيام مباشرته الوزارة حدة زائدة وطيش وخفة بحيث إنه جلس مرة للمباشرة فكثر الناس عنده لقضاء حوائجهم فضاق خلقه منهم فقام إلى باب الدخول وضم جميع سراميج الناس الذين كانوا في مجلسه في ذيله وخرج حافيًا إلى خارج داره وألقاهم إلى الأرض ودخل بسرعة وقال‏:‏ اخرجوا إلى سراميجكم لا يأخدوها فقال له بعضهم‏:‏ تعيش رأس مولانا الصاحب‏.‏
وسخر الناس من ذلك مدة طويلة وهو إلى الآن في قيد الحياة يتشحط في أذيال الخمول انتهى‏.‏
ثم في يوم الأربعاء تاسع عشر جمادى الآخرة المذكورة أنعم السلطان على تمراز المؤيدي الخازندار بإمرة مائة وتقدمة ألف بدمشق بعد موت الأمير أركماس الجلباني وأنعم بطبلخانة تمراز المذكور على الأمير سنقر العزي الناصري نائب حمص بعد عزله عن نيابة حمص بالأمير ثم في يوم الأحد ثالث عشرينه خرجت تجريدة من القاهرة إلى البحيرة ومقدم العساكر الأمير الكبير إينال الجكمي والأمير جقمق أمير سلاح والأمير يشبك حاجب الحجاب والأمير قاني باي الحمزاوي في عدة من الأمراء‏.‏
وسبب ذلك أن لبيدًا قدم منهم طائفة إلى السلطان بهدية وسألوا أن ينزلوا البحيرة فلم يجابوا إلى ذلك ولكن خلع عليهم وتوجهوا فعارضهم أهل البحيرة في طريقهم وأخذوا منهم خلعهم‏.‏ وكان السلطان يلهج كثيرًا بإخراج تجريدة إلى البحيرة فبلغهم ذلك فأخذوا حذرهم‏.‏
واتفق مع ذلك أن شتاء هذه السنة لم يقع فيه المطر المعتاد بأراضي مصر فقدمت طائفة من لبيد إلى البحيرة لمحل بلادهم وصالحوا أهل البحيرة وساروا إلى محارب وغيرها بالوجه القبلي لرعي الكشيح من أراضي البور من أعمال الصعيد وكان السلطان قد كتب إلى كاشف الصعيد بأن لا يمكنهم من المراعي حتى يأخذ منهم مالًا فغضبوا من ذلك وأظهروا الخلاف فخرجت إليهم هذه التجريدة المقدم ذكرها‏.‏
وفي هذا الشهر ندب السلطان قاضي القضاة شهاب الدين بن حجر أن يكشف عن شروط واقفي المدارس والخوانك ويعمل بها فسر الناس بذلك غاية السرور وكثر الدعاء للسلطان بسبب ذلك فبدأ أولًا بمدرسة الأمير صرغتمش بخط الصليبة وقرأ كتاب وقفها وقد حضر معه القضاة الثلاثة فأجمل ابن حجر في الأمر فلم يعجب الناس ذلك لاستيلاء المباشرين على الأوقاف والتصرف فيها بعدم شرط الواقف وضياع مصالحها فشد في ذلك وأراد عزل جماعة من أرباب وظائفها فروجع في ذلك وانفض المجلس وقد اجتهد الأكلة في السعي بإبطال ذلك حتى أبطله السلطان‏.‏
قلت‏:‏ ولو ندب السلطان لهذا الأمر أحد فقهاء الأمراء والأجناد الذين هم أهل الدين والصلاح لينظر في ذلك بالمعروف لكانت هذه الفعلة تقاوم فتحه لقبرس لضياع مصالح أوقاف الجوامع والمساجد بالديار المصرية والبلاد الشامية لاستيلاء الطمعة عليها وتقريرمن لا يستحق في كثير من وظائفها بغير شرط الواقف ومنع من يستحق العطاء بشرط الواقف ولهذا قررت الملوك السالفة وظيفة نظر الأوقاف لهذا المعنى وغيره فترك ذلك وصار الذي يلي نظر الأوقاف شريكًا لمن تقدم ذكره فيما يتناولونه من ريع الأوقاف والكلام فيما يعود نفعه عليه من جهة حل وقف وبيعه أو لواحد استولى على جهة وقف وأكله بتمامه فيبعث خلفه ويبلصه في شيء له ولأعوانه ويترك الذي قررت هذه الوظيفة بسببه من قديم الزمان وهو ما تقدم ذكره من النظر في أمر الأوقاف والعمل فيما يعود نفعه على الوقف وعلى أرباب وظائفه من الفقهاء ثم في يوم الاثنين ثامن شهر رجب أدير المحمل على العادة في كل سنة‏.‏
ثم في يوم الأربعاء خامس عشر شعبان وصل سيف الأمير طرباي نائب طرابلس فرسم السلطان بنقل الأمير‏.‏ جلبان نائب حماه إلى نيابة طرابلس عوضًا عن طرباي‏.‏ وأصبح من الغد في يوم الخميس سادس عشر شعبان خلع السلطان على الأمير قاني باي الحمزاوي أحد مقدمي الألوف باستقراره في نيابة حماه ونعم بإقطاع قاني باي الحمزاوي وتقدمته على الأمير خجا سودون السيفي بلاط الأعرج وأضاف طبلخانة خجا سودون المذكور إلى الدولة تقوية للوزير التاج الخطير‏.‏
وفي هذا الشهر خرج الأمير قرقماس الشعباني نائب حلب منها بالعساكر ونزل العمق على ما سنحكيه بعد عوده إلى حلب مفصلًا‏.‏ ثم في يوم الثلاثاء رابع شوال قدم على السلطان كتاب القان شاه رخ ملك الشرق يتضمن الوعيد وأنه عازم على زيارة القدس الشريف وأرعد في كتابه وأبرق وأنكر على السلطان أخذ الرشوة من القضاة وأخذ المكوس من التجار ببندر جدة وتعاطيه نوع المتجر فلم يلتفت السلطان إلى كلامه ولا استوعب الكتاب لآخره بل طلب التاج ابن سيفة وخلع عليه بإعادته إلى ولاية القاهرة عوضًا عن علاء الدين علي بن الطبلاوي بحكم عزله ولزومه داره بعدما غرم ركب الأهوال في زورته ثم ماسلم حتى ودعا ثم في ثامن عشره خرج محمل الحاج صحبة أمير الحاج الأمير تمرباي التمربغاوي الدوادار الثاني وأمير الركب الأول الأمير صلاح الدين محمد بن نصر الله محتسب القاهرة‏.‏
وحجت في هذه السنة خوند فاطمة بنت الملك الظاهر ططر زوجة السلطان الملك‏.‏ وفي هذا الشهر ظهر الأمير جانبك الصوفي ببلاد الروم وكان السلطان من يوم فر من سجن الإسكندرية إلى يومنا هذا لم يقف له على خبر بعد أن اجتهد في تحصيله غاية الاجتهاد وأوذي بسببه خلائق لا تدخل تحت حصر فأخذ السلطان في خبره وأعطى إلى أن قدم عليه في أواخر هذا الشهر كتاب الأمير قرقماس نائب حلب بذلك‏.‏
وكان خبر معرفة قرقماس بظهوره أنه وصل معه إلى حلب في يوم الثلاثاء حادي عشر شوال رجل تركماني يقال محمد كان قبض عليه قرقماس بالعمق ومعه كتاب جانبك المذكور في سابع شوال إليه وإلى غيره فسجنه قرقماس بقلعة حلب وجهز الكتب في ضمن كتابه إلى السلطان فلما بلغ السلطان ذلك وتحققه انزعج غاية الانزعاخ‏.‏
ثم قدم كتاب الأمير بلبان نائب درندة أنه ورد عليه كتاب الأمير جانبك الصوفي يدعوه إلى طاعته فقبض على قاصده وحبسه وأرسل بكتابه إلى السلطان‏.‏
ثم في يوم السبت سابع عشرين ذي القعدة عاد الأمير قرقماس نائب حلب إليها بعد ما كانت غيبته عنها بالعمق ومرج دابق وعينتاب خمسة وسبعين يومًا وقد فاته أخذ قيصرية لاستيلاء إبراهيم بن قرمان عليها وكان قصد السلطان أخذها واستنابة أحد من أمراء السلطان بها‏.‏
قلت‏:‏ ولنذكر ما وعدنا بذكره لسبب سفر قرقماس نائب حلب منها وسببه أن الأمير صارم الدين إبراهيم بن قرمان صاحب لارندة وقونية من بلاد الروم أراد أخذ مدينة قيصرية من الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر وقد تغلب عليها ناصر الدين المذكور وأخذها من بني قرمان وولى عليها ابنه سليمان فترامى ابن قرمان في هذه الأيام على السلطان بأن يملكه قيصرية ووعد بعشرة آلاف دينار في كل سنة وثلاثين بختيًا وثلاثين فرسًا سوى خدمة أركان الدولة‏.‏
فكتب السلطان إلى نائب حلب أن يخرج إلى العمق ويجمع العساكر لأخذ قيصيرية فخرج قرقماس إلى العمق وجمع تركمان الطاعة وكتب إلى ابن قرمان أن يسير بعسكره إلى قيصرية‏.‏
فلما بلغ ابن دلغادر خروج عسكر حلب لأخذ قيصرية منه بعث في الحال بامرأته خديجة خاتون بتقدمة للسلطان ومعها مفاتيح قيصرية وأن يكون زوجها المذكور نائب السلطنة بها وأن يفرج عن ولدها فياض المقبوض عليه قبل تاريخه من سجنه بقلعة الجبل ووعد لذلك أيضًا بمال‏.‏ فقدمت خديجة خاتون المذكورة في أواخر شوال إلى مصر وقدمت ما معها من الهدية وتكلمت بما هو غرض زوجها فقبل هديتها وأفرج لها عن ولدها فياض وخلع عليه بنيابة مرعش‏.‏
وبينما السلطان في ذلك كان نزول قرقماس نائب حلب فى يوم الاثنين أول ذي القعدة من العساكر على عينتاب فأتاه الخبر بأن حمزة بن دلغادر خرج عن طاعة السلطان بمن معه وتوجه إلى ابن عمه سليمان بن ناصر الدين بك ابن دلغادر بعدما بعث إليه وحلفه وأن دوادار جانبك الصوفي ومحمد بن كندغدي بن رمضان التركماني وصلا إلى الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر بأبلستين وحلفاه أنه إذا قدم عليه الأمير جانبك الصوفي لا يسلمه إلى أحد ولا يخذله وأن جانبك كان عند الأمير إسفنديار أحد ملوك الروم فسار من عنده يريد سليمان بن دلغادر فخرج إليه سليمان وتلقاه هو وأمراء التركمان‏.‏
وقبل أن يصل هذا الخبر إلى السلطان جهز خديجة خاتون إلى العود إلى زوجها ناصر الدين بك فخرجت خديجة ومعها ولدها فياض وسارت والسلطان ليس له علم بما وقع لابن دلغادر مع جانبك الصوفي‏.‏ واستمر قرقماس على عينتاب إلى أن بلغه أن الأمير صارم الدين إبراهيم بن قرمان جمع عساكره ونزل على قيصرية فوافقه أهلها وسلموها له وفر سليمان بن ناصر الدين بك منها فبلغه ظهور جانبك الصوفي وأنه اجتمع عليه الأمير أسلماس بن كبك ومحمد بن فقدم سليمان على أبيه ناصرالدين بأبلستين ولم يبلغهما إلى الآن خبر الإفراج عن ولده فياض وخروجه من مصر مع أمه خديجة وأخذ ناصر الدين بك يداري السلطنة ليفرج عن ابنه فياض وندب ابنه سليمان لقتال أعوان جانبك الصوفي كل ذلك قبل أن يرد عليه جانبك الصوفي بمدة وقيل إنه كان أتاه خفية‏.‏
وبينما هم في ذلك وصلت خديجة خاتون وولدها فياض إلى زوجها ناصر الدين محمد بن دلغادر فبلغ ناصر الدين مراده بالإفراج عن ولده وترك مداراة السلطان‏.‏ وانضم إلى جايبك الصوفي حسبما نذكره في مواضعه من هذه الترجمة إن شاء الله تعالى‏.‏
وبلغ ذلك قرقماس نائب حلب فعاد من سفرته بغير طائل‏.‏ ومن يومئذ اشتغل فكر السلطان الملك الأشرف بأمر جانبك الصوفي وتحقق أمره بعدما كان يظنه وأخذ في عزل جماعة من النواب ممن يخشى شرهم وتخوف من قرقماس تخوفًا عظيمًا في الباطن لئلا يميل إلى جانبك الصوفي‏.‏
فأول ما بدأ به السلطان أن عزل الأمير قانصوه النوروزي عن نيابة طرسوس ونقله إلى حجوبية الحجاب بحلب عوضًا عن الأمير طوغان السيفي تغري بردي أحد مماليك الوالد ونقل طوغان المذكور إلى إمرة مائة وتقدمة ألف بدمشق واستقر الأمير جمال الدين يوسف ابن قلدر في نيابة طرسوس عوضًا عن قانصوه‏.‏
ثم في صفر من سنة تسع وثلاثين وثمانمائة ورد الخبر على السلطان أن شاه رخ بن تيمورلنك أرسل إلى السلطان مراد بك ابن عثمان متملك الروم وإلى الأمير صارم الدين إبراهيم بن قرمان المقدم ذكره وإلى قرايلك وأولاده وإلى ناصر الدين بك بن دلغادر بخلع على أنهم نوابه في ممالكهم فلبس الجميع خلعه فشق ذلك على السلطان من كون ابن عثمان لبس خلعته حتى قيل له إنه فعل ذلك في مجلس أنسه استهزاء به‏.‏ قلت‏:‏ لبس الخلعة والفشارما إليه‏.‏
ثم في يوم الاثنين ثاني شهر ربيع الأول من سنة تسع وثلاثين المذكورة خلع السلطان على القاضي شرف الدين أبي بكر نائب كاتب السر باستقراره في كتابة سر حلب عوضًا عن زين الدين عمر بن السفاح بعد امتناع شرف الدين من ذلك أشد امتناع‏.‏ وسبب ذلك أن ابن السفاح المذكور كتب إلى السلطان مرارًا عديدة بالحط على قرقماس نائب حلب وأنه يريد الوثوب على السلطان والخروج عن الطاعة وآخر ما ورد كتابه بذلك في نصف صفر من هذه السنة أعني سنة تسع وثلاثين‏.‏
فلما وقع ذلك كتب السلطان إلى الأمير قرقماس المذكور بالحضور وقد يئس السلطان من حضوره لما قوي عنده من خروجه عن الطاعة وقلق السلطان قلقًا زائدًا بعدما طلبه خوفًا من عدم حضوره فلم يكن بأسرع من مجيء نجاب قرقماس نائب حلب المقدم ذكره في خامس عشرين صفر يستأذن في قدوم قرقماس إلى الديار المصرية وقد بلغه شيء مما رمي به‏.‏ فغضب السلطان عند ذلك على زين الدين عمر بن السفاح ورسم بعزله واستقرار شرف الدين المذكور عوضه وتحقق السلطان أنه لو كان قرقماس مخامرًا لما استأذن في الحضور فسر السلطان بذلك وكتب له الجواب بأنه تقدم الطلب له‏.‏
وأما قرقماس فإنه لما ورد عليه الطلب من السلطان خرج على الفور من حلب على الهجن في خواصه وسار حتى قدم إلى خارج القاهرة في يوم الجمعة سادس شهر ربيع الأول المذكور وطلع من الغد إلى القلعة فلم يخلع السلطان عليه خلعة الاستمرار لكونه استعفى عن نيابة حلب فما صدق السلطان بأنه تلفظ بذلك‏.‏
ولما كان يوم الاثنين تاسع شهر ربيع الأول خلع السلطان على الأمير الكبير إينال الجكمي أتابك العساكر بالديار المصرية باستقراره في نيابة حلب عوضًا عن الأمير قرقماس الشعباني المقدم ذكره وخلع على الأمير جقمق العلائي أمير سلاح باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية عوضًا عن إينال الجكمي وخلع على قرقماس نائب حلب باستقراره أمير سلاح عوضًا عن الأمير جقمق العلائي‏.‏
وكان استقرار إينال الجكمي بعد الأتابكية في نيابة حلب بخلاف القاعدة غير أن السلطان أكرمه غاية الإكرام ووعده بنيابة دمشق لطول مرض الأمير قصروه نائب الشأم‏.‏ وبالغ حتى إنه أسر له إن مات قصروه قبل وصول إينال إلى حلب فليقم بدمشق حتى يرسل إليه السلطان بنيابتها‏.‏ وظهر أيضًا ثم في سابع عشره خلع السلطان على الأمير الكبير جقمق العلائي بنظر البيمارستان المنصوري على العادة‏.‏ وورد الخبر على السلطان‏:‏ أن بمدينة بروسا التي يقال لها برصا من بلاد الروم وباء عظيمًا دام بممالك الروم نحو أربعة أشهر‏.‏
ثم ورد الخبر على السلطان بأن الأمير ناصر الدين بك ابن دلغادر قبض على الأمير جانبك الصوفي في سابع عشر شهر ربيع الأول وكان السلطان قدم عليه من البلاد الشامية كتاب وفي ضمنه كتاب من عند شاه رخ بن تيمورلنك يتضمن تحريض جانبك الصوفي على أخذ البلاد الشامية وأنه سيقدم عليه ابنه أحمد جوكي وبابا حاجي نجدة له على قتال سلطان مصر فقبض على حامل هذا الكتاب وحبس فلما بلغ السلطان ذلك كتب إلى نواب البلاد الشامية بالتأهب والاستعداد لنجدة نائب حلب الأمير إينال الجكمي إذا استدعاهم ولم يكترث السلطان بقبض جانبك الصوفي وقال‏:‏ هذه حيلة‏.‏
وكان من خبر جانبك الصوفي والقبض عليه وهو خلاف ما نقل عنه قبل ذلك لاختلاف الأقوال في أمره فخبره من هذا الوجه‏:‏ أنه لما فر من الإسكندرية دخل القاهرة بعد أمور ودام بها سنين مختفيًا في حاراتها وظواهرها إلى أن خرج منها متنكرًا وسار إلى البلاد الشامية ثم إلى بلاد الروم فظهر بتوقات في شوال من السنة الماضية أعني سنة ثمان وثلاثين وثمانمائة فقام متوليها الأمير أركج باشا بمعاونته وأنعم عليه وكتب إلى ناصر الدين محمد بن دلغادر نائب أبلستين وإلى أسلماس بن كبك وإلى محمد بن قطبكي وإلى قرايلك ونحوهم من أمراء التركمان بالقيام معه والاستعداد لنصرته‏.‏
فانضم إلى جانبك الصوفي عند ذلك جماعة كبيرة فتهيأ وخرج بهم من توقات فوافاه الأمير قرمش الأعور أحد مقدمي الألوف بالديار المصرية المقدم ذكره في واقعة جانبك الصوفي لما قبض عليه بالقاهرة‏.‏
وكان من خبر قرمش المذكور أن الملك الأشرف أمسكه بعد أن قبض على الأمير جانبك الصوفي بمدة يسيرة وحبسه بثغر الإسكندرية ثم أطلقه وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بدمشق فلما خرج الأمير تنبك البجاسي عن طاعة الملك الأشرف وافقه قرمش هذا وبقي من حزبه إلى أن انكسر البجاسي وقبض عليه فاختفى قرمش المذكور ولم يظهر له خبر إلى هذا اليوم فكأنه كان مختفيًا بتلك البلاد فلما ظهر أمر جانبك الصوفي توجه إليه انتهى‏.‏
وسار الأمير جانبك الصوفي بمن انضم عليه ومعه الأمير قرمش من توقات إلى الأمير محمد بن ترايلك صاحب قلعة جمركشك فأكرمهم محمد المذكور وقواهم فشنوا منها الغارات على مدينة دوركي وضايقوا أهلها ونهبوا نواحيها فاتفق ورود كتاب شاه رخ ملك الشرق على قرايلك يأمره بالمسير بأولاده وعساكره لقتال إسكندر بن قرا يوسف سريعًا عاجلًا فكتب قرايلك إلى ولده محمد بالقدوم عليه لذلك فترك محمد جانبك الصوفي ومن معه على دوركي وتوجه إلى أبيه‏.‏
فسار جانبك إلى أسلماس وابن قطبكي واجتمعوا ونزلوا على ملطية وحصروها وكادهم سليمان بن ناصر الدين بك ابن دلغادر وكتب إلى جانبك أنه معه‏:‏ فكتب إليه أنه يقدم عليه وكان تقدم بينهما مكاتبات حسبما تقدم ذكره ومواعدات بمجيء جانبك إلى أبلستين فلم يقع ذلك وأرسل جانبك إليه بالقدوم عليه مع الأمير قرمش الأعور فأكرمه سليمان وركب وسار مع الأمير قرمش في وخمسين فرسًا إلى جهة جانبك الصوفي حتى قدم عليه‏.‏
فتلقاه جانبك وعانقه وعادا بمن معهما على حصار ملطية فأظهر سليمان من النصاحة ما أوجب ركون جانبك إليه‏.‏
فأخذ سليمان في الحيلة على جانبك المذكور بكل ما تصل قدرته إليه ولازال به حتى خرج جانبك معه في عدة من أصحابه ليستريحا بمكان للنزهة فيه ورتبا قرمش وبقية العسكر على حصار ملطية فلما نزل سليمان وجانبك للنزهة ورأى أن حيلته تمت وثب جماعة سليمان على جانبك الصوفي وقيدوه وأركبوه على أكديش وسار به ليلته ومن الغد حتى وصل إلى بيوته بأبلستين وحبس عنده فلم يفطن قرمش وأصحابه بمسك جانبك حتى جاوز جانبك بلادًا سعيدة‏.‏
ولما قبض سليمان على جانبك الصوفي أرسل يعرف السلطان بذلك وأما السلطان لما بلغه خبر القبض على جانبك الصوفي لم يحمل ذلك على الصدق وأخذ فيما هو فيه‏.‏ فورد عليه في يوم الخميس حادي عشر شهر ربيع الآخر سيف الأمير قصروه نائب الشأم على يد الأمير علي بن إينال باي بن قجماس فعين السلطان الأمير إينال الجكمي نائب حلب إلى نيابة دمشق عوضًا عن قصروه ورسم لتغري برمش الأمير آخور الكبير بنيابة حلب عوضًا عن إينال الجكمي غير أنه لم يخلع على تغري برمش المذكور إلا بعد أيام حسبما يأتي ذكره‏.‏
ثم في ثالث عشره نودي بعرض أجناد الحلقة ليستعدوا للسفر إلى الشام ولا يعفى أحد منهم وجمع السلطان قضاة القضاة بين يديه وسألهم في أخذ أموال الناس للنفقة المتحوجة لقتال شاه رخ بن تيمور فكثر الكلام وانفضوا من غير أن يفتوه بذلك‏.‏
فقيل إن بعض الفقهاء قال‏:‏ كيف نفتيه بأخذ أموال المسلمين وكان لبس زوجته يوم طهور ولدها يعني الملك العزيز يوسف ما قيمته ثلاثون ألف دينار وهي بدلة واحدة وإحدى نسائه ولم يعرف القائل لذلك من هو من الفقهاء غير أنه أشيع ذلك في أفواه الناس‏.‏ ولما بلغ الناس ذلك كثر قلقهم من هذا الخبر‏.‏
ثم في يوم الاثنين خامس عشر شهر ربيع الآخر المذكور ابتدأ السلطان بعرض أجناد الحلقة فتجمع بالحوش السلطاني منهم عدة مشايخ وأطفال وعميان وعرضوا على السلطان فقال لهم‏:‏ لا أنا ما أعمل كل عمل الملك المؤيد شيخ عن أخذ المال منكم ولكن اخرجوا جميعكم فمن قدر منكم على فرس ركب فرسًا ومن قدر على حمار ركب حمارًا فنزلوا على ذلك إلى بيت الأمير أركماس الظاهري الدوادار الكبير فحل بهم عند ذلك بلاء الله المنزل وتحكم فيهم الأكلة وصاروا في أيديهم كالفريسة في يد فارسها و ذلك لعدم معرفة أركماس المذكور بالأحكام وقلة دربته بالأمور فإنه كان رجلًا غتميًا لا يعرف باللغة التركية فكيف اللغة العربية ففاز المتمولون وتورط المفلسون‏.‏
قلت‏:‏ وعدت هذه الفعلة من غلطات الملك الأشرف كونه يندب لهذا الأمر المهم مثل أركماس هذا وقد تقدم أن الملوك السالفة كانت تندب لهذا الأمر مثل الأمير طشتمر الدوادار ومثل سودون الشيخوني ومثل يونس الدوادار وآخرهم جقمق دوادار المؤيد وكل واحد من هؤلاء كان شأنه مع من يعرضه كالطبيب الحاذق العارف بمرض من يعالجه‏:‏ ينظر إلى وجه المعروض عليه ويسأله عن إقطاعه وعن متحصله سؤالاص لا يخفاه بعد ذلك شيء من حاله فعند ذلك ينظر في أمره بفراسته إن كان إقطاعه يقوم بسفره ألزمه بالسفر غصبًا على رغم أنفه لا يسمع في أمره رسالة ولا شفاعة وإن كان لا يقوم بسفره ألزمه بالإقامة وندبه لحفظ جهة من الجهات ومشى في جميع عرضه على ذلك وقد انتصف الناس من كونه ألزم كل واحد بما هو في قدرته‏.‏
فكان هذا العرض بخلاف هذا جميعه‏:‏ ترك فيه من إقطاعه يعمل في السنة مائة ألف حيث هو من جهته رجل من أرباب الشوكة أو باذل مال وألزم بالسفر من إقطاعه يعمل في السنة خمسة آلاف درهم فلوسًا كونه فقيرًا ولا عصبية له انتهى‏.‏
وبينما السلطان في ذلك ورد عليه كتاب أصبهان بن قرا يوسف صاحب بغداد يشتمل على التودد وأنه هو وأخاه إسكندر يقاتلان شاه رخ وتاريخه قبل قدوم أحمد جوكي بن شاه رخ وبابا حاجي بعساكر شاه رخ وقبل موت قرايلك‏.‏
ثم في سابع عشره قدم أيضًا قصاد إسكندر بن قرا يوسف صحبة الأمير شاهين الأيدكاري الناصري أحد حجاب حلب وعلى يدهم رأس الأمير عثمان بن طرعلي المدعو قرايلك ورأس ولديه وثلاثة رؤوس آخر وكان السلطان توجه في هذا اليوم إلى الصيد فقدم من الغد يوم الخميس ثامن عشره فأمر بالرؤوس الستة فطيف بها على رماح وقد زينت القاهرة لذلك فرحًا بموت قرايلك ثم علقت الرؤوس على باب زويلة ثلاثة أيام‏.‏
وكان من خبر موته أنه لما سار إسكندر بن قرا يوسف من تبريز لقتاله إلى أن نزل بالقرب من أرزن وبلغ قرايلك مجيئه جهز ابنه علي بك ومعه فرقة من العسكر وهو تابعهم فالتقوا هم وإسكندر فاستظهر عسكر قرايلك في أول الأمر‏.‏
ثم إن إسكندر ثبت وحمل عليه بمن معه حملة رجل واحد على عسكر قرايلك فكسرهم وذلك خارج أرزن الروم المذكورة‏.فعندما انهزم قرايلك ساق إسكندر خلفه فقصد عسكر قرايلك أرزن الروم ليتحصنوا بها فحيل بينهم وبينها وقبل أن يتجاوزوا عنها أرمى قرايلك بنفسه إلى خندقها ليفوز بمهجته وعليه آلة الحرب فوقع على حجر فشج دماغه ثم قام فحمل إلى قلعة أرزن الروم بحبال فدام بها أيامًا قليلة ومات في العشر الأول من صفر في هذه السنة بعد أن أقام في الأمر نيفًا وخمسين سنة‏.‏
ومات وقد قارب المائة سنة من العمر ودفن خارج أرزن الروم فتتبع إسكندر بن قرا يوسف قبره حتى عرفه ونبش عليه وأخرجه وقطع رأسه ورأس ولديه وثلاثة رؤوس آخر من أمرائه ممن ظفر به إسكندر في الوقعة وأرسل الجميع مع قاصده إلى الملك الأشرف حسبما تقدم ذكره‏.‏
ثم في يوم السبت عشرينه خلع السلطان على الأمير حسين بن أحمد البهسني المدعو تغري برمش الأمير آخور الكبير باستقراره نائب حلب عوضًا عن الأتابك إينال‏.‏ الجكمي وسافر من الغد إلى محل كفالته وتولى الأمير آخورية عوضه الأمير جانم الأشرفي وكتب بانتقال الجكمي إلى نيابة الشام عوضًا عن قصروه بحكم وفاته‏.‏
وفي هذا اليوم حضر قصاد إسكندر بن قرا يوسف بين يدي السلطان بكتابه فقرىء وأجيب بالشكر والثناء ووجه إليه مالًا وغيره من القماش السكندري ما قيمته عشرة آلاف دينار ووعده بمسير السلطان إلى تلك البلاد‏.‏ ثم نزل السلطان إلى الإسطبل السلطاني وعرضه بنفسه وأرسل إلى الصاحب كريم الدين ابن كاتب المناخ وإلى الأمير يلخجا بجمال كثيرة وكان ندبهما للسفر إلى بندر جدة‏.‏
ثم في تاسع عشرين شهر ربيع الآخر المذكور توجه الأمير شاد بك الجكمي أحد أمراء الطبلخانات ورأس نوبة إلى الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر بمال وخيل وقماش سكندري وغير ذلك وإلى ولده سليمان بمثل ذلك وكتب لهما أن يسلما شاد بك المذكور الأميرجانبك الصوفي ليحمله إلى قلعة حلب فسار شاد بك في هذا اليوم تأتي بقية أمره في عوده‏.‏
ثم في يوم الثلاثاء خامس عشر جمادى الأولى خلع السلطان على جوهر الصفوي الجلباني اللالا باستقراره زمام الدار بعد موت خشقدم الظاهري الرومي وكانت شاغرة من يوم مات خشقدم المذكور‏.‏ ولما كان يوم السبت ثامن عشر جمادى الآخرة المذكورة برز الصاحب كريم الدين والأمير يلخجا الساقي أحد أمراء العشرات ورأس نوبة بمن معهما من الحاج إلى ظاهر القاهرة ثم ثم في يوم الخميس ثالث عشرين جمادى الآخرة المذكورة خلع السلطان على السيفي آقباي اليشبكي الجاموس أحد دوادارية السلطان الأجناد باستقراره في نيابة الإسكندرية عوضًا عن خليل بن شاهين الشيخي بحكم عزله‏.‏
ثم في ثاني عشرينه وصل الأمير أقطوه الموساوي الظاهري برقوق المتوجه في الرسالة إلى شاه رخ بن تيمورلنك وقدم من الغد إلى القاهرة الشيخ صفا رسول شاه رخ المذكور بكتابه فأنزل وأجري عليه الرواتب ثم ورد الخبر على السلطان أن رسل أصبهان بن قرا يوسف صاحب بغداد سارت إلى القان معين الدين شاه رخ وهو مقيم على قراباغ بدخوله تحت طاعته وأنه من جملة خدمه فأقامت رسله ثلاثين يومًا لا تصل إلى شاه رخ ثم قدموا بين يديه فأجابه بالإنكار على أصبهان المذكور من كونه أخرب العراق وبغداد وأبطل مسير الحج من بغداد ثم أمره بعمارة بغداد وأن يعمرها وإلا فقد مشى عليه وأخرب دياره وأكثر له من الوعيد وأنه أمهله في ذلك مدة سنة وكان أصبهان بعث بهدية فأخذها ولم يعوضه عنها شيئًا وإنما جهز له خلعة بنيابة بغداد وتقليدًا ثم خلع على رسله وأمرهم بالعود إليه وتبليغه ما ذكره لهم بتمامه وكماله‏.‏
ثم في يوم السبت ثاني شهر رجب أحضر السلطان الملك الأشرف الشيخ صفا رسول شاه رخ إلى بين يديه وهو جالس على المقعدة بالإسطبل السلطاني بمن معه من قصاد شاه رخ وقرىء كتابه فإذا هو يتضمن أنه يأمر السلطان أن يخطب له ويضرب السكة باسمه ثم أخرج الشيخ صفا خلعة السلطان بنيابة مصر ومعها تاج ليلبسه السلطان وخاطب السلطان بكلام لم يسع السلطان معه صبرًا‏.‏
وعندما رأى السلطان الخلعة أمر بها فمزقت تمزيقًا وأمر بالشيخ صفا المذكور فضرب ضربًا مبرحًا خارجًا عن الحد ثم أقيم بعد ذلك وأمر به فسحب إلى بركة ماء بالإسطبل فألقي فيها منكوسًا وغمس فيها غير مرة حتى أشرف على الهلاك وكان الوقت شتاء شديد البرد‏.‏ كل ذلك ولم يستجرىء أحد من الأمراء أن يتكلم في أمر الشيخ صفا بكلمة واحدة من نوع الشفاعة لشدة غضب السلطان‏.‏ ولقد لازمت الملك الأشرف كثيرًا من أوائل سلطنته إلى هذا اليوم ولم أره غضب مثلها قبلها‏.‏
ثم طلب السلطان الشيخ صفا المذكور وحدثه بكلام طويل محصوله يقول لصفا‏:‏ إنك تتوجه إلى شاه رخ وتذكر له ما حل بك من الإخراق والبهدلة والعذاب وأنه قد ولاني نيابة مصر إلا أنا فإني لا أرتضيه شحنة لي على بعض قرى أقل أعمالي وإن كان له قوة فهو يظهر ذلك بعد هذا الإخراق بك ويمشي على أعمالنا وإن لم يأت في العام القابل فكل ما يأتي منه بعد ذلك فهو ثم رسم السلطان بإخراجه مع رفقته في البحر المالح إلى مكة فتوجهوا وحجوا ثم عادوا إلى شاه رخ وبلغوه ذلك فلم يتحرك بحركة وهاب ملوك مصر بهذه الفعلة إلى أن مات‏.‏
ولعمري لقد كانت هذه الواقعة من الملك الأشرف حسنة من حسناته التي قامت بفعلتها حرمة العساكر المصرية إلى يوم القيامة‏.‏
قلت‏:‏ ولا أعرف للملك الأشرف فعلة فعلها في أيام سلطنته أحسن ولا أعظم ولا أجمل من إقدامه على هذا الأمر من ضرب قاصد شاه رخ وتمزيق خلعته فإنه خالف في ذلك جميع أمرائه وأرباب دولته لأن الجميع أشاروا عليه بالمحاسنة في رد الجواب إلا هو فإن الله عز وجل وفقه إلى ما فعل ولله الحمد ومن يومئذ عظم أمر الملك الأشرف وتلاشى أمر شاه رخ في جميع بلاد الإسلام‏.‏
ثم خلع السلطان على شيخ الشيوخ بخانقاه سرياقوس محب الدين محمد بن الأشقر باستقراره في كتابة السر بالديار المصرية عوضًا عن القاضي كمال الدين بن البارزي بحكم عزله‏.‏ ثم جهز السلطان تجريدة من الأمراء والمماليك السلطانية إلى البلاد الشامية بسبب ظهور جانبك الصوفي وغيره وقد بلغ السلطان أن ابن دلغادر أطلق جانبك الصوفي‏.‏ م في حادي عشر شهر رجب المذكور قدم الأمير شاد بك الجكمي من بلاد أبلستين لأخذ جانبك الصوفي بغير طائل بعد أن قاسى شدائد من عظم البرد والمطر والثلوج حتى إنه هلك من أصحابه جماعة كبيرة من ذلك‏.‏

وكان من خبر شاد بك أنه لما وصل إلى ناصر الدين بك ابن دلغادر تلقاه وأكرمه وأخذ ما معه من الهدية والتحف والمال قلت‏:‏ الدورة على هذا لا على غيره ثم أخذ ناصرالدين بك ابن دلغادر يسوف بالأمير شاد بك من يوم إلى يوم إلى أن طال الأمر وظهر لشاد بك أنه لا يمكنه منه فكلمه في ذلك فاعتذر ناصرالدين بك بعدم تسليمه من أنه يخاف من أن يعاير بذلك وأيضًا مما ورد عليه من كتب شاه رخ وغيره من ملوك الأقطار بالتوصية عليه وأشياء من هذه المقولة والمقصود‏:‏ أنه منعه منه ثم أطلقه وأعاده إلى حاله الأول وأحسن فعظم ذلك على السلطان إلى الغاية ولم أسأل الأمير شاد بك هل اجتمع بالأمير جانبك الصوفي عند ابن دلغادر أم لا‏.‏
ولما أن عاد شاد بك من عند ابن دلغادر من غير قضاء حاجة اضطرب الناس وتحدث كل أحد بما في نفسه من المغيبات‏.‏
وكثر قلق السلطان وأخذ يستحث الأمراء المجردين في السفر‏.‏ وأدير محمل الحاج في يوم الاثنين خامس عشرين شهر رجب من غير لعب الرماحة على العادة في كل سنة لشغل خاطر السلطان‏.‏
ثم في يوم الأربعاء خامس عشرين شعبان برز الأمراء المجردون من القاهرة إلى الريدانية خارج القاهرة وهم‏:‏ الأمير الكبير تجقمق العلائي الناصري الظاهري والأمير أركماس الظاهري الدوادار والأمير يشبك السودوني المشد وهو يومذاك حاجب الحجاب والأمير تنبك البردبكي نائب القلعة كان والأمير قرا خجا الحسني والأمير تغري بردي البكلمشي المؤذي والأمير خجا سودون السيفي بلاط الأعرج فأقاموا إلى يوم سابع عشرينه وسافروا إلى جهة البلاد الشامية‏.‏
ثم نقل حسن بن أحمد البهسني نائب القدس إلى حجوبية الحجاب بحلب بسفارة أخيه تغري برمش نائب حلب عوضًا عن الأمير قانصوه النوروزي بحكم انتقال قانصوه إلى إمرة مائة وتقدمة ألف بدمشق‏.‏ ثم في يوم الاثنين سابع شهر رمضان خلع السلطان على الأمير غرس الدين خليل بن شاهين الشيخي المعزول عن نيابة الإسكندرية باستقراره وزيرًا بالديار المصرية عوضًا عن التاج الخطير الأسلمي‏.‏
ثم في يوم الخميس رابع عشرين شهر رمضان قدم إلى القاهرة الأمير أسلماس بن كبك التركماني مفارقًا لجانبك الصوفي فأكرمه السلطان وأنعم عليه ثم خلع عليه في يوم الخميس أول شوال خلعة السفر ورسم بتجهيزه‏.‏ ثم في يوم الخميس ثامن شوال عزل السلطان الوزير خليل بن شاهين الشيخي عن الوزارة وألزم الصاحب أمين الدين بن الهيصم بشد أمور الدولة ومراجعة عبد الباسط في جميع أحوال الدولة فمشت الأحوال‏.‏ قلت‏:‏ وهذا كان قصد السلطان أن يلقي الأستادارية والوزارة فى رقبة عبد الباسط وقد وقع ذلك انتهى‏.‏
ومن يوم ذلك أخذ عبد الباسط يحسن للسلطان طلب الصاحب كريم الدين ابن كاتب المناخ وإعادته للوزارة فيقول له السلطان‏:‏ هذا شيء صار يتعلق بك افعل فيه ما شئت فكتب في يوم تاسعه بإحضار الصاحب كريم الدين من بندر جدة على يد نجاب بعد فراغ شغله ليلي الوزارة‏.‏
حدثني الصاحب كريم الدين قال‏:‏ كان أولأ إذا كتب إلي عبد الباسط ورقة في حاجة يخاطبني فيها مخاطبة ليست بذاك إلى أن أضيف إليه التكلم في الوزارة وطلبت من بندر جدة فصارت كتبه تأتيني بعبارة عظيمة وترقق زائد وتحشم كبير‏.‏
فلما أن قدمت وعدت إلى الوزارة امتنع مما كان يفعله معي في ولايتي الأولى من الإفراجات التي كان لا يخلو يوم إلا ويأتيني شيء منها فصار في ولايتي هذه كلما قيل له أن يرسل إلي لأفرج له عن شيء يقول‏:‏ خلوه يكفيه الذي هو فيه نحن يجب علينا مساعدته قلت له‏:‏ فكان يساعد قال‏:‏ إي والله ثم في سابع عشرين شوال كتب بعزل الأمير إينال العلائي الناصري ونائب الرها وقدومه إلى القاهرة‏.‏
وخلع السلطان على الأمير شاد بك الجكمي أحد أمراء الطبلخاناه ورأس نوبة ثاني باستقراره في نيابة الرها على إقطاعه عوضًا عن إينال المذكور‏.‏ وكتب أيضًا بعزل الأمير إينال الششماني الناصري عن نيابة صفد وأن يتوجه إلى القدس بطالًا وأن يستقر عوضه في نيابة صفد الأمير تمراز المؤيدي أحد مقدمي الألوف بدمشق‏.‏
ثم في أواخر ذي القعدة قدم الخبر على السلطان أن شاه رخ بن تيمورلنك رحل عن حاضرة مملكة أذربيجان وهي تبريز بعد أن استناب عليها جهان شاه بن قرا يوسف عوضًا عن أخيه إسكندر وزوج جهان شاه المذكور أيضًا بنساء اسكندر المذكور بحكم الشرع لكون إسكندر كان في عصمته أزيد من ثمانين امرأة‏.‏ ونزل شاه رخ في أواخر ذي القعدة على مدينة السلطانية وعزم على أنه لا يرحل عنها إلى ممالكه حتى يبلغ غرضه من إسكندر بن قرا يوسف‏.‏ فلم يلتفت السلطان إلى ذلك وأخذ فيما هو فيه من أمر جانبك الصوفي غير أنه صار في تخوف من أن يردف شاه رخ جانبك الصوفي بعسكر إذا تم أمره من إسكندر‏.‏
وأما العسكر المجرد من مصر وغيرها فإنه لما توجه إلى حلب سار منها نائبها تغري برمش البهسني بعساكر حلب وصحبته الأمير قاني باي الحمزاوي نائب حماه بعساكر حماه ونزل على عينتاب وقد نزل جانبك الصوفي مرغش فتوجهوا إليه من الدربند أمام العسكر المصري ونزلوا على بزرجق يعني‏:‏ سويقة باللغة العربية ثم عدوا الجسر وقصدوا ناصر الدين بك دلغادر نائب أبلستين من طريق دربند كينوك فلم يقدروا على سلوكه لكثرة الثلوج فمضوا إلى دربند آخر من عمل بهسنا وساروا منه بعد مشقة يريدون أبلستين وساروا حتى طرقها تغري برمش المذكور بمن معه في يوم الثلاثاء تاسع شهر رمضان فلم يدرك ناصرالدين بن دلغادر بها فأمر تغري برمش بنهب أبلستين وإحراقها فنهبت وأحرقت بأجمعها ثم أمر العسكر بنهب جميع قراها وإحراقها فنهبوها وأخذوا منها شيئًا كثيرًا‏.‏
ثم عاد نائب حلب بمن معه والأغنام تساق بين يديه بعد أن امتلأت أيدي العساكر من النهب وترك أبلستين خرابًا قاعًا صفصفًا وعاد إلى حلب بعد غيبته عنها خمسين يومًا كل ذلك وأمراء مصر بحلب‏.‏ ثم بلغ تغري برمش بعد قدومه إلى حلب أن ناصرالدين بن دلغادر نزل بالقرب من كينوك فجهز إليه أخاه حسنًا حاجب حجاب حلب وحسن هو الأسن ومعه مائة وخمسون فارسًا إلى عينتاب تقوية للأمير خجا سودون وقد نزل بها بعد أن انفرد عن العسكر المصري من يوم خرج من الديار المصرية فتوجه حسن المذكور بمن معه إلى خجا سودون وأقام عنده‏.‏
فلما كان يوم رابع عشرين ذي الحجة من سنة تسع وثلاثين المذكورة وصل إليهم الأمير جانبك الصوفي ومعه الأمير قرمش الأعور والأمير كمشبغا المعروف بأمير عشرة أحد أمراء حلب وكان توجه من حلب وانضم على جانبك الصوفي قبل تاريخه بمدة طويلة ومعه أيضًا أولاد ناصر الدين بك ابن دلغادر الجميع ما عدا سليمان فنزلوا على مرج دلوك ثم ركبوا وساروا منه إلى قتال خجا سودون بعينتاب فركب خجا سودون أيضًا بمماليكه وبمن معه من التركمان والعربان وقاتلهم آخر النهار وباتوا ليلتهم‏.‏
وأصبحوا يوم الثلاثاء خامس عشرين ذي الحجة تقدم حسن حاجب الحجاب بمن معه من التركمان والعربان أمام خجا سودون فتقدم إليهم جانبك الصوفي بمن معه وهم نحو الألفي فارس فقاتلته العساكر المذكورة وقد تفرقوا فرقتين‏:‏ فرقة عليها خجا سودون وحسن حاجب الحجاب المقدم ذكره وفرقة عليها الأمير تمرباي اليوسفي المؤيدي دوادار السلطان بحلب وتركمان الطاعة في كل فرقة منهما‏.‏
وتصادم الفريقان فكانت بينهم وقعة هائلة انكسر فيها جانبك الصوفي وأمسك الأمير قرمش الأعور والأمير كمشبغا أمير عشرة وهما كانا جناحي مملكته وثمانية عشر فارسًا من أصحاب جانبك الصوفي وانهزم جانبك في أناس وتبعهم العساكر فلم يقدروا عليهم فعادوا فأخذ خجا سودون قرمش وكمشبغا بمن معهما وقيد الجميع وسيرهم إلى حلب وكتب بذلك إلى السلطان‏.‏
فقدم الخبر على السلطان في صفر من سنة أربعين وثمانمائة ومع المخبر رأس الأمير قرمش الأعور ورأس الأمير كمشبغا أمير عشرة وأنه وسط من قبض معهما بحلب فشهر الرأسان بالقاهرة ثم ألقيا في سراب الأقذار بأمر السلطان ولم يدفنا‏.‏
ودقت البشائر لذلك أيامًا وفرح السلطان بذلك وأرسل إلى نائب حلب وإلى خجا سودون بالشكر والثناء‏.‏
ومن يوم ذاك أخذ أمر جانبك الصوفي في إدبار بعد ما كان اجتمع عليه ملوك وخلائق لقلة سعده‏.‏ قلت‏:‏ كان جانبك الصوفي خاملًا لايتحرك بحركة إلا وانعكست عليه طول عمره وقد استوعبنا أحواله في تاريخنا المنهل الصافي ويأتي من ذكره هنا أيضًا نبذة في الوفيات وغيرها إن شاء الله تعالى‏.‏
ثم في أول شهر ربيع الأول من سنة أربعين المذكورة رسم السلطان بعزل تمراز المؤيدي عن نيابة صفد لسوء سيرته وكثرة ظلمه ونقله إلى نيابة غزة عوضًا عن الأمير يونس الركني ونقل يونس المذكور إلى نيابة صفد عوضًا عن تمراز للمذكور أعني أن كلًا منهما ولي عن الآخر وحمل إليهما التقليد والتشريف الأمير دولات باي المحمودي الساقي أحد أمراء العشرات ورأس نوبة بسفار صهره الأمير جانم الأشرفي الأمير الآخور الكبير‏.‏
ثم في يوم الثلاثاء سادس شهر ربيع الأول المذكور خلع السلطان على الصاحب كريم الدين عبد الصاحب كريم ابن كاتب المناخ بعد قدومه من بندر جدة باستقراره وزيرًا على عادته وكانت شاغرة من مدة طويلة ويقوم بمصارفها الزينب عبد الباسط بن خليل‏.‏ ثم أرسل السلطان يطلب الأمراء المجردين إلى الديار المصرية بعدما أنعم على الأمير الكبير جقمق بألف دينار وعلى كل مقدم ألف أيضًا من المجردين بخمسمائة دينار فقدموا القاهرة في يوم الاثنين سابع عشر جمادى الأولى من سنة أربعين المذكورة وطلعوا إلى القلعة وقبلوا الأرض وخلع السلطان عليهم الخلع السنية وأركبهم خيولًا بقماش ذهب‏.‏
وتأخر عن الأمراء المذكورين الأمير خجا سودون وكانت هذه عادته إلى أن قدم في يوم الاثنين ثامن جمادى الآخرة من سنة أربعين المذكورة وطلع إلى القلعة وخلع السلطان عليه وأنعم عليه بإمرة طبلخاناه زيادة على ما بيده من تقدمة ألف ثم خلع السلطان على القاضي كمال الدين ابن البارزي باستقراره قاضي قضاة دمشق عوضًا عن السراج عمرو بن موسى الحمصي مسؤولًا في ذلك مرغوبًا في ولايته‏.‏
ثم في يوم الخميمس عاشر شهر رجب من سنة أربعين المذكورة خلع السلطان على الأمير إينال العلائي الناصري المعزول عن نيابة الرها وهو يوم ذاك من جملة مقدمي الألوف بالديار المصرية باستقراره في نيابة صفد عوضًا عن الأمير يونس الركني ورسم بتوجه يونس المذكور إلى القدس بطالًا‏.‏
وخلع على الأمير طوخ من تمراز المعروف بيني بازق أن يستقر مسفر الأمير إينال المذكور‏.‏ ثم في رابع عشر شهر رجب المذكور أنعم بإقطاع الأمير إينال وتقدمته على الأمير قراجا الأشرفي شاد الشراب خاناه وأنعم بطبلخانة قراجا على الأمير إينال الأبو بكري الأشرفي الخازندار وخلع عليه باستقراره شاد الشراب خاناه عوضه أيضًا وخلع السلطان على الأمير السيفي علي باي الساقي الخاصكي الأشرفي باستقراره خازندارًا عوضًا عن إينال المذكور‏.
ثم في يوم الأحد عاشر شهر رمضان عمل السلطان مشورة بالأمراء لما ورد عليه الخبر بأن ناصر الدين بك بن دلغادر ونزيله جانبك الصوفي زخفا بمن معهما على بلاد ابن قرمان فاتفق رأي الجميع على سفر السلطان إلى بلاد الشام‏.‏

و




ثم انتقض ذلك بعد أيام وكتب لنواب الشام بالمسير إلى نحو بلاد ابن قرمان نجدة لابن قرمان فإن القوم أخذوا آق شهر ونازلوا قلاعًا آخر‏.‏
ثم في يوم الخميس خامس شوال خلع السلطان على قاضي القضاة علم الدين صالح البلقيني وأعيد إلى قضاء القضاة بالديار المصرية عوضًا عن الحافظ شهاب الدين بن حجر‏.‏ ثم في يوم الثلاثاء أول ذي القعدة قدم سيف الأمير تمرباي اليوسفي المؤيدي دوادار السلطان بحلب وفيه أيضًا قدم سيف الأمير آقباي اليشبكي الجاموس نائب الإسكندرية بعد موتهما فخلع السلطان في ثالثه على الزيني عبد الرحمن بن علم الدين داؤد بن الكويز أحد الدوادارية الصغار باستقراره في نيابة الإسكندرية عوضًا عن آقباي اليشبكي بحكم وفاته‏.‏
ثم في يوم الخميس ثاني عشرين ذي الحجة خلع السلطان على الأمير صلاح الدين محمد بن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله باستقراره كاتب السر الشريف بالديار المصرية بعد عزل القاضي محب الدين بن الأشقر مضافًا لما بيده من حسبة القاهرة ونظر دار الضرب ونظر الأوقاف ومنادمة السلطان ونزل في موكب جليل وقد لبس العمامة المدورة والفرجية هيئة أرباب الأقلام وترك زي الأجناد فإنه كان في مبدأ أمره على هيئة الأجناد وكانت ولايته بغير خاطر عبد الباسط بل على رغم أنفه‏.‏
ثم في ليلة الأحد تاسع محرم سنة إحدى وأربعين وثمانمائة بلغ الزيني عبد الباسط والوزير كريم الدين والقاضي سعد الدين ناظر الخاص بأن المماليك السلطانية على عزم نهب دورهم فوزعوا ما عندهم واختفوا ثم طلعوا إلى الخدمة السلطانية على تخوف‏.‏
وقد بلغ السلطان ذلك فأخذ يتوعدهم ويدعو عليهم بالطاعون فلم يلتفت منهم أحد إلى كلامه ونزل عدة كبيرة منهم في يوم الأحد سادس عشره إلى دار عبد الباسط وإلى بيت مملوكه جانبك الأستادار ودار الوزير كريم الدين ونهبوا ما وجدوا فيها وأفحشوا إلى الغاية ولم يعترضوا لأحد في الطرقات خوفًا من ثم في ثاني عشرين المحرم ورد الخبر على السلطان بأن نائب دوركي توجه في خامس عشر المحرم في عدة نواب تلك الجهات وغيرهم في نحو الفي فارس وساروا حتى طرقوا بيوت الأمير ناصر الدين بن دلغادر وقد نزل هو والأمير جانبك الصوفي بمكان على بعد يومين من مرعش فنهبوا ما هناك وأحرقوا ففر ابن دلغادر وجانبك الصوفي في نفر قليل وذلك أن جموعهما كانت مع سليمان بن ناصر الدين بن دلغاعر على حصار قيصرية الروم فسر السلطان بذلك وأرسل إلى نائب دوركي بخلعة وشكره ثم قدم الخبر على السلطان أن الأمير إينال الجكمي نائب الشام خرج من دمشق بعساكرها يريد حلب وقد سارت جميع نواب الشام ليوافوا نائب حلب ويتوجهوا الجميع مددًا لابن قرمان بعد أن أرسل إينال الجكمي تقدمة هائلة للسلطان‏.‏
ووصلت التقدمة المذكورة إلى القاهرة في يوم السبت سابع صفر المذكور وهي ذهب نقد عشرة آلاف دينار وخيول مائتا فرس منها ثلاثة أرؤس بسروج ذهب وكنابيش زركش وسمور عشرة أبدان ووشق عشرة أبدان وقاقم عشرة أبدان وسنجاب مائة بدن وبعلبكي خمسمائة ثوب وأقواس حلقة مائة قوس وجمال بخاتي ثلاث قطر وجمال عراب ثلاثمائة جمل وثياب صوف مربع مائة ثوب‏.‏
ثم في يوم السبت خامس شهر ربيع الأول خلع السلطان على الأمير خليل بن شاهين الشيخي المعزول عن نيابة الإسكندرية والوزارة قبل تاريخه باستقراره في نيابة الكرك وسار إليها من وقته‏.‏ ثم في يوم السبت تاسع عشر شهر ربيع الأول المذكور من سنة إحدى وأربعين المذكورة خلع السلطان على الصاحب جمال الدين يوسف ابن القاضي كريم الدين عبد الكريم بن سعد الدين بركة المعروف بابن كاتب جكم باستقراره ناظر الخاص الشريف بعد موت أخيه القاضي سعد الدين إبراهيم الآتي ذكره في الوفيات إن شاء الله تعالى‏.‏
ثم في شهر ربيع الآخر كملت عمارة الجامع الذي أنشأه السلطان بخانقاه سرياقوس على الدرب المسلوك وطوله خمسون ذراعًا في عرض خمسين ذراعًا ورتب فيه إمامًا للصلوات الخمس وخطيبًا وقراء يتناوبون القراءة وأرباب وظائف من المؤذنين والفراشين وجاء الجامع المذكور في غاية الحسن إلا أن سقوفه واطئة قليلًا‏.‏ ثم في يوم السبت ثالث جمادى الأولى ركب السلطان من قلعة الجبل إلى الصيد بعدما شق القاهرة وخرج من باب القنطرة وهذه أول ركبة ركبها للصيد فى هذه السنة وتداول ذلك منه في هذا الشهر غير مرة‏.‏
وفيه قدم الأمير تمراز المؤيدي نائب غزة والسلطان يتصيد‏.‏ وعاد السلطان في خامسه وشق القاهرة حتى خرج من باب زويلة ومضى إلى القلعة‏.‏ ثم أصبح من الغد أمسك تمراز المؤيدي المذكور وقيده وأرسله إلى سجن الإسكندرية فسجن بها وذلك لسوء سيرته ولكمين كان عنده من الملك الأشرف فإن تمراز هذا كان ممن ركب مع الأمير تنبك البجاسي نائب الشام ثم اختفى وظهر وأنعم عليه السلطان بإقطاع دمشق ثم نقله إلى إمرة مائة بعد سفرة آمد لشجاعة ظهرت منه في قتال القرايلكية ثم نقله إلى نيابة صفد فلم تحمد سيرته فعزله وولاه نيابة غزة فشكي منه أيضًا ورمي بعظائم فطلبه وأمسكه ثم قتله بعد مدة‏.‏
فكان ما عاشه من يوم واقعة البجاسي ليوم تاريخه فائدة‏.‏ ولما أن أمسك السلطان تمراز استدعى الأمير جرباش الكريمي قاشق من ثغر دمياط ليوليه نيابة غزة فقدم جرباش وامتنع عن نيابة غزة فرسم له بالعود إلى الثغر بطالًا كما كان أولًا‏.‏ ثم في سابع عشره خلع السلطان على الأمير آق بردي السيفي قجماس أحد أمراء العشرات باستقراره في نيابة غزة عوضًا عن تمراز المذكور بمال بذله في ذلك‏.‏
وقدم الخبر على السلطان بموت جانبك الصوفي واختلفت الأقاويل في أمره إلى أن كان يوم السبت سابع عشر جمادى الأولى من سنة إحدى وأربعين المذكورة قدم مملوك تغري برمش نائب حلب إلى القاهرة برأس الأمير جانبك الصوفي فدقت البشائر لذلك وسر السلطان غاية إذا تم أمر بدا نقصه توق زوالًا إذا قيل تم فأمر السلطان بالرأس فطيف بها على رمح بشوارع القاهرة والمشاعلي ينادي عليها‏:‏ هذا جزاء من يخالف على الملوك ويخرج عن الطاعة ثم ألقيت في قناة سراب‏.‏
وكان من خبر موت جانبك الصوفي المذكور أنه لما كبس عليه وعلى ابن دلغادر نائب دوركي في محرم هذه السنة كما تقدم وانكسر هو وابن دلغادر فمقته ابن دلغادر وافترقا من يومئذ‏.‏ فسار ابن دلغادر على وجهه يريد بلاد الروم وقد تشتت شمله وقصد جانبك الصوفي أولاد قرايلك‏:‏ محمدًا ومحمودًا وقدم عليهما فأكرماه وأنزلاه عندهما‏.‏
فأخذ تغري برمش نائب حلب يدبر عليه بكل ما تصل القدرة إليه ولا زال حتى استمالهما أعني محمدًا ومحمودًا ابني قرايلك ووعدهما بجملة مال إن قبضا على جانبك المذكور يحمل إليهما خمسة آلاف دينار فمالا إليه ووعداه أن يقبضا على جانبك المذكور فعلم جانبك بالخبر فشاور أصحابه في ذلك فأشاروا عليه بالفرار إلى جهة من الجهات فبادر جانبك وخرج من عندهما ومعه عشرون فارسًا من أصحابه لينجو بنفسه‏.‏
وبلغ ذلك القرايلكية فركبوا وأدركوه فقاتلهم فأصابه سهم سقط منه عن فرسه فأخذوه وسجنوه عندهم وذلك في يوم الجمعة خامس عشرين شهر ربيع الآخر من هذه السنة فمات من الغد فقطع رأسه حمل إلى السلطان فهذا القول هو المشهور‏.‏ وقيل إن جانبك الصوفي مات بالطاعون عند أولاد قرايلك بعد أن أوعدهما تغري برمش بالمال المقدم ذكره ولم يقبلا منه ذلك واستمرا على إكرامه‏.‏ فلما مات جانبك الصوفي بالطاعون أخفيا ذلك وقطعا رأسه وبعثا بها إلى تغري برمش‏.‏ قلت‏:‏ والقول الأول هو المتداول بين الناس‏.‏ ويأتي بقية ذكر جانبك الصوفي في الوفيات من هذا الكتاب في محله إن شاء الله تعالى‏.‏
قال المقريزي بعد أن ساق نحو ما حكيناه بالمعنى واللفظ مخالف‏:‏ وحملت إليه الرأس يعني عن الملك الأشرف فكاد يطير فرحًا وظن أنه قد أمن فأجرى الله على الألسنة أنه قد انقضت أيامه وزالت دولته فكان كذلك هذا‏.‏
وقد قابل نعم الله عليه في كفاية عدوه بأن تزايد عتوه وكثر ظلمه وساءت سيرته فأخذه الله أخذًا وبيلًا وعاجله بنقمته فلم يهنه انتهى كلام المقريزي‏.‏
قلت‏:‏ وما عسى الملك الأشرف كان يظلم في تلك المدة القصيرة فإن خبر جانبك الصوفي ورد عليه في سابع عشر جمادى الأولى وابتدأ بالسلطان مرض موته من أوائل شعبان ولزم الفراش من اليوم المذكور وهو ينصل ثم ينتكس إلى أن مات في ذي الحجة‏.‏
غير أن الشيخ تقي الدين المقريزي رحمه الله كان له انخراقات معروفة عنه وهو معذور في ذلك فإنه أحد من أدركنا من أرباب الكمالات في فنه ومؤرخ زمانه لا يدانيه في ذلك أحد مع معرفتي بمن عاصره من مؤرخي العلماء ومع هذا كله كان مبعودًا في الدولة لا يدنيه السلطان مع حسن محاضرته وحلوا منادمته‏.‏
ثم في يوم الجمعة ثامن جمادى الآخرة ورد الخبر على السلطان بأن إسكندر بن قرا يوسف نزل قريبًا من مدينة تبريز فبرز إليه أخوه جهان شاه بن قرا يوسف المقيم بها من قبل شاه رخ بن تيمورلنك فكانت بينهما وقعة هائلة انهزم فيها إسكندر إلى قلعة ألنجا من عمر تبريز فنازلها جهان شاه إلى أن حصره بها أيامًا وأن الأمير حمزة بن قرايلك متملك ماردين وأرزن أخرج أخاه علي بك من مدينة آمد وملكها منه‏.‏
فقلق السلطان من هذين الخبرين وعزم على أن يسافر بنفسه إلى البلاد الشامية وكتب بتجهيز الإقامات بالشام ثم أبطل ذلك بعد أيام‏.‏ ورسم في يوم السبت سابع شهر رجب بخروج تجريدة من الأمراء إلى البلاد الشامية وعين ثمانية نفر من الأمراء مقدمي الألوف‏:‏ وهم قرقماس أمير سلاح وآقبغا التمرازي أمير مجلس وأركماس الظاهري الدوادار الكبير وتمراز القرمشي رأس نوبة النوب ويشبك السودوني حاجب الحجاب وجانم الأشرفي الأمير آخور الكبير وخجا سودون وقراجا الأشرفي‏.‏
ثم في يوم الاثنين تاسع شهر رجب نودي بأن أحدًا من العبيد لا يحمل سلاحًا ولا يمشي بعد المغرب وأن المماليك السلطانية لا يتعرض لأحد من العبيد‏.‏
وكان سبب هذه المناداة أنه لما أدير المحمل في يوم الخميس خامس شهر رجب المذكور فلما كان أول ليلة من الزينة نزل جماعة كبيرة من المماليك الأشرفية الذين بالأطباق من قلعة الجبل وأخذوا في نهب الناس وخطف النساء والصبيان فاجتمع عدد كبير من العبيد السود وقاتلوا المماليك الأجلاب فقتل من العبيد خمسة نفر وجرح عدة في المماليك وخطفت العمائم وأخذت الأمتعة‏.‏
ثم أخذت المماليك تتتبع العبيد فقتلوا منهم جماعة وقد كفت العبيد أيديهم عن قتالهم خوفًا من السلطنة واختفى كثير من العبيد وقل مشي المماليك في الليل إلى أن نودي لهم بهذه المناداة فسكن الشر ومشى كل من الطائفتين على حاله الأول‏.‏ ثم رسم السلطان بمنع المماليك من النزول من الأطباق إلى القاهرة إلا لضرورة‏.‏
ثم في عاشر شهر رجب أنفق السلطان على الأمراء المجردين لكل أمير ألفي دينار أشرفية‏.‏ ثم في يوم الأربعاء ثامن عشره ركب السلطان من قلعة الجبل ونزل إلى خليج الزعفران فنزل به وأكل السماط ثم ركب في يومه وعاد إلى القلعة فأصبح من الغد متوعك البدن ساقط الشهوة للغداء ولزم الفراش وهذا أوائل مرضه الذي مات منه غير أنه تعافى بعض أيام ثم مرض ثم تعافى حسبما يأتي ذكره‏.‏

وبــــــــاء فى الصعيد
وورد الخبر فيه بوقوع الوباء في بلاد الصعيد‏.‏
مـــــرض السلطان الملك الأشرف سيف الدين أبو النصر برسباي الدقماقي الظاهري سنة 825 هـ
واستهل شعبان يوم الاثنين والسلطان مريض فأخرج فيه مالًا وفرقه على الفقراء والمساكين‏.‏
فلما كان يوم الثلاثاء تاسعه تعافى السلطان وخلع على الأطباء لعافيته وركب من الغد ونزل من القلعة إلى القرافة وتصدق على أهل القرافتين وعاد وهو غير صحيح البدن‏.‏
ثم في يوم السبت ثالث عشر شعبان المذكور نزل السلطان من القلعة إلى خارج القاهرة وعاد ودخل من باب النصر ثم نزل بالجامع الحاكمي وقد قيل له إن بالجامع المذكور دعامة قد ملئت ذهبًا ملأها الحاكم بأمر الله لمعنى أنه إذا خرب يعمر بما في تلك الدعامة‏.‏
فلما بلغ الملك الأشرف ذلك شرهت نفسه لأخذ المال المذكور فقيل له إنك تحتاج إلى هدم جميع الدعائم التي بالجامع المذكور حتى تظفر بتلك الدعامة المذكورة ثم لا بد لك من عمارتها ويصرف على عمارتها جملة كثيرة لا تدخل تحت حصر فقال السلطان ما معناه‏:‏ إن الذي نأخذه من الدعامة يصرف على عمارة ما نهدمه ولا ينوبنا غير تعب السر وركب فرسه وعاد إلى القلعة‏.‏
ثم في يوم الخميس خامس عشرين شعبان المذكور برز الأمير قرقماس أمير سلاح وقد صار مقدم العساكر وصحبته من تقدم ذكره من الأمراء إلى الريدانية خارج القاهرة من غير أن يرافقهم في هذه التجريدة أحد من المماليك السلطانية فأقاموا بالريدانيه إلى أن سافروا منها في يوم السبت سابع عشرين شعبان وهذه التجريدة آخر تجريدة جردها الملك الأشرف من الأمراء‏.‏
وكتب السلطان إلى الأمير إينال الجكيم نائب الشام وغيره من النواب ان يسافروا صحبة الأمراء المذكورين إلى حلب ويستدعوا حمزة بك بن قرايلك إلى عندهم فإن قدم عليهم خلع عليه بنيابة السلطنة فيما يليه من أعمال ديار بكر وإن لم يقدم عليهم مشوا عليه بأجمعهم وقاتلوه حتى أخذوه‏.‏
قلت‏:‏ الطويل أيا دارها بالخيف إن مزارها قريب ولكن بين ذلك أهوال ثم قدم الخبر على السلطان بأن محمد بن قرايلك توجه إلى أخيه حمزة بك المقدم ذكره باستدعائه وقد حقد عليه حمزة قتله للأمير جانبك الصوفي‏.‏
فإن حمزة لما بلغه نزول جانبك الصوفي على أخويه محمد ومحمود وكتب في الحال إلى أخيه محمد هذا بأن يبعث بالأمير جانبك الصوفي إليه مكرمًا مبجلًا أراد حمزة أن يأخذ جانبك إلى عنده ليخوف به الملك الأشرف فمال محمد إلى ما وعد به تغري برمش نائب حلب وقتل جانبك الصوفي وبعث برأسه إليه فأسرها حمزة في نفسه وما زال يعد أخاه المذكور ويمنيه إلى أن قدم عليه وفي ظن محمد أن أخاه حمزة يوليه بعض بلاده فما هو إلا أن صار في قبضته قتله في الحال‏.‏  انتهى‏.‏
ثم في يوم الثلاثاء أول شهر رمضان ظهر الطاعون بالقاهرة وظواهرها وأول ما بدأ في الأطفال والإماء والعبيد والمماليك‏.‏
وكان الطاعون أيضًا قد عم البلاد الشامية بأسرها‏.‏
ثم في يوم الأربعاء ثالث عشرين شهر رمضان المذكور ختمت قراءة البخاري بين يدي السلطان بقلعة الجبل وقد حضر قضاة القضاة والعلماء والفقهاء على العادة هذا وقد تخوف السلطان من الوباء فسأل من حضر من الفقهاء عن الذنوب التي ترتكبها الناس هل يعاقبهم الله بالطاعون فقال له بعض الجماعة‏:‏ إن الزنا إذا فشا في الناس ظهر فيهم الطاعون وإن النساء يتزين ويمشين في الطرقات ليلًا ونهارًا فأشار آخر أن المصلحة منع النساء من المشي في الأسواق فنازعه آخر فقال‏:‏ لا تمنع إلا المتبهرجات وأما العجائز ومن ليس لها من يقوم بأمرها لا تمنع من تعاطي حاجتها‏.‏ وتباحثوا في ذلك بحثًا كبيرًا إلى أن مال السلطان إلى منعهن من الخروج إلى الطرقات مطلقًا ظنًا من السلطان أن بمنعهن يرتفع الطاعون‏.‏
ثم خلع السلطان على من له عادة بلبس ثم أمرهم باجتماعهم عنده من الغد فاجتمعوا يوم الخميس واتفقوا على ما مال إليه السلطان فنودي بالقاهرة ومصر وظواهرهما بمنع جميع النساء بأسرهن من الخروج من بيوتهن وأن لا تمر امرأة في شارع ولا في سوق البتة وتهدد من خرجت من بيتها بالقتل وأنواع البهدلة فامتنع جميع النساء من الخروج قاطبة فتياتهن وعجائزهن وإمائهن من الخروج إلى الطرقات‏.‏
وأخذ والي القاهرة والحجاب في تتبع الطرقات وضرب من وجدوا من النساء وتشددوا في الردع والضرب والتهديد فامتنعن بأجمعهن فعند ذلك نزل بالأرامل أرباب الصنائع ومن لا يقوم عليها أحد لقضاء حاجتها ومن تطوف على الأبواب تسأل الناس من الضر والحاجة بأس شديد‏.‏ ثم في يوم السبت سادس عشرينه أفرج السلطان عن جميع المسجونين حتى أرباب الجرائم وأغلقت السجون بالقاهرة ومصر وانتشرت السراق والمفسدون في البلد وامتنع من له عند شخص حق أن يطالبه‏.‏
قلت‏:‏ كان حال الملك الأشرف في هذه الحركة كقول القائل‏:‏ الخفيف رام نفعًا فضر من غير قصد ومن البرما يكون عقوقا ثم في سابع عشرينه عزم السلطان على أن يولي الحسبة لرجل ناهض فذكر له جماعة فلم يرضهم ثم قال‏:‏ عندي واحد ليس بمسلم ولا يخاف الله وأمر فأحضر إليه دولات خجا الظاهري برقوق المعزول عن ولاية القاهرة قبل تاريخه غير مرة فخلع عليه باستقراره في حسبة القاهرة عوضًا عن القاضي صلاح الدين محمد بن الصاحب بدر الدين بن نصر الله كاتب السر بحكم عزله وكان رغبة السلطان في ولاية دولات خجا هذا بسبب النساء لما يعلم من شدته وقلة رحمته وجبروته‏.‏
وعندما خلع عليه حرضه على عدم إخراج النسوة إلى الطرقات هذا بعد أن تكلم جماعة كبيرة من أرباب الدولة مع السلطان بسبب ما حل بالنسوة من الضرر لعدم خروجهن فأمر السلطان عند ذلك فنودي بخروج الإماء لشراء حوائج مواليهن من الأسواق وأن لا تنتقب واحدة منهن بل يكن سافرات عن وجوههن قصد بذلك حتى لا تتنكر إحداهن في صفة الجواري وتخرج إلى الأسواق وأن تخرج العجائز لقضاء أشغالهن وأن تخرج النساء إلى الحمامات ولا يقمن بها إلى الليل‏.‏
وصار دولات خجا يشدد على النسوة وعاقب منهن جماعة كبيرة حتى انكف الجميع عن الخروج البتة‏.‏ وأهل شوال يوم الخميس وقد حل بالناس من الأنكاد والضرر ما لا يوصف من تزايد الطاعون وتعطل كثير من البضائع المبتاعة على النسوة لامتناعهن من المشي في الطرقات وأيضًا مما نزل بالنسوة من موت أولادهن وأقاربهن فصارت المرأة يموت ولدها فلا تستطيع أن ترى قبره خوفًا من الخروج إلى الطرقات ويموت أعز أقاربها من غير أن تزوره في مرضه فشق ذلك عليهن إلى الغاية هذا مع تزايد الطاعون‏.‏
قلت‏:‏ كل ذلك لعدم أهلية الحكام واستحسان الولاة على الخواطىء وإلا فالحرة معروفة ولو كانت في الخمارة والفاجرة معروفة ولو كانت في البيت الحرام ولا يخفى ذلك على الذوق السليم غير أن هذا كله وأمثاله لولاية المناصب غير أهلها وأما الحاكم النحرير الحاذق الفطن إذا قام بأمر نهض به وتتبع الماء من مجاريه وأخذ ما هو بصدده حتى أزاله في أسرع وقت وأهون حال ولا يحتاج ذلك إلى بعض ما الناس فيه وهو ذهاب الصالح بالطالح والبريء مع المجرم وتحكم مثل هذا الجاهل في المسلمين الذي هو من مقولة من قال‏:‏ الطويل ولوشاربك لخصهم بثلاثة قرون وأذناب وشق حوافر وما أحسن قول أبي الطيب المتنبي في هذا المعنى‏:‏ الطويل ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى انتهى‏.‏
كل ذلك والسلطان شهوته ضعيفة عن الأكل ولونه مصفر وآثار المرض تلوح على وجهه غير أنه يتجلد كقول القائل‏:‏ الكامل ثم في هذا اليوم خلع السلطان على الأمير أسنبغا بن عبد الله الناصري الطياري باستقراره حاجبًا ثانيًا عوضًا عن الأمير جانبك السيفي يلبغا الناصري المعروف بالثور بحكم وفاته بمكة المشرفة في حادي عشر شعبان‏.‏
ثم في يوم الثلاثاء سادس شوال المذكور خلع السلطان على قاضي القضاة شهاب الدين بن حجر وأعيد إلى القضاء بعد عزل القاضي علم الدين صالح البلقيني بعد أن ألزم أنه يقوم لعلم الدين صالح المذكور بما حمله إلى الخزانة الشريفة وقد بدا للسلطان أنه لا يولي بعد ذلك أحدًا من القضاة بمال مما داخله من الوهم بسبب عظم الطاعون وأيضًا لمرض تمادى به‏.‏
وفيه ركب السلطان من قلعة الجبل ونزل إلى خليج الزعفران وأقام به يومه في مخيمه يتنزه ثم ركب وعاد إلى القلعة في آخر النهار بعد أن تصدق على الفقراء بمال كثير فتكاثرت الفقراء على متولي الصدقة وجذبوه حتى أرموه عن فرسه فغضب السلطان من ذلك وطلب سلطان الحرافيش وشيخ الطوائف وألزمهما بمنع الجعيدية من السؤال في الطرقات وألزمهم بالتكسب وأن من يشحذ منهم قبض عليه وأخرج لعمل الحفير‏.‏
فامتنعوا من الشحاذة وخلت الطرقات ولم يبق من السؤال إلا العميان والزمنى وأرباب العاهات‏.‏ قلت‏:‏ وكان هذا من أكبر المصالح وعد ذلك من حسن نظر الملك الأشرف في أحوال الرعية فإن هؤلاء الجعيدية غالبهم قوي سوي صاحب صنعة في يده فيتركها ويشارك ذوي العاهات الذين لا كسب لهم إلا السؤال ولولا ذلك لماتوا جوعًا وأيضا أن غالبهم يجلس بالشوارع ويتمنى ثم يقسم على الناس بالأنبياء والصلحاء وهو يتضجر من قسوة قلوب الناس ويقول‏:‏ لي مقدار كيت وكيت باقول في حب رسول الله أعطوني هذا النزر اليسير فلم يعطني أحد‏.‏
ويجتاز به وهو يقول‏:‏ ذلك اليهودي والنصراني فيسمعون لمقالته في هذا المعنى‏.‏ وهذا من المنكرات التي لا ترتضيها الحكام وكان من شأنهم أنهم إذا سمعوا هذا القول أخذوا القائل وأوجعوه بالضرب والحبس والمناداة على الفقراء بعدم التقسيم في سؤالهم والتحجر عليهم بسبب ذلك فلم يلتفت أحد منهم إلى ذلك حتى ظهر للسلطان بعض ما هم عليه في هذه المرة فمنعهم فما كان أحسن هذا لو دام واستمر انتهى‏.‏
كل ذلك والسلطان يتشاغل بركوبه وتنزهه مما به من التوعك وهو لا يظهره‏.‏ فلما كان يوم الأربعاء سابع شوال انتكس السلطان ولزم الفراش‏.‏ كل ذلك ودولات خجا محتسب القاهرة يتتبع النسوة ويردعهن بالعذاب والنكال حتى إنه ظفر مرة بامرأة وأراد أن يضربها فذهب عقلها من الخوف وتلفت وحملت إلى بيتها مجنونة وتم بها ذلك أشهرًا وامرأة أخرى أرادت أن تخرج خلف جنازة ولدها فمنعت من ذلك فأرمت بنفسها من أعلى الدار ثم في يوم الجمعة تاسع شوال اتفق حادثة غريبة وهو أن العامة لهجت بأن الناس يموتون يوم الجمعة بأجمعهم قاطبة وتقوم القيامة فتخوف غالب العامة من ذلك‏.‏
فلما كان وقت الصلاة من يوم الجمعة المذكور حضر الناس إلى الصلاة وركبت أنا أيضًا إلى جامع الأزهر والناس تزدحم على الحمامات ليموتوا على طهارة كاملة فوصلت إلى الجامع وجلست به وأذن المؤذنون ثم خرج الخطيب على العادة ورقي المنبر وخطب وأسمع الناس إلى أن فرغ من الخطبة الأولى وجلس للاستراحة بين الخطبتين فطال جلوسه ساعة كبيرة فتقلق الناس إلى أن قام وبدأ في الخطبة الثانية وقبل أن يتم كلامه قعد ثانيًا واستند إلى جانب المنبر ساعة طويلة كالمغشي عليه فاضطرب الناس لما سبق من أن الناس تموت في يوم الجمعة بأجمعهم وظنوا صدق المقالة وأن الموت أول ما بدأ بالخطيب‏.‏
وبينما الناس في ذلك قال رجل‏:‏ الخطيب مات فارتج الجامع وضج الناس وتباكوا وقاموا إلى المنبر وكثر الزحام على الخطيب حتى أفاق وقام على قدميه ونزل عن المنبر ودخل إلى المحراب وصلى من غير أن يجهر بالقراءة وأوجز في صلاته حتى أتم الركعتين‏.‏ وقدمت عدة جنائز فصلى عليها الناس وأمهم بعضهم‏.‏ وبينما الناس في الصلاة على الموتى إذا الغوغاء صاحت بأن الجمعة ما صحت والخطيب صلى بعد أن انتقض وضوءه لما غشي عليه وتقدم رجل من الناس وأقام وصلى الظهر أربعًا‏.‏
وبعد فراغ هذا الذي صلى أربعًا قام جماعة أخر وأمروا فأذن المؤذنون بين يدي المنبر وطلع رجل إلى المنبر وخطب خطبتين على العادة ونزل ليصلي فمنعوه من التقدم إلى المحراب وأتوا بإمام الخمس فقدموه حتى صلى بهم جمعة ثانية فلما انقضت صلاته بالناس قام آخرون وصاحوا بأن هذه الجمعة الثانية لم تصح وأقاموا الصلاة وصلى بهم رجل آخر الظهر أربع ركعات فكان في هذا اليوم بجامع الأزهر إقامة الخطبة مرتين وصلاة الظهر مرتين‏.‏
فقمت أنا في الحال وإذا بالناس تطير على السلطان بزوال من أجل إقامة خطبتين في موضع واحد في يوم واحد‏.‏ هذا ومرض السلطان في زيادة ونمو وكلما ترجح قليلًا خلع على الأطباء ودقت البشائر إلى أن عجز عن القيام في العشر الثاني من شوال‏.‏
هذا وقد كثر الموت بالمماليك السلطانية ثم بالدور السلطانية ومات عدة من أولاد السلطان والحريم والجواري‏.‏
وخرج الحاج في يوم الاثنين تاسع عشره صحبة أمير الحاج آقبغا من مامش الناصري المعروف بالتركماني ونزل إلى بركة الحاج فمات به عدة كبيرة من الحجاج منهم ابن أمير الحاج وابنته في الغد‏.‏ وبعده في يوم الأربعاء حادي عشرينه ضبط عدة من صلي عليه من الأموات بالمصليات فزادت عدتهم على ألف إنسان‏.‏
ثم في يوم الخميس ثاني عشرينه خلع السلطان على الأطباء لعافيته وفرح الناس وبينما هم في ذلك إذ وسط السلطان طبيبيه في يوم السبت رابع عشرينه وهما اللذان خلع عليهما بالأمس‏.‏ وكان من خبر الأطباء أنه لما خلع السلطان عليهما بالأمس وأصبح السلطان من الغد فرأى حاله في إدبار وكان قد قلق من طول مرضه فشكا ما به لرئيس الأطباء العفيف الأسلمي فأمر له بشيء يشربه فشربه السلطان فلم يوافق مزاجه وتقيأه لضعف معدته‏.‏ وكان خضر الحكيم كثيرًا ما يتحشر عند رؤساء الدولة حتى صار يداخل السلطان في أيام مرضه اقتحامًا على الرئاسة واستمر يلاطف السلطان مع العفيف‏.‏
وأصبح العفيف وطلع إلى القلعة ودخل على عادته وإذا بالسلطان قد امتلأ عليه غضبًا وقد ظن في نفسه أن الحكماء مقصرون في علاجه ومداواته وأنهم أخطؤوا في التدبير والملاطفة فحال ما وقع بصره على العفيف سبه ونهره وكان في المجلس القاضي صلاح الدين بن نصر الله كاتب السر والصفوي جوهر الخازندار وعدة أخر من الأمراء الخاصكية ثم قال له السلطان‏:‏ إيش هذا الذي أسقيتني البارحة فقال العفيف‏:‏ هو كيت وكيت يا مولانا السلطان واطلب الأطباء واسألهم هل هو موافق أم لا فلم يلتفت السلطان إلى كلامه وطلب عمر بن سيفا والي القاهرة وأمره بتوسيطه فأخذه وخرج وتماهل في أمره حتى تأتيه الشفاعة‏.‏
وبينما العفيف في ذلك إذ طلع خضر الحكيم وهو مسرع كون العفيف قد سبقه إلى مجلس السلطان فكلمه العفيف في أن السلطان إذا سأله عما وصفه له العفيف في أمسه لا يعترض عليه ليسكن بذلك غضب السلطان‏.‏
فحال ما دخل خضر المذكور على السلطان أمر بتوسيطه أيضًا فأخذ من بين يدي السلطان أخذًا مزعجًا وأضيف إلى العفيف وهو يظن أن ذلك من حنق السلطان وليس الأمر على حقيقته‏.‏ وتربص الوالي في أمرهما فأرسل السلطان من استحثه في توسيطهما هذا بعد أن وقف ندماء السلطان إلى الأشرف وقبلوا له الأرض غير مرة وقبلوا يده مرارًا عديدة بسببهما والشفاعة فيهما وسألوه أن يعاقبهما بالضرب فأبى إلا توسيطهما‏.‏
وأخذ السلطان يستحث الوالي برسول بعد رسول من الخاصكية والوالي يتنقل بهما من مكان إلى آخر تسويفًا إلى أن أتى بهما إلى الحدرة عند باب الساقية من قلعة الجبل‏.‏ وبينما هم في ذلك أتاه رجل من قبل السلطان وقال له‏:‏ أمرني السلطان أن أحضر توسيطهما أو تحضر تجيب السلطان بما تختاره من الجواب عن ذلك فلم يجد عمر بدًا من أن أخذ العفيف أولًا وحمله فاستسلم ولم يتحرك حتى وسط‏.‏
فلما رأى خضر ذلك طار عقله وصاح وهو يقول‏:‏ عمر الحكيم أتوسط عندي للسلطان ثلاثة آلاف دينار ويدعني أعيش فلم يلتفت الوالي إلى كلامه وأمر به فأخذ فدافع عن نفسه بكل ما تصل قدرته إليه وخاف خوفًا شديدًا فتكاثروا عليه أعوان الوالي حتى حملوه وهو يتمرغ فوسط توسيطًا معذبًا لتلويه واضطرابه ثم حملا إلى أهليهما‏.‏ فعند ذلك تحقق الناس عظم ما بالسلطان من المرض وشنعت القالة فيه‏.‏
ومن يومئذ تزايد مرض السلطان وصارت الأطباء متخوفة من معالجته ولا يصفون له شيئًا حتى يكون ذلك بمشورة جماعة من الأطباء واستعفى أكثرهم وحمل الرسائل على عدم الطلوع لملاطفته‏.‏ واستمر السلطان ومرضه يتزايد فلما كان يوم الثلاثاء رابع ذي القعدة جمع السلطان الخليفة والقضاة الأربعة والأمراء وأعيان الدولة وعهد بالسلطنة إلى ولده المقام الجمالي يوسف وكتب العهد القاضي شرف الدين أبو بكر نائب كاتب السر لمرض كاتب السر القاضي صلاح الدين بن نصر الله بالطاعون‏.‏
وجلس السلطان بالمقعد الذي أنشأه على باب الدهيشة المطل على الحوش السلطاني وقد أخرج إليه محمولًا من شدة مرضه وضعف قوته ووقف بين يديه الأمير خشقدم اليشبكي مقدم المماليك السلطانية بالحوش ومعه غالب المماليك السلطانية الجلبان والقرانيص وجلس بجانب السلطان الخليفة المعتضد بالله أبو الفتح داود والقضاة والأمير الكبير جقمق العلائي ومن تأخر عن التجريدة من الأمراء بالديار المصرية‏.‏
وقام عبد الباسط لغيبة كاتب السر صلاح الدين بن نصر الله وشدة مرضه بالطاعون وابتدأ بالكلام في عهد السلطان بالملك من بعده لابنه المقام الجمالي يوسف وقد حضر أيضًا يوسف المذكور مع أبيه في المجلس فاستحسن الخليفة هذا الرأي وشكر السلطان على فعله لذلك‏.‏
فقام في الحال القاضي شرف الدين أبو بكر سبط ابن العجمي نائب كاتب السر بالعهد إلى بين يدي السلطان‏.‏ وأشهد السلطان على نفسه أنه عهد بالملك إلى ولده يوسف من بعده وأمضى الخليفة العهد وشهد بذلك القضاة وجعل الأمير الكبير جقمق العلائي هو القائم بتدبير أمر مملكة المقام الجمالي يوسف وأشهد السلطان على نفسه بذلك أيضًا في العهد‏.‏
ثم التفت السلطان إلى جهة الحوش وكلم الأمير خشقدم مقدم المماليك وقصد يسمع ذلك القول للمماليك السلطانية الجلبان بكلام طويل محصوله يعتب عليهم فيما كانوا يفعلونه في أيامه وأنه كان تغير عليهم ودعا عليهم فأرسل الله تعالى عليهم الطاعون في سنتي ثلاث وثلاثين ثم إحدى وأربعين فمات منهم جماعة كبيرة والآن قد عفا عنهم‏.‏
ثم أوصاهم بوصايا كثيرة منها أن يكونوا في طاعة ولده وأن لا يغيروا على أحد من الأمراء وأن لا يختلفوا فيدخل فيهم الأجانب فيهلكوا وأشياء من ذلك كثيرة سمعتها من لفظه لكن لم أحفظ أكثرها لطول الكلام‏.‏
ثم أخذ يعرف الجميع القرانيص والجلبان أنه يموت وأنه كان عندهم ضيفًا وقد أخذ في الرحيل عنهم وبكى فأبكى الناس وعظم الضجيج من البكاء ثم أمر لهم بنفقة لجميع المماليك السلطانية قاطبة لكل واحد ثلاثين دينارًا فقبل الجميع الأرض وضجوا له بالدعاء بعافيته وتأييده كل ذلك وهو يبكي وعقله صحيح وتدبيره جيد‏.‏
وفي الحال جلس كاتب المماليك واستدعى اسم واحد واحد وقد صرت النفقة المذكورة حتى أخذوا الجميع النفقة فحسن ذلك ببال جميع الناس وكانت جملة النفقة مائة وعشرين ألف دينار وانفض المجلس وحمل السلطان وأعيد إلى مكانه‏.‏
ثم في يوم الجمعة سابع ذي القعدة خلع السلطان على الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله باستقراره في كتابة السر بعد موت ولده صلاح الدين محمد بن حسن بن نصر الله بالطاعون وخلع أيضًا في اليوم المذكور على نصر الدين علي السويفي إمام السلطان باستقراره محتسب القاهرة بعد موت دولات خجا بالطاعون وفرح الناس بموته كثيرًا‏.‏

تزايد الطاعون

وظواهرها حتى بلغ عدة من صلي عليه بمصلاة باب النصر فقط في يوم واحد أربعمائة ميت وهي من جملة إحدى عشرة مصلاة بالقاهرة وظواهرها‏.‏ وأما الأمراء المجردون إلى البلاد الشامية فإنهم كانوا في هذا الشهر رحلوا من أبلستين وتوجهوا إلى آق شهر حتى نزلوا عليها وحصروها وليس لهم علم بما السلطان فيه‏.‏
ثم اشتد مرض السلطان في يوم الثلاثاء خامس عشرين ذي القعدة واحتجب عن الناس ومنع الناس قاطبة من الدخول عليه سوى الأمير إينال الأبو بكري الأشرفي شاد الشراب خاناه وعلي باي الأشرفي الخازندار وجوهر اللالا الزمام وصار إذا طلع مباشرو الدولة إلى الخدمة السلطانية على العادة يعرفهم هؤلاء بحال السلطان وليس أحد من أكابر الأمراء يطلع إلى القلعة لمعرفتهم بما السلطان فيه من شدة المرض وأيضًا لكثرة الكلام في المملكة‏.‏
وقد صارت المماليك طوائف وتركوا التسيير إلى خارج القاهرة وجعلوا دأبهم التسيير بسوق الخيل تحت القلعة والكلام في أمر السلطان‏.‏ وبطلت العلامة وتوقف أحوال الناس لاختلاط عقل السلطان من غلبة المرض عليه وخيفت السبل ونقل الناس أقمشتهم من بيوتهم إلى الحواصل مخافة من وقوع فتنة‏. وأخذ الطاعون يتناقص في هذه الأيام وهو أوائل ذي الحجة ومرض السلطان يتزايد‏.‏ وكان ابتداء مرض السلطان ضعف الشهوة للأكل فتولد له من ذلك أمراض كثيرة آخرها نوع من أنواع الملنخوليا وكثر هذيانه وتخليطه في الكلام ولازمه الأرق والسهر مع ضعف قوته‏.‏
هذا مع أن المماليك في هذه الأيام صاروا طائفة وطائفة‏:‏ فطائفة منهم يريدون أن يكون الأمير الكبير جقمق العلائي هو مدبر المملكة كما أوصاه الملك الأشرف وهم الظاهرية البرقوقية والناصرية والمؤيدة والسيفية وطائفة وهم الأشرفية يريدون الاستبداد بأمر ابن أستاذهم كل ذلك من غير مفاوضة في الكلام‏.‏ وبلغ الأمير إينال الأبو بكري المشد ذلك وكان أعقل المماليك الأشرفية وأمثلهم وأعلمهم فأخذ في إصلاح الأمر بين الطائفتين بأن طيب المماليك الأشرفية إلى الحلف على طاعة ابن السلطان والأمير الكبير جقمق العلائي حتى أذعنوا ورضوا‏.‏
فتولى تحليفهم القاضي شرف الدين نائب كاتب السر وحلف الجميع ثم نزل عبد الباسط إلى الأمير الكبير جقمق وحلفه على طاعة السلطان وبعد تحليفه نزل إليه الأمير إينال المشد والأمير علي باي الخازندار وقبل كل منهما يده بمن معهما من أصحابهما فأكرمهم جقمق ووعدهم بكل خير وعادوا إلى القلعة وسكن الناس وبطل الكلام بين الطائفتين‏.‏
فلما كان يوم الأربعاء عاشر ذي الحجة وهو يوم عيد النحر خرج المقام الجمالي يوسف ولي العهد الشريف وصلى صلاة العيد بجامع القلعة وصلى معه الأمير الكبير جقمق العلائي وغالب أمراء الدولة ومشوا في خدمته بعد انقضاء الصلاة والخطبة حتى جلس على باب الستارة وخلع على الأمير الكبير جقمق وعلى من له عادة بلبس الخلع في يوم عيد النحر ثم نزلوا إلى دورهم وقام المقام الجمالي ونحر ضحاياه بالحوش السلطاني‏.‏

موت السلطان الملك الأشرف سيف الدين أبو النصر برسباي الدقماقي الظاهري سنة 825 هـ
هذا وقد حصل للسلطان نوب كثيرة من الصرع حتى خارت قواه ولم يبق إلا أوقات يقضيها واستمر على ذلك والإرجاف يتواتر بموته في كل وقت إلى أن مات قبيل عصر يوم السبت ثالث عشر ذي الحجة من سنة إحدى وأربعين وثمانمائة وسنه يوم مات بضع وستون سنة تخمينًا فارتجت القلعة لموته ساعة ثم سكنوا‏.‏
وفي الحال حضر الخليفة والقضاة الأربعة والأمير الكبير جقمق العلائي وسائر أمراء الدولة وسلطنوا المقام الجمالي يوسف ولقبوه بالملك العزيز يوسف حسبما يأتي ذكره في محله‏.‏ ثم أخذ الأمراء في تجهيز السلطان فجهز وغسل وكفن بحضرة الأمير إينال الأحمدي الفقيه الظاهري برقوق أحد أمراء العشرات بوصية السلطان له وهو الذي أخرج عليه كلفة تجهيزه وخرجته من مال كان الأشرف دفعه إليه في حياته وأوصاه أن يحضر غسله وتكفينه ودفنه‏.‏
ولما انتهى أمر تجهيز الملك الأشرف حمل من الدور السلطانية إلى أن صلي عليه بباب القلعه من قلعة الجبل وتقدم للصلاة عليه قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن حجر لكون الخليفة كان خلع عليه خلعة أطلسين التي خلعها عليه ملك العزيز‏.‏
ثم حمل من المصلى على أعناق الخاصكية والأمراء الأصاغر إلى أن دفن بتربته التي أنشأها بالصحراء خارج القاهرة وحضرت أنا الصلاة عليه ودفنه وكانت جنازته مشهودة بخلاف جنائز الملوك ولم يقع في يوم موته اضطراب ولا حركة ولا فتنة ونزل إلى قبره قبيل المغرب‏.‏
وكان مدة سلطنته بمصر سبع عشرة سنة تنقص أربعة وتسعين يومًا وتسلطن بعده ابنه الملك العزيز يوسف المقدم ذكره بعهد منه إليه‏.‏
أولاد السلطان الملك الأشرف سيف الدين أبو النصر برسباي الدقماقي الظاهري سنة 825 هـ

وخلف الملك الأشرف من الأولاد العزيز يوسف وابنًا آخر رضيعًا أو حملًا وهما في قيد الحياة الى يومنا هذا‏.‏
فأما العزيز فمسجون بثغر الإسكندرية وأما الأخر فاسمه أحمد عند عمه زوج أمه الأمير قرقماس الأشرفي رأس نوبة وهو الذي تولى تربيته ومن أجل المقام الشهابي أحمد هذا كانت الفتنة بين المماليك الأشرفية والمماليك الظاهرية في الباطن لما أراد الظاهرية إخراجه إلى الإسكندرية‏.‏ وأما من مات من أولاد الملك الأشرف فكثير وخلف من الأموال‏.‏
ثروة السلطان الملك الأشرف  وشكله وصفاته
التحف والخيول والجمال والسلاح شيئًا كثيرًا إلى الغاية‏.‏ وكان سلطانًا جليلًا سيوسًا مدبرًا عاقلًا متجملًا في مماليكه وخيوله‏.‏
وكانت صفته أشقر طويلًا نحيفًا رشيقا منور الشيبة بهي الشكل غير سباب ولا فحاش في لفظه حسن الخلق لين الجانب حريصًا على إقامة ناموس الملك يميل إلى الخير يحب سماع تلاوة القرآن العزيز حتى إنه رتب عدة أجواق تقرأ عنده في ليالي المواكب بالقصر السلطاني دوامًا‏.‏
وكان يكرم أرباب الصلاح ويجل مقامهم وكان يكثر من الصوم في الصيف والشتاء فإنه كان يصوم في الغالب يوم الثالث عشر من الشهر والرابع عشر والخامس عشر يديم على ذلك‏.‏ وكان يصوم أيضًا أول يوم في الشهر وآخر يوم فيه مع المواظبة على صيام يومي الاثنين والخميس في الجمعة حتى إنه كان يتوجه في أيام صومه إلى الصيد ويجلس على السماط وهو صائم ويطعم الأمراء والخاصكية بيده ثم يغسل يديه بعد رفع السماط كأنه واكل القوم‏.‏
وكان لا يتعاطى المسكرات ولا يحب من يفعل ذلك من مماليكه وحواشيه وكان يحب الاستكثار من المماليك حتى إنه زادت عدة مماليكه المشتروات على ألفي مملوك لولا ما أفناهم طاعون سنة ثلاث وثلاثين ثم طاعون سنة إحدى وأربعين هذا فمات فيهما من مماليكه خلائق‏.‏
وكان يميل إلى جنس الجراكسة على غيرهم في الباطن ويظهر ذلك منه في بعض الأحيان وكان لا يحب أن يشهر عنه ذلك لئلا تنفر الخواطر منه فإن ذلك مما يعاب به على الملوك وكان مماليكه أشبه الناس بمماليك الملك الظاهر برقوق في كثرتهم وأيضًا في تحصيل فنون الفروسية ولو لم يكن من مماليكه إلا الأمير إينال الأبو بكري الخازندار ثم المشد لكفاه فخرًا لما اشتمل عليه من المحاسن ولم يكن في دورنا من يدانيه فكيف يشابهه‏.‏ انتهى‏.‏
وكانت أيامه في غاية الأمن والرخاء من قلة الفتن وسفر التجاريد هذا مع طول مدته في السلطنة‏.‏
وعمر في أيامه غالب قرى مصر قبليها وبحريها مما كان خرب في دولة الملك الناصر فرج ثم في دولة الملك المؤيد شيخ لكثرة الفتن في أيامهما وترادف الشرور والأسفار إلى البلاد الشامية وغيرها في كل سنة‏.‏
ومع هذا كله كان الملك الأشرف منغص العيش من جهة الأمير جانبك الصوفي من يوم فر من سجنه بثغر الإسكندرية في سابع شعبان سنة ست وعشرين وثمانمائة إلى أن مات جانبك قبل موته في سنة أربعين وثمانمائة حسبما تقدم ذكره‏.‏
وكان الأشرف يتصدى للأحكام بنفسه ويقتدي في غالب أموره بطريق الملك المؤيد شيخ غير أنه كان يعيب على المؤيد سفه لسانه إلا الملك الأشرف فإنه كان لا يسفه على أحد من مماليكه ولا خدمه جملة كافية فكان أعظم ما شتم به أحدًا أن يقول له‏:‏ حمار وكان ذلك في الغالب يكون مزحًا‏.‏ ولقد داومت خدمته من أوائل سلطنته إلى أن مات ما سمعته أفحش في سب واحد بعينه كائن من كان‏.‏ وفي الجملة كانت محاسنه أكثر من مساوئه‏.‏
قلت‏:‏ وما قاله الأشرف في حق العيني هو الصحيح فإن الملك الأشرف كان أميًا صغير السن لما تسلطن بالنسبة لملوك الترك الذين مسهم الرق فإنه تسلطن وسنه يوم ذاك نيف على أربعين سنة وهو غر لم يمارس التجارب ففقهه العيني بقراءة التاريخ وعرفه بأمور كان يعجز عن تدبيرها قبل ذلك منها‏:‏ لما كسرت مراكب الغزاة في غزوة قبرس فإن الأشرف كان عزم على تبطيلها في تلك السنة ويسيرها في القابل حتى كلمه العيني في ذلك وحكى له عدة وقائع صعب أولها وسهل آخرها فلذلك على أنه كان لا يداخله في أمور المملكة البتة بل كان مجلسه لا ينقضي معه إلا في قراءة التاريخ وأيام الناس وما أشبه ذلك ومن يوم ذاك حبب إلي التاريخ وملت إليه واشتغلت به انتهى‏.‏
السنة الأولى من سلطنة الأشرف برسباي وهي سنة خمس وعشرين وثمانمائة على أن الملك الصالح محمد ابن ملك الظاهر ططر حكم منها إلى ثامن شهر ربيع الآخر ثم حكم في باقيها الملك الأشرف هذا‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ السنة الثانية من سلطنة الأشرف برسباي وهي سنة ست وعشرين وثمانمائة‏.‏
وتوفي تاج الدين فضل الله بن الرملي القبطي ناظر الدولة في يوم حادي عشرين صفر بعدما باشر وظيفة نظر الدولة عدة سنين وسئل بالوزارة غير مرة فامتنع واستمر على وظيفته ومات وقد أناف على الثمانين سنة‏.‏ قال المقريزي‏:‏ وكان من ظلمة الأقباط وفساقهم‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ثمانية أذرع وعشرة أصابع‏.‏ مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعًا وثلاثة وعشرون أصبعًا‏.‏
السنة الثانية من سلطنة الأشرف برسباي وهي سنة سبع وعشرين وثمانمائة‏:‏

فيها خرج الأمير تنبك البجاسي عن الطاعة وهو على نيابة دمشق وقاتله سودون من عبد الرحمن وظفر به وقطع رأسه وبعث به إلى الديار المصرية وقد تقدم ذكر ذلك كله في أصل ترجمة الملك الأشرف ويأتي ذكر تنبك البجاسي في وفيات هذه السنة‏.‏
وفيها قبض الملك الأشرف على الأتابك بيبغا المظفري وحبسه بالإسكندرية وقد تقدم أيضًا‏.‏
وتوفي الملك الناصر أحمد ابن الملك الأشرف إسماعيل ابن الملك الأفضل عباس ابن الملك المجاهد علي ابن الملك المؤيد داود ابن الملك المظفر يحيى ابن الملك المنصور عمر بن رسول التركماني الأصل اليمني المولد والمنشأ والوفاة صاحب بلاد اليمن ومدن ممالكه‏:‏ زبيد وتعز وعدن والمهجم وحرض وجبلة والمنصورة والمحالب والجوة والدملوة وقوارير والشحر وغيرهم‏.‏
وكان موته في سادس عشر جمادى الآخرة بصاعقة سقطت عليهم بحصن قوارير خارج مدينة زبيد فارتاع الملك الناصر هذا من ذلك ولزم الفراش أيامًا إلى أن مات‏.‏ وأقيم بعده في ممالك اليمن الملك المنصور عبد الله وكان الناصر هذا من شرار ملوك اليمن‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ستة أذرع وعشرون أصبعًا‏.‏ مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعًا وأربعة عشر أصبعًا‏.‏

السنة الثانية من سلطنة الأشرف برسباي هي سنة ثمان وعشرين وثمانمائة‏:‏

فيها كانت أول غزوات الملك الأشرف التي سيرها في البحر
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم خمسة أذرع وعشرة أصابع‏.‏ مبلغ الزيادة عشرون ذراعًا سواء‏.‏
السنة الخامسة من سلطنة الأشرف برسباي وهي سنة تسمع وعشرين وثمانمائة سنة‏.‏
فيها كان فتح قبرس وأخذ ملكها أسيرًا حسبما تقدم ذكره في أصل ترجمة الأشرف هذا مفصلًا‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم أربعة أذرع وخمسة أصابع‏.‏ مبلغ الزيادة عشرون ذراعًا سواء كالسنة الخالية‏.‏
السنة السادسة من سلطنة الأشرف برسباي وهي سنة ثلاثين وثمانمائة‏.‏
وتوفي الشيخ شهاب الدين أحمد بن يوسف بن محمد بن الزعيفريني الدمشقي الشاعر في ربيع الأول‏.‏ وكان ينظم الشعر ويكتب المنسوب ويتكلم في معرفة علم الحرف وبتكلم أيضًا في المغيبات ومال إليه بسبب ذلك جماعة من الأكابر وأثرى وامتحن في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة وقطع الملك الناصر لسانه وعقدتين من أصابعه ورفق به المشاعلي عند قطع لسانه فلم يمنعه ذلك من الكلام‏.‏ وكان سبب هذه المحنة أنه نظم لجمال الدين الأستادار ملحمة أوهمه أنها ملحمة قديمة وأنه يملك مصر وبلغ ذلك الملك الناصر فرج فأمر به ما ذكرناه‏.‏ ولما قطعت أصابعه صار يكتب بعد موت الملك الناصر بشماله فكتب مرة إلى قاضي القضاة صدر الدين علي بن الآدمي الحنفي يقول‏:‏ الطويل لقد عشت دهرًا في الكتابة مفردا أصور منها أحرفًا تشبه الدرا وقد عاد خطي اليوم أضعف ماترى وهذا الذي يسر الله لليسرى لئن فقدت يمناك حسن كتابة فلا تحتمل همًا ولا تعتقد عسرا وأبشر ببشر دائم ومسرة فقد يسر الله العظيم لك اليسرى وتوفي الأمير الطواشي الرومي شبل الدولة كافور الصرغتمشي زمام دار السلطان وقد قارب الثمانين سنة من العمر في يوم الأحد خامس عشرين شهر ربيع الآخر‏.‏ وأصله من خدام الأمير صرغتمش الأشرفي ثم أخذه الأتابك منكلي بغا الشمسي وأعتقه‏.‏ وترقى إلى أن ولاه الملك الناصر فرج زمام داره فدام على ذلك إلى أن عزل بعد موت الملك المؤيد بمرجان الخازندار الهندي ثم أعيد إليها بعد مدة‏.‏ وهو الذي أنشأ التربة العظيمة بالصحراء وبها خطبة وعمائر هائلة وله مدرسة أخرى أنشأها بخط حارة الديلم من القاهرة‏.‏ وتولى بعده الزمامية الأمير الطواشي خشقدم الظاهري الخازندار‏.‏
أمر النيل في هذه السنة ‏:‏ الماء القديم أربعة أذرع وخمسة أصابع‏.‏ مبلغ الزياذة عشرون ذراعًا سواء‏.‏
السنة السابعة من سلطنة الأشرف برسباي وهي سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة‏.‏
 أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ثلاثة أذرع سواء‏.‏مبلغ الزيادة عشرون ذراعًا سواء‏.‏
السنة الثامنة من سلطنة الأشرف برسباي وهي سنة اثنين وثلاثين وثمانمائة‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم خمسة أذرع وسبعة أصابع‏.‏ مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعًا وستة عشرأصبعًا‏.‏
السنة التاسعة من سلطنة الأشرف برسباي وهي سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة‏.‏
فيها كان الطاعون العظيم الذي لم ندرك بمثله بمصر وقراها بل وبغالب البلاد الشامية حسبما ذكرناه في ترجمة الملك الأشرف هذا في وقته‏.‏
وكان هذا الطاعون أعظم من هذه الطواعين كلها وأفظعها ولم يقع بالقاهرة ومصر بعد الطاعون العام الذي كان سنة تسع وأربعين وسبعمائة نظير هذا الطاعون وخالف هذا الطاعون الطواعين الماضية في أمور كثيرة منها أنه وقع في الشتاء وارتفع في فصل الربيع وكانت الطواعين تقع في فصل الربيع وترتفع في أوائل الصيف وأشياء غير ذلك ذكرناها في محلها‏.‏
أمر النيل في هذه السنة ‏:‏ الماء القديم ستة أذرع وثلاثة أصابع‏.‏ مبلغ الزيادة عشرون ذراعًا ونصف ذراع‏.‏
السنة الثامنة من سلطنة الأشرف برسباي وهي سنة أربع وثلاثين وثمانمائة‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ستة أذرع وثلاثة أصابع‏.‏ مبلغ الزيادة عشرون ذراعًا‏.‏ وكان الوفاء ثامن عشرين أبيب مسرى بيومين وهذا لم يحدث من قبل كعادة فيضان النيل .
السنة الحادية عشرة من سلطنة الأشرف برسباي وهي سنة خمس وثلاثين وثمانمائة‏.‏
وتوفي جينوس بن جاك بن بيدو بن أنطون بن جينوس متملك قبرس وصاحب الواقعة مع المسلمين وقد تقدم ذكر غزوه والظفر به وقدومه إلى مصر في أوائل هذا الجزء مفصلًا ثم ذكر

وتوفي الصاحب علم الدين يحيى المعروف بأبي كم القبطي في ليلة الخميس ثاني عشرين شهر رمضان وقد أناف على السبعين سنة بعد أن ولي الوزارة فى دولة الملك الناصر فرج‏.‏ وكان قد حسن إسلامه وترك معاشرة النصارى وحج وجاور بمكة وصار يكثر من زيارة الصالحين الأحياء والأموات وانسلخ من أبناء جنسه انسلاخًا كليًا بحيث إنه كان لا يجتمع بنصراني إلا عن ضرورة عظيمة وكان دأبه الأفعال الجميلة .‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم لم يظهر فإنها حولت هذه السنة إلى سنة ست وثلاثين وثمانمائة‏.‏
السنة الثانية عشرة من سلطنة الأشرف برسباي وهي سنة ست وثلاثين وثمانمائة‏.‏
فيها كانت سفرة السلطان الملك الأشرف هذا إلى آمد وعاد في أوائل سنة سبع وثلاثين وقد تقدم ذكر ذلك كله‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ستة أذرع وثلاثة أصابع‏.‏ مبلغ الزيادة عشرون ذراعًا وخمسة أصابع‏.‏
السنة الثالثة عشرة من سلطنة الأشرف برسباي وهي سنة سبع وثلاثين وثمانمائة‏.‏
أمر النيل في هذه السنة ‏:‏ الماء القديم ستة أذرع وثلاثة أصابع‏.‏ مبلغ الزيادة‏.‏ سبعة عشر ذراعًا وسبعة عشر إصبعًا‏.‏
السنة الرابعة عشرة من سلطنة الأشرف برسباي وهي سنة ثمان وثلانين وثمانمائة‏.‏
وتوفي الحطي ملك الحبشة الكافر صاحب أمحرة من بلاد الحبشة وممالكه متسعة جدًا بعد أن وقع له مع السلطان سعد الدين صاحب جبرت حروب‏.‏
الماء القديم خمسة أذرع واثنان وعشرون إصبعًا‏.‏ مبلغ الزيادة عشرون ذراعًا وثمانية عشر إصبعًا‏.‏
السنة الخامسة عشرة من سلطنة الأشرف برسباي وهي سنة تسع وثلاثين وثمانمائة‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم أحد عشر ذراعًا وعشرة أصابع‏.‏ مبلغ الزيادة عشرون ذراعًا ونصف ذراع‏.‏

السنة السادسة عشرة من سلطنة الأشرف برسباي

 كانت الواقعة بين الأمير خجا سودون أحد أمراء السلطان وبين الأتابك جانبك الصوفي وانكسر جانبك وأمسك قرمش الأعور الظاهري وكمشبغا أمير عشرة وقتلا حسبما تقدم ذكرهما في ترجمة الملك الأشرف‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ستة أذرع وثمانية عشر أصبعا مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعًا وستة أصابع‏.‏
السنة السابعة عشرة من سلطنة الأشرف برسباي وهي سنة إحدى وأربعين وثمانمائة‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم خمسة أذرع وثلاثة وعشرون إصبعًا‏.‏ مبلغ الزيادة عشرون ذراعًا وخمسة عشر إصبعًا‏.‏
******************************************************************************

 قال المقريزى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار الجزء الثالث ( 041 من 761 ) : " ووجد على هامش بعض النسخ ما صورته‏:‏ وتوفي الأشرف برسباي ثالث عشر ذي الحجة سنة إحدى واربعين وثمانمائة فكانت مدته ست عشرة سنة وتسعة شهور ثم قام من بعده ولده‏:‏ الملك العزيز يوسف وسنه نحو خمس عشرة سنة ثم خلع في تاسع عشر ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة فكانت مدته نحو ثلاثة أشهر‏.‏ 

========================================================================

 This site was last updated 04/02/11