يوم في حياة طبيب مصري في مصر القديمة
المهندس داود خليل مسيحة
كان صباحا مشرقا ذات يوم من أيام عام 1500ق.م حين أشرق رع الشمس علي أرض الكنانة مصر كيميت, واستيقظ الطبيب المصري عنخ ليبدأ يوما جديدا من النشاط والعمل في خدمة المرضي, وبعد أن اغتسل تلا صلاة قصيرة للإله ثم تناول إفطاره المكون من الفول والبصل والثوم وعسل النحل ثم خرج من منزله متوجها إلي بيت الحياة بير عنخ الواقع بالقرب من المعبد الصغير في الضاحية الملكية وتوجه علي الفور للجناح الخاص به والمكون من عدة غرف حيث يستقبل مرضاه من كبار القوم والنبلاء في غرفة خاصة واحتفظ بملفاته الطبية وكتب الطب والحكمة في غرفة أخري, وكان في استقباله مساعده الأول حيث أشرف علي ترتيب الجناح وتنظيفه وتعقيمه بأن بخره بالبخور المطهر, وقام بتجهيز اللفائف الطبية وأرسل إلي بيت العقاقير أو بيت المر يطلب العقاقير الطبية التي سجل الطبيب علي قرطاس البردي بخط يده أسماءها بالمداد الأسود ومقاديرها باللون الأحمر.
بدأ عمله في مراجعة ملفه الطبي الخاص بالنبلاء وأخذ في تدوين الملاحظات المختلفة بأن تناول أدوات الكتابة وأخذ قلمه وغمسه في الحبر ولم ينس أن يسكب نقطتين علي الأرض إكراما لأبي الطب المصري أمحتب جريا علي عادة الكتاب المصريين, وأخذ يراجع مع مساعده المرضي الواجب معاودتهم ومدي تقدم الحالات المختلفة, وأمر مساعده بتفقد أواني النباتات الموضوعة في الشرفة والمزروع فيها الشعير والقمح فلما أخبره مساعده بنمو الشعير ابتسم الطبيب ودون في مذكراته أن زوجة كاتب القصر الفرعوني سوف تلد مولودا وأخبر مساعده أن بول السيدة الذي كان يروي به هذه النباتات ومتابعة إنباتها هو السبيل لمعرفة جنس المولود ذكرا أو أنثي وأن القمح إذا أنبت فإن المولود سيكون أنثي وإذا لم ينبت لا الشعير ولا القمح فلن يكون هناك مولودا.
تناول كتاب الطب الخاص بتحوت المحتوي علي أعمق الأسرار والذي لا يقرأه إلا كبار الأطباء والكهنة فقط ليراجع بعضا من أسرار جسم الإنسان المعجزة التي صنعها الخالق, وهنا انتبه من استغراقه في القراءة علي صوت مساعده يقول إن هناك رسولا من قبل مدير أعمال إنشاءات الفرعون يرجو استدعاء الطبيب بسرعة إلي مقر بناء البيت الأبدي لجلالة الملك لحدوث إصابات بين العمال لم يستطع الطبيب الشاب في الموقع أن يداويها, فاستجاب الطبيب عنخ علي الفور وتوجه لموقع العمل وأمر مساعده والحمال المرافق أن يحمل عنه أدواته والإمدادات والجبائر الطبية.
وفي الموقع أقيمت مظلة لاستقبال وإسعاف المصابين وأحضر أول المصابين وكان يتألم بشدة من كتفه وفحصه الطبيب فوجد عنده كسرا فأمره بالاستلقاء علي ظهره ثم وضع بين لوحي الكتف وسادة حتي يرجع العظم المكسور إلي موضعه وبعد ذلك ثبت وسادة من الكتان علي جانب من ذراعه وضمده بالأمرو مرهم طبي فرعوني ثم أوصي بتضميده بالعسل في الأيام التالية, وكان المريض الثاني أصيب في اليوم السابق بجرح عميق في فخذه, وكان الطبيب عالجه بالأمس بتنظيف الجرح ثم وضع عليه لحما صابحا وعندما فحصه وجد أن الجرح بدأ يتقيح فوضع عليه خلطة مكونة من فتات الخبز العفن بنسيلين وملح الطعام ثم ربطه بقطعة من القماش وأوصي بأن يعرض عليه بعد عدة أيام, أما المصاب الثالث فكان من النحاتين الذين يقومون بنحت تماثيل الفرعون وأصيبت عينه من جراء شظية فقام بالتقاطها ثم نقط في العين بواسطة ريشة نسر دواء مكون من المواد النباتية والمعدنية النقية لعلاج تقرح العين, ثم أحضر إليه أحد الكتاب العاملين ضمن فريق العمل يشكو من ألم شديد في فكه ولا يستطيع إقفاله, وعندما فحصه الطبيب وجد أنه أصيب بخلع في الفك السفلي فوضع إبهاميه علي طرفي الفك داخل فمه وأصابع يديه تحت ذقنه ثم قام برده إلي الخلف فعاد الفك لمكانه الأصلي وأمكن للرجل أن يغلق فمه وأن يتخلص من ألمه الشديد وأعطاه الطبيب علاجا موضعيا مكونا من العسل ومادة الأمرو لتخفيف الألم, ثم أحضر إليه أحد رؤساء العمال وأصيب بجرح في وجهه وعندما فحصه الطبيب وجد أن الجرح في منطقة أعلي الجفن وواصل إلي العظم فجس جرحه وضم له الجرح بالحياكة ثم ضمده باللحم الصابح وأوصي بالعلاج بالدهن والعسل يوميا حتي يشفي, وشكره مدير إنشاءات جلالة الملك علي جهده في إسعاف المصابين وأنه لابد أن يبلغ جلالته عن سرعة استجابة الطبيب ومهارته في إزالة آلام المصابين.
انصرف الطبيب عائدا إلي بيت الحياة بير عنخ بعد أن أتم مهمته التي جاء من أجلها ورافقه مساعده والحمال, وفي موعد الغذاء ذهب ليلبي الدعوة لوليمة طعام في بيت مدير عام بيت الحياة ورئيس سر الحياة في معهد تحوت وزير الصحة دعي إليها العديد من النبلاء وبعد الوليمة اتجه الطبيب عنخ إلي ورشة النحت القريبة من بيت الحياة بير عنخ حيث يعمل هناك الفنانون والنحاتون المتخصصون في نحت التماثيل الطبية فتقابل هناك مع مين رئيس النحاتين وأخذ يراجع معه أحد التماثيل الشافية المخصص لاستخدامه في ساحة المعبد والتمثال يمثل نبيلا جالسا فوق وسادة مسطحة وضم ركبتيه عند صدره وضم ذراعيه فوق ركبتيه وأدمجت لوحة حورس مع التمثال الموضوع فوق قاعدة حفر بها حوضان لاستقبال الماء الشافي الذي يتجمع فيها بعد سكبه فوق التمثال والنقوش الهيروغليفية ليأخذه المرضي للبركة والعلاج.
وراجع النصوص التي سيتم نقشها علي التمثال بالخط الهيروغليفي المقدس وقارن بينها وبين النصوص المكتوبة في ملف البردي بحوزته. وبعد أن قضي بعض الوقت في ورشة النحت آذنت الشمس بالمغيب توجه عائدا إلي منزله حيث استقبلته زوجته وأولاده بالترحاب وأخذ يداعب ابنه الرضيع أصغر أطفاله وإذ عرف أن إدرار اللبن ليس كالمعتاد دخل غرفته الخاصة بالمنزل التي يحتفظ فيها ببعض الأدوية والعقاقير الطبية وناول زوجته وصفة طبية خاصة أساسها مكون من خبز شعير حامض ونبات خساو, وعندما غربت شمس ذلك اليوم الحافل وحل المساء ونزل رع الشمس إلي أقسام العالم السفلي كما كان يعتقد قدماء المصريين وكما ورد في النصوص الدينية علي جدران المقابر والتوابيت اغتسل الطبيب وأدي صلاة المساء للإله وأحضر له الخدم ملابس نظيفة ثم عاد ليجلس مع أفراد أسرته يتسامرون ويتضاحكون حتي حل موعد النوم ليخلد إلي الراحة وليستعيد نشاطه ليبدأ من جديد يومه في تخفيف آلام الناس.
أخذت المعلومات الطبية في هذه اليومية من البرديات الطبية المصرية القديمة مثل بردية أدوين سميث الطبية وبردية إيبرس وغيرها من مراجع الطب المصري القديم وكذا المعلومات المتعلقة بالحياة اليومية في مصر القديمة من سليم حسن ومراجع أخري وكتبت هذه اليومية مستلهما خواطر الدكتور خليل مسيحة عاشق مصر الفرعونية الذي رحل عن عالمنا في 29 ديسمبر 1998 وكانت بحوثه الطبية بعثا من جديد لأسرار الطب في مصر القديمة وهدية منه لأبناء القرن الواحد والعشرين.
*****************
المراجع:
1- حسن كمال: الطب المصري القديم, ج1, 2, المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر, القاهرة 1964.
2- عبدالعزيز صالح: التربية والتعليم في مصر القديمة, الدار القومية للطباعة والنشر, القاهرة 1966.
3- نجيب رياض: الطب المصري القديم, الألف كتاب, القاهرة 1961.
4- بول غاليونجي: قطوف من تاريخ الطب, دار المعارف, القاهرة 1986.