جريدة وطنى 18/11/2007م السنة 49 العدد 2394 عن مقالة بعنوان [ مائة عام من الصحافة الحزبية : صاحبة الجلالة رحلة من القصر إلي الشارع ] يوسف رامز:
حمل الزمن الجميل معه لصاحبة الجلالة الكثير من تاريخ أمة في نضالها اليومي فنحن إذ نحتفل مع نهايات هذا العام بمئوية الأحزاب المصرية نحتفل بالتوازي بمئوية الصحافة الحزبية في مصر,
إنشاء حزب 'الأمة'
وبالرغم من الخلاف الدائر في أوساط المؤرخين حول بداية الحياة الحزبية المصرية,إلا أن غالب القول إن نشأة الأحزاب السياسية بمفهومها الحالي جاء مع نهايات عام 1907 وبالتحديد في شهر سبتمبر حينما تم الإعلان عن إنشاء حزب 'الأمة' وهو أول حزب سياسي بالمعني الحديث ثم تلاه في نفس العام إعلان مصطفي كامل عن حزبه 'الوطني' باجتماع شعبي بمسرح زيزينيا بالإسكندرية في 22أكتوبر1907 ولقد كانت نشأة الأحزاب بمثابة مرحلة جديدة في حياة صاحبة الجلالة السياسية.
الحزب 'الوطني الأول'
وبطبيعة الحال فإن هذا النضج السياسي-الاجتماعي المتمثل في إعلان الأحزاب لم يكن وليد اللحظة بل كانت له بدوره 'أوراق من الزمن الجميل' الخاصة به تعود إلي نهايات القرن التاسع عشر حيث بدايات التنظيمات السياسية في مصر عبر الجمعيات السرية في الأزهر وفي الجيش عام 1876 ونتيجة للاتصال بين تنظيم الجيش وجمعية أسسها الأعيان في حلوان,تم الإعلان عن قيام الحزب 'الوطني الأول' الذي عرف أحيانا باسم الحزب 'الأهلي'.أو حزب الفلاحين,والذي قاده أحمد عرابي ومنه خرجت الثورة الأولي لكنه كان بمثابة موقفا شعبيا أكثر مما هو حزبا.
'التبكيت والتنكيت'
لم تكن عزيزتنا صاحبة الجلالة ببعيدة عن الثورة العرابية أو 'هوجة عرابي' كما عرفها العامة في هذا الوقت فلقد كانت الصحف هي المسئولة عن إطلاق الثورة علي المستوي الشعبي خاصة الجرائد التي أصدرها عبد الله النديم ومنها 'التبكيت والتنكيت' التي ظهرت في يونية 1881,ثم 'الطائف',وجريدة 'الأستاذ'.
وعندما مرض عبدالله النديم وكان يحرر جريدة 'الطائف' بمفرده قال: 'أعتذر عن تحرير باقي الجريدة,إلا ما كان خاصا بإسماعيل باشا فإني أكلف نفسي بكتابته...لأن في نشره علاجا لي'.وظهرت أيضا صحف يعقوب صنوع السياسية الساخرة فقام بتأسيس جريدة 'أبو نضارة' و'أبو نضارة زرقا' و'الحاوي' و'أبو زمارة' و'المنصف' و'أبو صفارة' و'النظارات المصرية' و'الوطن المصري' و'أبو نظارة:مصر للمصريين' و'التودد' وغيرها.
وبالرغم من أن نشأة الصحافة المصرية -باللغة العربية- يعود إلي عام 1828 حين بدأت جريدة 'الوقائع' في نشر أخبار الحكومة حتي عام 1841 عندما أشرف عليها رفاعة الطهطاوي وأصبحت بحق أول جريدة تحمل رسالة إعلامية,فإن خوض صاحبة الجلالة في السياسة بكشل مباشر لم يكن ليأتي علي الأذهان فلقد استمرت طوال هذه الفترة الابنة المدللة للقصر لكنها فعلت ذلك وأخذت تخوض في السياسة ولو بعد عقود, ففي عام 1870عرفت مصر أول قرار مصادرة لصحيفة انتقدت الحاكم وكانت الصحيفة 'نزهة الأفكار' لصاحبها إبراهيم بك المويلحي وكان القرار للخديوي إسماعيل ثم أخذت السياسة تستهوي صاحبة الجلالة حتي باتت السياسة همها الأول.
أخذت أوامر المصادرة تستهوي البعض وعلي رأسهم يعقوب صنوع الذي لم تدم له جريدة أكثر من عدة أشهر وظهرت بعد ذلك فكرة 'رئيس تحرير الحبس' الذي يضع اسمه علي الجريدة حتي يحبس عوضا عن المحرر الحقيقي الذي يكون في الغالب رمزا سياسيا يصعب الاستغناء عنه.ومنذ هذه اللحظة أخذت الصحافة السياسية تحمل شعلة الحرية دون أن يكون لها انتماء حزبي بالمعني المعروف إلي أن جاء عام 1907وأعلنت الأحزاب ومعها الصحافة الحزبية ترعاها.
جاءت نشأة الأحزاب بمصر من أحشاء الصحف فعلي خلاف الواقع الآن حيث يحصل الحزب علي الموافقة الإدارية والقانونية أولا ثم يحصل علي ترخيص لإصدار صحيفة تعبر عنه,فإن أحزاب مطلع القرن العشرين وأحزاب الحقبة شبه الليبرالية عرفت العكس تماما حيث كان علي رجال السياسة والفكر أن يصدروا الصحف التي تتولي الدعاية لمبادئهم حيث كانت الصحف هي المجال الأساسي المتاح لممارسة السياسة ولما تجمع حول هذه الأفكار والمبادئ العدد الكافي من المناصرين ونشأ في مصر ما يمكن تسميته بـ'الرأي العام' أمكن الإعلان عن نشأة الأحزاب وهذا ما حدث تقريبا مع كل الأحزاب المصرية في هذه الفترة.
صحيفة 'المؤيد'
فمن رحم صحيفة 'المؤيد' التي أصدرها الشيخ علي يوسف عام 1889وحررها بنفسه ظهر حزب الإصلاح علي المبادئ الدستورية وكانت صحيفته آنذاك الجريدة الوطنية الوحيدة في مصر.نادت 'المؤيد' بالجلاء والدستور ونشر التعليم وطالبت بالالتفاف حول الخديوي ومساندته,وكانت تصدر يوميا إلي جانب عدد أسبوعي يلخص ما تنشره الجريدة خلال ستة أيام بالإضافة إلي 'المؤيد الأسبوعي' باللغة الفرنسية,وفي العام الذهبي 1907تحولت جريدته إلي حزب,ويستمر الشيخ علي يوسف في تحرير المؤيد إلي عام 1912حيث يتركها ليتولي مشيخة السادة الوفائية (إحدي الطرق الصوفية) فلا تستطيع المؤيد أن تستمر بدونه فتتوقف عن الصدور عام 1915.
صحيفة اللواء
ومن صحيفة اللواء التي أصدرها مصطفي كامل في3يناير عام1900 ظهر الحزب الوطني الذي مثل جناح من الأمة رأي في العودة إلي عروة الإسلام والخلافة العثمانية الملاذ من الاحتلال الإنجليزي,وعن أهداف الجريدة -قبل أن تتحول إلي حزب بسبع سنوات- يقول مصطفي كامل في العدد الأول: 'أهدافنا:خدمة الوطن والإسلام بأشرف السبل وأنفعها,الحكمة والاعتدال والحكم علي الأشياء حكما صادقا,والسعي وراء الاتحاد والاتفاق بين المصريين بين بعضهم لبعض من جهة وبين كافة المسلمين من جهة أخري,والعمل لتربية أبناء مصر أحسن تربية وطنية وترقية التجارة والصناعة,واجتناب الشتائم والشخصيات اجتنابا تاما'.وقادت 'اللواء' التي كانت تصدر كل الأيام عدا الجمعة العديد من الحملات الوطنية قد يكون أهمها الدعوة لإنشاء الجامعة الأهلية.وكعادة صاحبة الجلالة في بداياتها فإن 'اللواء' كانت أيضا مؤيدة للخديوي إلي أن اختلفت معه وشككت في نواياه الوطنية وانفصلت عن القصر بشكل نهائي.وبعد وفاة مصطفي كامل بعامين انفصلت 'اللواء' عن الحزب نفسه عام 1910.
أما صاحبتنا 'الليبرالية' فلم تجد من يدافع عنها في ذلك الزمن سوي صحيفة 'الجريدة' التي أصدرها أحمد لطفي السيد في 9مارس ورأس تحريرها بنفسه ومنها تكون 'حزب الأمة' حيث مثل جانب من النخبة يرفع مفهوم القومية المصرية أولا وكانت وجهة نظر الجريدة -وبالتالي الحزب- أن الاحتلال ليس سببا لضعف الأمة ولكنه انعكاس لهذا الضعف.وبالتالي فإن مقاومته لا تكون إلا بنهضة الأمة ونشر التعليم ورفع مستوي الوعي الوطني.وكان مفهوم الاستقلال هنا مفهوما شاملا أي الاستقلال عن الدولة العثمانية وعن إنجلترا.إلا أن الآراء الليبرالية والعلمانية لعدد من رموز التنوير في هذه الصحف مثل طه حسين وأحمد لطفي السيد ومحمد حسين هيكل ومنصور فهمي لم تلق قبولا من عموم الناس الذين جذبتهم دعاوي مصطفي كامل عبر 'اللواء',كما أن الترجمات التي نشرتها الجريدة لأعلام الفلاسفة الأوربيين حول الحرية والعدالة نفرت عموم الناس عن شرائها واستمرت 'الجريدة' تنبض بالحياة إلي أن قامت الحرب العالمية الأولي فتعطلت عن الصدور.
هكذا حملت الصحافة المصرية شعلة الحرية والاستقلال في تعددية فريدة لم تعرفها مصر إلا في هذا الزمن الجميل.
ولأن الأمس دائما ما يحمل في أحشائه اليوم نذكر ختاما عددا من مقولات آباء الصحافة السياسية,فها هو أديب إسحق يقول: 'واعجباه!إننا أمة عظيمةولا قوة لنا,وأرضنا خصبة ولا نجد القوت,نشتغل ولا نجني ثمرة الأجتهاد,ونؤدي الضرائب الباهظة فلا تعد كافية..ونحن في سلم خارجي وحرب داخلية,فمن هو ذلك العدو الخفي الذي يسلب أموالنا ويفسد أحوالنا؟'.وها هو يعقوب صنوع يكتب عندما صدر قانون المطبوعات: 'اكسروا أقلامنا وسدوا أفواهنا,فسوف نكسرر أنف أظلم حكامنا!'
*****************************
المــــــراجع
*يونان لبيب رزق,الأحزاب المصرية عبر مائة عام,القاهرة,الهيئة المصرية العامة للكتاب.2006
*أ.د.نجوي كامل,الصحافة المصرية:النشأة والتطور,كلية الإعلام جامعة القاهرة .2003
*أسامة الهتيمي,دراسة:التعددية السياسية في مصر...فخ إسكات المعارضة.
*أحمد الخميسي,أقلام وأوراق,دراسة .2005
*رامي عطا صديق,الصحافة المصرية في القرن التاسع عشر,مكتبة الشروق الدولية.2006