الأهرام عن خبر بعنوان [ ثورة 1919 تسعون عاما الثوار(3 ـ3)] بقلم: د. رفعت السعيد
كبار الملاك الذين سماهم كرومر ـ عميد الاحتلال ـ بأصحاب المصالح الحقيقية, والمرابين وأغلبهم من الأجانب ينتهزون بؤس الفلاحين فيشترون منهم المحاصيل الشتوية قبل أن تنضج بأبخس الأسعار واذ يأتي الخريف ويحتاج الفلاح الي زراعة ذات المحاصيل يشتريها بأضعاف السعر الذي باع به,( عبدالرحمن الرافعي ـ نقابات التعاون الزراعية ـ ص176), ولا يكون أمام الفلاح سوي الاستدانة من المرابين وتبلغ جملة الأراضي المرهونة619,214 فدانا وتكون جملة الديون علي المالكين لخمسة أفدنة فأقل17 مليون جنيه( كتشنر ـ التقرير السنوي لعام1912 ـ ص25), ويسجل كتشنر في تقريره عن عام1910 ان البنك الزراعي
وكان مملوكا لأجانب يباشر هذا العام وحده اجراءات نزع الملكية من2544 مدنيا, وتتوالي الكوارث علي الفلاحين ففي الفترة من1907 الي1917 فقد الفلاحون40,000 رأس من الماشية بسبب مرض الطاعون البقري( عزيز خانكي ـ شئون مصرية ـ ص34), وفي عام1908 خسر الفلاحون8 ملايين جنيه بسبب دودة القطن( روزنشتين ـ دمار مصر ـ ص456) ثم كانت السخرة حيث اختطف جنود الاحتلال آلاف الفلاحين للعمل في خدمة جيش الاحتلال في فلسطين والشام( أحمد بهاء الدين ـ أيام لها تاريخ ـ ص86), وهكذا تراكم الغضب الفلاحي ليتفجر مع الثورة بصورة بالغة العنف ليس فقط ضد الاحتلال وانما أيضا ضد الطغاة من كبار الملاك وهم في الوقت نفسه عملاء للاحتلال, ويصف فكري أباظة في فزع واضح أحداثا شاهدها بنفسه في أسيوط زحف البؤساء العزل زحف الأسود الكاسرة مستودعات الذخيرة المحلية وإلي سلاح البوليس فيتخاطفونه تخاطفا ويتقلدونه فارغا ومملوءا ويتكون في لمح البصر جيش الثورة من أصحاب الجلاليب, ثم أخذت صفائح البنزين تكوم علي محاذاة جدار قصر محمد محمود باشا أحد قادة الوفد المنفيين الي مالطة, ويوشك الثائرون علي إحراق القصر, وقلت لهم: هذا قصر محمد محمود وهو أحد المنفيين مع سعد باشا ولأجل حريته وحرية بلاده ثرتم, فصاح وحش من الوحوش, اسكت هل وزع علينا محمد محمود أرغفة العيش ونحن جائعين؟ احنا عايزين ناكل( الضاحك الباكي ـ ص43), ان كلمات فكري أباظة توضح مدي فزع الملاك من ثورة الفلاحين, كذلك يوضحهما بيان أصدرته قيادة الوفد يدين الاعتداء علي الأنفس والأملاك, كما أن قطع الطرق والمواصلات يضر أهل البلاد ويفقد المصريين ما ينتظرونه من عطف( محمد صبيح ـ مواقف حاسمة ـ ص392), لكن ثورة الفلاحين تمضي, وحاربوا الاحتلال بالفئوس والعصي, بما دفع الاحتلال الي استخدام الطائرات الشراعية في إلقاء قنابل حارقة عليهم في دير مواس وديروط, وفي المنطقة نفسها قلب الفلاحون قطارا عسكريا وقتلوا ثمانية ضباط من الانجليز وقبض علي51 فلاحا حكم علي24 منهم بالاعدام, والمثير للدهشة أن سلطات الاحتلال طلبت منهم تقديم طلب بالعفو حتي يمكن تخفيف هذا الحكم القاسي لكنهم جميعا رفضوا وأعدموا( صلاح عزام ـ مارس1919 الدامي والفلاحون ـ ص14), ويمكن القول إن الفلاحين كانوا أكثر القوي ثورية خلال أحداث الثورة, وكانوا أكثرها تضحية, يقول الرافعي انهم قدموا ثلاثة آلاف شهيد( مذكراتي ـ ص35), وان كان الانجليز قد اعترفوا بعدد أقل, ففي تقرير قدمه هارموت وكيل الخارجية البريطانية أمام مجلس العموم قال قتل1000 وجرح1600 وسجن3700, وأعدم منهم149, وحكم علي47 بالأشغال الشاقة المؤبدة( صلاح عزام ـ المرجع السابق).
ولأن الفلاحين كانوا ضد الاحتلال وضد كبار الملاك سواء بسواء, فقد رفضوا أن يخضعوا لسلطة أي منهما ومن ثم اعلنوا استقلال أماكن عدة وأنشأوا لأنفسهم سلطة محلية تحت قيادة محلية فأعلنت زفتي والمطرية وفارسكور والمنيا وغيرها الاستقلال, الأمر الذي أفزع الاحتلال والقصر وكبار الملاك علي السواء, وقد قاد هذه الجمهوريات المستقلة شبان صغار( زفتي) أو شيخ الصيادين( المطرية) وأفندية( فارسكور والمنيا), لكن تجربة جمهورية زفتي تستحق بعض التأمل حيث شكلت لجنة للثورة انتخبها الفلاحون في اجتماع عام, وكان للجنة مطبعة تصدر بيانات إعلامية تحدد أولا بأول أهداف الثورة وواجبات الثوار, ونقرأ في واحد منها لابد من حماية الأمن من كل عابث, ولابد من تحقيق العدالة لكل ساكن, وتشكلت فرق من الفلاحين ردمت المستنقعات وأصلحت الطرق وقامت بحماية الحدود واصلاح الجسور.. واستمر استقلال الجمهورية19 يوما فقط حققوا فيها كل أحلامهم, حتي إنهم أقاموا كشكا للموسيقي تعزف فيه احدي الفرق عند غروب كل يوم.
وعندما أرسل الاحتلال فرقة من الجنود الاستراليين لحصار القرية طبع الثوار منشورا بالانجليزية وزعوه علي الجنود الاستراليين يقولون فيه أيها الجنود إنكم مثلنا تعانون من الاحتلال, ونحن نثور علي الانجليز وليس عليكم أنتم, اننا نثور من أجل الخبز والحرية والاستقلال( المرجع السابق ـ ص39).
لقد لخصوا شعارات جديدة لعمل ثوري جديد ومختلف عن شعارات سعد زغلول ورفاقه: خبز وحرية واستقلال.
ويمكن القول إن الفلاحين كانوا يتحركون في الظاهر تحت قيادة الوفد, لكنهم كانوا في الواقع يفجرون غضبهم المتراكم وأحلامهم المتراكمة, ويحاولون صياغة وطن جديد أكثر تحررا وأكثر عدلا مما كان يطمح إليه كثيرون من قادة الوفد.