يظل سيد درويش هو أهم مجدد في الموسيقي العربية، ولد في الإسكندرية في ١٧ مارس ١٨٩٢، ويقول محمد البحر (1) ، الابن الأكبر لسيد درويش، إن أباه قد نشأ بين والديه وإخواته كما ينشأ كل طفل مدلل، وكان محباً للموسيقي بالفطرة، وأن والده توفي عنه قبل أن يبلغ السابعة، فنقلته والدته إلي مدرسة حسن أفندي حلاوة،
وفي هذه المدرسة تلقي أول دروس الموسيقي، وظل سيد درويش في هذه المدرسة لعامين إلي أن أغلقت أبوابها، ومع افتتاح المعهد الديني بالإسكندرية كان التلاميذ يجتازون السنة الأولي بمسجد أبي العباس فانتسب سيد درويش به، تزوج الشيخ وهو في السادسة عشرة من عمره واشتغل بالغناء في فرقة جورج داخور،
فى عام 1909 يتدخل القدر مرة أخرى فيسمع غناءه رجلان من الشوام كانا يجلسان مصادفة في مقهي إلياس ثم مقهي أبوراضي بجانب العمارة التى يعمل بها الشيخ سيد وهما أمين وسليم عطا الله صاحبا فرقة مسرحية تعمل بالشام وسمعاه يغني وأعجبا به،
واتفقا معه علي السفر لسوريا عام ١٩٠٩، وبعد سفره بيوم ولد ولده الأول محمد وعمره حينئذ 17 عاما ،، وظل في سوريا لعشرة أشهر , وتركها وأخذ يبحث عن فرصة عمل فعمل مناولاً في شركة معمار، وعاد ليعمل متنقلاً بين المقاهي لعامين، وعاد سليم وأمين عطا الله مرة أخري ليدعواه للسفر مرة أخري عام ١٩١٢
فى عام 1912 التقى سيد درويش بعثمان الموصلى مرة أخرى فى رحلة ثانية إلى الشام مع نفس الفرقة وأكمل خلال تلك الرحلة ما كان يتوق إلى جمعه من مواد التراث وعاد بعد عامين وقد أحضر معه العديد مما عثر عليه هناك من الكتب الموسيقية
وعاد ليتنقل بين المقاهي فى عام 1914 عاد سيد درويش للعمل بمقاهى الإسكندرية لكنه لم يكتف بتقديم ما حفظه عن الأقدمين كالشيخ سلامة حجازى الذى كان الفنان الأول فى مصر فى ذلك الوقت، ولكنه بدأ يبدع ألحانه الخاصة فقدم أول أدواره يا فؤادى كما ظهرت أغانيه القصيرة السريعة إلى الوجود وغناها بنفسه كما غناها غيره من المطربين ، وبدأ نجمه يعلو فى المدينة حتى سمع عنه الشيخ سلامة حجازى وقرر أن يذهب لسماعه بنفسه ما أن سمعه الشيخ الكبير حتى أثنى عليه وعلى الفور ، ومثلما حدث مع أمين وسليم عطا الله ، عرض عليه العمل بفرقته بالقاهرة فقبل الشيخ سيد وكان ما عرضه على الشيخ سيد لم يكن دورا فى إحدى رواياته بل غناء بين الفصول ، وهو تقليد معروف فى ذلك الوقت لطول الزمن بين الفقرات ،وبدأ سيد درويش فى الغناء لكنه تلقى استقبالا فاترا من الجمهور الذى تعود صوت سلامة حجازى ، فخرج الشيخ سلامة حجازى إلى الجمهور ليقدم سيد درويش قائلا : ” هذا الفنان هو عبقرى المستقبل“ لكن الشيخ سيد إضطر أن يقفل مسرحه عائدا إلى مدينته فى اليوم التالى .
فى عام 1917 عاد الشيخ سلامة عرض عليه عرضا آخر طلب منه التلحين ولفرقة جورج أبيض ولرواية كاملة هى فيــروز شاه
كانت فيروز شاه تجربة خاصة من جورج أبيض وكان يريد أن يخفف من جدية موضوعاته على الجمهور ويجتذب جمهورا أكبر مثل ذلك الذى يرتاد المسرح الكوميدى ، ولم تنجح تجربته لكن الجمهور جذبه شيء جديد هو ألحان سيد درويش ، وأنتشرت الأخبار إلى الفرق الأخرى المنافسة التى عزمت على استثمار الحدث لصالحها فتسابقت لاكتساب سيد درويش إلى جانبها وأغدقت عليه لاجتذابه
فى خلال شهور التالية اصبح سيد درويش يلحن لجميع الفرق المسرحية بالقاهرة وانضم لفرق : نجيب الريحانى ، على الكسار ، منيرة المهدية ، وكان عطاؤه غزيرا حتى قيل عنه أن باستطاعته تلحين خمس روايات في شهر واحد
فى عام 1919 اندلعت الثورة بقيادة سعد زغلول وكان للشيخ سيد فضل تغذيتها بالأناشيد الوطنية والأغانى التى تعرضت لكل ما هو وطنى ، وفى طريق الثورة على القصر والاحتلال الأجنبى قدمت روايات محلية احتوت على كثير من الرمز ضد الاستبداد وقام المسرح بدور كبير فى هذا الاتجاه وكانت ألحان سيد درويش هى السبب فى نجاح هذه المسارح والفرق بانتشارها بين الناس وبسرعة فائقة
وتعرف بجليلة ولما ضاقت الإسكندرية به هبط إلي القاهرة، ثم أنشأ فرقته الخاصة في أواخر عمره فى عام 1920 أنشأ سيد درويش فرقته الخاصة وقدم بها روايات العشرة الطيبة لمحمد تيمور وشهرزاد لبيرم التونسى والباروكة الإيطالية ويذكر عنه رفيق دربه بديع خيرى أنه عندما عانت فرقته من مصاعب مادية كان ينزل إلى وسط البلد وهو مفلس فيسمع ألحانه تقدمها الفرق الأخرى فيعود إليه إحساسه بالسعادة وينسى ما كان فيه من ضيق يحكى عنه صديقه الكاتب "بديع خيرى" أنه كان يصطحبه إلى حى بولاق بالقاهرة ليستمع إلى "بائع عجوة" ينادى فى نغمات جميلة مرددا " على مال مكة .. على مال جدة .. مال المدينة يا شغل الحجاز" ، وظهرت تلك النغمات فى لحنه الشهير "مليحة قوى القلل القناوى"
فى عام 1921 قرر سيد درويش بعد نجاحه أن يكتب عن الموسيقى ، فكتب للصحافة مقالات موسيقية كان يقصد بها توعية الجمهور والتثقيف الموسيقى العام واعتبر هذا الميدان الذى لم يرتاده أحد قبله أحد واجباته تجاه الرسالة الفنية التى حمل لواءها ، وكان يختم مقالاته بتوقيع ”خادم الموسيقى سيد درويش“ ، ثم قرر أن ينشر كتابا يضم نوت ألحانه واتفقت معه إحدى الصحف على نشر الكتاب فى حلقات
استعد سيد درويش للسفر لكن القدر لم يمهله ووافته المنية بالإسكندرية مسقط رأسه عندما ذهب إليها ذات فجر ليكون فى استقبال الزعيم سعد زغلول العائد من المنفى وتوفي ١٥/٩ من عام ١٩٢٣ بالإسكندرية.
********************************
أصدرت مصر عندما كان اسمها الجمهورية العربية المتحدة طابع بريد عليه صورة الفنان سيد درويش وذلك سنة 1958 م
التعبير الموسيقى عند سيد درويش
تتلخص مدرسة سيد درويش الفنية فى مبادئ أساسية هى
اختيار الموضوع والكلمات
التعبير عن الموضوع والكلمة باللحن
اختيار النغمات ذات الجذور الشعبية المصرية
صياغة الجمل اللحنية فى أبسط صورة
صياغة الألحان فى تراكيب حديثة متطورة وإيقاعات شابة مليئة بالحيوية
استطاع سيد درويش التعبير عن هموم وطنه وآماله فى أصدق صورة ، باللحن والكلمة
ومن أهم أسباب انتشار موسيقى وألحان سيد درويش أنها بسيطة وسهلة مع عمق نغماتها وتأثيرها القوى فى النفوس ، ولم تكن ألحانه تحتاج إلى أصوات محترفة لترددها ، وقد كانت الأغانى السائدة فى ذلك الوقت من أصول تركية غير معبرة عن البيئة والمزاج المصرى ومليئة بالتراكيب المعقدة والزخارف اللحنية وهو ما كان معروفا بـ "موسيقى الصالونات" يسمعها فقط خاصة العائلات والطبقة الأرستقراطية من الأتراك ، كما أن موضوعاتها اقتصرت على الحب والغرام والهجر والفراق ، لكن سيد درويش استطاع أن يجعل الغناء للجميع ، وأحس المصريون لأول مرة فى العصر الحديث بأن لهم موسيقاهم المعبرة عنهم وعن جذورهم ومشاعرهم
وعمل سيد درويش كثيرا على إيقاظ الروح الوطنية بين المصريين بألحانه وبما يختار لها من كلمات معبرة ، بعضها من نظمه هو ، والبعض الآخر من تأليف الشعراء الوطنيين ، وكان أحيانا يعجب بكلمات منشورة فى إحدى الصحف فيقوم بتلحينها على الفور دون معرفة مسبقة بمؤلفها ، ومنها لحن " قوم يا مصرى" لبديع خيرى فقد كان الشعور الوطنى يوحد بين الكتاب والفنانين فى وقت ساد فيه الاحتلال وفسدت السلطة ، ولم يتقاض أجرا عن تلحينه لأعطم ألحانه الوطنية
ويكفى النظر إلى بعض مقاطع أغانيه لكى نعرف عن ماذا يتحدث سيد درويش وما الذى يعبر عنه ، ولكى ندرك النقلة الكبيرة التى أحدثها
فى أنشودة أنا المصرى
نا المصرى كريم العنصرين .. بنيت المجد بين الإهرامين
جدودى أنشأوا العلم العجيب ، ومجرى النيل فى الوادى الخصيب
لهم فى الدنيا آلاف السنين
ويفنى الكون وهم موجودين
وفى لحن سالمة يا سلامة
صفر يا وابور واربط عندك نزلنى فى البلد دى
بلا أميركا بلا أوربا مافى شى أحسن من بلدى
وفى نشيد قوم يا مصرى
قوم يا مصرى مصر دايما بتناديك ، خد بناصرى نصرى دين واجب عليك
شوف جدودك فى قبورهم ليل نهار .. من جمودك كل عضمة بتستجار
صون آثارك ياللى ضيعت الآثار .. دول فاتوا لك مجد خوفو لك شعار
ليه يا مصرى كل أحوالك عجب .. تشكى فقرك وانت ماشى فوق دهب
مصر جنة طول ما فيها انت يا نيل .. عمر ابنك لم يعش أبدا ذليل"
وفى أغنية طلعت يا محلا نورها
طلعت يا محلا نورها شمس الشموسة .. ياللا بنا نملا ونحلب لبن الجاموسة"
وفى لحن الصنايعية
الحلوة دى قامت تعجن فى البدرية .. والديك بيدن كوكو كوكو فى الفجرية"
ياللا بنا على باب الله يا صنايعية .. يجعل صباحك صباح الخير يا اسطى عطية"
والنشيد الوطنى الذى وضع سيد درويش كلماته مستوحيا إياها من كلمات الزعيم الوطنى مصطفى كامل
بلادى بلادى .. لك حبى وفؤادى
وهو نشيد الشعب الذى غناه فى ثورة 1919 وهو النشيد الوطنى الحالى بعد أكثر من 80 عاما
والأغنية التى انتقدت تجنيد الشباب بالقوة لخدمة الجيش البريطانى
يا عزيز عينى وانا بدى اروح بلدى ..بلدى يا بلدى والسلطة خدت ولدى
=====================
المــــــــراجع
(1) جريدة المصرى اليوم تاريخ العدد السبت ١٥ سبتمبر ٢٠٠٧ عدد ١١٨٩ م عن مقالة بعنوان [ وفاة سيد درويش ] كتب ماهر حسن