Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - coptic history

بقلم عزت اندراوس

السلطان الملك الناصر فرج على مصر الثاني 196 / 6 م.ج  

إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس  هناك تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات وصمم الموقع ليصل إلى 30000 موضوع مختلف

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

لم ننتهى من وضع كل الأبحاث التاريخية عن هذا الموضوع والمواضيع الأخرى لهذا نرجوا من السادة القراء زيارة موقعنا من حين لآخر - والسايت تراجع بالحذف والإضافة من حين لآخر - نرجوا من السادة القراء تحميل هذا الموقع على سى دى والإحتفاظ به لأننا سنرفعه من النت عندما يكتمل

Home
Up
مسجد  القاضي عبد الباسط

Hit Counter

 ****************************************************************************

السلطان الخليفة المستعين بالله العباس 196/ 7 م.ج , أى أنه رقم 196 فى ترتيب الولاة أو الحكام أو الخلفاء أو السلاطين الذين حكموا مصر بعد عمرو بن العاص / وترتيبه 6 من طائفة " م . ج = مماليك . برجية  

****************************************************************************************

 الجزء التالى عن المماليك الذين حكموا مصر وهم تحت إستعمار الأسرة العباسية السنية الإسلامية من مرجع - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة - جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي - منذ غزو مصر على يد جيش المسلمين بقيادة عمرو بن العاص ومن تولوا إمارة مصر قبل الإسلام وبعد الإسلام إلى نهاية سنة إحدى وسبعين وثمانمائة

****************************************************************************************

 

****************************************************************************************

  السلطان الملك الناصر فرج على مصر الثانية  سنة 809 هـ

الملك المؤيد أبو النصر شيخ المحمودي

 

سلطنة الناصر فرج الثانية ولما كان صبيحة يوم السبت خامس جمادى الآخرة طلع الملك الناصر فرج إلى قلعة الجبل وملكها وقبض على الأتابك بيبرس ثم على من يأتي ذكره ثم طلب الخليفة والقضاة فحضروا وجددت له بيعة السلطنة ثانيًا وثبت خلع الملك المنصور عبد العزيز وتسلطن وعاد إلى ملك مصر وخلع على الخليفة والقضاة وتم أمره وانفض الموكب ونزل الجميع إلى دورهم وسكن أمر الناس‏.‏
فلما كان يوم الاثنين سابع جمادى الآخرة المذكورة خلع السلطان على الأمير يشبك الشعباني الظاهري الدوادار كان باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية عوضًا عن بيبرس ابن أخت السلطان الملك الظاهر برقوق وخلع على الأمير سودون الحمزاوي الظاهري باستقراره دوادارًا كبيرًا عوضًا عن سودون المارداني وعلى الأمير جركس القاسمي المصارع باستقراره أمير آخور كبيرًا عوضًا عن سودون تلي المحمدي ثم أمسك السلطان الأمير جارقطلو رأس نوبة وقاني باي أمير آخور وآقبغا رأس نوبة والثلاثة أمراء عشروات وأمسك بردبك وصمغار رأس نوبة أحد أمراء الطبلخانات ثم خلع على القاضي سعد الدين إبراهيم ابن غراب واستقر رأس مشورة وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية وصار أميرًا بعدما كان مباشرًا ولبس الكلفتاه وتقلد بالسيف وكان في أمسه قد ركب مع السلطان الملك الناصر بقرقل وعليه آلة الحرب كاملًا وصار بعد من جملة المقاتلين وتزيا بزي الأتراك وطلع إلى الخدمة من جملة الأمراء ثم نزل إلى داره بقماش الموكب على عادة الأمراء فلم يركب بعدها ولزم الفراش حتى مات حسبما يأتي ذكره في محله‏.‏
وخلع السلطان على فخر الدين ماجد بن المزوق ناظر الجيش باستقراره في كتابة السر عوضًا عن سعد الدين بن غراب المذكور بحكم انتقاله إلى إمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية ثم أمر السلطان فكتب بتقليد الأمير شيخ المحمودي باستقراره في نيابة دمشق على عادته عوضًا عن الأمير نوروز الحافظي وأن يتوجه نوروز المذكور إلى القدس بطالًا وحمل التقليد والتشريف إلى الأمير شيخ الأمير إينال المنقار شاد الشراب خاناه وكتب بتقليد الأمير جكم بنيابة حلب عوضًا عن علان وحمل إليه التقليد والتشريف سودون الساقي وكتب الأمير دمرداش المحمدي نائب حلب كان بالحضور إلى مصر ثم قبض السلطان الملك الناصر على سودون المحمدي المعروف بتلي الأمير آخور الكبير وأخرج إلى دمشق على إقطاع الأمير سودون اليوسفي ثم خلع السلطان على الأمير سودون من زادة باستقراره في نيابة غزة عوضًا عن سلامش‏.‏
ثم في حادي عشرين جمادى الآخرة المذكورة خلع السلطان على الأمير تمراز الناصري باستقراره نائب السلطنة الشريفة بالديار المصرية وكانت شاغرةً سنين عديدة من يوم تركها سودون الفخري الشيخوني في دولة الملك الظاهر برقوق وخلع على الأمير آقباي أمير سلاح واستقر رأس نوبة الأمراء واستقر سودون الطيار أمير سلاح عوضًا عن آقباي المذكور واستقر يلبغا الناصري أمير مجلس عوضًا عن سودون الطيار‏.‏
البلاد الشامية
فإنه لما بلغ أعيان الأمراء بها عود الملك الناصر فرج إلى ملكه وتولية شيخ ثانيًا نيابة دمشق عوضًا عن نوروز فرحوا بذلك فرحًا عظيمًا ودقت البشائر لذلك أيامًا وخرج نوروز الحافظي وعلان جلق من حماة وتوجها إلى حلب بمن معهما‏.‏
وكان الأمير دمرداش المحمدي قد فر منها وتوجه إلى بلاد التركمان فمضيا إليه ثم فارقاه وعادا إلى جهة أخرى حسبما يأتي ذكره وأقام بحلب الأمير دقماق المحمدي فلما قدم جكم إلى حلب امتنع دقماق بحلب وقاتله وانكسر وأخذ دقماق وقتل بين يدي جكم صبرًا على ما يأتي ذكره في محله‏.‏
وأما السلطان الملك الناصر فرج فإنه لما كان يوم الخميس رابع شهر رجب قبض على الأمير أربك الرمضاني وقيده وبعثه إلى الإسكندرية فسجن ثم ورد عليه الخبر بأن الأمير جكم سار إلى حلب ومعه الأمير شيخ نائب الشام ونوروز بحلب فلما وصلا إلى المعرة كتب إليهما نوروز يعتذر بأنه لم يعلم بولاية الأمير جكم لحلب وخرج بمن معه منها إلى البرية فدخل جكم حلب من قتال وعاد شيخ إلى الشام فلما بلغ السلطان ذلك كتب إلى الأمير جكم بنيابة طرابلس مضافًا على ما بيده من نيابة حلب بمثال سلطاني من غير تقليد وتوجه بالمثال الأمير مغلباي وكتب إلى نوروز بالحضور إلى القدس بطالًا كما كتب له أولًا وكتب إلى الأمير بكتمر جلق نائب طرابلس بأن يكون أميرًا كبيرًا بدمشق‏.‏

خلافة المستعين
وأما جكم فإنه لما استقر بحلب ما زال يكاتب نوروزًا وعلان جلق‏.‏ حتى قدما عليه فأكرمهما وصارا من جملة أصحابه ثم وقع له مع شيخ وغيره أمور نذكرها في محلها‏.‏ وفي يوم الاثنين أول شعبان استدعى السلطان الملك الناصر أبا الفضل العباس ولد الخليفة المتوكل على الله أبي عبد الله محمد وبايعه بالخلافة بعد موت أبيه المذكور ولبس العباس التشريف ولقب بالمستعين بالله ونزل إلى داره‏.‏ كانت وفاة المتوكل على الله في سابع عشرين شهر رجب‏.‏
ثم كتب السلطان باستقرار الأمير طولو من علي باشاه في نيابة صفد عوضًا عن بكتمر الركني المعروف بكتمر باطيا وجهز تشريف طولو على يد الأمير آقبردي رأس نوية‏.‏
وكتب باستقرار الأمير دمرداش المحمدي في نيابة حماة‏.‏ ثم ورد الخبر بوصول الأمير علان جلق إلى دمشق مفارقًا لجكم نائب حلب‏.‏ ومات سعد الدين إبراهيم بن غراب في يوم الخميس تاسع عشر شهر رمضان كما سيأتي ذكره في الوفيات‏.‏
ثم أمسك السلطان الأمير إينال الأشقر وأرسله إلى سجن الإسكندرية لأمر بلغه عنه ثم في أواخر شهر رمضان قبض على الأمير سودون المارداني من بيت بالقاهرة فقيد وحمل إلى سجن الإسكندرية‏.‏ ثم كتب السلطان أمانًا لكل من جمق وأسنباي وأرغز وسودون اليوسفي وبرسباي الدقماقي أعني الملك الأشرف وجهزه إليهم بالشام‏.‏
ثم قبض السلطان على الوزير فخر الدين ماجد بن غراب في سابع في القعدة وسلمه إلى جمال ثم كتب السلطان إلى الأمير نوروز الحافظي وهو عند جكم بحلب أنه قد قدمت مكاتبة السلطان له أنه يتوجه إلى القدس بطالًا وأنه أيضًا ساعة وصول هذا المرسوم إليه يحضر إلى الديار المصرية فلم يلتفت جكم إلى مرسوم السلطان ونهر القاصد وخشن له في الكلام‏.‏
ثم في سابع من ذي الحجة خلع السلطان على القاضي فتح الدين فتح الله بإعادته إلى وظيفة كتابة السر بعد عزل فخر الدين بن المزوق عنها ثم أفرج السلطان عن فخر الدين بن غراب وخلع عليه واستقر وزيرًا ومشيرًا وناظر الخاص وعلى عادته أولًا بعد أن حمل عشرين ألف دينار‏.‏

الطاعون ينتشر فى بلاد الصعيد
وكان في هذه السنة أعني سنة ثمان أو ثمانمائة الطاعون العظيم بصعيد مصر حتى شمل الخراب غالب بلاد الصعيد‏.‏
ثم بلغ السلطان أن جكم من عوض نائب حلب قد عظم أمره وأنه قد بدا منه أمور تدل على المخالفة فكتب السلطان بعزله عن نيابة حلب وطرابلس وولاية الأمير دمرداش نيابة حلب عوضه وتولية الأمير علان اليحياوي أجلق نيابة طرابلس عوضه وتولية الأمير عمر الهيدباني نيابة حماة وتوجه بتقاليدهم ألطنبغا شقل مملوك الأمير شيخ المحمودي نائب الشام ولم يرسل السلطان إليهم أحدًا من أمراء مصر لضعف حالهم وعدم موجودهم وقبل أن يصل إليهم الخبر خامس من ذي الحجة قتالًا عظيمًا قتل فيه الأمير علان اليحياوي جلق والأمير طولو من علي باشاه نائب صفد وجماعة كبيرة في الواقعة‏.‏
وأما علان وطولو فإنه قبض عليهما فقدما بين يدي الأمير جكم فأمر بضرب رقابهما فضربت أعناقهما بين يديه وضرب عنق طواشي كان في خدمة الأمير شيخ معهما‏.‏ قلت‏:‏ وهذا ثالث أمير قتله الأمير جكم من أعيان الملوك من خشداشيته في هذه السنة - أعني‏:‏ دقماق المحمدي نائب حلب وعلان هذا نائب حلب أيضًا وطولو نائب صفد انتهى‏.‏
وانهزم الأمير شيخ المحمودي نائب الشام ومعه الأمير دمرداش نائب حلب إلى دمشق فلم يقدر شيخ على الإقامة بدمشق خوفًا من نوروز الحافظي وخرج من دمشق ومضى إلى الرملة يريد القدوم إلى القاهرة ودخل نوروز إلى دمشق وملك المدينة من جهة جكم بعساكره في يوم الاثنين سابع عشرين في الحجة المذكورة ثم دخل جكم دمشق بعده في يوم الخميس سلخ ذي الحجة وناس جكم في دمشق بالأمان وأنه لا يشوش أحد على أحد وكان جكم قد شنق رجلًا من عسكره بحلب كونه رعى فرسه زرعًا وشنق آخر على شيء وقع منه في حق بعض الرعية ثم لما قدم دمشق شنق بها أيضًا جنديًا بعد المناداة على شيء من ذلك فخافته عساكره وانكفوا عن مظالم الناس وعن شرب الخمر حتى لهجت الناس بقولهم‏:‏ جكم حكم وما ولما بلغ خبر هذه الواقعة المصريين خارت قواهم وتخوفوا من جكم وخرج البريد من يومه يطلب الأمير تغري بردي أعني الوالد من برية القدس فحضر إلى القاهرة وجلس رأس الميسرة بعد أن بنى السلطان على ابنته كريمة مؤلف هذا الكتاب‏.‏

ثم جهز السلطان تشريفًا للأمير شيخ في حادي عشر المحرم من سنة تسع وثمانمائة بنيابة الشام على عادته وأمده بمال وسلاح وقبل خروج القاصد إليه قدم الخبر بوصول شيخ المذكور إلى مدينة بلبيس فخرج إليه المطبخ السلطاني وتلقته الأمراء‏.‏
ثم قبض السلطان على الأمير كزل العجمي حاجب الحجاب وكان أمير حاج المحمل لما فعله مع الحجاج في هذه السنة فإنه أخذ من الحاج على كل جمل دينارًا وباعهم الماء الذي يردونه فصادره السلطان وأخذ منه نحو المائتي ألف درهم ففر في سلخه فأخذ له حاصل كبير أيضًا‏.‏
وأما جكم فإنه أقام بدمشق مدة وقرر أمورها وجعل على نيابتها الأمير نوروزًا الحافظي وكان الأمير سودون تلي المحمدي الأمير آخور كان في سجن الأمير شيخ ففر منه ولحق بالأمير نوروز الحافظي‏.‏ ثم ورد الخبر من قضاة حماة أنه سمع طائر يقول‏:‏ ‏"‏ اللهم انصر جكم ‏"‏ وهذا من غريب الاتفاق‏.‏
هذا والناس في جهد وبلاء من غلو الأسعار بالديار المصرية لا سيما لحم الضأن والبقر وغيره فإنه عز وجوده البتة‏.‏
ثم خرج الأمير الكبير يشبك الشعباني وغالب الأمراء إلى ملاقاة شيخ ودمرداش ومعهما خير بك نائب غزة وألطنبغا العثماني حاجب حجاب دمشق ويونس الحافظي نائب حماة - كان - وسودون الظريف نائب الكرك - كان - وتنكزبغا الحططي في آخرين وطلع الجميع إلى القلعة وقبلوا الأرض بين يدي السلطان فأكرمهم السلطان غاية الإكرام ثم نزلوا إلى القاهرة وعقيب ذلك ورد الخبر بأخذ عسكر جكم مدينة صفد والكرك والصبيبة وغيرها‏.‏
ثم في سادس صفر من سنة تسع وثمانمائة المذكورة خلع السلطان على الأمير شيخ المحمودي بنيابة الشام على عادته وعلى الأمير دمرداش بنيابة حلب على عادته وأخذ السلطان في تجهيز أمر السفر إلى البلاد الشامية‏.‏
ثم في حادي عشرين صفر من سنة تسع المذكورة حمل السلطان الملك الناصر أخاه الملك المنصور عبد العزيز وأخاه إبراهيم - ابني الملك الظاهر برقوق - إلى سجن الإسكندرية صحبة الأمير قطلوبغا الكركي والأمير إينال حطب العلائي ورسم لهما أن يقيما بإسكندرية عندهما وقد تقدم ذكر ذلك في أواخر ترجمة الملك المنصور عبد العزيز‏.‏
ثم أنعم السلطان على الأمير شيخ بأشياء كثيرة فتجهز شيخ المذكور وخرج من الديار المصرية في يوم الإثنين أول شهر ربيع الأول وخلع السلطان على الأمير دمرداش المحمدي نائب حلب أيضًا خلعة السفر وخرج صحبة الأمير شيخ وتوجها بجماعتهما ونزلا بالريدانية ثم لحق بهما الأمير سودون الحمزاوي الدوادار الكبير والأمير سودون الطيار أمير سلاح بطلبهما ومماليكهما وهؤلاء كالجاليش‏.‏
وأقام الجميع بالريدانية إلى أن رحلوا منها وبعد رحيلهم نزل السلطان بعساكره وأمرائه من قلعة الجبل ونزل بمخيمه من الريدانية خارج القاهرة في ثامن شهر ربيع الأولى المذكور من سنة تسع وثمانمائة‏.‏

إعداد الجيش للسفر إلى الشام
وهذه تجريدة الملك الناصر الثالثة إلى البلاد الشامية فإن الأولى كانت في سنة اثنتين لقتال تنم والثانية في سنة ثلاث لقتال تيمورلنك وهذه الثالثة‏.‏
وأقام السلطان بالريدانية إلى يوم ثاني عشر شهر ربيع الأول فرحل منها بعساكره إلى جهة الشام بعد أن خلع على الأمير تمراز الناصري نائب السلطنة الشريفة بالديار المصرية باستقراره أيضًا في نيابة الغيبة بالقاهرة وأنزل السلطان بقلعة الجبل جماعة أخرى من الأمراء ممن يثق بهم وكذلك بالقاهرة‏.‏
قال المقريزي :‏ ولم يحمد رحيل السلطان الملك الناصر من الريدانية في يوم الجمعة فقد نقل عن الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - أنه قال‏:‏ ‏"‏ ما سافر أحد يوم الجمعة إلا رأى ما وسار السلطان بعساكره حتى دخل دمشق في يوم الإثنين سابع شهر ربيع الآخر من السنة بتجمل عظيم ونزل بدار السعادة بعد أن زينت له دمشق فأقام بدمشق إلى يوم سابع عشره فرحل من دمشق بعساكره يريد حلب وسار حتى دخل حلب في يوم سادس عشرينه وقد فر منها جكم وعدى الفرات خوفًا من الملك الناصر فرج ومعه الأمير نوروز الحافظي وتمربغا المشطوب في جماعة أخر‏.‏
فنزل السلطان بالقلعة من حلب وبعث بجماعة في طلب جكم ورفقته فتوجهوا في أثره ثم عادوا بعد أيام بغير طائل‏.‏ وخرج السلطان من حلب عائدًا إلى الديار المصرية يريد الشام في أول جمادى الآخرة بعد ما ولى الأمير جركس القاسمي المصارع الأمير آخور الكبير نيابة حلب عوضًا عن جكم من عوض وولى الأمير سودون بقجة نيابة طرابلس‏.‏
وجد السلطان في سيره بعد خروجه من حلب حتى قدم دمشق في خامس جمادى الآخرة‏.‏
وبعد خروج السلطان من حلب بيوم ثارت طائفة من المماليك ومعهم عامة حلب على جركس المصارع ثم قدم الأمير نوروز الحافظي إلى نحو حلب ففر منها جركس المصارع يريد دمشق ونوروز في أثره فعثر نوروز بخام الملك الناصر - وكان تخلف عن السلطان لسرعة سير السلطان - فقطعه نوروز ووقع النهب فيه ولحق الأمير جركس السلطان ودخل معه دمشق فنزل السلطان في‏.‏
دار السعادة ونادى بالإقامة في دمشق شهرين‏.‏ وكان الأتابك يشبك الشعباني قدم دمشق وهو متمرض في أمسه ومعه الأمير دمرداش المحمدي وبشباي رأس نوبة النوب وورد الخبر على السلطان بنزول نوروز على حماة وبقدوم جكم إلى حلب‏.‏
فلما بلغ السلطان ذلك خرج من دمشق في يوم الأحد سادس عشر جمادى بعد ما أمر العسكر أن من كان فرسه عاجزًا فليتوجه إلى القاهرة وألا يتبع السلطان إلا من كان قويًا‏.‏ فتسارع أكثر العسكر إلى العود لجهة الديار المصرية ولم يتبع السلطان من عسكره إلا القليل‏.‏ وسار الملك الناصر حتى وصل إلى منزلة قارا ثم عاد مجدا فدخل دمشق وقد تمزق عسكره‏.‏ وتأخر جماعة من الأمراء مع شيخ نائب الشام ثم قدموا دمشق‏.‏
ثم خرج الأمير شيخ في ثالث عشرينه من دمشق ومعه دمرداش المحمدي وألطنبغا العثماني في عدة من الأمراء إلى جهة صفد وسار السلطان ويشبك ومعهما جميع الأمراء إلى جهة مصر فدخل السلطان إلى القدس وقد تخفف الأمير سودون الحمزاوي الدوادار الكبير بدمشق ومعه عدة من الأمراء مغاضبين للسلطان لأمر اقتضى ذلك‏.‏
ثم خرج الحمزاوي من دمشق يريد صفد وأخذ كثيرًا من الأثقال السلطانية واستولى على صفد‏.‏ وأما نوروز فإنه جهز عسكرًا عليهم الأمير سودون تلي المحمدي وأزبك الدوادار في آخرين فساروا إلى جهة الرملة‏.‏
ثم قدم على الأمير نوروز الحافظي إينال باي بن قجماس والأمير يشبك بن أزدمر - وكانا مختفيين بالقاهرة من خروج الملك الناصر فرج وعوده إلى ملكه واختفيا حتى خرجا صحبة السلطان إلى البلاد الشامية فلما عاد السلطان إلى نحو الديار المصرية توجها إلى نوروز بدمشق وتوجه معهما الأمير سودون المحمدي لضعف أصابه - فأكرمهما الأمير نوروز غاية الإكرام وأنعم عليهما بأشياء كثيرة وكتب للأمير جكم بقدومهما‏.‏
وأما السلطان الملك الناصر فإنه سار من القدس حتى دخل إلى القاهرة في حادي عشر شهر رجب بغير طائل وقد تلف له ولعساكره مال كبير وزينت القاهرة لقدومه وخرج أعيان المصريين لتلقيه‏.‏ ثم بعد قدومه بسبعة أيام وصل دمرداش نائب حلب وسودون من زادة نائب غزة إلى القاهرة واستمر سودون الحمزاوي وشيخ نائب الشام بصفد وأخذ سودون الحمزاوي يسعى في الصلح بين شيخ ونوروز ولازال في ذلك حتى أجاب نوروز وكتب في هذا المعنى إلى جكم‏.‏
فبينما هم في ذلك خرج سودون الحمزاوي يومًا من صفد ليسير في برها فقام شيخ وركب واستولى على قلعة صفد وأخذ جميع مال الحمزاوي وبلغ ذلك الحمزاوي فهرب ونجا بنفسه في قليل من أصحابه وتوجه إلى دمشق فرحب به نوروز غير أن نوروزًا كان مشغولًا بعمارة قلعة دمشق فلم ينهض بالخروج معه لقتال شيخ‏.‏
وأما الملك الناصر فإنه في يوم الجمعة رابع شعبان مسك الوزير فخر الدين ماجد بن غراب وسلمه لجمال الدين الأستادار ليصادره ويعاقبه وفي سابعه استقر جمال الدين في وظيفتي الوزير وناظر الخاص مضافًا إلى الأستادارية وهذا أول ابتداء تحكم جمال الدين في الناس‏.‏
ثم قبض على الأمير خير بك نائب غزة وقدم به إلى القاهرة مقيدًا‏.‏ ثم عين السلطان جماعة من الأمراء للتجريدة بالبلاد الشامية ومقدمهم الأمير تمراز الناصري النائب وآقباي وغيرهما‏.‏ وخرجوا من القاهرة في عاشر شهر رمضان فورد الخبر بأن عسكرًا من الشام أخذ غزة وأن يشبك بن أزدمر أخذ قطيا وأخربها وعاد إلى غزة‏.‏
فأقام تمراز بمن معه على مدينة بلبيس أيامًا ثم عاد هو وآقباي بمن معهما إلى القاهرة في سابع شوال‏.‏ ثم قدم الخبر على الملك الناصر بأن الأمير جكم من عوض نائب حلب تسلطن بقلعة حلب في يوم حادي عشر شوال من سنة تسع وثمانمائة المذكورة وتلقب بالملك العادل أبي الفتح عبد الله جكم وخطب باسمه من الفرات إلى غزة عدا صفد فإن بها الأمير شيخًا المحمدي وقد استولى عليها من الحمزاوي حسبما تقدم ذكره وأنه لم يخطب باسم جكم وأنه مستمر على طاعة السلطان وأن الأمير نوروزًا نائب الشام باس الأرض لجكم وخلع على جلق بنيابة صفد بأمر الملك العادل جكم‏.‏
ثم قدم بعد ذلك عدة كتب من أمراء الشام على السلطان يرغبون السلطان في الخروج إلى البلاد الشامية‏.‏ ثم قدمت‏.‏ عدة كتب من جكم إلى عربان مصر وفلاحيها بمنعهم من دفع إلى السلطان أمرائه وأجناده وتحذيرهم من ذلك حتى يقدم جكم إلى مصر‏.‏
ثم ورد البلاد الشامية أنه في ثامن عشر شوال وصل إلى دمشق قاصد الملك العادل جكم وعلى يده مرسوم جكم بأن الأمير سودون الحمزاوي يكون دوادارًا بالديار المصرية على عادته وأن الأمير إينال باي بن قجماس يكون أمير آخور كبيرًا على عادته وأن الأمير يشبك بن أزدمر يكون رأس نوبة النوب على عادته وأن الأمير نوروزًا مستمر على نيابة دمشق وجيء له بالخلعة فلبسها نوروز وقبل الأرض ودقت البشائر لذلك - بدمشق - أيامًا وزينت المدينة‏.‏ فلما بلغ السلطان ذلك أراد الخروج إلى البلاد الشامية فكلمه أمراؤه في تأخير السفر حتى يخف الطاعون من الديار المصرية فإنه كان فشا بها وكثر فلم يلتفت السلطان لذلك‏.‏
فتل جكم الأمير المتمرد على سلطان مصر
وشرع في أول ذي الحجة في الاهتمام إلى سفر الشام هو وعساكره‏.‏ ثم في خامس عشرين ذي الحجة المذكورة علق السلطان جاليش السفر وصرفت النفقة للمماليك السلطانية في تاسع عشرينه لكل مملوك ثلاثون مثقالًا وألف درهم فلوسًا فتجمع المماليك تحت الطلبلخاناه السلطانية وامتنعوا من أخذها فكلمهم بعض الأمراء على لسان السلطان في ذلك فرضوا‏.‏
وبينما السلطان في ذلك ورد عليه الخبر بقتل الأمير جكم بآمد من ديار بكر بن وائل في سابع عشر ذي القعدة من سنة وسبب قتلة جكم المذكور أنه لما تسلطن بمدينة حلب ووافقه وأطاعه غالب نواب البلاد الشامية وعظم أمره وكثرت عساكره وخافه كل أحد حتى أهل مصر وتهيأ الملك الناصر إلى الخروج من مصر لقتاله ابتدأ جكم بالبلاد الشامية واستعد لأخذها على أن الديار المصرية صارت في قبضته وأعرض عنها حتى ينتهي من بلاد الشرق وجعل تلك الناحية هي الأهم‏.‏
وخرج من مدينة حلب بعساكره إلى نحو الأمير عثمان بن طر علي المعروف بقرايلك صاحب آمد وغيرها من ديار بكر‏.‏
وكان قرايلك المذكور يومئذ نازلًا بآمد فسار جكم حتى نزل على البيرة وحصرها وأخذها وقتل نائبها الأمير كزل فأتته بها رسل قرايلك رغب إليه في الطاعة ويسأله الرجوع عنه إلى حلب وأنه يحمل إليه من الجمال الأغنام عدةً كبيرة ويخطب له بديار بكر فلم يقبل جكم ذلك وسار حتى نزل قرب ماردين فأقام هناك أيامًا حتى قدم الملك الظاهر مجد الدين عيسى الأرتقي ساحب ماردين ومعه حاجبه فياض بعساكره فاستصحبه جكم معه إلى نحو مدينة آمد وقد تهيأ قرايلك لقتال جكم المذكور فعبأ جكم عساكره ومشى على آمد فالتقاه قرايلك بظاهرها وتقاتلا قتالًا شديدًا قاتل فيه جكم بنفسه وقتل بيده إبراهيم بن قرايلك ثم حمل على قرايلك بنفسه فانهزم قرايلك بمن معه إلى مدينة آمد وامتنعوا بها وغلقوا أبوابها‏.‏
فاقتحم جكم في طائفة من عسكره القرايلكية وساق خلفهم حتى صار في وسط بساتين آمد‏.‏ وكان قرايلك قد أرسل المياه على أراضي آمد حتى صارت ربوًا يدخل فيها الفارس بفرسه فلا يقدر على خلاص‏.‏
فلما وصل جكم إلى ذلك الموضع المذكور أخذه الرجم هو ومن معه من كل جهة وقد انحصروا من الماء الذي فاض على الأرض وجعلها ربوًا فصاروا لا يمكنهم فيه الكر والفر‏.‏ فصوب عند ذلك بعض التراكمين من القرايلكية على جكم وهو لا يعرفه ورماه بحجر في مقلاع أصاب جبهته وشجه وسال الدم على ذقنه ووجهه وجكم يتجلد ويمسح الدم عن وجهه فلم يتمالك نفسه وسقط عن فرسه مغشيًا عليه‏.‏
وتكاثر التركمان على رفقته فهزموهم بعد أن قتلوا منهم عدة كبيرة فنزل بعض التراكمين وقطع رأس جكم‏.‏ وجال العسكر واضطرب أمر جيش جكم ساعة ثم انكسروا لفقد جكم‏.‏ وقد عاينت أنا موضع قتل جكم بظاهر مدينة آمد لما نزل السلطان الملك الأشرف برسباي عليها في سنة ست وثلاثين وثمانمائة - عرفني ذلك الأمير السيفي صربغا أمير آخور الوالد فإنه كان يوم ذاك صحبة جكم في الواقعة المذكورة - انتهى‏.‏
ثم أخذ التركمان في الأسر والقتل والنهب في عساكر جكم وعساكر ماردين حتى إنه لم ينج منهم إلا القليل‏.‏ فلما ذهب القوم نزل قرايلك وتطلب جكم بين القتلى حتى ظفر به فقطع رأسه وبعث به إلى السلطان الملك الناصر إلى الديار المصرية‏.‏
وقتل في هذه الواقعة مع الأمير جكم من الأعيان‏:‏ الملك الظاهر عيسى صاحب ماردين وكان من أجل الملوك والأمير ناصر الدين محمد بن شهري حاجب حجاب حلب والأمير قمول نائب عين تاب وصارو سيدي‏.‏ وفر الأمير تمربغا المشطوب وكمشبغا العيساوي حتى لحقا بحلب في عدة يسيرة من المماليك‏.‏ وكانت هذه الواقعة في سابع عشر ذي القعدة من سنة تسع وثمانمائة - انتهى أمر جكم وقتلته‏.‏
وأما أمر الأمير شيخ المحمودي نائب الشام - كان - فإنه في ذي القعدة أيضًا ركب من صفد يريد الأمراء الذين من جهة نوروز وجكم - وقد وصلوا من دمشق إلى غزة - وهم‏:‏ إينال باي بن قجماس وسودون الحمزاوي ويشبك ابن أزدمر ويونس الحافظي نائب حماة - كان - وسودون قرناص في آخرين‏.‏
فسار شيخ بمن معه وطرقهم بغزة على حين غفلة في يوم الخميس رابع ذي الحجة فركبوا وقاتلوه قتالًا شديدًا قتل فيه إينال باي بن قجماس ويونس الحافظي وسودون قرناص‏.‏ وقبض شيخ على سودون الحمزاوي بعد ما قلعت عينه وهرب يَشْبُك بن أَزدَمُر إلى دمشق‏.‏ وقبضَ شيخٌ على عدة مماليك منَ السّلطانية فوسط منهم تسعة وغرق أحدَ عشر وأفرجَ عنْ مماليك ولم يتعرض لهم بسوء وبعث بطائفةٍ أخرى من المماليك السّلطانية إلى الملك الناصر فرج ثم عاد شيخ إلى صَفَد‏.‏
ثم ورد الخبر بأن الأمير نَوْروزأ نائب الشام عاد إلى طاعةِ السّلطان بعد قتل جكم وأن تَمُرْبُغَا المشطوبَ تغلب على حَلَب وقاتلته التراكمين حتى ملك قلعة حلب بعد أمور وأنه أخذ ما كان لجكَم بحَلَب واستخدم مماليك جَكَم فعظُم أمره لذلك فأمر السلطانُ بتجهيز أموره للسفر إلى البلاد الشامية وتجهزت فلما كان يومُ الاثنين سادس المحرم من سنة عشرة وثمانمائة فرَّقَ السلطان الجمالَ على المماليك السلطانية برسْم السفَر إلى الشام صُحبة السلطان ثم في يوم الجمعة عاشِر المحرم قَدِم إلى القَاهِرة حاجبُ الأمير نُعَيْر برأس الأمير جكم ورأس ابن شهْري فخلع السلطانُ عليه وطيفَ بالرأسين على رمحين ونوديَ عليهما بالقاهرة ثم عُلًقاَ على باب زُويلة ودُقت البشائر وزُينتَ لذلك‏.‏
في تاسع عشَر المحرم خرَجت مُدورَة السلطانِ إلى الرّيْدَانيةِ خارج القاهرة في يوم حادي عشرينه برز الجاليش السلطاني من الأمراء إلى الريدانية وهم الأتابك يَشْبُك والوالدُ وهو تَغْرِي بَرْدي البَشْبُغَاويّ والأميرُ بَيْغُوت في آخرين من الأمراء‏.‏ ورحلوا في خامس عشرينه من الريدانية‏.‏
ونزل السلطانُ مِنْ قَلْعة الجبل يوم الإثنين ثامن عشْرينه إِلى الريْدَانِيةِ ببقية أمرائه وعساكره‏.وهذه تجريدة الملك الناصر الرابعةُ إلى البلاد الشامية غير واقعة السعيدية‏.‏
ثم رحل السلطانُ مِنَ الريْدَانية في يوم ثاني صفر مِنْ سنةِ عشَرة وثمانمائة يريد البلادَ الشَامية‏.‏ وأما البلاد الشامية - فإن نَوْروزًا الحافظي خرج منْ دمشق في أول محرم مِنْ هذه السنةِ لقتال شيخ فضعف شيخ عن مقاومته ولم يخرُج مِن صَفَد‏.‏
وأَرسَل شيخ يستحث السلطانَ على سُرعة المجيء إلى البلاد الشامية‏.‏ فعاد نَوْرُوز إلى دمشق بعد أن حاصر شيخًا أيامًا وأَرسل إلى السلطان يطلب أمانًا وأنه يمتثِل ما يرسمُ به السلطان وأنه يوافقُ شيخًا ويرضَى بما يوليه السلطانُ مِنَ البلاد‏.‏
ثم أرسل نَوْرُوز إلى شيخ بأَنْ يكاتبَ السلطان بأن يكونَ نائبَ حَلَب ويكون شيخٌ نائب الشام على عادته فلم يَلتفت شيخ إلى كلامه وانتهَز شيخ الفرصة وقد قويَ أمرُه بعد ما كان خائفًا من نَوْروصز لقدوم السلطان الملك الناصر إلى البلاد الشاميّة وسارَ بمماليكه وحواشيه حتى نزل بالقرب مِنْ دمشق‏.‏ ففر في تلك الليلةِ مِنْ نَوْروز إلى شيخ جماعة مِنَ الأمراء منهم‏:‏ قِمْشُ وجُمَق‏.‏
ثم تحول نَوْرُوز من المِزة إلى قبئة يَلْبُغاَ فوصل إليه قاصدُ الأمير شيخ بأنّ السلطان أرسَل إليه تشريفًا بنيابة دمشق وأنه طلب مِن السلْطان لنوْرُوز نيابة حَلَب فأبى السَلطانُ ذلك وأن عسكر السلْطان وصل إلى مدينة غزة‏.‏ فتحول عند ذلك نَوْرُوز إلى بَرْزة ودخلت مماليك الأمير شيخ إلى الشام مِنْ غير قتال‏.‏
وأما السلطانُ الملك الناصر فإنه لما رحل مِن الريدَانيّة بعد أنْ عمل الأميرَ تمراز نائب السلطنة نائب غيبته بديار مصر وأنزله بباب السلسلة وأنزل الأمير آقْباَي بقلعة الجبل وسكن سودُونَ الطيار أمير سِلاح بالرمَيْلة تجاه باب السلسلة‏.‏
وسارَ السلطان حتى وصل إلى غزة في ثاني عشر صفر فورد عليه الخبر بفرار نَوْرُوز فلم يلتفت إلى ذلك وسار حتى دخَل إلى دمشق في يوم ثاني عشرين صفر بعدما خرجَ الأمير شيخ إلى لقائه وقبل الأرض بين يديه وسار معه حتى دخل دمشق في خدمته منْ جُملة الأمرَاء‏.‏ ونزَل السلطان بدار السعادة منْ دمشق وصلَى الجمعةَ بجامع بني أمية‏.‏ ثم قبض على قضاةِ دِمشقَ ووزيرها وكاتب سرها وأهانهم السلطانُ وألزمهم بحمل مال كبير‏.‏
ثم في يوم الأحد خامس عشرين صفر أمسك السلطان الأمير شيخًا المحمودي نائب دمشق والأمير الكبير يشبك الشعباني الأتابكي واعتقلهما بقلعة دمشق وكان الأمير جركس القاسمي المصارع الأمير آخور قد تأخر في هذا اليوم عن الخدمة السلطانية بداره فلما بلغه الخبر فر من وقته فلم يدرك‏.‏
وهرب جماعة كبيرة من الشيخية واليشبكية‏.‏ ثم في سادس عشرين صفر خلع السلطان على الأمير بيغوت باستقراره في نيابة دمشق عوضًا عن شيخ المحمودي بحكم حبسه بقلعة دمشق وخلع على الأمير فارس دوادار تنم باستقراره حاجب حجاب دمشق وخلع على الأمير عمر الهيدباني بنيابة حماة وعلى صدر الدين علي بن الأدمي باستقراره قاضي قضاة الحنفية بدمشق‏.‏
ودام يشبك وشيخ بقلعة دمشق إلى أن استمالا نائب قلعتها الأمير منطوقًا حتى أفرج عنهما في ليلة الاثنين ثالث شهر ربيع الأول من سنة عشرة وثمانمائة‏.‏ وهو أن منطوقًا تحيل على من عنده من المماليك بأن السلطان رسم له بأن ينقل الأميرين شيخًا ويشبك من حبس إلى آخر فصدقوه فأخرجهما على أنه وفر بهما ونزل من القلعة فلم يبلغ السلطان الخبر حتى ذهبوا حيث شاؤوا‏.‏
وأصبح السلطان يوم الإثنين ندب الأمير بيغوت لطلبهم فركب بيغوت من وقته بمماليكه وسار في طلبهم - غارةً - وقد اختفى الأمير شيخ بدمشق ولم يخرج منها وتوجه يشبك فلم يدرك بيغوت سوى منطوق نائب قلعة دمشق الذي أطلقهما -‏.‏ لثقل جثته فإنه كان في غاية من السمن‏.‏
ففز يشبك وقاتل منطوق بيغوت ساعةً ثم انهزم وقبض عليه بيغوت وقطع رأسه وحملها إلى الملك الناصر ورفعت على رمح وطيف بها دمشق ثم علقت على سور دمشق‏.‏ ثم قدم الخبر باجتماع الأتابك يشبك وشيخ وجركس وأنهم في دون الألف فارس وهم على حمص وأنهم اشتدوا على الناس في طلب المال‏.‏
فكتب السلطان في الحال للأمير نوروز الحافظي وهو بمدينة حلب عند تمربغا المشطوب يستدعيه لمحاربة يشبك وشيخ وأنه ولاه نيابة الشام وأمره أن يحمل إليه جماعة من الأمراء ويبعث السلطان إليه التقليد والتشريف مع الأمير سلامش‏.‏ ثم جهز السلطان سلامش إلى نوروز وعلى يده خلعته بنيابة دمشق فلبس نوروز الخلعة وقبل الأرض وامتثل ما أمره السلطان به من قتال الأمراء وغيره وكتب يعتذر من عدم الحضور بما عنده من الحياء من السلطان والخوف لما وقع منه قبل تاريخه وأنه إذا سار السلطان من دمشق نحو الديار المصرية قدمها وكفاه أمر هؤلاء‏.‏
ثم أرسل نوروز بعد ذلك بأنه قبض على جماعة من الأمراء الذين فروا من السلطان من دمشق وهم‏:‏ الأمير علان والأمير جانم من حسن شاه والأمير إينال الجلالي المنقار والأمير جقمق العلائي أخو جركس المصارع - أعني الملك الظاهر جقمق - والأمير أسنباي التركماني أحد أمراء الألوف بدمشق والأمير أسنباي أمير آخور والأمير جمق نائب الكرك - كان - وبعث بهم الجميع ما خلا جانم‏.‏ ثم في تاسع ربيع الأول أرسل السلطان إلى الديار المصرية بالقبض على الأمير تمراز الناصر في نائب السلطنة بالديار المصرية ثم نائب الغيبة فأذعن تمراز وسلم نفسه فمسك وقيد وحبس بالبرج من قلعة الجبل وسكن سودون الطيار عوضه بباب السلسلة من الإسطبل السلطاني‏.‏
ثم ركب السلطان الملك الناصر في يوم الأربعاء رابع شهر ربيع الآخر من دار سعادة دمشق وتوجه إلى الربوة فتنزه بها ثم عاد إلى دار السعادة‏.‏ ثم أصبح لعب الكرة بالميدان وقدم عليه الأمير بكتمر جلق بالأمراء الذين قبض عليهم الأمير نوروز وهم المقدم ذكرهم فرسم السلطان بحبسهم‏.‏ ثم في اليوم المذكور خرج حريم السلطان من دمشق إلى جهة الديار المصرية‏.‏
ثم خرج السلطان من دمشق في يوم السبت سابع شهر ربيع الآخر يريد الديار المصرية ومعه الأمراء المقبوض عليهم وفيهم‏:‏ الأمير سودون الحمزاوي وقد أحضر من سجن صفد والأمير آقبردي رأس نوبة أحد أمراء الطبلخانات وسودون الشمسي أمير عشرة وسودون البجاسي أمير عشرة‏.‏ وسار السلطان إلى مصر وجعل بكتمر جلق نائب الغيبة بدمشق حتى يحضر إليها نائبها الأمير نوروز‏.‏
بكتمر جلق المذكور قد خلع عليه السلطان باستقراره في نيابة طرابلس قبل تاريخه‏.‏ وأصبح شيخ لما بلغه خروج السلطان من دمشق فطرق دمشق ومعه يشبك وجركس وأخذها من بكتمر وملكها بعد أن فر بكتمر منها‏.‏ وقبض شيخ على جماعة من أمراء دمشق وولى وعزل وأخذ خيول الناس وصادر جماعة‏.‏
ثم ورد الخبر على يشبك وشيخ بنزول بكتمر جلق على بعلبك بأناس قليلة فخرج إليه يشبك الشعباني وجركس في عسكر ومضى بكتمر جلق إلى حمص‏.‏
وسار يشبك وجركس حتى وصلا إلى بعلبك فوافاهما الأمير نوروز بعساكره على كروم بعلبك فبرز إليه يشبك وجركس بمن معهما فقاتلهم نوروز حتى هزمهم وقتل الأتابك يشبك الشعباني وجركس القاسمي المصارع في ليلة الجمعة ثالث عشر شهر ربيع المذكور وقتل جماعة أخر وقبض نوروز على جماعة وفر من بقي‏.‏ فلما بلغ ذلك شيخًا خرج من وقته من دمشق على طريق جرود‏.‏
ودخل الأمير نوروز في يوم رابع عشره إلى دمشق وملكها من غير قتال وبعث نوروز بهذا الخبر إلى السلطان فوافاه المخبر بذلك على العريش فسر السلطان بذلك سرورًا كبيرًا وهان عليه أمر شيخ بعد ذلك‏.‏ ثم سار السلطان الملك الناصر مجدًا حتى دخل إلى الديار المصرية ضحى نهار الثلاثاء رابع عشرين شهر ربيع الآخر وبين يديه ثمانية عشر أميرًا في الحديد ورمة الأمير إينال باي بن قجماس وقد حملها الملك الناصر من غزة لأنه كان خصيصًا عند الملك الناصر وقتل بغرة في واقعة شيخ بغير اختيار السلطان‏.‏
وطلع السلطان إلى قلعة الجبل وحبس الأمراء المذكورين بالبرج من قلعة الجبل إلى أن كان يوم سادس عشرينه فاستدعى السلطان القضاة إلى بين يديه وأثبت عندهم إراقة دم الأمير سودون الحمزاوي لقتله إنسانًا ظلمًا فحكموا بقتله فقتل وقتل معه تمربغا دواداره والأمير آقبردي وجمق وأسنباي التركماني وأسنباي أمير آخور‏.‏
وتأخر الأمير إينال المنقار وسودون الشمسي وجقمق العلائي وجماعة أخر وسودون البجاسي في البرج من قلعة الجبل‏.‏ ثم في يوم سابع عشرين شهر ربيع الآخر أنعم السلطان على الوالد بإقطاع الأتابك يشبك الشعباني وأنعم بإقطاع الوالد على الأمير قردم الحسني الخازندار‏.‏
وأنعم على الأمير قراجا بإقطاع تمراز الناصري المقبوض عليه في غيبة السلطان بالقاهرة واستقر قراجا المذكور شاد الشراب خاناه وأنعم بإقطاع قراجا على الأمير أرغون من بشبغا وأنعم بإقطاع أرغون المذكور على الأمير شاهين قصقا وأنعم بإقطاع شاهين على الأمير طوغان الحسني‏.‏ يوم الخميس ثالث جمادى الأولى خلع السلطان على الوالد باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية عوضًا عن يشبك الشعباني وخلع على الأمير كمشبغا المزوق الفيسي باستقراره أمير آخور كبيرًا عوضًا عن جركس القاسمي المصارع‏.‏
وفي اليوم المذكور قدم إلى القاهرة قاصد الأمير نوروز الحافظي برأس الأتابك يشبك ورأس جركس المصارع ورأس الأمير فارس التنمي حاجب حجاب دمشق‏.‏ وفيه شاور جمال الدين الأستادار السلطان أنه يعمر للسلطان مدرسة بخط رحبة باب العيد فأذن له السلطان في ذلك فشق جمال الدين أساسها في هذا اليوم وبدأ بعمارتها‏.‏
ثم أرسل السلطان إينال المنقار وعلان ويلبغا الناصري إلى سجن الإسكندرية‏.‏ ثم ركب الملك الناصر متخففًا بثياب جلوسه ونزل إلى عيادة الأمير قراجا فعاده‏.‏ ثم سار إلى بيت جمال الدين الأستادار وأخذ تقدمته‏.‏ ثم ركب وسار حتى نزل بالمدرسة الظاهرية ببين القصرين وزار قبر أمه وجده لأبيه الأمير أنص وإخوته وجعل ناحية منبابة بالجيزة وقفًا عليها زيادة على وقف أبيه‏.‏ ثم ركب منها إلى دار الأمير بشباي - رأس نوبة النوب - ونزل عنده‏.‏
م ركب من عنده وتوجه إلى بيت الأمير كزل العجمي حاجب الحجاب‏.‏ ثم سار من عنده إلى قلعة الجبل‏.‏
قال المقريزي‏:‏ ولم نعهد ملكًا من ملوك مصر ركب من القلعة بقماش جلوسه غيره‏.‏ قلت‏:‏ لعل المقريزي أراد بقماش جلوسه عدم لبس السلطان الكلفتاة وقماش الخدمة وهذا كان مقصوده - والله أعلم‏.‏
ثم في تاسع عشر جمادى الأولى المذكور خلع السلطان على الأمير طوخ الخازندار باستقراره أمير مجلس عوضًا عن يلبغا الناصري بحكم القبض عليه‏.‏ والعامة تسمي طوخ هذا طوق الخازندار والصواب ما قلناه‏.‏ وخلع على الأمير قردم باستقراره خازندارًا عوضًا عن طوخ المذكور‏.‏
ثم في سادس عشر جمادى الآخرة قبض السلطان على الأمير سودون من زادة وقيده وحمله إلى الإسكندرية فسجن بها مع من بها من الأمراء‏.‏ وأما الأمير نوروز الحافظي فإنه منذ دخل دمشق كانت مكاتبات الأمير شيخ ترد عليه بطلب الصلح ويترقق شيخ لنوروز ويتخضع إليه إلى أن أجاب نوروز إلى ذلك وخرج من دمشق في سادس عشرين شهر رجب إلى جهة حلب ليصالح الأمير شيخًا‏. فتقدم الأمير شيخ إليه والتقاه واصطلحا‏.‏
ومسك نوروز بكتمر جلق بعدما كان أعز أصحاب نوروز مراعاةً لخاطر شيخ‏.‏ وحكى لي من أثق به من أعيان المماليك الظاهرية ممن كان في صحبتهم يوم ذاك قال‏:‏ لما أراد شيخ الصلح مع نوروز طلب منه القبض على بكتمر فبلغ بكتمر ذلك فلم يصدق أن نورزًا يقع في مثل هذا لما كان بينهما من تأكد الصحبة‏.‏
فلما اجتمع شيخ مع نوروز وأراد نوروز القبض على بكتمر قال بلسان الجركسي‏:‏ وبط‏.‏ قال بكتمر‏:‏ ياجنس النحس بلغني ذلك من مدة ولكنني ما ظننت أنها تخرج من فمك في حقي أبدًا‏.‏  ومسك بكتمر جلق وسجن بقلعة دمشق‏.‏
ثم دخل الأمير شيخ ونوروز إلى دمشق وقد استقرت طرابلس للأمير شيخ ودمشق للأمير نوروز فأقام شيخ بدمشق عشرة أيام ثم خرج منها وسار إلى طرابلس‏.‏ وكثرت المصادرات بدمشق وغيرها في أيام هذه الفتن وأخرجت الأوقاف عن أربابها وخربت بلاد كثيرة بمصر والشام لكثرة التجاريد وسرعة انتقال الأمراء من إقطاع إلى إقطاع‏.‏
ولما بلغ الملك الناصر ذلك وما وقع من نوروز في حق شيخ من الإكرام شق عليه ذلك لأن شيخًا كان قد تلاشى أمره ونفر عنه مماليكه وأصحابه من كثرة الأسفار والانتقال من بلد إلى بلد وافتقر وصار لا يجد بلدًا يأوي إليه حتى صالحه نوروز وأعطاه طرابلس فعاد إليه مماليكه ودار فيه الرمق - انتهى‏.‏
ثم في حادي عشر شعبان أفرج السلطان عن الأمير تمراز الناصري نائب السلطنة - كان - من حبسه بالبرج من قلعة الجبل ونزل إلى داره‏.‏ ثم ورد الخبر على الملك الناصر بأن بكتمر جلق فر من سجن قلعة دمشق في ليلة الأربعاء عاشر شهر رمضان من سنة عشر وثمانمائة وأنه توجه إلى صفد ثم نزل غزة‏.‏
ثم ورد على السلطان كتاب الأمير شيخ يسأل السلطان الملك الناصر الرضى عنه وعن جماعته فلم يقبل السلطان ذلك‏.‏ فلم تزل مكاتبات شيخ ترد على السلطان في ذلك حتى رضي عنه‏.‏
وكتب له بنيابة الشام على عادته وحمل إليه التقليد الأمير ألطنبغا بشلاق صحبة مملوك شيخ ألطنبغا شقل وقاضي القضاة نجم الدين عمر بن حجي الشافعي وقاضي القضاة صدر الدين بن الآدمي الحنفي وقد تولى كل منهما قاضيًا بدمشق على مذهبه‏.‏
وكانا هما وألطنبغا شقل قدموا في إصلاح أمر شيخ مع أستاذه الملك الناصر فرج‏.‏ ثم كتب السلطان أيضًا باستقرار بكتمر جلق في نيابة طرابلس على عادته‏.‏ وكتب السلطان أيضًا باستقرار يشبك بن أزدمر في نيابة حماة‏.‏
ووصلت رسل السلطان إلى الأمير شيخ وغيره من الأمراء المذكورين من البحر المالح من عكا وساروا حتى لقوا شيخًا على المرقب وقد تغير عن حاله وأوصلوه التقليد بنيابة الشام فقال‏:‏ أنا لا أعادي نوروزًا وقد أحسن إلي وأقامني ثانيًا‏.‏
وأيضًا لم يكن لي قدرة على قتاله وأخذ الخلعة منهم وبعثها إلى الأمير نوروز وأعلمه أنه باق على طاعته فدقت البشائر لذلك وزينت دمشق‏.‏ ثم في أول المحرم من سنة إحدى عشرة وثمانمائة برز الأمير نوروز من دمشق يريد قتال الأمير بكتمر جلق فتهيأ بكتمر أيضًا لقتاله وتصاففا واقتتلا قتالًا شديدًا قتل بينهما أناس وحرقت الزروع وخربت البلاد‏.‏
ثم عاد نوروز إلى جهة الرملة لحفظ مدينة غزة‏.‏ وكان الملك الناصر لما بلغه أن سودون تلي المحمدي صار نائب غزة من قبل نوروز ولى الأمير ألطنبغا العثماني نيابة غزة وندبه لقتال سودون المحمدي‏.‏
وأرسل معه من الأمراء بشباي رأس نوبة النوب وسودون بقجة وطوغان الحسني والجميع يتوجهون لقتال سودون المحمدي ثم يمضون إلى صفد نجدة لمن بها من السلطانية‏.‏ وخرجوا من القاهرة وساروا حتى وصلوا إلى العريش فبلغهم أن الأمير بكتمر جلق والأمير جانم من حسن شاه خرجا من صفد إلى غزة وملكاها من سودون المحمدي وفر سودون المحمدي ولحق بالأمير نوروز فجهزه نوروز في الحال بعدة مقاتلة لقتالهم وأن نوروزًا يكون في أثره إلى غزة‏.‏
فلما بلغ بكتمر جلق وجانم مجيء سودون المحمدي ونوروز إلى غزة خرجا من غزة وعادا إلى صفد‏.‏ وبلغ هذا الخبر بشباي وهو بالعريش فعاد هو وأصحابه إلى الديار المصرية من كونه لا يقاوم نوروزًا لكثرة جموعه فسكت السلطان عن نوروز لما يأتي ذكره‏.‏
ثم أفرج السلطان عن الأمير إينال المنقار والأمير علان من سجن الإسكندرية‏.‏ وقدم الخبر على السلطان في أثناء ذلك بوقوع الفتنة بين شيخ ونوروز وأن شيخًا نزل القريتين ونوروزًا بالقرب منه‏.‏
وتراسلا في الكف عن القتال فامتنع شيخ وقال‏:‏ السلطان ولاني نيابة دمشق وباتا على القتال‏.‏ فلما كان الليل سار شيخ بمن معه يريد دمشق وأكثر في منزلته من إشعال النيران يخدع بذلك نوروزًا ويوهم أنه يقيم فلم يفطن نوروز برحيله حتى مضى أكثر الليل‏.‏ فركب في الحال نوروز في إثر شيخ حتى سبقه إلى دمشق‏.‏ ودخلها ولم يقدر شيخ على دخول دمشق‏.‏
وكان مع نوروز يشبك بن أزدمر نائب حماة‏.‏ ووقع أمور إلى أن واقع نوروز شيخًا بعساكره وكان مع شيخ نفر يسير وقد تعوق عنه أصحابه لكنه كان متولي دمشق من قبل السلطان ومعه سنجق الملك الناصر وأردفه بكتمر جلق وسيدي الكبير الأمير قرقماس وغيرهما من الأمراء فتواقعا بسعسع فانهزم نوروز بمن معه وقصد حلب‏.‏
وركب شيخ أقفيتهم فدخل نوروز دمشق في عدة يسيرة من الأمراء من أصحابه وبات بها ليلة واحدة ثم خرج منها على وجهه إلى حلب‏.‏ وبعد خروج نوروز من دمشق دخل إليها الأمير بكتمر جلق والأمير قرقماس ابن أخي دمرداش المعروف بسيدي الكبير ونودي في دمشق بالأمان وأن شيخًا نائب دمشق‏.‏
ثم دخل شيخ بعدهم إلى دمشق ونزل بدار السعادة‏.‏ ثم خرج شيخ من دار السعادة ونزل بقبة يلبغا ولبس التشريف السلطاني المجهز إليه من مصر بنيابة الشام قبل تاريخه وعاد إلى دار السعادة في موكب جليل‏.‏ وقبض شيخ على الأمير نكباي حاجب دمشق وعلى الأمير أرغز وهما من أصحاب نوروز وعلى جماعة أخر من النوروزية‏.‏
ثم قدم عليه الأمير دمرداش المحمدي فأكرمه شيخ وأنزله بدمشق مدة أيام‏.‏ ثم ندبه هو والأمير بكتمر جلق لقتال نوروز ومعهما عساكر دمشق‏.‏ ورد الخبر على السلطان بذلك فسر سرورًا عظيمًا وكتب للأمير شيخ بالشكر والثناء على ما فعله مع نوروز لأن الملك الناصر كان حصل له من نوروز قهر عظيم كونه كان ولاه نيابة دمشق ولم يلتفت إلى شيخ فتركه نوروز ووافق شيخًا فلم يقدم شيخ على صلحه مع نوروز إلا أيامًا يسيرة وتركه وعاد إلى طاعة السلطان وحارب نوروزًا فعرف له السلطان ذلك وولاه نيابة دمشق عوضًا عن نوروز وسلط بعضهم على بعض‏.‏
ثم إن الملك الناصر في يوم الجمعة سابع جمادى الأولى من سنة إحدى عشرة وثمانمائة أمسك أعز أمرائه الأمير بيغوت وأمسك معه الأمير سودون بقجة والأمير أرنبغا أحد أمراء الطبلخانات والأمير قرا يشبك أحد أمراء العشرات وقيد الجميع وأرسلوهم إلى سجن الإسكندرية‏.‏
وخلع على إينال المنقار وعلان ويشبك الموساوي وجعل كلًا منهم أمير مائة ومقدم ألف بالديار المصرية‏.‏ ثم خلع السلطان على الأمير أرغون من بشبغا واستقر به أمير آخور كبيرًا عوضًا عن كمشبغا الفيسي‏.‏
وأما أمراء الشام فإن الأمير نوروزًا الحافظي لما خرج من دمشق لم يأمن على نفسه أن يكون بحلب عند تمربغا المشطوب وكان أول ما قدمها قابله تمربغا المذكور ووافقه ثم بدا له أن يكون على طاعة السلطان ففطن نوروز بذلك فخرج من حلب بعد أمور وسار إلى ملطية واستقر بها وآواه ابن صاحب الباز التركماني‏.‏
ثم سلم تمربغا المشطوب حلب للأمير قرقماس ابن أخي دمرداش المعروف بسيدي الكبير ونزل من قلعتها‏.‏ ثم فر جماعة من الأمراء أصحاب نوروز إلى شيخ وهم‏:‏ الأمير سودون تلي المحمدي وسودون اليوسفي وأخبروه أن نوروزًا عزم على الفرار من أنطاكية فسار شيخ بجموعه من العمق يريد نوروزًا بغتة فأدرك أعقابه وقبض على عدة من أصحابه وعاد إلى العمق‏.‏
وبعث العسكر في طلبه فقدم عليه الخبر أنه أمسك هو ويشبك بن أزدمر في جماعة أخر فكتب شيخ في الحال يعرف السلطان بذلك كله فشكره السلطان على ذلك وأرسل إليه بالخلع‏.‏ ثم إن السلطان في هذه السنة أضاف إمرة المدينة النبوية وإمرة الينبع وخليص والصفراء وأعمالهم إلى الشريف حسن بن عجلان أمير مكة وكتب له بذلك توقيعًا وهذا شيء لم ينله أمير مكة قبله في هذا الزمان‏.‏ ثم في خامس عشرين جمادى الأخرة أنعم السلطان بإقطاع بشباي رأس نوبة النوب - بعد وفاته - على الأمير إينال المحمدي الساقي المعروف إينال ضضع وأنعم بإقطاع إينال المذكور على الأمير أرغون من بشبغا الأمير آخور الكبير وأنعم بإقطاع أرغون المذكور على الأمير مقبل الرومي والجميع تقادم ألوف لكن بينهم التفاوت في كثرة المغل والخراج‏.‏
وأنعم بإقطاع مقبل الرومي - وهو إمرة طبلخاناه - على الأمير بردبك‏.ثم خلع السلطان على الأمير إينال الساقي المذكور باستقراره رأس نوبة النوب عوضًا عن بشباي المذكور بحكم موته‏.‏
ثم قدم الخبر على السلطان من شيخ بأن التركمان الذين كانوا قبضوا على نوروز أطلقوه وأن تمربغا المشطوب هرب من الأمير شيخ وأن نوروزًا توجه بعد خلاصه من يد التركمان إلى قلعة الروم وأنه خرج من دمشق جماعة كبيرة من عند شيخ إلى نوروز فركب شيخ في أثرهم فلم يحركهم فعاد إلى دمشق وقبض على الأمير يشبك العثماني‏.‏
ثم بعد مدة يسيرة بلغ الأمير شيخًا أنه قيل للسلطان عنه إنه عاص‏.‏ فطلب الأمير شيخ القضاة وأعيان أهل دمشق وكتب محضرًا بأنه باق على طاعة السلطان الملك الناصر وبعث به مع القاضي نجم الدين عمر بن حجي‏.‏
وقدم ابن حجي بالمحضر ومع المحضر المذكور كتاب الأمير شيخ يستعطف خاطر السلطان عليه ويعتذر عن تأخره بإرسال من طلبه السلطان من الأمراء النوروزية‏.‏ وكان السلطان قد بعث إليه قبل ذلك يشبك الموساوي بطلب جماعة من الأمراء فلم يرسلهم شيخ إليه فلم يقبل السلطان عذره واشتد غضبه وأظهر الاهتمام بالسفر إلى الشام‏.‏
ثم كتب السلطان الجواب بتجهيز أمراء عينهم وواعدهم على مدة ستة وعشرين يومًا ومتى مضت هذه المدة ولم يجهزهم الشيخ سار السلطان لقتاله وبعث السلطان بذلك على يد قاصد شيخ نجم الدين بن حجي فعاد ابن حجي إلى الأمير شيخ وأدى الرسالة فأخذ شيخ في تجهيز الأمراء الذين طلبهم السلطان وامتثل مرسومه بالسمع والطاعة‏.‏
بينما هو في ذلك بلغه أن تغرى برمش كاشف الرملة فر منها لقدوم كاشف ونائب القدس من قبل السلطان وأن السلطان قد عزم على المسير إلى الشام وأخرج الروايا والقرب على الجمال ومعهم الطبول نحو مائتي جمل إلى البركة‏.‏
فعند ذلك رجع شيخ عن إرسال الأمراء وعول على مصالحة نوروز وبعث إليه الأمير جانم ليصلح بينهما وجهز له شيخ ستة آلاف دينار فمال نوروز لمصالحته‏.‏ فلما بلغ دمرداش نائب حلب الخبر اهتم لقتال نوروز وجمع طوائف التركمان والعربان وسار إليه بكتمر جلق نائب طرابلس وحضر إليه أيضًا نائب أنطاكية‏.‏
وبعث دمراش ابن أخيه تغري بردي المعروف بسيدي الصغير - وهو يومئذ أتابك حلب - إلى مرج دابق ومعه جماعة كبيرة من التركمان‏.‏  أتاه بكتمر جلق فرحلا من حلب بعساكرهما وقصدا نوروزًا وقد نزل نوروز بمجموعه على عين تاب‏.‏
فتقدم إليه تغري بردي سيدي الصغير بالتركمان الكبكية جاليش عمه دمرداش فرحل نوروز إلى مرعش وتحاربت كشافته لأكشافة دمرداش محاربة قوية أسر فيها عدة من النوروزية وانهزم نوروز واستولى عسكر دمرداش على عين تاب وعاد دمرداش إلى حلب وكتب بذلك السلطان فسر السلطان بذلك وكتب الجواب‏:‏ إني واصل عقيب ذلك إلى البلاد الشامية وعظم اهتمام السلطان وعساكره للسفر إلى أن خرج جاليشه من الأمراء الريدانية في يوم الأربعاء سابع المحرم من سنة اثنتي عشرة وثمانمائة وهم الوالد - وهو يومئذ أتابك العساكر بالديار المصرية - وآقباي الطرنطائي رأس نوبة الأمراء وطوخ أمير مجلس وطوغان الحسني وإينال المنقار وكمشبغا الفيسي المعزول عن الأمير آخورية ويشبك الموساوي الأفقم وعدة ثم في يوم الاثنين حادي عشر المحرم المذكور ركب السلطان الملك الناصر ببقية أمرائه وعساكره من قلعة الجبل ونزل بمخيمه بالريدانية‏.‏
وفي اليوم المذكور رحل الوالد بمن معه من الأمراء وهو جاليش السلطان وسار بهم يريد دمشق‏.‏ ثم خلع السلطان على الأمير أرغون من بشبغا الأمير آخور الكبير باستقراره في نيابة الغيبة وأنه يقيم بسكنه بالإسطبل السلطاني‏.‏
وخلع على مقبل الرومي ورسم له أن يقيم بقلعة الجبل‏.‏ وخلع على الأمير يلبغا الناصري باستقراره في نيابة الغيبة ويقيم بالقاهرة للحكم بين الناس وكذلك الأمير كزل العجمي حاجب الحجاب ثم رحل السلطان في رابع عشر المحرم من الريدانية يريد البلاد الشامية‏.‏ وأما الأمير شيخ نائب الشام فإنه لما سمع بخروج السلطان من مصر أفرج عن الأمير سودون تلي المحمدي وعن سودون اليوسفي وعن الأمير طوخ وهم الذين كان السلطان أرسل إلى شيخ بطلبهم‏.‏
وأظهر شيخ العصيان وأخذ في مصادرات أهل دمشق وأفحش في ذلك إلى الغاية‏.‏ ثم سار الملك الناصر إلى أن وصل إلى غزة وعزل عنها الأمير ألطنبغا العثماني وولاه نيابة صفد وخلع على الأمير إينال الصصلاني الأمير آخور الثاني باستقراره عوضه في نيابة غزة‏.‏

الأمير شيخ يحارب السلطان
وكان الأمير شيخ قد أرسل قبل ذلك الأمير سودون المحمدي ودواداره شاهين إلى غزة فلما وصل جاليش السلطان إليها انهزما من الرملة إلى شيخ وأخبراه بنزول السلطان على غزة‏.‏

وكان استعد شيخ في هذه المرة لقتال السلطان فلما تحقق قدومه خارت طباعه وتحول في الوقت إلى داريا فقدم عليه الأمير قرقماس ابن أخي دمرداش فارًا من صفد وشجع الأمير شيخًا على ملاقاة السلطان وقتاله وعرفه أن غالب عساكره قد تغير خاطرهم على السلطان فلم يلتفت شيخ لذلك وأبى إلا الهروب ثم قدم عليه الأمير جانم نائب حماة بعسكره وعرفه قدوم نوروز عليه وهو مع ذلك في تجهيز الرحيل من دمشق‏.‏
وسار السلطان من غزة حتى نزل اللجون في يوم السبت أول صفر من سنة اثنتي عشرة وثمانمائة فكثر الكلام في وطاق السلطان بتنكر قلوب المماليك الظاهرية على السلطان وتحدثوا في بعضهم بإثارة فتنة لتقديمه مماليكه الجلب عليهم وكثرة عطاياه لهم‏.‏ فلما أصبح السلطان رحل من اللجون ونزل بيسان وأقام بها نهاره إلى أن غربت الشمس فماج العسكر وهدت الخيم واشتد اضطراب الناس‏.‏ وكثر قلق السلطان طول ليلته إلى أن أصبح وجد الأمير تمراز الناصري النائب وإنيه وزوج بنته سودون بقجة والأمير إينال المنقار والأمير قرا يشبك والأمير سودون الحمصي وعدةً كبيرة من المماليك السلطانية قد فروا إلى الأمير شيخ‏.‏
وكان سبب فرارهم في هذه الليلة أن آقبغا الدوادار اليشبكي عرف السلطان بأن هؤلاء الجماعة يريدن إثارة فتنة فطلب السلطان كاتب سره فتح الله وجمال الدين الأستادار وعرفهما ما بلغه عن الجماعة فدار الأمر بينهم على أن السلطان في وقت المغرب يرسل خلفهم ويقبض عليهم‏.‏
وخرجوا على ذلك من عند السلطان فغدر جمال الدين الأستادار وأرسل - بعد خروجه من عند السلطان - عرف الأمراء بالأمر‏.‏ وكان تمراز قدم من مصر في محفة لرمد كان اعتراه فأعلمهم جمال الدين بالخبر‏.‏ وبعث إليهم بمال كبير لهم وللأمير شيخ نائب الشام فأخذوا حذرهم وركبوا قبل أن يرسل السلطان خلفهم ولحقوا بالأمير شيخ‏.‏
ولما خرجوا من الوطاق وساروا لم يكن حينئذ عند السلطان أحذ من أكابر الأمراء لتوجههم في الجاليش أمام السلطان فبعث السلطان خلف فتح الله وجمال الدين الأستادار ولا علم للسلطان بما فعله جمال الدين المذكور وكلمهما فيما يفعل واستشارهما فأشار عليه فتح الله بالثبات وأشار عليه جمال الدين بالركوب ليلًا وعوده إلى مصر - يريد بذلك إفساد حاله - فمال السلطان إلى كلام فتح الله وأقام بوطاقه فلما طلع الفجر ركب وسار بعساكره نحو دمشق فقدم عليه الخبر برحيل شيخ من دمشق إلى بصرى فنزل السلطان على الكسوة ففر في تلك الليلة الأمير علان وجماعة من المماليك لشيخ‏.‏
فركب السلطان بكرة يوم الخميس سادس صفر ودخل دمشق ونزل بدار السعادة‏.‏ ثم قبض على شهاب الدين أحمد الحسباني وسلمه إلى الأمير ألطنبغا شقل من أجل أنه أفتى بقتاله وطلب ابن التباني فإذا هو سار مع شيخ‏.‏
وكتب السلطان بالإفراج عن الأمير أرغز وسودون الظريف وسلمان من قلعة الصبيبة وخلع على الأمير زين الدين عمر الهيدباني باستقراره حاجب حجاب دمشق وعلى ألطنبغا شقل حاجبًا ثانيًا وخلع على الأمير بردبك باستقراره في نيابة حماة عوضًا عن جانم‏.‏ ثم كتب السلطان للأمير نوروز تقليدًا بنيابة حلب عوضًا عن الأمير دمرداش المحمدي‏.‏
ثم قدم الأمير بكتمر جلق نائب طرابلس إلى دمشق وأخبر أن الطاعون فشا ببلاد حمص وطرابلس‏.‏ ثم في عشرينه قدم الأمير دمرداش المحمدي نائب حلب فأكرمه السلطان وخلع عليه‏.‏
ثم خلع السلطان على الأمير بكتمر جلق باستقراره في نيابة دمشق عوضًا عن شيخ المحمودي وخلع على دمرداش المحمدي باستقراره في نيابة طرابلس عوضًا عن بكتمر جلق - مضافًا لنيابة حلب‏.‏ ثم وقع من جمال الدين الأستادار نكبة في حق بعض أصحاب الأمير شيخ وهو أنه أمسك جمال الدين القاضي ناصر الدين ابن البارزي وضربه ضربًا مبرحًا لأجل معلوم تناوله لشمس الدين أخي جمال الدين الأستادار‏.‏
ثم في ليلة السبت أيضًا قتل جمال الدين الأستادار القاضي شرف الدين بن الشهاب محمود الحلبي كاتب سر دمشق لحقد كان في نفس جمال الدين منه أيام خموله بحلب وكان شرف الدين أيضًا من أصحاب الأمير شيخ وكان عبد الباسط بن خليل في خدمة شرف الدين هذا ومنه تعرف بالأمير شيخ وكان عبد الباسط في أيام سعادته بمصر ينقل في غالب أفعاله عن أستاذه شرف الدين هذا‏.‏
ثم في يوم الاثنين ثاني شهر ربيع الأول خرج أطلاب السلطان والأمراء من دمشق وتبعهم السلطان بعساكره وهم بآلة الحرب والسلاح ونزل بالكسوة‏.‏ وأصبح راحلًا إلى جهة الأمير شيخ ورفقته فالتقى كشافة السلطان مع كشافة شيخ واقتتلوا وأسر من الشيخية رجل ثم انهزمت الشيخية‏.‏
ثم سار السلطان بكرة يوم الأربعاء فنزل قرية الحراك نصف النهار وأقام بها قدر ما أكل السماط‏.‏ ثم ركب منها بعساكره وسار سيرًا مزعجًا ونزل عند الغروب بكرك البثنية من حوران وبات‏.‏
وأصبح وسار حتى نزل مدينة بصرى فتحقق هناك خبر شيخ بأنه في عصر يوم الأربعاء الماضي بلغه أن السلطان خرج من دمشق في أثره فرحل من بصرى بعساكره فزعًا يريد صرخد بعد ما كلمه الأمراء في الثبات وقتال الملك الناصر فلم يقبل وركب من وقته وترك غالب أصحابه بمدينة بصرى ثم تبعته أصحابه مع كثرة عددهم إلى صرخد‏.‏
ولما بلغ الملك الناصر فرار شيخ وأصحابه تأوه لذلك وقال لكاتب سره فتح الله ولجمال الدين الأستادار‏:‏ ألم أقل لكما إن شيخًا فظيع ليس له قلب ولو كان معه مائة ألف مقاتل لا يقدر أن يقابلني بهم لرعب سكن في قلبه مني‏.‏
ثم أقام السلطان على بصرى إلى بكرة يوم السبت فقدم عليه وهو ببصرى الأمير برسباي الدقماقي الساقي - أعني الملك الأشرف - والأمير سكب اليوسفي فأكرمهما السلطان ووعدهما بكل خير ثم ركب وسار - وهو ثمل - حتى نزل بقرية عيون تجاه صرخد فتناوش العسكران بالقتال فقتل من جماعة شيخ فارسان وجرح جماعة من السلطانية ثم فر جماعة أخر من السلطان إلى الأمير شيخ‏.‏
وبات السلطان وأصبح في وقت الفجر نادى أن لا يهد أحد خيمته ولا يحمل جمل وأن يركب العسكر خيولهم ويجر كل فارس جنيبه مع غلامه من غير أن يأخذوا أثقالهم‏.‏ فركبوا وسار بهم على هذه الحالة حتى طرق شيخًا وأصحابه على حين غفلة بعد أن كان سار هو بنفسه أمام عسكره مسرعًا وأمراؤه يخذلونه من انقطاع عساكره عنه ويقولون له‏:‏ بمن تلقى شيخًا وقد عظم جمعه وتخلفت عساكر السلطان منقطعة والملك الناصر لا يلتفت إلى قولهم ويقول‏:‏ لو بقي معي عشرة مماليك لقيت بهم شيخًا ومن معه أنا أعرفهم حق المعرفة‏.‏
ودام على سيره حتى طرق شيخًا على حين غفلة وقد عبأ شيخ عساكره فأوقف المصريين ناحية - أعني الذين فروا إليه من الملك الناصر - وجعل عليهم الأمير تمراز النائب ووقف هو في ثقاته وخواصه وهم نحو خمسمائة نفر فتقدم السلطان وصدم بعساكره الأمير تمراز بمن معه - وكانوا جمعًا كبيرًا - فانكسروا من أول وهلة‏.‏ ثم مال على الأمير شيخ وأصحابه وقد تقهقر شيخ وأصحابه إلى جهة القلعة فكان بينهم معركة صدرًا من النهار وهو يتأخر إلى المدينة وأصحابه تتسلل منه وصار القتال بجدران مدينة صرخد‏.‏
ولازال شيخ يتأخر بمن معه والملك الناصر يتقدم بمن معه حتى ملك وطاق شيخ وانتهب جميع ما كان فيه من خيل وقماش وغيرها‏.‏ ثم هرب شيخ إلى داخل جدران المدينة‏.‏ واستولى السلطان على جامع صرخد وأصعد أصحابه فرموا من أعلى المنارة بمكاحل النفط والمدافع والأسهم الخطائية على شيخ وشيخ يلوم أصحابه ويوبخهم على ما أشاروا عليه من قتال الملك الناصر‏.‏
ثم حمل السلطان عليه حملة منكرة بنفسه فلم يثبت شيخ وانهزم والتجأ في نحو العشرين من أصحابه إلى قلعة صرخد وكانت خلف ظهره وقد أسند عليها فتسارع إليه عدة من أصحابه وتمزق باقيهم وطلع شيخ إلى قلعة صرخد في أسوإ حال وأحاط السلطان على المدينة ونزل حول القلعة وأتاه الأمراء فقبلوا الأرض بين يديه وهنؤوه بالظفر والنصر‏.‏ وامتدت أيدي السلطانية إلى مدينة صرخد فما تركوا بها لأهلها جليلًا ولا حقيرًا‏.‏
وانطلقت ألسنة أهل صرخد بالوقيعة في شيخ وأصحابه وأكثروا له التوبيخ بكلام معناه أنه إذا لم يكن له قوة ما باله يقاتل من لم يطق وسار الأمير تمراز وسودون بقجة وسودون الجلب وسودون المحمدي وتمربغا المشطوب وعلان في عدة كبيرة إلى دمشق فقدموها يوم الاثنين تاسعه فقاتلتهم العامة ودفعوهم عنها وأسمعوهم من المكروه أضعاف ما سمعه شيخ بصرخد فولوا يريدون جهة الكرك وهم في أحقر ما يكون من الأحوال‏.‏
وساروا عن دمشق بعد ما قتل منهم جماعة وجرح جماعة وتأخر كثير منهم بظواهر دمشق ومضى منهم جماعة إلى حماة والجميع في أنحس حال وأخذ منهم جماعة كثيرة بدمشق وغيرها‏.‏ ولما دخلت الأمراء على السلطان الملك الناصر للتهنئة حسبما ذكرناه التفت السلطان للوالد وكان يسميه أطا‏:‏ أعني أب وقال له‏:‏ يا أطا أنا ما قلت لك أنا أعرف شيخًا إذا كان معي عشرة مماليك قاتلته بهم‏.‏
ثم تكلم في حق شيخ بما لا يليق ذكره فقال له الوالد‏:‏ يا مولانا السلطان هذا كله بسعد مولانا السلطان وعظم مهابته‏.‏ وأما شيخ فإنه إذا كان من حزب السلطان وشمله نظر مولانا السلطان من ذا يضاهيه في الفروسية غير أنه للرعب الذي في قلبه من حرمة مولانا السلطان وغضبه عليه يقع في مثل هذا أو أكثر‏.‏
قلت‏:‏ وأظهر الملك الناصر من الشجاعة والإقدام ما سيذكر عنه إلى يوم القيامة‏.‏ على أن غالب أمرائه ومماليكه الأكابر كانوا اتفقوا مع جمال الدين الأستادار أنهم يكبسون عليه ويقتلونه في الليل‏.‏
وبلغ الملك الناصر ذلك من يوم خروجه من غزة فاحترز على نفسه‏.‏ وأشار عليه كل من خواصه أن يرجع عن قتال شيخ وأصحابه بحيلة يدبرها ويرجع إلى نحو الديار المصرية مخافة أن تخذله عساكره فلم يلتفت إلى كلام أحد وأبى إلا قتال شيخ - وهذا شيء مهول عظيم إلى الغاية وإن كان هو يهول في السماع فإذا تحققه الشخص يهوله إلى الغاية من كون عسكر الملك يكون مختلفًا عليه وهو يريد يقاتل ملوكًا عديدة كل واحد منهم مرشح للسلطنة‏.‏
وما أظن أن بعد الملك الأشرف خليل بن قلاوون ولي على مصر سلطان أشجع من الملك الناصر هذا في ملوك الترك جميعها‏.‏
ولقد أخبرني جماعة كبيرة من أعيان المماليك الظاهرية الذين كانوا يوم ذاك مع الأمير شيخ المذكور قالوا‏:‏ لما قيل للأمير شيخ‏:‏ إن السلطان الملك الناصر قدم إلى جهة صرخد تغير لونه واختلط في كلامه وأراد طلوع قلعة صرخد قبل أن يقاتل الملك الناصر فلامه على ذلك بعض خواصه وقالوا له‏:‏ قد انضم عليك في هذه المرة من الأمراء والعساكر ما لم جتمع مثله لأحد قبلك فإن كنت بهم لا تقاتل الملك الناصر في هذه النوبة فمتى تقاتله وبعد هذا فلا ينضم عليك أحد‏.‏
فقال شيخ‏:‏ صدقت فيما قلت غير أن جميع من تنظره الآن وهو يتنمر على فرسه إذا وقع بصره على الملك الناصر صار لا يستطيع الهروب فكيف القتال‏!‏ فقال له القائل‏:‏ فإن‏!‏ يعلم هذا لا يصلح له أن يعصي ويتطلب السلطنة‏.‏
فقال شيخ‏:‏ والله ما أريد السلطنة وإنما غالب ما أفعله خوفًا من شر هذا الرجل وقد بذلت له الطاعة غير مرة وتوجهت إلى خدمته بمصر والشام وقاتلت أعداءه‏!‏ والله أنا أهابه أكثر من أستاذي الملك الظاهر برقوق‏!‏ غير أنه لا يريد إلا أخذ روحي والروح والله لا تهون فأيش يكون العمل‏.‏
وشرع يتكلم في هذا المعنى ويكثر حتى أمره تمراز النائب بالكف عن هذا الكلام في مثل هذا الوقت والعمل فيما يعود نفعه عليه وعلى رفقته‏.‏ فكف شيخ عن ذلك وأخذ في تدبير أمره وتعبية عساكره حتى وقع ما حكيناه - انتهى‏.‏
ولما نزل السلطان الملك الناصر على قلعة صرخد أصر النواب أن يتوجه كل واحد منهم إلى محل كفالته فسار الجميع إلا الأمير دمرداش المحمدي فإنه أرسل ابن أخيه تغري بردي المدعو سيدي الصغير إلى حلب ليكون نائبًا عنه بها وأقام هو عند السلطان على صرخد وكذلك الأمير بكتمر جلق نائب الشام فإنه أيضًا أقام عند السلطان‏.‏ وأخذ السلطان في حصار قلعة صرخد وعزم على أنه لا يبرح عن قتالها حتى يأخذها‏.‏
ثم قدم الخبر على السلطان أن تركمان الطاعة قاتلوا نوروزًا وكسروه كسرة قبيحة فدقت البشائر بصرخد لذلك‏.‏ ثم أمر السلطان دمرداش المحمدي بالتوجه إلى محل كفالته بحلب‏.‏
هذا ونواب الغيبة بدمشق في أمر كبير من مصادرات الشيخية وقبضوا على جماعة كبيرة من حواشيه منهم‏:‏ علم الدين داود وصلاح الدين أخوه ابنا الكويز - قبض عليهما من بيت نصراني بدمشق فأهينا - وقبض أيضًا على شهاب الدين أحمد الصفدي موقع الأمير شيخ وتوجه الطواشي فيروز الخازندار فتسلمهم من دمشق‏.‏ هذا والملك الناصر مستمر على حصار قلعة صرخد وأحرق جسر القلعة فامتنع شيخ بمن معه داخلها‏.‏
فأنزل السلطان الأمراء حول القلعة وألزم كل أمير أن يقاتل من جهته والسلطان في لهوه وطربه لا يركب إلى جهة القلعة إلا ثملًا‏.‏ ثم طلب السلطان مكاحل النفط والمدافع من قلعة الصبيبة وصفد ودمشق ونصبها حول القلعة - وكان فيها ما يرمي بحجر زنته ستون رطلًا دمشقيًا‏.‏

الصلح
وتمادى الحصار ليلًا ونهارًا حتى قدم المنجنيق من دمشق على مائتي جمل فلما تكامل نصبه ولم يبق إلا أن يرمى بحجره وزنة حجره تسعون رطلًا بالدمشقي‏.‏ فلما رأى شيخ ذلك خاف خوفًا عظيمًا وتحقق أنه متى ظفر به الملك الناصر على هذه الصورة لا يبقيه فترامى على الوالد وعلى بقية الأمراء وألقى إليهم الأوراق في السهام‏.‏
وأخذ شيخ لا يقطع كتبه عن الوالد في كل يوم وساعة وهو يقول له في الكتب‏:‏ صن دماء المسلمين واجعلنا عتقاءك وما لك فينا جميلة فإننا إنياتك وخشداشيتك ولم يكن في القوم من له علي أنا خاصة شفقة وإحسان غيرك وأنت أتابك العساكر وحمو السلطان وأعظم مماليك أبيه فأنت عنده في مقام برقوق وكلمتك لا ترد عنده وشفاعتك مقبولة وأشياء كثيرة من هذا الكلام وأشباهه‏.‏
وكان الوالد يميل إلى الأمير شيخ لما كان لشيخ عليه من الخدم بالقصر السلطاني أيام أستاذهما الملك الظاهر برقوق من تلبيسه القماش والقيام في خدمه‏.‏ ثم كاتب شيخ أيضًا الأمير جمال الدين الأستادار وفتح الله كاتب السر وكان جمال الدين قد انحط قدره عند الملك الناصر في الباطن واتفق السلطان مع الوالد على مسكه بدمشق فمنعه الوالد من ذلك ووعده أنه يكفيه أمره ويمسكه بالقرب من القاهرة حتى لا يفر أحد من أقاربه وحواشيه‏.‏
ثم أخذ الوالد مع السلطان في أمر شيخ ورفقته في كل يوم وساعة ولا زال يخذل الملك الناصر عن قتالهم ويحسن له الرضى عنهم حتى أذعن السلطان وشرط عليه شروطًا فعند ذلك ركب الوالد ومعه الخليفة المستعين بالله العباس وفتح الله كاتب السر في يوم السبت ثاني عشرين شهر ربيع الأول من سنة اثنتي عشرة وثمانمائة المذكورة وساروا حتى نزلوا على جانب الخندق وخرج شيخ وجلس بداخل باب القلعة فأخذ الوالد يوبخه على أفعاله وما وقع للناس والبلاد بسببه وهو ساكت لا يتكلم - وقيل إن شيخًا أراد الخروج إليهم فغمزه الوالد ألا يخرج ففطن شيخ بها وجلس بداخل باب القلعة‏.‏
ثم أخذ فتح الله أيضًا يحذره مخالفة السلطان ويخوفه عواقب البغي وفي كل ذلك يعتذر شيخ للوالد بأعذار مقبولة ويستعفي من مقابلة السلطان خوفًا من سوء ما اجترمه والوالد يشتد عليه ويلزمه بالخروج معه إلى السلطان في الظاهر وفي الباطن يشير عليه بعدم الخروج - هكذا حكى الملك المؤيد شيخ بعد سلطنته‏.‏ وطال الكلام حتى قام الوالد والخليفة وفتح الله وأعادوا بالجواب على السلطان فأبى السلطان الرضى عنه إلا أن ينزل إليه‏.‏
فكلم الوالد السلطان في العفو عن ذلك فلم يقبل فكرر عليه السؤال مرات وقبل يده والأرض غير مرة واعتذر عن عدم حضوره بأعذار مقبولة‏.‏ ثم عاد الوالد وفتح الله فقط إلى شيخ‏.‏ فخرج شيخ حينئذ للوالد فعانقه الوالد فبكى شيخ فقال له الوالد على سبيل المداعبة والمماجنة‏:‏ ما مت يا شيخ حتى مشينا في خدمتك‏.‏
فقال شيخ‏:‏ لم تزل الأكابر تمشي في مصالح الأصاغر‏.‏ كل ذلك في حال الوقوف للسلام‏.‏ ثم جلسا وعرفه الوالد رضى السلطان عليه وعرفه الشروط فقبلها وقام قائمًا وقبل الأرض غير مرة‏.‏
وتقدم فتح الله وحلفه على طاعة السلطان وأخذ منه الأمير كمشبغا الجمالي وأسنبغا - وكانا في حبس الأمير شيخ - بعدما خلع عليهما شيخ وأدلاهما من سور قلعة صرخد‏.‏ ثم أدلى الأمير شيخ ابنه إبراهيم ليتوجه مع الوالد ويقبل يد السلطان فلما تعلق الصغير من أعلى السور بالسرياقات صاح وبكى من خوفه أن يقع فرحمه الوالد وأمره برده إلى القلعة فنشلوه ثانيًا وقال الوالد‏:‏ أنا أكفيك هذا الأمر ولا يحتاج إلى نزول الصغير‏.‏
ثم تصايح الفريقان من أعلى السور جميع خيم العسكر‏:‏ الله ينصر السلطان فرحًا بوقوع الصلح‏.‏ وفرح أهل القلعة من أصحاب شيخ فرحًا عظيمًا لأنهم كانوا قد أشرفوا على الهلاك‏.‏ وأما فرح العسكر فإن غالب أمراء الملك الناصر كانوا غير نصحاء له ولم يرد أحد منهم أن يظفر بشيخ حتى ولا الوالد خشية أن يتفرغ السلطان من شيخ لهم‏.‏
ثم أصبحوا يوم الأحد ركب الوالد وكاتب السر وجماعة من الأمراء وطلعوا إلى قلعة صرخد وجلسوا على عادتهم وخرج شيخ وجلس على باب القلعة‏.‏ وأحلف فتح الله من بقي مع شيخ من الأمراء للسلطان وهم جانم من حسن شاه نائب حماة وقرقماس ابن أخي دمرداش - وقد فارق عمه دمرداش وصار من حزب شيخ - وتمراز الأعور‏.‏ وأفرج شيخ عن تجار دمشق الذين كان قبض عليهم لما خرج عن الطاعة وصادرهم‏.‏ ثم بعث شيخ بتقدمة إلى السلطان فيها عدة مماليك‏.‏ وتقرر الحال على أن شيخًا المذكور يكون نائب طرابلس وأن يلبس التشريف السلطاني إذا رحل السلطان‏.‏ ثم قام الوالد ومن معه وسلم على شيخ وعاد إلى السلطان‏.‏
فرحل السلطان من وقته وسار حتى نزل زرع وبات بها‏.‏ ثم سار حتى قدم دمشق يوم الثلاثاء أول شهر ربيع الآخر بعد أن جد في السير فنزل بدار السعادة على عادته‏.‏ وأما شيخ فإنه نزل من قلعة صرخد بعد رحيل السلطان ولبس التشريف السلطاني بنيابة طرابلس وقبل الأرض على العادة ثم قبل يد الوالد غير مرة‏.‏ ثم جهز شيخ ولده إبراهيم صحبة الوالد إلى السلطان الملك الناصر‏.‏ ورحل الوالد ورحل معه سائر من تخلف عنده من الأمراء منهم‏:‏ بكتمر جلق نائب الشام - وهو أعدى عدو للأمير شيخ - وساروا حتى وصلوا الجميع دمشق في سابع شهر ربيع الآخر المذكور‏.‏
وأحضر الوالد إبراهيم ابن الأمير شيخ إلى السلطان فأكرمه السلطان وخلع عليه وأعاده إلى أبيه ومعه خيول وجمال وثياب ومال كبير‏.‏ ثم خلع السلطان على الشريف جماز بن هبة الله بإمرة المدينة النبوية - على ساكنها أفضل الصلاة والسلام - وشرط عليه إعادة ما أخذه من الحاصل بالمدينة‏.‏ ثم في رابع عشر شهر ربيع الآخر المذكور خرج قضاة مصر الذين كانوا في صحبة الملك الناصر من دمشق عائدين إلى الديار المصرية وهم وكثير من الأثقال ونزلوا بداريا خارج دمشق‏.‏
ثم طلبت القضاة من يومهم فعادوا إلى مدينة دمشق لعقد قران ابنة السلطان على الأمير بكتمر جلق نائب الشام‏.‏

ثم في يوم الخميس سابع عشره حمل بكتمر جلق المهر وزفته المغاني حتى دخل دار السعادة إلى السلطان ثم عقد العقد بحضرة السلطان والأمراء والقضاة فتولى العقد السلطان بنفسه وقبله عن الأمير بكتمر جلق الوالد‏.‏ ثم خرجت القضاة من الغد في يوم الجمعة سائرين إلى مصر ثم صلى السلطان صلاة الجمعة بالجامع الأموي وخرج منه وسار من دمشق بعساكره يريد القاهرة ونزل بالكسوة‏.‏ وخلع على الأمير نكباي باستقراره حاجب حجاب دمشق عوضًا عن عمر بن الهيدباني‏.‏ ثم في تاسع عشره أخلع السلطان على الأمير سودون الجلب باستقراره في نيابة الكرك‏.‏
ثم سار السلطان في ليلة الأحد من الكسوة‏.‏ واستولى بكتمر جلق على دمشق ونزل بدار السعادة‏.‏ وسار السلطان حتى نزل الرملة في رابع عشرينه وركب منها وسار مخفًا يريد زيارة القدس وبعث الأثقال إلى غزة ودخل القدس وزاره وتصدق بخمسة آلاف دينار وعشرين ألف درهم فضة وبات ليلته في القدس‏.‏
وسار من الغد إلى الخليل عليه السلام فبات به ثم توجه إلى غزة فدخلها في سابر عشرينه وأقام بها إلى ثاني جمادى الأولى فرحل منها‏.‏ وأما دمشق فإنه قدم إليها في ثالث جمادى الأولى كتاب السلطان إلى أعيان أهل دمشق بأنه قد ولى الأمير شيخًا نيابة طرابلس فإن قصد دمشق فدافعوه عنها وقاتلوه‏.‏ وسببه أن الأمير شيخًا كان قصد دخول دمشق وكتب إلى الأمير بكتمر جلق يستأذنه في الحضور إليها ليقضي بها أشغاله ثم يرحل إلى طرابلس‏.‏
وكان الذي قصده الأمير شيخ على حقيقته وليس له غرض في أخذ دمشق فلم يأذن له بكتمر في الحضور إليها وخاشنه بالكلام‏.‏ فقال شيخ‏:‏ أنا أسير إلى جهة دمشق ولا أدخلها‏.‏ وسار حتى نزل شيخ في ليلة الجمعة عاشر جمادى الأولى على شقحب وكان الأمير بكتمر قد خرج بعساكر دمشق إلى لقائه ونزل بقبة يلبغا ثم ركب ليلًا يريد كبس الأمير شيخ فصدف كشافته عند خان ابن ذي النون فواقعهم‏.‏ فبلغ ذلك شيخًا فركب وأتى بكتمر وصدمه بمن معه صدمة كسره فيها وانهزم بكتمر بمن معه إلى جهة صفد ومعه قريب من مائة فارس وعدة من الأمراء وتخلف عنه جميع عساكر دمشق‏.‏
وسار شيخ حتى أتى دمشق بكرة يوم الجمعة ونزل بدار السعادة من غير ممانع وقد تلقاه أعيان الدماشقة فاعتذر إليهم وحلف لهم أنه لم يقصد سوى النزول بالميدان خارج دمشق ليقضي أشغاله وأنه لم يكن له استعداد لقتال وأنه كتب يستأذن الأمير بكتمر في ذلك فأبى ثم خرج وقاتله فانهزم‏.‏ وسأل شيخ جماعةً من أعيان دمشق أن يكتبوا للسلطان بذلك بعد أن كتب بهذا جميعه محضرًا وأراد إرساله إلى السلطان فلم يجسر أحد من الشاميين أن يمضي به إلى السلطان الملك الناصر خوفًا من سطوته‏.‏
ثم في ثالث عشره ولى الأمير شيخ شهاب الدين أحمد بن الشهيد نظر جيش دمشق وولى شمس الدين محمد بن التباني نظر الجامع الأموي وولى تغري برمش أستاداره نيابة بعلبك وولى إياسًا الكركي نيابة القدس وولى منكلي بغا كاشف القبلية وولى الشريف محمد بن دغا محتسب دمشق وأما السلطان فإنه لما خرج من مدينة غزة سار منها حتى نزل قرية غيتا خارج مدينة بلبيس في يوم الخميس تاسع جمادى الأولى‏.‏
ولما استقر السلطان في المنزلة المذكورة وقد خرج الناس لتلقي العسكر وخرج غالب أقارب جمال الدين الأستادار إلى تلقيه وفرشت له الدور بالقاهرة فركب الوالد بقماش جلوسه من مخيمه من غير أن يجتمع بالسلطان لاتفاق كان بينهما من دمشق في القبض على جمال الدين المذكور لأسباب نذكرها‏.‏
وكان الوالد يكره جمال الدين بالطبع على أنه باشر أيام عظمته أستادارية الوالد مضافًا إلى أستادارية السلطان وصار يجلس مع مباشريه وينفذ الأمور ومع ذلك لم يقبل عليه الوالد لقلة دينه وسفكه الدماء وعظم ظلمه‏.‏ وسار الوالد من مخيمه ومماليكه مشاة حوله يقصد وطاق جمال الدين‏.‏ حدثني القاضي شرف الدين أبو بكر بن العجمي موقع جمال الدين وزوج بنت أخيه قال‏:‏ كنت جالسًا بين يدي الأمير جمال الدين الأستادار في وطاقه وقد حضر إلى تلقيه غالب أقاربه فقيل له‏:‏ إن الأمير الكبير تغري بردي قادم إلى جهتك‏.‏
فلما سمع جمال الدين ذلك تغير لونه وقال‏:‏ هذا من دون عسكر السلطان لا يعودني في مرضي‏!‏ فما مجيئه في هذا الوقت لخير‏.‏ ونهض من وقته قبل أن نرد عليه الجواب وخرج من خامه ماشيًا إلى جهة الوالد خطوات كثيرة غالبها هرولة حتى لقي الوالد - وهو راكب - فقبل رجله في الركاب فمسكه الوالد من رأسه ثم أمر به فقيد في الحال وقال لمن تولى تقييده‏:‏ هذا الأمير جمال الدين عظيم الدولة‏!‏ أبصر له قيدًا ثقيلًا يصلح له فبكى جمال الدين ودخل تحت ذيله‏.‏
ثم أمر الوالد بالقبض على جميع أقاربه وحواشيه فقبض على ابنه أحمد وعلى ابني أخته أحمد وحمزة‏.‏ وكان الوالد ندب جماعة من مماليكه إلى القاهرة للحوطة على دور جمال الدين وأقاربه ثم أخذهم الوالد وأركبهم بالقيود وسار بهم إلى جهة الديار المصرية‏.‏  ذلك والسلطان لا يعلم بما وقع إلا بعد سير الوالد إلى جهة القاهرة‏.‏
وأخذ جمال الدين في طريقه يترفق للوالد ويعده ويسأله القيام في أمره كل ذلك والوالد لا يعتبه إلا على قتل أستاداره عماد الدين إسماعيل وأخذ ماله‏.‏ وكان خبر إسماعيل مع جمال الدين المذكور أن إسماعيل كان أستادار الوالد وكان له عز وثروة ومعرفة ورئاسة قبل أن يترأس جمال الدين فكان يستخف بجمال الدين ويطلق لسانه في حقه وجمال الدين لا يصل إليه من انتمائه للوالد‏.‏
فأخذ جمال الدين يسعى في أستادارية الوالد مدة طويلة حتى ولاه الوالد أستاداريته بعد أن بذل جمال الدين مالًا كثيرًا للوالد ولحواشيه‏.‏ واستأذن الوالد أن يقبض على عماد الدين إسماعيل ويؤدبه ويظهر للوالد في جهته جملة كبيرة من الأموال وفي ظن الوالد أنه يوبخه بالكلام أو يهينه ببعض الضرب ثم يطلقه فأذن له الوالد في ذلك‏.‏
وكان عماد الدين إسماعيل المذكور مسافرًا فلما قدم من السفر ركب وأتى إلى الوالد - وكان الوالد تغير عليه قبل ذلك لسبب من الأسباب - فقبل يد الوالد وخرج من عنده فصدف جمال الدين عند مدرسة سودون من زادة فقال له الأمير جمال الدين‏:‏ بسم الله يا أمير عماد الدين أين الهدية فعاد معه عماد الدين وحال وصوله إلى بيته أجرى عليه العقوية وأخذ منه أربعين ألف دينار ثم ذبحه من ليلته‏.‏ فلما سمع الوالد بقتلته من الغد كاد عقله أن يذهب وأراد الركوب في الحال والطلوع إلى السلطان فقال له حواشيه وخواصه‏:‏ يا خوند قد فات الأمر وما عسى أن يصنع فيه الملك الناصر مع حصوصيته عنده‏.‏
فسكت الوالد على دغل وأخذ في توغير خاطر السلطان عليه ويعرف السلطان بأفعال جمال الدين‏.‏ ولا زال به حتى تغير عليه السلطان مع أمور أخر وقعت من جمال الدين فكان ذلك أكبر أسباب ذهاب جمال الدين وأراح الله المسلمين منه‏.‏
ثم ركب السلطان من غيتا وسار حتى نزل بالخانقاه ثم سار حتى طلع إلى قلعة الجبل في يوم السبت حادى عشر جمادى الأولى المذكور بعد أن زينت له القاهرة ومصر وخرج الناس لتلقيه فكان لدخوله يوم عظيم وحمل الوالد على رأسه القبة والطير‏.‏
ولما استقر السلطان بقلعة الجبل - وقد حبس بها جمال الدين - ثم رسم السلطان للوالد أن يتسلم جمال الدين ويعاقبه فقال الوالد‏:‏ يا مولانا السلطان‏!‏ جمال الدين كلب لا يتسلمه إلا كلب مثله فقال تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم‏:‏ يا خوند‏!‏ أنا ذلك الكلب فسلمه السلطان له‏.‏
وأما أسباب القبض على جمال الدين فكثيرة منها‏:‏ ما فعله ليلة بيسان لما استشاره السلطان هو وفتح الله وفر الأمراء‏.‏ وكان جمال الدين لما خرج من عند السلطان أرسل إلى الأمراء بذلك وطلب جمال الدين صيرفيه عبد الرحمن وأمره فصر للأمير شيخ المحمودي نائب الشام بخمسة آلاف دينار يرسلها له صحبة الأمراء المتوجهين في الليل إليه وإلى تمراز بثلاثة آلاف دينار وهو رأس الأمراء الذين عزموا على الفرار وعلى رفقته‏:‏ سودون بقجة وعلان وإينال لكل واحد بألفي دينار وبعث بالمبلغ إليهم وأعلمهم بما عزم عليه السلطان من القبض عليهم فكان هذا من أكبر الأسباب في هلاك جمال الدين ولم يعلم السلطان ذلك إلا بعد أيام‏.‏
ومنها أن السلطان الملك الناصر لم يكن معه في هذه السفرة من الذهب إلا النزر اليسير فسأل جمال الدين في مبلغ فقال جمال الدين‏:‏ ما معي إلا مبلغ هين‏.‏ فندب السلطان فتح الله كاتب السر في الفحص عن ذلك فقال له فتح الله‏:‏ قد رافق جمال الدين في هذه السفرة تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم كاتب المماليك وأخوه مجد الدين عبد الغني مستوفي الديوان المفرد فاسألهما وتلطف بهما تعلم ما مع جمال الدين من الذهب‏.‏
فطلبهما السلطان وفعل ذلك فأعلماه بليلة بيسان وما فعله جمال الدين من إرسال الذهب وإعلام الأمراء بقصد السلطان حتى فروا ولحقوا بالأمير شيخ فقال السلطان‏:‏ أمن أين لكم هذا الخبر فقالا‏:‏ صيرفيه عبد الرحمن ينزل عندنا وعند تقي الدين عبد الوهاب بن أبي شاكر ناظر ديوان المفرد وهو الحاكي فصدق السلطان مقالتهما وأسرها في نفسه واستشار الوالد في القبض على جمال الدين فقال له الوالد‏:‏ المصلحة تركه حتى يعود إلى جهة القاهرة ويقبض عليه وعلى جميع أقاربه حتى لا يفوت السلطان منهم أحد وتكون الحوطة على الجميع معًا فأعجب السلطان ذلك وسكت عن قبضه بالديار الشامية‏.‏
ثم إن تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم لا زال حتى أوصل عبد الرحمن الصيرفي إلى السلطان وحكى له الواقعة من لفظه في مجلس شرابه وشرب معه عبد الرحمن في تلك الليلة‏.‏
ومنها أن القاضي محيي الدين أحمد المدني كاتب سر دمشق لقي ابن هيازع عند باب الفراديس بدمشق فأعلمه ابن هيازع أن أصحابه وجدوا عند مدينة زرع ساعيًا معه كتب فقبضوا عليه وأخذوا منه الكتب وجاؤوا بها إليه‏.‏
وكان محيي الدين المذكور معزولًا عن كتابة سر دمشق من مدة فأخذ الكتب ولم يدر ما فيها وسلمها لفتح الله فأخذ فتح الله الكتب ومحيي الدين إلى السلطان‏.‏ وفتحت الكتب وقرئت بحضرة السلطان فإذا هي من جمال الدين إلى الأمير شيخ فزاد السلطان غضبًا على غضبه وأخفى ذلك كفه عن جمال الدين لأمر سبق‏.‏
وأخذ السلطان يغالط جمال الدين والتغيير يظهر من وجهه لشبيبته وشدة حقده عليه فتقهقر جمال الدين قليلًا وأخذ يغالط السلطان ويسأله يسلم له ابن الهيصم وابن أبي شاكر وألح في ذلك والسلطان لا يوافقه ويعده ويمنيه إلى أن نزل السلطان بمدينة غزة وأظهر لجمال الدين الجفاء وأراد القبض عليه فلم يمكنه الوالد فتركه السلطان إلى أن نزل بلبيس ووقع ما حكيناه‏.‏
وأما أصل جمال الدين ونسبه فإنه يوسف بن أحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر بن قاسم البيري الحلبي البجاسي‏.‏ كان أبوه يتزيا بزي الفقهاء وكان يخطب بالبيرة فتزوج بأخت شمس الدين عبد الله بن سهلول وقيل سحلول المعروف بوزير حلب فولدت له يوسف هذا ولقب بجمال الدين وكنى بأبي المحاسن هو وأخوته‏.‏
ونشأ جمال الدين يوسف المذكور بالبيرة‏.‏ ثم قدم البلاد الشامية على فاقة عظيمة وتزيا بزي الجند وخدم بلاصيًا عند الشب علي كاشف بر دمشق ثم عند غيره من الكشاف‏.‏
وطال خموله وخالط الفقر ألوانًا إلى أن خدم عند الأمير بجاس - وهو أمير طب لخاناه - بعد أمور يطول شرحها‏.‏ ثم جعله بجاس أستاداره وتمول وعرف عند الناس بجمال الدين أستادار بجاس وكثر ماله وسكن بالقصر بين القصرين واتهم أنه وجد به من خبايا الفاطميين خبيئة‏.‏
ثم خدم بعد بجاس عند جماعة من الأمراء إلى أن عد من الأعيان‏.‏ وصحب سعد الدين إبراهيم بن غراب فنوه ابن غراب بذكره إلى أن طلب أن يلي الوزر فامتنع من ذلك وطلب الأستادارية فخلع السلطان عليه باستقراره أستادارًا عوضًا عن سعد الدين بن غراب المذكور بحكم توجه ابن غراب مع يشبك الدوادار إلى البلاد الشامية وذلك في رابع شهر رجب سنة سبع وثمانمائة ومن يومئذ أخذ أمره يظهر حتى صار حاكم الدولة ومدبرها بعد أن قتل خلائق من الأعيان لا تدخل تحت حصر من كل طائفة بالعقوبة والذبح والخنق وأنواع ذلك‏.‏ قلت‏:‏ لاجرم أن الله تعالى قاصصه في الدنيا ببعض ما فعله فعوقب أيامًا بالكسارات وأنواع العذاب ثم ذبح في ليلة الثلاثاء حادي عشر جمادى الآخرة وأراح الله الناس من سوء فعله وقبح منظره - انتهى‏.‏
ثم في يوم الثلاثاء رابع عشر جمادى الأولى المذكور خلع السلطان على تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم ناظر الإسطبل وكاتب المماليك السلطانية باستقراره أستادارًا عوضًا عن جمال الدين يوسف البيري - بحكم القبض عليه - وترك لبس المباشرين ولبس الكلفتاة وتقلد بالسيف وتزيا بزي الأمراء وخلع على أخيه مجد الدين عبد الغني بن الهيصم مستوفي ديوان المفرد واستقر في نظر الخاص وخلع على سعد الدين إبراهيم بن البشيري ناظر الدولة واستقر في الوزارة - وكل هذه الوظائف كانت مع جمال الدين الأستادار - وخلع على تقي الدين عبد الوهاب بن أبي شاكر واستقر ناظر ديوان المفرد وأضيف إليه أستادارية الأملاك والأوقاف السلطانية عوضًا عن أحمد ابن أخت جمال الدين وخلع على تاج الدين فضل الله بن الرملي واستقر ناظر الدولة وخلع على حسام الدين حسين الأحول - عدو جمال الدين - واستقر أمير جاندار‏.‏
ثم قدم الخبر بأخذ شيخ دمشق وفرار بكتمر جلق إلى صفد‏.‏ وأرسل الأمير شيخ محضرًا يتضمن أنه كان يريد التوجه إلى طرابلس فلما وصل شقحب قصده بكتمر جلق وقاتله فركب ودفع عن نفسه وشهد له في المحضر جماعة كبيرة من أهل دمشق وغيرها‏.‏
وكان الأمر كما قاله شيخ - حسبما ذكرناه قبل تاريخه وسكت الوالد واحتار في نفسه بين بكتمر وشيخ فإنه كان يميل إلى كل منهما‏.‏ ثم قدم في أثناء ذلك الأمير بكتمر جلق إلى القاهرة في سابع عشرين جمادى الأولى بعد دخول السلطان إلى القاهرة بنحو ستة عشر يومًا وقدم صحبة بكتمر المذكور الأمير بردبك نائب حماة والأمير نكباي حاجب دمشق والأمير ألطنبغا العثماني والأمير يشبك الموساوي الأفقم نائب غزة فخرج السلطان إلى لقائهم ودخل بهم من باب النصر وشق القاهرة وخرج من باب زويلة ونزل بدار الأمير طوخ - أمير مجلس - يعوده في مرضه ثم طلع إلى القلعة‏.‏
ولم يعتب السلطان على الوالد في أمر شيخ ولا فاتحه الوالد في أمره حتى قال الوالد لبعض مماليكه‏:‏ كأن السلطان عذر الأمير شيخًا فيما وقع منه - والله أعلم‏.‏
وفي هذه الأيام تناولت جمال الدين وحواشيه العقوبات وأخذوا له عدة ذخائر من الأموال وما استهل جمادى الآخرة حتى كان مجموع ما أخذ منه من الذهب العين المصرفي تسعمائة ألف دينار وأربعة وستين ألف دينار وهو إلى الآن تحت العقوبة والمصادرة‏.‏ ثم ورد الخبر على السلطان من البلاد الشامية من دمرداش نائب حلب بأن الأمير نوروزًا الحافظي قدم إلى حلب ومعه يشبك بن أزدمر وغيره وأن الأمير دمرداش المحمدي نائب حلب تلقاه وأكرمه وحلفه للسلطان ثم كتب يعلم السلطان بذلك ويسأله أن يعيده إلى نيابة دمشق وأن يولي ابن أزدمر نيابة طرابلس وأن يولي ابن أخيه تغري بردي المعروف بسيدي الصغير نيابة حماة فأجاب السلطان إلى ذلك وأرسل الأمير مقبلًا الرومي في البحر إلى نوروز المذكور وعلى يده التقليد والتشريف بنيابة الشام‏.‏
فوصل إليه مقبل الرومي المذكور في رابع شعبان فلبس نوروز التشريف وقبل الأرض وجدد اليمين للسلطان بالطاعة على كل حال وعدم المخالفة‏.‏ ولما بلغ شيخًا ذلك فر منه جماعة من الأمراء وأتوا إلى الأمير نوروز منهم‏:‏ تمربغا العلائي المشطوب وجانم من حسن شاه نائب حماة وسودون الجلب وجانبك القرمي وبردبك حاجب حلب‏.‏
فلما وقع ذلك أرسل الأمير شيخ إلى السلطان الملك الناصر إمام مسجد الصخرة بالقدس وجنديًا آخر بكتابه فقدما إلى القاهرة في ثاني جمادى الآخرة المذكور وعلى يدهما أيضًا محضر مكتوب فغضب السلطان غضبًا عظيمًا ووسط الجندي وضرب إمام الصخرة ضربًا مبرحًا وسجنه بخزانة شمائل‏.‏ ثم من الغد أنزل جمال الدين وابنه أحمد على قفصي حمال إلى بيت تاج الدين بن الهيصم‏.‏ ثم قبض السلطان على الأمير بلاط أحد مقدمي الألوف وعلى الأمير كزل العجمي حاجب الحجاب وقيدهما وأرسلهما إلى سجن الإسكندرية‏.‏
ثم في حادي عشر جمادى الآخرة نقل جمال الدين الأستادار - في قفص حمال أيضًا - من بيت ابن الهيصم بعد ما قاسى محنًا وشدائد إلى بيت حسام الدين الأحول فتنوع حسام الدين في عقوبته أنواعًا لما كان في نفسه منه وأخذ في استصفاء أمواله فاستحثه القوم في قتله خشية أن يحدث في أمره حادث فقتله خنقًا ثم حز رأسه من الغد وحمله إلى السلطان حتى رآه ثم أعاده فدفن مع جثته بتربته بالصحراء‏.‏ وقد ذكرنا تاريخ موته عند القبض عليه‏.‏
ثم أصبح السلطان خلع على الأمير يلبغا الناصري باستقراره حاجب الحجاب - بالديار المصرية - بعد مسك كزل العجمي‏.‏ ثم ورد الخبر بأن الأمير شيخًا توجه لقتال نوروز بحماة فتوجه وحصره بها وأن الأمير يشبك الموساوي نائب غزة كان بينه وبين سودون المحمدي وعلان واقعة قتل فيها جماعة وفر يشبك الموساوي إلى جهة الديار المصرية وأن علان جرح في وجهه فحمل إلى الرملة فمات بها‏.‏
قلت‏:‏ وعلان هذا هو خلاف علان جلق نائب حماة وحلب - الذي قتله جكم مع طولو نائب صفد في سنة ثمان ثمانمائة - حسبما تقدم ذكره وأن سودون المحمدي بعث يسأل شيخًا في نيابة صفد فأجابه إلى ذلك كل هذا ورد على السلطان في يوم واحد‏.‏ ولما طال حصار شيخ لنوروز على حماة خرج دمرداش نائب حلب وقدم إلى حماة - نجدة لنوروز - ومعه عساكر حلب‏.‏
فلما بلغ شيخًا قدوم دمرداش بادر بأن ركب وترك وطاقه وأثقاله وتوجه إلى ناحية العربان فركب دمرداش بكرة يوم الأحد وأخذ وطاق شيخ واستولى عليه فعاد شيخ وتقاتلا بمن معهما قتالًا شديدًا قتل فيه جماعة كبيرة منهم‏:‏ بايزيد - من إخوة نوروز الحافظي - وأسر عدة كبيرة من أصحاب دمرداش منهم‏:‏ الأمير محمد بن قطبكي كبير التركمان الأوشرية وفارس أمير آخور دمرداش واستولى الأمير شيخ على طبلخاناة الأمير ثم إن الأمير شيخًا بعد مدة أرسل يخادع السلطان بكتاب يسترضيه ويقول فيه‏:‏ إنه باق على طاعة السلطان وحكى ما وقع له مع الأمير بكتمر جلق نائب الشام ثم ما وقع له مع الأمير نوروز ثم مع الأمير دمرداش وأن كل ذلك ليس بإرادته ولا عن قصده غير أنه يدافع عن نفسه خوفًا من الهلاك وأنه تاب وأناب ورجع إلى طاعة السلطان‏.‏ وأرسل أيضًا للوالد بكتاب مثل ذلك فلم يتكلم الوالد في حقه بكلمة‏.‏
ثم أخذ شيخ يقول عن نوروز أشياء ويغري السلطان به من ذلك أنه يقول‏:‏ إن نوروزًا يريد الملك لنفسه وهو حريص على ذلك من أيام السلطان السعيد الشهيد الملك الظاهر برقوق وأنه لا يطيع أبدًا وأنه هو لا يريد إلا الانتماء إلى السلطان فقط ورغبتة في عمل مصالح العباد والبلاد‏.‏
ثم كرر السؤال في العفو والصفح عنه في هذه المرة فلم يمش ذلك على الملك الناصر ولم يلتفت إلى كتابه‏.‏ وشرع السلطان في التنزه وأكثر من الركوب إلى بر الجيزة للصيد في كل قليل ووقع منه ذلك في الشهر غير مرة‏.‏
ولما عاد في بعض ركوبه في يوم الخميس ثالث عشرين شوال من سنة اثنتي عشرة وثمانمائة المذكورة ووصل قريبًا من قناطر السباع عند الميدان الكبير أمر السلطان بالقبض على الأمير قردم الخازندار وعلى الأمير إينال المحمدي الساقي - المعروف بضضع - أمير سلاح فقبض في الحال على قردم وأما إينال ضضع المذكور فإنه شهر سيفه وساق فرسه ومضى فلم يلحقه غير الأمير قجق الشعباني فأدركه وضربه بالسيف على يده ضربةً جرحته جرحًا بالغًا ثم فاته ولم يقدر عليه‏.‏
وطلع السلطان القلعة كل ذلك وهو لا يملك نفسه على فرسه من شدة السكر‏.‏ ونودي في الحال بالقاهرة على الأمير إينال المحمدي المذكور فلم يظهر له خبر وقيد قردم وحمل إلى الإسكندرية من يومه‏.‏
وأما الأمير شيخ فإنه كمل في هذا الشهر - وهو ذو الحجة من سنة اثنتي عشرة وثمانمائة - سبعة أشهر وهو يقاتل نوروزًا ودمرداش ويحاصرهما بحماة ووقع بينهم في هذه المدة المذكورة حروب وخطوب يطول شرحها وقتل بينهم خلائق لا تحصى‏.‏
واشتد الأمر على نوروز وأصحابه بحماة وقلت عندهم الأزواد وقاسوا شدائد حتى وقع الصلح بينه وبين الأمير شيخ وذلك عندما سمعوا بخروج الملك الناصر فرج إلى البلاد الشامية وخاف نوروز إن ظفر به الملك الناصر لا يبقيه فاحتاج إلى الصلح‏.‏
وحلف كل من نوروز وشيخ لصاحبه واتفقا على أن نوروزًا يمسك دمرداش نائب حلب وأن شيخًا يمسك ابن أخيه قرقماس - المدعو سيدي الكبير - ففطن دمرداش بذلك وأرسل أعلم ابن أخيه قرقماس المذكور مع بعض الأعوان وهرب دمرداش من نوروز إلى العجل ابن نعير وفر ابن أخيه قرقماس من عند شيخ إلى أنطاكية‏.‏
والعجب أن قرقماس المذكور كان قد صار من حزب شيخ وترك عمه دمرداش وخالفه وصار يقاتل نوروزًا وعمه هذه المدة الطويلة وعمه دمرداش يرسل إليه في الكف عن قتالهم يدعوه إلى طاعة نوروز ويويخه بالكلام وهو لا يلتفت ولا يبرح عن الأمير شيخ‏.‏ حتى بلغه من عمه أن شيخًا يريد القبض عليه فعند ذلك تركه وهرب‏.‏ ثم إن - الأمير نوروزًا قصد حلب وأخذها واستولى عليها‏.‏
وهرب مقبل الرومي الذي كان حمل للأمير نوروز التقليد بنيابة الشام ولحق بالسلطان على غزة‏.‏ وأما السلطان الملك الناصر فإنه أخذ في التجهيز إلى السفر نحو البلاد الشامية وعظم الاهتمام في أول محرم سنة ثلاث عشرة وثمانمائة‏.‏
وخلع في عاشر المحرم على الأمير قراجا شاد الشراب خاناه باستقراره دوادارًا كبيرًا - دفعةً واحدة - بعد موت الأمير قجاجق وخلع على سودون الأشقر باستقراره شاد الشراب خاناه عوضًا عن قراجا المذكور‏.‏
ثم عمل السلطان في هذا اليوم عرس الأمير بكتمر جلق وزفت عليه ابنة السلطان الملك الناصر - التي كان عقد عليه عقدها بدمشق - وعمرها يوم ذلك نحو سبع سنين أو أقل وبنى عليها بكتمر في ليلة الجمعة حادي عشر المحرم المذكور‏.‏
وأخذ السلطان في أسباب السفر وتهيأ وأنفق على المماليك السلطانية وغيرهم من الأمراء ومن له عادة بالنفقة فأعطى لكل مملوك من المماليك السلطانية عشرين ألف درهم وحمل إلى الأمراء مقدمي الألوف لكل واحد ألفي دينار ما خلا الوالد وبكتمر فإنه حمل لكل منهما ثلاثة آلاف دينار وأعطى لكل أمير من أمراء الطبلخانات خمسمائة دينار ولأمراء العشرات ثلاثمائة دينار‏.‏
ثم خرج الأمير بكتمر جلق جاليشًا من القاهرة إلى الريدانية وصحبته عدة من أمراء الألوف وغيرهم في يوم الخميس ثالث عشرين صفر‏.‏ فالذي كان معه من أمراء الألوف هم‏:‏ يلبغا الناصري حاجب الحجاب وألطنبغا العثماني وطوغان الحسني رأس نوبة النوب وسنقر الرومي وخيربك وشاهين الأفرم وعدة كبيرة من أمراء الطبلخانات والعشرات وسار بكتمر بعد أيام قبل خروج السلطان‏.‏
ثم ركب السلطان من قلعة الجبل ببقية أمرائه وعساكره في يوم الاثنين رابع شهر ربيع الأول من سنة ثلاث عشرة المذكورة ونزل بالريدانية - وهذه تجريدة الملك الناصر السادسة إلى البلاد الشامية غير سفرة السعيدية - وخلع على أرغون من بشبغا الأمير آخور الكبير بنيابة الغيبة على عادته وأنه يستمر بسكنه بباب السلسلة وأنزل الأمير كمشبغا الجمالي بقلعة الجبل وجعل بظاهر القاهرة الأمير إينال الصصلاني الحاجب الثاني أحد مقدمي الألوف ومعه عدة أمراء أخر‏.‏
والذي كان بقي مع السلطان - من أمراء الألوف وخرجوا صحبته - الوالد رحمه الله وهو أتابك العساكر وقجق الشعباني وسودون الأسندمري وسودون من عبد الرحمن وسودون الأشقر شاد الشراب خاناه وكمشبغا الفيسي المعزول عن الأمير آخورية وبردبك الخازندار‏.‏ ثم ركب الملك الناصر من الغد في يوم الثلاثاء خامس شهر ربيع الأول من الريدانية إلى التربة التي أنشأها على قبر أبيه بالصحراء‏.‏
قلت‏:‏ وجماعة كبيرة من الناس يظنون أن هذه التربة العظيمة أنشأها الملك الظاهر برقوق قبل موته ويسمونها الظاهرية وليس هو كذلك وما عمرها إلا الملك الناصر فرج بعد موت أبيه بسنين وهي أحسن تربة بنيت بالصحراء - انتهى‏.‏
وصار الملك الناصر حتى نزل بالتربة المذكورة وقرر في مشيختها صدر الدين أحمد بن محمود العجمي ورتب عنده أربعين صوفيًا وأجرى عليهم الخبز واللحم الضأن للطبوخ في كل يوم وفرشت السجادة لصدر الدين المذكور بالمحراب وجلس عليها‏.‏
أخبرني العلامة علاء الدين علي القلقشندي قال‏:‏ حضرت جلوس صدر الدين المذكور في ذلك اليوم مع من حضر من الفقهاء وقد جلس السلطان بجانب صدر الدين في المحراب وعن يمينه الأمير تغري بردي من بشبغا الأتابك - يعني الوالد - وتحته بقية الأمراء وجلس على يسار السلطان الشيخ برهان الدين إبراهيم بن زقاعة وتحته المعتقد الكركي فجاء القضاة فلم يجسر قاضي القضاة جلال الدين البلقيني الشافعي أن يجلس عن يمين السلطان فوق الأمير الكبير وتوجه وجلس عن ميسرة السلطان تحت ابن زقاعة والكركي فإنهما كان لهما عادة بالجلوس فوق القضاة من أيام الملك الظاهر برقوق - انتهى‏.‏
قلت‏:‏ والعادة القديمة من أيام شيخون العمري إلى ذلك اليوم أنه لا يجلس أحد فوق الأمير الكبير من القضاة ولا غيرهم حتى ولا ابن السلطان غير صاحب مكة المشرفة مراعاةً لسلفه الطاهر - انتهى‏.‏
ثم ركب السلطان بأمرائه وخواصه وعاد إلى مخيمه بالريدانية وأقام به إلى أن رحل منه في يوم السبت تاسع شهر ربيع الأول المذكور يريد البلاد الشامية‏.‏ وأما الأمير شيخ فإنه لما بلغه خروج السلطان من الديار المصرية لم يثبت وداخله الخوف‏.‏
وخرج من دمشق في يوم الثلاثاء سادس عشرين شهر ربيع الأول المذكور بعساكره ومماليكه وتبعه الأمير جانم نائب حماة‏.‏
فدخل بكتمر جلق إلى الشام من الغد في يوم سابع عشرينه - على حين غفلة - حتى يطرق شيخًا نفاته شيخ بيوم واحد لكنه أدرك أعقابه وأخذ منهم جماعةً ونهب بعض أثقال شيخ‏.‏ ثم دخل السلطان الملك الناصر إلى دمشق بعد عشاء الآخرة من ليلة الخميس ثامن عشرينه وقد ركب من بحيرة طبرية في عصر يوم الأربعاء على جرائد الخيل ليكبس شيخًا ففاته بيسير‏.‏
وكان شيخ قد أتاه الخبر وهو جالس بدار السعادة من دمشق فركب من وقته وترك أصحابه ونجا بنفسه بقماش جلوسه فما وصل إلى سطح المزة إلا وبكتمر جلق داخل دمشق ومر شيخ على وجهه منفردًا عن أصحابه ومماليكه وحواشيه في أثره والجميع في أسوإ ما يكون من الأحوال‏.‏ ولما دخل السلطان إلى دمشق أصبح نادى بدمشق بالأمان والاطمئنان لأهل الشام وألا ينزل أحد من العسكر في بيت أحد من الشاميين ولا يشوش أحد منهم على أحد في بيع ولا شراء ونودي أن الأمير نوزوزًا الحافظي هو نائب الشام ثم في ثاني ربيع الآخرة قدم الأمير شاهين الزردكاش نائب صفد على السلطان بدمشق ثم في ثالثه خلع السلطان على الأمير يشبك الموساوي الأفقم باستقراره في نيابة طرابلس واستقر أبو بكر بن اليغموري في نيابة بعلبك وأخوه شعبان في نيابة القدس‏.‏
ثم في سادس شهر ربيع الآخر المذكور خرج أطلاب السلطان والأمراء من دمشق إلى برزة وصلى السلطان الجمعة بجامع بني أمية ثم ركب وتوجه بأمرائه وعساكره جميعًا إلى أن نزل بمخيمه ببرزة وخلع السلطان على شاهين الزردكاش نائب صفد باستقراره نائب الغيبة بدمشق وسكن شاهين بدار السعادة‏.‏ وتأخر بدمشق من أمراء السلطان الأمير قاني باي المحمدي لضعف كان اعتراه وتخلف بدمشق أيضًا القضاة الأربعة والوزير سعد الدين بن البشيري وناظر الخاص مجد الدين بن الهيصم‏.‏
وسار السلطان بعساكره إلى جهة حلب حتى وصلها في قصد شيخ ونوروز بمن معهما من الأمراء ثم كتب السلطان لنوروز وشيخ يخيرهما إما الخروج من مملكته أو الوقوف لمحاربته أو الرجوع إلى طاعته‏:‏ يريد - بذلك - الملك الناصر الشفقة على الرعية من أهل البلاد الشامية لكثرة ما صار يحصل لهم من الغرامة والمصادرة وخراب بلادهم من كثرة النهابة من جهة العصاة‏.‏ ثم أخبرهما الملك الناصر أنه عزم على الإقامة بالبلاد الشامية السنتين والثلاثة حتى ينال غرضه فأجابه الأمير شيخ بأنه ليس بخارج عن طاعته ويعتذر عن حضوره بما خامر قلبه من شدة الخوف والهيبة عندما قبض عليه السلطان مع الأتابك يشبك الشعباني في سنة عشر وثمانمائة وأنه قد حلف لا يحارب السلطان ما عاش من‏.‏
يوم حلفه الأمير الكبير تغري بردي - أعني الوالد - في نوبة صرخد وكرر الإعتذار عن محاربته لبكتمر جلق حتى قال‏:‏ وإن كان السلطان ما يسمح له بنيابة الشام على عادته فينعم عليه بنيابة أبلستين وعلى الأمير نوروز بنيابة ملطية وعلى يشبك بن أزدمر بنيابة عين تاب وعلى غيرهم من الأمراء ببقية القلاع فإنهم أحق من التركمان المفسدين في الأرض - وكان ما ذكروه على حقيقته - فلم يرض السلطان بذلك وصمم على الإقامة ببلاد الشام وكتب يستدعي التركمان وغيرهم كل ذلك والسلطان بأبلستين‏.‏ وبيناهم في ذلك فارق الأمير سودون الجلب شيخًا ونوروزًا وتوجه إلى الكرك واستولى عليها بحيلة تحيلها‏.‏
ثم عاد السلطان إلى حلب في أول جمادى الآخرة ولم يلق حربًا فقدم عليه بها قرقماس ابن أخي دمرداش - المدعو سيدي الكبير - والأمير جانم من حسن شاه نائب حماة - كان - فأكرمهما السلطان وأنعم على قرقماس بنيابة صفد وعلى جانم بنيابة طرابلس واستقر الأمير جركس والد تنم حاجب حجاب دمشق ثم خلع على الأمير بكتمر جلق باستقراره في نيابة الشام ثانيًا وأنعم بإقطاعه على الأمير دمرداش المحمدي نائب حلب ثم بعد مدة غير السلطان قرقماس - سيدي الكبير - من نيابة صفد إلى نيابة حلب عوضًا عن عمه أمير دمرداش المحمدي وأخلع على أخيه تغري بردي - المدعو سيدي الصغير - باستقراره في نيابة صفد‏.‏
وبينما السلطان في ذلك بحلب ورد عليه الخبر بأن شيخًا ونوروزًا وصلا عين تاب وسارا على البرية إلى جهة الشام فركب السلطان مسرعًا من حلب على حين غفلة في ثالث عشرين شهر رجب ببعض عساكره وسار حتى دخل دمشق في أربعة أيام ثم قدم في أثره الوالد بغالب العساكر ثم الأمير بكتمر جلق نائب الشام ثم بقية الأمراء والعساكر‏.‏
ثم في ثالث شعبان قدم الأمير تمراز الناصري نائب السلطنة - كان - إلى دمشق في خمسين فارسًا داخلًا في طاعة السلطان بعدما فارق شيخًا ونوروزًا فركب السلطان وتلقاه وبالغ في إكرامه‏.‏ قلت‏:‏ وتمراز هذا هو الذي كان فر من السلطان في ليلة بيسان ومعه عدة أمراء - وقد تقدم ذكر ذلك في وقته‏.‏
ثم في الغد سمر السلطان ستة نفر من أصحاب شيخ ووسطهم‏.‏ وأما شيخ ونوزوز فإنهما لما سار السلطان عن أبلستين خرجا من قيسارية بمن معهم وجاؤوا إلى أبلستين فمنعهم أبناء دلغادر وقاتلوهم فانكسروا منهم وفروا إلى عين تاب فلما قربوا من تل باشر تمزقوا وأخذت كل طائفة جهة من الجهات فلحق بحلب ودمشق منهم عدة وافرة واختفى منهم جماعة‏.‏
ومر شيخ ونوروز بحواشيهما على البرية إلى تدمر فامتاروا منها ومضوا مسرعين إلى صرخد وتوجهوا إلى البلقاء ودخلوا بيت المقدس ثم توجهوا إلى غزة بعد أن مات من أصحابهم الأمير تمربغا المشطوب نائب حلب - كان - والأمير إينال المنقار كلاهما بالطاعون بمدينة حسبان ثم قدم عليهم سودون الجلب من الكرك فتتبعوا ما بغزة من الخيول فأخذوها وأقاموا بها حتى أخرج السلطان إليهم بكتمر جلق على عسكر كبير فسار إلى زرع ثم كتب للسلطان يطلب نجدة فأخرج إليه السلطان من دمشق بعسكر هائل من الأمراء والمماليك السلطانية ورأس الأمراء الأمير تمراز الناصري خر - الذي قدم على السلطان طائعًا بدمشق - ويشبك الموساوي الأفقم وألطنبغا العثماني وأسنبغا الزردكاش وسودون الظريف نائب الكرك - كان - والأمير طوغان الحسني رأس نوبة النوب فخرجوا من دمشق مجدين في السير إلى قاقون - وبها الأمير بكتمر جلق - فساروا جميعًا إلى غزة فقدموها في عصر يوم الثلاثاء من ثالث شهر رمضان وقد رحل شيخ ونوروز بمن معهما بكرة النهار عندما قدم عليهم سودون بقجة وشاهين الدوادار من الرملة وأخبراهم بقدوم عسكر السلطان إليهم فنهبوا غزة وأخذوا منها خيولًا كثيرةً وغلالًا فتبعهم الأمير خير بك نائب غزة إلى الزعقة وسارت كشافته في أثرهم إلى العريش ثم عادوا إلى غزة‏.‏

هجوم الأمير شيخ والأمير ناروز على القاهرة
فلما وصل بكتمر جلق بمن معه من الأمراء إلى غزة وبلغه توجه شيخ ونوروز إلى جهة مصر أرسل بكتمر الأمير شاهين الزردكاش والأمير أسنبغا الزردكاش على البرية إلى مصر ليخبرا من بقلعة الجبل بقدوم شيخ ونوروز إلى مصر فسارا وسبقا شيخًا ونوروزًا وعرفا الأمير أرغون الأمير آخور وغيره ممن هو من الأمراء بمصر ورد جواب أرغون على بكتمر بأنه حضن قلعة الجبل والأسطبل السلطاني ومدرسة السلطان حسن ومدرسة الملك الأشرف شعبان بن حسين - التي كانت تجاه الطبلخاناه عند الصوة - وأنه هو ومن معه قد استعدوا للقاء شيخ وأما شيخ ونوروز ومن معهم فإنهم ساروا من مدينة غزة إلى جهة الديار المصرية فمات بالعريش شاهين دوادار الأمير شيخ - وكان عضد الأمير شيخ وأعظم مماليكه‏.‏
ثم ساروا إلى قطيا ونهبوها‏.‏ م ساروا من قطيا إلى أن وصلوا إلى مصر في يوم الأحد ثامن شهر رمضان من سنه ثلاث عشرة وثمانمائة المذكورة‏.‏
ودخل شيخ ونوروز بمن معهما من أمراء الألوف وهم‏:‏ الأمير يشبك بن أزدمر والأمير سودون بقجة والأمير سودون المحمدي تلي والأمير يشبك العثماني وغيرهم من أمراء الطبلخانات مثل قمش وقوزي وغيرهما ودخل معهم إلى القاهرة خلائق من الزعر وبني وائل - من عرب الشرقية - والأمير سعيد الكاشف - هو معزول - فبلغهم تحصين القلعة والمدرستين وأن الأمير أرغون ومن معه من الأمراء قبضوا على أربعين مملوكًا من النوروزية - أعني ممن كان له ميل إلى نوروز من المماليك السلطانية - وسجنوهم بالبرج من قلعة الجبل خوفًا من غدرهم فسارا من جهة المطرية خارج القاهرة إلى بولاق ومضوا إلى الميدان الكبير إلى الصليبة وخرجوا إلى الرميلة تحت قلعة الجبل فرماهم المماليك السلطانية بالمدافع والنشاب وبرز لهم الأمير إينال الصصلاني الحاجب الثاني بمن معه ووقف تجاه باب السلسلة وقاتل الشيخية والنوروزية ساعةً فتقنطر من القوم فارسان ثم انهزم إينال الصصلاني وعاد إلى بيته تجاه سبيل المؤمني - المعروف ببيت نوروز - وبات الأمراء تلك الليلة بالقاهرة‏.‏
وأصبح الأمير شيخ أقام رجلًا في ولاية القاهرة فنادى بالأمان ووعد الناس بترخيص الأسعار وبإزالة المظالم فمال إليه جمع من العامة‏.‏
وأقاموا ذلك اليوم وملكوا مدرسة الملك الأشرف شعبان التي كانت بالصوة تجاه الطبلخاناة السلطانية هذا والقتال مستمر بينهم وبين أهل القلعة‏.‏ ثم ملك الأمراء مدرسة السلطان حسن وهزموا من كان فيها من المقاتلة بعد قتال شديد وأقاموا بها جماعة رماة من أصحابهم ورموا على قلعة الجبل يومهم وليلتهم وطلع الأمير أرغون من بشبغا - الأمير آخور - من الإسطبل السلطاني إلى أعلى القلعة عند الأمير جرباش وكمشبغا الجمالي فأدخلاه القلعة بمفرده من غير أصحابه‏.‏
فلما كانت ليلة الاثنين كسرت خوخة أيدغمش ودخلت طائفة من الشاميين إلى القاهرة ومعهم طوائف من العامة ففتحوا باب زويلة - وكان والي القاهرة حسام الدين الأحول وقد اجتهد في تحصين المدينة - ثم كسروا باب خزانة شمائل وأخرجوا من كان بها وكسروا سجن الديلم أيضًا وسجن رحبة باب العيد وانتشروا في حارات القاهرة ونهبوا بيت كمشبغا الجمالي وتتبعوا الخيول والبغال من الإسطبلات التي للناس وغيرها وأخذوا منها شيئًا كثيرًا‏.‏
ثم فتحوا حاصل الديوان المفرد ببين القصرين وأخذوا منه مالًا كثيرًا‏.‏ ثم ملك شيخ باب السلسلة وجلس بالحراقة هو ورفقته‏.‏
ثم طلبوا من الأمراء الذين بالقلعة فتح باب القلعة لهم في بكرة يوم الثلاثاء فاعتذر الأمراء لهم بأن المفاتيح عند الزمام كافور فاستدعوه فأتاهم وكلمهم من وراء الباب فسلموا عليه من عند الأمير شيخ ومن عند أنفسهم وكان الأمير نوروز من جملة من كان واقفًا على الباب وسألوه الفتح لهم فقال‏:‏ ما يمكن ذلك فإن حريم السلطان بالقلعة فقالوا‏:‏ مالنا غرض في النهب وإنما نريد أن نأخذ ابن أستاذنا - يعنون بابن أستاذنا‏:‏ الأمير فرج ابن السلطان الملك الناصر فرج وكان هذا الصبي سمي على اسم أبيه وهو أكبر أولاد الملك الناصر - فقال كافور الزمام‏:‏ وأيش صاب السلطان حتى تأخذوا ولده فقالوا‏:‏ لو كان السلطان حيًا ما كنا هاهنا - يعنون أنهم قتلوا السلطان وساروا إلى الديار المصرية ليسلطنوا ولده - فلم يمش ذلك على كافور ولا على غيره‏.‏
وطال الكلام بينهم في ذلك فلم يلتفت كافور إلى كلامهم فهددوه بإحراق الباب فخاف وقال‏:‏ ‏"‏ إن كنتم ما تريدون إلا ابن أستاذكم فليحضر إلى باب السر اثنان منكم أو ثلاثة وتحضر القضاة ثم احلفوا أنكم لا تغدرون به ولا تمسونه بسوء‏.‏
وكان كافور يقصد بذلك التطويل فإنه كان بلغه هو والأمراء الذين بالقلعة قرب مجيء العسكر السلطاني إلى القاهرة فبعثوا لهم البطاقة من القلعة باستعجالهم وأنهم في أقوى ما يكون من الحصار ومتى ما لم يدركوا أخذوا‏.‏
وأخذ كافور في مدافعة الجماعة والتمويه عليهم - قلت‏:‏ وعلى كل حال فهو أرجل من أرغون الأمير آخور فإن أرغون مع كثرة من كان عنده من المماليك السلطانية ومماليكه لم يقدر على منع باب السلسلة وتركها وفر في أقل من يومين وكان يمكنه‏.‏ مدافعة القوم أشهرًا - انتهى‏.‏
وبينما كافور الزمام في مدافعتهم لاحت طلائع العسكر السلطاني لمن كان شيخ أوقفه من أصحابه يرقبهم بالمآذن بقلعة الجبل وقد ارتفع العجاج واقبلوا سائقين سوقًا عظيمًا جهدهم‏.‏ فلما بلغ شيخًا وأصحابه ذلك لم يثبتوا ساعةً واحدةً وركبوا من فورهم ووقفوا قريبًا من باب السلسلة فدهمهم العسكر السلطاني فولوا هاربين نحو باب القرافة والعسكر في أثرهم فكبا بالأمير شيخ فرسه عند سوق الخيم بالقرب من باب القرافة فتقنطر من عليه فلم يستطع النهوض ثانيًا لعظم روعه وسرعة حركته فأركبه بعض أمراء آخوريته - يقال إنه الأمير جلبان الأمير آخور الذي كان ولي نيابة الشام في دولة الملك الظاهر جقمق إلى أن مات في دولة الملك الأشرف إينال في سنة ثمان وخمسين وثمانمائة - وركب شيخ ولحق بأصحابه فمروا على وجوههم على جرائد الخيل وتركوا ما أخذوه من القاهرة وأيضًا ما كان معهم وساروا على أقبح وجه بعد أن قبض عسكر السلطان على جماعة من أصحاب شيخ مثل الأمير قرا يشبك - قرب - نوروز - وبردبك رأس نوبة نوروز - لأن نوروزًا ثبت قليلًا بالرميلة بعد فرار الأمير شيخ - وعلى برسباي الطقطائي أمير جاندار وثمانية وعشرين فارسًا وجرح جماعة كبيرة منهم السيفي يشبك الساقي الظاهر - الذي ولي في الدولة الأشرفية برسباي الأتابكية - ومن هذا الجرح صار أعرج بعد أن أشرف على الموت‏.‏ ودخل الأمير بكتمر جلق بعساكره وأرسل الأمير سودون الحمصي فأعتقل جميع من أمسك من الشاميين وأخذ يتتبع من بقي من الشامية بالقاهرة‏.‏ ثم نادى في الوقت بالأمان‏.‏
ثم أخذت عساكره يقتلون في الشاميين ويأسرون وينهبون إلى طموه وألزم بكتمر جلق والي القاهرة بمسك الزعر الذين قاموا مع الشاميين فأبادهم الوالي وقطع أيدي جماعة كبيرة وحبس جماعة أخر بعد ضربهم بالمقارع‏.‏ وأخذ الأمير بكتمر جلق في تمهيد أحوال الديار المصرية‏.‏
وقدم عليه الخبر في ليلة الأربعاء حادي عشر من شهر رمضان المذكور بأن شيخًا نزل إطفيح وأن شعبان بن محمد بن عيسى العائذي توجه بهم إلى نحو الطور فنودي بالقاهرة ومصر بتحصيل من اختفى من الشاميين بها‏.‏ ثم قدم الخبر بوصولهم إلى السويس وأنهم أخذوا علفًا كان هناك للتجار وزادًا وجمالًا وسار بهم شعبان بن عيسى في درب الحاج إلى نخل فأخذوا عدة جمال للعربان وأن شعبان المذكور أمدهم بالشعير والزاد وأنهم افترقوا فرقتين فرقة رأسها الأمير نوروز الحافظي ويشبك بن أزدمر وسودون بقجة وفرقة رأسها الأمير شيخ المحمودي وسودون تلي المحمدي وسودون قراصقل وكل فرقة منهما معها طائفة كبيرة من الأمراء والمماليك وأنهم لما وصلوا إلى الشوبك دفعهم أهلها عنها فساروا إلى جهة الكرك وبها سودون الجلب فتضرعوا له حتى نزل إليهم من قلعة الكرك وتلقاهم وادخلهم مدينة الكرك وأنهم استقروا بالكرك‏.‏
وأما الأمير بكتمر جلق بمن معه من الأمراء والعساكر السلطانية فإنهم أقاموا‏!‏ لقاهرة نحو ستة أيام حتى تحققوا توجه القوم إلى جهة البلاد الشامية فخرجوا من القاهرة في يوم سادس عشر من رمضان يريدون البلاد الشامية إلى الملك الناصر وهو بدمشق وتأخر بالقاهرة من الأمراء من أصحاب بكتمر جلق‏:‏ طوغان الحسني رأس نوبة النوب - وقد استقر قبل تاريخه دوادارًا كبيرًا بعد موت الأمير قراجا بطريق دمشق في ذهاب الملك الناصر إلى الشام - ويشبك الموساوي الأفقم وشاهين الزردكاش وأسنبغا الزردكاش‏.‏ وسار بكتمر جلق بمن بقي حتى وصل دمشق‏.‏
وأما السلطان الملك الناصر فإنه كان في هذه الأيام بدمشق وبلغه ما وقع بالديار المصرية مفصلًا لكن نقل إليه أن بكتمر جلق وطوغان الحسني قصرا في أخذ شيخ ونوروز ولو قصدا أخذهما لأمكنهم ذلك فأسرها الملك الناصر في نفسه‏.‏
قلت‏:‏ ولا يبعد ذلك لما حكى لي غير واحد - ممن حضر هذه الواقعة - من ضعف شيخ ونوروز وتقاعد الأمراء عن المسير في أثرهم‏.‏ ولما بلغ الملك الناصر ذلك لم يسعه إلا السكات وعدم معاتبة الأمراء على ذلك‏.‏
ثم إن السلطان أمسك الأمير جانبك القرمي بدمشق في يوم الاثنين أول شوال وضربه ضربًا مبرحًا وسجنه بقلعة دمشق‏.‏ ثم أمر السلطان الأمير قرقماس ابن أخي دمرداش - المعروف بسيدي الكبير - بالمضي إلى محل كفالته بحلب فسار من دمشق عائدًا إلى حلب‏.‏ واستمر السلطان بدمشق إلى يوم سابع عشر ذي القعدة وخرج منها إلى قبة يلبغا ورحل من الغد بأمرائه وعساكره يريد الكرك بعد ما تحقق نزول الأمراء بالكرك‏.‏
وخلع على بكتمر جلق بنيابة الشام على عادته وعاد بكتمر إلى دمشق‏.‏ وأما شيخ ونوروز وجماعتهما فإنهم أقاموا بالكرك أيامًا واطمأنوا بها ثم أخذوا في تحصينها‏.‏

جرح الأمير شيخ وقتل الأمير قجه
فلما كان بعض الأيام نزل الأمير شيخ ومعه الأمير سودون بقجة وقاني باي المحمدي في طائفة يسيرة من قلعة الكرك إلى حمام الكرك فدخل جميع هؤلاء الحمام‏.‏ وبلغ ذلك الأمير شهاب الدين أحمد حاجب الكرك فبادر بأصحابه ومعه جمع كبير من أهل البلد واقتحموا الحمام المذكور ليقتلوا بها الأمير شيخًا وأصحابه فسبقهم بعض المماليك وأعلم الأمير شيخًا فخرج من وقته من الحمام ولبس ثيابه ووقف في مسلخ الحمام عند الباب ومعه أصحابه الذين كانوا معه في الحمام فطرقهم القوم بالسلاح فدافع كل واحد منهم عن نفسه وقاتلوا قتال الموت حتى أدركهم الأمير نوروز بجماعته فقاتلوهم حتى هزموهم بعد ما قتل الأمير سودون بقجة وأصاب الأمير شيخًا سهم غار في بدنه فنزف منه دم كثير حتى أشرف على الموت وحمل إلى قلعة الكرك فأقام ثلاثة أيام لا يعقل ثم أفاق‏.‏ ومن هذه الرجفة حصل له مرض المفاصل الذي تكسح منه بعد سلطنته هكذا ذكر المؤيد لبعض أصحابه‏.‏
وأما الأمير نوروز لما بلغه قتل سودون بقجة وهو يعارك القوم جد في قتالهم حتى كسرهم وقتل منهم مقتلة عظيمة ثم عاد إلى الكرك وقد جرح من أصحابه جماعة‏.‏ وبلغ هذا الخبر السلطان الملك الناصر فسر بقتل سودون بقجة سرورًا عظيمًا لكثرة ما كان أحسن إليه ورقاه حتى ولاة نيابة طرابلس فتركه وتوجه إلى الأمير شيخ ونوروز من غير أمر أوجب تسحبه بل لأجل خاطر أغاته وحميه الأمير تمراز النائب‏.‏
ثم وقع بين الأمراء وبين سودون الجلب بالكرك فنزل سودون الجلب من الكرك وتركها لهم ومضى حتى عدى الفرات‏.‏
السلطان الملك الناصر فإنه سار من مدينة دمشق حتى نزل على مدينة الكرك في يوم الجمعة رابع عشرين ذي القعدة وأحاط بها ونصب عليها الآلات وجد في قتالها وحصرها وبها شيخ ونوروز وأصحابهما واشتد الحصار عليهم بالكرك‏.‏
وأخذ الملك الناصر يلازم قتالهم حتى أشرفوا على الهلاك والتسليم‏.‏ ثم أخذ شيخ ونوروز والأمراء يكاتبون الوالد ويتضرعون إليه وهو يتبرم من أمرهم والكلام في حقهم ويوبخهم بما فعله الأمير شيخ مع بكتمر جلق بعد حلفه في واقعة صرخد فأخذ شيخ يعتذر ويحلف بالأيمان المغلظة أن بكتمر جلق كان الباغي عليه والبادئ بالشر وأنه هو دفع عن نفسه لا غير وأنه ما قصده في الدنيا سوى طاعة السلطان وأنت الأمير الكبير وأكبر خشداشيتنا إن لم تتكلم بيننا في الصلح وإلا فمن يتكلم ثم كاتبوا أيضًا جماعة من الأمراء في طلب العفو والصلح‏.‏
ولازالوا حتى تكلم الوالد مع السلطان في أمرهم فأبى السلطان إلا قتالهم وأخذهم والوالد يمعن في ذلك حتى ابترم الصلح غير مرة والسلطان يرجع عن ذلك‏.‏ ثم ترددت الرسل بينهم وبين السلطان أيامًا حتى انعقد الصلح على أن يكون الوالد نائب الشام وأن يكون الأمير شيخ نائب حلب وأن يكون الأمير نوزوز نائب طرابلس وكان ذلك بإرادة شيخ ونوروز فإنهما قالا‏:‏ لا نرضى أن يكون بكتمر جلق أعلى منا رتبة بأن يكون نائب الشام ونحن أقدم منه عند السلطان فإن كان ولا بد فيكون الأمير الكبير تغري بردي في نيابة الشام ونكون نحن تحت أوامره ونسير في المهمات السلطانية تحت سنجقه وأما بكتمر ودمرداش فلا‏.‏
وإن فعل السلطان ذلك لا يقع منا بعدها مخالفة أبدًا ولما بلغ الأمراء والعساكر هذا القول أعجبهم غاية الاعجاب وقد ضجر القوم من الحصار وملوا من القتال فلا زالوا بالسلطان حتى أذعن ومال إلى تولية الوالد نيابة الشام وكلم الوالد في ذلك فأبى وامتنع غاية الامتناع‏.‏ وكان السلطان قد شرط على الأمراء شروطًا كثيرة فقبلوها على أن يكون الوالد نائب دمشق‏.‏
وأخذ الملك الناصر يكلم الوالد في ذلك والوالد مصمم على عدم القبول وأرمى سيفه غير مرة بحصرة السلطان وأراد التوجه إلى القدس بطالًا‏.‏ وصار الوالد كلما امتنع من الاستقرار وحنق يكف عنه السلطان فإذا رضي كلمه‏.‏
ثم سلط عليه الأمراء فكلموه من كل جهةً حتى قبل‏.‏ ثم قام إليه السلطان واعتنقه وطلب الخلعة فجيء بها في الحال وألبسها للوالد باستقراره في نيابة دمشق عوضًا عن بكتمر جلق‏.‏
واستقر الأمير شيخ في نيابة حلب عوضًا عن قرقماس سيدي الكبير والأمير نوروز في نيابة طرابلس عوضًا عن جانم من حسن شاه‏.‏ واستقر جانم المذكور أمير مجلس بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية‏.‏ واستقر تغري بردي سيدي الصغير في نيابة حماة على عادته‏.‏ ورسم للأمير سودون من عبد الرحمن نائب صفد أن ينتقل من نيابة صفد إلى تقدمة ألف بالديار المصرية وأن يكون الأمير يشبك بن أزدمر أتابك دمشق عند الوالد فإنه كان من ألزامه وعقد عقده بعد ذلك على إحدى بناته - ولها من العمر نحو ثلاث سنين - ويكون قاني باي المحمدي أميرًا بحلب عند الأمير شيخ‏.‏
ثم شرط السلطان على شيخ ونوروز ألا يخرجا إقطاعًا ولا إمرةً ولا وظيفة لأحد في الناس إلا بمرسوم السلطان وأن يسلما قلعة الكرك إلى السلطان ويسلم شيخ قلعة صهيون وصرخد أيضًا فرضوا بذلك جميعه وحلفوا على طاعة السلطان‏.‏ وخلع السلطان عليهم خلعًا جليلةً ومد لهم سماطًا أكلوا منه‏.‏ ثم رحل السلطان من الكرك بعساكره يريد القدس فوصله وأقام به خمسة أيام ثم خرج منه وسار يريد القاهرة‏.‏ وأما الوالد فإنه سار من الكرك إلى نحو دمشق حتى دخلها في يوم سادس المحرم من سنة أربع عشرة وثمانماثة ونزل بدار السعادة وقد خمدت الفتنة وسكن هرج الناس‏.‏
ثم خرج الأمير شيخ والأمير نوروز من الكرك إلى محل كفالتهما وقدما إلى دمشق بمن معهما من الأمراء والمماليك لعمل مصالحهما بدمشق فلما بلغ الوالد قدومهما خرج لتلقيهما بقماش جلوسه في خواصه لا غير فلما وقع بصرهما على الوالد نزلا عن خيولهما فأقسم عليهما الوالد في عدم النزول فنزلوا قبل أن يسمعوا القسم فعند ذلك نزل لهم الوالد أيضًا عن فرسه وسلموا عليه فحلف عليهم الوالد بالنزول في دار السعادة فامتنعوا من ذلك فأنزلهم بالمزة ثم ركب إليهم الوالد وأخذهم‏.‏
وطاقهم غصبًا وأنزل الأمير شيخًا بالقرمانية ونوروزًا بدار الأمير فرج بن منجك ونزل كل واحد من أصحابهما بمكان حتى عملت مصالحهم‏.‏ وكثر تردادهم إلى الوالد بدار السعادة في تلك الأيام فسر أهل الشام بذلك غاية السرور وصار الأمير شيخ يتنزه بدمشق ويتوجه إلى الأماكن ومعه قليل من مماليكه‏.‏
حدثني بعض مماليك الوالد أن الأمير شيخًا كان يجيء في تلك المدة إلى الوالد في دار السعادة ومعه شخص واحد من مماليكه وينزل ويقيل بالبحرة وينام بها نومةً كبيرةً إلى أن يطبخ له ما اقترحه من المآكل‏.‏ ثم خرج الأمير شيخ والأمير نوروز كل منهما إلى محل كفالته بعد أن أنعم الوالد في يوم سفرهما على كل واحد بألف دينار وقيد له فرسًا بسرج ذهب وكنبوش زركش وأشياء غير ذلك كثيرة‏.‏
وأما أمر السلطان الملك الناصر فإنه سار من القدس حتى نزل بتربة والده بالصحراء خارج القاهرة في يوم الأربعاء ثاني عشر المحرم من سنة أربع عشرة وثمانمائة وخلع على الخليفة المستعين بالله العباس وعلى القضاة والأمراء وسائر أرباب الدولة وخلع على الأمير دمرداش المحمدي باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية عوضًا عن الوالد بحكم انتقاله إلى نيابة دمشق حسبما تقدم ذكره‏.‏ ثم ركب السلطان من التربة المذكورة وطلع إلى القلعة بعد ما خرج الناس للفرجة عليه فكان لطلوعه يوم مشهود‏.‏
وزينت القاهرة أيامًا لقدومه‏.‏ ثم بعد قدوم السلطان باثني عشر يومًا قدم الأمير بكتمر جلق المعزول عن نيابة دمشق فركب السلطان وتلقاه وألبسه تشريفًا وخلع على الأمير الكبير بنظر البيمارستان المنصوري ودخل السلطان من باب النصر وشق القاهرة ونزل بمدرسته التي أنشأها جمال الدين الأستادار له برحبة باب العيد المعروفة بالجمالية وقد أثبت القضاة أنها له وسميت بالناصرية‏.‏
ثم ركب السلطان من المدرسة المذكورة ونزل بمدرسة والده المعروفة بالبرقوقية ببين القصرين ثم ركب منها وأمر الأتابك دمرداش بعبور البيمارستان المنصوري وتوجه السلطان إلى جهة القلعة‏.‏ ثم في ثاني عشر صفر من سنة أربع عشرة وثمانمائة عين السلطان اثنين وعشرين أميرًا من الأمراء البطالين ليتوجهوا إلى الشام على إقطاعات عينها السلطان لهم منهم‏:‏ الأمير حرمان الحسني وتمان تمر الناصري وسونجبغا وشادي خجا وألطنبغا وقاني باي الأشقر ومعهم مائتا مملوك ليكونوا أعوانًا للوالد بدمشق وفي خدمته‏.‏
وكان الوالد شفع في هؤلاء المذكورين حتى أطلقهم السلطان - على عادتهم - من السجن ثم أمر السلطان بقتل جانبك القرمي وأسندمر الحاجب وسودون البجاسي وقاني باي أخي بلاط والجميع كانوا بسجن الإسكندرية‏.‏ ثم في حادي عشرين صفر خلع السلطان على تقي الدين عبد الوهاب ابن الوزير فخر الدين ماجد بن أبي شاكر باستقراره في وظيفة نظر الخاص وكانت شاغرةً منذ توفي مجد الدين عبد الغني بن الهيصم في ليلة الأربعاء العشرين من شعبان من سنه ثلاث عشرة وثمانمائة‏.‏
ثم أمسك السلطان بثلاثة أمراء من أمراء الألوف وهم‏:‏ قاني باي المحمدي ويشبك الموساوي الأفقم وكمشبغا الفيسي وقبض على جماعة أخر من الطبلخانات والعشرات وهم‏:‏ الأمير منجك والأمير قاني باي الصغير العمري ابن بنت أخت الملك الظاهر برقوق - وقاني باي هذا جد خوند بنت جرباش الكريمي وزوجة السلطان الملك الظاهر جقمق لأمها - وكان أمير عشرة وعلى الأمير شاهين وخير بك ومأمور وخشكلدي وحملوا الجميع إلى سجن الإسكندرية فسجنوا بها‏.‏
ثم رسم السلطان للأمير تمراز الناصري أن يكون طرخانًا لا يمشي في الخدمة ويقيم بداره أو يتوجه إلى دمياط ة وتمراز هذا هو الذي كان فر من السلطان وصحبته الأمراء من بيسان إلى الأمير شيخ‏.‏ ثم خلع السلطان على الأمير سنقر الرومي باستقراره رأس نوبة النوب عوضًا عن قاني باي المحمدي المقبوض عليه قبل تاريخه‏.‏
ثم أرسل الوالد إلى السلطان يعلمه برفع الطاعون من دمشق وغيرها وأنه أحصي من مات من أهل دمشق فقط فكانوا خمسين ألفًا سوى من لم يعرف‏.‏ وفي أول شهر ربيع الأول قدم الأمير إينال المحمدي الساقي المعروف بضضع من سجن ثم أخرج السلطان إقطاع الأمير جرباش كباشة ورسم له بأن يتوجه إلى دمياط بطالًا‏.‏
ثم بعده توجه تمراز الناصري المقدم ذكره إلى دمياط أيضًا بطالًا‏.‏ ثم قبض السلطان على جماعة من كبار المماليك الظاهرية - برقوق - وحبسهم بالبرج من القلعة‏.‏
ثم قدم الخبر على السلطان بأن شيخًا ونوروزًا لم يمضيا حكم المناشير السلطانية وأنهما أخرجا إقطاعات حلب وطرابلس لجماعتهما وأن الأمير شيخًا سير يشبك العثماني لمحاصرة قلعة البيرة وقلعة الروم وأن عزمهما العود لما كانا عليه من الخروج عن الطاعة‏.‏ فعلم السلطان عند ذلك أن الذي يحرك هؤلاء على الخروج عن الطاعة والعصيان إنما هم المماليك الظاهرية برقوق الذين هم في خدمة السلطان ووافقه على ذلك أكابر أمرائه وحسنوا له القبض عليهم وكان الوالد ينهاه عن مسكهم ويحذره من الوقوع في ذلك‏.‏
فلما استقر الوالد في نيابة دمشق خلا له الجو وفعل ما حدثته نفسه مما كان فيه ذهاب روحه فقبض الملك الناصر على جماعة كبيرة منهم وحبسهم بالبرج من القلعة ثم قتلهم بعد شهر وكانوا جمعًا كبيرًا‏.‏ ثم أمسك السلطان الأمير خير بك نائب غزة وهو يومئذ من أمراء الألوف بالديار المصرية‏.‏
ثم ورد الخبر على السلطان بحصار عسكر نوروز لحصن الأكراد فاختبط السلطان وكتب إلى ثم في أول شهر ربيع الآخر خلع السلطان على الأمير أسنبغا الزردكاش - أحد أمراء الألوف وزوج أخته خوند بيرم بنت الملك الظاهر برقوق - باستقراره شاد الشراب خاناه عوضًا عن الأمير سودون الأشقر‏.‏
ثم في ثالث عشره خلع السلطان على فخر الدين عبد الغني بن أبي الفرج كاشف الوجه البحري باستقراره أستادارًا عوضًا عن تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم بحكم القبض عليه وتسليمه وحواشيه إلى فخر الدين المذكور‏.‏ ثم في أول جمادى الأولى رسم السلطان بهدم مدرسة الملك الأشرف شعبان بن حسين التي كانت بالصوة تجاه الطبلخاناه السلطانية ومكانها اليوم بيمارستان الملك المؤيد شيخ فوقع الهدم فيها وكانت من محاسن الدنيا ضاهى بها الملك الأشرف مدرسة عمه السلطان الملك الناصر حسن التي بالرميلة تجاه قلعة الجبل‏.‏
ثم رسم السلطان بهدم البيوت التي هي ملاصقة للميدان من مصلاة المؤمني إلى باب القرافة فهدمت بأجمعها وصارت خرابًا‏.‏
ثم أمر السلطان بالقبض على أقارب جمال الدين يوسف الأستادار وعقوبتهم فأمسكوا وعوقبوا عقوبات كثيرة‏.‏ ثم خنق أحمد ابنه وأحمد ابن أخته وحمزة أخاه في ليلة الأحد سادس ثم كتب السلطان ثانيًا إلى الأمير شيخ يخوفه ويحذره ويأمره أن يجهز الأمير يشبك العثماني وبرد بك وقاني باي الخازندار ويرسل سودون الجلب إلى دمشق ليكون من جملة أمرائها‏.‏
ثم بعد إرسال الكتاب تواترت الأخبار باتفاق شيخ ونوروز على الخروج عن الطاعة وعزما على أخذ حماة فوقع الشروع والاهتمام لسفر السلطان إلى البلاد الشامية وكتب إليها بتجهيز الإقامات‏.‏
ثم تكلم الأستادار فخر الدين بن أبي الفرج مع السلطان وحسن له القبض على الوزير ابن البشيري وعلى ناظر الحاضر ابن أبي شاكر فلما بلغهما ذلك بادرا واتفقا مع السلطان على مال يقومان به للسلطان إن قبض على فخر الديم ابن أبي الفرج المذكور فمال السلطان إلى كلامهما وأمسك فخر الدين المذكور في سلخ جمادى الآخرة وسلمه للوزير ابن البشيري فلم يدع ابن البشيري نوعًا من العقوبات حتى عاقب ابن أبي الفرج المذكور بها فلم يعترف بشيء غير أنه وجد له ستة آلاف دينار وجرار كثيرة قد ملئت خمرًا واستمر ابن أبي الفرج في العقوبة أيامًا كثيرة‏.‏
ثم في شهر رجب نزل السلطان من القلعة إلى الصيد فبات ليلة وعزم على مبيت ليلة أخرى سرياقوس فبلغه أن طائفة من الأمراء والمماليك اتفقوا على قتله فعاد إلى القاهرة مسرعًا وأخذ يتتبع ما قيل حتى ظفر بمملوكين عندهما الخبر فعاقبهما في ثامن عشر شهر رجب المذكور فأظهرا ورقة فيها خطوط جماعة كبيرة كبيرهم الأمير جانم من حسن شاه نائب طرابلس - كان - وهو يوم ذاك أمير مجلس‏.‏
وكان جانم المذكور قد سافر قبل تاريخه إلى منية ابن سلسيل وهي من جملة إقطاعه فندب السلطان الأمير بكتمر جلق والأمير طوغان الحسني الدوادار لإحضار جانم المذكور‏.‏ وخرجا في يوم السبت عشرين شهر رجب على أن بكتمر جلق يسير في البر ويمسك عليه الطريق وطوغان يتوجه إليه في البحر ويمسكه ويحضره إلى السلطان فساروا‏.‏
ومسك السلطان بعد خروجهما جماعةً كبيرةً من الأمراء والمماليك الظاهرية منهم‏:‏ الأمير عاقل والأمير سودون الأبايزيدي‏.‏

قتال الأمير طوغان الدوادار  والأمير جانم
فإنه سار الأمير طوغان الدوادار في البحر حتى وافى الأمير جانم واقتتلا في البر ثم في المراكب حتى تعين طوغان على جانم فألقى جانم نفسه في الماء لينجو فرماه أصحاب طوغان بالنشاب حتى هلك وأخذ وقطع رأسه في ثاني عشرينه‏.‏ وقدم طوغان على السلطان في رابع عشرينه‏.‏ وكان السلطان قد مسك في يوم ثاني عشرينه في القاهرة الأمير إينال الصصلاني الحاجب والأمير أرغز والأمير سودون الظريف وجماعة من المماليك الظاهرية‏.‏
ثم قبض السلطان في يوم ثالث عشرينه أيضًا على الأمير سودون الأسندمري أحد أمراء الألوف وأمير آخور ثاني وعلى الأمير جرباش العمري رأس نوبة وأحد أمراء الألوف أيضًا‏.‏ ثم خامس عشرينه قبض السلطان على جماعة من أكابر المماليك الظاهرية ووسط منهم خمسة فنفرت القلوب منه ووجد شيخ ونوروز للوثوب عليه سبيلًا لكمين كان في نفسهما منه‏.‏
ثم خلع السلطان على منكلي أستادار الخليلي باستقراره أستادارًا عوضًا عن فخر الدين بن أبي الفرج‏.
ثم كتب السلطان للوالد بالقبض على الأمير يشبك بن أزدمر أتابك دمشق وعلى إينال الخازندار وعلى برد بك الخازندار وعلى برد بك أخي طولو وعلى سودون من إخوة الأتابك يشبك وعلى تنبك من إخوة يشبك أيضًا والفحص عن نكباي الحاجب فإن وجده من جملة المنافقين فليقبض عليه ويعتقلهم‏.‏
وسار البريد للوالد بذلك‏.‏ وبعد خروج البريد بذلك ذبح السلطان في ليلة الأربعاء - مستهل شعبان - عشرين مملوكًا ممن قبض عليهم‏.‏ ثم وسط من الأمراء في يوم الأربعاء ثامنه عشرة أخر تحت القلعة منهم‏:‏ الأمير حرمان نائب القدس والأمير عاقل وأرغز أحد أمراء الألوف بدمشق والأمير سودون الظريف والأمير مغلباي والأمير محمد بن قجماس‏.‏ وفي ليلة الأربعاء المذكورة قتل السلطان أيضًا بالقلعة من المماليك الظاهرية زيادة على مائة مملوك من الجراكسة من مماليك أبيه‏.‏
ثم ركب سحر يوم الخميس إلى الصيد بناحية بهتيت - من ضواحي القاهرة - وأمر والي القاهرة أن يقتل عشرة من المماليك الظاهرية لتخلفهم عن الركوب معه فقتلوا‏.‏ وعاد السلطان من الصيد بثياب جلوسه وشق القاهرة وهو سكران لا يكاد يثبت على فرسه من شدة سكره ومر في أقل من مائة فارس وسار على ذلك حتى طلع القلعة نصف النهار‏.‏
وفي شعبان هذا ابتدأ بالوالد مرض موته ولزم الفراش بدار السعادة وقد لهجت الناس أن الملك الناصر قد اغتاله بالسم فإن كان ما قيل حقيقة فقد التقيا بين يدي حاكم لا يحتاج إلى بينة‏.‏
وسبب ذلك - على ما قيل - عم مسك الوالد للأمير شيخ ونوروز لما دخلا عليه بدار السعادة بدمشق وأيضًا أنه لما أمره بمسك من تقدم ذكرهم فأمسك منهم جماعة وأعلم يشبك بن أزدمر بالخبر ففر إلى جهة شيخ ونوروز وأشياء غير ذلك‏.‏
ولكن حدثتني كريمتي خوند فاطمة زوجة الملك الناصر المذكور بخلاف ذلك وهو أنه لما قدم عليه الخبر بمرضه صار يتأسف ويقول‏:‏ إن مات أبوك تخربت مملكتي‏.‏ وبقي كلما ورد عليه الخبر بعافيته يظهر السرور وكلما بلغه أنه انتكس يظهر الكآبة وأنه ما أخذها صحبته في التجريدة ثم إن السلطان نادى في أول شهر رمضان من سنة أربع عشرة وثمانمائة بالقلعة بالأمان وأنهم عتقاء شهر رمضان‏.‏
ثم تتبعهم بعد الأمان وأمسك منهم جماعةً كبيرة حتى إنه لم يخرج شهر رمضان حتى أمسك منهم أزيد من أربعمائة نفر وسجنهم بالبرج من القلعة‏.‏ وفي رابع شهر رمضان المذكور أفاق الوالد من مرضه وزينت دمشق ودقت البشائر بسائر البلاد الشامية حتى حلب وطرابلس وأرسل الأمير شيخ ونوروز إليه بالتهنئة فعظم ذلك أيضًا على الملك الناصر‏.‏
وفي هذا الشهر تأكد عند السلطان خروج شيخ ونوروز عن طاعته وبلغه أن نوروزًا قتل آق سنقر الحاجب فتحقق السلطان عصيان المذكورين‏.‏

ذبح السلطان أزيد من مائة نفس من المماليك السلطانية الظاهرية المحبوسين
ثم ذبح السلطان في ليلة ثالث شوال أزيد من مائة نفس من المماليك السلطانية الظاهرية المحبوسين بالبرج ثم ألقوا من سور القلعة إلى الأرض ورموا في جب مما يلي القرافة واستمر الذبح فيهم‏.‏ ثم في يوم الاثنين عاشر شوال عدى السلطان النيل إلى ناحية وسيم للربيع وبات به‏.‏
ورحل في السحر بعساكره يريد مدينة إسكندرية بعد ما نودي في القاهرة بألا يتأخر أحد من المماليك السلطانية بالقاهرة وأن يعدوا إلى بر الجيزة فعدوا بأجمعهم فمنهم من أمره السلطان بالسفر ومنهم من أمره بالإقامة‏.‏
ثم بعث السلطان الأمير طوغان الحسني الدوادار والأمير جانبك الصوفي وسودون الأشقر ويلبغا الناصري وجماعة من المماليك إلى عدة جهات من أراضي مصر لأخذ الأغنام والخيول والجمال حيث وجدت لكائن من كان فسار الأمراء وشنوا الغارات فما عفوا ولا كفوا‏.‏ ثم سار السلطان ببقية أمرائه وعساكره إلى الإسكندرية فدخلها في يوم الثلاثاء ثامن عشر شوال من سنة أربع عشرة المذكورة فقدم بها على السلطان مشايخ البحيرة بتقادمهم فخلع عليهم ثم أمسكهم وساقهم في الحديد واحتاط على أموالهم ففر باقيهم إلى جهة برقاء‏.‏
ثم قدم الأمراء وقد ساقوا ألوفًا من الأغنام التي انتهبوها من النواحي وقد مات كثرها فسيقت إلى القاهرة مع الأموال والجاموس والخيول‏.‏ ثم رسم السلطان أن يؤخذ من تجار المغاربة العشر وكان يؤخذ منهم قبل ذلك الثلث فشكر الناس له ذلك‏.‏
ثم خرج من الإسكندرية عائدًا إلى القاهرة وسار حتى نزل على وسيم في يوم السبت تاسع عشرينه‏.‏ وقد مات بسجن الإسكندرية الأمير خير بك نائب غزة فاتهم السلطان أنه اغتاله بالسم والصحيح أنه مات حتف أنفه‏.‏
ثم قدم كتاب الأمير نوروز الحافظي على السلطان على يد فقيه يقال له سعد الدين ومملوك آخر ومعهما محضر شهد فيه ثلاثة وثلاثون رجلًا من أهل طرابلس - ما بين قاض وفقيه وتاجر - بأنه لم يظهر منه بطرابلس منذ قدم إليها إلا الإحسان للرعية والتمسك بطاعة السلطان وامتثال مراسيمه وأن أهل طرابلس كانوا قد خرجوا منها في أيام جانم لما نزل بهم من الضرر والظلم فعادوا إليها أيام نوروز المذكور وأنه كلما ورد عليه مثال سلطاني يتكرر منه تقبيل الأرض وأنه حلف - بحضرة من وضع خطه - بالأيمان المغلظة الجامعة لمعاني الحلف أنه مقيم على طاعة السلطان متمسك بالعهد واليمين فلم يغتر السلطان بالمحضر ولا التفت إليه لما ثبت عنده من عصيانهما قلت‏:‏ ولهذه الأيمان الحانثة ذهب الجميع على السيف في أسرع مدة حتى إنني لا أعلم أن أحدًا من هؤلاء الأمراء مات على فراشه بل غالبهم تفانوا قتلًا على أنواع مختلفة لتجرئهم على الله تعالى‏.‏
وكان يمكنهم الخروج على الملك الناصر المذكور لسوء سيرته فيهم ثم يعودون إلى طاعته من غير أن يتعرضوا للأيمان والعهود والتلاعب بذلك في كل قليل وصار ذلك دأبًا لهم إلى أن سلط الله بعضهم على بعض فذهبوا كأنهم لم يكونوا - مع قوتهم وشدة بأسهم وفرط شجاعتهم - وملك بعدهم من لم يكن في رتبتهم ولا يدانيهم في معنى من المعاني ودانت له البلاد وأطاعته العباد وصفا له الوقت من غير معاند ولا مدافع‏.‏
‏"‏ ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب ‏"‏ ثم إن السلطان الملك الناصر بعد حضور هذا المحضر أخذ في الاهتمام للسفر‏.‏ ثم نزل من القلعة وعلى النيل في يوم الاثنين ثاني ذي القعدة وتوجه إلى الربيع وعاد من يومه إلى القلعة وهو في أناس قليلة‏.‏ ثم بعد عوده رسم بقتل الأمير جرباش العمري والأمير خشكلدي بثغر الإسكندرية فقتلا بها ودفنا بالثغر المذكور‏.‏
ثم في رابع عشر من ذي القعدة أنفق السلطان على المماليك السلطانية نفقة السفر فأعطى لكل نفر سبعين دينارًا ناصريًا وبعث للأمير الكبير دمرداش المحمدي ثلاثة الآف دينار ولكل من أمراء الألوف بألفي دينار ولأمراء الطبلخانات ما بين سبعمائة دينار إلى خمسمائة دينار‏.‏

السلطان يقتل مطلقته وعشيقها
ثم في ليلة الخميس رابع عشرين ذي القعدة طلب السلطان الأمير شهاب الدين أحمد بن محمد بن الطبلاوي فلما حضر إلى عنده ضرب عنقه بيده بعد أن قتل مطلقته بنت صرق بيده تهبيرًا بالسيف عند كريمتي بقاعة العواميد فإنها كانت يوم ذاك صاحبة القاعة‏.‏ وخبر ذلك‏:‏ أن السلطان الملك الناصر كان قد طلق خوند بنت صرق المذكورة ونزلت إلى دارها وكان له إليها ميل فوشى بها أن ابن الطبلاوي المذكور وقع بينه وبينها اجتماع وظهر له قرائن تدل على ذلك منها أنه وجد لها خاتم عنده‏.‏
فأرسل السلطان خلفها فلبست أفخر ثيابها ظنًا منها أن السلطان يريد يعيدها لعصمته‏.‏ قالت أختي خوند فاطمة‏:‏ وكان السلطان جالسًا عندي بالقاعة فلما قيل له جاءت خوند بنت صرق نهض من وقته وخرج إلى الدهليز وجلس به على مسطبة قالت‏:‏ فخرجت خلفه ولا علم لي بقصده فجاءت بنت صرق وقبلت يده فقال لها‏:‏ يا قحبة مراكيب الملوك تركبها البلاصية‏!‏ وقبل أن تتكلم ضربها بالنمجاة قطع أصابعها - وكانت مقمعة بالحناء - فصاحت وهربت فقام خلفها وضربها ضربةً ثانيةً قطع من كتفها قطعة‏.‏
وصارت تجري وهو خلفها - وقد اجتمع جميع الخوندات عندي بالقاعة للسلام على بنت صرق المذكورة - ولا زال يضربها بالنمجاة وهي تجري إلى أن دخلت المستراح فتمم قتلها في صحن المستراح ثم قطع رأسها وأخذها بدبوقتها - وفي آذانها الحلق البلخش الهائلة - وخرج إلى قاعة الدهيشة ووضعها بين يديه وغطاها بفوطة‏.‏
ثم طلب ابن الطبلاوي المقدم ذكره وأجلسه وكشف له عن الفوطة وقال له‏:‏ تعرف هذه الرأس فأطرق فضربة بالنمجاة طير رقبته ولفهما معًا في لحاف وأمر بدفنهما في قبر واحد‏.‏
قالت أختي خوند فاطمة‏:‏ وصار دم وقالت‏:‏ فو الله لما دخل الفداوية بقلعة دمشق على الملك الناصر ليقتلوه - وكان استصحبني معه لأعود الوالد في مرضه - فصارت الفداوية تضربه باالسكاكين وهو يفر من بين أيديهم كما كانت تفر بنت صرق أمامه وهو يضربها بالنمجاة‏.‏ وبقي دمه بحيطان البرج شبه دم بنت صرق بحيطان القاعة‏.‏ قلت‏:‏ فانظروا إلى هذا الجزاء الذي من جنس العمل - انتهى‏.‏
ثم أصبح السلطان أمر بخروج الجاليش من الأمراء إلى البلاد الشامية فخرجوا بتجمل عظيم - وعليهم آلة الحرب هم ومماليكهم - وعرضوا على السلطان وهم مارون من تحت القلعة والسلطان ينظر إليهم من أعلى القصر السلطاني وساروا حتى نزلوا بالريدانية خارج القاهرة في يوم الخميس رابع عشرين ذي القعدة من سنة أربع عشرة وثمانمائة وهم‏:‏ الأمير بكتمر جلق رأس نوبة الأمراء وصهر السلطان زوج ابنته وشاهين الأفرم أمير سلاح وطوغان الحسني الدوادار الكبير وشاهين الزردكاش بمضافيهم‏.‏
وكان السلطان قبل خروج الأمراء المذكورين - من عظم غضبه وحنقه على الأمير نوزوز الحافظي - جمع القضاة وطلق أخته خوند سارة بنت الملك الظاهر برقوق من زوجها الأمير نوزوز وزوجها للأمير مقبل الرومي - على كره منها بعد أن هددها بالقتل - بعقد ملفق من قضاة الجاه والشوكة‏.‏
فعظم ذلك على الأمير نوروز إلى الغاية ولم يحسن ذلك ببال أحد - ودام الأمراء بالريدانية إلى يوم السبت خامس ذي الحجة فرحلوا منها يريدون الشام‏.‏ ثم ركب السلطان في يوم الثلاثاء ثامن ذي الحجة ونزل من قلعة الجبل ببقية أمرائه وعساكره - والجميع عليهم آلة السلاح - بزي لم ير أحسن منه بطلب هائل جر فيه ثلاثمائة جنيب من خواص الخيل بالسروج الذهب التي بعضها مرصع بالفصوص المجوهرة المثمنه ومياثرها المخمل المطرز بالزركش وعلى أكفالها العبي الحرير المثمنة وفيها العبي المزركشة بالذهب وفيها بالكنابيش الزركش والكنابيش المثلثة بالزركش والريش واللؤلؤ وكلها باللجم المسقطة بالذهب والفضة والبذلات المينة والبذلات الذهب الثقيلة ومن وراء الجنائب المذكورة ثلاثة الآف فرس ساقها جشارًا ثم عدد كبير من العجل التي تجرها الأبقار وعليها الآت الحصار من مكاحل النفط الكبار ومدافع النفط المهولة والمناجيق العظيمة ونحو ذلك‏.‏
ثم خرجت خرانة السلاح - أعني الزردخاناه - على أكثر من ألف جمل تحمل القرقلات والخوذ والزرديات والجواشن والنشاب والرماح والسيوف وغير ذلك‏.‏
ثم خرجت خزانة المال في الصناديق المغطاة بالحرير الملون وفيها زيادة على أربعمائة ألف دينار وجميع الطبال والزمار - مماليكه مشتراواته - بالكلفتات وعليهم ططريات صفر وغالبهم قد ناهز الحلم بأشكال بديعة من الحسن وقد تعلموا صناعة ضرب الطبل والزمر وأتقنوه إلى ثم خرج حريم السلطان في سبع محفات قد غشيت بالحرير المخمل الملون ما خلا محفة الأخت فإنها غشيت بالزركش كونها كانت خوند الكبرى صاحبة القاعة ومن ورائهم نحو الثلاثين حملًا من المحاير المغشاة بالحرير والجوخ‏.‏
ثم خرج المطبخ السلطاني وقد ساق الرعيان برسمه ثمانيةً وعشرين ألف رأس من الغنم الضأن وكثيرًا من البقر والجاموس لحلب ألبانها فبلغت عدة الجمال التي صحبت السلطان إلى ثلاثة وعشرين ألف جمل وهذا شيء كثير إلى الغاية‏.‏ ثم سار السلطان من القاهرة حتى نزل بمخيمه من الريدانية تجاه مسجد التبن‏.‏

الحملة السابعة للسلطان للشام
وهذه تجريدة السلطان الملك الناصر السابعة إلى البلاد الشامية وهي التي قتل فيها حسبما يأتي ذكره‏.‏ وهذه التجاريد خلاف تجريدة السعيدية التي انكسر فيها الملك الناصر من الأمراء وعاد إلى الديار المصرية ولم يصل إلى قطيا على أنه تكلف فيها إلى جمل مستكثرة وذهب له من الأثقال والقماش والسلاح أضعاف ما تكلفه في النفقة وغيرها‏.‏
وكانت تجريدته الأولى إلى قتال الأمير تنم الحسني الظاهري نائب الشام في سنة اثنتين وثمانمائة‏.‏
وتجريدته الثانية لقتال تيمورلنك في سنة ثلاث وثمانمائة‏.‏
والثالثة لقتال جكم من عوض في سنة تسع وثمانمائة بعد واقعة السعيدية‏.‏
والرابعة في سنة عشر وثمانمائة التي مسك فيها الأمير شيخًا المحمودي نائب الشام والأتابك يشبك الشعباني وحبسهما بقلعة دمشق وأطلقهما منطوق نائب قلعة دمشق‏.‏
والخامسة في محرم سنة اثنتي عشرة وثمانمائة وهي التي حصر فيها شيخًا ونوروزًا بصرخد‏.‏
والسادسة سنة ثلاث عشرة وثمانمائة وهي التي حصر فيها أيضًا شيخًا ونوروزًا بقلعة الكرك‏.‏
والتجريدة السابعة هذه‏.‏ فجملة تجاريده ثماني سفرات بواقعة السعيدية - انتهى‏.‏
ثم خرج الخليفة المستعين بالله أبو الفضل العباس والقضاة الأربعة وهم‏:‏ قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن البلقيني الشافعي وقاضي القضاة ناصر الدين محمد بن العديم الحنفي وقاضي القضاة المالكي وقاضي القضاة الحنبلي ونزل الجميع بالريدانية‏.‏
وتردد السلطان في مدة إقامته بالريدانية إلى التربة التي أنشأها على قبر أبيه بالصحراء خارج باب النصر وبات بها ليالي ونحر بها ضحاياه‏.‏ وجعل الأمير يلبغا الناصري نائب الغيبة بالقاهرة وجعل في باب السلسلة الأمير ألطنبغا العثماني وبقلعة الجبل الأمير أسنبغا الزردكاش شاد الشراب خاناه وزوج أخته خوند بيرم وولى نيابة القلعة للأمير شاهين الرومي عوضًا عن كمشبغا الجمالي وبعث كمشبغا الجمالي صحبة حريمه وقدمهم بين يديه بمرحلة‏.‏
ثم رحل السلطان من تربة أبيه قبيل الغروب من يوم الجمعة ثاني عشر ذي الحجة من سنة أربع عشرة وثمانمائة لطالع اختاره له الشيخ برهان الدين إبراهيم بن زقاعة‏.‏
وقد حزر ابن زقاعة وقت ركوبه وعوق السلطان عن الركوب - والعساكر واقفة - حتى دخل الوقت الذي اختاره له فأمره فيه بالركوب فركب السلطان وسار يريد البلاد الشامية ونزل بمخيمه من الريدانية وفي ظنه أنه منصور على أعدائه لعظم عساكره ولطالع اختاره له ابن زقاعة فكانت عليه أيشم السفرات فلعمري هل رجع الشيخ برهان الدين بن زقاعة المذكور بعد ذلك عن معرفة هذا العلم أم استمر على دعواه‏!‏‏.‏ وأنا أتعجب من وقاحة أرباب هذا الشأن حيث يقع لهم مثل هذا الغلط الفاحش وأمثاله ثم يعودون إلى الكلام فيه والعمل به - انتهى‏.‏
ثم استقل السلطان بالمسير في سحر يوم السبت ثالث عشر ذي الحجة‏.‏ وفي هذا الشهر انتكس الوالد ثالث مرة ولزم الفراش إلى أن مات حسبما يأتي ذكره‏.‏
وأما السلطان الملك الناصر فإنه قبل المسير حذر عسكره من الرحيل قبل النفير فبلغه وهو بالريدانية أن طائفة رحلت فركب بنفسه وقبض على واحد ووسطه ونصب مشنقةً فما وصل إلى غزة حتى قتل عدةً من الغلمان من أجل الرحيل قبل النفير فتشاءم الناس بهذه ثم سار حتى نزل مدينة غزة فوسط بها تسعة عشر نفرًا من المماليك الظاهرية وهو لا يعقل من شدة السكر‏.‏ وعقيب ذلك بلغه أن الأمراء الذين بالجاليش توجهوا بأجمعهم إلى شيخ ونوروز‏.‏
وكان من خبرهم أنهم لما وصلوا إلى دمشق دخلوا إلى الوالد وقد ثقل في الضعف وسلموا عليه وأخبره بكتمر جلق وطوغان أنهما بمن معهما يريدون التوجه إلى شيخ ونوروز فرجعهم الوالد عن ذلك فذكروا له أعذارًا فسكت عنهم‏.‏
فقاموا عنه وخرجوا بأجمعهم وتوجهوا إلى شيخ ونوروز - ما خلا شاهين الزردكاش - فإنه لم يوافقهم على الذهاب فمسكوه وذهبوا به إلى شيخ ونوروز‏.‏ ولما بلغ الملك الناصر ذلك ركب وسار من غزة مجدًا في طلبهم وقد نفرت منه القلوب حتى نزل بالكسوة في يوم الثلاثاء سلخ ذي الحجة فألبس من معه من العساكر السلاح ورتبهم بنفسه ثم سار بهم قاصدًا دمشق حتى دخلها من يومه وقت الزوال وقد خرج أعيان دمشق وعوامها لتلقيه وللفرجة عليه وزينت لقدومه دمشق‏.‏
ونزل بالقلعة بعد أن نزل عند الوالد بدار السعادة وسلم عليه وأمر زوجته خوند فاطمة بالإقامة عند الوالد‏.‏ ثم أصبح يوم الأربعاء أول محرم سنة خمس عشرة وثمانمائة خلع على القاضي شهاب الدين أحمد بن الكشك وأعاده إلى قضاء الحنفية بدمشق‏.‏ ثم شفع الوالد في القاضي ناصر الدين محمد بن البارزي فطلبه السلطان بدار السعادة وأطلقه من سجنه بقلعة دمشق‏.‏ ثم أفرج السلطان أيضًا عن الأمير نكباي الحاجب وكان الوالد قبض عليه وحبسه‏.‏
ثم دخل السلطان للوالد واستشاره في الملأ من الناس فيما يفعل مع هؤلاء الأمراء العصاة فقال له الوالد‏:‏ ياخوند تذبح في سنتك خمسمائة نفس وتتجرد في سنتك‏!‏ فرسك الذي تحتك عاص عليك فقال له الملك الناصر‏:‏ الكلام في الفائت فائت أيش تشير علي الآن فقال‏:‏ عندي رأي أقوله إن فعله السلطان انصلح به حاله قال‏:‏ وما هو قال‏:‏ ترجع من هنا إلى مصر فمن كان له إليك ميل عاد صحبتك ومن كان قد داخله الرعب منك فهو يفارقك من هنا ويتوجه إلى القوم فإذا دخلت إلى مصر ناد بالأمان وكف عن قتل مماليك أبيك وغيرهم وأغدق عليهم بالإحسان وأكثر إليهم من الاعتذار فيما وقع منك في حق غيرهم واسلك معهم قرائن تدل على صفو النية فبهذا تطمئن قلوب رعيتك ويعودون لطاعتك‏.‏
فإذا صار معك منهم ألف مملوك قهرت بهم جميع أعدائك لما شاع من إقدامك وشجاعتك ولعظم ما في قلب أعدائك من الرعب منك‏.‏ وأيضًا فإن هؤلاء الأمراء العصاة قد كثروا إلى الغاية فالبلاد الشامية لا تقوم بأمرهم فإما أن يقع بينهم الخلف على البلاد فيفترقوا وإما أن يتفقوا ويتجتمعوا على قتالك ويأتوك إلى مصر فاخرج إليهم والقهم برأس الرمل فإن انتصرت عليهم فافعل ما بدا لك وإن كانت الأخرى فاخرج إلى البلاد فمن قرا يوسف صاحب العراق إلى والي قطيا في طاعتك فما عندي غير هذا فاستحسن جميع عسكره هذا الرأي إلا هو فإنه لم يعجبه وسكت طويلًا ثم رفع رأسه وقال‏:‏ يا أطا أنا قتلت هذه الخلائق لتعظم حرمتي فإذا رجعت من هنا أيش يبقى لي حرمة وأنا أعرف بحال هؤلاء من غيري‏.‏
والله ما صفتهم قدامي إلا كالصيد المجروح والله إذا بقي معي عشرة مماليك قاتلتهم بهم ولا أطلب إلا أن يثبتوا ويقفوا ويقاتلوني حتى أنتصف منهم‏.‏ فقال له الوالد‏:‏ اعلم أنهم الآن يقاتلونك‏.‏
ثم طلبنا الملك الناصر أنا وإخوتي فأحضرونا بين يديه وكنا ستة ذكور فقبلنا يده - وأنا أصغر الجميع - فسأل عن أسمائنا فقيل له ذلك‏.‏ ثم تكلم الأتابك دمرداش المحمدي عن لسان الوالد بالوصية علينا فقال السلطان‏:‏ هؤلاء أولادي وأصهاري وإخوتي ما هذه الوصية في حقهم‏!‏ كل ذلك والوالد ساكت قد أسنده مماليكه لا يتكلم‏.‏
فلما قام الملك الناصر قال الوالد‏:‏ أودعت أولادي إلى الله تعالى واستعنت به في أمرتهم فنفعنا ذلك غاية النفع - ولله الحمد - مع ما أخذ لنا من الأموال التي لا تدخل تحت حصر عند هزيمة الملك الناصر من الأمراء ودخوله إلى دمشق‏.‏
ثم خرج السلطان الملك الناصر من دمشق بعساكره في يوم الاثنين سادس المحرم ونزل برزة‏.‏ ثم رحل منها يريد محاربة الأمراء ونزل حسيا بالقرب من حمص فبلغه رحيل القوم من قارا إلى جهة بعلبك فترك أثقاله بحسيا وساق أثرهم إلى بعلبك فوجدهم قد توجهوا إلى البقاع فقصدهم فمضوا نحو الصبيبة فتبعهم حتى نزلوا باللجون فساق خلفهم وهو سكران لا يعقل فما وصل إلى اللجون حتى تقطعت عساكره عنه من شدة السوق ولم يبق معه غير من ثبت على سوقه وهم أقل ممن تأخر‏.‏
وكان قد وصل وقت العصر من يوم الاثنين ثالث عشر المحرم من سنة خمس عشرة وثمانمائة فوجد الأمراء قد نزلوا باللجون وأراحوا وفي ظنهم أنه يتمهل ليلته ويلقاهم من الغد فإذا جنهم الليل ساروا بأجمعهم من وادي عارة إلى جهة الرملة وسلكوا البرية عائدين إلى حلب وليس في عزمهم أن يقاتلوه أبدًا لا سيما الأمير شيخ فإنه لا يريد ملاقاته بوجه من الوجوه‏.‏
فحال وصول الملك الناصر إلى اللجون أشار عليه الأتابك دمرداش المحمدي أن يريح خيله وعساكره تلك الليلة ويقاتلهم من الغد فأجابه السلطان بأنهم يفرون الليلة فقال له دمرداش المذكور‏:‏ إلى أين بقوا يتوجهوا يا مولانا السلطان بعد وقوع العين في العين يا مولانا السلطان مماليكك في جهد وتعب من السوق والخيول كلت والعساكر منقطعة فلم يلتفت إلى كلامه وحرك فرسه ودق بزخمته على طبله وسار نحو القوم وحمل عليهم بنفسه من فوره حال وصوله فارتضمت طائفة من مماليكه في وحل كان هناك‏.‏
ثم قبل اللقاء خرج الأمير قجق أحد أمراء الألوف بطلبه من مماليكه وعسكره وذهب إلى الأمراء وتداول ذلك من المماليك الظاهرية واحدًا بعد واحد والملك الناصر لا يلتفت إليهم ويشجع من بقي معه حتى التقاهم وصدمهم صدمة هائلة قتل فيها من عسكره الأمير مقبل الرومي أحد أمراء الألوف الذي زوجه الملك الناصر بأخته - زوجة الأمير نوروز - ثم قتل أحد خواصه من الأمراء وهو الأمير ألطنبغا شقل‏.‏
وتقهقر عسكره مع قلتهم فانهزم السلطان عند ذلك بعد أن قاتل بنفسه وساق يريد دمشق - وكان الرأي توجهه إلى مصر - وتبعه سودون الجلب وقرقماس ابن أخي دمرداش ففاتهما الملك الناصر ومضى إلى دمشق‏.‏
وأحاط القوم بالخليفة المستعين بالله وفتح الدين فتح الله كاتب السر وناظر الجيش بدر الدين حسن بن نصر الله وناظر الخاص أبن أبي شاكر واستولوا على جميع أثقال الملك الناصر وأمرائه‏.‏
وامتدت أيدي أصحاب الأمراء إلى النهب والأسر في أصحاب الملك الناصر وما غربت الشمس حتى انتصر الأمراء وقوي أمرهم‏.‏
وأذن المغرب فتقدم إمام الأمير شيخ شهاب الدين أحمد بن حسن بن الأذرعي وصلى بهم المغرب وقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة‏:‏ ‏"‏ واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون ‏"‏‏.‏ فوقعت هذه الآية الموقع الحسن كونهم كانوا في خوف وجزع وصاروا إلى الأمن والتحكم‏.‏
وباتوا تلك الليلة بمخيماتهم وهي ليلة الثلاثاء‏.‏ وأصبح الأمراء وليس فيهم من يرجع إليه بل كل واحد منهم يقول‏:‏ أنا رئيس القوم وكبيرهم فنادى شيخ بأنه الأمير الكبير ورسم بما شاء وناس نوروز أيضًا بأنه الأمير الكبير ورسم بما أراد ونادى سودون المحمدي بأنه الأمير الكبير وقد استولى على الإسطبل السلطاني بما فيه لنفسه ونادى بكتمر جلق بأنه الأمير الكبير‏.‏
قال الشيخ تقي الدين المقريزي - رحمه الله‏:‏ حدثني فتح الله كاتب السر قال‏:‏ بعث إلي الأمير شيخ ونوروز قالا لي‏:‏ كتب بما جرى إلى الديار المصرية وأعلم الأمراء به فقال لهما‏:‏ من السلطان الذي أكتب عنه‏.‏
فأطرق كل منهما ساعةً ثم قالا‏:‏ ابن أستاذنا ما هو هنا حتى نسلطنه - يريدان الأمير فرج ابن الملك الناصر فرج‏.‏
فلما رأى انقطاعهما قال‏:‏ الرأي أن يتقدم كل منكما إلى موقعه بأن يكتب عنه إلى الأمراء بمصر كتابًا بصورة الحال ويأمرهم بحفظ القلعة والمدينة ويعدهم بالخير ثم يكتب الخليفة كذلك‏.‏
فوقع هذا منهما الموقع الحسن وكتب كل منهما كتابًا وندب قجقار القردمي لحمل الكتب وجهز إلى مصر فمضى من يومه‏.‏
ونودي بالرحيل في يوم الأربعاء خامس عشره وليس عندهم خبر عن الملك الناصر ولا أين ذهب - انتهى‏.
الملك الناصر فإنه لما انكسر سار نحو دمشق
حتى دخلها ليلة الأربعاء في ثلاثة نفر ونزل بالقلعة وسأل عن الوالد فقيل له محتضر‏.‏ ومات الوالد في يوم الخميس سادس عشر المحرم ودفن من يومه بتربة الأمير تنم الحسني نائب الشام خارج دمشق بميدان الحصى‏.‏

وأما الملك الناصر فإنه أصبح يوم الأربعاء استدعى القضاة والأعيان ووعدهم بكل خير وحثهم على نصرته والقيام معه فانقادوا له فأخذ في تدبير أموره وتلاحقت به عساكره شيئًا بعد شيء‏.‏
ثم قدم عليه الأتابك دمرداش فأصبح خلع عليه في عصر يوم الخميس سادس عشر المحرم بولايته نيابة دمشق - وأخذ السلطان في الاستعداد وأخرج الأموال ثم استولى على جميع ما للوالد من خيل وجمال وقماش وزردخاناه ومال من كونه وصيًا وأيضًا وكيل زوجته فكان من جملة ما أخذه نحو الألف فرس ما بين مراكيب وجشار واستخدم جميع مماليك الوالد المشتروات ومماليك الخدمة وكانوا أيضًا نحو الألف مملوك وخلع على طوغان دوادار الوالد باستقراره على تقدمة ألف بدمشق على عادته وعلى أرغون شاه شاد شراب خاناته باستقراره على إمرة طبلخاناه وكذلك رأس نوية فكلموه فيما أخذ للوالد من الخيول والقماش فوعدهم برد ما أخذ وأضعافه‏.‏ ثم أحضر السلطان الأموال وصبها‏.‏
بين يديه فأشار عليه دمرداش بالخروح إلى حلب فلم يوافقه وأبى إلا الإقامة في دمشق فأشار عليه ثانيًا بالعود إلى الديار المصرية فلم يرض وأقام بدمشق وكان رأي دمرداش فيه غاية الجودة فإن جميع أمراء التركمان كانت مع الملك الناصر مثل قرايلك وابن قرمان وبني دلغادر وغيرهم فحبب إليه الإقامة بدمشق لأمر سبق في القدم‏.‏
ولما أخرج السلطان الأموال أتاه الناس من كل فج من التركمان والعربان والعشير وغيرهم فكتب أسماءهم وأنفق عليهم وقواهم بالسلاح وأنزل كل طائفة منهم بموضع يحفظه فكان عدة من استخدمه من المشاة زيادةً على ألف رجل‏.‏ وحصن القلعة بالمناجيق والمدافع الكبار وجعل بين كل شرفتين من شرفات سور المدينة جنوية ومن ورائها الرماة بالسهام الخلنج والأسهم الخطائية ونصب على كل برج من أبراج السور شيطانيًا يرمى به الحجارة‏.‏
وأتقن تحصين القلعة بحيث إنه لم يبق سبيل للتوصل إليها بوجه من الوجوه‏.‏ ثم خلع على نكباي الحاجب بنيابة حماة‏.‏
ثم ركب قاضي القضاة جلال الدين البلقيني ومعه بقية قضاة مصر ودمشق وجماعة من أرباب الدولة ونودي بين أيديهم عن لسان السلطان أنه قد أبطل المكوس وأزال المظالم فادعوا له فعظم ميل الشاميين إليه وتعصبوا له وصار غالبهم من حزبه وغنوا عن لسانه‏:‏ أنا سلطان ابن سلطان وأنت يا شيخ أمير وأكثروا من الدعاء له والوقيعة في شيخ ونوروز ووعدوه القتال معه حتى الممات‏.‏ واستمر ذلك إلى بكرة يوم السبت ثامن عشر المحرم فنزل الأمراء على قبة يلبغا خارج دمشق فندب السلطان عسكرًا فتوجهوا إلى القبيبات فبرز لهم سودون المحمدي وسودون الجلب واقتتلوا حتى تقهقر السلطانية منهم مرتين ثم انصرف الفريقان‏.‏
وفي يوم الأحد تاسع عشر المحرم ارتحل الأمراء عن قبة يلبغا ونزلوا غربي دمشق من جهة الميدان ووقفوا من جهة القلعة إلى خارج البلد فتراموا بالنشاب نهارهم وبالنفط فاحترق ما عند باب الفراديس من الأسواق‏.‏ فلما كان الغد من يوم الاثنين عشرين المحرم اجتمع الأمراء للحصار فوقفوا شرقي البلد وقبليه ثم كروا راجعين ونزلوا ناحية القنوات إلى يوم الأربعاء ثاني عشرينه‏.‏
ووقع القتال من شرقي البلد ونزل الأمير نوروز بدار الطعم وامتدت أصحابه إلى العقيبة ونزل طائفة بالصالحية والمزة ونزل شيخ بدار غرس الدين خليل أستادار الوالد تجاه جامع كريم الدين الذي بطرف القبيبات ومعه الخليفة وكاتب فتح الله ونزل بكتمر جلق وقرقماس - سيدي الكبير - في جماعة من جهة بساتين معين الدين ومنعوا الميرة عن الملك الناصر وقطعوا نهر دمشق ففقد الماء من البلد وتعطلت الحمامات وغلقت الأسواق‏.‏ واشتد الأمر على أهل دمشق واقتتلوا قتالًا شديدًا وتراموا بالسهام والنفوط فاحترق عدة حوانيت بدمشق‏.‏ وكثرت الجراحات في أصحاب الأمراء من الشاميين وأنكاهم السلطانية بالرمي من أعلى السور وعظم الأمر وكلوا من القتال‏.‏
تم إن الأمير شيخًا أرسل إلى شهاب الدين الحسباني والباعوني وقاضي القضاة ناصر الدين بن العديم الحنفي قاضي قضاة الديار المصرية - وكان قد انقطع بالشلبية لمرض به - فأحضر شيخ الثلاثة وأنزلهم عنده‏.‏ ثم لحق ناصر الدين بن البارزي وصدر الدين الأدمي الحنفي قاضي قضاة دمشق بالأمير شيخ‏.‏ ولما بلغ الملك الناصر توجه ابن العديم إلى شيخ أرسل خلف محب الذين بن الشحنة قاضي حلب وولاه قضاء الحنفية بالديار المصرية عوضه‏.‏
ثم في يوم الجمعة رابع عشرينه أحضر الأمير شيخ الأمير بلاط الأعرج شاد الشراب خاناه - وكان ممن قبض عليه بعد انهزام الملك الناصر - ووسطه‏.‏ ثم أحضر أيضًا الأمير بلاط أمير علم - وكان ممن قبض عليه أيضًا يوم الواقعة من أجل أنه كان يتولى ذبح خشداشيته من المماليك الظاهرية - فلما حمل للتوسيط صاح‏:‏ يا ظاهرية‏!‏ الجيرة‏!‏ أنا خشداشكم‏!‏ قالوا له‏:‏ الآن أنت خشداشنا وأيام الذبح كنت عدونا‏!‏‏!‏ فلم يقم إليه أحد‏.‏
وفي يوم السبت خامس عشرين المحرم خلع الخليفة المستعين بالله الملك الناصر فرج من السلطنة واتفق الأمراء على إقامة الخليفة المستعين بالله المذكور في السلطنة لتستقيم بسلطنته الأحوال وتنفذ الكلمة وتجتمع الناس على سلطان‏.‏ وثبت خلع الملك الناصر على القضاة وأجمعوا على إقامة الخليفة سلطانًا فامتنع الخليفة من ذلك غاية الامتناع وخاف ألا يتم له ذلك فيهلك وصمم على الامتناع وخاف من الملك الناصر خوفًا شديدًا‏.‏

محاولة خلع الملك الناصر فرج  تسلطن الخليفة وخلع الملك الناصر
فلما عجز عنه الأمراء دبروا عليه حيلةً وطلبوا الأمير ناصر الدين محمد بن مبارك شاه الطازي - وهو أخو الخليفة المستعين بالله لأمه - وندبوه بأن يركب ومعه ورقة تتضمن مثالب الملك الناصر ومعايبه وأن الخليفة قد خلعه من الملك وعزله من السلطنة ولا يحل لأحد معاونته ولا مساعدته‏.‏
فلما بلغ الخليفة ذلك لام أخاه ناصر الدين بن مبارك شاه المذكور على ذلك وأيس الخليفة عند ذلك من انصلاح الملك الناصر له فأذعن لهم حينئذ بأن يتسلطن فبايعوه بأجمعهم وحلفوا له وتم أمره على ما يأتي ذكره في أوائل ترجمته من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى‏.‏ وأما الملك الناصر فإنه لما تسلطن الخليفة وخلع هو من الملك نفر الناس عنه وصاروا حزبين‏:‏ حزبًا يرى أن مخالفة الخليفة كفر والناصر قد عزل من الملك فمن قاتل معه فقد عصي الله ورسوله وحزبًا يرى أن القتال مع الملك الناصر واجب وأنه باق على سلطنته ومن قاتله إنما هو باغ عليه وخارج عن طاعته‏.‏

قتل السلطان الملك الناصر فرج على مصر - الثانية 196 / 6 م.ج
ومن حينئذ أخذ أمر الملك الناصر في إدبار إلى أن قتل في ليلة السبت سادس عشر صفر من سنة خمس عشرة وثمانمائة بالبرج من قلعة دمشق بعدما حوصر أيامًا وحبس بقلعة دمشق‏.‏
وخبره‏:‏ أنه لما حبس بقلعة دمشق - بعد أمور يأتي ذكرها في سلطنة المستعين وأقام محبوسًا بالبرج إلى ليلة السبت سادس عشر صفر المذكور - دخل عليه ثلاثة نفر هم‏:‏ الأمير ناصر الدين محمد بن مبارك شاه الطازي أخو الخليفة المستعين بالله لأمه وآخر من ثقات شيخ وآخر من أصحاب نوروز ومعهم رجلان من المشاعلية فعندما رآهم الملك الناصر فرج قام إليهم فزعًا وعرف فيما جاؤوا ودافع عن نفسه وضرب أحد الرجلين بالمدورة صرعه‏.‏ ثم قام الرجل هو ورفيقه ومشوا عليه وبأيديهم السكاكين ولا زالوا يضربونه بالسكاكين المذكورة وهو يعاركهم بيديه وليس عنده ما يدفع عن نفسه به حتى صرعاه بعد ما أثخنا جراحه في خمسة مواضع من بدنه‏.‏
وتقدم إليه بعض صبيان المشاعلية فخنقه وقام عنه فتحرك الملك الناصر فعاد إليه وخنقه ثانيًا حتى قوي عنده أنه مات فتحرك فعاد إليه ثالثًا وخنقه وفرى أوداجه بخنجر كان معه وسلبه ما عليه من الثياب ثم سحب برجليه حتى ألقي على مزبلة مرتفعة من الأرض تحت السماء وهو عاري البدن يستر عورته وبعض فخذيه سراويله وعيناه مفتوحتان والناس تمر به ما بين أمير وفقير ومملوك وحر قد صرف الله قلوبهم عن دفنه ومواراته‏.‏ وبقيت الغلمان والعبيد والأوباش تعبث بلحيته وبدنه‏.‏
واستمر على المزبلة المذكورة طول نهار السبت المذكور‏.‏ فلما كان الليل من ليلة الأحد حمله بعض أهل دمشق وغسله وكفنه ودفنه بمقبرة باب الفراديس احتسابًا لله تعالى بموضع يعرف بمرج الدحداح ولم تكن جنازته مشهودة ولا عرف من تولى غسله ومواراته‏.‏
قلت‏:‏ وما وقع للملك الناصر من قتله وإلقائه على المزبلة مما يدل على قلة مروءة القوم وعدم حفظهم ومراعاتهم لسوابق نعمه عليهم ولحقوق تربية والده الملك الظاهر برقوق عليهم‏.‏ ونفرض أنه أساء لهم وأراد قتلهم وكان مجازاته عن ذلك بالقتل وهو غاية المجازاة فكان الأليق بعد قتله إخفاء أمره ومواراته كما فعل غيرهم بمن تقدم من الملوك فإنه قد حصل مقصودهم بقتله وزيادة‏.‏ حتى إن الذي - والعياذ بالله تعالى - يقع في الكفر تضرب عنقه ثم يؤخذ ويدفن وأيضًا فمراعاة السلطنة وناموس الملك مطلوب من كل واحد والملوك لهم غيرة على الملوك ولو كان بينهم العداوة والخصومة‏.‏
وقد رأيت في تاريخ الإسلام في ترجمة الخليفة محمد المهدي بن الرشيد هارون العباسي أنه سأل بعض جلسائه عن أحوال الخليفة الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان الأموي فقال له بعض من حضر‏:‏ وما السؤال عنه يا أمير المؤمنين‏!‏ كان رجلا فاسقًا زنديقًا‏.‏ فلما سمع الخليفة المهدي كلامه نهره وقال له‏:‏ صه خلافة الله أجل أن جعلها في زنديق وأقامه من مجلسه‏.‏ وكان الوليد كما قال الرجل غير أن المهدي غار على منصب الخلافة فقال ذلك مع علمه بحال الوليد‏.‏
فلعمري أين فعل هؤلاء من قول المهدي‏!‏ مع أن خلفاء بني العباس كانوا أشد بغضًا لخلفاء بني أمية من بغض هؤلاء للملك الناصر غير أن العقول تتفاوت وتتفاضل والأفعال تدل على شيم الفاعل - انتهى‏.‏
ملخص تاريخ 
السلطان الملك الناصر فرج على مصر - الثانية 196 / 6 م.ج
ومات الملك الناصر وله من العمر أربع وعشرون سنة وثمانية أشهر وأيام فكانت مدة ملكه من يوم مات أبوه الملك الظاهر برقوق إلى أن خلع لأخيه الملك المنصور عبد العزيز - حسبما تقدم ذكره - ست سنين وخمسة أشهر وأحد عشر يومًا وخلع من السلطنة بأخيه المذكور سبعين يومًا ومن يوم أعيد إلى السلطنة بعد خلع أخيه المذكور في يوم السبت خامس جمادى الآخرة من سنة ثمان وثمانمائة إلى يوم خلعه المستعين بالله من السلطنة في يوم السبت خامس وعشرين المحرم من سنة خمس عشرة وثمانمائة ست سنين وعشرة أشهر سواء‏.‏
فجميع مدة سلطنته الأولى والثانية - سوى أيام خلعه - ثلاث عشرة سنة‏:‏ وثلاثة أشهر وأحد عشر يومًا‏.‏
وكان الملك الناصر من أشجع الملوك وأفرسها وأكرمها وأكثرها احتمالًا وأصبرها على العصاة من أمرائه‏.‏
حدثني بعض أعيان المماليك الظاهرية أن الملك الناصر ما قتل أحدًا من الظاهرية ولا غيرهم حتى ركب عليه وآذاه غير مرة وهو يعفو عنه وتصديق ذلك أنه لما قبض على الأمير شيخ والأتابك يشبك الشعباني بدمشق في سنة عشر وثمانمائة وحبسهما بقلعة دمشق كان يمكنه قتلهما فإن ذلك كان بعد ما حارباه في واقعة السعيدية وكسراه أقبح كسرة وأما شيخ فإنه كان تكرر عصيانه عليه قبل ذلك غير مرة‏.‏ وقد رأينا من جاء بعده من الملوك إذا ركب عليه أحد مرةً واحدةً وظفر به لم يبقه والكلام في بيان ذلك من وجوه عديدة يطول الشرح فيه وليس تحت ذلك فائدة‏.‏
ولم أرد بما قلته التعصب للملك الناصر المذكور فإنه أخذ مالنا وجميع موجود الوالد وتركنا فقراء - يعلم ذلك كل أحد - غير أن الحق يقال على أي وجه كان‏.‏ وكان صفته شابًا معتدل القامة أشقر له لثغة في لسانه بالسين غير أنه كان أفرس ملوك الترك بعد الملك الأشرف خليل بن قلاون بلا مدافعة‏.‏ قلت‏:‏ ولنذكر هنا من مقالة الشيخ تقي الدين المقريزي في حقه من المساوىء نبذةً برمتها وللناظر فيها التأمل قال‏:‏ وكان الناصر أشأم ملوك الإسلام فإنه خرب بسوء تدبيره جميع أراضي مصر وبلاد الشام من حيث يصب النيل إلى مجرى الفرات وطرق الطاغية تيمور بلاد الشام في سنة ثلاث وثمانمائة وخرب حلب وحماة وبعلبك ودمشق حتى صارت دمشق كومًا ليس بها دار‏.‏ وقتل من أهل الشام مالا يحصى عدده‏.‏
فتن وتمرد وغلاء
وطرق ديار مصر الغلاء من سنة ست وثمانمائة فبذل أمراء دولته جهدهم في ارتفاع الأسعار بخزنهم الغلال وبيعهم لها بالسعر الكثير‏.‏ ثم زيادة أطيان أراضي مصر حتى عظمت كلفة ما تخرجه الأرض‏.‏
وأفسدوا مع ذلك النقود بإبطال السكة الإسلامية من الذهب والمعاملة بالدنانير المشخصة التي هي ضرب النصارى‏.ورفعوا سعر الذهب حتى بلغ إلى مائتين وأربعين درهمًا كل مثقال بعد ما كان بعشرين درهمًا ومكسوا كل شيء‏.‏ وأهمل عمل الجسور بأراضي مصر وألزم الناس أن يقوموا عنها بالأموال التي تجبى منهم‏.‏ وأكثر وزراؤه من رمي البضائع على التجار ونحوهم بأغلى الأثمان وكل ذلك من سعد الدين بن غراب وجمال الدين يوسف الأستادار وغيرهما فكانا يأخذان الحق والباطل ويأتيان له به لئلا يعزلهم من وظائفهم‏.‏ ثم ماتوا فتم هو على ذلك يطلب المال من المباشرين فيسدون بالظلم فخربت البلاد لذلك وفشا أخذ أموال الناس‏.‏
هذا مع تواتر الفتن واستمرارها بالشام ومصر وتكرار سفره إلى البلاد الشامية فما من سفرة سافر إليها إلا وينفق فيها أموالًا عظيمة زيادةً على ألف ألف دينار يجبيها من دماء أهل مصر ومهجهم‏.‏ ثم يتقدم إلى الشام فيخرب الديار ويستأصل الأموال ويدمر القرى‏.‏ ثم يعود وقد تأكدت أسباب الفتنة وعادت أعظم ما كانت فخربت الإسكندرية وبلاد البحيرة وأكثر الشرقية ومعظم الغربية والجيزية وتدمرت بلاد الفيوم وعم الخراب بلاد الصعيد بحيث بطل منها زيادة على أربعين خطبة كانت تقام في يوم الجمعة ودثر ثغر أسوان وكان من أعظم ثغور المسلمين وخرب من القاهرة وأملاكها وظواهرها زيادة عن نصفها‏.‏ ومات من أهل مصر في الغلاء والوباء نحو ثلثي الناس‏.‏
وقتل في الفتن بمصر مدة أيامه خلائق لا تدخل تحت حصر مع مجاهرته بالفسوق من شرب الخمر وإتيان الفواحش والتجرؤ العظيم على الله جلت قدرته‏.‏
ومن العجيب أنه لما ولد كان قد أقبل يلبغا الناصري بعساكر الشام لينزع أباه الملك الظاهر برقوق من الملك - وهو في غاية الاضطراب من ذلك - فعندما بشر به قيل له‏:‏ ما تسميه‏.‏ قال‏:‏ بلغاق - يعني فتنة - وهي كلمة تركية‏.‏
فقبض على أبيه الملك الظاهر وسجن بالكرك - كما تقدم ذكره أو هو لم يسم فلما عاد برقوق إلى الملك عرض عليه فسماه فرجًا ولم يسمه أحد لذلك اليوم إلا بلغاق وهو في الحقيقة ما كان إلا فتنة أقامه الله - سبحانه وتعالى - نقمةً على الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا‏.‏
ومن عجيب الاتفاق أن حروف اسمه ‏"‏ ف رج ‏"‏ عددها ثلاثة وثمانون ومائتان وهي عدد جركس وكان فناء طائفة الجركس على يديه‏.‏ فإن حروفها تفنى إذا أسقطت بحروف اسمه‏.‏ قلت‏:‏ كيف كان فناء الجركس على يديه وهم إلى الآن ملوك زماننا وسلاطينها‏!‏‏.‏ فهذا هو الخباط بعينه‏!‏‏.‏ وإن كان يعني الذين قتلهم فهو قتل من كل طائفة - انتهى‏.‏
قال‏:‏ وكانت وفاته عن أربع وعشرين سنة وثمانية أشهر وأيام‏.‏
وكل هذه الأمور من سوء تدبير مماليك أبيه معه والفتنة في بعضهم البعض وهم الذين جسروه على المظالم وعلى قتل بعضهم فاستمر على الظلم والقتل إلى أن كان من أمره ما كان - انتهى كلام المقريزي بتمامه وكماله‏.‏ قلت‏:‏ وكان يمكنني أن أجيب عن كل ما ذكره المقريزي - غير إسرافه على نفسه على أني موافقه على أن الزمان يصلح ويفسد بسلطانه وأرباب دولته ولكن البلاء قديم حديث - انتهى‏.‏
أولاد السلطان الملك الناصر فرج على مصر - الثانية 196 / 6 م.ج
وخلف الملك الناصر عشرة أولاد - فيما أظن - ثلاثة ذكور وسبع إناث‏.‏
فالذكور‏:‏ فرج ومحمد وخليل والإناث‏:‏ ستيته التي زوجها لبكتمر جلق وعائشة وآسية وزينب وشقراء وهاجر ورحب والجميع أمهاتهم أم أولاد مولدات ما عدا عائشة وشقراء -


السنة الأولى من سلطنة الناصر فرج الثانية وهي سنة ثمان وثمانمائة‏.‏
على أن أخاه الملك المنصور عبد العزيز حكم منها سبعين يومًا‏.‏
فيها أمسك السلطان الملك الناصر الأتابك بيبرس ابن عمته والأمير سودون المارداني الدوادار الكبير بعد عوده إلى الملك - حسبما تقدم ذكره‏.‏
وتوفي الوزير الصاحب تاج الدين عبد الرزاق بن أبي الفرج بن نقولا الأزمني الملكي في رابع شهر ربيع الآخر بعدما ولي عدة وظائف‏.‏كان أولًا صيرفيًا بقطيا ثم صار كاتبًا بها ثم ولي نظرها ثم استقر وزيرًا بالديار المصرية أستادارًا ثم ولي كشف الوجه البحري‏.‏ قال المقريزي‏:‏ كان أولًا يسمى بالمعلم ثم سمي بالقاضي ثم نعت بالصاحب ثم بالأمير ثم بملك الأمراء كل ذلك في مدة يسيرة من السنين - انتهى‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ذراعان سواء‏.‏ مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعًا وثلاثة وعشرون إصبعًا‏.‏
السنة الثانية من سلطنة الناصر فرج وهي سنة تسع وثمانمائة‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ذراعان ونصف‏.‏ مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعًا ونصف‏.‏
السنة الثالثة من سلطنة الناصر فرج وهي سنة عشر وثمانمائة‏.‏
فيها تجرد السلطان إلى البلاد الشامية سفرته الرابعة التي أمسك فيها الأمير شيخًا المحمودي والأتابك يشبك الشعباني ثم فرا من سجن قلعة دمشق حسبما تقدم‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ثلاثة أذرع ونصف‏.‏ مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعًا وعشرة أصابع‏.‏
السنة الرابعة من سلطنة الناصر فرج وهي سنة إحدى عشرة وثمانمائة‏.‏
 أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم أربعة أذرع سواءً مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعًا وإصبع

السنة الخامسة من سلطنة الناصر فرج وهي سنة اثنتي عشرة وثمانمائة‏.‏
فيها تجرد الملك الناصر إلى البلاد الشامية تجريدته الخامسة التي حصر فيها الأمير شيخًا ورفقته بصرخد‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ستة أذرع وثمانية أصابع‏.‏ مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا واثنان وعشرون إصبعًا - والله أعلم
ع
200

*****************************************************************************

 قال المقريزى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار الجزء الثالث ( 041 من 761 ) : " السلطان الملك الناصر زين الدين أبو السعادات فرج‏:‏ في يوم الجمعة المذكور وعمره نحو العشر سنين فدبر أمر الدولة الأمير الكبير ايتمش ثم ثار به الأمير يشبك وغيره ففر إلى الشام وقتل بها ولم تزل أيام الناصر كلها كثيرة الفتن والشرور والغلاء والوباء وطرق بلاد الشام فيها الأمير تيمورلنك فخربها كلها وحرقها وعمها بالقتل والنهب والأسر حتى فقد منها جميع أنواع الحيوانات وتمزٌ أهلها في جميع أقطار الأرض ثم دهمها بعد رحيله عنها جراد لم يترك بها خضراء فاشتد بها الغلاء على من تراجع إليها من أهلها وشنع موتهم واستمرت بها من ذلك الفتن وقصر مدّ النيل بمصر حتى شرقت الأراضي إلا قليلًا وعظم الغلاء والفناء فباع أهل الصعيد أولادهم من الجوع وصاروا أرقاء مملوكين وشمل الخراب الشنيع عامة أرض مصر وبلاد الشام من حيث يصب النيل من الجنادل إلى حيث مجرى الفرات وابتلى مع ذلك بكثرة فتن الأميرين نوروز الحافظي وشيخ المحمودي وخروجهما ببلاد الشام عن طاعته فتردد لمحاربتهما مرارًا حتى هزماه ثم قتلاه بدمشق في ليلة السبت سادس عشر صفر سنة خمس عشرة وثمانمائة فكانت مدّته منذ مات أبوه إلى أن فرّ يوم الأحد خامس عشري ربيع الأول سنة ثمان وثمانمائة واختفى وأقيم أخوه عبد العزيز ولقب الملك المنصور ست سنين وخمسة أشهر وأحد عشر يومًا واقام الناصر في الاختفاء سبعين يومًا ثم ظهر في يوم السبت خامس عشر جمادى الآخرة واستولى على قلعة الجبل واستبد بملكه أقبع استبداد إلى أن توجه لحرب نوروز وشيخ وقاتلهما على اللجون في يوم الإثنين ثالث عشر المحرّم سنة خمس عشرة فانهزم إلى دمشق وهما في إثره وقد صار الخليفة المستمعين بالله في قبضتهما ومعه مباشر والدولة فنزلا على دمشق وحصراه ثم ألزما الخليفة بخلعة من السلطنة فلم يجد بدًا من ذلك وخلعه في يوم السبت خامس عشرية ونودي بذلك في الناس فكانت مدّته الثانية ست سنين وعشرة أشهر سواء‏.‏ 

This site was last updated 07/05/10