Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - coptic history

بقلم عزت اندراوس

السلطان الملك المؤيد أبو النصر سيف الدين شيخ على مصر 198/ 8 م.ج

هناك فى صفحة خاصة أسمها صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
برقوق بن آنص191/ 1م.ج
حاجى 192/ 2 م.ج
برقوق بن آنص193/ 3م.ج
فرج194/ 4 م.ج
عبد العزيز195/ 5/ م.ج
فرج 196/ 6 م.ج
سلطان وخليفة 197/ 7م.ج
شيخ198/ 8 م.ج
أحمد 199/ 9 م.ج
ططر 200/ 10 م.ج
محمد ططر201/ 11 م.ج
برسباى 202/ 12 م.ج
يوسف203/ 13 م.ح
جقمق204/ 14 م.ج
عثمان 205/ 15 م.ج
إينال 206/ 16 م.ج
أحمد
خشقدم
يلباى
تمبرغا
قايتباى
الغورى

السلطان الخليفة المستعين بالله العباس 198/ 7 م.ج , أى أنه رقم 198 فى ترتيب الولاة أو الحكام أو الخلفاء أو السلاطين الذين حكموا مصر بعد عمرو بن العاص / وترتيبه 8 من طائفة " م . ج = مماليك . برجية  

****************************************************************************************

 الجزء التالى عن المماليك الذين حكموا مصر وهم تحت إستعمار الأسرة العباسية السنية الإسلامية من مرجع - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة - جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي - منذ غزو مصر على يد جيش المسلمين بقيادة عمرو بن العاص ومن تولوا إمارة مصر قبل الإسلام وبعد الإسلام إلى نهاية سنة إحدى وسبعين وثمانمائة

****************************************************************************************

 

 

السلطان الملك المؤيد أبو النصر سيف الدين شيخ على مصر سنة  هـ
 

من هو الملك المؤيد ؟

سلطنة الملك المؤيد شيخ المحمودي السلطان الملك المؤيد أبو النصر سيف الدين شيخ بن عبد الله المحمودي الظاهري وهو أصله من مماليك الملك الظاهر برقوق اشتراه من أستاذه الخواجا محمود شاه البرزي في سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة وبرقوق يوم ذاك أتابك العساكر بالديار المصرية قبل سلطنته بنحو السنتين وكان عمر شيخ المذكور يوم اشتراه الملك الظاهر نحو اثنتي عشرة سنة تخمينًا‏.‏
وجعله برقوق من جملة مماليكه ثم أعتقه بعد سلطنته ورقاه إلى أن جعله خاصكيًا ثم ساقيًا في سلطنته الثانية‏.‏ وغضب عليه الملك الظاهر برقوق غير مرة وضربه ضربًا مبرحًا لانهماكه في السكر وعزره وهو لا يرجع عما هو فيه‏.‏
كل ذلك وهو في رتبته وخصوصيته عند أستاذه إلى أن أنعم عليه الملك الظاهر بإمرة عشرة ثم نقله إلى طبلخاناه ثم خلع عليه باستقراره أمير حاج المحمل في سنة إحدى وثمانمائة فسار بالحج وعاد وقد مات أستاذه الملك الظاهر برقوق فأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية عوضًا عن الأمير بجاس النوروزي بحكم لزوم بجاس داره لكبر سنه‏.‏
ثم استقر بعد وقعة تنم الحسني في سنة اثنتين وثمانمائة في نيابة طرابلس عوضًا عن يونس بلطا بحكم القبض عليه فدام على نيابة طرابلس إلى أن أسر في واقعة تيمور مع من أسر من النواب‏.‏
ثم أطلق وعاد إلى الديار المصرية وأقام بها مدةً ثم أعيد إلى نيابة طرابلس ثانيًا ثم نقل بعد مدة إلى نيابة دمشق‏.‏ ثم وقعت تلك الفتن وثارت الحروب بين الأمراء الظاهرية ثم بينهم وبين ابن أستاذهم الملك الناصر فرج وقد مر ذكر ذلك كله مستوفيًا في ترجمة الملك الناصر وليس لذكره ههنا ثانيًا محل‏.‏
ولازال شيخ المذكور يدبر والأقدار تساعده إلى أن استولى على الملك بعد القبض على الملك الناصر فرج وقتله‏.‏ وقدم إلى الديار المصرية وسكن الحراقة من باب السلسلة وصار الخليفة المستعين بالله في قبضته وتحت أوامره حتى أجمع الناس قاطبةً على سلطنته وأجمعوا على توليته‏.‏ فلما حان يوم الاثنين مستهل شعبان حضر القضاة وأعيان الأمراء وجميع العساكر وطلعوا إلى باب السلسلة‏.‏ وتقدم قاضي القضاة جلال الدين البلقيني وبايعه بالسلطنة‏.‏
ثم قام الأمير شيخ من مجلسه ودخل مبيت الحراقة بباب السلسلة وخرج وعليه خلعة السلطنة السوداء الخليفتي على العادة وركب فرس النوبة بشعار السلطنة والأمراء وأرباب الدولة مشاة بين يديه والقبة والطير على رأسه حتى طلع إلى القلعة ونزل ودخل إلى القصر السلطاني وجلس على تخت الملك وقبلت الأمراء الأرض بين يديه ودقت البشائر‏.‏
ثم نودي بالقاهرة ومصر باسمه وسلطنته‏.‏ وخلع على القضاة والأمراء ومن له عادة في ذلك اليوم‏.‏
وتم أمره إلى يوم الاثنين ثامن شعبان جلس السلطان الملك المؤيد بدار العدل وعمل الموكب على العادة‏.‏ وخلع على الأمير يلبغا الناصري أمير مجلس باستقراره أتابك العساكر بديار مصر عوضًا عن الملك المؤيد شيخ المذكور‏.‏
ثم خلع على الأمير شاهين الأفرم باستمراره أمير سلاح على عادته وعلى الأمير قاني باي المحمدي باستقراره أمير آخور كبيرًا - وكانت شاغرة من يوم أمسك الأمير أرغون من بشبغا - وعلى الأمير طوغان الحسني الدوادار الكبير باستمراره على عادته وعلى الأمير سودون الأشقر رأس نوبة النوب باستمراره على عادته وعلى الأمير إينال الصصلاني حاجب الحجاب باستمراره على وظيفته‏.‏ ثم خلع على القضاة وعلى جميع أرباب الوظائف بأسرها‏.‏
ثم خلع على الأمير طرباي الظاهري بتوجهه إلى البلاد الشامية مبشرًا بسلطنته فتوجه إلى دمشق وقبل وصوله إليها كان بلغ الأمير نوروز الحافظي الخبر وأمسك جقمق الأرغون شاوي الدوادار بعد قدومه من طرابلس إلى دمشق فلما قدم طرباي على نوروز المذكور وعرفه بسلطنة الملك المؤيد أنكر ذلك ولم يقبله ولا تحرك من مجلسه ولامس المرسوم الشريف بيده وأطلق لسانه في حق الملك المؤيد ورد الأمير طرباي إلى الديار المصرية بجواب خشن إلى الغاية خاطب فيه الملك المؤيد كما كان يخاطبه أولًا قبل سلطنته من غير أن يعترف له بالسلطنة‏.‏
وكان حضور طرباي إلى القاهرة عائدًا إليها من دمشق في يوم الثلاثاء أول شهر رمضان من سنة خمس عشرة وثمانمائة وكان الذي قدم صحبة طرباي من عند الأمير نوروز إلى القاهرة الأمير بكتمر السيفي تغري بردي أعني أحد مماليك الوالد وكان من جملة أمراء الطبلخانات بدمشق وكان قبل خروجه من دمشق أوصاه الأمير نوروز أنه لا يقبل الأرض بين يدي الملك المؤيد فلما وصل إلى الديار المصرية وحضر بين يدي السلطان أمره أرباب الدولة بتقبيل الأرض فأبى وقال‏:‏ مرسلي أمرني بعدم تقبيل الأرض فاستشاط الملك المؤيد غضبًا وكاد أن يأمر بضرب رقبته حتى شفع فيه من حضر من الأمراء ثم قبل الأرض‏.‏
ثم في سابع عشر شهر رمضان المذكور أرسل الملك المؤيد الشيخ شرف الدين بن التباني الحنفي رسولًا إلى الأمير نوروز ليترضاه ويكلمه في الطاعة له وعدم المخالفة وسافر ابن التباني إلى جهة الشام‏.‏ ثم في تاسع شوال أمسك السلطان الملك المؤيد شيخ الأمير سودون المحمدي المعروف بتلي أي مجنون وقيده وأرسله إلى سجن الإسكندرية‏.‏
ثم أمسك فتح الله كاتب السر واحتاط على موجوده وصادره فضرب فتح الله المذكور وعوقب أشد عقوبة حتى تقرر عليه خمسون ألف دينار‏.‏ ثم في ثالث عشر شوال استقر القاضي ناصر الدين بن البارزي في كتابه السر الشريف بالديار المصرية عوضًا عن فتح الله المذكور‏.‏

الأمير نوروز بخطط لقتال السلطان الملك المؤيد
هذا والأمير نوروز قد استدعى جميع النواب بالبلاد الشامية فحضر إليه الأمير يشبك بن أزدمر نائب حلب والأمير طوخ نائب طرابلس والأمير قمش نائب حماة وابن دلغادر وتغري بردى ابن أخي دمرداش المدعو سيدي الصغير فخرج الأمير نوروز إلى ملاقاتهم والتقاهم وأكرمهم وعاد بهم إلى دمشق‏.‏ وجمع القضاة والأعيان واستفتاهم في سلطنة الملك المؤيد وحبسه للخليفة وما أشبه ذلك فلم يتكلم أحد بشيء وانفض المجلس بغير طائل‏.‏
وأنعم نوروز على النواب المذكورين في يوم واحد بأربعين ألف دينار ثم رسم لهم بالتوجه إلى محل ولاياتهم إلى أن يبعث يطلبهم‏.‏ وقدم عليه ابن التباني فمنعه من الاجتماع مع الناس واحتفظ به بعد أن كلمه فلم يؤثر فيه الكلام‏.‏
وأخذ الأمير نوروز في تقوية أموره واستعداده لقتال الملك المؤيد شيخ وطلب التركمان وأكثر من استخدام المماليك وما أشبه ذلك‏.‏ وبلغ الملك المؤيد شيخًا ذلك فخلع في ثالث ذي الحجة من السنة على الأمير قرقماس ابن أخي دمرداش المدعو سيدي الكبير باستقراره في نيابة دمشق عوضًا عن الأمير نوروز الحافظي‏.‏
وعند خروجه قدم الخبر بمفارقة أخيه الأمير تغري بردي سيدي الصغير لنوروز وقدومه إلى صفد داخلًا في طاعة الملك المؤيد شيخ وكانت صفد في حكم الملك المؤيد فدقت البشائر بالديار المصرية لذلك‏.‏ وبينما الملك المؤيد في الاستعداد لقتال نوروز ثار عليه مرض المفاصل حتى لزم الفراش منه وأما قرقماس سيدي الكبير فانه وصل إلى غزة وسار منها في تاسع صفر وتوجه إلى صفد واجتمع بأخيه تغري بردي سيدي الصغير وخرج في أثرهما الأمير ألطنبغا العثماني نائب غزة والجميع متوجهون لقتال الأمير نوروز - وقد خرج نوروز إلى جهة حلب - ليأخذوا دمشق في غيبة الأمير نوروز فبلغهم عود نوزوز من حلب إلى دمشق فأقاموا بالرملة‏.‏
ثم قدم على السلطان آقبغا بجواب الأمير دمرداش المحمدي ونواب القلاع بطاعتهم أجمعين للسلطان الملك المؤيد وصحبته أيضًا قاصد الأمير عثمان بن طر علي المعروف بقرايلك فخلع السلطان عليهما وكتب جوابهما بالشكر والثناء‏.‏
ثم في أول شهر ربيع الآخر قبض السلطان على الأمير قصروه من تمراز الظاهري وقيده وأرسله إلى سجن الإسكندرية‏.وشرع الأمير نوروز كلما أرسل إلى الملك المؤيد كتابًا يخاطبه فيه بمولانا ويفتتحه بالإمامي المستعيني فيعظم ذلك على الملك المؤيد إلى الغاية‏.‏
ولما بلغ نوروز قدوم قرقماس بمن معه إلى الرملة سار لحربه وخرج من دمشق بعساكره‏.‏ فلما بلغ قرقماس وأخاه ذلك عادا بمن معهما إلى جهة الديار المصرية عجزًا عن مقاومته حتى نزلا بالصالحية‏.‏

الملك المؤيد يرتب أمور الحكم
وأما الملك المؤيد فإنه لما كان رابع جمادى الأولى أوفى النيل ستة عشر ذراعًا فركب الملك المؤيد في قلعة الجبل ونزل في موكب عظيم حتى عدى النيل وخلق المقياس على العادة وركب الحراقة لفتح خليج السد فأنشده شاعره وأحد ندمائه الشيخ تقي الدين أبو بكر بن حجة الحموي الحنفي يخاطبه‏:‏ أيا ملكًا بالله أضحى مؤيدًا ومنتصبًا في ملكه نصب تمييز كسرت بمسرى نيل مصر وتنقضي - وحقك - بعد الكسر أيام نوروز فحسن ذلك ببال السلطان الملك المؤيد إلى الغاية‏.‏ ثم ركب الملك المؤيد وعاد إلى القلعة‏.‏ وأصبح أمسك الوزير ابن البشيري وناظر الخاص ابن أبي شاكر وخلع على الصاحب تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم باستقراره وزيرًا عوضًا عن ابن البشيري فعاد تاج الدين إلى لبس الكتاب - فإنه كان تزيًا بزي الجند لما استقر أستادارًا بعد مسك جمال الدين في الدولة الناصرية - وتسلم ابن البشيري‏.‏
وخلع السلطان على الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله ناظر الجيش باستقراره في نظر الخاص عوضًا عن ابن أبي شاكر وخلع على علم الدين داود بن الكويز باستقراره ناظر الجيش عوضًا عن ابن نصر الله المذكور‏.‏ ثم خلع السلطان على الأمير سودون الأشقر رأس نوبة النوب باستقراره أمير مجلس - وكانت شاغرة عن الأمير يلبغا الناصري - وخلع على الأمير جاني بك الصوفي باستقراره رأس نوبة النوب عوضًا عن سودون الأشقر‏.‏
وكان جاني بك الصوفي قدم هو والأمير ألطنبغا العثماني نائب غزة وتغري بردي سيدي الصغير وأخوه قرقماس سيدي الكبير المتولي نيابة دمشق فأقام الأخوان - أعني قرقماس وتغري بردي - على قطيا ودخل جاني بك الصوفي وألطنبغا العثماني إلى القاهرة‏.‏ ثم في سادس عشر جمادى الأولى المذكور أشيع بالقاهرة ركوب الأمير طوغان الحسني الدوادار على السلطان ومعه عدة من الأمراء والمماليك السلطانية وكان طوغان قد اتفق مع جماعة على ذلك ولما كان الليل انتظر طوغان أن أحدًا يأتيه ممن اتفق معه فلم يأته أحد حتى قرب الفجر وقد لبس السلاح وألبس مماليكه فعند ذلك قام وتسحب في مملوكين واختفى‏.‏
وأصبح الناس يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الأولى والأسواق مغلقة والناس تترقب وقوع فتنة فنادى السلطان بالأمان وأن من أحضر طوغان المذكور فله ما عليه مع خبز في الحلقة‏.‏ ودام ذلك إلى ليلة الجمعة عشرينه فوجد طوغان بمدينة مصر فأخذ وحمل إلى القلعة وقيد وأرسل إلى الإسكندرية صحبة الأمير طوغان أمير آخور الملك المؤيد‏.‏
ثم أصبح السلطان من الغد أمسك الأمير سودون الأشقر أمير مجلس والأمير كمشبغا العيساوي أمير شكار وأحد مقدمي الألوف وقيدًا وحملًا إلى الإسكندرية صحبة الأمير برسباي الدقماقي أعني الملك الأشرف الأتي ذكره في محله إن شاء الله تعالى‏.‏ ثم بعد يومين وسط السلطان أربعة أحدهم الأمير تغلباي نائب القدس من جهة الأمير نوروز وكان قرقماس سيدي الكبير قد قبض عليه وأرسله مع اثنين أخر إلى السلطان فوسط السلطان الثلاثة وآخر من جهة طوغان الدوادار‏.‏
ثم في يوم الاثنين ثامن عشرينه أنعم السلطان بإقطاع طوغان على الأمير إينال الصصلاني وأنعم بإقطاع سودون الأشقر على الأمير تنبك البجاسي نائب الكرك - كان - ثم خلع على الصصلاني باستقراره أمير مجلس عوضًا عن سودون الأشقر أيضًا وخلع على الأمير قجق أيضًا باستقراره حاجب الحجاب عوضًا عن الصصلاني وخلع على شاهين الأفرم أمير سلاح خلعة الرضى لأنه كان اتهم بممالأة طوغان ثم خلع السلطان على مملوكه الأمير جانبك الدوادار الثاني وأحد أمراء الطبلخانات باستقراره دوادارًا كبيرًا عوضًا عن طوغان الحسني وخلع على الأمير جرباش كباشة باستقراره أمير جاندار‏.‏
ثم في يوم الاثنين سلخ جمادى الأولى خلع السلطان على فخر الدين عبد الغني ابن الوزير تاج الدين عبد الرزاق بن أبي الفرج كاشف الشرقية والغربية باستقراره أستادارًا عوضًا عن بدر الدين بن محب الدين وخلع على بدر الدين المذكور باستقراره مشير الدولة‏.‏ ثم في يوم الأربعاء سادس شهر رجب قدم الأمير جار قطلو أتابك دمشق إلى الديار المصرية وفي ثامن شهر رجب كان مهم الأمير صارم الدين إبراهيم ابن السلطان الملك المؤيد على بنت السلطان الملك الناصر فرج وهي التي كان تزوجها بكتمر جلق في حياة والدها‏.‏
ثم قدم الأمير ألطنبغا القرمشي الظاهري نائب صفد إلى القاهرة في ثامن عشر شهر رجب باستدعاء وقد استقر عوضه في نيابة صفد الأمير قرقماس ابن أخي دمرداش وعزل عن نيابة الشام كونه لم يتمكن من دخول دمشق لأجل الأمير نوروز الحافظي‏.‏ وكان قرقماس المذكور من يوم ولي نيابة دمشق وخرج من القاهرة ليتوجه إلى الشام صار يتردد بين غزة والرملة فلما طال عليه الأمر ولاه الملك المؤيد نيابة صفد واستقر أخوه تغري بردي سيدي الصغير في نيابة غزة عوضًا عن ألطنبغا العثماني وعندما دخل قرقماس إلى صفد قصده الأمير نوروز فأراد قرقماس أن يطلع إلى قلعة صفد مع أخيه تغري بردي فلم يتمكن منها هو ولا أخوه فعاد إلى الرملة‏.‏


ولا زال قرقماس بالرملة إلى أن طال عليه الأمر قصد القاهرة حتى دخلها في يوم ثامن عشر شعبان فأكرمه السلطان وأنعم عليه وأقام أخوه تغري بردي على قطيا‏.‏ وهذا كان دأبهم أنهم الثلاثة لا يجتمعون عند ملك‏:‏ أعني دمرداش وأولاد أخيه قرقماس وتغري بردي فدام قرقماس بديار مصر وهو آمن على نفسه كون عمه الأمير دمرداش المحمدي في البلاد الحلبية‏.‏
وأما أمر دمرداش المذكور فإنه لما أخذ حلب قصده الأمير نوروز في أول صفر وسار من دمشق بعساكره حتى نزل حماة في تاسع صفر‏.‏ فلما بلغ دمرداش ذلك خرج من حلب في حادي عشر صفر ومعه الأمير برد بك أتابك حلب والأمير شاهين الأيدكارى حاجب حجاب حلب والأمير أردبغا الرشيدي والأمير جربغا وغيرهم من عساكر حلب ونزل دمرداش بهم على العمق فحضر إليه الأمير كردي بن كندر وأخوه عمر وأولاده أوزر ودخل الأمير نوزوز إلى حلب في ثالث عشر صفر بعدما تلقاه الأمير آقبغا جركس نائب القلعة بالمفاتيح‏.‏
فولى نوروز الأمير طوخًا نيابة حلب عوضًا عن يشبك بن أزدمر برغبة يشبك عنها لأمر اقتضى ذلك وولى الأمير يشبك الساقي الأعرج نيابة قلعة حلب وولى عمر بن الهيدباني حجوبية حلب وولى الأمير قمش نيابة طرابلس‏.‏
ثم خرج نوروز من حلب في تاسع عشر صفر عائدًا إلى نحو دمشق ومعه الأمير يشبك بن أزدمر فقدم دمشق في سادس عشرين صفر المذكور‏.‏

وبعد خروج نوروز من حلب قصدها الأمير دمرداش المقدم ذكره حتى نزل على بانقوسا في يوم سادس عشرين صفر أيضًا فخرج إليه طوخ بمن معه من أصحاب نوروز وقاتلوه قتالًا شديدًا إلى ليلة ثامن عشرين صفر فقدم عليه الخبر بأن الأمير عجل بن نعير قد أقبل لمحاربته نصرةً للأمير نوروز فلم يثبت دمرداش لعجزه عن مقاومته ورحل بمن معه من ليلته إلى العمق ثم سار إلى أعزاز فأقام بها‏.‏
فلما كان عاشر شهر ربيع الأول بعث طوخ نائب حلب عسكرًا إلى سرمين وبها آق بلاط دوادار دمرداش المذكور فكبسوه فثار عليهم هو وشاهين الأيدكاري ومن معهما من التراكمين وقاتلوهم وأسروا منهم جماعة كثيرة وبعثوا بهم إلى الأمير دمرداش فسجن دمرداش أعيانهم في قلعة بغراص وجاع أناني أكثرهم وأطلقهم عراة وقتل بعضهم‏.‏
فلما بلغ طوخ الخبر ركب من حلب ومعه الأمير قمش نائب طرابلس وسار إلى تل باشر وقد نزل عليه العجل بن نعير فسأله طوخ أن يسير معهما لحرب دمرداش فأنعم بذلك ثم تأخر عنهما قليلًا فبلغهما أنه اتفق مع دمرداش على مسكهما فاستعدا له وترقباه حتى ركب إليهما في نفر قليل ونزل عندهما ودعاهما إلى ضيافته وألح عليهما في ذلك فثارا به ومعهم جماعة من أصحابهما فقتلوه بسيوفهم في رابع عشرين شهر ربيع الأول ودخلا من فورهما عائدين إلى حلب‏.‏
وكتبا بالخبر إلى نوروز وطلبا منه نجدةً فإن حسين بن نعير قد جمع العرب ونزل على دمرداش فسار به دمرداش إلى حلب وحصرها‏.‏ وصعد طوخ وقمش إلى قلعة حلب واشتد القتال بينهم إلى أن انهزم دمرداش وعاد إلى جهة العمق‏.‏
وشاور دمرداش أصحابه فيما يفعل وتحير في أمره بين أن ينتمي إلى نوزوز ويصير معه على رأيه - وكان قد بعث إليه بألف دينار ودعاه إليه - وبين أن يقدم على السلطان الملك المؤيد شيخ فأشار عليه جل أصحابه بالانتماء إلى نوروز إلا آق بلاط دواداره فإنه أشار عليه بالقدوم على السلطان فسأله دمرداش عن ابن أخيه قرقماس وعن تغري بردي فقال‏:‏ قرقماس في صفد وتغري بردي في غزة وكان ذلك بدسيسة دسها الملك المؤيد لآق بلاط المذكور فمال عند ذلك دمرداش إلى كلامه وركب البحر حتى خرج من الطينة وقدم إلى القاهرة في أول شهر رمضان فأكرمه السلطان وخلع عليه‏.‏
ولما قدم دمرداش إلى القاهرة وجد قرقماس بها وتغري بردي بالصالحية فندم على قدومه وقال لابن أخيه قرقماس‏:‏ ما هذه العملة أنت تقول إنك بصفد فألقاك بمصر فقال قرقماس‏:‏ ومن أي شيء تخاف يا عم هذا يمكنه القبض علينا ومثل نوروز يخاصمه‏!‏ إذا أمسكنا بمن يلقي نوروز ويقاتله والله ما أظنك إلا قد كبرت ولم يبق فيك بقية إلا لتعبئة العساكر لا غير فقال له دمرداش‏:‏ سوف تنظر‏.‏
واستمر دمرداش وقرقماس بالقاهرة إلى يوم سابع شهر رمضان المذكور عين السلطان جماعة من الأمراء لكبس عربان الشرقية وهم‏:‏ سودون القاضي وقجقار القردمي وآقبردي المنقار المؤيدي رأس نوبة ويشبك المؤيدي شاد الشراب خاناه وأسر إليهم السلطان في الباطن بالتوجه إلى تغري بردي المدعو سيدي الصغير ابن أخي دمرداش والقبض عليه وحمله مقيدًا إلى القاهرة وكان تغري بردي المذكور نازلًا بالصالحية فساروا في ليلة السبت ثامنه‏.‏
وأصبح السلطان في آخر يوم السبت المذكور استدعى الأمراء للفطر عنده ومد لهم سماطًا عظيمًا فأكلوا معه وتبسطوا‏.‏
فلما رفع السماط قام السلطان من مجلسه إلى داخل وأمر بالقبض على دمرداش المحمدي وعلى ابن أخيه قرقماس وقيدهما وبعثهما من ليلته إلى الإسكندرية فسجنا بها‏.‏ وبعد يوم حضر الأمراء ومعهم تغري بردي سيدي الصغير مقيدًا - وكان الملك يكرهه فإنه لم يزل في أيام عصيانه مباينًا له - فحبسه بالبرج بقلعة الجبل ثم سجد المؤيد شكرًا لله الذي ظفره بهؤلاء الثلاثة الذين كان‏.‏ الملك الناصر فرج عجز عنهم ثم قال‏:‏ الآن بقيت سلطانًا‏.‏
وبقي تغري بردي المذكور مسجونًا بالبرج إلى أن قتل ذبحًا في ليلة عيد الفطر وقطعت رأسه وعلقت على الميدان‏.‏
ثم خلع السلطان على الأمير قاني باي المحمدي الأمير آخور باستقراره في نيابة دمشق عوضًا عن نوروز الحافظي وخلع على الأمير ألطنبغا القرمشي المعزول عن نيابة صفد باستقراره أمير آخور كبيرًا عوضًا عن قاني باي المذكور وخلع على الأمير إينال الصصلاني أمير مجلس باستقراره في نيابة حلب وخلع على الأمير سودون قراصقل باستقراره في نيابة غزة عوضًا عن تغري بردي سيدي الصغير‏.‏
ثم خلع السلطان على قاضي القضاة ناصر الدين بن العديم الحنفي بعوده إلى قضاء القضاة بالديار المصرية بعد موت قاضي القضاة صدر الدين علي بن الأدمي الدمشقي‏.‏ ثم في ثامن شوال خلع السلطان علي بدر الدين بن محب الدين المشير باستقراره في نيابة الإسكندرية بعد عزل خليل التبريزي الدشاري‏.‏

السلطان يخطط لقتال نوروز فى الشام
ثم عدى السلطان - في يوم الخميس ثالث ذي القعدة - إلى بر الجيزة إلى وسيم حيث مربط خيوله وأقام به إلى يوم الاثنين حادي عشرينه‏.‏ وطلع إلى القلعة ونصب جاليش السفر عن الطبلخاناه السلطانية ليتوجه السلطان لقتال نوروز‏.‏
وأخذ السلطان في الاستعداد هو وأمراؤه وعساكره حتى خرج في آخر ذي القعدة الأمير إينال الصصلاني نائب حلب وسودون قراصقل نائب غزة إلى الريدانية خارج القاهرة ثم خرج الأمير قاني باي المحمدي نائب الشام في يوم الخميس سادس عشر ذي الحجة ونزل أيضًا بالريدانية‏.‏
وفي يوم الخميس المذكور خلع المستعين بالله العباس من الخلافة واستقر فيها أخوه المعتضد داود وقد تقدم ذكر ذلك في ترجمة المستعين المذكور‏.‏ ثم شرع السلطان في النفقة على المماليك السلطانية لكل واحد مائة دينار ناصرية‏.‏
ثم رحل قاني باي نائب الشام من الريدانية‏.‏ وفي ثامن عشرينه غضب السلطان على الوزير تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم وضربه وبالغ في إهانته ثم رضي عنه وخلع عليه خلعة الرضى‏.‏ ثم في سابع عشرينه نصب خام السلطان بالريدانية‏.‏
قال المقريزي رحمه الله‏:‏ وفي هذا الشهر قدم الأمير فخر الدين ابن أبي الفرج من بلاد الصعيد في ثالث عشرينه بخيل وجمال وأبقار وأغنام كثيرة جدًا وقد جمع المال من الذهب وحلي النساء مع السلاح والغلال وغير ذلك من العبيد والإماء والحرائر اللاتي استرقهن‏.‏
ثم وهب منهن وباع باقيهن وذلك أنه عمل في بلاد الصعيد كما يعمل رؤوس المناسر إذا هم هجموا ليلًا على القرية وتمكنوا بها فإنه كان ينزل ليلًا بالبلد فينهب جميع مافيها من غلال وحيوان وسلب النساء حليهن وكسوتهن بحيث لا يسير عنها لغيرها حتى يتركها عريانة فخربت - بهذا الفعل - بلاد الصعيد تخريبًا يخشى من سوء عاقبته‏.‏
فلما قدم إلى القاهرة شرع في رمي الأصناف المذكورة على الناس من أهل المدينة وسكان الريف وذلك بأغلى الأثمان ويحتاج من ابتلي بشيء من ذلك أن يتكلف لأعوانه من الرسل ونحوهم شيئًا كثيرًا سوى ما عليه من ثمن ما رمي عليه - انتهى كلام المقريزي‏.‏
ثم إن السلطان الملك المؤيد لما كان يوم الاثنين رابع محرم سنة سبع عشرة وثمانمائة ركب من قلعة الجبل بأمرائه وعساكره بعد طلوع الفجر وسار حتى نزل بمخيمه من الريدانية خارج القاهرة من غير تطليب‏.‏
ثم خرجت الأطلاب والعساكر في أثناء النهار بعد أن خلع على الأمير ألطنبغا العثماني بنيابة الغيبة وأنزله بباب السلسلة وجعل بقلعة الجبل برد بك قصقًا وجعل بباب الستارة من قلعة الجبل صوماي الحسني وجعل الحكم بين الناس للأمير قجق الشعباني حاجب الحجاب‏.‏ ثم رحل الأمير يلبغا الناصري أتابك العساكر جاليشًا بمن معه من الأمراء في يوم الجمعة ثامنه‏.‏
ثم استقل السلطان ببقية عساكره من الريدانية في يوم السبت تاسعه وسار حتى نزل بغزة في يوم الثلاثاء تاسع عشر المحرم وأقام بها أيامًا إلى أن رحل منها في تاسع عشرينه‏.‏ وسار على هينته حتى نزل على قبة يلبغا خارج دمشق في يوم الأحد ثامن صفر من سنة سبع عشرة المذكورة‏.‏ ولم يخرج نوروز لقتاله فحمد الله - المؤيد - على ذلك وعلم ضعف أمره فإنه لو كان فيه قوة كان التقاه من أثناء طريقه‏.‏
وكان سير الملك المؤيد على هينته حتى يبلغ نوروز خبره ويطلع إليه فيلقاه في الفلا فلما تأخر نوروز عن الطلوع اطمأن الملك المؤيد لذلك وقوي بأسه‏.‏ غير أن نوروز حصن مدينة دمشق وقلعتها وتهيأ لقتاله فأقام السلطان بقية يلبغا أيامًا ثم رحل منها ونزل بطرف القبيبات‏.‏ وكان السلطان في طول طريقه إلى دمشق يطلب موقعي أكابر أمرائه خفية ويأمرهم أن يكتبوا على لسان مخاديمهم إلى نوروز أننا بأجمعنا معك وغرضنا كله عندك ويكثر واحدهم من الوقيعة في الملك المؤيد ثم يقول في الكتاب‏:‏ وإنك لا تخرج من دمشق وأقم مكانك فإننا جميعًا نفر من المؤيد ونأتيك ثم يضع من نفسه ويرفع أمر نوروز ويعد محاسنه ويذكر مساويء نفسه فمشى ذلك على نوروز وانخدع له مع ما كان حسن له أيضًا بعض أصحابه في عدم الخروج والقتال أرادوا بذلك ضجر الملك المؤيد وعوده إلى الديار المصرية بغير طائل حتى يستفحل أمرهم بعوده فكان مراد الله غير ما أرادوا‏.‏
ثم أرسل السلطان الملك المؤيد قاضي القضاة مجد الدين سالم الحنبلي إلى الأمير نوروز في طلب الصلح فامتنع نوروز من ذلك وأبى إلا الحرب والقتال وكان ذلك أيضًا خديعة من الملك المؤيد‏.‏ وعندما نزل الملك المؤيد بطرف القبيبات خرج إليه عساكر نوروز فندب إليهم السلطان جماعة كبيرة من عسكره فخرجوا إليهم وقاتلوهم قتالًا شديدًا فانكسر عسكر نوروز وعاد إلى دمشق‏.‏ فركب نوروز في الحال وطلع إلى قلعة دمشق وامتنع بها‏.‏ فركب الملك المؤيد في سادس عشرينه ونزل بالميدان يحاصر قلعة دمشق‏.‏

القتال بين نوروز وسلطان مصر الملك المؤيد
ولما قيل للمؤيد إن نوروز طلع إلى قلعة دمشق لم يحمل الناقل له على الصدق وأرسل من يثق به فعاد عليه الخبر بطلوعه إليها‏.‏ فعند ذلك تعجب غاية العجب فسأله بعض خواصه عن ذلك فقال‏:‏ ماكنت أظن أن نوروز يطلع القلعة وينحصر فيها أبدًا لما سمعته منه لما دخل الملك الناصر إلى قلعة دمشق وهو أنه لما بلغنا أن الناصر دخل إلى قلعة دمشق قال نوروز‏:‏ ظفرنا به وعزة الله‏!‏ فقلت‏:‏ وكيف ذلك فقال‏:‏ الشخص لا يدخل القلعة ويمتنع بها إلا إذا كان خلفه نجدة أو أخصامه لا يمكنهم محاصرته إلا مدةً يسيرة ثم يرحلون عنه وهذا ليس له نجدة ونحن لو أقمنا على حصاره سنين لا نذهب إلا به فهو مأخوذ لا محالة‏.‏
فبقي هذا الكلام في ذهني وتحققت أنه متى حصل له خلل توجه إلى بلاد التركمان‏.‏ ويتعبني أمره لعلمي به أنه لا يدخل إلى القلعة - بعد ما سمعت منه ذلك - أبدًا فأنساه الله ما قاله في حق الناصر وحسن بباله الامتناع بالقلعة حتى طلعها فلهذا تعجبت‏.‏
وأخذ المؤيد في محاصرته واستدام الحرب بينهم أيامًا كثيرة في كل يوم حتى قتل من الطائفتين خلائق‏.‏ فلما طال الأمر في القتال أخذ أمر الأمير نوروز في إدبار وصار أمر الملك المؤيد في استظهار‏.‏ فلما وقع ذلك وطال القتال على النوروزية سئموا من القتال وشرعوا يسمعون نوروز الكلام الخشن‏.‏ وهدمت المؤيدية طارمة دمشق‏.‏ كل ذلك والقتال عمال في كل يوم ليلًا ونهارًا والرمي مستدام من القلعة بالمناجيق ومكاحل النفط‏.‏
وطال الأمر على الأمير نوروز حتى أرسل الأمير قمش إلى الملك المؤيد في طلب الصلح وترددت الرسل بينهم غير مرة حتى انبرم الصلح بينهم بعد أن حلف الملك المؤيد لنوروز بالأيمان المغلظة‏.‏ وكان الذي تولى تحليف الملك المؤيد كاتب سره القاضي ناصر الدين محمد بن البارزي‏.‏
حكى لي القاضي كمال الدين ابن القاضي ناصر الدين محمد بن البارزي كاتب السر الشريف من لفظه - رحمه الله - قال‏:‏ قال لي الوالد‏:‏ أخذت في تحليف الملك المؤيد بحضرة رسل الأمير نوروز والقضاة قد حضروا أيضًا فشرعت ألحن في اليمين عامدًا في عدة كلمات حتى خرج معنى اليمين عن مقصود نوروز فالتفت القاضي ناصر الدين محمد بن العديم الحنفي - وكان فيه خفة - وقال للقاضي الشافعي‏:‏ كأن القاضي ناصر الدين بن البارزي ليس له ممارسة بالعربية والنحو فإنه يلحن لحنًا فاحشًا فسكته البلقيني لوقته‏.‏

سلطان مصر المؤيد يقتل الأمير نوروز بعد صلح بينهما
قلت‏:‏ وكان هذا اليمين بحضرة جماعة من فقهاء الترك من أصحاب نوروز فلم يفطن أحد منهم لذلك لعدم ممارستهم لهذه العلوم وإنما جل مقصود الواحد منهم أن يقرأ مقدمةً في الفقه ويحلها على شيخ من الفقهاء أهل الفروع فعند ذلك يقول‏:‏ أنا صرت فقيهًا‏!‏ وليته يسكت بعد ذلك ولكنه يعيب أيضًا على ما عدا الفقه من العلوم فهذا هو الجهل بعينه - انتهى‏.‏
ثم عادت رسل نوروز إليه بصورة الحلف فقرأه عليه بعض من عنده من الفقهاء من تلك المقولة وعرفه أن هذا اليمين ما بعده شيء فاطمأن لذلك‏.‏ ونزل من قلعة دمشق بمن معه من الأمراء والأعيان في يوم حادي عشرين ربيع الآخر بعد ما قاتل الملك المؤيد نحوًا من خمسة وعشرين يومًا أو أزيد ومشى حتى دخل على الملك المؤيد‏.‏
فلما رآه الملك المؤيد قام له فعند ذلك قبل نوروز الأرض وأراد أن يقبل يده فمنعه الملك المؤيد من ذلك‏.‏ وقعد الأمير نوروز بإزائه وتحته أصحابه من الأمراء وهم‏:‏ الأمير يشبك بن أزدمر وطوخ وقمش وبرسبغا وإينال الرجبي وغيرهم والمجلس مشحون بالأمراء والقضاة والعساكر السلطانية‏.‏
فقال القضاة‏:‏ والله هذا يوم مبارك بالصلح وبحقن الدماء بين المسلمين فقال القاضي ناصر الدين بن البارزي كاتب السر‏:‏ نهار مبارك لو تم ذلك فقال الملك المؤيد‏:‏ ولم لا يتم وقد حلفنا له وحلف لنا فقال القاضي ناصر الدين للقضاة‏:‏ يا قضاة هل صح يمين السلطان فقال قاضي القضاة جلال الدين البلقيني‏:‏ لا والله لم يصادف غرض المحلف‏.‏
فعند ذلك أمر الملك المؤيد بالقبض على الأمير نوروز ورفقته فقبض في الحال على الجميع وقيدوا وسجنوا بمكان من الإسطبل إلى أن قتل الأمير نوروز من ليلته وحملت رأسه إلى الديار المصرية على يد الأمير جرباش فوصلت القاهرة في يوم الخميس مستهل جمادى الأولى وعلقت على باب زويلة ودقت البشائر وزينت القاهرة لذلك‏.‏
ثم أخذ الملك المؤيد في إصلاح أمر مدينة دمشق ومهد أحوالها‏.‏ ثم خرج منها في ثامن جمادى الأولى يريد حلب حتى قدمها بعساكره وأقام بها إلى آخر الشهر المذكور‏.‏ ثم سار منها في أول جمادى الأخرة إلى أبلستين ودخل إلى ملطية واستناب بها الأمير كزل‏.‏ ثم عاد إلى حلب وخلع على نائبها الأمير إينال الصصلاني باستمراره‏.‏ ثم خلع على الأمير تنبك البجاسي باستقراره في نيابة حماة وعلى الأمير سودون من عبد الرحمن باستقراره في نيابة طرابلس وعلى الأمير جانبك الحمزاوي بنيابة قلعة الروم بعد ما قتل نائبها الأمير طوغان‏.‏

ثم خرج السلطان من حلب وعاد إلى دمشق فقدمها في ثالث شهر رجب وخلع على نائبها الأمير قاني باي المحمدي باستمراره‏.‏ ثم خرج السلطان من دمشق بأمرائه وعساكره في أول شعبان بعد ما مهد أمور البلاد الشامية ووطن التركمان والعربان وخلع عليهم وسار حتى دخل القدس في ثاني عشر شعبان فزاره‏.‏ ثم خرج منه وتوجه إلى غزة حتى قدمها وخلع على الأمير طرباي الطاهري بنيابة غزة‏.‏
ثم خرج منها عائدًا إلى الديار المصرية حتى نزل على خانقاه سرياقوس يوم الخميس رابع عشرين شعبان فأقام هناك بقية الشهر وعمل بها أوقاتًا طيبة وأنعم فيها على الفقهاء والصوفية بمال جزيل وكان يحضر السماع بنفسه وتقوم الصوفية تتراقص وتتواجد بين يديه والقوال يقول وهو يسمعه ويكرر منه ما يعجبه من الأشعار الرقيقة‏.‏
ودخل حمام الخانقاه المذكورة غير مرة‏.‏ وخرج الناس لتلقيه إلى خانقاه سرياقوس المذكورة حتى صار طريقها في تلك الأيام كالشارع الأعظم لممر الناس فيه ليلًا ونهارًا‏.‏ ودام السلطان هناك إلى يوم سلخ شعبان‏:‏ ركب من الخانقاه بخواصه وسار حتى نزل بالريدانية تجاه مسجد التبن وبات حتى أصبح في يوم الخميس أول شهر رمضان‏:‏ ركب وسار إلى القلعة حتى طلع إليها فكان لقدومه القاهرة يوم مشهود ودقت البشائر لوصوله‏.‏
وعندما استقر به الجلوس انتقض عليه ألم رجليه من ضربان المفاصل ولزم الفراش وانقطع بداخل الدور السلطانية من القلعة‏.‏ ثم أخرج السلطان في ثامن شهر رمضان الأمير جرباش كباشة بطالًا إلى القدس الشريف ورسم أيضًا بإخراج الأمير أرغون من بشبغا أمير آخور - كان - في الدولة الناصرية إلى القدس بطالًا‏.‏
ثم خلع السلطان على الأمير ألطنبغا العثماني باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية بعد موت الأمير يلبغا الناصري‏.‏
ثم نصل السلطان من مرضه وركب من قلعة الجبل يوم عاشر شهر رمضان وشق القاهرة ثم عاد إلى القلعة ورسم بهدم الزينة - وكان ركوبه لرؤيتها - فهدمت‏.‏ ثم في ثاني عشره أمسك الأمير قجق الشعباني حاجب الحجاب والأمير بيبغا المظفري والأمير تمان تمر أرق وقيدوا وحملوا إلى ثغر الإسكندرية فحبسوا بها والثلاثة جنسهم تتر وسفرهم الأمير صوماي الحسني‏.‏
وبعد أن توجه بهم صوماي المذكور إلى الإسكندرية كتب باستقراره في نيابتها وعزل بدر الدين بن محب الدين عنها‏.‏
خلع السلطان على سودون القاضي باستقراره حاجب الحجاب بديار مصر عوضًا عن قجق الشعباني وعلى الأمير قجقار القردمي باستقراره أمير مجلس عوضًا عن بيبغا المظفري وعلى الأمير جاني بك الصوفي رأس نوبة النوب استقراره أمير سلاح بعد موت شاهين الأفرم وخلع على الأمير كزل العجمي حاجب الحجاب - كان - في دولة الملك الناصر باستقراره أمير جاندار عوضًا عن الأمير جرباش كباشة ثم خلع على الأمير تنبك العلائي الظاهري المعروف بميق استقراره رأس نوبة النوب عوضًا عن جانبك الصوفي وخلع على الأمير آقباي المؤيدي الخازندار باستقراره دوادارًا كبيرًا بعد موت الأمير جانبك المؤيدي‏.‏
ثم أعيد ابن محب الدين المعزول عن نيابة الإسكندرية إلى وظيفة الأستادارية في يوم الاثنين سادس عشرين شهر رمضان بعد فرار فخر الدين عبد الغني بن أبي الفرج إلى بغداد‏.‏ وخبر فخر الدين المذكور أنه لما خرج من الديار المصرية إلى البلاد الشامية صحبة السلطان ووصل إلى حماة داخله الخوف من السلطان فهرب في أوائل شهر رجب إلى جهة بغداد فسد ناظر ديوان المفرد تقي الدين عبد الوهاب بن أبي شاكر الأستادارية في هذه المدة إلى أن ولي ابن وفي شهر رمضان المذكور أفرج السلطان عن الأمير كمشبغا العيساوي من سجن الإسكندرية وقدم القاهرة ونقل الأمير سودون الأسندمري والأمير قصروه من تمراز والأمير شاهين الزردكاش والأمير كمشبغا الفيسي إلى ثغر دمياط‏.‏
وفي أواخر ذي الحجة قدم مبشر الحاج وأخبر بأن الأمير جقمق الأرغون شاوي الدوادار الثاني أمير الحاج وقع بينه وبين أشراف مكة وقعة في خامس ذي الحجة‏.‏ وخبر ذلك أن جقمق المذكور ضرب أحد عبيد مكة وحبسه لكونه يحمل السلاح في الحرم الشريف وكان قد منع من ذلك فثارت بسبب ذلك فتنة انتهك فيها حرمة المسجد الحرام ودخلت الخيل إليه عليها المقاتلة من قواد مكة لحرب الأمير جقمق وأدخل جقمق أيضًا خيله إلى المسجد الحرام فباتت به تروث وأوقد مشاعله بالحرم وأمر بتسمير أبواب الحرم فسمرت كلها إلا ثلاثة أبواب ليمتنع من يأتيه‏.‏
فمشت الناس بينهم في الصلح وأطلق جقمق المضروب فسكتت الفتنة من الغد بعدما قتل جماعة ولم يحج أكثر أهل مكة في هذه السنة من الخوف‏.‏
ثم قدم الخبر أيضًا على الملك المؤيد في هذا الشهر بأن الأمير يغمور بن بهادر الدكري من أمراء التركمان مات هو وولده في يوم واحد بالطاعون في أول ذي القعدة وأن قرا يوسف بن قرا محمد صاحب العراق انعقد بينه وبين القان شاه رخ بن تيمورلنك صلح وتصاهرا فشق ذلك وفي أثناء ذلك قدم عليه الخبر بأن الأمير محمد بن عثمان صاحب الروم كانت بينه وبين محمد بك بن قرمان وقعة عظيمة انهزم فيها ابن قرمان ونجا بنفسه‏.‏
كل ذلك والسلطان في سرحة البحيرة بتروجة إلى أن قدم إلى الديار المصرية في يوم الخميس ثاني المحرم من سنة ثماني عشره وثمانمائة بعدما قرر على من قابله من مشايخ البحيرة أربعين ألف دينار وكانت مدة غيبة السلطان بالبحيرة ستين يومًا‏.‏ ثم في عاشر المحرم أفرج السلطان عن الأمير بيبغا المظفري أمير مجلس وتمان تمر أرق اليوسفي من سجن الإسكندرية‏.‏ ثم قد كتاب فخر الدين بن أبي الفرج من بغداد أنه مقيم من بالمدرسة المستنصرية وسأل العفو عنه فأجيب إلى ذلك وكتب له أمان‏.‏
ثم أمر السلطان بقتل الأمراء الذين بسجن الإسكندرية فقتلوا بأجمعهم في يوم السبت عشر المحرم وهم‏:‏ الأتابك دمرداش المحمدي بعد أن قتل ابن أخيه قرقماس بمدة والأمير طوغان الحسني الدوادار والأمير سودون تلي المحمدي والأمير أسنبغا الزردكاش والجميع معدودون من الملوك وأقيم عزاؤهم بالقاهرة يوم خامس عشرينه فكان ذلك اليوم من الأيام المهولة من مرور الجواري المسبيات الحاسرات بشوارع القاهرة ومعهم الملاهي والدفوف‏.‏
ثم في ثامن صفر ركب السلطان من قلعة الجبل وسار إلى نحو منية مطر المعروفة الآن بالمطرية خارج القاهرة وعاد إلى القاهرة من باب النصر ونزل بالمدرسة الناصرية المعروفة الآن بالجمالية برحبة باب العيد ثم ركب منها وعبر إلى بيت الأستادار بدر الدين بن محب الدين فأكل عنده السماط ومضى إلى قلعة الجبل‏.‏ وفي ثامن عشر صفر خلع على القاضي علاء الدين علي بن محمود بن أبي بكر بن مغلي الحنبلي الحموي باستقراره قاضي قضاة الحنابلة بالديار المصرية بعد عزل قاضي القضاة مجد الدين سالم‏.‏
وفي يوم السبت عاشر صفر المذكور ابتدأ السلطان بعمل السد بين الجامع الجديد الناصري وبين جزيرة الروضة وندب لحفره الأمير كزل العجمي الأجرود أمير جاندار فنزل كزل المذكور وعلق مائةً وخمسين رأسًا من البقر لتجرف الرمال وعملت أيامًا‏.‏ ثم ندب السلطان الأمير سودون القاضي حاجب الحجاب لهذا العمل فنزل هو أيضًا واهتم غاية الاهتمام ودام العمل بقية صفر وشهر ربيع الأول‏.‏
وفيه أمر السلطان بمسك شاهين الأيد كاري حاجب حلب فأمسك وسجن بقلعة حلب‏.‏ وفيه خلع السلطان على الأمير طوغان أمير آخور الملك المؤيد أيام إمرته باستقراره في نيابة وفيه قدم كتاب الأمير إينال الصصلاني نائب حلب يخبر أن أحمد بن رمضان أخذ مدينة طرطوس عنوة في ثالث عشر المحرم من هذه السنة بعد أن حاصرها سبعة أشهر وأنه سلمها إلى ابنه إبراهيم بعد ما نهبها وسبى أهلها‏.‏
وقد كانت طرسوس من نحو اثنتي عشرة سنة يخطب بها لتيمور فأعاد ابن رمضان الخطبة بها باسم السلطان‏.‏ وأما الحفير فإنه مستمر وسودون القاضي يستحث‏ العمال فيه إلى أن كان أول شهر ربيع الآخر فركب السلطان الملك المؤيد من قلعة الجبل في أمرائه وسائر خواصه وسار إلى حيث العمل فنزل هناك في خيمة نصبت له بين الروضة ومصر‏.‏ ونودي بخروج الناس للعمل في الحفير المذكور وكتبت حوانيت الأسواق فخرج الناس طوائف طوائف مع كل طائفة الطبول والزمور وأقبلوا إلى العمل ونقلوا التراب والرمل من غير أن يكلف أحد منهم فوق طاقته‏.‏
ثم رسم السلطان لجميع العساكر من الأمراء والخاصكية ولجميع أرباب الدولة وأتباعهم فعملوا‏.‏ ثم ركب السلطان بعد عصر اليوم المذكور ووقف حتى فرض على كل من الأمراء حفر قطعة عينها له ثم عاد إلى القلعة بعد أن مد هناك أسمطة جليلة وحلوات وفواكه كثيرة‏.‏
واستمر العمل والنداء في كل يوم لأهل الأسواق وغيرهم للعمل في الحفر‏.‏ ثم ركب الأمير ألطنبغا القرمشي الأمير آخور الكبير ومعه جميع مماليكه وعامة أهل الإسطبل السلطاني وصوفية المدرسة الظاهرية البرقوقية وأرباب وظائفها لكونهم تحت نظره ومضوا بأجمعهم إلى العمل في الحفر المذكور فعملوا فيه وقد اجتمع هناك خلائق لا تحصى للفرجة من الرجال والنساء والصبيان‏.‏
وتولى ألطنبغا القرمشي القيام بما فرض عليه حفره بنفسه فدام في العمل طول نهاره‏.‏ ثم في عاشره جمع الأمير الكبير ألطنبغا العثماني جميع مماليكه ومن يلوذ به وألزم كل من هو ساكن في البيوت والدكاكين الجارية في وقف البيمارستان المنصوري بأن يخرجوا معه - من أنهم تحت نظره - وأخرج معه أيضًا جميع أرباب وظائف البيمارستان المذكور ثم أخرج سكان جزيرة الفيل - فإنها في وقف البيمارستان - وتوجه بهم الجميع إلى العمل في الحفير وعمل نهاره فيما فرض عليه حفره‏.‏ ثم وقع ذلك لجميع الأمراء واحدًا بعد واحد وتتابعوا في العمل وكل أمير يأخذ معه جميع جيرانه ومن يقرب سكنه من داره فلم يبق أحد من العوام إلا وخرج لهذا العمل‏.‏ ثم خرج علم الدين داود بن الكويز ناظر الجيش والصاحب بحر الدين حسن بن نصر الله ناظر الخاص وبدر الدين حسن بن محب الدين الأستادار ومع كل منهم طائفة من أهل القاهرة وجميع غلمانه وأتباعه ومن يلوذ به وينتسب إليه‏.‏ ثم أخرج والي القاهرة جميع اليهود والنصارى‏.‏ وكثر النداء في كل يوم بالقاهرة على أصناف الناس بخروجهم للعمل‏.‏
ثم خرج القاضي ناصر الدين محمد بن البارزي كاتب السر الشريف ومعه جميع مماليكه وحواشيه وغلمانه وأخرج معه البريدية والموقعين بأتباعهم فعملوا نهارهم‏.‏ هذا والمنادي ينادي في كل يوم على العامة بالعمل فخرجوا وخلت أسواق القاهرة وظواهرها من الباعة وغلقت القياسر والمنادي ينادي في كل يوم بالتهديد لمن تأخر عن الحفر حتى إنه نودي في بعض الأيام‏:‏ من فتح دكانًا شنق فتوقفت أحوال الناس‏.‏
وفي هذه الأيام خلع السلطان على الأمير بيبغا المظفري باستقراره أتابك دمشق وخلع على جرباش كباشة باستقراره حاجب حجاب حلب وكلاهما كان قدم من سجن الإسكندرية قبل تاريخه‏.‏ وفيه أيضًا نقل الأمير طوغان أمير آخور المؤيد من نيابة صفد إلى حجوبية دمشق عوضًا عن الأمير خليل التبريزي الدشاري ونقل خليل المذكور إلى نيابة صفد عوضًا عن طوغان المذكور وحمل له التقليد والتشريف الأمير إينال الشيخي الأرغزي‏.‏
واستهل جمادى الأولى والناس في جهد وبلاء من العمل في الحفر حتى إن المقام الصارمي إبراهيم ابن السلطان الملك المؤيد نزل من القلعة في يوم سابعه ومعه جميع مماليكه وحواشيه وأتباعه وتوجه حتى عمل في الحفر بنفسه وصنفت العامة في هذا الحفير غناء كثيرًا وعدق وبينما الناس في العمل أدركتهم زيادة النيل‏.‏
وكان هذا الحفير وعمل الجسم ليمنع الماء من المرور تحت الجزيرة الوسطى ويجري من تحت المنشية من على موردة الجبس بحري جزيرة الوسطى كما كان قديمًا في الزمان الماضي فأبى الله سبحانه وتعالى إلا ما أراده على ما سنذكره في محله‏.‏
ثم في اليوم المذكور أعنى سابع جمادى الأولى خلع السلطان على الأمير الكبير ألطنبغا العثماني باستقراره في نيابة دمشق عوضًا عن قاني باي المحمدي - وكان بلغ السلطان عن جميع النواب بالبلاد الشامية أنهم في عزم الخروج عن الطاعة فلم يظهر لذلك أثر - وأرسل الأمير جلبان أمير آخور بطلب قاني باي المذكور من دمشق ليستقر أتابكًا بالديار المصرية عوضًا عن ألطنبغا العثماني وانتظر السلطان ما يأتي به الجواب‏.‏
ثم خلع السلطان على الأمير آقبردي المؤيدي المنقار باستقراره في نيابة الإسكندرية عوضًا عن صوماي الحسني‏.‏ ثم في جمادى الآخرة من هذه السنة حفر أساس الجامع المؤيدي داخل باب زويلة‏.‏
وكان أصل موضع الجامع المذكور - أعني موضع باب الجامع والشبابيك وموضع المحراب - قيسارية الأمير سنقر الأشقر المقدم ذكره في ترجمة الملك المنصور قلاوون وكانت مقابلة لقيسارية الفاضل وحمامه فاستبدلها الملك المؤيد وأخذ ثم أخذ خزانة شمائل ودورًا وحارات وقاعات‏.‏ كثيرة تخرج عن الحد حتى أضر ذلك بحال جماعة كثيرة وشرع في هدم الجميع من شهر ربيع الأول إلى يوم تاريخه حتى رمي الأساس وشرعوا في بنائها‏.‏
وتهيأ الأمير ألطنبغا العثماني حتى خرج من القاهرة قاصدًا محل كفالته بدمشق في سادس جمادى الآخرة ونزل بالريدانية خارج القاهرة فقدم الخبر على السلطان بخروج قاني باي نائب الشام عن الطاعة وأنه سوف برسول السلطان من يوم إلى يوم إلى أن تهيأ وركب وقاتل أمراء دمشق وهزمهم إلى صفد وملك دمشق - حسبما نذكره بعد ذكر عصيان النواب - فعظم ذلك على الملك المؤيد‏.‏
ثم في أثناء ذلك ورد الخبر بخروج الأمير طرباي نائب غزة عن الطاعة وتوجهه إلى الأمير قاني باي المحمدي نائب دمشق فعند ذلك ندب السلطان الأمير يشبك المؤيدي المشد ومعه مائة مملوك من المماليك السلطانية وبعثه نجدة للأمير ألطنبغا العثماني‏.‏ ثم ورد الخبر ثالثًا بعصيان الأمير تنبك البجاسي نائب حماة وموافقته لقاني باي المذكور وكذلك الأمير إينال الصصلاني نائب حلب ومعه جماعة من أعيان أمراء حلب‏.‏
ثم ورد الخبر أيضًا بعصيان الأمير سودون من عبد الرحمن نائب طرابلس والأمير جانبك الحمزاوي نائب قلعة الروم‏.‏ ولما بلغ الملك المؤيد هذا الخبر وأما أمر الحفر والجسر الذي عمل فإنه لما قويت زيادة النيل وتراكمت عليه الأمواج خرق منه جانبًا ثم أتى على جميعه وأخذه كأنه لم يكن وراح تعب الناس وما فعلوه من غير طائل‏.‏
وأما ما وعدنا بذكره من أمر قاني باي المحمدي نائب دمشق‏:‏ فإنه لما توجه إليه الأمير جلبان أمير آخور بطلبه أظهر الامتثال وأخذ ينقل حريمه إلى بيت أستاداره غرس الدين خليل ثم طلع بنفسه إلى البيت المذكور وهو بطرف القبيبات على أنه متوجه إلى مصر‏.‏ فلما كان في سادس جمادى الآخرة ركب الأمير بيبغا المظفري أتابك دمشق وناصر الدين محمد بن إبراهيم بن منجك وجلبان الأمير آخور المقدم ذكره وأرغون شاه ويشبك الأيتمشي في جماعة أخر من أمراء دمشق يسيرون بسوق خيل دمشق فبلغهم أن يلبغا كماج كاشف القبلية حضر في عسكر إلى قريب داريا وأن خلفه من جماعته طائفة كبيرة وأن قاني باي خرج إليه وتحالفا على العصيان ثم عاد قاني باي إلى بيت غرس الدين المذكور‏.‏
فاستعد مذكورون ولبسوا آلة الحرب ونادوا لأجناد دمشق وأمرائها بالحضور وزحفوا إلى نحو - قاني باي‏.‏ فخرج إليهم قاني باي بمماليكه وبمن انضم معه من أصاغر الأمراء وقاتلهم من بكرة النهار إلى العصر حتى هزمهم ومروا على وجوههم إلى جهة صفد‏.‏
ودخل قاني باي وملك مدينة دمشق ونزل بدار العدل من باب جابية ورمى على القلعة بالمدافع وأحرق جملون دار السعادة فرماه أيضًا من القلعة بالمناجيق والمدافع فانتقل إلى خان السلطان وبات بمخيمه وهو يحاصر القلعة‏.‏ ثم أتاه النواب المقدم ذكرهم فنزل تنبك البجاسي نائب حماة على باب الفرج ونزل طرباي نائب غزة على باب آخر ونزل على باب جديد تنبك دوادار قاني باي وداموا على ذلك مدة وهم يستعدون‏.‏
وقد ترك قاني باي أمر القلعة إلى أن بلغه وصول العسكر وسار هو والأمراء من دمشق‏.‏ وكان الأمير ألطنبغا العثماني بمن معه من أمراء دمشق والعشير والعربان نائب صفد قد توجه من بلاد المرج إلى جرود فجد العسكر في السير حتى وافوا الأمير قاني باي قد رحل من برزة فنزلوا هم على برزة وتقدم منهم طائفة فأخذوا من ساقته أغنامًا وغيرها وتقاتلوا مع أطراف قاني باي فجرح الأمير أحمد بن تنم صهر الملك المؤيد في يده بنشابة أصابته وجرح معه جماعة أخر ثم عادوا إلى ألطنبغا العثماني‏.‏
وسار قاني باي حتى نزل بسلمية في سلخه ثم رحل إلى حماة ثم رحل منها واجتمع بالأمير إينال الصصلاني نائب حلب واتفقوا جميعًا على التوجه إلى جهة العمق لما بلغهم قدوم السلطان الملك المؤيد لقتالهم‏.‏ وسيروا أثقالهم فنادى نائب قلعة حلب بالنفير العام فأتاه جل أهل حلب ونزل هو بمن عنده من العسكر الحلبي وقاتل إينال وعساكره فلم يثبتوا وخرج قاني باي وإينال إلى خان طومان وتخطف العامة بعض أثقالهم وأما السلطان الملك المؤيد فإنه لما كان ثاني عشرين جمادى الآخرة خلع على الأمير مشترك القاسمي الظاهري باستقراره في نيابة غزة عوضًا عن طرباي‏.‏
ثم في سابع عشرينه خلع على الأمير ألطنبغا القرمشي الأمير آخور باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية عوضًا عن ألطنبغا العثماني نائب دمشق‏.‏ ثم في سلخه خلع على الأمير تنبك العلائي الظاهري المعروف بميق رأس نوبة النوب باستقراره أمير آخورعوضًا عن ألطنبغا القرمشي‏.‏
ثم في رابع شهر رجب خلع السلطان على سودون القاضي حاجب الحجاب باستقراره رأس نوبة النوب عوضًا عن تنبك ميق وخلع على سودون قراصقل واستقر حاجب الحجاب عوضًا عن سودون القاضي‏.‏ وفي حادي عشرة سار الأمير آقباي المؤيدي الدوادار على مائتي مملوك نجدةً ثانية لنائب الشام ألطنبغا العثماني‏.‏
وفي ذلك اليوم دار المحمل على العادة في كل سنة‏.‏ ثم في يوم ثاني عشر شهر رجب المذكور قدم الأمير ناصر الدين محمد بن إبراهيم بن منجك من دمشق فارًا من قاني باي نائب الشام فارتجت القاهرة بسفر السلطان إلى البلاد الشامية ثم في رابع عشرة أمسك السلطان الأمير جانبك الصوفي أمير سلاح وقيده وسجنه بالبرج بقلعة الجبل‏.‏
ثم رسم السلطان للأمراء بالتأهب للسفر وأخذ في عرض المماليك السلطانية وتعيين من يختاره للسفر فعين من المماليك السلطانية مقدار النصف منهم فإنه أراد السفر مخفًا لأن الوقت كان فصل الشتاء والديار المصرية مغلية الأسعار إلى الغاية‏.‏
ثم في ثامن عشره أنفق السلطان نفقات السفر وأعطى كل مملوك ثلاثين دينارًا إفرنتية وتسعين نصفًا فضة مؤيدية وفرق عليهم الجمال‏.‏ ثم في تاسع عشره أمسك السلطان الوزير تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم وضربه بالمقارع وأحيط بحاشيته وأتباعه وألزمه بحمل مال كثير‏.‏
ثم في حادي عشرينه خلع السلطان على علم الدين أبي كم باستقراره في وظيفة نظر الدولة ليسد مهمات الدولة مدة غيبة السلطان ثم في يوم الجمعة ثاني عشرين شهر رجب المذكور ركب السلطان بعد صلاة الجمعة من قلعة الجبل بأمرائه وعساكره المعينين صحبته للسفر حتى نزل بمخيمه بالريدانية خارج القاهرة وخلع على الأمير ططر واستقر به نائب الغيبة بديار مصر وأنزله بباب السلسلة وخلع على الأمير سودون قراصقل حاجب الحجاب وجعله مقيمًا بالقاهرة للحكم بين الناس وخلع على الأمير قطلوبغا التنمي وأنزله بقلعة الجبل‏.‏
وبات السلطان تلك الليلة بالريدانية وسافر من الغد يريد البلاد الشامية ومعه الخليفة وقاضي القضاة ناصر الدين محمد بن العديم الحنفي لا غير‏.‏ وسار السلطان حتى وصل إلى غزة في تاسع عشرين شهر رجب المذكور وسار منها في نهاره‏.‏
وكان قد خرج الأمير قاني باي من دمشق في سابع عشرينه حسبما ذكرناه ودخل الأمير ألطنبغا العثماني إلى دمشق في ثاني شعبان وقرئ تقليده وكان لدخوله دمشق يومًا مشهودًا‏.‏ وسار السلطان مجدًا من غزة حتى دخل دمشق في يوم الجمعة سادس شعبان ثم خرج من دمشق بعد يومين في أثر القوم وقدم بين يديه الأمير آقباي الدوادار في عسكر من الأمراء وغيرهم كالجاليش فسار آقباي المذكور أمام السلطان والسلطان خلفه إلى أن وصل آقباي قريبًا من تل السلطان ونزل السلطان على سرمين وقد أجهدهم التعب من قوة السير وشدة البرد‏.‏
فلما بلغ قاني باي وإينال الصصلاني وغيرهما من الأمراء مجيء آقباي خرجوا إليه بمن معهم من العساكر ولقوا آقباي بمن معه من الأمراء والعساكر وقاتلوه فثبت لهم ساعة ثم انهزم أقبح هزيمة وقبضوا عليه وعلى الأمير برسباي الدقماقي - أعني الملك الأشرف الآتي ذكره - وعلى الأمير طوغان دوادار الوالد وهو أحد مقدمي الألوف بدمشق وعلى جماعة كبيرة وتمزقت عساكرهم وانتهبت‏.‏ وأتى خبر كسرة الأمير آقباي للسلطان فتخوف وهم بالرجوع إلى دمشق وجبن عن ملاقاتهم لقلة عساكره حتى شجعه بعض الأمراء أرباب الدولة وهونوا عليه أمر القوم فركب بعساكره من سرمين وأدركهم وقد استفحل أمرهم فعندما سمعوا بمجيء السلطان انهزموا ولم يثبتوا وولوا الأدبار غير قتال خذلانًا من الله تعالى لأمر سبق‏.‏
فعند ذلك اقتحم السلطانية عساكر قاني باي وقبض على الأمير إينال الصصلاني نائب حلب وعلى الأمير تمان تمر اليوسفي المعروف بأرق أتابك حلب وعلى الأمير جرباش كباشة حاجب حجاب حلب وفر قاني باي واختفى‏.‏ أما سودون من عبد الرحمن نائب طرابلس وتنبك البجاسي نائب حماة طرباي نائب غزة وجانبك الحمزاوي نائب قلعة الروم والأمير موسى الكركري أتابك طرابلس وغيرهم فقد ساروا على حمية إلى جهة الشرق قاصدين قرا يوسف صاحب بغداد وتبريز‏.‏
ثم ركب الملك المؤيد ودخل إلى حلب في يوم الخميس رابع عشر شهر رجب وظفر بقاني باي في اليوم الثالث من الوقعة فقيده ثم طلبهم الجميع فلما مثلوا بين يدي السلطان قال لهم السلطان‏:‏ قد وقع ما وقع‏!‏ فالآن أصدقوني‏:‏ من كان اتفق معكم من الأمراء فشرع قاني باي يعد جماعةً فنهره إينال الصصلاني وقال‏:‏ يكذب يا مولانا السلطان‏!‏ أنا أكبر أصحابه فلم يذكر لي واحدًا من هؤلاء في مدة هذه الأيام وكان يمكنه أنه يكذب علي وعلى غيري بأن له جماعة من المصريين ليقوي بذلك قلوب أصحابه فلم يذكر لنا شيئًا من ذلك فكل ما قاله في حق الأمراء زور وبهتان‏.‏
ثم التفت إينال إلى قاني باي وقال له‏:‏ بتنميق كذبك تريد تخلص من سيف هذا‏!‏ هيهات‏!‏ ليس هذا ممن يعفو عن الذنب‏.‏ ثم تكلم إينال المذكور بكلام طويل مع السلطان معناه أننا خرجنا عليك نريد قتلك فافعل الآن ما بدا لك‏.‏
فعند ذلك أمر بهم الملك المؤيد فردوا إلى أماكنهم وقتلوا - من يومهم - الأربعة‏:‏ قاني باي وإينال وتمان تمر أرق وجرباش كباشه وحملت رؤوسهم إلى الديار المصرية على يد الأمير يشبك شاد الشرابخاناه فرفعوا على الرماح ونودي عليهم بالقاهرة‏:‏ هذا جزاء من خامر على السلطان وأطاع الشيطان وعصى الرحمن‏.‏ م علقوا على باب زويلة أيامًا ثم حملوا إلى الإسكندرية فطيف بهم أيضًا هناك ثم أعيدت الرؤوس إلى القاهرة وسلمت إلى أهاليها‏.‏
خلع السلطان على الأمير آقباي المؤيدي الدوادار بنيابة حلب عوضًا عن إينال الصصلاني وعلى الأمير يشبك شاد الشرابخاناه بنيابة طرابلس عوضًا عن سودون من عبد الرحمن وعلى الأمير جارقطلو بنيابة حماة عوضًا عن إنيه تنبك البجاسي‏.‏ وأخذ السلطان في تمهيد أمور حلب مدة ثم خرج منها عائدًا إلى جهة الشام حتى نزل بحماة وعزم على الإقامة بها حتى ينفصل فصل الشتاء‏.‏
فأقام بها أيامًا حتى بلغه عن القاهرة غلو الأسعار واضطراب الناس بالديار المصرية لغيبة السلطان وفتنة العربان فخرج من حماة وعاد وحتى قدم إلى دمشق وأمسك بها سودون القاضي رأس نوبة النوب وخلع على الأمير برد بك قصقا واستقر به عوضه رأس نوبة النوب وسجن سودون القاضي بدمشق‏.‏ ثم خرج السلطان منها يريد الديار المصرية إلى أن قاربها فنزل المقام الصارمي إبراهيم ابن السلطان من قلعة الجبل وسار إلى لقاء والده ومعه الأمير كزل العجمي أمير جاندار وسودون قراصقل حاجب الحجاب في عدة من المماليك السلطانية حتى التقاه وعاد صحبته حتى نزل السلطان على السماسم شمالي خانقاه سرياقوس في يوم الخميس رابع عشر ذي الحجة من سنة ثماني عشرة وثمانمائة‏.‏
وركب في الليلة المذكورة إلى أن نزل بخانقاه سرياقوس وعمل بها مجتمعًا بالقراء والصوفية وجمع فيه نحو عشر جوق من أعيان القراء وعدة من المنشدين أصحاب الأصوات الطيبة ومد لهم أسمطة جليلة‏.‏ ثم بعد فراغ القراء والمنشدين أقيم السماع في طول الليل ورقصت أكابر الفقراء الظرفاء وجماعة من أعيان ندمائه بين يديه الليل كله نوبة وهو جالس معهم كأحدهم هذا وأنواع الأطعمة والحلاوات تمد شيئًا بعد شيء بكثرة والسقاة تطوف على الحاضرين بالمشروب من السكر المذاب فكانت ليلة تعد من الليالي الملوكية لم يعمل بعدها مثلها‏.‏

السلطان الملك المؤيد أبو النصر سيف الدين شيخ يعدل فى الأسعار
ثم أنعم على القراء والمنشدين بمائة ألف درهم‏.‏ وركب بكرة يوم السبت سادس عشر ذي الحجة المذكورة من الخانقاه حتى نزل بطرف الريدانية فأقام بها ساعة ثم ركب وشق القاهرة حتى طلع إلى القلعة من يومه وقد زينت له لقاهرة أحسن زينة فكان لقدومه إلى الديار المصرية يومًا من الأيام المشهودة‏.‏
وبعد طلوعه إلى القلعة أصبح من الغد نادى بالقاهرة بالأمان وأن الأسعار بيد الله تعالى فلا يتزاحم أحد على الأفران‏.‏ ثم تصدى السلطان بنفسه للنظر في الأسعار‏.‏ وعمل معدل القمح وقد بلغ سعر الإردب منه أزيد من ستمائة درهم إن وجد والإردب الشعير إلى أربعمائة درهم فانحط السعر لذلك قليلًا وسكن روع الناس لكون السلطان ينظر في مصالحهم‏.‏
قلت‏:‏ هذا من واجبات العمل ولعل الله سبحانه وتعالى أن يغفر للمؤيد ذنوبه بهذه الفعلة فإن ذلك هو المطلوب من الملوك وهو حسن النظر في أحوال رعيتهم - انتهى‏.‏
ثم في يوم الاثنين خامس عشرينه خلع السلطان على الأمير جقمق الأرغون شاوي الدوادار الثاني باستقراره دوادارًا كبيرًا عوضًا عن الأمير آقباي المؤيدي المنقول إلى نيابة حلب وخلع على الأمير يشبك الجكمي باستقرارة دوادارًا ثانيًا عوضًا عن جقمق‏.‏ قلت‏:‏ وكان الدوادار الثاني يوم ذاك لا يحكم بين الناس وليس على بابه نقباء وكذلك الرأس نوبة الثاني وأول من حكم ممن ولي هذه الوظيفة قرقماس الشعباني وممن ولي رأس نوبة ثاني آقبردي المنقار - انتهى‏.‏
ثم أمر السلطان الملك المؤيد بالنداء بمنع المعاملة بالدنانير الناصرية وقد تزايد سعر الذهب حتى بلغ المثقال الذهب إلى مائتين وستين درهمًا والناصري إلى مائتين وعشرة فرسم السلطان بأن يكون سعر المثقال الذهب بمائتين وخمسين والإفرنتي بمائتين وثلاثين وأن تنقص الناصرية ويدفع فيها من حساب مائة وثمانين درهمًا الدينار‏.‏ ثم في أول محرم سنة تسع عشرة وثمانمائة دفع السلطان للطواشي فارس الخازندار مبلغًا كبيرًا وأمره أن ينزل إلى القاهرة ويفرقه في الجوامع والمدارس والخوانق فتوسع الناس بذلك وكثر الدعاء له‏.‏
ثم فرق مبلغًا كبيرًا أيضًا على الفقراء والمساكين فأقل ما ناب الواحد من المساكين خمسة مؤيدية فضة عنها خمسة وأربعون درهمًا فشمل بره عدة طوائف من الفقراء والضعفاء والأرامل وغيرهم فكان جملة ما فرقه في هذه النوبة الأخيرة أربعة الآف دينار فوقع تفرقة هذا المال من الفقراء موقعًا عظيمًا‏.‏ هذا والغلاء يتزايد بالقاهرة وضواحيها والسلطان مجتهد في إصلاح الأمر لا يفتر عن ذلك وأرسل الطواشي مرجان الهندي الخازندار إلى الوجه القبلي بمال كثير ليشتري منه القمح ويرسله إلى القاهرة توسعةً على الناس‏.‏
ثم أخذ السلطان في النظر في أحوال الرعية بنفسه وماله حتى إنه لم يدع لمحتسب القاهرة في ذلك أمرًا فمشى الحال بذلك ورد رمق الناس - ‏.‏
ثم في أول صفر من سنة تسع عشرة المذكورة أمر السلطان بعزل جميع نواب القضاة الأربعة وكان عدتهم يومئذ مائة وستة وثمانين قاضيًا بالقاهرة سوى من النواحي وصمم السلطان على أن كل قاض يكون له ثلاثة نواب لا غير هؤلاء كفاية للقاهرة وزيادة‏.‏ قلت‏:‏ وما كان أحسن هذا لو دام أو استمر وقد تضاعف هذا البلاء في زماننا حتى خرج عن الحد وصار لكل قاض عدة كبيرة من النواب - انتهى‏.‏
الطاعون
ثم فشا الطاعون في هذا الشهر بالقاهرة‏.‏
إنشاء الجامع المؤيدي بالقرب من باب زويلة
ووقع الاهتمام في عمارة الجامع المؤيدي بالقرب من باب زويلة وكان قبل ذلك عمله على التراخي‏.‏ ثم في سابع جمادى الآخرة من سنة تسع عشرة المقدم ذكرها أمر السلطان أن الخطباء إذا أرادوا الدعاء للسلطان على المنبر في يوم الجمعة أن ينزلوا درجة ثم يدعوا للسلطان حتى لا يكون ذكر السلطان في الموضع الذي يذكر فيه اسم الله عز وجل واسم نبيه صلى الله عليه وسلم تواضعًا لله تعالى ففعل الخطباء ذلك وحسن هذا ببال الناس إلى الغاية وعدت هذه الفعلة من حسناته رحمه الله‏.‏ م تكررت صدقات السلطان في هذه السنة مرارًا عديدة على نقدات متفرقة‏.‏
هذا وقد ألزم السلطان مباشري الدولة بالرخام الجيد لأجل جامعه فطلب الرخام من كل جهة حتى أخذ من البيوت والقاعات والأماكن التي بالمفترجات‏.‏
ومن يومئذ عز الرخام بالديار المصرية لكثرة ما احتاجه الجامع المذكور من الرخام لكبره وسعته وهو أحسن جامع بني بالقاهرة في الزخرفة والرخام لا في خشونة العمل والإمكان وقد اشتمل ذلك جميعه في مدرسة السلطان حسن بالرميلة ثم في مدرسة الملك الظاهر برقوق ببين القصرين‏.‏
ولم يعب على الملك المؤيد في شيء من بناء هذا الجامع إلا أخذه باب مدرسة السلطان حسن والتنور الذي كان به - وكان اشتراهما السلطان حسن بخمسمائة دينار وكان يمكن الملك المؤيد أن يصنع أحسن منهما لعلو همته - فإن في ذلك نقص مروءة وقلة أدب من جهات عديدة‏.‏ وكان وعدني بعض أعيان المماليك المؤيدية أنه إن طالت يده في التحكم أن يصنع بابًا وتنورًا للجامع المؤيدي المذكور أحسن منهما ثم يردهما إلى مكانهما من مدرسة السلطان حسن فقبضه الله قبل ذلك - رحمه الله تعالى‏.‏ وكان نقل هذا الباب والتنور من مدرسة السلطان حسن إلى مدرسة الملك المؤيد في يوم الخميس سابع عشرين شوال من السنة المذكورة‏.‏
ثم تكلم أرباب الدولة مع السلطان في عود نواب القضاة وأمعنوا في ذلك ووعدوا بمال كبير فرسم السلطان بجمع القضاة الثلاثة وكان قاضي القضاة علاء الدين بن مغلي الحنبلي مسافرًا بحماة وتكلم معهم فيما رسم به وصمم على ذلك - رحمه الله‏.‏
أهذا وأرباب وظائفه الظلمة البلاصية تمعن في الكلام معه في ذلك ولازالوا به بعد أن خوفوه بوقوف حال الناس من قلة النواب وأشياء غير ذلك إلى أن استقر الحال على أن يكون نواب القاضي الشافعي عشرة ونواب القاضي الحنفي خمسة ونواب القاضي المالكي أربعة وانفض المجلس على هذا بعد أن عجز مباشرو الدولة في أن يسمح بأكثر من ذلك‏.‏
وبعد خروج القضاة من المجلس ضمن لهم بعض أعيان الدولة من المباشرين الظلمة العواتية - عليه من الله ما يستحقه - برد جماعة أخر بعد حين‏.‏ هذا والناس في غاية السرور بما حصل من منع القضاة للحكم بين الناس‏.‏
ثم خلع السلطان على الأمير قطلوبغا باستقراره في نيابة الإسكندرية عوضًا آقبردي المنقار بحكم عزله وكان قطلوبغا هذا ممن أنعم عليه الأمير تمربغا الأفضلي المدعو منطاش بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية ثم أخرج الملك الظاهر برقوق إقطاعه وجعله بطالًا سنين طويلة حتى افتقر وطال خموله واحتاج إلى السؤال إلى أن طلبه الملك المؤيد من داره وولاه نيابة الإسكندرية من غير سؤال‏.‏ قلت‏:‏ وهذه كانت عادة ملوك السلف أن يقيموا من حطه الدهر وينتشلوا ذوي البيوتات من الرؤساء وأرباب الكمالات‏.‏
وقد ذهب ذلك كله وصار لا يترقى في الدول إلا من يبذل المال ولو كان من أوباش السوقة لشره الملوك في جمع الأموال - ولله در المتنبي حيث يقول‏:‏ الطويل‏.‏ ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقر فالذي فعل الفقر حدثني بعض من حضر قطلوبغا المذكور لما طلبه المؤيد ليستقر به في نيابة الإسكندرية قال‏:‏ فعند حضوره قال له السلطان‏:‏ أوليك نيابة الإسكندرية‏.‏
فمسك قطلوبغا المذكور لحيته البيضاء وقال‏:‏ يا مولانا السلطان أنا لا أصلح لذلك وإنما أريد شبع بطني وبطن عيالي - يظن أن السلطان يهزأ به - فقال له السلطان‏:‏ لا والله إنما كلامي على حقيقته‏.‏ ثم طلب له التشريف وأفاضه عليه وأمده بالخيل والقماش - انتهى‏.‏
ثم في ثاني عشر شهر ربيع الأول أمسك السلطان الأستادار بدر الدين حسن بن محب الدين بعد أن أوسعه سبًا وعوقه نهاره بقلعة الجبل حتى شفع فيه الأمير جقمق الدوادار على أن يحمل ثلاثمائة ألف دينار فأخذه جقمق ونزل به إلى داره‏.‏ ثم أرسل السلطان تشريفًا إلى فخر الدين عبد الغني بن أبي الفرج وهو كاشف الوجه البحري باستقراره أستادارًا عوضًا عن ابن محب الدين المقدم ذكره ثم تقرر الحال على ابن محب الدين أنه يحمل مائة ألف دينار وخمسين ألف دينار بعد ما عوقب وعصر في بيت الأمير جقمق عصرًا شديدًا ثم نقل من بيت جقمق إلى بيت فخر الدين بن أبي الفرج فتسلمه فخر الدين المذكور عندما حضر إلى القاهرة‏.‏
هذا وقد ارتفع الطاعون بالديار المصرية وظهر بالبلاد الشامية‏.‏
سفر السلطان الملك المؤيد أبو النصر سيف الدين شيخ
ثم بدا للسلطان الملك المؤيد السفر إلى البلاد الشامية لما اقتضاه رأيه وعلق جاليش السفر في يوم الاثنين خامس المحرم من سنة عشرين وثمانمائة وهذه سفرة الملك المؤيد شيخ الثالثة إلى البلاد الشامية من يوم تسلطن‏:‏ فالأولى في سنة سبع عشرة وثمانمائة لقتال الأمير نوروز الحافظي نائب الشام والثانية في سنة ثماني عشرة وثمانمائة لقتال الأمير قاني باي المحمدي نائب الشام وهذه سفرته الثالثة‏.‏ وتجهز السلطان للسفر وأمر أمراءه وعساكره بالتجهيز‏.‏
فلما كان خامس عشر المحرم جلس السلطان لتفرقة النفقات فحمل إلى كل من أمراء الألوف ألفي دينار وأعطى لكل مملوك من المماليك السلطانية ثمانية وأربعين دينارًا صرفها يوم ذاك عشرة الآف درهم‏.‏ وبينما السلطان يتهيأ للسفر قدم عليه الخبر في ثالث عشرين المحرم بوصول الأمير آقباي المؤيدي نائب حلب إلى قطيا في ثماني هجن فكثرت الأقوال في مجيئه على هذه الهيئة‏.‏ ورسم السلطان بتلقيه فسار إليه الأمراء وأرباب الدولة إلى خانقاه سرياقوس وجهز له السلطان فرسًا بسرج ذهب وكنبوش زركش وكاملية مخمل بفرو سمور بمقلب سمور‏.‏
وقدم آقباي المذكور من الغد في يوم السبت رابع عشرين المحرم فلامه السلطان ووبخه وعنفة على حضوره إلى القاهرة في هذه المدة اليسيرة على هذا الوجه من غير أمر يستحق ذلك فإنه سار من حلب إلى مصر في أقل من عشرة أيام ة فاعتذر آقباي أن ما أحوجه لذلك ما أشيع عنه في عزم الخروج عن الطاعة ثم استغفر مما وقع منه فخلع عليه السلطان باستقراره في نيابة دمشق عوضًا عن الأمير ألطنبغا العثماني‏.‏
ورسم السلطان للأمير آقبغا التمرازي أمير آخور ثاني بالتوجه إلى الشام ليقبض على ألطنبغا العثماني ويودعه بسجن قلعة دمشق والحوطة على موجوده‏.‏ ثم خلع السلطان على الأمير قجقار القردامي أمير سلاح باستقراره في نيابة حلب عوضًا عن آقباي المذكور وأنعم السلطان بإقطاع قجقار على الأمير بيبغا المظفري أمير مجلس‏.‏
ثم خرجت مدورة السلطان إلى الريدانية خارج القاهرة ودخل المحمل في ذلك اليوم إلى القاهرة صحبة أمير حاج المحمل الأمير أزدمر من على جان المعروف بأزدمر شايا‏.‏ ثم في خامس عشرين المحرم المذكور ركب السلطان من قلعة الجبل بأمرائه وعساكره ونزل بمخيمه بالريدانية خارج القاهرة تجاه مسجد التبن وخلع على الشيخ شمس الدين محمد بن يعقوب التباني باستقراره في حسبة القاهرة وعزل عنها منكلي بغا العجمي الحاجب‏.‏
ثم في سابع عشرينه خلع السلطان على الأمير آقباي نائب الشام خلعة السفر وسافر من يومه جريدةً على الخيل‏.‏ ثم خلع السلطان على الأمير طوغان أمير آخور السلطان قديمًا باستقراره في نيابة الغيبة وعلى الأمير أزدمر من على جان المعروف شايا المقدم ذكره بنيابة قلعة الجبل وأقر عدة أمراء أخر بالديار المصرية‏.‏
ثم خلع السلطان على الأمير قجقار القردمي نائب حلب خلعة السفر وسار أيضًا من يومه‏.‏ ثم تقدم جاليش السلطان أمامه فيه جماعة من الأمراء ومقدم الجميع ولده المقام الصارمي إبراهيم‏.‏ ثم سار السلطان ببقية عساكره من الريدانية في يوم الثلاثاء رابع صفر يريد البلاد الشامية وصحبته الخليفة والقضاة الأربعة ومعه أيضًا من ورد عليه من القصاد في السنة الخالية وهم جماعة‏:‏ قاصد قرا يوسف صاحب بغداد وغيرها من العراق وقاصد سليمان بن عثمان صاحب الروم وقاصد بير عمر صاحب أرزنكان وقاصد ابن رمضان‏.‏ وتأخر بالقاهرة الأستادار فخر الدين بن أبي الفرج والصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله ناظر الخواص‏.‏
ورسم طوغان نائب الغيبة بأمر السلطان بهدم البيوت التي فوق البرج المجاورة لباب الفتوح من القاهرة ليعمل ذلك سجنًا لأرباب الجرائم عوضًا عن خزانة شمائل التي كانت موضع المدرسة المؤيدية وسمي هذا السجن بالمقشرة‏.‏ وأما السلطان فإنه سار حتى دخل دمشق في أول شهر ربيع الأول بعد أن مات الأمير آقبردي المؤيدي المنقار أحد مقدمي الألوف بطريق دمشق وكان خرج من القاهرة مريضًا في محفة وأنعم السلطان بإقطاعه على الأمير سودون القاضي بعد أن أخرجه من السجن‏.‏
ثم كتب الأمير طوغان نائب الغيبة يعزف السلطان بموت فرج ابن الملك الناصر فرج في يوم الجمعة سادس عشرين شهر ربيع الأول مسجونًا بثغر الإسكندرية وقد ناهز الاحتلام‏.‏ وبموته انكسرت حدة المماليك الظاهرية والناصرية وكان في كل قليل يكثر الكلام بأن المماليك الظاهرية يثورون وينصبونه في السلطنة وكانوا لا يزالون يتربصون الدوائر لأجل ذلك فبطل عزمهم بموته‏.‏ وأقام السلطان بدمشق أيامًا ثم خرج منها يريد حلب وسار حتى وصل تل السلطان فتقدم وصف الأطلاب بنفسه - وكان إمامًا في هذا الشأن ومعرفة تعبئة للعساكر - فرتب أطلاب الأمراء أولًا كل واحد في منزلته وليس ذلك بمنزلته في الجلوس بين يدي السلطان وإنما بحسب وظيفته فإن لكل صاحب وظيفة منزلة يمشي طلبه فيها أمام طلب السلطان - أخذت أنا هذا العلم عن آقبغا التمرازي وعن السيفي طرنطاي الظاهري شاد القصر السلطاني - انتهى‏.‏
ثم سار السلطان أمام طلبه في يوم السبت حادي عشرين شهر ربيع الأول عند انشقاق الفجر ومر بطلبه من ظاهر حلب ومعه جميع الأمراء بأطلابهم حتى نزل بالمسطبة الظاهرية في المخيم‏.‏ ومر من داخل مدينة حلب نائب الشام ونائب طرابلس ونائب حماة ونائب صفد ونائب غزة وعدة كبيرة من التركمان والعربان حتى خرجوا من الباب الآخر فهال الناس هذه الرؤية الغريبة من كثرة العساكر التي قدمت حلب من ظاهرها وباطنها وأقام السلطان بمخيمه بالمسطبة أيامًا ينتظر عود القصاد الذين وجههم للأطراف‏.‏
ثم في يوم الاثنين ثالث عشرين شهر ربيع الأول جلس السلطان بالميدان وعمل به الموكب السلطاني وحضره نواب البلاد الشامية والعساكر المصرية فجلس عن يمين السلطان الأتابك ألطنبغا القرمشي وتحته آقباي المؤيدي نائب الشام ثم بيبغا المظفري أمير مجلس ثم يشبك المؤيدي نائب طرابلس ثم جماعة كل واحد في رتبته وجلس عن يسار السلطان ولده المقام الصارمي إبراهيم ثم قجقار القردمي نائب حلب ثم تنبك العلائي ميق الأمير آخور الكبير ثم جارقطلو نائب حماة ثم برد بك قصقا رأس نوبة النوب ثم الأمير ططر ثم جماعة أخر كل واحد في منزلته‏.‏ ثم عين السلطان الأمير آقباي نائب الشام والأمير جارقطلو نائب حماة ومعهما خمسمائة ماش من التركمان الأوشرية والإينالية وفرقة من عرب آل موسى ليتوجه الجميع إلى جهة ملطية لإخراج حسين بن كبك منها ثم إلى كختا وكركر‏.‏
ثم قدم السلطان الجاليش بين يديه وفيه الأتابك ألطنبغا القرمشي ويشبك اليوسفي المؤيدي نائب طرابلس وخليل الدشاري التبريزي نائب صفد في عدة أخر من أمراء مصر فساروا إلى جهة العمق‏.‏ ثم ركب السلطان ودخل مدينة حلب وأقام بها إلى أن ركب منها في بكرة يوم الاثنين ثاني شهر ربيع الآخر وسار إلى جهة العمق على درب الأتارب فقدم عليه بالمنزلة المذكورة قاصد الأمير ناصر الدين بك بن قرمان بهدية وكتاب يتضمن أنه ضرب السكة المؤيدية ودعا للسلطان في الخطبة بجميع معاملته وبعث من جملة الهدية طبقًا فيه جملة دراهم بالسكة المؤيدية فعنف السلطان رسوله ووبخه وعدد له خطأ مرسله من تقصيره في الخدمة وذكر له ذنوبًا كثيرة فاعتذر الرسول عن ذلك كله وسأل السلطان الصفح عنه فقال السلطان‏:‏ إني ما سرت وتكلفت هذه الكلفة العظيمة إلا لأجل طرسوس لا غير ثم فرق الدراهم على الحاضرين وصرف الرسول إلى جهة نزل فيها‏.‏
وعمل السلطان الخدمة في يوم السبت سابع شهر ربيع الآخر بالعمق وحلف التركمان على طاعته وأنفق فيهم الأموال وخلع عليهم نحو مائتي خلعة وألبس إبراهيم بن رمضان الكلفتة وخلع عليه‏.‏ ثم تقرر الحال على أن قجقار القردمي نائب حلب يتوجه بمن معه إلى مدينة طرسوس ويسير السلطان على مدينة مرعش إلى أبلستين ويتوجه رسول ابن قرمان بجوابه ويعود إلى السلطان في مستهل جمادى الأولى بتسليم طرسوس فإن لم يحضر مشى السلطان على بلاده فسار الرسول صحبة نائب حلب إلى طرسوس‏.‏
وسار السلطان إلى أبلستين فنزل بالنهر الأبيض في حادي عشرة فقدم عليه كتاب قجقار القردمي نائب حلب بأنه لما نزل بغراس قدم عليه خليفة الأرمن وأكابر الأرمن وعلى يدهم مفاتيح قلعة سيس وأنه جهزهم إلى السلطان‏.‏ فلما مثلوا بين يدي السلطان خلع عليهم وأعادهم إلى القلعة بعد أن ولى نيابة سيس للشيخ أحمد أحد أمراء العشرات بحلب‏.‏
ثم رحل السلطان حتى نزل بمنزلة كونيك فقدم عليه بها كتاب آقباي نائب الشام بأن حسين بن كبك أحرق ملطية وأخذ أهلها وفر منها في سابع عشر شهر ربيع الأول وأنه نزل بملطية وشاهد ما بها من الحريق وأنه لم يتأخر بها إلا الضعيف العاجز وأن فلاحي بلادها نزحوا بأجمعهم عنها وأن ابن كبك نزل عند مدينة دوركي فندبه السلطان أن يسير خلفه حيث سار‏.ثم أمر السلطان ولده المقام الصارمي إبراهيم ليتوجه إلى أبلستين ومعه الأمير جقمق الأرغون شاوي الدوادار وجماعة من الأمراء لكبس الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادرة فساروا مجدين فصابحوا أبلستين وقد فر منها ابن دلغادر وأجلى البلاد من سكانها فجدوا في السير خلفه ليلًا ونهارًا حتى نزلوا بمكان يقال له كل دلي في يوم خامس عشرة وأوقعوا بمن فيه من التركمان وأخذوا بيوتهم وأحرقوها‏.‏
ثم مضوا إلى خان السلطان‏.‏ فأوقعوا أيضًا بمن كان هناك وأحرقوا بيوتهم وأخذوا من مواشيهم شيئًا كثيرًا‏.‏ ثم ساروا إلى مكان يقال له صاروس ففعلوا بهم كذلك وباتوا هناك‏.‏
ثم توجهوا يوم سادس عشرة فأدركوا ناصر الدين بك بن دلغادر وهو سائر بأثقاله وحريمه فتتبعوه وأخذوا أثقاله وجميع ما كان معه ونجا ابن دلغادر بنفسه على جرائد الخيل ووقع في قبضتهم عدة من أصحابه ثم عادوا إلى السلطان بالغنائم ومن جملتها مائة جمل بختي وخمسمائة جمل نفر ومائة فرس هذا سوى ما نهب وأخذه العسكر من الأقمشة الحرير والأواني الفضية ما بين بلور وفضيات وبسط وفرش وأشياء كثيرة لا تدخل تحت حصر فسر السلطان بذلك وصار السلطان يتنقل في مراعي الجستين حتى قدم عليه آقباس نائب الشام بعد أن سار في أثر حسين بن كبك إلى أن بلغه أنه دخل إلى بلاد الروم وبعد أن قرر أمر ملطية بعود أهلها إليها وبعد أن جهز الأمير جارقطلو نائب حماة ومعه نائب البيرة ونائب قلعة الروم ونائب عين تاب في عدة من الأمراء إلى كختا وكركر فنازلوا القلعتين وقد أحرق نائب كختا أسواقها وتحصن بقلعتها فبعث السلطان إليهم نجدةً فيها ألف ومائتا ماش‏.‏
ثم قدم كتاب ناصر الدين بك بن دلغادر على السلطان يسأل العفو عنه على أن يسلم قلعة درندة فأجيب إلى ذلك‏.‏ وأما قجقار القردمي نائب حلب فإنه لما توجه إلى طرسوس قدم بين يديه إليها الأمير شاهين الايدكاري متوليها من قبل السلطان فوجد ابن قرمان قد بعث نجمة إلى نائبه بها وهو الأمير مقبل‏.‏
فلما بلغ مقبلًا المذكور مجيء العساكر السلطانية إليه امتنع بقلعتها فنزل شاهين الأيدكاري وقجقار القردمي عليها‏.‏ وكتب قجقار إلى السلطان بذلك فأجابهم السلطان بالاهتمام في حصارها وحرضهم على ذلك فلا زالوا على حصارها حتى أخذوها بالأمان في يوم الجمعة ثامن عشر شهر ربيع الأول وسجنوا مقبلًا وأصحابه‏.‏
ثم انتقل السلطان إلى منزلة سلطان قشي فقدم عليه بها قاصد الأمير علي بك بن دلغادر بهدية‏.‏ ثم قدم ناصر الدين بك بن دلغادر مع ولده وصحبته كواهي ومفاتيح قلعة درندة فأضاف السلطان نيابة أبلستين إلى علي بك بن دلغادر مع ما بيده من نيابة مرعش‏.‏
ثم ركب السلطان ليرى درندة وسار إليها على جرائد الخيل حتى نزل عليها وبات بظاهرها فامتنعت عليه‏.‏ وأصبح فرتب الأمير آقباي نائب الشام في إقامته عليها وأردفه بآلات الحصار والصناع من الزردخاناه السلطانية‏.‏
وعاد السلطان إلى مخيمه فوصل إليه في تلك الليلة مفاتيح قلعة خندروس من مضافات درندة‏.‏ ثم ركب السلطان من الغد وبات على سطح العقبة المطلة على درندة‏.‏ فلما أصبح ركب بعساكره وعليهم السلاح ونزل بمخيمه على قلعة درندة وهي في شدة من قوة الحصار‏.‏ فلما رأى من بها أن السلطان نزل عليهم طلبوا الأمان فأمنهم ونزلوا بكرة يوم الجمعة وفيهم داود ابن الأمير محمد بن قرمان فألبسه السلطان تشريفًا وأركبه فرسًا بقماش ذهب وخلع على جماعته‏.‏
واستولى السلطان على القلعة وخلع على الأمير ألطنبغا الجكمي أحد رؤوس النوب باستقراره في نيابة درندة وأنعم عليه بأربعة آلاف دينار غير السلاح‏.‏ وخلع على الأمير منكلي بغا الأرغون شاوي أحد أمراء الطبلخانات بالديار المصرية بنيابة ملطية ودوركي وأنعم عليه بخمسة الآف دينار‏.‏ ثم طلع السلطان إلى قلعة درندة وأحاط بها علمًا‏.‏ ثم ارتحل عنها بعد أن مهد البلاد التي استولى عليها وعمل مصالحها وسار حتى نزل على النهر من غربي أبلستين بنحو مرحلة فأقام هناك أربعة أيام ليمكن كل من ولي نيابة على عمله ورجوع أهل بلده إليه‏.‏ ثم رحل ونزل على أبلستين يريد التوجه إلى بهسنا وكختا وكركر وأعاد من هناك حمزة بن علي بك بن دلغادر إلى أبيه وجهز له رايةً حمراء من الكمخا الإسكندراني ونفقةً وطبلخاناه‏.‏
وكان الأمير آقباي سار إلى بهسنا فقدم الخبر على السلطان من الأمير آقباي بأنه كتب إلى الأمير طغرق بن داود بن إبراهيم بن دلغادر المقيم بقلعة بهسنا يرغبه في الطاعة ويدعوه إلى الحضور إلى الحضرة الشريفة فاعتذر من حضوره بخوفه على نفسه‏.‏ فما زال به حتى سلم القلعة وحضر إليه‏.‏ فلما كان سادس عشر جمادى الأخرة قدم الأمير آقباي ومعه الأمير طغرق ومن كان معه بالقلعة وقد قارب السلطان في مسيره حصن منصور فخلع السلطان على طغرق ومن معه وأنعم عليهم وأنزل طغرق بخام ضرب له‏.‏
ونزل السلطان بحصن منصور فورد عليه الخبر بنزول قجقار القردمي على كركر وكختا وقدم أيضًا قاصد قرايلك صاحب آمد من ديار بكر بهدية فقبلها السلطان وخلع عليه‏.‏ ثم قدم أيضًا رسول الملك العادل سليمان صاحب حصن كيفا بهدية فقبلها السلطان أيضًا فلما كان الغد رحل السلطان ونزل شمالي حصن منصور قريبًا من كختا وكركر وأردف نائب حلب بالأمير جارقطلو نائب حماة وبجماعة من أمراء مصر والشام‏.‏ وبعث الأمير يشبك اليوسفي نائب طرابلس لمنازلة كختا وخلع على الأمير منكلي خجا الأرغون شاوي بنيابة قلعة الروم عوضًا عن الأمير أبي بكر بن بهادر البابيري الجعبري وخلع على الأمير كمشبغا الركني بنيابة بهسنا عوضًا عن الأمير طغرق بن دلغادر‏.‏
ثم قدم جواب الأمير قرا يوسف وقرا محمد صحبة القاضي حميد الدين قاضي عسكره وكتاب شاه أحمد بن قرا يوسف صاحب بغداد من قبل أبيه وكتاب بير عمر صاحب أرزنكان بهدية جليلة من قرا يوسف فأنزل حميد الدين المذكور بمخيمه وأجرى عليه ما يليق به‏.‏ ثم رحل السلطان حتى نزل على كختا وحصر قلعتها وقد نزح أهل كختا ومعامليها عنها فنصب المدافع للرمي على القلعة ورمى عليها‏.‏ وبينما هو في ذلك ورد الخبر على السلطان بقرب قرا يوسف قاصدًا قرايلك فبادر قرايلك وجهز ابنه حمزة صحبة نائبه شمس الدين أميرزه بهدية من خيل وشعير وسأل الاعتناء به فأكرم السلطان ولده ونائبه‏.‏
وقدم أيضًا قاصد طر علي نائب الرها وقاصد الأمير محمد بن دولة شاه صاحب أكل من ديار بكر ومعه مفاتيح قلعتها فقبلها السلطان ثم أعادها إليه ومعها تشريف له بنيابتها‏.‏ ولما اشتد الحصار على قلعة كختا وفرغ النقابون من النقب ولم يبق إلا إلقاء النار فيها طلب قرقماس نائبها شمس الدين أميرزه نائب قرايلك فبعثه السلطان إليه وتردد المذكور بينه وبين السلطان غير مرة إلى أن بعث قرقماس ولده رهنًا على أنه بعد رحيل السلطان عنه ينزل ويسلمها لمن يأمره السلطان بتسليمها‏.‏
ورحل السلطان إلى جهة كركر وترك الأمير جقمق الدوادار على كختا وسارت أثقال السلطان إلى عين تاب فنازل السلطان كركر ونصب عليها منجنيقًا يرمي بحجر زنته ما بين الستين والسبعين رطلًا بالدمشقي وكان ذلك في يوم الجمعة تاسع عشرين من جمادى الآخرة‏.‏ فلما كان أول شهر رجب قدم الخبر على السلطان من الأمير جقمق بنزول قرقماس من قلعة كختا ومعه حريمه وتسلمها نواب السلطان وأنه توجه معه قرقماس المذكور إلى حلب‏.‏ ثم قدم الخبر على السلطان من الأمير منكلي بغا نائب ملطية بأن طائفةً من عسكر قرا يوسف نزلوا تحت قلعة منشار ونهبوا بيوت الأكراد وعدى الفرات منهم نحو ثلاثمائة فارس وأنه ركب عليهم وقاتلهم وقتل منهم نحو العشرين وغرق في الفرات نحو ذلك وأسر اثني عشر نفرًا فكتب له السلطان بالشكر والثناء‏.‏
خلع السلطان على الأمير شاهين حاجب صفد باستقراره في نيابة كركر وعلى الأمير كزل بغا أحد أمراء حماة بنيابة كختا فمضى كزل بغا المذكور إليها من يومه‏.‏ ورحل السلطان من الغد وهو يوم الثلاثاء رابع شهر رجب وقد عاوده ألم رجله الذي يعتريه في بعض الأحيان فركب المحفة عجزًا عن ركوب الفرس وعاد إلى جهة البلاد الحلبية إلى أن وصل إلى بلد يقال له كيلك فنزل في الفرات في زوارق وصحبته جماعة وسار إلى أن وصل قلعة الروم في عشية يوم الخميس سادسه وبات بها‏.‏
ونزل من الغد بعدما رتب أحوال القلعة وأنعم على نائبها بخمسمائة دينار فقدم عليه في يوم الجمعة سابعه الخبر بأن الأمير قجقار القردمي نائب حلب يخبر بهزيمة قرايلك من قرا يوسف وأن الذين معه من العسكر المقيم على كركر خافوا من قرا يوسف وعزموا على الرحيل‏.‏
وبينما كتاب قجقار يقرأ قدم كتاب آقباي نائب الشام بأن الأمير قجقار نائب حلب رحل عن كركر بمن معه من غير أن يعلمه وأنه عزم على محاصرتها فكتب إليه السلطان بأن يستمر على حصارها‏.‏ ثم في بكرة يوم السبت ثامن شهر رجب انحدر السلطان من قلعة الروم ونزل على البيرة فطلع من المراكب إليها وقرر أمورها‏.‏ فقدم عليه الخبر من الغد بقرب قرا يوسف وأن الأمير آقباي نائب الشام صالح الأمير خليلًا نائب كركر ورحل عنها بمن معه فحنق السلطان من ذلك واشتد غضبة على الأمير قجقار القردمي‏.‏
ثم رحل من البيرة يريد حلب حتى دخلها بكرة يوم الخميس ثالث عشر شهر رجب بأبهة الملك وقد تلقاه أهل حلب وفرحوا بقدومه لكثرة إرجافهم بقدوم قرا يوسف إليها فاطمأنوا‏.‏ وطلع السلطان إلى قلعة حلب ونادى بالأمان وفرق على الفقراء والفقهاء مالًا جزيلًا وأمر ببناء القصر الذي كان الأمير جكم شرع في عمارته‏.‏ ثم في سابع عشرة قدم الأمير آقباي والأمير قجقار القردمي والأمير جارقطلو فأغلظ السلطان على الأمير قجقار القردمي ووبخه فأجابه قجقار بدالة ولم يراع الأدب معه فأمر به فقبض عليه وحبسه بقلعة حلب ثم أفرج عنه في يومه بشفاعة الأمراء وبعثه إلى دمشق بطالًا وخلع على الأمير يشبك المؤيدي اليوسفي نائب طرابلس باستقراره عوضه بنيابة حلب وخلع على الأمير برد بك رأس نوبة النوب باستقراره في نيابة طرابلس عوضًا عن يشبك المذكور‏.‏
ثم في يوم الخميس العشرين من شهر رجب خلع على الأمير ططر باستقراره رأس نوبة كبيرًا عوضًا عن برد بك المذكور وخلع على الأمير نكباي باستقراره في نيابة حماة عوضًا عن جارقطلو بحكم عزله وخلع على جارقطلو المذكور باستقراره نائب صفد عوضًا عن خليل التبريزي الدشاري واستقر خليل المذكور حاجب الحجاب بطرابلس فاستعفى خليل من حجوبية طرابلس فأعفي‏.‏ وخلع السلطان على الأمير سودون قراسقل حاجب الحجاب بالديار المصرية باستقراره في حجوبية طرابلس‏.‏ قلت‏:‏ درجات إلى أسفل‏.‏ وخلع على الأمير شاهين الأرغون شاوي باستقراره في نيابة قلعة دمشق عوضًا عن ألطنبغا المؤيدي المرقبي بحكم انتقال المرقبي إلى تقدمة ألف بالديار المصرية‏.‏ ثم في رابع عشرينه رسم السلطان للنواب بالتوجه إلى محل كفالتهم بعد أن خلع عليهم خلع السفر‏.‏
ثم في سادس عشرينه استدعى السلطان مقبلًا القرماني ورفاقه فضربه ضربًا مبرحًا ثم صلبه هو ومن معه‏.‏ ثم في يوم الاثنين أول شعبان قدم قاصد كردي بك ومعه الأمير سودون اليوسفي أحد الأمراء المتسحبين من وقعة قاني باي نائب الشام وقد قبض عليه فسمره الملك المؤيد من الغد تحت قلعة حلب ثم وسطه فعيب ذلك على السلطان كون سودون المذكور كان من جملة أمراء الألوف ثم من أعيان المماليك الظاهرية ووسط مثل قطاع الطريق‏.‏ ثم خلع السلطان على تمراز باستقراره في حجوبية حلب عوضًا عن آقبلاط الدمرداشي‏.‏ وكان السلطان خلع على الأمير يشبك الجكمي الدوادار الثاني باستقراره أمير حاج المحمل وسيره إلى القاهرة فوصلها في شعبان المذكور فوجد القاهرة مضطربة والناس في هرج كونهم أمسكوا بالقاهرة نصرانيًا وقد خلا بامرأة مسلمة فاعترفا بالزنا فرجما خارج باب الشعرية ظاهر القاهرة عند قنطرة الحاجب وأحرق العامة النصراني ودفنت المرأة فكان يومًا عظيمًا‏.‏
ثم عزل السلطان تمراز المذكور عن حجوبية حلب واستقر عوضه بالأمير عمر سبط ابن شهري‏.‏ ثم خرج السلطان في ثامن عشر شعبان المذكور من حلب ونزل بعين مباركة‏.‏ واستقل بالمسير منها في عشرينه يريد جهة دمشق ونزل قنسرين وأعاد منها الأمير يشبك نائب حلب إليها‏.‏ وسار عشية يوم الجمعة سادس عشرينه حتى قدم دمشق في بكرة يوم الخميس ثالث شهر رمضان ونزل بقلعتها فكان قدومه دمشق يومًا مشهودًا‏.‏ وأخذ في إصلاح أمر البلاد الشامية إلى يوم الاثنين سابع شهر رمضان فأمسك الأمير آقباي المؤيدي نائب الشام وقيده وسجنه بقلعة وسبب القبض على آقباي المذكور أن السلطان الملك المؤيد كان اشتراه في أيام إمرته صغيرًا بألفي درهم من دراهم لعب الكنجفة وهو أن الملك المؤيد كان قاعدًا يلاعب بعض أصحابه بالكنجفة وقد قمر ذلك الرجل بدراهم كبيرة فأدخل عليه آقباي المذكور مع تاجره فأعجبه واشتراه وطلب خازنداره ليقبض التاجر ثمن آقباي المذكور فلم يجده فوزن له المؤيد ثمنه من تلك الدراهم التي قمرها‏.‏
ثم رباه وأعتقه وجعله خازنداره ثم رقاه أيام سلطنته إلى أن جعله من جملة أمراء الألوف ثم دوادارًا كبيرًا بعد موت جاني بك المؤيدي ثم ولاه نيابة حلب‏.‏ وكان آقباي شجاعًا مقدامًا مجبولًا على طبيعة الكبر تحدثه نفسه كلما انتهى إلى منزلة علية إلى أعلى منها‏.‏ فلما ولى نيابة حلب استخدام جماعة من مماليك قاني باي المحمدي نائب الشام بعد قتله وأنعم عليهم بالعطايا هم وغيرهم‏.‏
وبلغ ذلك المؤيد فلم يحرك ساكنًا حتى أشيع عنه الخروج عن الطاعة وتواترت على المؤيد الأخبار بذلك لا سيما الأمير ألطنبغا المرقبي نائب قلعة حلب فإنه بالغ إلى الغاية‏.‏ فلما تحقق الملك المؤيد أمره بادر إلى السفر إلى جهة بلاد الشام واحتج بأمر من الأمور‏.‏
وبلغ آقباي أن السلطان بلغه أمره وعزم على السفر إلى البلاد الشامية لأجله ورأى أن أمره لم يستقم إلى الآن مع معرفته بصولة أستاذه الملك المؤيد فخاف أن يقع له كما وقع لقاني باي ونوروز وغيرهم وهم هم فركب من حلب على حين غفلة في ثماني هجن كما تقدم ذكره وقدم القاهرة بغتة يخادع بذلك السلطان‏.‏ فانخدع له الملك المؤيد في الظاهر وفي الباطن غير ذلك وقد تجهز للسفر فلم يمكنه الرجوع عن السفر لما أشيع بسفره في الأقطار ويقال في الأمثال‏:‏ الشروع ملزم فخلع عليه بنيابة الشام عوضًا عن ألطنبغا العثماني وفي النفس ما فيها‏.‏
ووقع ما حكيناه من أمر سفر السلطان ورجوعه إلى دمشق‏.‏ فلما قدم إلى دمشق وشى بآقباي إلى السلطان دواداره الأمير شاهين الأرغون شاوي في جماعة من أمراء دمشق أن آقباي المذكور يترقب مرض السلطان إذا عاوده ألم رجله وأنه استخدم جماعةً من أعداء السلطان وأن حركاته كلها تدل على الوثوب‏.‏
فعند ذلك تحرك ما عند السلطان من الكوامن وقبض عليه وولى مكانه نائب دمشق الأمير تنبك العلائي ميق الأمير آخور الكبير بعد تمنع كبير من تنبك إلى أن أذعن ولبس التشريف فطلب السلطان الأمير قجقار القردمي نائب حلب - كان - وهو بطال بدمشق وأنعم عليه بإقطاع الأمير تنبك ميق المذكور ثم أفرج السلطان عن الأمير ألطنبغا العثماني نائب الشام - كان - ورسم له بالتوجه إلى القدس بطالًا‏.‏
وأقام السلطان بدمشق إلى يوم الاثنين رابع عشر شهر رمضان من سنة عشرين وثمانمائة فخرج من دمشق يريد الديار المصرية ونزل بقية يلبغا‏.‏ ثم سار من قبة يلبغا وأعاد الأمير تنبك ميق إلى محل كفالته بدمشق‏.‏ وسار إلى أن قدم القدس في بكرة يوم الجمعة خامس عشرينه فزاره وفرق به أموالًا جزيلة وصلى الجمعة وجلس بالمسجد الأقصى وقريء صحيح البخاري من ربعة فرقت بين يديه على الفقهاء القادمين إلى لقائه من القاهرة ومن كان بالقدس من أهله‏.‏
ثم قام المداح بعد فراغهم وخلع السلطان عليهم فكان يومًا مشهودًا‏.‏ ثم سار السلطان من الغد إلى الخليل - عليه السلام - فزاره وتصدق فيه أيضًا بجملة‏.‏ وخرج منه وسار يريد غزة فلقيه أستاداره فخر الدين عبد الغني بن أبي الفرج في قرية السكرية وقبل الأرض بين يديه وناوله قائمة فيها ما أعده له من الخيول والأموال وغيرها فسر السلطان بذلك على ما سنذكره فيما بعد‏.‏
وسار السلطان حتى نزل مدينة غزة في يوم الاثنين ثامن عشرين شهر رمضان وأقام بها إلى أن خرج منها في آخر يوم السبت أول شوال بعدما صلى صلاة العيد على المصطبة المستجدة ظاهر غزة وصلى به وخطب شيخ الإسلام قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن البلقيني‏.‏ وسار السلطان حتى نزل بخانقاه سرياقوس في يوم الجمعة تاسع شوال فأقام بالخانقاه المذكورة من يوم الجمعة إلى يوم الأربعاء رابع عشرة‏.‏
وركب منها بعد أن عمل بها أوقاتًا طيبة ودخل حمامها غير مرة وسار حتى نزل خارج القاهرة عند مسجد التبن وبات هناك‏.‏
ثم ركب من الغد في يوم الخميس خامس عشر شوال من الريدانية بأبهة السلطنة وشعار الملك وعساكره وأمراؤه بين يديه ودخل القاهرة من باب النصر وولده المقام الصارمي إبراهيم يحمل القبة والطير على رأسه‏.‏ وترجل المماليك من داخل باب النصر ومشوا بين يديه وسارت الأمراء على بعد ركابًا وعليهم وعلى القضاة والخليفة التشاريف وكذلك سائر أرباب الدولة‏.‏
ومر السلطان على ذلك إلى أن نزل بجامعه الذي أنشأه بالقرب من باب زويلة وقد زينت القاهرة لقدومه وأشعلت حوانيتها الشموع والقناديل وقعدت المغاني صفوفًا على الدكاكين تدق بالدفوف‏.‏ ولما نزل بالجامع المذكور مد له الأستادار سماطًا عظيمًا به فأكل السلطان هو وعساكره‏.‏
ثم ركب من باب المؤيدية وخرج من باب زويلة بتلك الهيئة المذكورة وسار إلى أن طلع إلى قلعة الجبل من باب السر راكبًا بشعار الملك حتى دخل من باب الستارة وهو على فرسه إلى قاعة العواميد من الدور السلطانية فنزل عن فرسه على فراشه بحافة الإيوان وقد تلقاه حرمه بالتهاني والزعفران فكان لقدومه يومًا مشهودًا لم يسمع بمثله إلا نادرًا‏.‏
ثم في يوم الاثنين تاسع عشر شوال خلع السلطان على الأمير قجقار القردمي المعزول عن نيابة حلب باستقراره أمير سلاح على عادته قبل نيابة حلب وخلع على الأمير طوغان أمير آخور باستقراره أمير آخور كبيرًا عوضًا عن تنبك ميق بحكم توليته نيابة دمشق وخلع على الأمير ألطنبغا المرقبي المعزول عن نيابة حلب باستقراره حاجب الحجاب بالديار المصرية عوضًا عن سودون قراسقل كم استقرار سودون المذكور في حجوبية طرابلس وخلع على فخر الدين بن أبي الفرج خلعة الاستمرار على وظيفة الأستادارية‏.‏
ثم في يوم الثلاثاء عشرينه خرج محمل الحاج إلى الريدانية خارج القاهرة وأمير حاج المحمل الأمير يشبك الجكمي المقدم ذكره‏.‏ ثم في يوم الخميس ثاني عشرينه ركب السلطان ونزل من القلعة بأمرائه وخاصكييه وسرح إلى بر الجيزة لصيد الكراكي وغيرها وعاد في آخره من باب القنطرة ومر من بين السورين ونزل في بيت فخر الدين بن أبي الفرج الأستادار فقدم له فخر الدين المذكور عشرة الآف دينار‏.‏
ثم ركب السلطان من بيت فخر الدين وسار حتى شاهد الميضأة التي بنيت للجامع المؤيدي ثم صعد إلى القلعة‏.‏ ثم ركب من الغد وسرح أيضًا وعاد في يوم الأحد خامس عشرينه‏.‏
وفي يوم الاثنين سادس عشرينه خلع على أرغون شاه النوروزي الأعور باستقراره وزيرًا عوضًا عن فخر الدين بن أبي الفرج وخلع على فخر الدين المذكور خلعة الاستمرار على وظيفة الأستادارية فقط وأن يكون مشير الدولة‏.‏
وأما تقدمة فخر الدين بن أبي الفرج المذكور التي وعدنا بذكرها عندما قدم السلطان إلى الديار المصرية فبلغت أربعمائة ألف دينار عينًا وثمانية عشر ألف أردب غلة من ذلك ما وفره من ديوان الوزارة مبلغ أربعين ألف دينار وثمانية عشر ألف أردب غلة وما وفره من ديوان المفرد ثمانين ألف دينار وما جباه من النواحي - قبليًا وبحريًا - مائتي ألف دينار ومن إقطاعه ثلاثين ألف دينار وذلك سوى مائتي ألف دينار حملها إلى السلطان وهو بالبلاد الشامية‏.‏
ولما كان يوم الأربعاء سادس ذي القعدة قدم على السلطان الخبر من الأمير تنبك العلائي ميق نائب الشام بأنه في ليلة السبت رابع عشرين شوال خرج الأمير آقباي نائب الشام - كان - من سجنه بقلعة دمشق وأفرج عمن كان بها من المسجونين وهجم بهم آقباي على نائب قلعة دمشق فهرب نائب القلعة ونزل إلى المدينة وخرج آقباي في أثره إلى باب الجديد بمن معه فسمع الأمير تنبك الضجة فركب بمماليكه وأدرك نائب القلعة وركبت عساكر دمشق في الحال فأغلق آقباي باب قلعة دمشق وامتنع بها بمن معه وأن تنبك مقيم على حصار القلعة‏.‏
فتشوش السلطان لذلك وكتب إلى تنبك المذكور بالجد في أخذه‏.‏ فقدم من الغد أيضًا كتاب الأمير تنبك ميق بأن آقباي استمر بالقلعة إلى ليلة الاثنين سادس عشرين شوال ثم نزل منها بقرب باب الجديد ومشى في نهر برس إلى طاحون بباب الفرج فاختفى به فقبض عليه هناك وعلى طائفة معه وتسحب طائفة‏.‏
فكتب جواب تنبك بأن يعاقب آقباي حتى يقر على الأموال ثم يقتل‏.‏ ورسم بأن يستقر الأمير شاهين مقدم التركمان والحاجب الثاني بدمشق في نيابة قلعة دمشق ويستقر عوضه حاجبًا ثانيًا كمشبغا طولو وفي تقدمة التركمان الأمير شعبان بن اليغموري أستادار السلطان بدمشق‏.‏
ثم في يوم الجمعة ثامن ذي القعدة خرج المقام الصارمي إبراهيم ابن السلطان في عدة من الأمراء إلى الوجه القبلي لأخذ تقادم العربان وولاة الأعمال‏.‏ وفي يوم الاثنين حادي عشر ذي القعدة على السلطان النيل إلى البر الغربي وسرح إلى الطرانة بالبحيرة وعاد في يوم الاثنين حادي عشر منه بعد أن وصل إلى الغطامي ولم يعد النيل بل نزل بالقصر الذي أنشأه القاضي ناصر الدين بن البارزي كاتب السر ببر منبابة تجاه بولاق وكان قد شرع في أساسه قبل سرحة السلطان ففرغ منه بعد أربعة أيام‏.‏
واستمر به السلطان ثلاثة أيام ثم ركب البحر وتصيد بناحية سرياقوس وركب وعاد إلى القلعة‏.‏ ثم في سادس عشر ذي الحجة ركب السلطان من القلعة ونزل بالجامع المؤيدي ومعه خواصه لا غير ثم توجه منه إلى بيت ناصر الدين بن البارزي كاتب السر بسويقة المسعودي فقدم له كاتب السر تقدمة فأخذها ثم ركب إلى القلعة‏.‏
ثم في يوم السبت عشرين ذي الحجة قدم الصارمي إبراهيم من سفره بعد أن وصل إلى جرجا ‏.‏ ثم في سادس عشر المحرم من سنة إحدى وعشرين وثمانمائة ورد الخبر على السلطان من الحجاز بأن الأمير يشبك الجكمي الدوادار الثاني أمير حاج المحمل لما قدم المدينة النبوية بعد انقضاء الحج أظهر أنه يسير إلى الركب العراقي يبتاع منه جمالًا ومضى في نفر يسير وتسحب صحبة الركب العراقي خوفًا أن يصيبه من السلطان ما أصاب الأمير آقباي نائب الشام وكان يشبك المذكور صديقًا لآقباي وأشيع أنه كان اتفق معه في الباطن في الوثوب على السلطان‏.‏
وسار يشبك المذكور حتى دخل العراق وقدم على الأمير قرا يوسف فأكرمه قرا يوسف وأجرى عليه الرواتب ودام عنده إلى أن مات قرا يوسف‏.‏ ثم مات الملك المؤيد وقدم يشبك على الأمير ططر بدمشق فولاه الأمير آخورية الكبرى حسبما يأتي ذكر ذلك كله في محله‏.‏
وفي ليلة الخميس رابع عشرين المحرم كان الوقيد ببر منبابة بين يدي السلطان بعد أن عاد السلطان من وسيم حيث مربط خيوله على الربيع ونزل بالقصر المذكور بحري منبابة‏.‏
وألزم السلطان الأمراء بحمل الزيت والنفط فجمع من ذلك شيء كثير وأخذ من قشر البيض وقشر النارنج ومن المسارج الفخار وجعل فيها الفتايل والزيت ثم أرسلت في النيل بعد غروب الشمس بنحو ساعة وأطلقت النفوط وقد امتلأ البران بالخلائق للفرجة على ذلك فكان لهذا الوقيد منظر بهج وانحدر في النيل إلى أن فرغ زيت بعضها وأطفأ الهواء البعض‏.‏
ثم في يوم السبت سادس عشرين المحرم أمسك السلطان الأمير بيبغا المظفري الظاهري أمير مجلس وحمل مقيدًا إلى الإسكندرية‏.‏ ثم نودي بالقاهرة وظواهرها أن كل غريب يخرج من القاهرة ويعود إلى وطنه‏.‏
ثم في يوم السبت رابع صفر وسط السلطان قرقماس الذي كان متولي كختا ووسط معه أيضًا خمسة عشر رجلًا من أصحابه خارج باب النصر وكانوا فيمن أحضرهم السلطان معه من البلاد الشامية - لما قدم من السفر - في الحديد‏.‏
ثم في سادس صفر المذكور ركب السلطان متخففًا ومعه ولده الصارمي إبراهيم في نفر يسير ونزل بجامعه عند باب زويلة ثم توجه منه إلى بيت فخر الدين بن أبي الفرج الأستادار فأكل عنده السماط ثم قدم له فخر الدين خمسة آلاف دينار ثم ركب من بيت فخر الدين المذكور وتوجه إلى بيت الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله ناظر الخاص ونزل عنده فقدم له ثلاثة آلاف دينار وعرض عليه خزانة الخاص فأنعم منها السلطان على ولده إبراهيم وعلى من معه من الأمراء بعدة ثياب حرير وفرو سمور ثم ركب السلطان وعاد إلى القلعة‏.‏
ثم في ثاني عشرينه ركب السلطان ونزل من القلعة لعيادة الأمير الكبير ألطنبغا القرمشي من وعك كان حصل له ثم ركب من عنده وتوجه إلى بيت الأمير جقمق الدوادار فنزل عنده وأقام يومه كله وعاد من آخر النهار إلى القلعة على هيئة غير مرضية من شدة السكر‏.ثم في ثامن عشرين شهر ربيع الأول قدم الأمير برد بك الخليلي نائب طرابلس إلى القاهرة بطلب لشكوى أهل طرابلس عليه لسوء سيرته‏.‏
وعاود السلطان ألم رجله وانقطع عن الخدمة ولزم الفراش‏.‏ وقبض على الأمير الوزير أرغون شاه النوروزي الأعور وعلى الأمير آقبغا شيطان والي القاهرة وسلمها إلى فخر الدين بن أبي الفرج ليصادرهما‏.‏
ثم خلع السلطان على الأمير برد بك نائب طرابلس باستقراره في نيابة صفد واستقر عوضه في نيابة طرابلس الأمير برسباي الدقماقي أحد أمراء الألوف بالديار المصرية بعد أن طلب من الغربية وكان توجه برسباي لعمل جسورها كاشف الوجه الغربي وبرسباي هذا هو الملك الأشرف الآتي ذكره في محله‏.‏
ثم خلع السلطان على الوزير أرغون شاه باستقراره أمير التركمان بثلاثين ألف دينار ونقل الأمير سنقر نائب المرقب إلى نيابة قلعة دمشق عوضًا عن شاهين واستقر ألطنبغا الجاموس في نيابة المرقب واستقر سودون الأسندمري الأمير آخور الثاني - كان - في دولة الملك الناصر فرج في أتابكية طرابلس وكان الملك المؤيد أفرج عنه من سجن الإسكندرية قبل ذلك بمدة يسيرة وأنعم السلطان بإقطاع الأمير برسباي الدقماقي المنتقل إلى نيابة طرابلس على الأمير فخر الدين بن أبي الفرج الأستادار وبإقطاع فخر الدين على بدر الدين بن محب الدين وقد استقر وزيرًا عوضًا عن أرغون شاه‏.‏
ثم في أول جمادى الأولى تحرك عزم السلطان إلى سفر الحجاز وكتب إلى أمراء الحجاز بذلك‏.‏
وعرض السلطان المماليك وعين عدة منهم للسفر معه إلى الحجاز وأخرج الهجن وجهز الغلال في البحر‏.‏
ثم رسم السلطان باستقرار شاهين الزردكاش حاجب حجاب دمشق في نيابة حماة عوضًا عن الأمير نكباي وأن يستقر نكباي في حجوبية دمشق‏.‏ ثم في ثامن عشرين جمادى الأولى المذكور عزل السلطان جلال الدين البلقيني عن القضاء وخلع على شمس الدين محمد الهروي باستقراره قاضي قضاة الشافعية بالديار المصرية عوضًا عن البلقيني‏.‏
ثم في ثامن عشر شهر رجب خلع السلطان على الأمير قرا مراد خجا أحد مقدمي الآلاف بالديار المصرية باستقراره في نيابة صفد وأنعم بإقطاعه على الأمير جلبان رأس نوبة ابن السلطان‏.‏
ثم في يوم الاثنين خامس عشرين شهر رجب المذكور ركب السلطان من قلعة الجبل إلى ظاهر القاهرة وعبر من باب النصر ومر في شوارع المدينة إلى القلعة وبين يديه الهجن التي عينت للسفر معه إلى الحجاز وعليها الأكوار الذهب والفضة والكنابيش الزركش فكان يومًا عظيمًا فتحقق كل أحد سفر السلطان إلى الحجاز‏.‏
وسار السلطان حتى طلع إلى القلعة فما هو أن استقر به الجلوس إلا ووصل الأمير برد بك الحمزاوي أحد أمراء الألوف بحلب ومعه نائب كختا الأمير منكلي بغا بكتاب نائب حلب وكتاب الأمير عثمان بن طر علي المدعو قرا يلك بأن قرا يلك صاحب العراق قصده ليكبس عليه وقبل أن يركب قرا يلك هجمت عليه فرقة من عسكر قرا يوسف فركب وسار منهزمًا إلى أن وصل إلى مرج دابق ثم دخل حلب في نحو ألف فارس بإذن الأمير يشبك اليوسفي نائب حلب له فجفل من كان خارج مدينة حلب بأجمعهم واضطرب من بداخل سور حلب وألقوا أنفسهم من السور ورحل أجناد الحلقة ومماليك النائب المستخدمين بحريمهم وأولادهم حتى ركب نائب حلب وسكن روع الناس وعرفهم أن قرا يلك لم يقدم إلى حلب إلا بإذنه وأنه مستجير بالسلطان‏.‏
وبينما هو في ذلك رحل قرا يلك من ليلته وعاد إلى جهة الشرق خوفًا من يشبك نائب حلب أن يقبض عليه‏.‏ فلما بلغ السلطان قرب قرا يوسف من بلاده انثنى عزمه عن السفر للحجاز في هذه السنة وكتب في الحال إلى العساكر الشامية بالمسير إلى حلب والأخذ في تهيئة الإقامات السلطانية‏.‏
وأصبح السلطان في يوم الثلاثاء سادس عشرين شعبان جمع القضاة والخليفة وطلب شيخ الإسلام جلال الدين البلقيني وقص عليهم خبر قرا يوسف وما حصل لأهل حلب من الخوف والفزع وجفلتهم هم وأهل حماة وأن الحمار بلغ ثمنه عندهم خمسمائة درهم فضة والإكديش إلى خمسين دينارًا وأن قرا يوسف في عصمته أربعون امرأة وأنه لا يدين بدين الإسلام وكتبت صورة فتوى في المجلس فيها كثير من قبائحه وأنه قد هجم على ثغور المسلمين ونحو هذا من الكلام‏.‏
فكتب البلقيني والقضاة بجواز قتله وكتب الخليفة خطه بها أيضًا وانصرفوا ومعهم الأمير مقبل الدوادار فنادوا في الناس بالقاهرة بين يدي الخليفة والقضاة بأن قرا يوسف يستحل الدماء ويسبي الحريم فعليكم بجهاده كلكم بأموالكم وأنفسكم فدهي الناس عند سماعهم ذلك واشتد قلقهم‏.‏ ثم كتب إلى ممالك الشام أن ينادى بمثل ذلك في كل مدينة وأن السلطان واصل إليهم بنفسه‏.‏ ثم في يوم الأربعاء سابع عشرين شعبان المذكور نودي بالقاهرة في أجناد الحلقة بتجهيز أمرهم بالسفر إلى الشام ومن تأخر منهم حل به كذا وكذا من الوعيد‏.‏ ثم في أول شهر رمضان قدم الخبر من حلب برحيل قرا يلك منها كما تقدم ذكره وأن يشبك نائب حلب مقيم بالميدان وعنده نحو مائة وأربعين فارسًا وقد خلت حلب من أهلها إلا من التجأ لقلعتها وأن يشبك بينما هو في الميدان جاءه الخبر أن عسكر قرا يوسف قد أدركه فركب قبيل الفجر من الميدان وإذا بمقدمتهم على وطاة بابلة فواقعهم يشبك بمن معه حتى هزمهم وقتل وأسر جماعةً فأخبروه أنهم جاؤوا للكشف لخبر قرا يلك وأن قرا يوسف بعين تاب فعاد يشبك وتوجه إلى سرمين‏.‏
فلما بلغ قرا يوسف هزيمة عسكره كتب إلى يشبك نائب حلب يعتذر عن نزوله بعين تاب وأنه ما قصد إلا قرا يلك فبعث إليه يشبك صاروخان مهمندار حلب فلقيه على جانب الفرات وقد جازت عساكره الفرات وهو على نية الجواز فأكرمه قرا يوسف واعتذر إليه ثانيًا عن وصوله إلى عين تاب وحلف له أنه لم يقصد دخول الشام وأعاده بهدية للنائب فهدأ ما بالناس بحلب وسر السلطان أيضًا بهذا الخبر‏.‏
وكان سبب حركة قرا يوسف أن قرا يلك المذكور في أوائل شعبان هذا نزل على مدينة ماردين - وهي داخلة في حكم قرا يوسف - فأوقع بأهلها وأسرف في قتلهم وسبى أولادهم ونسائهم وباع الأولاد كل صغير بدرهمين وحرق المدينة ونهبها ثم رجع إلى آمد‏.‏ فلما بلغ قرا يوسف الخبر غضب من ذلك وسار ومعه الأمراء الذين تسحبوا من واقعة قاني باي مثل الأمير سودون من عبد الرحمن وطرباي وتنبك البجاسي ويشبك الجكمي وغيرهم يريدون أخذ الثأر من قرا يلك حتى نزل آمد ثم رحل عنها يريد قرا يلك‏.‏
فسار قرا يلك إلى جهة البلاد الحلبية فسار خلفه قرا يوسف حتى قطع الفرات ووقع ما حكيناه‏.‏ ثم في خامس شهر رمضان المذكور نودي في أجناد الحلقة بالعرض على السلطان فعرضوا عليه في يوم الجمعة سادسه وابتدأ بعرض من هو في خدمة الأمراء فخيرهم بين الاستمرار في جملة جناد الحلقة وترك خدمة الأمراء أو الإقامة في خدمه الأمراء وترك أخبار الحلقة فاختار بعضهم خدمة الأمراء وترك خبزه الذي بالحلقة واختار بعضهم ضد ذلك فأخرج السلطان إقطاع من اختار خدمة الأمراء وصرف من خدمة الأمراء من أراد الإقامة على إقطاعه بالحلقة وشكا إليه بعضهم قلة متحصل إقطاعه فزاده وعد هذا من جودة تدبير الملك المؤيد وسيره على القاعدة القديمة فإن العادة كانت في هذه الدولة التركية أن يكون عسكر مصر على ثلاثة أقسام‏:‏ قسم يقال لهم أجناد الحلقة وموضوعهم أن يكونوا في خدمة السلطان ولكل منهم إقطاع في أعمال مصر وكل ألف منهم مضافة إلى أمير مائة ومقدم ألف ولهذا المعنى سمي الأمير بمصر أمير مائة أعني صاحب مائة مملوك في خدمته ومقدم ألف من هؤلاء أجناد الحلقة‏.‏
ويضاف أيضًا لكل مقدم ألف أمير طبلخاناه وأمير عشرين وأمير عشرة ومقدم الحلقة‏.‏ فإذا عين السلطان أميرًا إلى جهة من الجهات نزل ذلك الأمير في الوقت وتهيأ بعد أن أعلم مضافيه فيخرج الجميع في الحال - انتهى‏.‏
وكان نظير هؤلاء أيام الخلفاء أهل العطاء وأهل الديوان‏.‏

والقسم الثاني يقال لهم مماليك السلطان ولهم جوامك ورواتب مقررة على ديوان السلطان في كل شهر وكسوة في السنة‏.‏
والقسم الثالث يقال لهم مماليك الأمراء يخدمون الأمراء‏.‏ وكل من هؤلاء لا يدخل مع آخر فيما هو فيه فلذلك كانت عدة عساكر مصر أضعاف ما هي الآن وهؤلاء غير الأمراء‏.‏
ثم تغير ذلك كله في أيام الملك الظاهر برقوق لما وثب على الملك فصارت الأمراء يشترون إقطاعات الحلقة أو يأخذونها من السلطان باسم مماليكهم أو طواشيتهم ثم لا يكفيهم ذلك حتى ينزلوهم أيضًا في بيت السلطان بجامكية فيصير الواحد من مماليك الأمراء جندي حلقة ومملوك سلطان وفي خدمة أمير فيصير رزق ثلاثة أنفس إلى رجل واحد فكثر متحصل قوم وقل متحصل آخرين فضعف عسكر مصر لذلك‏.‏
فعلى هذا الحساب يكون العسكر الآن بثلث ما كان أولا هذا غير ما خرج من الإقطاعات في وجه الرزق والأملاك وغير ذلك وهو شيء كثير جدًا يخرج عن الحد‏.‏ فمن تأمل ما ذكرناه علم ما كان عدة عسكر مصر أولًا وما عدته الآن‏.‏
هذا مع ما خرب من النواحي من كثرة المغارم والظلم المترادف وقلة نظر الحكام في أحوال البلاد ولولا ذلك لكان عسكر مصر لا يقاومه عدو ولا يدانيه عسكر - انتهى‏.‏
ثم في سابع شهر رمضان هذا أفرج السلطان عن الأمير كمشبغا الفيسي أمير آخور - كان - في الدولة الناصرية وعن الأمير قصروه من تمراز وكانا بسجن الإسكندرية وعن الأمير كزل العجمي الأجرود حاجب الحجاب - كان - في الدولة الناصرية من حبس صفد وعن الأمير شاهين نائب الكرك وكان بقلعة دمشق‏.‏
ثم في تاسعه ورد الخبر من حلب بأن قرا يوسف أحرق أسواق عين تاب ونهبها فصالحه أهلها على مائة ألف درهم وأربعين فرسًا فرحل عنها بعد أربعة أيام إلى جهة البيرة‏.‏ وعدى معظم جيشه إلى البر الشرقي في يوم الاثنين سابع عشر شعبان وعدى قرا يوسف من الغد ونزل ببساتين البيرة وحصرها فقاتله أهلها يومين وقتلوا منه جماعة فدخل البلد ونهبها وأحرق أسواقها وقد امتنع الناس منها ومعهم حريمهم بالقلعة ثم رحل في تاسع عشر شعبان إلى بلاده بعد ما أحرق ونهب نواحي البيرة ومعاملتها‏.‏ ولما بلغ السلطان رجوع قرا يوسف إلى بلاده فرح بذلك وسكت عن السفر إلى البلاد الشامية‏.‏
وبينما السلطان في ذلك قدم عليه الخبر أن ابن قرمان مشى على طرسوس وحارب أهلها فقتل من الفريقين خلق كثير ودام القتاد بينهم إلى أن رحل عنها في سابع شعبان من ألم اشتد بباطنه‏.‏ وجلس السلطان في ثالث عشر شهر رمضان لعرض أجناد الحلقة فعرض عليه منهم زيادة على أربعمائة نفس ما بين كبير وصغير وسعيد وفقير فمن كان قطاعه قليل المتحصل أشرك معه غيره‏.‏
ومثال ذلك أن جنديًا يكون متحصل قطاعه في السنة سبعة آلاف درهم فلوسًا وآخر متحصله ثلاثة آلاف فألزم الذي قطاعه يعمل ثلاثة آلاف أن يعطي الذي إقطاعه يعمل سبعة آلاف مبلغ ثلاثة آلاف ليسافر صاحب السبعة آلاف ويقيم صاحب الثلاثة آلاف فهذا نوع‏.‏
ثم أفرد السلطان جماعة ممن متحصل إقطاعاتهم قليلة وجعل كل أربعة منهم مقام رجل واحد يختارون منهم واحدًا يسافر ويقوم الثلاثة الأخر بكلفه‏.‏ ورسم السلطان أن المال المجتمع من أجناد الحلقة يكون تحت يد قاضي القضاة شمس الدين الهروي الشافعي‏.‏ واستمر العرض بعد ذلك في كل يوم سبت وثلاثاء إلى ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى‏.‏
وفي الغد وهو يوم رابع عشر شهر رمضان ورد الخبر على السلطان من طرابلس بنزول التركمان الإينالية والأوشرية على صافيتا من عمل طرابلس جافلين من قرا يوسف وأنهم نهبوا بلادها وأحرقوا منها جانبًا وأن الأمير برسباي الدقماقي نائب طرابلس رجعهم عن ذلك فلم يرجعوا وأمرهم بالعود إلى بلادهم بعد رجوع قرا يوسف فأجابوا بالسمع والطاعة‏.‏
وقبل رحيلهم ركب عليهم الأمير برسباي الدقماقي المذكور بعسكر طرابلس وقاتلهم في يوم الثلاثاء سادس عشرين شعبان فقتل بين الطائفتين خلق كثير منهم الأمير سودون الأسندمري أتابك طرابلس وثلاثة عشرة نفسًا من عسكر طرابلس ثم انهزم الأمير برسباي المذكور بمن بقي معه من عسكر طرابلس عراة على أقبح وجه إلى طرابلس وحصل عليهم من الخوف ما لا مزيد عليه‏.‏
فلما بلغ الملك المؤيد هذا الخبر غضب غضبًا شديدًا ورسم في الحال بعزل برسباي المذكور عن نيابة طرابلس واعتقاله بقلعة المرقب وكتب بإحضار الأمير سودون القاضي نائب الوجه القبلي من أعمال مصر ليستقر في نيابة طرابلس عوضًا عن برسباي هذا وبرسباي المذكور هو الملك الأشرف الأتي ذكره في محله وخلع على الملطي واستقر في نيابة الوجه القبلي عوضًا عن سودون القاضي‏.‏
وقدم سودون القاضي من الوجه القبلي في يوم الاثنين ثامن شوال وقبل الأرض بين يدي السلطان وهو بمخيمه بصرخة سري أقوس‏.‏ وبعد عوده من سرح سري أقوس وغيرها خلع على أتودون القاضي بنيابة طرابلس في خامس عشر شوال وخلع على الأمير كمشبغا الفيسي أحد الأمراء البطالين بالقاهرة باستقراره أتابك طرابلس بعد قتل سودون الأسندمري‏.‏
ثم ركب السلطان أيضًا إلى الصيد وعاد وقد عاوده ألم رجله ولزم الفراش‏.‏
وخلع في سادس عشره على سيف الدين أبي بكر بن قطلوبك المعروف بابن المزوق دوادار ابن أبي الفرج باستقراره أستادارًا عوضًا عن فخر الدين بن أبي الفرج بعد موته ورسم السلطان بالحوطة على موجود ابن أبي الفرج وضبطها فاشتملت تركته على ثلاثمائة ألف دينار وثلاثة مساطير بسبعين ألف دينار وغلال وفرو وقماش بنحو مائة ألف دينار وأخذ السلطان جميع ذلك‏.‏ ثم في حادي عشرينه خرج محمل الحاج صحبة أمير الحاج الأمير جلبان أمير آخور ثان وقد صار أمير مائة ومقدم ألف ورحل من البركة في يوم رابع عشرينه‏.‏
ثم في يوم الخميس ثالث ذي القعدة أمسك السلطان الوزير بدر الدين بن محب الدين الطرابلسي وسلمه إلى الأمير أبي بكر الأستادار بعد إخراق السلطان به ومبالغته في سبه لسوء سيرته وتتبعت حواشيه‏.‏
وخلع السلطان على بدر الدين حسن بن نصر الله الفوي ناظر الخاص باستقراره وزيرًا مضافًا إلى نظر الخاص وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف‏.‏ ثم كتب السلطان بالقبض على قرمش الأعور أتابك حلب وحبسه بقلعتها‏.‏
وفي خامس ذي القعدة ركب السلطان من قلعة الجبل في محفة من ألم رجله ونزل إلى السرحة وعاد في يومه‏.‏
ثم في عاشره ركب السلطان أيضًا ونزل إلى بيت كاتب السر ناصر الدين بن البارزي ببولاق المطل على النيل وعدت العساكر إلى بر الجيزة وبات السلطان هناك ليلته‏.‏ ثم ركب من الغد في يوم الجمعة إلى سرحة بركة الحاج وعاد من يومه وغالب عساكره بالجيزة‏.‏
 ركب من الغد في النيل يريد سرحة البحيرة ونزل بالبر الغربي ثم سار إلى أن انتهى إلى مريوط فأقام بها أربعة أيام ورسم بعمارة بستان السلطان بها وكان تهدم‏.‏
ثم استأجر السلطان مريوط من مباشري وقف الملك المظفر بيبرس الجاشنكير على الجامع الحاكمي ورسم بعمارة سواقيه ومعاهد الملك الظاهر بيبرس البندقداري به وعاد ولم يدخل إلى الإسكندرية إلى أن نزل وردان في يوم عيد الأضحى وصلى به صلاة العيد وخطب القاضي ناصر الدين بن البارزي كاتب السر ثم ركب من الغد وسار حتى قدم بر منبابة وعدى النيل ونزل في بيت كاتب السر ببولاق وأقام به إلى الغد وهو يوم الثلاثاء ثالث عشر ذي الحجة وركب وطلع إلى القلعة كل ذلك وألم رجله يلازمه‏.‏
وبعد طلوعه إلى القلعة رسم للأمراء بالتجهيز إلى سفر الشام صحبة ولده المقام الصارمي إبراهيم كل ذلك والعرض لأجناد الحلقة مستمر وعين منهم للسفر جماعة كبيرة وألزم من يقيم منهم بالمال‏.‏ ثم قدمت إلى الديار المصرية الخاتون أم إبراهيم بن رمضان التركماني من بلاد الشرق وقبلت الأرض بين يدي السلطان فرسم بتعويقها فعوقت‏.‏

ميل منارة الجامع المؤيد
ثم تكرر من الملك المؤيد التوجه إلى الصيد في هذا الشهر غير مرة‏.‏ وهذه السنة هدمت المئذنة المؤيدية وغلق باب زويلة ثلاثين يومًا وعظم ذلك على السلطان إلى الغاية‏.‏
وكانت المئذنة المذكورة عمرت على أساس البرج الذي كان على باب زويلة وعملت الشعراء في ذلك أبياتًا كثيرة‏.‏ وكان القاضي بهاء الدين محمد بن البرجي محتسب القاهرة متولي نظر عمارة الجامع المذكور فقال بعض الشعراء في ذلك‏:‏ الطويل‏.‏ عتبنا على ميل المنار زويلةً وقلنا تركت الناس بالميل في هرج فقالت قريني برج نحس أمالها فلا بارك الرحمن في ذلك البرج قلت صح للشاعر ما قصده من التورية في البرج الذي عمرت عليه وفي بهاء الدين البرجي‏.‏
وقال الحافظ شهاب الدين بن حجر وقصد بالتورية بدر الدين محمود العيني‏:‏ بجامع مولانا المؤيد رونق منارته تزهو من الحسن والزين تقول وقد مالت عن الموضع امهلوا فليس على حسني أضر من العين فأجاب العيني‏:‏ البسيط‏.‏
منارة كعروس الحسن إذ جليت وهدمها بقضاء الله والقدر قالوا أصيبت بعين قلت ذا خطأ ما أوجب الهدم إلا خسة الحجر قلت‏:‏ ساعده قوله خسة الحجر ما كان وقع بسبب هم المنارة المذكورة فإنه كان بني أساسها بحجر صغير ثم عمروا أعلاها بالحجر الكبير فأوجب ذلك ميلها وهدمها بعد فراغها‏.‏
على البرج من بابي زويلة أنشئت منارة بيت الله والمنهل المنجي فأخلى بها البرج اللعين أمالها ألا صرحوا يا قوم باللعن للبرجي وقيل إن ذلك كان في السنة الماضية - انتهى‏.‏

أخذ السلطان في تجهيز ولده الصارمي إبراهيم إلى أن تهيأ أمره وأنفق على الأمراء المتوجهين صحبته‏.‏ فلما كان بكرة يوم الاثنين ثامن عشر المحرم من سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة ركب المقام الصارمي إبراهيم ابن السلطان من قلعة الجبل في أمراء الدولة ومعه عدة من أمراء الألوف المعينة صحبته إلى السفر ونزل بمخيمه من الريدانية خارج القاهرة‏.‏
ثم خرجت أطلاب الأمراء المتوجهة صحبته وهم‏:‏ الأمير قجقار القردمي أمير سلاح والأمير ططر أمير مجلس وجقمق الأرغون شاوي الدوادار الكبير وإينال الأرغزي وجلبان أمير آخور وأركماس الجلباني وهؤلاء من أمراء الألوف وثلاثة من أمراء الطبلخانات وخمسة عشر أمير من العشرات ومائتا مملوك من المماليك السلطانية‏.‏
وأقام الصارمي إبراهيم بمخيمه إلى أن ركب السلطان من قلعة الجبل ونزل إليه بالريدانية في عشرينه وبات عنده بالريدانية ثم ودعه من الغد وركب إلى القلعة‏.‏ ثم رحل المقام الصارمي إبراهيم من الريدانية بمن معه من العساكر في يوم الجمعة ثاني عشرينه وسار إلى البلاد الشامية‏.‏
ثم شرع السلطان في بناء القبة بالحوش السلطاني من قلعة الجبل المعروفة الآن بالبحرة المطلة على القرافة وجاءت في غاية الحسن‏.‏ وأما الصارمي إبراهيم فإنه صار إلى أن وصل دمشق في يوم الاثنين سادس عشر صفر بعد أن خرج إلى تلقيه النواب والعساكر‏.‏
وأقام بدمشق أيامًا وخرج منها يريد البلاد الحلبية إلى أن نزل على تل السلطان في يوم الثلاثاء أول شهر ربيع الأول فخرج إليه نائب حلب الأمير يشبك اليوسفي المؤيدي بعساكر حلب وتلقاه ونزل بظاهر حلب‏.‏
الطاعون
ثم بدأ الطاعون بالديار المصرية‏.‏

هذا والعرض لأجناد الحلقة مستمر فتارة يعرضهم السلطان وتارة الأمير مقبل الحسامي الدوادار الثاني وناظر الجيش علم الدين داود بن الكويز‏.‏ ثم في يوم الخميس سابع عشر ربيع الأول نزل السلطان من القلعة إلى جامعه بالقرب من باب زويلة واستدعى به قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن البلقيني وخلع عليه خلعة القضاء بعد عزل القاضي شمس الدين الهروي‏.‏ ونزل البلقيني بالخلعة من باب الجامع الذي من تحت الربع وشق القاهرة وكان له مشهد عظيم‏.‏
هذا والطاعون قد فشا بالديار وتزايد بها وبأعمالها فلما كان يوم الخميس ثامن شهر ربيع الأخر من سنة اثنتين وعشرين المذكورة نودي في الناس من قبل المحتسب الشيخ صدر الدين بن العجمي أن يحوموا ثلاثة أيام آخرها يوم الخميس خامس عشره ليخرجوا في ذلك اليوم مع السلطان الملك المؤيد إلى الصحراء فيدعو الله في رفع الطاعون عنهم‏.‏
ثم أعيد النداء في ثاني عشره أن يصوموا من الغد فتناقص عدد الأموات فيه فأصبح كثير من الناس صيامًا فصاموا يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس‏.‏ فلما كان يوم الخميس المذكور نودي في الناس بالخروج إلى الصحراء من الغد وأن يخرج العلماء والفقهاء ومشايخ الخوانق وصوفيتها وعامة الناس‏.‏
ونزل الوزير بدر الدين حسن بن نصر الله والتاج الشوبكي أستادار الصحبة إلى تربة الملك الظاهر برقوق فنصبوا المطابخ بالحوش القبلي منها وأحضروا الأغنام والأبقار وباتوا هناك في تهيئة الأطعمة والأخباز‏.‏
ثم ركب السلطان بعد صلاة الصبح ونزل من قلعة الجبل بغير أبهة الملك بل عليه ملوطة صوف أبيض بغير شد في وسطه وعلى كتفيه مئزر صوف مسدل كهيئة الصوفية وعلى رأسه عمامة صغيرة ولها عذبة مرخاة من بين لحيته وكتفه الأيسر وهو بتخشع وانكسار ويكثر من التلاوة والتسبيح وهو راكب فرسًا بقماش ساذج ليس فيه ذهب ولا فضة ولا حرير‏.‏
هذا وقد أقبل الناس إلى الصحراء أفواجًا وسار شيخ الإسلام قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن البلقيني الشافعي من منزله بحارة بهاء الدين ماشيًا إلى الصحراء في عالم كثير‏.‏
ثم سار غالب أعيان مصر إلى الصحراء ما بين راكب وماش حتى وافوا السلطان بالصحراء قريبًا من قبة النصر ومعهم الأعلام والمصاحف ولهم بذكر الله تعالى أصوات مرتفعة من التهليل والتكبير‏.‏
فلما وصل السلطان إلى مكان الجمع بالصحراء ونزل عن فرسه وقام على قدميه وعن يمينه وشماله الخليفة والقضاة وأهل العلم ومن بين يديه وخلفه طوائف من الصوفية ومشايخ الزوايا وغيرهم لا يحصيهم إلا الله تبارك تعالى فبسط السلطان يديه ودعا الله سبحانه وتعالى وهو يبكي وينتحب والجم الغفير يراه ويؤمن على دعائه‏.‏
وطال قيامه في الدعاء وكل أحد يدعو الله تعالى ويتضرع إلى أن استتم الدعاء وركب يريد الحوش السلطاني الظاهري حيث مد الطعام والناس في ركابه وبين يديه من غير أن يمنعهم من ذلك مانع وسار حتى نزل بالحوش المذكور من التربة الظاهرية وقدم له الأسمطة فأكل منها وأكل الناس معه‏.‏
ثم ذبح بيده قربانًا - قربه إلى الله تعالى - نحو مائة وخمسين كبشًا سمينًا من أثمان خمسة دنانير الواحد‏.‏
ثم ذبح عشر بقرات سمان وجاموستين وجملين كل ذلك وهو يبكي ودموعه تنحدر على لحيته بحضرة الملأ من الناس‏.‏
ثم ترك القرابين على مضاجعها كما هي للناس وركب إلى القلعة فتولى الوزير التاج تفرقتها صحاحًا على أهل الجوامع المشهورة والخوانق وقبة الإمام الشافعي والإمام الليث بن سعد والمشهد النفيسي وعدة أخر من الزوايا حملت إليها صحاحًا‏.‏
وقطع منها عدة بالحوش فرقت لحمًا على الفقراء‏.‏ وفرق من الخبز النقي في اليوم المذكور عدة ثمانية وعشرين ألف رغيف وعدة قدور كبار مملوءة بالطعام الكثير وأخذ الطعام الكثير‏.‏ وأخذ الطاعون من يومئذ في النقص بالتدريج‏.‏
ثم قدم على السلطان الخبر في ثاني عشرين شهر ربيع الآخر برحيل المقام الصارمي إبراهيم من مدينة حلب بعساكره والعساكر الشامية وأنه دخل إلى مدينة قيسارية فحضر إليه أكابر البلد من القضاه والمشايخ والصوفية فتلقوه فألبسهم الخلع وطلع قلعتها يوم الجمعة وخطب في جوامعها للسلطان وضربت السكة باسمه وأن شيخ جلبي نائب قيسارية تسحب منها قبل وصول العساكر إليها وأن ابن السلطان خلع على محمد بك بن قرمان وأقره في نيابه السلطنة قيسارية‏.‏
فدقت البشائر بقلعة الجبل لذلك وفرح السلطان بأخذ قيسارية فرحًا عظيمًا فإن هذا شيء لم يتفق لملك من ملوك الترك بالديار المصرية سوى الملك الظاهر بيبرس ثم انتقض الصلح بينه وبين أهلها حسبما ذكرناه في ترجمته من هذا الكتاب - انتهى‏.‏
ولما استهل جمادى الأولى تناقص فيه الطاعون حتى كان الذي ورد اسمه في أوله من الأموات قال الشيخ تقي الدين المقريزي‏:‏ وكان عدة من مات بالقاهرة وورد اسمه الديوان - من العشرين من صفر وإلى سلخ شهر ربيع الآخر - سبعة آلاف وستمائة واثنتين وخمسين نفسًا‏:‏ الرجال ألف وخمسة وستون رجلًا والنساء ستمائة وتسع وستون امرأة والصغار ثلاثة آلاف وتسعمائة وتسعة وستون والعبيد خمسمائة وأربعة وأربعون والإماء ألف وثلاثمائة وتسع وستون والنصارى تسعة ستون واليهود اثنان وثلاثون وذلك سوى البيمارستان وسوى ديوان مصر سوى من لا يرد اسمه الدواوين ولا يقصر ذلك عن تتمة عشرة آلاف‏.‏
ومات بقرى الشرقية والغربية مثل ذلك وأزيد‏.‏
قلت‏:‏ وقول الشيخ تقي الدين ولا يقصر ذلك عن تتمة عشرة الآف فقد مات في طاعون سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة في يوم واحد بالقاهرة وظواهرها نحو عشرة آلاف إنسان واستمر ذلك أيامًا ما بين ثمانية آلاف وتسعة آلاف وعشرة آلاف حسبما يأتي ذكره إن شاء الله في محله في ترجمة الملك الأشرف برسباي الدقماقي - انتهى‏.‏
وفي يوم الأحد ثاني جمادى الأولى المذكور ولد للسلطان الملك المؤيد ولده الملك المظفر أحمد من زوجته خوند سعادات بنت الأمير درغتمش‏.‏ م في سابع جمادى الأولى استدعى السلطان بطرك النصاري وقد اجتمع القضاة ومشايخ العلم عند السلطان فأوقف البطرك على قدميه ووبخ وقرع وأنكر عليه السلطان ما بالمسلمين من الذل في بلاد الحبشة تحت حكم الحطي متملكها وهدد بالقتل فانتدب له الشيخ صدر الدين أحمد بن العجمي محتسب القاهرة فأسمعه المكروه من أجل تهاون النصارى فيما أمروا به في ملبسهم وهيئاتهم وطال كلام العلماء مع السلطان في ذلك إلى أن استقر الحال بأن لا يباشر أحد منهم في ديوان السلطان ولا عند أحد من الأمراء ولا يخرج أحد منهم عما ألزموا به من الصغار‏.‏
ثم طلب السلطان الأكرم فضائل النصراني كاتب الوزير - وكان قد سجن من أيام - فضربه السلطان بالمقارع وشهره بالقاهرة عريانًا بين يدي المحتسب وهو ينادي عليه‏:‏ هذا جزاء من يباشر من النصارى في ديوان السلطان ثم سجن أيضًا بعد إشهاره‏.‏ وصمم السلطان في ذلك حتى انكف النصارى عن المباشرة في سائر دواوين الديار المصرية ولزموا بيوتهم وصغروا عمائمهم وضيقوا أكمامهم والتزم اليهود مثل ذلك وامتنعوا جميعهم من ركوب الحمير بحيث إن العامة صارت إذا رأوا نصرانيًا على حمار ضربوه وأخذوا حماره وما عليه فصاروا لا يركبون الحمار إلا بخارج القاهرة‏.‏

وبذل النصارى جهدهم في السعي إلى عودهم إلى المباشرة وأوعدوا بمال كبير وساعدتهم كتاب الأقباط فلم يلتفت السلطان إلى قولهم وأبى إلا ما رسم به من المنع‏.‏
قلت‏:‏ ولعل الله أن يسامح الملك المؤيد بهذه الفعلة عن جميع ذنوبه فإنها من أعظم الأمور في نصرة الإسلام ومباشرة هؤلاء النصارى في دواوين الديار المصرية من أعظم المساوئ التي يؤول منها تعظيم دين النصرانية لأن غالب الناس من المسلمين تحتاج إلى التردد إلى أبواب أرباب الدولة لقضاء حوائجهم فمهما كان لهم من الحوائج المتعلقة بديوان ذلك الرئيس فقد احتاجوا إلى التواضع والترفق إلى من بيده أمر الديوان المذكور نصرانيًا كان أو يهوديًا أو سامريًا وقد قيل في الأمثال صاحب الحاجة أعمى لا يريد إلا قضاءها‏.‏
فمنهم من يقوم بين يدي ذلك النصراني على قدميه والنصراني جالس ساعات كثيرة حتى يقضي حاجته بعد أن يدعو له ويتأدب معه تأدبًا لا يفعله مع مشايخ العلم ومنهم من يقبل كتفه ويمشي في ركابه إلى بيته إلى أن تقضى حاجته‏.‏
وأما فلاحو القرى فإنه ربما النصراني المباشر يضرب الرجل منهم ويهينه ويجعله في الزنجير ويزعم بذلك خلاص مال أستاذه وليس الأمر كذلك وإنما يقصد التحكم في المسلمين لا غير فهذا هو الذي يقع للأسير من المسلمين في بلاد الفرنج بعينه لا زيادة على ذلك غير أنه يملك رقه‏.‏
وقد حدثني بعض الثقات من أهل صعيد مصر قال‏:‏ كان غالب مزارعي بلدنا أشرافًا علوية والعامل بالبلد نصرانيًا فإذا قدم العامل إلى البلد خرج الفلاحون لتلقيه فمنهم من يسلم عليه السلام المعتاد ومنهم من يفشي السلام عليه ويمعن في ذلك ومنهم من يمشي في ركابه إلى حيث ينزل من البلد ومنهم من يقبل يده - وهو الفقير المحتاج أو الخائف من صاحب البلد - ويسأله إصلاح شأنه فيما هو مقرر عليه من وزن الخراج حتى يسمح له بذلك فلما منع الملك المؤيد هؤلاء النصارى عن المباشرة بطل ذلك كله فيكون الملك المؤيد على هذا الحكم فتح مصر فتحًا ثانيًا وأعلى كلمة الإسلام وأخذل كلمة الكفر ولا شيء عند الله أفضل من ذلك‏.‏
ولما لم يجب النصارى إلى عودهم إلى ما كانوا عليه من المباشرات بالديار المصرية وأعياهم أمر السلطان وثباته وانقطع عنهم ما ألفوه من التحكم في المسلمين - ويقال‏:‏ إن العادة طبع خامس - شق عليهم ذلك فتتابع عدة منهم في إظهار دين الإسلام وتلفظوا بالشهادتين في الظاهر والله سبحانه وتعالى متولي السرائر‏.‏
قال المقريزي - بعد أن ذكر نوعًا مما قلناه بغير هذه العبارة - قال‏:‏ فصاروا من ركوب الحمير إلى ركوب الخيل والتعاظم على أعيان أهل الإسلام والانتقام منهم بإذلالهم وتعويق معاليمهم ورواتبهم حتى يخضعوا لهم ويترددوا إلى دورهم ويلحوا في السؤال - فلا قوة إلا بالله‏.‏ انتهى كلام المقريزي باختصار‏.‏

قلت‏:‏ ويمكن إصلاح هذا الشأن الثاني أيضًا - إن صلح الراعي ونظر في أحوال الرعية وانتصر لدينه - بسهولة هو أنه يكف من كان قريب عهد منهم من دين النصرانية عن المباشرة - انتهى‏.‏
ثم قدم الخبر على السلطان بتوجه ابن السلطان من مدينة قيسارية إلى مدينة قونية في خامس عشر شهر ربيع الآخر بعد ما مهد أمور قيسارية ونقش اسم السلطان على بابها وأن الأمير تنبك ميق نائب الشام لما وصل إلى العمق حضر إليه الأمير حمزة بن رمضان بجماعة من التركمان وتوجه معه هو وابن أوزر إلى قريب مصيصة وأخذ أذنة وطرسوس فسر السلطان بذلك سرورًا عظيمًا‏.

‏ ثم نادى محتسب القاهرة على النصارى واليهود بتشديد ما أمرهم به من الملبس والعمائم وشدد عليهم في ذلك فلما اشتد الأمر عليهم سعوا في إبطال ذلك سعيًا كبيرًا فلم ينالوا غرضًا ‏.‏
ثم قدم الخبر على السلطان بأن ابن السلطان وصل إلى نكدة في ثامن عشر شهر ربيع الآخر فتلقاه أهلها وقد عصت عليه قلعتها فنزل عليها وحاصرها وركب عليها المنجنيق وعمل النقابون فيها وأن محمد بن قرمان تسحب من نكدة في مائة وعشرين فارسًا هو وولده مصطفى‏.‏ كل ذلك والسلطان ملازم الفراش من ألم رجله والأسعار مرتفعة‏.‏
ثم في ثاني عشر جمادى الآخرة ورد الخبر بأن ابن السلطان حاصر قلعة نكدة سبعة وعشرين يومًا إلى أن أخذها عنوة في رابع عشر جمادى الأولى وقبض على من كان فيها وقيدهم وهم مائة وثلاثة عشر رجلًا‏.‏ ثم توجه في سادس عشر جمادى الأولى إلى مدينة لارندة‏.‏ ثم في سابع عشرين جمادى الأولى ركب السلطان من القلعة وأراد النزول بدار ابن البارزي على النيل ببولاق فلم يطق ركوب الفرس وحركته لما به من ألم رجله فركب في محفة إلى البحر وحمل منها إلى الدار المذكورة وصارت الطبلخاناه تدق هناك وتمد الأسمطة وتعمل الخدمة على ما جرت به العادة بقلعة الجبل‏.‏
ونزل الأمراء في الدور التي حول بيت ابن البارزي وغيرها‏.‏
واستمر السلطان في بولاق إلى أن استهل شهر رجب الفرد في بيت ابن البارزي وهو يتنقل منه - وهو محمول على الأعناق - تارة إلى الحمام التي بالحكر وتارة يوضع في الحراقة وتسير به على ظهر النيل فيسير فيها إلى رباط الآثار ثم يحمل من الحراقة إلى رباط الآثار المذكور ثم يعود إلى بيت ابن البارزي وتارة يسير فيها إلى القصر ببر الجيزة بحري منبابة وتارة يقيم بالحراقة وهو بوسط النيل نهاره كله‏.‏
وقدم عليه الخبر في ثاني عشر شهر رجب المذكور أن ابن السلطان لما تسلم نكدة استناب بها علي بك بن قرمان ثم توجه بالعساكر إلى مدينة أركلي فوصلها ثم رحل منها إلى مدينة لارندة فقدمها في ثاني عشرين جمادى الآخرة وبعث بالأمير يشبك اليوسفي نائب حلب فأوقع بطائفة من التركمان وأخذ أغنامهم وجمالهم وخيولهم وموجودهم وعاد فبعث الأمير ططر والأمير سودون القاضي نائب طرابلس والأمير شاهين الزردكاش نائب حماة والأمير مراد خجا نائب صفد والأمير إينال الأرغزي والأمير جلبان رأس نوبة سيدي المقام الصارمي إبراهيم وجماعته من التركمان فكبسوا على محمد بن قرمان بجبال لارندة في ليلة الجمعة سادس جمادى الآخرة ففر محمد بن قرمان منهم فأخذ جميع ما كان في وطاقه من خيل وجمال وأغنام وأثقال وقماش وأواني فضة وبلور وعاد الأمراء بتلك الغنائم‏.‏
فاقتضى عند ذلك رأي ابن السلطان ومن معه الرجوع إلى حلب فعادوا في تاسع شهر رجب فجهز السلطان إلى ولده بحلب ستة آلاف دينار ليفرقها على الأمراء ورسم له بأن يقيم بحلب لعمارة سورها وسار البريد بذلك‏.‏ ثم ركب السلطان في رابع عشر شهر رجب من بيت ابن البارز ببولاق بالحراقة إلى بيت التاجر نور الدين الخروبى ببر الجيزة تجاه المقياس وكان في مدة إقامته في بيت ابن البارزي قد أحضر الحراريق من ساحل مصر إلى ساحل بولاق وزينت بأفخر زينة وأحسنها وصار السلطان يركب في الحراقة الذهبية وبقية الحراريق سائرة معه مقلعة ومنحدرة وتلعب بين يديه كما كانت العادة في تلك الأيام عند وفاء النيل ودوران المحمل في نصف شهر رجب‏.‏
ولما كان أيام دوران المحمل على العادة في كل سنة رسم السلطان لمعلم الرمح أن يعلم الرماحة أن يسوقوا المحمل بساحل بولاق - وكان ساحل بولاق يوم ذاك برًا وسيعًا ينظر الجالس في بيت ابن البارزي مدد عينه من جهة فم الخور - فتوجه المعلم بالرماحة هناك في يوم المحمل وساقوا بين يديه كما يسوقون في بركة الحبش أيام أزمانهم وبالرميلة في يوم المحمل وتفرجت الناس على المحمل في بولاق ولم يقع مثل ذلك في سالف الأعصار فصار الشخص يجلس بطاقته فيتفرج على المحمل وعلى البحر معًا‏.‏
فلما كان قريب الوفاء ركب السلطان في الحراقة الذهبية والحراريق بين يديه بعد أن أقاموا بالزينة أيامًا والناس تتفرج عليهم وسار حتى نزل بالخروبية فأرست الحراريق المزينة على ساحل مصر بدار النحاس كما هي عادتها في السنين الماضية إلى أن كان يوم الوفاء وهو يوم سادس عشر رجب فركب السلطان من الخروبية في الحراقة وسار إلى المقياس ومعه الأمراء وأرباب الدولة حتى خلق المقياس على العادة‏.‏
ثم سار في خليج السد حتى فتحه وركب فرسه في عساكره وعاد إلى القلعة فكانت غيبته عن القلعة في نزهته ثلاثين يومًا بعدما انقضى للناس بساحل بولاق في تلك الأيام من الاجتماعات والفرج أوقات طيبة إلى الغاية لم يسمع بمثلها ولم يكن فيها - بحمد الله - شيء مما ينكر كالخمور وغيرها وذلك لإعراض السلطان عنها منذ لازمه ألم رجله‏.‏
ثم قم الخبر على السلطان بوصول ولده المقام الصارمي بعساكره إلى حلب في ثالث شهر رجب وأن الأمير تنبك العلائي ميق نائب الشام واقع مصطفى وأباه محمد بن قرمان وإبراهيم بن رمضان على أدنة فانهزموا منه أقبح هزيمة‏.‏
ثم في عشرين شعبان تزايد ألم السلطان ولم يحمل إلى القصر السلطاني ولزم الفراش واشتد به المرض‏.‏ وخلع على التاج ابن سيفة باستقراره أمير حاج المحمل‏.‏
ثم نصل السلطان من مرضه قليلًا فركب في يوم سابع عشرين شعبان من القلعة ونزل للفرجة على سباق الخيل‏.‏ فسار بعساكره سحرًا ووقف بهم تحت قبة النصر وقد أعد للسباق أربعين فرسًا فأطلق أعنتها من بركة الحاج فأجرب منها حتى أتته ضحى النهار فحصل له برؤيتها النشاط‏.‏
ورجع من موقفه إلى تربة الملك الظاهر برقوق ووقف قريبًا منها دون الساعة ثم بعث المماليك والجنائب والشطفة إلى القلعة وتوجه إلى خليج الزعفران فنزل بخاصته وأقام به إلى آخر النهار وركب إلى القلعة‏.‏
ثم في‏.‏ سلخ شعبان ركب السلطان أيضًا من قلعة الجبل إلى بركة الحبش وسابق بالهجن ثم عاد إلى القلعة‏.‏ ثم في يوم الخميس أول شهر رمضان قدم الخبر أن ابن السلطان رحل من حلب في رابع عشر شعبان وأن محمد بن قرمان وولده مصطفى وإبراهيم بن رمضان وصلوا إلى قيسارية في سادس عشر شعبان وحصروا بها الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر نائبها فقاتلهم حتى كسرهم ونهب ما كان معهم وقتل مصطفى وحملت رأسه وقبض على أبيه محمد بن قرمان - فسجن بها‏.‏
ثم قدم رأس مصطفى بن محمد بن علي بك بن قرمان إلى القاهرة في يوم الجمعة سادس عشر شهر رمضان فطيف به بشوارع القاهرة على رمح ثم غلق على باب النصر أحد أبواب القاهرة‏.‏

وقدم الخبر أيضًا بمسير ابن السلطان من حلب وقدومه إلى دمشق في خامس شهر رمضان فأرسل السلطان الإقامات إلى ولده إلى أن كان يوم سابع عشرين شهر رمضان المذكور من سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة فركب السلطان من قلعة الجبل ونزل إلى لقاء ولده المقام الصارمي إبراهيم وقد وصل إلى قطيا فسار السلطان إلى بركة الحاج واصطاد بها‏.‏
ثم ركب ومضى إلى جهة بلبيس فقدم عليه الخبر بنزول ابن السلطان الصالحية فتقدم الأمراء عند ذلك وأرباب الدولة حتى وافوه بمنزلة الخطارة‏.‏ فلما عاينته الأمراء ترجلوا عن خيولهم وسلموا عليه واحدًا بعد واحد حتى قدم عليه القاضي ناصر الدين بن البارزي كاتب السر فنزل له المقام الصارمي عن فرسه - ولم ينزل لأحد قبله لما يعلمه من تمكنه وخصوصيته عند أبيه الملك المؤيد - وركب الجميع في خدمته وعادوا بين يديه إلى العكرشة والسلطان واقف بها على فرسه‏.‏
فنزل الأمراء المسافرون وقبلوا الأرض بين يدي السلطان ثم قبلوا يده واحدًا بعد واحد إلى أن انتهى سلامهم فنزل المقام الصارمي عن فرسه وقبل الأرض ثم قام ومشى حتى قبل الركاب السلطاني فبكى السلطان من فرحه بسلامة ولده وبكى الناس لبكائه فكانت ساعة عظيمة‏.‏
ثم سارا بموكبيهما الشامي والمصري إلى سرياقوس وباتا بها ليلة الخميس تاسع عشرين شهر رمضان المذكور‏.‏ وتقدمت الأثقال والأطلاب ودخلوا القاهرة‏.‏ وركب السلطان آخر الليل ورمى الطير بالبركة‏.‏ ثم قدم عليه الخبر بكرة يوم الخميس بوصول الأمير تنبك ميق نائب الشام وكالت قد طلب فوافى ضحىً وركب في الموكب السلطاني‏.‏
ودخل السلطان من باب النصر فشق القاهرة - وقد زينت لقدوم ولده - والأمراء عليها التشاريف وعلى المقام الصارمي أيضًا تشريف عظيم إلى الغاية وخلفه الأسراء الذين أخذوا من قلعة نكدة وغيرها في الأغلال والقيود وهم نحو المائتين كلهم مشاة إلا أربعة فإنهم على خيول منهم نائب نكدة وثلاثة من أمراء ابن قرمان وكلهم في الحديد‏.‏
فسار الموكب إلى أن وصل السلطان وولده إلى القلعة فكان يومًا مشهودًا إلى الغاية لم ينله أحد من ملوك مصر فلهجت الناس بأن الملك المؤيد قد تم سعده‏.‏ كل ذلك والسلطان لا يستطيع المشي من ألم رجله‏.‏ وأصبح يوم السبت أول شوال فصلى صلاة العيد بالقصر لعجزه عن المضي إلى الجامع لشدة ألم رجله وامتناعه من النهوض على قدميه‏.‏
ثم في ثالث شوال خلع على الأمير جقمق الأرغون شاوي الدوادار الكبير باستقراره في نيابة الشام عوضًا عن تنبك العلائي ميق بحكم عزله وخلع على الأمير مقبل الحسامي الدوادار الثاني باستقراره دوادارًا كبيرًا على إمرة طبلخاناه وأنعم السلطان بإقطاع جقمق الدوادار على الأمير تنبك ميق‏.‏
ثم في رابع شوال المذكور خلع السلطان أيضًا على الأمير قطلوبغا التنمي أحد مقدمي الألوف بالديار المصرية واستقر في نيابة صفد عوضًا عن الأمير قرامراد خجا ورسم بتوجه قرامراد خجا إلى القدس بطالًا وأنعم بإقطاع قطلوبغا التنمي على الأمير جلبان الأمير آخور الثاني وأنعم بإقطاع جلبان ووظيفته على الأمير آقبغا التمرازي فتجهز جقمق بسرعة وخرج في يوم سابع عشرة من القاهرة متوجها إلى محل كفالته بدمشق‏.‏
ثم في يوم الجمعة حادي عشرينه نزل السلطان إلى جامعه بالقرب من باب زويلة وقد هيئت به المطاعم والمشارب فمد بين يديه سماط عظيم فأكل السلطان منه والأمراء والقضاة والعسكر وملئت الفسقية التي‏.‏ بصحن الجامع سكرًا مذابًا فشرب الناس منه ثم أحضر الحلاوات كل ذلك لفراغ الجامع المذكور ولإجلاس قاضي القضاة شمس الدين محمد بن الديري الحنفي في مشيخة الصوفية وتدريس الحنفية وفرشت السجادة لابن الديري في المحراب وقرر خطابة الجامع المذكور للقاضي ناصر الدين محمد بن البارزي كاتب السر‏.‏
ثم عرض السلطان الفقهاء وقرر منهم من اختاره في الوظائف والتصوف‏.‏ ثم استدعى قاضي القضاة شمس الدين بن الديري وألبسه خلعةً باستقراره في المشيخة وجلس بالمحراب والسلطان وولده الصارمي إبراهيم عن يساره والقضاة عن يمينه ويليهم مشايخ العلم وأمراء الدولة فألقى ابن الديري درسًا عظيمًا وقع فيه أبحاث ومناظرات بين الفقهاء والملك المؤيد يصغي لهم ويعجبه الصواب من قولهم ويسأل عما لا يفهمه حتى يفهمه‏.‏
قلت‏:‏ هذا هو المطلوب من الملوك الفهم والذوق لينال كل ذي رتبة رتبته وينصف أرباب الكمالات - بين يديه - من كل فن فوا أسفاه على ذلك الزمان وأهله‏!‏ واستمر البحث بين الفقهاء إلى أن قرب وقت الصلاة ثم انفضوا‏.‏
واستمر السلطان جالسًا بمكانه إلى أن حان وقت الصلاة‏.‏ وتهيأ السلطان وكل أحد للصلاة فخرج القاضي ناصر الدين بن البارزي من بيت الخطابة وصعد المنبر وخطب خطبةً بليغةً فصيحةً من إنشائه ثم نزل وصلى بالناس صلاة الجمعة‏.‏
فلما انقضت الصلاة خلع السلطان عليه باستقراره في خطابة ثم ركب السلطان من الجامع المذكور وعدى النيل إلى بر الجيزة فأقام به إلى يوم الأحد ثالث عشرينه وعاد إلى القلعة‏.‏ ثم ركب من القلعة في يوم الأحد أول ذي القعدة للصيد وعاد من يومه‏.‏
وفي يوم ثالثه سار الأمير الكبير ألطنبغا القرمشي والأمير طوغان الأمير آخور الكبير للحج على الرواحل من غير ثقل‏.‏
ثم في يوم الجمعة سادس ذي القعدة خلع السلطان على القاضي زين الدين عبد الرحمن بن علي بن عبد الرحمن التفهني الحنفي باستقراره قاضي قضاة الحنفية عوضًا عن قاضي القضاة شمس الدين محمد بن الديري المستقر في مشيخة الجامع المؤيدي برغبة ابن الديري فإنه كان من حادي عشرين شوال قد انجمع عن الحكم بين الناس ونوابه تقضي‏.‏ وفيه أيضًا عدى السلطان النيل يريد سرحة البحيرة وجعل نائب الغيبة الأمير إينال الأرغزي وسار السلطان حتى وصل مريوط‏.‏
وعاد فأدركه عيد الأضحى بمنزلة الطرانة فصلى بها العيد وخطب كاتب سره القاضي ناصر الدين ابن البارزي‏.‏ قلت‏:‏ هكذا يكون كتاب سر الملوك أصحاب علم وفضل ونظم ونثر وخطب وإنشاء لا مثل جمال الدين الكركي وشهاب الدين بن السفاح‏.‏
ثم ارتحل السلطان من الغد وسار حتى نزل ببر منبابة بكرة يوم الأحد ثالث عشر ذي الحجة‏.‏ وعدى النيل من الغد ونزل ببيت كاتب السر ابن البارزي وبات به ودخل الحمام التي أنشأها كاتب السر بجانب داره‏.‏ ثم عاد السلطان في يوم الاثنين رابع عشر ذي الحجة إلى القلعة وخلع على الأمراء والمباشرين على العادة‏.‏ ثم نزل السلطان في يوم الجمعة ثامن عشره إلى الجامع المؤيدي وصلى به الجمعة وخطب به كاتب السر ابن البارزي‏.‏ ثم حضر من الغد الأمير محمد بك بن علي بك بن قرمان صاحب قيسارية وقونية ونكدة ولارندة وغيرها من البلاد وهو مقيد محتفظ به فأنزل في دار الأمير مقبل الدوادار ووكل به إلى ما سيأتي ذكره‏.‏ ثم في يوم الجمعة ثالث المحرم وصل الأمير الكبير ألطنبغا القرمشي والأمير طوغان أمير آخور من الحجاز فكانت غيبتهما عن مصر تسعة وخمسين يومًا‏.‏
وفيه استقر الأمير شاهين الزردكاش نائب حماة في نيابة طرابلس عوضًا عن سودون القاضي واستقر في نيابة حماة عوضًا عن شاهين المذكور الأمير إينال الأرغزي النوروزي نائب غزة واستقر عوضه في نيابة غزة الأمير أركماس الجلباني أحد مقدمي الألوف بالديار المصرية‏.‏ ثم أفرج السلطان عن الأمير نكباي حاجب دمشق من سجنه بقلعة دمشق واستقر في نيابة طرسوس وأحضر نائبها الأمير تنبك أميرًا إلى حلب‏.‏ واستقر الأمير خليل الدشاري أحد أمراء الألوف بدمشق في حجوبية الحجاب بدمشق وكانت شاغرةً منذ أمسك نكباي‏.‏ واستقر الأمير سنقر نائب قلعة دمشق‏.‏
واستقر الأمير آقبغا الأسندمري الذي كان ولي نيابة سيس ثم حمص حاجبًا بحماة عوضًا عن الأمير سودون السيفي علان بحكم عزله واعتقاله وكان بطالًا بالقدس‏.‏ ثم في سادس عشر المحرم نقل الشيخ عز الدين عبد العزيز البغدادي من تدريس الحنابلة بالجامع المؤيدي إلى قضاء الحنابلة بدمشق واستقر عوضه في التدريس بالجامع المذكور العلامة محب الدين أحمد بن نصر الله البغدادي‏.‏
ثم في يوم الاثنين خامس صفر ركب السلطان من القلعة وعدى النيل ونزل بناحية وسيم على العادة في كل سنة وأقام بها إلى عشرين صفر فركب وعاد من وسيم إلى أن عدى النيل ونزل ببيت كاتب السر وبات به‏.‏ وعمل الوقيد في ثاني عشرينه ثم ركب من الغد إلى القلعة‏.‏ ثم في سادس عشرينه نزل السلطان من القلعة إلى بيت الأمير أبي بكر الأستادار وعاده في مرضه فقدم له أبو بكر تقدمةً هائلة‏.‏
واستمر أبو بكر مريضًا إلى أن مات وتولى الأستادارية بعده الأمير يشبك المؤيدي المعروف بأنالي - أي له أم - في يوم الخميس ثالث عشر شهر ربيع الأول‏.‏ ثم في هذا الشهر تحرك عزم السلطان على السفر إلى بلاد الشرق لقتال قرا يوسف وأخذ في الأهبة لذلك وأمر الأمراء بعمل مصالح السفر فشرعوا في ذلك‏.‏ هذا وهو لا يستطيع الركوب ولا النهوض من شدة ما به من الألم الذي تمادى برجله وكسحه ولا ينتقل من مكان إلى آخر إلا على أعناق المماليك وهو مع ذلك له حرمة ومهابة في القلوب لا يستطيع أخصاؤه النظر إلى وجهه إلا بعد أن يتلطف بهم ويباسطهم حتى يسكن روعهم منه‏.‏
ثم في أول شهر ربيع الآخر وقع الشروع في بناء منظرة على الخمس وجوه بجوار التاج الخراب خارج القاهرة بالقرب من كوم الريش لينشىء السلطان حوله بستانًا جليلًا ودورًا ويجعل ذلك عوضًا عن قصور سرياقوس ويسرح إليها كما كانت الملوك تسرح إلى سرياقوس منذ أنشأها الملك الناصر محمد بن قلاوون‏.‏ ثم في ثالث عشر شهر ربيع الأخر المذكور ابتدأ بالسلطان ألم تجدد عليه من حبسة الإراقة مع ما يعتريه من ألم رجله واشتد به وتزايد ألم رجله‏.‏
فلما كان يوم الأربعاء رابع عشرين الشهر المذكور نادى السلطان بإبطال مكس الفاكهة البلدية والمجلوبة وهو في كل سنة نحو ستة الأف دينار سوى ما يأخذه الكتبة والأعوان فبطل ونقش ذلك على باب الجامع المؤيدي‏.‏ ثم في يوم الخميس ثاني جمادى الأولى ابتدأ بالمقام الصارمي إبراهيم ابن السلطان الملك المؤيد مرض موته ولزم الفراش بالقلعة إلى يوم الثلاثاء رابع عشره فركب من القلعة في محفة لعجزه عن ركوب الفرس ونزل إلى بيت القاضي زين الدين عبد الباسط بن خليل ناظر الخزانة ببولاق وأقام به ثم ركب من الغد في النيل وعدى إلى الخروبية ببر الجيزة وأقام بها وقد تزايد مرضه‏.‏
وأما السلطان فإنه ركب من القلعة في يوم ثاني عشر جمادى الأولى المذكور وتوجه إلى منظرة الخمس وجوه وشاهد ما عمل هناك ورتب ما اقتضاه نظره من ترتيب البناء وعاد إلى بيت صلاح الدين خليل بن الكويز ناظر الديوان المفرد المطل على بركة الرطلي فأقام فيه نهاره وعاد من آخره إلى القلعة‏.‏ ثم في يوم السبت خامس عشرينه خلع السلطان على الشيخ شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان البساطي المالكي شيخ الخانقاه الناصرية فرج باستقراره قاضي قضاة المالكية بعد وفاة القاضي جمال الدين عبد الله بن مقداد الأقفهسي‏.‏

ثم في يوم الأربعاء تاسع عشرينه نزل السلطان من القلعة وتوجه إلى الميدان الكبير الناصري بموردة الجبس وكان قد خرب وأهمل أمره منذ أبطل الملك الظاهر برقوق الركوب إليه ولعب الكرة فيه وتشعثت قصوره وجدرانه وصار منزلًا لركب الحاج من المغاربة‏.‏
فرسم السلطان في أول هذا الشهر للصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله بعمارته فلما انتهى نزل السلطان إليه في هذا اليوم وشاهد ما عمر به فأعجبه ومضى إلى بيت ابن البارزي ببولاق وقد تحول المقام الصارمي إبراهيم من الخروبية إلى قاعة الحجازية فزاره السلطان غير مرة بالحجازية وأنزل بالحريم السلطاني إلى بيت ابن البارزي فأقاموا عنده‏.‏
فلما كان يوم الجمعة أول جمادى الآخرة صلى السلطان صلاة الجمعة بالجامع الذي جدده ابن البارزي تجاه بيته وكان هذا الجامع يعرف قديمًا بجامع الأسيوطي وخطب به وصلى قاضي القضاة جلال الدين البلقيني‏.‏ ثم ركب السلطان من الغد في يوم السبت ثاني جمادى الآخرة إلى الميدان المقدم ذكره وعمل به الخدمة السلطانية ثم توجه إلى القلعة وأقام بها إلى يوم الأربعاء سادسه فركب منها ونزل إلى بيت ابن البارزي وأقام به أيامًا ثم عاد إلى القلعة‏.‏
ثم في يوم الأربعاء ثالث عشره حمل المقام الصارمي إبراهيم من الحجازية إلى القلعة على الأكتاف لعجزه عن ركوب المحفة فمات ليلة الجمعة خامس عشره فارتجت القاهرة لموته‏.‏ فجهز من الغد وصلي عليه ودفن بالجامع المؤيدي وشهد السلطان الصلاة عليه ودفنه مع عدم نهضته للقيام من شدة مرضه وللوجد الذي حصل له على ولده‏.‏ وأقام السلطان بالجامع المؤيدي إلى أن صلى به الجمعة‏.‏ وخطب القاضي ناصر الدين بن البارزي على العادة وخطب خطبة بليغة من إنشائه وشبك في الخطبة الحديث الذي ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - عند موت ولده إبراهيم ‏"‏ إن العين لتدمع وإن القلب ليخشع وإنا لمحزنون على فراقك يا إبراهيم‏.‏
فلما ذكر ذلك ابن البارزي على المنبر بكى السلطان وبكى الناس لبكائه فكانت ساعة عظيمة‏.‏ ثم ركب السلطان بعد الصلاة من الجامع المؤيدي وعاد إلى القلعة وأقام القراء يقرؤون القرآن على قبره سبع ليال‏.‏

وفي هذه الأيام
توقف النيل عن الزيادة وغلا سعر الغلال ونودي بالقاهرة بالصيام ثلاثة أيام ثم بالخروج إلى الصحراء للاستسقاء فصام أكثر الناس وصام السلطان فنودي بزيادة إصبع عما نقصه‏.‏ ثم نودي في يوم الأحد رابع عشرينه بالخروج من الغد للصحراء خارج القاهرة‏.‏
فلما كان الغد يوم الاثنين خرج شيخ الإسلام قاضي القضاة جلال الدين البلقيني وسار حتى جلس في فم الوادي قريبًا من قبة النصر - وقد نصب هناك منبر - فقرأ سورة الأنعام وأقبل الناس أفواجًا من كل جهة حتى كثر الجمع ومضى من شروق الشمس نحو الساعتين أقبل السلطان بمفرده على فرس وقد تزيا بزي أهل الصوفية واعتم على رأسه بمئزر صوف لطيف ولبس على بدنه ثوب صوف أبيض وعلى عنقه مئزر صوف بعذبة مرخاة على بعض ظهره وليس في سرجه ولا شيء من قماش فرسه ذهب ولا حرير فأنزل عن الفرس وجلس على الأرض من غير بساط ولا سجادة مما يلي يسار المنبر فصلى قاضي القضاة ركعتين كهيئة صلاة العيد والناس وراءه يصلون بصلاته ثم رقى المنبر فخطب خطبتين حث الناس فيهما على التوبة والاستغفار وأعمال البر وحذرهم ونهاهم وتحول فوق المنبر واستقبل القبلة ودعا فأطال الدعاء والسلطان في ذلك كفه يبكي وينتحب وقد باشر في سجوده التراب بجبهته‏.‏
فلما انقضت الخطبة ركب السلطان فرسه مع عدم قدرته على القيام وإنما يحمل على الأكتاف حتى يركب ثم يحمل حتى ينزل وسار إلى جهة القلعة والعامة محيطة به يدعون له فكان هذا اليوم من الأيام المشهودة‏.‏
ومن أحسن ما نقل عنه في هذه الركبة أن بعض العامة دعا له حالة الاستسقاء أن الله ينصره فقال لهم الملك المؤيد‏:‏ اسألوا الله فيما نحن بصدده وإنما أنا واحد منكم - فلله دره فيما قال‏.‏ ثم في غده نودي على النيل بزيادة اثني عشر إصبعًا بعدما رد النقص وهو قريب سبعة وعشرين إصبعًا فتباشر الناس باستجابة دعائهم‏.‏
ثم قدم الخبر على السلطان بنزول قرا يوسف على بغداد وقد عصاه ولده شاه محمد بها فحاصروه ثلاثة أيام حتى خرج إليه فأمسكه أبوه قرا يوسف واستصفى أمواله وولى عوضه على بغداد ابنه أميرزه أصبهان ثم عاد قرا يوسف إلى مدينة تبريز لحركة شاه رخ بن تيمورلنك عليه‏.‏
ثم في يوم الاثنين سابع عشر شهر رجب ركب السلطان من قلعة الجبل ونزل إلى بيت كاتب السر ابن البارزي على عادته ليقيم به ونزل الأمراء بالدور من حوله وصارت الخدمة تعمل هناك وكان السلطان قد انقطع عن النزول إليه من يوم مات ابنه‏.‏ ثم في يوم الأربعاء تاسع عشره جمع السلطان خاصته ونزل إلى البحر وسبح فيه وعام من بيت كاتب السر إلى منية الشيرج ثم عاد في الحراقة وكثر تعجب الناس من قوة سبحه مع زمانة رجله وعجزه عن الحركة والقيام‏.‏
ولما أراد أن ينزل للسباحة أقعد في تخت من خشب كهيئة مقعد المحفة وأرخي من أعلى الدار بحبال وبكر إلى الماء فلما عاد في الحراقة رفع في التخت المذكور من الحراقة إلى أعلى الدار حتى جلس على مرتبته‏.‏
فنودي من الغد على النيل بزيادة ثلاثين إصبعًا ولم يزد في هذه السنة مثلها فتيامن الناس بعوم السلطان في النيل وعدوا ذلك من جملة سعادته وقالت العامة‏:‏ الزيادة ببركته‏.‏ ثم في يوم الجمعة حادي عشرين شهر رجب المذكور ركب السلطان من بيت ابن البارزي في‏.‏ الحراقة وتنزه على ظهر النيل وتوجه إلى رباط الآثار النبوية فزاره وبر من هناك من الفقراء والخدام وغيرهم ثم عاد إلى المقياس بجزيرة الروضة فصلى الجمعة بجامع المقياس ورسم بهدمه وبنائه ثانيًا وتوسعته ففعل ذلك‏.‏
ورسم أيضًا بترميم بلاط رباط الآثار النبوية ثم عاد إلى الجزيرة الوسطى وركب منها إلى الميدان الناصري وبات به وركب من الغد في يوم السبت إلى القلعة‏.‏
ثم في سابع عشرين شهر رجب المذكور من سنة ثلاث وعشرين قدم الخبر على السلطان من الأمير عثمان بن طر علي المدعو قرا يلك صاحب آمد أنه كبس على بير عمر حاكم أرزنكان من قبل قرا يوسف وأمسكه وقيده هو وأربعة وعشرين نفسًا من أهله ولاده وأنه قتل من أعوانه ستين رجلًا وغنم شيئًا كثيرًا فسر السلطان بذلك ثم إنه قتل بير عمر المذكور وأرسل برأسه إلى السلطان فوصل الرأس إلى القاهرة في يوم الاثنين أول شعبان‏.‏
وكان السلطان قد كتب محاضر بكفر قرا يوسف وولده حاكم بغداد فأفتى مشايخ العلم بجواز قتاله‏.‏ ورسم السلطان للأمراء بالتجهيز للسفر وحملت إليهم النفقات فوقع التجهيز في أمور السفر ونودي في رابع شعبان المذكور بالقاهرة بين يدي الخليفة والقضاة الأربعة جميع نوابهم وبين يديهم القاضي بدر الدين حسن البرديني أحد نواب الحكم الشافعية وهو راكب على بغلته وبيده ورقة يقرأ منها استنفار الناس لقتال قرا يوسف وتعداد قبائحه ومساوئه‏.‏
قلت‏:‏ هو كما قالوه وزيادة عليه وعلى ذريته اللعنة فإنهم كانوا سببًا لخراب بغداد وأعمالها‏.‏ وكانت بغداد منبع العلم ومأوى الصالحين حتى ملكها هؤلاء التركمان رعاة الأغنام فساؤوا السيرة وسلبوا الناس أموالهم وأخرب البلاد وأبادوا العباد من الظلم والجور والعسف - ألا لعنة الله على الظالمين‏.‏
ثم في يوم الاثنين ثامن شعبان - ويوافقه خامس عشرين مسرى أحد شهور القبط - أوفي النيل فركب السلطان إلى المقياس حتى خلفه على العادة ركب الحراقة حتى فتح خليج السد على العادة‏.‏ ثم في يوم الجمعة عقد السلطان عقد الأمير الكبير ألطنبغا القرمشي على ابنته بصداق جملته خمسة عشر ألف دينار هرجه بالجامع المؤيدي بحضرة القضاة والأمراء والأعيان‏.‏
هذا وقد تهيأ القرمشي للسفر إلى البلاد الشامية مقدم العساكر وأصبح من الغد في يوم السبت ثالث عشر شعبان المذكور برز الأمير الكبير ألطنبغا القرمشي طلبه من القاهرة إلى الريدانية خارج القاهرة ومعه من الأمراء مقدمي الألوف جماعة‏:‏ الأمير ألطنبغا من عبد الواحد المعروف بالصغير رأس نوبة النوب والأمير طوغان الأمير آخور الكبير والأمير ألطنبغا المرقبي حاجب الحجاب والأمير جلبان أمير آخور - كان - والأمير جرباش الكريمي قاشق والأمير آقبلاط السيفي دمرداش والأمير أزدمر الناصري وندبهم السلطان للتوجه إلى حلب خشية من حركة قرا يوسف‏.‏
وفيه نزل السلطان من القلعة إلى بيت ابن البارزي وأقام به إلى يوم الثلاثاء سادس عشر شعبان فتوجه إلى الميدان لعرض المماليك الرماحة فتوجه إليه وجلس به ولعبت مماليك السلطان بالرمح بين يديه مخاصمة ولعب حتى المعلمين جعل لكل معلم خصمًا مثله ولعبهما بين يديه فوقع بين الرماحة أمور ومخاصمات وأبدوا غرائب في فنونهم كل ذلك لمعرفة الملك بهذا الشأن ومحبته لأرباب الكمالات من كل فن‏.‏
فلما انتهى لعبهم والإنعام عليهم - كل واحد بحسب ما يليق به - وركب آخر النهار من الميدان المذكور على ظهر النيل في الحراقة إلى بيت ابن البارزي ببولاق وأقام به وعمل الخدمة به إلى أن ركب منه إلى الميدان ثانيًا في نهار السبت العشرين من شعبان ولعبت الرماحة بين يديه وهم غير من تقدم ذكرهم فإنه رسم أن في كل يوم من يومي السبت والثلاثاء يلعب معلمان هما وصبيانهما - لا غير - مخاصمة‏.‏
قلت‏:‏ وهذه عادة الملوك لما تعرض المماليك بين أيديهم لا يخاصم في كل يوم غير صبيان معلم مع صبيان معلم آخر لكن زاد الملك المؤيد بأن لعب المعلمين أيضًا فصار المعلم يقف يمينًا وصبيانه صف واحد تحته ويقف تجاهه معلم آخر وصبيانه تحته فيخرج المعلم للمعلم ويتخاصمان إلى أن ينجزا أمرهما ثم يخرج النائب للنائب الذي يقابله من ذلك المعلم ثم يخرج كل واحد لمن هو مقابله إلى أن يستتم العرض بين الظهر والعصر أو قبل الظهر أو بعده بحسب قلة الصبيان وكثرتهم‏.‏
ولما تم العرض في نهار السبت المذكور بالميدان لم يتحرك السلطان من الميدان وبات به‏.‏ وأصبح يوم الأحد ركب الحراقة وتوجه في النيل إلى رباط الآثار النبوية وزاره وتصدق به ثم عاد إلى المقياس بالروضة وكشف عمارة جامعه ثم عاد في الحراقة إلى الميدان فبات به‏.‏
وعرض في يوم الاثنين أيضًا أراد بذلك إنجاز أمرهم في العرض‏.‏ ولما انتهى العرض في ذلك اليوم ركب الحراقة وتوجه إلى رباط الآثار ثانيًا وزاره ثم عاد إلى جزيرة أروى المعروفة بالجزيرة الوسطانية ونزل بها في مخيمه فأقام بها يومه وعاد إلى الميدان وبات به ليلتين‏.‏
ثم رجع في النيل إلى بيت كاتب السر ببولاق في يوم الخميس فبات به وصلى الجمعة بجامع كاتب السر وخطب وصلى به قاضي القضاة جلال الدين البلقيني‏.‏ ثم ركب الحراقة بعد الصلاة وتوجه إلى الميدان وبات به‏.‏ وركب إلى القلعة بكرة يوم السبت سابع عشرين شعبان‏.‏ كل ذلك والسلطان صائم في شهر رجب وشعبان لم يفطر فيهما إلا نحو عشرة أيام عندما يتناول الأدوية بسبب ألم رجله هذا مع شدة الحر فإن الوقت كان في فصل الصيف وزيادة النيل‏.‏
ولما استهل شهر رمضان بيوم الثلاثاء انتقض على السلطان ألم رجله ولزم الفراش‏.‏ وصارت الخدمة السلطانية تعمل بالدور السلطانية من قلعة الجبل لقلة حركة السلطان مما به من الألم وهو مع ذلك صائم لا يفطر إلا يوم يتناول فيه الدواء‏.‏ ثم في رابع عشر شهر رمضان المذكور خلع السلطان على الصاحب تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم باستقراره ناظر ديوان المفرد بعد موت صلاح الدين خليل بن الكويز‏.‏ ثم في هذا الشهر أيضًا ابتدأ مرض القاضي ناصر الدين بن البارزي كاتب السر الذي مات به‏.‏ واستمر السلطان ضعيفًا شهر رمضان كله‏.‏ فلما كان يوم الأربعاء أول شوال صلى السلطان صلاة العيد بالقصر الكبير من قلعة الجبل عجزًا عن المضي إلى الجامع‏.‏

 

السلطان الملك المؤيد أبو النصر سيف الدين شيخ يصاب بغيبوبة
ثم في رابعه ركب السلطان المحفة من قلعة الجبل ونزل إلى جهة منظرة الخمس وجوه التي استجدها بالقرب من التاج وقد كملت والعامة تسميها التاج والسبع وجوه وليس هو كذلك وإنما هي ذات خمس وجوه وأما التاج فإنه خراب وقد أنشأ به عظيم الدولة الصاحب جمال الدين بن يوسف ناظر الجيش والخاص عمائر هائلة وسبيلًا ومكتبًا وبستانًا وغير ذلك - انتهى‏.‏
ولما توجه السلطان إلى الخمس وجوه أقام به نهاره ثم عاد إلى القلعة وأقام بها إلى يوم الأربعاء خامس عشر شوال فغضب على الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله ناظر الخواص وضربه بين يديه ضربًا مبرحًا ثم أمر به فنزل إلى داره على وظائفه من غير عزل‏.‏ كل ذلك والسلطان مريض ملازم للفراش غير أنه يتنقل من مكان إلى مكان محمولًا على الأكتاف‏.‏

فلما كان يوم الاثنين عشرين شوال أشيع بالقاهرة موت السلطان فاضطرب الناس‏.‏ ثم أفاق السلطان فسكنوا فطلع أمير حاج المحمل الأمير تمرباي المشد وقبل الأرض وخرج بالمحمل إلى بركة الحاج من يومه‏.‏
وسافر الحاج وهو على تخوف من النهب بسبب الاشاعات بموت السلطان‏.‏
ثم في يوم الاثنين المذكور طلب السلطان الخليفة والقضاة الأربعة والأمراء والأعيان وعهد إلى ولده الأمير أحمد بالسلطنة من بعده وعمره سنة واحدة ونحو خمسة أشهر وخمسة عشر يومًا فإن مولده في جمادى الأولى من السنة الخالية وجعل الأمير الكبير ألطنبغا القرمشي القائم بتدبير ملكه إلى أن يبلغ الحلم وأن يقوم بتدبير الدولة مدة غيبة الأتابك ألطنبغا القرمشي إلى أن يحضر الأمراء الثلاثة وهم‏:‏ قجقار القردمي أمير سلاح وتنبك العلائي ميق المعزول عن نيابة الشام والأمير ططر أمير مجلس‏.‏
وحلف السلطان الأمراء على العادة وأخذ عليهم الأيمان والعهود بالقيام في طاعة ولده وطاعة مدبر مملكته ثم حلف المماليك من الغد‏.‏ ثم أفاق السلطان وحضرت الأمراء الخدمة على العادة‏.‏

وخلع في يوم السبت خامس عشرينه على القاضي كمال الدين محمد بن البارزي باستقراره كاتب السر الشريف بالديار المصرية بعد وفاة والده القاضي ناصر الدين محمد بن البارزي ونزل إلى بيته في موكب جليل‏.‏ وبعد يومين خلع السلطان على القاضي بدر الدين محمد بن محمد بن أحمد الدمشقي المعروف بابن مزهر ناظر الإسطبل باستقراره في نيابة كتابة السر عوضًا عن ثم في تاسع عشرين شوال المذكور نصل السلطان من مرضه ونقص ما كان به من الألم ودخل الحمام وتخلق الناس بالزعفران وتداولت التهاني بالقلعة وغيرها ونودي بزينة القاهرة ومصر وفرق السلطان مالًا كثيرًا في الفقراء والفقهاء والناس وخلع على الأطباء وأصحاب الوظائف‏.‏
وكان السلطان لما مات القاضي ناصر الدين بن البارزي طلب الذي خلفه من المال فلم يجد ولده شيئًا فظن السلطان أنه أخفى ذلك فحلفه ثم خلع عليه ونزل على أن يقوم للسلطان من ماله بأربعين ألف دينار‏.‏ فلما كان يوم الخميس سلخ شوال حضر إلى القاضي كمال الدين المذكور شخص من الموقعين يعرف بشهاب الدين أبي درابة وقال له‏:‏ ‏"‏ أنا أعرف لوالدك ذخيرةً في المكان الفلاني ‏"‏ فلما سمع القاضي كمال الدين كلامه أخذه في الحال وطلع به إلى السلطان وعرفه مقالة شهاب الدين المذكور فأرسل السلطان في الحال الطواشي مرجان الهندي الخازندار وصحبته جماعة ومعهم شهاب الدين المذكور إلى بيت القاضي كمال الدين المذكور فدخلوا إلى المكان وفتحوه فوجدوا فيه سبعين ألف دينار فأخذوها وطلعوا إلى السلطان‏.‏
وقد سألت أنا القاضي كمال الدين المذكور عن هذه الذخيرة وقلت له‏:‏ كان لك بها علم فقال‏:‏ لا والله ولا أعرف مكانها فإني لم أحضرها حين جعلها الوالد بهذا المكان ولا عند أخذها أيضًا ولا عرفني بها قبل موته‏.‏
غير أنه أوصى شهاب الدين المذكور وشخصًا آخر سماه أنه إذا مات يعرفاني بها‏.‏ فلما عرفني شهاب الدين بها لم أجد بدًا من إعلام السلطان بها للأيمان التي كان حلفني أنني مهما وجدته من مال الوالد أعرفه به‏.‏
قلت‏:‏ لله دره من كمال الدين‏!‏ ما كان أعلى همته وأحشمه وأسمحه‏!‏‏.‏ ثم في يوم الاثنين رابع ذي القعدة ركب السلطان من قلعة الجبل وشق القاهرة من باب زويلة وخرج من باب القنطرة وتوجه إلى الخمس وجوه وأقام بها إلى يوم الأربعاء سابع ذي القعدة فركب منها وشق القاهرة من باب القنطرة إلى أن خرج من باب زويلة وطلع إلى القلعة بعدما انقضى له ب الخمس وجوه أوقات طيبة وعمل بها الخدمة وترددت الناس إليه بها لقضاء حوائجهم وللفرجة أيضًا‏.‏

ولما طلع السلطان إلى القلعة أقام بها يوم الأربعاء والخميس والجمعة ثم نزل إليها ثانيًا في يوم السبت تاسع ذي القعدة بخواصه وبات بها‏.‏
ثم ركب من الغد في يوم الأحد وتصيد ببر الجيزة وأقام هناك‏.‏ وأمر بأخذ خزانة الخاص من عند ناظر الخاص الصاحب بدر الدين بن نصر الله فنزل إليه زين الدين عبد الباسط بن خليل الدمشقي ناظر الخزانة والطواشي مرجان الهندي الخازندار وأخذا منه خزانة الخاص وهو ملازم للفراش من يوم ضرب وسلمت للطواشي مرجان المذكور فتحدث مرجان في وظيفة نظر الخاص عن السلطان من غير أن تخلع عليه وأنفق كسوة المماليك السلطانية نحو ثمانية آلاف دينار‏.‏
وأقام السلطان بمنظرة الخمس وجوه إلى يوم الثلاثاء ثاني عشر ذي القعدة فعاد إلى القلعة في محفة فأقام بالقلعة إلى يوم الجمعة خامس عشره فركب أيضًا وتوجه إلى منظرة الخمس وجوه وأقام بها إلى سابع عشره وعاد إلى القلعة بعد أن ألزم أعيان الدولة أن يعمروا لهم بيوتًا بالقرب من الخمس وجوه المذكورة لينزلوا فيها إذا توجهوا في ركاب السلطان فشرع بعضهم في رمي الأساس واختط بعضهم أرضًا‏.‏
ثم ركب السلطان من القلعة بثياب جلوسه وشق القاهرة وعبر من باب زويلة وخرج من باب القنطرة وتوجه إلى منظرة الخمس وجوه وأقام بها بخواصه إلى يوم الجمعة ثاني عشرين ذي القعدة فركب منها وعدى النيل إلى الجيزة يريد سرحة البحيرة على العادة في كل سنة وقد تهيأ الناس لذلك وخرجوا على عادتهم‏.‏
وقبل أن يعدي السلطان النيل نزل بدار على شاطىء نيل مصر ودخل الحمام التي بجوار الجامع الجديد واغتسل ظهر الجمعة ثم خرج إلى الجامع الجديد وصلى به الجمعة ثم عدى النيل وهو في كل ذلك يحمل على الأكتاف والذي يتولى حمله من خاصكيته جماعة منهم‏:‏ خجا سودون السيفي بلاط الأعرج وتنبك من سيدي بك الناصري البجمقدار المصارع ثم جاني بك من وأقام السلطان يومه بالجيزة ثم ركب المحفة وسار بأمرائه وعساكره إلى أن وصل إلى الطرانة فاشتد به المرض فتجلد اليوم الأول والثاني فأفرط به الإسهال حتى أرجف بموته وكادت تكون فتنة من كثرة كلام الناس واختلاف أقوالهم إلى أن ركب السلطان من الطرانة في النيل عجزًا عن المحفة وعاد إلى جهة القاهرة حتى نزل بر منبابة فأقام بها حتى نحر قليلًا من ضحاياه‏.‏
ثم ركب النيل في الحراقة وعدى إلى بولاق في آخر نهار العيد ونزل في بيت كاتب السر ابن البارزي على عادته وبات به تلك الليلة‏.‏ وأصبح من الغد ركب في المحفة وطلع إلى قلعة الجبل في يوم الثلاثاء حادي عشر ذي الحجة وهو شديد المرض من الإسهال والزحير والحصاة والحمى والصداع والمفاصل‏.‏
وهذه آخر ركبة ركبها الملك المؤيد ثم لزم الفراش إلى أن مات حسبما نذكره‏.‏ ولما كان ثامن عشر ذي الحجة قدم كتاب الملك العادل سليمان الأيوبي صاحب حصن كيفا من ديار بكر على السلطان يتضمن موت الأمير قرا يوسف بن قرا محمد صاحب تبريز والعراق في رابع عشر ذي القعدة مسمومًا فيما بين السلطانية وتبريز وهو متوجه لقتال القان معين الدين شاه رخ بن تيمورلنك فلم يتم سرور السلطان بموته لشغله بنفسه‏.‏
ثم في ثامن عشرين ذي الحجة وصل مبشر الحاج فطلبه السلطان وسأله عن أمور الحجاز‏.‏

 

كل ثم في يوم السبت تاسع عشرينه أرجف في باكر النهار بموت السلطان وكان أغمى عليه فلما أفاق قيل له إن بعض الناس يقول‏:‏ سيدي أحمد ولد السلطان صغير صغرًا لا تصح سلطنته‏.‏ وشاوروه في إثبات عهده فرسم لهم بذلك فأثبت عهده على قاضي القضاة زين الدين عبد الرحمن التفهني الحنفي بالسلطنة ثم نفذ العهد على بقية القضاة‏.‏ فكثر عند ذلك اضطراب الناس بالقاهرة واختلفت الأقوال في ضعف السلطان وأمره وتوقعوا فتنة واشتد خوف خواص السلطان ونقلوا ما في دورهم من القماش المثمن وغير ذلك‏.‏

موت السلطان الملك المؤيد أبو النصر سيف الدين شيخ
واستهل المحرم من سنة أربع وعشرين وثمانمائة والسلطان ملازم للفراش وقد أفرط به الإسهال الدموي مع تنوع الأسقام وتزايد الآلام بحيث إنه لم يبق مرض من الأمراض حتى اعتراه في هذه الضعفة غير أنه صحيح العقل والفهم طلق اللسان‏.‏
فلما كان يوم الخميس خامس المحرم سنة أربع وعشرين المذكورة طلع الأمراء والأعيان إلى قلعة الجبل وجلسوا على باب الستارة فخرج إليهم بعض الخدام واعتذر لهم عن دخولهم بشدة ضعف السلطان فانصرفوا وكانوا على هذا مدة أيام يطلعون في كل يوم موكب ويجلسون بباب الدور ثم ينزلون من غير أن يجتمعوا بالسلطان‏.‏
هذا وقد افترقت الأمراء والعساكر فرقًا‏:‏ فرقة من أعيان المؤيدية وكبيرهم الأمير ططر وقد خدعهم بتنميق كلامه وكثرة دهائه من أنه يقوم بنصرة ابن أستاذهم ويكون مدبر ملكه وهو كواحد منهم والأمر كله إليهم وهو معهم كيف ما شاؤوا ثم خوفهم من وثوب قجقار القردمي وركوبه لما في نفسه من الملك فمالوا إليه وانخدعوا له وصاروا من حزبه لا يخفون عنه أمرًا من الأمور هذا مع ما استمال ططر أيضًا جماعة كبيرة من خشداشيته الظاهرية في الباطن‏.‏
وفرقة من أعيان الأمراء والمماليك السلطانية من جنس التتر والسيفية وكبيرهم قجقار القردمي وهو ظنين بنفسه مع ما اشتمل عليه من سلامة الباطن - كما هي عادة جنس التتر - والجهل المفرط مع انهماكه في اللذات ليلًا ونهارًا‏.‏ وفرقة صارت بمعزل عن الفريقين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء وهم الظاهرية مماليك برقوق وكبيرهم الأمير تنبك ميق على أن ميلهم في الباطن مع خشداشهم ططر غير أنهم يخافون عواقب الأمور - لعدم أهلية ططر لذلك - لكونه خلقه مثل الأتابك ألطنبغا القرمشي مع من معه من الأمراء وعظمته في النفوس ومثل جقمق الأرغون شاوي الدوادار نائب الشام ومثل يشبك اليوسفي المؤيدي نائب حلب وأيضًا مثل قجقار القردمي أمير سلاح‏.‏
هذا مع كثرة المماليك المؤيدية وشدة بأسهم حتى لو أن ططر كفي هم الجميع من الأمراء لا يستطيع الوثوب على الأمر من هؤلاء المؤيدية فلذلك كف عن موافقته كثير من خشداشيته في مبادىء الأمر فلم يلتفت ططر إلى كلام متكلم وأخذ فيما هو فيه من إبرام أمره ولسان حاله يقول‏:‏ إما إكديش أو نشابة للريش فإنه كان في بحبوحة من الفقر والإفلاس والخوف من الملك المؤيد فلما وجد المقال قال وانتهز الفرصة إما بها أو عليها‏.‏

اضطراب الناس بالقاهرة لموت السلطان الملك المؤيد أبو النصر سيف الدين شيخ

أجمع الأمراء على تولية التاج بن سيفة الشوبكي أستادار الصحبة ولاية القاهرة على عادته أولًا كخلع عليه بحضرة الأمراء في بعض دور القلعة باستقراره في ولاية القاهرة بعد عزل ابن فري فنزل التاج إلى القاهرة بخلعته وشق الشوارع وأبرق وأرعد وكثر من الوعيد لأرباب الفساد فلم يلتفت أحد إلى كلامه ومضى إلى بيته‏.‏
هذا وقد اشتد الأمر بالسلطان الملك المؤيد من الآلام والأرجاف تتواتر بموته والناس في هرج إلى أن توفي قبيل الظهر من يوم الاثنين تاسع المحرم من سنة أربع المقدم ذكرها فارتج الناس لموته ساعةً ثم سكنوا‏.‏
وطلع الأمراء القلعة وطلبوا الخليفة المعتضد بالله داود والقضاة والأعيان لإقامة الأمير أحمد بن السلطان في السلطنة فخلع عليه فتسلطن وتم أمره حسبما سنذكره في محله من هذا الكتاب في حينه إن شاء الله تعالى‏.‏
ثم أخذوا في تجهيز السلطان الملك المؤيد وتغسيله وتكفينه‏.‏ قال الشيخ تقي الدين المقريزي‏:‏ وأخذ في جهاز المؤيد وصلي عليه خارج باب القلعة وحمل إلى الجامع المؤيدي فدفن بالقبة قبيل العصر ولم يشهد دفنه كثير أحد من الأمراء والمماليك لتأخرهم بالقلعة‏.‏
واتفق في أمر المؤيد موعظة فيها أعظم عبرة وهو أنه لما غسل لم توجد له منشفة ينشف فيها فنشف بمنديل بعض من حضر غسله ولا وجد له مئزر تستر به عورته حتى أخذ له مئزر صوف صعيدي من فوق رأس بعض جواريه فستر به ولا وجد له طاسة يصب بها عليه الماء وهو يغسل مع كثرة ما خلفه من الأموال ومات وقد أناف على الخمسين‏.‏

صفات الملك المؤيد
وكانت مدة ملكه ثماني سنين وخمسة أشهر وثمانية أيام‏.‏ وكان شجاعًا مقدامًا يحب أهل العلم ويجالسهم ويجل الشرع النبوي ويذعن له ولا ينكر على طلب من إذا تحاكم إليه أن يمضي من بين يديه إلى قضاة الشرع بل يعجبه ذلك وينكر على أمرائه معارضة القضاة في أحكامهم‏.‏
وكان غير مائل إلى شيء من البدع‏.‏ وله قيام في الليل إلى التجهد أحيانًا‏.‏
إلا أنه كان بخيلًا مسيكًا يشح حتى بالأكل لجوجًا غضوبًا نكدًا حسودًا معيانًا يتظاهر بأنواع المنكرات فحاشًا سبابًا شديد المهابة حافظًا لأصحابه غير مفرط فيهم ولا مطيع لهم‏.‏
وهو أكبر أسباب خراب مصر والشام لكثرة ما كان يثيره من الشرور والفتن أيام نيابته بطرابلس ودمشق ثم ما أفسده في أيام ملكه من كثرة المظالم ونهب البلاد وتسليط أتباعه على الناس يسومونهم الذلة ويأخذون ما قدروا عليه بغير وازع من عقل ولا ناه من دين - انتهى كلام المقريزي برمته بعد تخبيط عظيم‏.‏
قلت‏:‏ وكان يمكنني الرد عليه في جميع ما قاله بحق غير أنني لست مندوبًا إلى ذلك فلهذا أضربت عن تسويد الورق وتضييع الزمان‏.‏ والذي أعرفه أنا من حاله أنه كان سلطانًا جليلًا مهابًا شجاعًا مقدامًا عاقلًا نقادًا‏.‏
حدثني الأمير أرنبغا اليوسفي الناصري - قال‏:‏ كان المؤيد ينظر إلى الرجل وينقده بعينيه فيعرف من حاله ما يكتفي به عن السؤال عنه ثم يعطيه من الرزق والاقطاعات ما يليق بشأنه كما يصف الطبيب الحاذق إلى المريض من الدواء فإن كان الرجل أعجبه رقاه في أقل مدة إلى أعلى المراتب وإن كان غير ذلك شح عليه حتى بالاقطاع الذي يعمل عشرة آلاف درهم في السنة - انتهى كلام أرنبغا‏.‏
قلت‏:‏ هذا هو المطلوب من الملوك وإلا يضيع الصالح بالطالح‏.‏ وكان المؤيد عالي الهمة كثير الحركات والأسفار جيد التدبير حسن السياسة يباشر الأحكام بنفسه مع معرفة تامة وحذق وفطنة وجودة حدس في أموره عظيم السطوة على مماليكه وأمرائه هينًا مع جلسائه وندمائه طروبًا يميل إلى سماع الشعر والأصوات الطيبة على أنه كان يحسن أيضًا أداء الموسيقى ويقوله في مجالس أنسه‏.‏
وكان يميل إلى الدقة الأدبية ويفهمها بسرعة‏:‏ قيل‏.‏ نظر مرةً إلى اسمه وهو مكتوب على بعض الحيطان وقد كتب الدهان الشين من اسم شيخ بجرة واحدة فلما نظر المؤيد قال‏:‏ مسكين شيخ بلا سنينات وله أشياء كثيرة من ذلك وكان يشارك الفقهاء في أبحاثهم ويتصور أقوالهم ويطرح عليهم المسائل المشكلة هذا مع ميله لأرباب الكمالات من كل علم وفن وتعجبه المداعبة اللطيفة‏.‏
حدثني القاضي كمال الدين بن البارزي كاتب السر الشريف بالديار المصرية - رحمه الله - قال‏:‏ كان المؤيد جالسًا بالبارزية على المقعد المطل على النيل ومحمود بن الأمير قلمطاي الدوادار واقفًا بجانبه ووالدي من جهة أخرى وهو يقرأ القصص على السلطان وكان في جملة القصص قصة الشيخ عاشق محمود العجمي أحد ندماء السلطان فلما قرأ الوالد قصة عاشق محمود قال‏:‏ المملوك وأشار بيده إلى نفسه ثم قال‏:‏ عاشق محمود وأشار بإصبعه إلى محمود بن قلمطاي - وكان من أجمل الناس صورة - فلم يفطن لذلك أحد غير السلطان فضحك وقال‏:‏ تموت بهذه الحسرة‏.‏
وحدثني بعض أعيان المؤيدية قال‏:‏ كان الأمير طوغان الأمير آخور أرسل إلى جاني بك الساقي أحد خواص الملك المؤيد ألف دينار ليزوره فعرف جاني بك المذكور السلطان بذلك فاشتد غضب السلطان وأرسل في الحال خلف طوغان المذكور‏.‏ فلما تمثل بين يديه سأله السلطان بذلك فقال طوغان‏:‏ نعم أرسلت إليه ألف دينار ووالله العظيم لو لم يكن مملوكك لكنت ترسل أنت إليه عشرة آلاف دينار فتلومني أن أرسلت إليه ألف دينار‏!‏ - يقول ذلك وهو في غاية كل ذلك وهو محتفظ على ناموس الملك والسير على ترتيب من تقدمه من الملوك في سائر أموره وحركاته‏.‏
وقد تسلطن وأحوال المملكة غير مستقيمة مما جدده الملك الناصر فرج من الوظائف والاستكثار من الخاصكية حتى إن خاصكيته زادت عدتهم على ألف نفر فلا زال المؤيد بهم حتى جعلهم ثمانين خاصكيا كما كانت أيام أستاذه الملك الظاهر برقوق وكانت الدوادارية نحو ثمانين دوادارًا فلا زال حتى جعلهم ستة وكذلك الخازندارية والبجمقدارية والحجاب‏.‏
وكان يتأمر الشخص في أيامه ويقيم سنين ولم يسمح له بلبس تخفيفة على رأسه كل ذلك مراعاة لأفعال السلف‏.‏ وكان عارفًا بأنواع الملاعيب رأسًا في لعب الرمح وسوق البرجاس قويًا في ضرب السيف والرمي بالنشاب ماهرًا في فنون كثيرة جد وهزل لا يعجبه إلا الكامل في فنه‏.‏ دخلت إليه مرةً وأنا في الخامسة فعلمني - قبل دخولي إليه - بعض من كان معي أن أطلب منه خبزًا‏.‏
فلما جلست عنده وكلمني سألته في ذلك فغمز من كان واقفًا بين يديه وأنا لا أدري فأتاه برغيف كبير من الخبز السلطاني فأخذه بيده وناولنيه وقال‏:‏ خذ هذا خبز كبير مليح فأخذته من يده وألقيته إلى الأرض وقلت‏:‏ أعط هذا للفقراء أنا ما أريد إلا خبزًا بفلاحين يأتونني بالغنم والأوز والدجاج فضحك حتى كاد أن يغشى عليه وأعجبه مني ذلك إلى الغاية وأمر لي بثلاثمائة دينار ووعدني بما طلبته وزيادة - انتهى‏.‏
وكان يحسن تربية مماليكه إلى الغاية ولا يرقيهم إلا بعد مدة طويلة ولذلك لم يخمل منهم أحد‏.‏ بعد موته - فيما أعلم‏.‏
وكان يميل إلى جنس الترك ويقدمهم حتى إن غالب أمرائه كانوا أتراكًا‏.‏ وكان يكثر من استخدام السيفية ويقول‏:‏ هؤلاء قاسوا خطوب الدهر وتأدبوا ومارسوا الأمور والوقائع‏.‏ وكان عارفًا بتعبئة العساكر في القتال ثباتًا في الحروب محجاجًا في الأجوبة‏.‏
قيل له‏:‏ إن الناس تقول عنك إنك قتلت من أعيان الملوك نحو ثمانين نفسًا فقال‏:‏ ما قتلت واحدًا منهم إلا وقد استحق القتل قبل ذلك والسلطان له أن يقتل من اختار قتله وشنع عنه هذه المقالة من لا يعرف معناها من الأتراك الذين يقصر فهمهم عن إدراك المعاني‏.‏ وأما فعله من وجوه البر فكثير وله مآثر مشهورة به وعمائر كثيرة أعظمها‏:‏ الجامع المؤيدي الذي لم يبن في الإسلام أكثر زخرفة منه بعد الجامع الأموي بدمشق ثم تجديده لجامع المقياس ثم لمدرسة الخروبية بالجيزة وأشياء غير ذلك كثيرة‏.‏
وأما ما خلفه من الأموال والخيول والجمال والسلاح فكثير جدًا لم أقف على تحرير قدره‏.‏ وخلف من الأولاد ستة - فيما أعلم - ذكرين أحدهما الملك المظفر أحمد وأربع بنات الجميع دون البلوغ - انتهى والله سبحانه أعلم‏.‏
وهي سنة خمس عشرة وثمانمائة‏.‏ على أن السلطان الملك الناصر فرجًا حكم منها إلى يوم السبت خامس عشرين المحرم ثم حكم من يومئذ الخليفة المستعين العباس إلى أن خلع من السلطنة بالملك المؤيد هذا في يوم الإثنين مستهل شعبان فحكم المؤيد من مستهل شعبان إلى آخرها فهي على هذا التقدير أول سنة حكمها من سلطنته‏.‏
فيها - أعني سنة خمس عشرة وثمانمائة - توفي قاضي قضاة دمشق شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إسماعيل بن خليفة الدمشقي الشافعي المعروف بابن الحسباني في يوم الأربعاء عاشر شهر ربيع الأول بها عن خمس وسبعين سنة وأشهر‏.‏
وكان معدودًا من فقهاء الشافعية‏.‏ أفتى ودرس سنين وتولى قضاء دمشق وقدم القاهرة غير مرة‏.‏
وتوفي قاضي القضاة محب الدين محمد بن محمد بن محمد الحلبي الحنفي المعروف بابن الشحنة في يوم الجمعة ثاني عشر شهر ربيع الآخر بحلب عن ست وستين سنة‏.‏ وكان إمامًا عالمًا بارعًا أفتى ودرس بحلب ودمشق والقاهرة وولي القضاء بحلب ثم بدمشق ثم ولاه الملك الناصر فرج قضاء الديار المصرية لما حوصر بدمشق في يوم الخميس ثالث عشرين المحرم من هذه السنة عوضًا عن ناصر الدين بن العديم بحكم توجهه إلى شيخ ونوروز فلم تطل مدته وعزل من قبل المستعين وأعيد ابن العديم‏.‏
وتوفي الوالد - وهو على نيابة دمشق بها - في يوم الخميس سادس عشر المحرم‏.‏ ونذكر التعريف به‏:‏
فهو تغري بردي بن عبد الله من خواجا بشبغا‏.‏ كان رومي الجنس‏.‏
اشتراه الملك الظاهر برقوق في أوائل سلطنته وأعتقه وجعله في يوم عتقه خاصكيًا ثم جعله ساقيًا وأنعم عليه بحصة من شبين القصر ثم جعله رأس نوبة الجمدارية إلى أن نكب الملك الظاهر برقوق وخلع وحبس بسجن الكرك فحبس الوالد بدمشق فإنه كان قد توجه مع من توجه من عسكر السلطان لقتال الناصري ومنطاش فقبض عليه هناك وسجن‏.‏
ودام في سجن دمشق إلى أن أخرجه الأمير بزلار العمري نائب دمشق وجعله بخدمته هو ودمرداش المحمدي ودقماق المحمدي‏.‏
واستمر الوالد بدمشق إلى أن خرج الملك الظاهر برقوق من سجن الكرك فبادر الوالد بالتوجه إليه قبل أن يستفحل أمره وحضر معه الوقعة المشهورة التي كانت بينه وبين منطاش‏.‏
وحمل الوالد في الوقعة المذكورة على شخص من أمراء منطاش يسمى آقبغا اليلبغاوي فقنطره عن فرسه فسأل برقوق عنه فقيل له تغري بردي فتفاءل برقوق باسمه لأن معناه‏:‏ الله أعطى وأنعم عليه بإقطاع إمرة طبلخاناه دفعة واحدة مع أنه كان أنعم عليه قبل خروجه للسفر بإمرة ثم أرسله الملك الظاهر برقوق إلى مصر يبشر من بها بسلطنته ونصرته على منطاش ودخل الظاهر في أثره إلى مصر‏.‏
وبعد قليل أنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية ثم جعله رأس نوبة النوب ثم ولاه نيابة حلب بعد جلبان قراسقل‏.‏
ثم عزله وأنعم عليه بتقدمة ألف بمصر على خبز شيخ الصفوي الخاصكي أمير مجلس‏.‏ وقبل أن يخلع عليه بإمرة مجلس نقله إلى إمرة سلاخ عوضًا عن بكلمش العلائي بحكم مسكه‏.‏ واستمر على ذلك إلى أن كانت وقعة الأتابك أيتمش مع الملك الناصر فرج في سنة اثنتين وثمانمائة‏.‏
وكان الوالد قد انضم على أيتمش هو وجماعة من الأمراء - حسبما ذكرناه في ترجمة الملك الناصر فرج - وانهزم الجميع بعد الوقعة وخرجوا من مصر إلى الأمير تنم نائب الشام وعادوا صحبته فانكسر تنم أيضًا وقبض على الجميع وقتلوا بقلعة دمشق إلا الوالد لشفاعة أم الملك الناصر فيه وآقبغا الأطروش وقتل من عداهما‏.‏
ودام الوالد بسجن قلعة دمشق إلى أن أطلق وتوجه إلى القدس بطالًا بسفارة أم الملك الناصر أيضًا فدام بالقدس إلى أن طلبه الملك الناصر بغزة وخلع عليه بنيابة دمشق عوضًا عن سودون قريب الملك الظاهر برقوق بحكم أسره مع تيمور‏.‏ فحكم الوالد دمشق مدة ثم انهزم مع الملك الناصر فرج إلى الديار المصرية واستولى تيمور على دمشق‏.‏ وأنعم الملك الناصر فرج على الوالد بتقدمة ألف بالقاهرة فدام مدة يسيرة وخلع عليه أيضًا بإعادته لنيابة دمشق بعد خروج تيمور منها كل ذلك في سنة ثلاث وثمانمائة‏.‏
فتوجه الوالد إليها وأقام بها إلى أن بلغه نية الملك الناصر بالقبض عليه ففر منها وتوجه إلى دمرداش نائب حلب وعصيا معا ووقع لهما أمور وحروب إلى أن انهزما‏.‏ وتوجه الوالد إلى بلاد التركمان فأقام بها مدة إلى أن طلب إلى الديار المصرية وأنعم عليه بتقدمة ألف وأجلس رأس الميسرة أتابكًا‏.‏
واستمر على ذلك إلى أن اختفى الملك الناصر فرج وخلع بأخيه المنصور عبد العزيز فخرج الوالد من الديار المصرية على البرية بجماعة من مماليكه إلى أن توجه إلى القدس فدام في برية القدس إلى أن عاد الملك الناصر أفرج إلى السلطنة ودخل على الأخت وكان الناصر عقد عقده عليها قبل خلعه بحضرة الوالد فلما تسلطن ثانيًا دخل بها في غيبة الوالد‏.‏

ثم أرسل الناصر فرج بطلب الوالد فحضر الوالد على حاله أولًا إلى أن خلع عليه الملك الناصر باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية عوضًا عن يشبك الشعباني في سنة عشر وثمانمائة فدام على ذلك إلى أن نقل إلى نيابة دمشق في أواخر سنة ثلاث عشرة وثمانمائة على كره منه بعد واقعة الكرك - وقد ذكرنا سبب ولايته في ترجمة الملك الناصر لما كان على حصار الكرك - فدام على نيابة دمشق إلى أن مات في ولايته هذه وهي الثالثة لنيابة دمشق ودفن بتربة الأمير تنم معه في فسقية واحدة‏.‏
ولا أعلم من أخباره شيئًا لصغر سني في حياته فإن كان مشكور السيرة فالله تعالى ينفعه بفعله وإن كان غير ذلك فالله تعالى يرحمه بفضله‏.‏ وخلف الوالد عشرة أولاد ستة ذكور وأربع إناث أسن الجميع خوند فاطمة توفيت سنة ست وأربعين ثم الزيني قاسم في قيد الحياة ومولده قبل القرن ثم الشرفي حمزة توفي سنة تسع وأربعين بالطاعون ثم بيرم ماتت في سنة ست وعشرين ثم هاجر توفيت سنة خمس وأربعين ثم إبراهيم توفي سنة ست وعشرين ثم محمد مات سنة تسع عشرة وثمانمائة ثم إسماعيل مات سنة ثلاث وثلاثين بالطاعون ثم شقراء في قيد الحياة ثم كاتبه عفا الله تعالى عنه وأنا أصغر الجميع ومولدي بعد سنة إحدى عشرة وثمانمائة تخمينًا‏.‏

وخلف الوالد من الأموال والسلاح والخيول والجمال شيئًا كثيرًا إلى الغاية استولى على ذلك كله الملك الناصر فرج لما عاد إلى دمشق منهزمًا من الأمير شيخ ونوروز ثم قتل الملك الناصر بعد أيام وتركنا فقراء من فقراء المسلمين فلم يضيعنا الله سبحانه وتعالى وأنشأنا على أجمل وجه من غير مال ولا عقار ولله الحمد‏.‏
وتوفي الأمير سيف الدين بكتمر بن عبد الله الظاهري المعروف بجلق بالقاهرة في ثامن جمادى الآخرة من مرض تمادى به نحو الشهرين‏.‏ وأصل ضعفه أن عقربًا لسعته بطريق دمشق في عوده إلى القاهرة صحبة الخليفة المستعين بالله‏.‏
وبموته خلا الجو للملك المؤيد شيخ حتى تسلطن فإنه كان أمر عليه من نوروز الحافظي‏.‏ وكان بكتمر أميرًا جليلًا شجاعًا مهابًا كريمًا متجملًا في مماليكه ومركبه ومأكله وقد ولي نيابة صفد ثم نيابة طرابلس ثم نيابة دمشق غير مرة ووقع له حروب مع الملك المؤيد شيخ أيام إمرته حسبما ذكرنا ذلك كله مفصلًا في ترجمة الملك الناصر فرج - رحمه الله‏.‏
وقتل في هذه السنة جماعة كبيرة في واقعة الملك الناصر مع الأمراء في اللجون وغيره‏.‏
وممن قتل في هذه الوقعة الأمير سيف الدين مقبل بن عبد الله الرومي الظاهري أحد مقدمي الألوف بالديار المصرية - وهو الذي كان زوجه السلطان الملك الناصر بأخته خوند سارة زوجة الأمير نوروز الحافظي - والأمير سيف الدين ألطنبغا بن عبد الله المعروف بسقل والأمير سيف الدين بلاط بن عبد الله الناصري الأعرج شاد الشراب خاناه - وكان ممن قبض عليه في وقعة اللجون - ووسطه الأمير شيخ المحمودي بعد أيام وكان بلاط المذكور من مساوىء الدهر فاسقًا متهتكًا زنديقًا يرمى بعظائم في دينه‏.‏
قيل إنه كان يقول للملك الناصر فرج‏:‏ أنت أستاذي وأبي وربي ونبي أنا لا أعرف أحدًا غيرك وكان يسخر ممن يصلي ويضحك عليه وعد قتله من حسنات الملك المؤيد شيخ - انتهى‏.‏
وقتل الأمير بلاط الظاهري أمير علم وكان أيضًا ممن يباشر قتل خشداشيته المماليك الظاهرية فوسطه أيضًا المؤيد كل ذلك قبل سلطنته والملك الناصر محصور بدمشق‏.‏
وتوفي الأمير سيف الدين سودون بن عبد الله الظاهري المعروف بسودون الجلب بعد أن ولي نيابة طرابلس ولم يدخلها ثم ولي نيابة حلب فتوجه إليها وهو مريض من جرح أصابه في حصار الملك الناصر فرج فمات منه في شهر ربيع الآخر‏.‏
وكان من الشجعان يحكى عنه أعاجيب من خفته وشجاعته وسرعة حركته وقد تقدم ذكره في عدة مواطن وهو أستاذ الأمير الكبير يشبك السودوني المشد أتابك العساكر بديار مصر في دولة الملك الظاهر جقمق‏.‏
وتوفي الأمير سيف الدين يشبك بن عبد الله العثماني الظاهري أحد مقدمي الألوف بالديار المصرية في يوم الجمعة أول صفر من جرح أصابه في رأسه عند حصار دمشق‏.‏ وكان من أعيان المماليك الظاهرية وممن انضم مع الملك المؤيد شيخ أيام تلك الفتن‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ثلاثة أذرع سواء‏.‏ مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعًا وثمانية عشر إصبعًا‏.‏
السنة الثانية من سلطنة المؤيد شيخ وهي سنة ست عشرة وثمانمائة‏.‏
أمر النيل في هذه السنة ‏:‏ الماء القديم خمسة أذرع سواء‏.‏ مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعًا وعشرون إصبعًا‏.‏
السنة الثالثة من سلطنة المؤيد شيخ وهي سنة سبع عشرة وثمانمائة‏.‏
في محرمها تجرد الملك المؤيد شيخ إلى البلاد الشامية لقتال الأمير نوروز الحافظي ومن معه من الأمراء وظفر به وقتله حسبما نذكره‏.‏
وفيها قتل الأمير سيف الدين نوروز بن عبد الله الحافظي بدمشق في ليلة ثامن عشرين شهر ربيع الآخر وحملت رأسه إلى الديار المصرية وطيف بها ثم علقت على باب زويلة‏.‏
من هو الأمير نوروز؟
وكان أصل نوروز المذكور من مماليك الملك الظاهر برقوق ومن أعيان خاصكيته ثم رقاه إلى أن جعله أمير مائة ومقدم ألف بالقاهرة ثم ولاه رأس نوبة النوب بعد الوالد لما ولي نيابة حلب ثم جعله أمير آخور كبيرًا بعد الأمير تنبك اليحياوي في سنة ثمانمائة ثم أمسكه بعد فتنة علي باي لأمر حكيناه في وقته في ترجمة الملك الظاهر برقوق وحبسه بالإسكندرية إلى أن أطلقه الملك الناصر فرج وولاه رأس نوبة الأمراء‏.‏
وصار نوروز هو المشار إليه في المملكة وذلك بعد خروج أيتمش والأمراء من مصر وقع له أمور إلى أن ولي نيابة الشام ومن حينئذ ظهر أمر نوروز وانضم عليه شيخ فصار تارةً يقاتل شيخًا وتارةً يصطلحان - وقد تقدم ذكر ذلك كله في ترجمة الملك الناصر فرج - إلى أن واقعا الملك الناصر بمن معهما في أوائل المحرم سنة خمس عشرة وانكسر الناصر وحوصر بدمشق إلى أن أخذ وقتل‏.‏ وتقاسم شيخ ونوروز الممالك والخليفة المستعين هو السلطان‏.‏
فأخذ شيخ الديار المصرية وصار أتابكًا بها وأخذ نوروز البلاد الشامية وصار نائب الشام‏.‏
فلما تسلطن الملك المؤيد شيخ خرج نوروز عن طاعته ووقعت أمور حكيت من أول ترجمة الملك المؤيد إلى أن خرج الملك المؤيد لقتاله فظفر به وقتله‏.‏
وكان نوروز ملكًا جليلًا كريمًا شجاعًا مقدامًا عارفًا عاقلًا مدبرًا وجيهًا في الدول وهو أحد أعيان مماليك الظاهر برقوق معدودًا من الملوك‏.‏ طالت أيامه في الرياسة وعظمت شهرته وبعد صيته في الأقطار‏.‏
وكان متجملًا فى مماليكه وحشمه‏.‏ بلغت عدة مماليكه زيادة على ألف مملوك وكانت جامكية مماليكه بالشام من مائة دينار إلى عشرة دنانير‏.‏ ومات عن مماليك كثيرة وترقوا بعده إلى المراتب السنية حتى إن كل من ذكرناه من بعده ونسبناه بالنورزي فهو مملوكه وعتيقه وفي هذا كفاية‏.‏
وقتل معه جماعة من أعيان الأمراء حسبما نذكرهم أولًا بأول‏.‏ وفيها قتل من أصحاب نوروز الأمير سيف الدين يشبك بن أزدمر الظاهري رأس نوبة النوب ثم نائب حلب وكان ممن انضم مع نوروز بعد وفاة الوالد فإن الوالد كان أخذه عنده بدمشق لما ولي نيابتها وجعله الملك الناصر أتابكًا بها وعقد الوالد عقده على ابنته وسنها نحو أربع سنين لئلا يصل إليه من الملك الناصر سوء‏.‏
ودام يشبك مع نوروز إلى أن قبض عليه وقتل بدمشق حسبما تقدم ذكره‏.‏ وكان رأسًا في الشجاعة والإقدام شديد القوة في الرمي بالنشاب إليه المنتهى فيه‏.‏
وفيها قتل الأمير سيف الدين طوخ بن عبد الله الظاهري المعروف بطوخ بطيخ نائب حماة وهو أحد أصحاب نوروز‏.‏ ذبح بدمشق مع نوروز وغيره‏.‏
وفيها قتل الأمير سيف الدين قمش بن عبد الله الظاهري نائب طرابلس وهو أيضًا من وفيها توفي الأمير الكبير سيف الدين يلبغا الناصري الظاهري أتابك العساكر بالديار المصرية في ليلة الجمعة ثاني شهر رمضان بالقاهرة بعد عوده من الشام صحبة السلطان‏.‏
وهو أيضًا من أصحاب نوروز ومن أعيان خاصكية الملك الظاهر برقوق وأحد مماليكه وترقى في الدولة الناصرية إلى أن صار أمير مائة ومقدم ألف بالديار المصرية وقد مر من ذكره نبذة كبيرة في دولة الناصر ثم المؤيد وهو ثالث من ولي الأتابكية بديار مصر وثالث من نعت بيلبغا الناصري في الدولة التركية فالأول منهم يلبغا العمري الناصري صاحب الكبش وأستاذ برقوق‏.‏ والثاني الأتابك يلبغا الناصري اليلبغاوي صاحب الوقعة مع الملك الظاهر برقوق ونسبته بالناصري إلى تاجره خواجا ناصر الدين وهو مملوك يلبغا السابق ذكره - انتهى‏.‏
والثالث يلبغا الناصري هذا وهو من مماليك برقوق ونسبته بالناصري إلى تاجره خواجا ناصر الدين‏.‏ وقد ذكرنا هؤلاء الثلاثة في تاريخنا المنهل الصافي في محل واحد في حرف الياء كون الاسم والشهرة واحدة‏.‏ والثالث شاهين هذا‏.‏
طاف البلاد ورأى المشايخ وأخذ عن العلماء وقدم مصر وأقرأ بها ثم توجه إلى اليمن وولى قضاء زبيد نحو عشرين سنة حتى مات‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم سبعة أذرع سواء‏.‏ مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعًا وخمسة أصابع‏.‏
السنة الرابعة من سلطنة المؤيد شيخ وهي سنة ثماني عشرة وثمانمائة‏.‏
فيها في شهر رجب تجرد السلطان الملك المؤيد شيخ إلى البلاد الشامية لقتال الأمير قاني باي نائب الشام ومن معه حسبما تقدم ذكره من قتاله لهم وقتله إياهم - يأتي ذكر الجميع في هذه السنة‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ستة أذرع ونصف‏.‏ ومبلغ الزيادة عشرون ذراعًا سواء‏.‏
السنة الخامسة من سلطنة المؤيد شيخ وهي سنة تسع عشرة وثمانمائة‏.‏
وفيها كان الطاعون والغلاء بالديار المصرية حسبما تقدم ذكره‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم سبعة أذرع ونصف‏.‏ مبلغ الزيادة عشرون ذراعًا سواء كالعام الماضي‏.‏

السنة السادسة من سلطنة المؤيد شيخ وهي سنة عشرين وثمانمائة
فيها تجرد السلطان الملك المؤيد المذكور إلى البلاد الشامية وفتح عدة قلاع ببلاد الروم مثل كختا وكركر وبهسنا وغيرها وهي تجريدته الثالثة وأيضًا آخر سفراته إلى الشام‏.‏
وفيها توفي الأمير زين الدين فرج ابن السلطان الملك الناصر فرج ابن السلطان الملك الظاهر برقوق ابن الأمير آنص الجاركسي بسجن الإسكندرية في ليلة الجمعة سادس عشرين شهر ربيع الأول ودفن بالإسكندرية ثم نقلت جثته إلى القاهرة ودفنت بتربة والده التي بناها الملك الناصر على قبر أبيه الملك الظاهر برقوق بالصحراء خارج القاهرة - ومات ولم يبلغ الحلم‏.‏ وهو أكبر أولاد الملك الناصر فرج من الذكور وبموته خدمت نفوس الظاهرية‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ستة أذرع سواء مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعًا وثمانية أصابع‏.‏
السنة السابعة من سلطنة المؤيد شيخ ‏وهي سنة إحدى وعشرين وثمانمائة‏.‏
فيها كان الطاعون بالديار المصرية ومات جماعة من الأعيان وغيرهم ووقع الطاعون بها أيضًا في التي تليها حسبما يأتي ذكره‏.‏ فلما قتل الناصر تعلق بحواشي الأمير شيخ وأعيد إلى كشف الوجه البحري - انتهى كلام المقريزي باختصار‏.‏
قلت‏:‏ ثم ولي الأستادارية ثانيًا بعد ابن محب الدين في سنة تسع عشرة وثمانمائة وسلم إليه ابن محب الدين فعاقبه وأخذ منه أموالًا كثيرة‏.‏ ثم أضيف إليه الوزر وتقدم عند الملك المؤيد‏.‏
ثم تغير عليه المؤيد ففر منه فخر الدين المذكور من على حماة إلى بغداد وغاب هناك إلى أن قدم بأمان من الملك المؤيد وعاد إلى وظيفة الأستادارية واستمر على وظيفته إلى أن مات في التاريخ المقدم ذكره‏.‏
قال المقريزي رحمه الله‏:‏ وكان جبارًا قاسيًا شديدًا جلدًا عبوسًا بعيدًا عن الترف‏.‏
قتل من عباد الله ما لا يحصى وخرب إقليم مصر بكماله وأفقر أهله ظلمًا وعتوًا وفسادًا في الأرض ليرضي سلطانه فأخذه الله أخذًا وبيلًا - انتهى كلام المقريزي باختصار‏.‏ قلت‏:‏ لا ينكر عليه ما كان يفعله من الظلم والجور فإنه كان من بيت ظلم وعسف كان عنده جبروت الأرمن ودهاء النصارى وشيطنة الأقباط وظلم المكسة فإن أصله من الأرمن وربي مع النصارى وتدرب بالأقباط ونشأ مع المكسة بقطيا فاجتمع فيه من قلة الدين وخصائل السوء ما لم يجتمع في غيره‏.‏
ولعمري لهو أحق بقول القائل‏:‏ الوافر مساو لو قسمن على الغواني لما أمهرن إلا بالطلاق قيل إنه لما دفن بقبره بالقبة من مدرسته سمعه جماعة من الصوفية وغيرهم وهو يصيح في قبره وتداول هذا الخبر على أفواه الناس‏.‏ قلت‏:‏ وما خفاهم أعظم‏.‏
غير أني أحمد الله تعالى على هلاك هذا الظالم في عنفوان شبيبته ولو طال عمره لملأ ظلمه وجوره الأرض‏.‏
قلت‏:‏ وأعجب من ظلمهم إنشاؤهم المدارس والربط من هذا المال القبيح الذي هو من دماء المسلمين وأموالهم‏.‏ وأما مدرسة فخر الدين هذا ومدرسة جمال الدين البيري الأستادار ومدرسة أخرى بالقرب من باب سعادة فهذه المدارس الثلاث في غاية ما يكون من الحسن والعمل المتقن من الزخرفة والرخام الهائل‏.‏ ومع هذا أرى أن القلوب ترتاح إلى بلاط دهليز خانقاه سعيد السعداء وبياضها الشعث كثر من زخرفة هؤلاء ورخامهم وليس يخفى هذا على أرباب القلوب النيرة والأفكار الجليلة - انتهى‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم أربعة أذرع وثمانية أصابع‏.‏ مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعًا وعشرة أصابع‏.‏

السنة الثامنة من سلطنة المؤيد شيخ وهي سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة‏.‏
فيها توجه المقام الصارمي إبراهيم ابن السلطان الملك المؤيد شيخ إلى البلاد الشامية وسار إلى الروم ومعه عدة من أعيان الأمراء والعساكر وسلك بلاد ابن قرمان وأباده وقد تقدم ذكر ذلك كله في أصل ترجمة الملك المؤيد من هذا الكتاب‏.‏
وفيها كان الطاعون أيضًا بالديار المصرية ولكنه كان أخف من السنة الخالية‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ثلاثة أذرع وستة وعشرون إصبعًا‏.‏ مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعًا وأربعة عشر إصبعًا‏.‏
السنة التاسعة من سلطنة المؤيد شيخ وهي سنة ثلاث وعشرين وثمانماثة‏.‏
فيها تجرد السلطان الملك المؤيد المذكور إلى البلاد الشامية وفتح عدة قلاع ببلاد الروم مثل كختا وكركر وبهسنا وغيرها وهي تجريدته الثالثة وأيضًا آخر سفراته إلى الشام‏.‏
وفيها توفي الأمير زين الدين فرج ابن السلطان الملك الناصر فرج ابن السلطان الملك الظاهر برقوق ابن الأمير آنص الجاركسي بسجن الإسكندرية في ليلة الجمعة سادس عشرين شهر ربيع الأول ودفن بالإسكندرية ثم نقلت جثته إلى القاهرة ودفنت بتربة والده التي بناها الملك الناصر على قبر أبيه الملك الظاهر برقوق بالصحراء خارج القاهرة - ومات ولم يبلغ الحلم‏.‏ وهو أكبر أولاد الملك الناصر فرج من الذكور وبموته خدمت نفوس الظاهرية‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ستة أذرع سواء مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعًا وثمانية أصابع‏.‏

السنة العاشرة من سلطنة المؤيد شيخ وهي سنة إحدى وعشرين وثمانمائة‏.‏
فيها كان الطاعون بالديار المصرية ومات جماعة من الأعيان وغيرهم ووقع الطاعون بها أيضًا في السنة التي تليها
وتوفي الأمير الوزوير فخر الدين عبد الغني ابن الوزير تاج الدين عبد الرزاق بن أبي الفرج بن نقولا الأرمني المالكي أستادار العالية في يوم الاثنين النصف من شوال بداره بين السورين من القاهرة ودفن بجامعه الذي أنشأه تجاه داره المذكورة وتولى الأستادارية من بعده الزيني أبو بكر بن قطلو بك المعروف بابن المزوق‏.‏ وكان مولد فخر الدين المذكور في شوال سنة أربع وثمانين وسبعمائة ونشأ في كنف والده‏.‏ ولما ولي أبوه الوزارة من ولاية قطيا في الأيام الظاهرية برقو ولاه موضعه بقطيا ثم ولي كشف الوجه الشرقي في سنة ثلاث عشرة وثمانمائة ووضع السيف في العرب الصالح والطالح وأسرف في سفك الدماء وأخذ الأموال حتى تجاوز عن الحد في الظلم والعسف‏.‏
ثم طلب الزيادة في الظلم والفساد وبذل للملك الناصر أربعين ألف دينار وولي الأستادارية عوضًا عن تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم في سنة أربع عشرة المذكورة‏.‏
قال المقريزي‏:‏ فوضع يده في الناس يأخذ أموالهم بغير شبهة من شبه الظلمة حتى داخل الرعب كل بريء وكثرت الشناعة عليه وساءت القالة فيه فصرف في ذي الحجة من السنة وسر الناس بعزله سرورًا كبيرًا وعوقب عقوبة لم يعهد مثلها في الكثرة حتى أيس منه كل أحد ورق له أعداؤه وهو في ذلك يظهر قوة النفس وشدة الجلد ما لا يوصف‏.‏
ثم خلي عنه وعاد إلى ولاية قطيا ثم صرف عنها وخرج مع الناصر إلى دمشق من غير وظيفة‏.‏ فلما قتل الناصر تعلق بحواشي الأمير شيخ وأعيد إلى كشف الوجه البحري - انتهى كلام المقريزي باختصار‏.‏
قلت‏:‏ ثم ولي الأستادارية ثانيًا بعد ابن محب الدين في سنة تسع عشرة وثمانمائة وسلم إليه ابن محب الدين فعاقبه وأخذ منه أموالًا كثيرة‏.‏ ثم أضيف إليه الوزر وتقدم عند الملك المؤيد‏.‏ ثم تغير عليه المؤيد ففر منه فخر الدين المذكور من على حماة إلى بغداد وغاب هناك إلى أن قدم بأمان من الملك المؤيد وعاد إلى وظيفة الأستادارية واستمر على وظيفته إلى أن مات في التاريخ المقدم ذكره‏.‏ قال المقريزي رحمه الله‏:‏ وكان جبارًا قاسيًا شديدًا جلدًا عبوسًا بعيدًا عن الترف‏.‏
قتل من عباد الله ما لا يحصى وخرب إقليم مصر بكماله وأفقر أهله ظلمًا وعتوًا وفسادًا في الأرض ليرضي سلطانه فأخذه الله أخذًا وبيلًا - انتهى كلام المقريزي باختصار‏.‏
قلت‏:‏ لا ينكر عليه ما كان يفعله من الظلم والجور فإنه كان من بيت ظلم وعسف كان عنده جبروت الأرمن ودهاء النصارى وشيطنة الأقباط وظلم المكسة فإن أصله من الأرمن وربي مع النصارى وتدرب بالأقباط ونشأ مع المكسة بقطيا فاجتمع فيه من قلة الدين وخصائل السوء ما لم يجتمع في غيره‏.‏ ولعمري لهو أحق بقول القائل‏:‏ الوافر مساو لو قسمن على الغواني لما أمهرن إلا بالطلاق قيل إنه لما دفن بقبره بالقبة من مدرسته سمعه جماعة من الصوفية وغيرهم وهو يصيح في قبره وتداول هذا الخبر على أفواه الناس‏.‏ قلت‏:‏ وما خفاهم أعظم‏.‏ غير أني أحمد الله تعالى على هلاك هذا الظالم في عنفوان شبيبته ولو طال عمره لملأ ظلمه وجوره الأرض‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم أربعة أذرع وثمانية أصابع‏.‏ مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعًا وعشرة أصابع‏.‏

السنة الحادى عشرة من سلطنة المؤيد شيخ وهي سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة‏.‏
فيها توجه المقام الصارمي إبراهيم ابن السلطان الملك المؤيد شيخ إلى البلاد الشامية وسار إلى الروم ومعه عدة من أعيان الأمراء والعساكر وسلك بلاد ابن قرمان وأباده وقد تقدم ذكر ذلك كله في أصل ترجمة الملك المؤيد من هذا الكتاب‏.‏
وفيها كان الطاعون أيضًا بالديار المصرية ولكنه كان أخف من السنة الخالية‏.‏


وتوفي الأديب الفاضل مجد الدين فضل الله ابن الوزير الأديب فخر الدين عبد الرحمن بن عبد الرزاق بن إبراهيم بن مكانس المصري القبطي الحنفي الشاعر المشهور في يوم الأحد خامس عشرين شهر ربيع الآخر‏.‏ ومولده في شعبان سنة تسع وستين وسبعمائة‏.‏ ونشأ تحت كنف والده وعنه أخذ الأدب وتفقه على مذهب أبي حنيفة - رضي الله عنه - وقرأ النحو واللغة وبرع في الأدب وكتب في الإنشاء مدة وكانت له ترسلات بديعة ونظم رائق‏.‏
وفيه يقول أبوه فخر الدين رحمه الله تعالى‏:‏ الطويل أرى ولدي قد زاده الله بهجةً وكمله في الخلق والخلق مذ نشا سأشكر ربي حيث أوتيت مثله وذلك فضل الله يؤتيه من يشا ومن شعر مجد الدين صاحب الترجمة قوله‏:‏ الوافر بحق الله دع ظلم المعنى ومتعة كما يهوى بأنسك وكيف الصد يا مولاي عمن بيومك رحت تهجره وأمسك ‏"‏ وله أيضًا‏:‏ الطويل فأقلعت عن ذنبي وأخلصت تائبًا وأمسكت لما لاح لي الخيط أبيضا وله أيضًا‏:‏ الوافر تساومنا شذا أزهار روض تحير ناظري فيه وفكري فقلت نبيعك الأرواح حقًا بعرف طيب منه ونشري
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ثلاثة أذرع وستة وعشرون إصبعًا‏.‏ مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعًا وأربعة عشر إصبعًا‏.‏
السنة التاسعة من سلطنة المؤيد شيخ وهي سنة ثلاث وعشرين وثمانماثة‏.‏
وتوفي الأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير مبارك شاه الطازي أخو الخليفة المستعين بالله في هذه السنة - وقد تقدم من ذكره نبذة يعرف منها حاله عند خلع الملك الناصر فرج من الملك وتولية الخليفة المستعين بالله السلطنة‏.‏
ولما تولى أخوه المستعين بالله العباس السلطنة أنعم على ابن الطازي هذا بإمرة طبلخاناه وصار دوادار المستعين إلى أن خلع من السلطنة ثم من الخلافة فأخرج الملك المؤيد إقطاع ابن الطازي هذا وأبعده ومقته إلى أن مات‏.‏
وكان ابن الطازي هذا رأسًا في لعب الرمح أستاذًا في فن الفروسية‏.‏ أخذ عنه فن الرمح وغيره الأمير آقبغا التمرازي والأمير كزل السودوني المعلم وبه تخرج كزل المذكور والأمير قجق المعلم رأس نوبة وغيرهم‏.‏
وأنا أتعجب من أمر ابن الطازي هذا مع الملك المؤيد فإن المؤيد كان صاحب فنون ويقرب أرباب الكمالات من كل فن ويجل مقدارهم كيف حط قدر ابن الطازي هذا‏!‏ ولعل ابن الطازي أطلق لسانه في حق الملك المؤيد لما أراد خلع الخليفة من السلطنة فأثر ذلك عند المؤيد وكان ذلك سببًا لإبعاده والله تعالى أعلم‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ثلاثة أذرع سواء‏.‏ مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعًا وثلاثة أصابع‏.‏

 213
 

This site was last updated 06/30/12