Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - coptic history

بقلم عزت اندراوس

السلطـان صلاح الدين الأيوبى - 156

إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس ستجد تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات وصمم الموقع ليصل إلى 3000 موضوع مختلف

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

لم ننتهى من وضع كل الأبحاث التاريخية عن هذا الموضوع والمواضيع الأخرى لهذا نرجوا من السادة القراء زيارة موقعنا من حين لآخر - والسايت تراجع بالحذف والإضافة من حين لآخر - نرجوا من السادة القراء تحميل هذا الموقع على سى دى والإحتفاظ به لأننا سنرفعه من النت عندما يكتمل

Home
Up
صلاح الدين الأيوبى156
العزيز عثمان 157
الملك منصور على 158
الملك العادل 159
الملك الكامل 160
الملك العادل الصغير161
الملك الصالح 162
السلطان توران شاه 163
السلطانة شجرة الدر 164

Hit Counter

****************************************************************************************

 الجزء التالىعن السلاطين الأيوبيين الذين حكموا مصر وهى تحت إستعمار الأسرة الأيوبية السنية الإسلامية - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة - جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي - منذ غزو مصر على يد جيش المسلمين بقيادة عمرو بن العاص ومن تولوا إمارة مصر قبل الإسلام وبعد الإسلام إلى نهاية سنة إحدى وسبعين وثمانمائة

**************************************************************************************** 

 

  من هــو صلاح الدين الأيوبى ؟
سلطنة صلاح الدين على مصر هو السلطان الملك الناصر أبو المظفر صلاح الدين يوسف ابن الأمير نجم الدين أيوب بن شادي بن مروان ويقال‏:‏ إن مروان من أولاد خلفاء بني أمية‏.‏
وقال ابن القادسي‏:‏ كان شادي مملوك بهروز الخادم‏.‏ قال صاحب مرآة الزمان‏:‏ ‏"‏ وهذا من غلطات ابن القادسي ما كان شادي مملوكًا قط ولا جرى على أحد من بني أيوب رق وإنما شادي خدم بهروز الخادم فاستنابه بقلعة تكريت ‏"‏‏.‏ انتهى‏.‏
قلت‏:‏ كان بداية أمر بني أيوب أن نجم الدين أيوب والد صلاح الدين هذا وأخاه أسد الدين شيركوه - ونجم الدين هو الأكبر - كان أصلهم من دوين‏:‏ بلدةٍ صغيرة في العجم وقيل‏:‏ هو من الأكراد الروادية وهو الأصح‏.‏
فقدم نجم الدين أيوب وأخوه أسد الدين - شيركوه إلى العراق وخدما مجاهد الدين بهروز الخادم شحنة بغداد فرأى بهروز من نجم الدين رأيًا وعقلًا فولاه دزدارًا بتكريت وكانت تكريت لبهروز أعطاها له السلطان مسعود بن غياث الدين محمد ابن ملكشاه - المقدم ذكره - السلجوقي‏.‏ وبهروز كان يلقب مجاهد الدين‏.‏
وكان خادمًا روميًا أبيض ولاه السلطان مسعود شحنة العراق‏.‏ وبهروز ‏"‏ بكسر الباء الموحدة وسكون الهاء وضم الراء وسكون الواو وبعدها زاي ‏"‏ وهو لفظ عجمي معناه‏:‏ يوم جيد‏.‏
فأقام نجم الدين بتكريت ومعه أخوه أسد الدين إلى أن انهزم الأتابك زنكي بن آق سنقر من الخليفة المسترشد في سنة ست وعشرين وخمسمائة ووصل إلى تكريت وبه نجم الدين أيوب فأقام له المعابر فعبر زنكي بن آق سنقر ‏"‏ دجلة ‏"‏ من هناك وبالغ نجم الدين في إكرامه فرأى له زنكي ذلك‏.‏ وأقام نجم الدين بعد ذلك بتكريت إلى أن خرج منها بغير إذن بهروز‏.‏
وسببه أن نجم الدين كان يرمي يومًا بالنشاب فوقعت نشابة في مملوك بهروز فقتلته من غير قصد فاستحى نجم الدين من بهروز فخرج هو وأخوه إلى الموصل‏.‏
وقيل غير ذلك‏:‏ إن بهروز أخرجهما لمعنى من المعاني وقيل في ولما خرجا من تكريت قصدًا الأتابك بن آق سنقر - المقدم ذكره - وهو والد الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي المعروف بالشهيد فأحسن إليهما زنكي وأقطعهما إقطاعات كثيرة وصارا من جملة أجناده إلى أن فتح زنكي مدينة بعلبك وولى نجم الدين أيوب دزدارًا بقلعتها والدزدار بضم الدال المهملة وسكون الزاي وفتح الدال المهملة وبعدها ألف وراء مهملة ومعناها بالعجمي‏:‏ ماسك القلعة‏.‏ ودام نجم الدين ببعلبك إلى أن قتل زنكي على قلعة جمبر‏.‏ وتوجه صاحب دمشق ‏"‏ يومئذ مجير الدين ‏"‏ وحصر نجم الدين المذكور في بعلبك وضايقه فكتب نجم الدين إلى نور الدين الشهيد بن زنكي وسيف الدين غازي يطلب منهما نجدة فاشتغلا عنه بملك جديد واشتد الحصار على بعلبك فخاف نجم الدين من فتحها عنوة وتسليم أهلها فصالح مجير الدين صاحب دمشق على مال وانتقل هو وأخوه أسد الدين شيركوه إلى دمشق وصارا من كبار أمرائها‏.‏
ولا زال بها أسد الدين شيركوه حتى اتصل بخدمة الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي وصار من أكابر دولته‏.‏ فرأى منه محمود نجابة وشجاعة فأعطاه حمص والرحبة وجعله مقدم عساكره‏.‏ فلما صرف نور الدين همته لأخذ دمشق أمر أسد الدين أن يكاتب أخاه نجم الدين أيوب على المساعدة على فتحها فكتب أسد الدين إلى أخيه وقال له‏:‏ هذا يجب عليك فإن مجير الدين قد أعطى الفرنج بانياس وربما سلم إليهم دمشق بعد ذلك فأجابه نجم الدين‏.‏ وطلبا من نور الدين إقطاعًا وأملاكًا فأعطاهما وحلف لهما ووفى بيمينه‏.‏ وأما مجير الدين المذكور صاحب دمشق فكان اسمه آبق بن محمد بن بوري بن الأتابك ظهير الدين طغتكين‏.‏
وطغتكين مولى تتش بن ألب أرسلان أخي ملكشاه السلجوقي‏.‏
ولما ملك نور الدين محمود دمشق وفى لهما بما وعدهما وصارا من أكابر أمرائه خصوصًا نجم الدين فإن جميع الأمراء كانوا إذا دخلوا على نور الدين لا يقعد أحد حتى يأمره نور الدين بالقعود إلا نجم الدين هذا فإنه كان إذا دخل قعد من غير إذن‏.‏
وداما عند نور الدين في أعلى المنازل إلى أن وقع من أمر شاور وزير مصر ما وقع - وقد حكيناه في ترجمة العاضد العبيدي - ودخول أسد الدين شيركوه إلى الديار المصرية ثلاث مرات ومعه ابن أخيه صلاح الدين يوسف هذا حتى ملك أسد الدين الديار المصرية في الثالثة وقتل شاور وولي أسد الدين وزارة مصر ولقب بالمنصور ومات بعد شهرين فولى العاضد الخليفة صلاح الدين هذا الوزارة ولقبه الملك الناصر وذلك في العشر الأخير من جمادى الآخرة سنة أربع وستين وخمسمائة‏.‏
واستولى على الديار المصرية ومهد أمورها‏.‏ وصار يدعى للعاضد ثم من بعده للملك العادل نور الدين محمود ثم من بعدهما لصلاح الدين هذا‏.‏
واستمر صلاح الدين بمصر وأرسل يطلب أباه نجم الدين أيوب من الملك العادل نور الدين محمود الشهيد فأرسله إليه معطمًا مبجلًا وكان وصوله أعني نجم الدين إلى القاهرة في شهر رجب سنة خمس وستين وخمسمائة فلما قرب نجم الدين إلى الديار المصرية خرج ابنه السلطان صلاح الدين بجميع أمراء مصر إلى ملاقاته وترجل صلاح الدين وجميع الأمراء ومشوا في ركابه ثم قال له ابنه صلاح الدين‏:‏ هذا الأمر لك يعني الوزارة وهي السلطنة الآن وتدبير ملك مصر ونحن بين يديك فقال له نجم الدين‏:‏ يا بني ما اختارك الله لهذا الأمر إلا وأنت أهل له‏.‏
وأبى نجم الدين عن قبول السلطنة غير أنه حكمه ابنه صلاح الدين في الخزائن فكان يطلق منها ما يختار من غير مراجعة صلاح الدين‏.‏
وكانت الفرنج تولت على دمياط في ثالث صفر من السنة المذكورة وجدوا في قتالها وأقاموا عليها نحو الشهرين يحاصرونها بالمجانيق ويزحفون عليها ليلًا ونهارًا وصلاح الدين يوجه إليها العساكر مع خاله شهاب الدين وابن أخيه تقي الدين وطلب من العاضد مالًا فبعث إليه شيئًا كثيرًا حتى قال صلاح الدين‏:‏ ما رأيت أكرم من العاضد‏!‏ جهز إلي في حصار الفرنج لدمياط ألف ألف دينار سوى الثياب وغيرها‏.‏
ولما سمع نور الدين بما وقع لدمياط أخذ في غزو الفرنج بالغارات عليهم‏.‏ ثم وقع فيهم الوباء والفناء فرحلوا عن دمياط بعد أن مات منهم خلق كثير‏.‏ كل ذلك في حياة العاضد في أوائل أمر صلاح الدين‏.‏
ثم أخذ السلطان صلاح الدين في إصلاح أحوال مصر وعمارة البلادة وبينا هو في ذلك ورد عليه كتاب الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي من دمشق فأمره فيه بقطع خطبة العاضد وإقامتها لبني العباس خلفاء بغداد فخاف صلاح الدين من أهل مصر إلا يجيبوه إلى ذلك وربما وقعت فتنة فعاد الجواب لنور الدين يخبره بذلك فلم يسمع له نور الدين وأرسل إليه وخشن له في القول وألزمه بذلك إلزامًا كليًا إلى أن وقع ذلك وقطعت خطبة العاضد في أول المحرم سنة سبع وستين وخمسمائة‏.‏
وكان العاضد مريضًا فأخفى عنه أهله ذلك حتى مات يوم عاشوراء فندم صلاح الدين على قطع خطبته وقال‏:‏ ليتني صبرت حتى مات‏.‏ وقد ذكرنا ذلك كله مفصلًا في ترجمة العاضد السابقة لهذه الترجمة‏.‏
ومن يوم مات العاضد عظم أمر صلاح الدين واستولى على خزائن مصر واستبد بأمورها من غير منازع‏.‏ غير أنه كان من تحت أوامر الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي المعروف بالشهيد صاحب دمشق على ما سنبينه في هذا المحل‏.‏
وكان يدعو له الخطيب بمصر وأعمالها وكان مولد صلاح الدين بتكريت في سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة ونشأ في حجر أبيه نجم الدين أيوب في الدولة النورية وترقى فيها وكان ولاه نور الدين قبل خروجه مع عمه أسد الدين شيركوه الثالثة إلى ديار مصر شحنجية دمشق فرجع عنها غضبًا على ما سنذكره إن شاء الله‏.‏
قال العلامة أبو المظفر شمس الدين يوسف بن قزأوغلي في تاريخه مرآة الزمان‏:‏ ‏"‏ كان السلطان صلاح الدين شجاعًا شهمًا مجاهدًا في سبيل الله وكان مغرمًا بالإنفاق في سبيل الله وحسب ما أطلقه ووهبه مدة مقامه على عكا مرابطًا للفرنج من شهر رجب سنة خمس وثمانين إلى يوم انفصاله عنها في شعبان سنة ثمان وثمانين فكان اثني عشر ألف رأس من الخيل العراب والأكاديش الجياد للحاضرين معه للجهاد غير ما أطلقه من الأموال‏.‏
قال العماد الكاتب‏:‏ لم يكن له فرس يركب إلا وهو موهوب ولا جاءه قود إلا وهو مطلوب وما كان يلبس إلا ما يحل لبسه كالكتان والقطن والصوف وكانت مجالسه منزهة عن الهزء والهزل ومحافله حافلة بأهل العلم والفضل ويؤثر سماع الحديث‏.‏
وكان من جالسه لا يعلم أنه جالس سلطانًا لتواضعه‏.‏ قال‏:‏ ورأى معي يومًا دواة محلاة بفضة فأنكر علي وقال‏:‏ ما هذا‏!‏ فلم أكتب بها عنده بعدها‏.‏ وكان محافظًا على الصلوات في أوقاتها لا يصلي إلا في جماعة وكان لا وذكره القاضي ابن شداد في السيرة فقال‏:‏ كان حسن العقيدة كثير الذكر لله تعالى وإذا جاء وقت صلاة وهو راكب نزل فصلى وما قطعها إلا في مرضه الذي مات فيه ثلاثة أيام اختلط فإنه فيها‏.‏
وكان قد قرأ عقيدة القطب النيسابوري وعلمها أولاده الصغار لترسخ في أذهانهم وكان يأخذها عليهم‏.‏ وأما الزكاة فإنه مات ولم تجب عليه قط‏.‏ وأما صدقة النوافل فاستنفدت أمواله كفها فيها‏.وكان يحب سماع القرآن واجتاز يومًا على صبي صغير بين يدي أبيه وهو يقرأ القرآن فاستحسن قراءته فوقف عليه وعلى أبيه مزرعة‏.‏ وكان شديد الحياء خاشع الطرف رقيق القلب سريع الدمعة شديد الرغبة في سماع الحديث‏.‏ وإذا بلغه عن شيخ رواية عالية وكان ممن يحضر عنده استحضره وسمع عليه وأسمع أولاده ومماليكه ويأمرهم بالقعود عند سماع الحديث إجلالًا له وإن لم يكن ممن يحضر عنده ولا يطرق أبواب الملوك سعى إليه‏.‏
وكان مبغضًا لكتب الفلاسفة وأرباب المنطق ومن يعاند الشريعة‏.‏ ولما بلغه عن السهرودي ما بلغه أمر ولده الملك الظاهر بقتله‏.‏
وكان محبًا للعدل يجلس في كل يوم اثنين وخميس أفي مجلس عام يحضره القضاة والفقهاء ويصل إليه الكبير والصغير والشيخ والعجوز وما استغاث إليه أحد إلا أجابه وكشف ظلامته واستغاث إليه ابن زهير الدمشقي على تقي الدين عمر ‏"‏ ابن أخيه ‏"‏ وقال‏:‏ ما يحضر معي مجلس الشرع فأمر تقي الدين بالحضور معه‏.وادعى رجل على السلطان صلاح الدين المذكور بأن سنقر الخلاطي مملوكه ومات على ملكه‏.قال ابن شداد‏:‏ فأخبرته فأحضر الرجل وقد خرج عن طراحته وساواه في الجلوس فادعى الرجل فرفع السلطان رأسه إلى جماعة الأمراء والشيوخ الأخيار وهم وقوف على رأسه فقال‏:‏ أتعرفون سنقر الخلاطي قالوا‏:‏ نشهد أنه ملوكك وأنه مات على ملكك‏.‏ ولم يكن للرجل المدعي بينة فأسقط في يده‏.‏ فقلت‏:‏ يا مولانا رجل غريب وقد جاء من خلاط في طمع ونفدت نفقته وما يحسن أن يرجع خائبًا فقال‏:‏ يا قاضي هذا إنما يكون على غير هذا الوجه ووهب له نفقة وخلعة وبغلة وأحسن إليه‏.‏
قال‏:‏ وفتح آمد ووهبها لابن قرا أرسلان‏.‏ واجتمع عنده وفود بالقدس ولم يكن عنده مال فباع ضيعة وفرق ثمنها فيهم‏.‏
قال ابن شداد‏:‏ وسألت باليان بن بارزان يوم انعقاد الصلح عن عدة الفرنج الذين كانوا على عكا وهو جالس بين يدي السلطان فقال للترجمان‏:‏ قل له كانوا من خمسمائة ألف إلى ستمائة ألف قتل منهم أكثر من مائة ألف وغرق معظمهم‏.‏
قال‏:‏ وكان يوم المصاف يدور على الأطلاب ويقول‏:‏ وهل أنا إلا واحد منكم وكان في الشتاء يعطي العساكر دستورًا وهو نازل على برج عكا ويقيم طول الشتاء في نفر يسير‏.‏
وكان على الرملة فجاءه كتاب بوفاة تقي الدين ‏"‏ ابن أخيه ‏"‏ فقال وقد خنقته العبرة‏:‏ مات تقي الدين اكتموا خبره مخافة العدو‏.‏
قال‏:‏ ولقد واجهه الجناح على يافا بذلك الكلام القبيح فما قال له كلمة واستدعاه فأيقن بالهلاك وارتقب الناس أن يضرب رقبته فأطعمه فاكهة قدمت من دمشق وسقاه ماء وثلجًا‏.‏
قال‏:‏ وكان للمسلمين لصوص يدخلون خيام الفرنج بالليل وشرقونهم فسرقوا ليلة صبيًا رضيعًا فباتت أمه تبكي طول الليل فقال لها الفرنج‏:‏ إن سلطانهم رحيم القلب فاذهبي إليه فجاءته وهو على تل الخروبة راكب فعفرت وجهها وبكت فسأل عنها فأخبر بقصتها فرق لها ودمعت عيناه وتقدم إلى مقدم اللصوص بإحضار الطفل ولم يزل واقفًا حتى أحضروه فلما رأته بكت وشهقت وأخذته وأرضعته ساعة وضمته إليها وأشارت إلى ناحية الفرنج فأمر أن تحمل على فرس وتلحق بالفرنج ففعلوا‏.‏
قال ابن شداد‏:‏ وكان حسن العشرة طيب الخلق حافظًا لأنساب العرب عارفًا بخيولهم طاهر اللسان والقلم فما شتم أحدًا قط ولا كتب بيده ما فيه أذى مسلم‏.‏ وما حضر بين يديه يتيم إلا وترحم على من خلفه وجبر قلبه وأعطاه ما يكفيه فإن كان له كافل ‏"‏ سلمه إليه ‏"‏ وإلا كفله‏.‏ وسرق يومًا من خزائنه ألفًا دينار وجعل في الكيس فلوس فما قال شيئًا‏.‏
انتهى كلام ابن شداد قال أبو المظفر‏:‏ وحكى لي المبارز سنقر الحلبي - رحمه الله تعالى - قال‏:‏ كان الحجاب يزدحمون على طراحته فجاء سنقر الخلاطي ومعه قصص فقدم إليه قصة وكان السلطان مد يده اليمنى على الأرض ليستريح فداسها سنقر الخلاطي ولم يعلم وقال له‏:‏ علم عليها فلم يجبه فكرر عليه القول فقال له‏:‏ يا طواشي أعلم بيدي أم برجلي فنظر سنقر فرأى يد السلطان تحت رجله فخجل وتعجب الحاضرون من هذا الحلم ثم قال السلطان‏:‏ هات القصة فعلم عليها ‏"‏‏.‏
وقال القاضي شمس الدين أحمد بن محمد بن خلكان - رحمه الله - في تاريخه‏:‏ لا وصلاح الدين كان واسطة العقد وشهرته أكبر من أن يحتاج إلى التنبيه عليه‏.‏
اتفق أهل التاريخ على أن أباه وأهله من دوين ‏"‏ بضم الدال المهملة وكسر الواو وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون ‏"‏ وهي يلحق في آخر عمل أذربيجان من جهة أران وبلاد الكرج وأنهم أكراد روادية ‏"‏ بفتح الراء والواو وبعد الألف دال مهملة مكسورة ثم ياء مثناة من تحتها مشددة ثم هاء ‏"‏‏.‏
والروادية‏:‏ بطن من الهذبانية لفتح الهاء والذال المعجمة والباء الموحدة وبعد الألف نون مكسورة ثم ياء مثناة مشددة من تحتها وبعدها هاء وهي قبيلة كبيرة من الأكراد‏.‏
وقال لي رجل عارف بما يقول وهو من أهل دوين‏:‏ إن على باب دوين قرية يقال لها‏:‏ أجدانقان ‏"‏ بفتح الهمزة وسكون الجيم وفتح الدال المهملة وبعد الألف نون مفتوحة ثم قاف وبعد الألف الثانية نون أخرى ‏"‏ وجميع أهلها أكراد روادية ومولد أيوب والد صلاح الدين بها وشادي أخذ ولديه ‏"‏ منها ‏"‏‏:‏ أسد الدين شيركوه ونجم الدين أيوب وخرج بهما إلى بغداد ومن هناك إلى تكريت‏.‏
ومات شادي بها وعلى قبره قبة داخل البلد‏.‏ ولقد تتبعت نسبهم كثيرًا فلم أجد أحدًا ذكر بعد شادي أبا آخر حتى إني وقفت على كتب كثيرة بأوقاف وأملاك باسم شيركوه وأيوب فلم أر فيها سوى شيركوه بن شادي أو أيوب بن شادي لا غير‏.‏
وقال لي بعض أعوانهم‏:‏ هو شادي بن مروان وقد ذكرته في ترجمة أيوب وشيركوه‏.‏
قال‏:‏ ورأيت مدرجًا رتبه الحسن بن غريب بن عمران الحرشي يتضمن أن أيوب بن شادي بن مروان بن أبي علي بن عنترة بن الحسن بن علي بن أحمد بن أبي علي بن عبد العزيز بن هدبة بن الحصين بن الحارث بن سنان بن عمرو بن مرة بن عوف بن أسامة بن بيهس بن الحارث صاحب الحمالة ابن عوف بن أبي حارثة بن مرة بن نشبة بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان ابن سعد بن قيس بن عيلان بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ثم رفع هذا النسب إلى أن انتهى إلى آدم عليه السلام‏.‏
ثم قال‏:‏ وأقول‏:‏ ‏"‏ ذكر المؤرخون أن أسد الدين شيركوه لما مات استقرت الأمور بعده لصلاح الدين يوسف بن أيوب وتمهدت القواعد ومشى الحال على أحسن الأوضاع وبذل الأموال وملك قلوب الرجال وشكر نعمة الله تعالى عليه فتاب عن الخمر وأعرض عن أسباب اللهو وتقمص بقميص الجد والاجتهاد ولا زال على قدم الخير وما يقر به إلى الله تعالى إلى أن مات ‏"‏‏.‏
قال‏:‏ ‏"‏ وقال شيخنا ابن شداد - رحمه الله -‏:‏ قال صلاح الدين - رحمه الله -‏:‏ لما يسر الله تعالى بملك الديار المصرية علمت أن الله أراد فتح الساحل لأنه أوقع ذلك في نفسي ‏"‏‏.‏
قال‏:‏ ومن حين استقام له الأمر ما زال صلاح الدين يشن الغارات على الفرنج إلى أن ملك الكرك والشوبك وبلادهما وغشي الناس من سحائب الإفضال والإنعام أما لم يؤرخ عن غير تلك الأيام‏.‏
وهذا كله وهو وزير متابع للقوم ولكنه يقول بمذهب أهل السنة ‏"‏ غارس في البلاد أهل الفقه والعلم والتصوف والدين والناس يهرعون إليه من كل صوب ويفدون عليه من كل جانب وهو لا يخيب قاصدًا ولا يعدم وافدًا ‏"‏ إلى سنة خمس وستين وخمسمائة‏.‏
فلما عرف نور الدين استقرار أمر صلاح الدين بمصر أخذ حمص من نواب أسد الدين شيركوه وذلك في رجب سنة أربع وستين‏.‏
ولما علم الفرنج ما جرى من المسلمين وعساكرهم وما تم للسلطان من استقامة الأمر له بالبلاد المصرية علموا أنه يملك بلادهم ويخرب ديارهم ويقطع آثارهم فاجتمع الفرنج والروم جميعًا وقصدوا الديار المصرية ونزلوا دمياط ومعهم آلات الحصار وما يحتاج إليه ‏"‏‏.‏
قلت‏:‏ وهذه الواقعة التي ذكرناها في أول هذه الترجمة غير أننا نذكرها أيضًا من قول ابن خلكان لزيادات تأتي فيها‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ ولما سمع فرنج الشام ذلك اشتد أمرهم فسرقوا حصن عكا من المسلمين وأسروا صاحبها وكان مملوكًا لنور الدين محمود يقال له‏:‏ ‏"‏ خطلخ العلم دار ‏"‏ وذلك في شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين‏.‏
ولما رأى نور الدين ظهور الفرنج ونزولهم على دمياط قصد شغل قلوبهم فنزل على الكرك فحاصرها في شعبان من السنة المذكورة فقصده فرنج الساحل فرحل عنها وقصد لقاءهم فلم يقووا له‏.‏
ثم بلغه وفاة مجد الدين بن الداية وكانت وفاته بحلب في أشهر رمضان سنة خمس وستين فاشتغل قلبه فإنه صاحب أمره‏.‏
وعاد يطلب الشام فبلغه أمر الزلازل بحلب التي أخربت البلاد وكانت في ثاني عشر شوال فسار يطلب حلب فبلغه موت أخيه قطب الدين مولود بالموصل وبلغه خبر موته وهو بتل باشر فسار من ليلته طالبًا لبلاد الموصل‏.‏ ودام صلاح الدين في قتال الفرنج بدمياط إلى أن رحلوا عنها خائبين ‏"‏‏.‏
قال ابن خلكان‏:‏ والذي ذكره شيخنا عز الدين بن الأثير‏:‏ أما كيفية ولاية صلاح الدين فإن جماعة من الأمراء النورية الذين كانوا بمصر طلبوا التقدم على العساكر وولاية الوزارة ‏"‏ يعني بعد موت أسد الدين شيركوه ‏"‏‏:‏ منهم الأمير عين الدولة الياروقي وقطب الدين خسرو بن تليل وهو ابن أخي أبي الهيجاء الهدباني الذي كان صاحب إربل‏.‏
قلت‏:‏ وهو صاحب المدرسة القطبية بالقاهرة ومنهم سيف الدين علي بن أحمد الهكاري وجده كان صاحب القلاع الهكارية‏.‏
قلت‏:‏ هو المعروف بالمشطوب - ولوالده أحمد ترجمة في تاريخنا ‏"‏ المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي ‏"‏ قال‏:‏ ومنهم شهاب الدين محمود الحارمي وهو خال صلاح الدين وكل واحد من هؤلاء قد لحظها لنفسه أو قد جمع ليغالب عليها فأرسل العاضد صاحب مصر إلى صلاح الدين يأمره بالحضور إلى قصره ليخلع عليه خلعة الوزارة ويوليه الأمر بعد عمه‏.‏
وكان الذي حمل العاضد على تولية صلاح الدين ضعف صلاح الدين فإنه ظن أنه إذا ولى صلاح الدين وليس له عسكر ولا رجال كان في ولايته مستضعفًا يحكم عليه ولا يقدر على المخالفة وأنه يضع على العساكر الشافي من يستميلهم ‏"‏ إليه ‏"‏ فإذا صار معه البعض أخرج الباقين وتعود البلاد إليه وعنده من العساكر الشامية من يحميها من الفرنج ونور الدين‏.‏
والقصة مشهورة ‏"‏ أردت عمرًا وأراد الله خارجة ‏"‏‏.‏
فامتنع صلاح الدين وضعفت نفسه عن هذا المقام فألزمه العاضد وأخذ كارهًا إن الله ليعجب من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل‏.‏
فلما حضر في القصر خلع عليه خلعة الوزارة‏:‏ الجبة والعمامة وغيرهما ولقب بالملك الناصر وعاد إلى دار عمه أسد الدين شيركوه وأقام بها ولم يلتفت إليه أحد من أولئك الأمراء الذين يريدون الأمر لأنفسهم ولا خدموه‏.‏
وكان الفقيه ضياء الدين عيسى الهكاري معه فسعى مع سيف الدين علي بن أحمد حتى أماله إليه وقال له‏:‏ إن هذا الأمر لا يصل إليك مع وجود عين الدولة والحارمي وابن تليل فمال إلى صلاح الدين‏.‏

ثم قصد شهاب الدين الحارمي وقال له‏:‏ إن هذا صلاح الدين هو ابن أختك وملكه لك وقد استقام له الأمر فلا تكن أول من يسعى في إخراجه عنه أولًا يصل إليك ولم يزل به حتى أحضره أيضًا عنه وحلفه له‏.‏
ثم عدل إلى قطب الدين وقال له‏:‏ إن صلاح الدين قد أطاعه الناس ولم يبق غيرك وغير الياروقي وعلى كل حال فيجمع بينك وبين صلاح الدين أن أصله من الأكراد ووعده وزاد في إقطاعه فأطاع صلاح الدين‏.‏
ثم عدل إلى عين الدولة الياروقي وكان أكبر الجماعة وأكثرهم جمعًا فاجتمع به فلم ينفع فيه رقاه ولا نفذ فيه سحره وقال‏:‏ ‏"‏ أنا لا أخدم يوسف أبدًا ‏"‏ وعاد إلى نور الدين محمود ومعه غيره‏.‏ فأنكر عليهم نور الدين فراقه وقد فات الأمر ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا‏.‏
وثبتت قدم صلاح الدين ورسخ ملكه وهو نائب عن الملك العادل نور الدين والخطبة لنور الدين في البلاد كلها ولا يتصرفون إلا عن أمره‏.‏
وكان نور الدين يكاتب صلاح الدين بالأمير الأسفهسالار ويكتب علامته في الكتب تعظيمًا أن يكتب اسمه وكان لا يفرده بمكاتبة بل يكتب‏:‏ ‏"‏ الأمير الأسفهسالار صلاح الدين وكافة الأمراء بالديار المصرية يفعلون كذا وكذا ‏"‏‏.‏
واستمال صلاح الدين قلوب الناس وبذل الأموال مما كان أسد الدين قد جمعه فمال الناس إليه وأحبوه وقويت نفسه على القيام بهذا الأمر والثبات فيه وضعف أمر العاضد وكان العاضد كالباحث عن حتفه بظلفه ‏"‏‏.‏

 

أبن الأثير وتاريخ ألسر التى حكمت الشعوب عن طريق الإسلام
قال ابن الأثير في تاريخه الكبير ‏:‏ قد اعتبرت التواريخ ورأيت كثيرًا من التواريخ الإسلامية فرأيت كثيرًا ممن يبتدئ الملك تنتقل الدولة عن صلبه إلى بعض أهله وأقاربه‏:‏ منهم في أول الإسلام معاوية بن أبي سفيان أول من ملك من أهل بيته فانتقل الملك عن أعقابه إلى بني مروان من بني عمه‏.‏
ثم من بعده السفاح أول من ملك من ملوك بني العباس انتقل الملك عن أعقابه إلى أخيه أبي جعفر المنصور‏.‏
ثم السامانية أول من ملك منهم نصر بن أحمد فانتقل الملك عنه إلى أخيه إسماعيل بن أحمد وأعقابه‏.‏
ثم يعقوب ابن الليث الضفار أول من ملك من أهل بيته فانتقل الملك عنه إلى أخيه عمرو وأعقابه‏.‏
ثم عماد الدولة بن بويه أول من ملك من أهل بيته ثم انتقل الملك عنه إلى أخويه‏:‏ ركن الدولة ومعز الدولة‏.‏
ثم السلجوقية أول من ملك منهم طغرلبك‏.‏
ثم انتقل الملك إلى أولاد أخيه داود‏.‏
ثم هذا شيركوه كما ذكرنا انتقل الملك عنه إلى ولد أخيه نجم الدين أيوب‏.‏
ا‏.‏
والذي أظنه السبب في ذلك أن الذي يكون أول دولة يكثر القتل فيأخذ الملك وقلوب من كان فيه متعلقة به فلهذا يحرم الله تعالى أعقابه ويفعل ذلك لأجلهم عقوبة له انتهى‏.‏
قلت‏:‏ وما ذكره ابن الأثير من انتقال الملك من عقب من يلي الملك أولا إلى أقاربه هو بعكس ما وقع لخلفاء مصر بني عبيد فإنه لم يل الخلافة منهم أحد بعد أخيه من أولهم المعز إلى آخرهم العاضد‏.‏
قلت‏:‏ ونادرة أخرى وقعت لخليفة زماننا هذا فإنه خامس أخ ولي الخلافة بعد إخوته وهو أمير المؤمنين المستنجد بالله يوسف وهم خمسة إخوة من أولاد المتوكل كل منهم ولي الخلافة‏:‏ وأولهم المستعين بالله العباسي الذي تسلطن بعد خلع الملك الناصر فرج بن برقوق سليمان ثم من بعده القائم حمزة ثم يوسف هذا خليفة زماننا‏.‏
وأكثر من ولي من بني أمية أربعة من أولاد عبد الملك بن مروان‏:‏ وهم الوليد وسليمان ويزيد وهشام قيل‏:‏ إن عبد الملك رأى في نومه أنه بال في محراب النبي صلى الله عليه وسلم أربع بولات فأوله المعبرون بأنه يلي الخلافة من ولده لصلبه أربعة فكان كذلك‏.‏
وأما ثلاثة الإخوة‏:‏ فالأمين محمد والمأمون عبد الله والمعتصم محمد أولاد الرشيد هارون‏.‏
ثم وقع ذلك أيضًا لبني العباس في أولاد المتوكل جعفر ولي من أولاده ثلاثة‏:‏ المنتصر والمعتز والمعتمد‏.‏
ثم وقع ذلك أيضًا للمعتضد ولي من أولاده ثلاثة‏:‏ وهم المكتفي علي والمقتدر جعفر والقاهر محمد‏.‏
ثم وقع ذلك للمقتدر جعفرة ولي من أولاده ثلاثة‏:‏ الراضي والمتقي والمطيع‏.‏
ونادرة أخرى قيل‏:‏ إن المستنجد بن المقتفي رأى في حياة والده في منامه كأن ملكًا نزل من السماء فكتب في كفه أربع خاءات معجمات فعبروه أنه يلي الخلافة سنة خمس وخمسين وخمسمائة فكان كذلك‏.‏
المؤرخ أبن الأثير وأحوال صلاح الدين
ثم ذكر ابن الأثير شيئًا عن أحوال صلاح الدين إلى أن قال‏:‏ وتوفي العاضد وجلس صلاح الدين للعزاء واستولى على قصره وجميع ما فيه فكان قد رتب فيه قبل وفاة العاضد بهاء الدين قراقوش وهو خصي يحفظه فحفظ ما فيه حتى تسلمه صلاح الدين ونقل صلاح الدين أهله إلى مكان منفرد ووكل بهم من يحفظهم وجعل أولاده وعمومته وأبناءه في إيوان بالقصر وأخرج من كان فيه من العبيد والإماء فأعتق البعض ووهب البعض وأخلى القصر من سكانه وأهله‏.‏
فسبحان من لا يزول ملكه قال‏:‏ ولما استولى صلاح الدين على القصر وأمواله وذخائره اختار منه ما أراد ووهب أهله وأمراءه وباع منه كثيرًا وكان فيه من الجواهر النفيسة ما لم يكن عند ملك من الملوك‏.‏
قال ابن الأثير‏:‏ ولما وصل الخبر إلى الإمام المستضيئ بأمر الله أبي محمد الحسن بن الإمام المستنجد وهو والد الإمام الناصر لدين الله بما تجدد من أمر مصر وعود الخطبة والسكة بها باسمه بعد انقطاعها بمصر هذه المدة الطويلة عمل أبو الفتح محمد سبط ابن التعاويذي قصيدة طنانة مدح بها المستضيئ وذكر هذا الفتوح المتجدد له وفتوح بلاد اليمن وهلاك الخارجي بها الذي سمى نفسه المهدي‏.‏
وكان صلاح الدين قد أرسل له من ذخائر مصر وأسلاب المصريين شيئًا كثيرًا‏.‏
ثم ذكر ابن الأثير فصلًا في سنة سبع وستين وخمسمائة يتضمن حصول الوحشة بين نور الدين الشهيد وبين صلاح الدين باطنًا فقال‏:‏ ‏"‏ في هذه السنة جرت أمور أوجبت تأثر نور الدين من صلاح الدين ولم يظهر ذلك‏.‏
وكان سببه أن صلاح الدين سار عن مصر في صفر منها إلى بلاد الفرنج ونازل حصن الشوبك وبينه وبين الكرك يوم وحصره وضيق على من به من الفرنج وأدام القتال فطلبوا الأمان واستمهلوه عشرة أيام فأجابهم إلى ذلك‏.‏
فلما سمع نور الدين ما فعله صلاح الدين سار من دمشق قاصدًا بلاد الفرنج ليدخل إليها من جهة أخرى فقيل لصلاح الدين‏:‏ إن دخل نور الدين إلى بلاد الفرنج وهم على هذه الحال - أنت من جانب ونور الدين من جانب - ملكها ومتى زال ملك الفرنج عن الطريق لم يبق لك بديار مصر مقام مع نور الدين ومتى جاء نور الدين إليك وأنت هاهنا فلا بذلك من الاجتماع به وحينئذٍ يكون هو المتحكم فيك إن شاء تركك وإن شاء عزلك ولا تقدر على الامتناع عليه وحينئذ المصلحة الرجوع إلى مصر‏.‏
فرحل عن الشوبك عائدًا إلى مصر ‏"‏ ولم يأخذه من الفرنج ‏"‏‏.‏ وكتب إلى نور الدين يعتذر باختلال الديار المصرية لأمور بلغته عن بعض شيعة العلوي وأنهم عازمون على الوثوب بها وأنه يخاف عليها من البعد عنها أن يقوم أهلها على من تخلف بها‏.‏
فلم يقبل نور الدين هذا الاعتذار منه وتغير عليه وعزم على الدخول إلى مصر وإخراجه عنها‏.‏
وظهر ذلك لصلاح الدين فجمع أهله وفيهم أبوه نجم الدين أيوب وخاله شهاب الدين الحارمي وسائر الأمراء وأعلمهم بما بلغه من عزم نور الدين وحركته إليه فاستشارهم فلم يجبه أحد منهم بكلمة فقام تقي الدين عمر ابن أخيه وقال‏:‏ إذا جاء قاتلناه ومنعناه عن البلاد ووافقه غيره من أهله فشتمهم نجم الدين أيوب وأنكر ذلك واستعظمه وقال لصلاح الدين‏:‏ أنا أبوك وهذا شهاب الدين خالك ونحن أكثر محبة لك من جميع من ترى والله لو رأيت أنا وخالك نور الدين لم يمكنا إلا أن نقبل الأرض بين يديه ولو أمرنا أن نضرب عنقك لفعلنا فإذا كنا نحن هكذا فما ظنك بغيرنا‏!‏ وكل من ترى من الأمراء لو رأى نور الدين وحده لم يتجاسروا من الثبات على سروجهم‏.‏
ثم قال‏:‏ وهذه البلاد له ونحن مماليكه ونوابه فيها فإن أراد غير ذلك سمعنا وأطعنا والرأي أن تكتب إليه وتقول‏:‏ بلغني أنك تريد الحركة لأجل البلاد فأي حاجة إلى هذا‏!‏ يرسل المولى نجابًا يضع في رقبتي منديلًا ويأخذني إليك فما هاهنا من يمتنع عليك وقام الأمراء وتفرقوا‏.‏
فلما خلا نجم الدين أيوب بابنه صلاح الدين قال له‏:‏ يا بني بأي عقل قلت هذا‏!‏ أما علمت أن نور الدين متى سمع عزمنا على منعه ومحاربته جعلنا أهم الوجوه عنده وحينئذ لا نقوى به وإذا بلغه طاعتنا له تركنا واشتغل بغيرنا والأقدار تعمل عملها والله لو أراد نور الدين قصبة من قصب السكر لقاتلته أنا عليها حتى أمنعه أو أقتل‏.‏
ففعل صلاح الدين ما أشار به والده عليه فترك نور الدين قصده واشتغل بغيره فكان الأمر كما ظنه أيوب‏.‏ وتوفي نور الدين ولم يقصده‏.‏ وملك صلاح الدين البلاد وكان هذا من أصوب الآراء وأحسنها‏.‏ انتهى كلام ابن الأثير باختصار‏.‏


قال ابن شداد‏:‏ ولم يزل صلاح الدين في نشر الإحسان وإفاضة النعم على الناس إلى سنة ثمان وستين وخمسمائة فعند ذلك خرج بالعسكر يريد بلاد الكرك والشوبك وإنما بدأ بها لأنها كانت أقرب إليه وكانت على الطريق تمنع من يقصد الديار المصرية وكان لا يمكن أن تعبر قافلة حتى يخرج هو بنفسه يعبرها فأراد توسيع الطريق وتسهيلها فحاصرها في هذه السنة وجرى بينه وبين الفرنج وقعات وعاد إلى مصر ولم يظفر منها بشيء‏.‏
ولما عاد بلغه خبر وفاة والده نجم الدين قبل وصوله إليه‏.‏ قال‏:‏ ولما كانت سنة تسع وستين رأى قوة عسكره وكثرة دمعه وكان بلغه أن باليمن إنسانًا استولى عليها وملك حصونها وكان يسمى عبد النبي بن مهدي فأرسل أخاه توران شاه فقتله وأخذ البلاد منه‏.‏ ثم مات الملك العادل نور الدين محمود صاحب دمشق في سنة تسع وستين وخمسمائة على ما سيأتي ذكره في الوفيات‏.‏
ثم بلغ صلاح الدين أن إنسانًا يقال له الكنز ‏"‏ جمع بأسوان خلقًا كثيرًا من السودان وزعم أنه يعيد الدولة العبيدية المصرية‏.‏
وكان أهل مصر يؤثرون عودهم وانضافوا إليه فسير صلاح الدين إليه جيشًا كثيفًا وجعل مقدمه أخاه الملك العادل فساروا والتقوا به وكسروه في السابع من صفر سنة سبعين وخمسمائة‏.‏ ثم بعد ذلك استقرت له قواعد الملك‏.‏ وكان نور الدين محمود قد خلف ولده الملك الصالح إسماعيل وكان بدمشق عند وفاة أبيه‏.‏ وكان بحلب شمس الدين علي بن الداية وكان ابن الداية حدث نفسه بأمور فسار الملك الصالح من دمشق إلى حلب فوصل إلى ظاهرها في المحرم سنة سبعين ومعه سابق الدين فخرج بدر الدين حسن بن الداية فقبض على سابق الدين‏.‏
ولما دخل الملك الصالح قلعة حلب قبض على شمس الدين علي بن الداية وعلى أخيه بدر الدين حسن المذكور وأودع الثلاثة السجن‏.‏
وفي ذلك اليوم قتل أبو الفضل بن الخشاب لفتنة جرت بحلب وقيل‏:‏ بل قتل قبل القبض على أولاد الداية بيوم لأنهم تولوا تدبير ذلك‏.‏
ثم إن صلاح الدين بعد وفاة نور الدين علم أن ولده الملك الصالح صبي لا يستقل بالأمر ولا ينهض بأعباء الملك واختلفت الأحوال بالشام‏.‏
وكاتب شمس الدين محمد بن عبد الملك بن المقدم صلاح الدين فتجهز صلاح الدين من مصر في جيش كثيف وترك بالقاهرة من يحفظها وقصد دمشق مظهرًا أنه يتولى مصالح الملك الصالح فدخلها بالتسليم في يوم الثلاثاء سلخ شهر ربيع الآخر سنة سبعين وخمسمائة وتسلم قلعتها واجتمع الناس إليه وفرحوا به وانفق في ذلك اليوم مالًا جزيلًا وأظهر السرور بالدمشقيين وصعد القلعة ثم سار إلى حلب ونازل حمص وأخذ مدينتها في أول جمادى الأولى ولم يشتغل بقلعتها وتوجه إلى حلب ونازلها في يوم الجمعة سلخ جمادى الأولى من السنة وهي الوقعة الأولى‏.‏
ثم إن سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل لما أحس بما جرى علم أن الرجل قد استفحل أمره وعظم شأنه فخاف إن غفل عنه استحوذ على البلاد واستقرت قدمه في الملك وتعدى الأمر إليه فأرسل عسكرًا وافرًا وجيشًا عظيمًا وقدم عليه أخاه عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود وساروا يريدون لقاء صلاح الدين نجمة لابن عمه الملك الصالح ابن نور الدين ليردوا صلاح الدين عن البلاد‏.‏
فلما علم صلاح الدين ذلك رحل من حلب في مستهل رجب من السنة عائدًا إلى حماة ثم رجع إلى حمص وأخذ قلعتها‏.‏
ووصل عز الدين مسعود إلى حلب وأخذ معه عسكر ابن عمه الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود وهو صاحب حلب يومئذ وخرجوا في جمع عظيم وما علم صلاح الدين بخروجهم حتى وافاهم على قرون حماة فراسلهم وراسلوه واجتهد صلاح الدين على أن يصالحوه فلم يصالحوه فرأى أن ضرب المصاف معهم ربما نالوا به غرضهم والقضاء يجري إلى أموره وهم لا يشعرون فتلاقوا فقضى الله تعالى أنهم انكسروا بين يديه وأسر جماعة منهم فمن عليهم وأطلقهم وذلك في تاسع عشر شهر رمضان من السنة عند قرون حماة‏.‏
ثم سار صلاح الدين عقيب كسرتهم ونزل على حلب وهي الدفعة الثانية فصالحوه على المعرة وكفر طاب وبارين‏.‏
ولما جرت هذه الواقعة كان سيف الدين غازي محاصرًا أخاه عماد الدين زنكي صاحب سنجار وعزم على أخذها منه لأنه كان قد انتمى إلى صلاح الدين وكان قد قارب أخذها‏.‏
فلما بلغه خبر هذه الواقعة وأن عسكره انكسر من صلاح الدين على قرون حماة خاف أن يبلغ أخاه عماد الدين الخبر فيشتد أمره ويقوى جأشه فراسله وصالحه‏.‏
ثم سار غازي من وقته إلى نصيبين واهتم بجمع العساكر والإنفاق فيها وسار إلى الفرات وعبر البيرة وخيم على الجانب الشامي وراسل ابن عمه الملك الصالح ابن الملك العادل نور الدين صاحب حلب حتى تستقر له قاعدة يصل إليها‏.‏
ثم إنه وصل إلى حلب وخرج ابن عمه الملك الصالح صاحب حلب إلى لقائه وأقام غازي على حلب مدة وصعد قلعتها جريدة ثم نزل وسار إلى تل السلطان وهي منزلة بين حلب وحماة ومعه جمع كبير‏.‏
وأرسل صلاح الدين إلى مصر وطلب عسكرها فوصل إليه منها جمع كبير فسار بهم صلاح الدين حتى نزل قرون حماة ثانيًا‏.‏ وتصافوا بكرة يوم الخميس العاشر من شوال سنة إحدى وسبعين وخمسمائة وجرى قتال عظيم وانكسرت ميسرة صلاح الدين من مظفر الدين بن زين الدين صاحب إربل فإنه كان على ميمنة سيف الدين غازي فحمل صلاح الدين بنفسه على عسكر سيف الدين غازي حملة شديدة فانكسر القوم وأسر منهم جماعة من كبار الأمراء فمن عليهم صلاح الدين وأطلقهم‏.‏
وعاد سيف الذين غازي إلى حلب فأخذ منها خزائنه وسار حتى عبر الفرات وترك ابن عمه الملك الصالح صاحب حلب بها وعاد إلى بلاده‏.‏
ومنع صلاح الدين من تتبع القوم ونزل في بقية اليوم في خيامهم فإنهم تركوا أثقالهم وانهزموا وفرق صلاح الدين الأطلاب ووهب الخزائن وأعطى خيمة سيف الدين غازي لابن أخيه عز الدين فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب أخي تقي الدين عمر صاحب حماة وكان فرخشاه صاحب بعلبك‏.‏
ثم سار صلاح الدين إلى منبج فتسلمها ثم سار إلى قلعة عزاز وحاصرها في رابع في القعدة سنة إحدى وسبعين وخمسمائة‏.‏
الإسماعيلية / الحشاشين يحاولون قتل صلاح الدين الأيوبى
وبينما صلاح الدين بها وثب عليه جماعة من الإسماعيلية ‏"‏ أعني الفداوية ‏"‏ فنجاه الله منهم وظفر بهم‏.‏ وأقام عليها حتى أخذها في رابع عشر ذي الحجة من السنة‏.‏
ثم سار فنزل على حلب في سادس عشر ذي الحجة وأقام عليها مدة‏.‏ ثم رحل عنها بعد أن أخرجوا له ابنةً صغيرةً لنور الدين محمود فسألته عزاز فوهبها لها‏.‏
ثم عاد صلاح الدين إلى مصر ليتفقد أحوالها وكان مسيره إليها في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة وكان أخوه شمس الدولة توران شاه بن أيوب قد وصل إليه من اليمن فاستخلفه بدمشق‏.‏
ثم بعد ذلك تأهب صلاح الدين للغزاة وخرج يطلب الساحل حتى وافى الفرنج على الرملة وذلك في أوائل جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة وكانت الكسرة على المسلمين في ذلك الوقت ولما انهزموا لم يكن لهم حصن قريب يأوون إليه فطلبوا جهة الديار المصرية وضلوا في الطريق وتبددوا وأسر منهم جماعة‏:‏ منهم الفقيه عيسى الهكاري‏.‏
وكان ذلك وهنًا عظيمًا جبره الله ووصل صلاح الدين إلى مصر ولم شعثه وشعث أصحابه من أثر كسرة الرملة ثم بلغه تخبط الشام فعاد إليه واهتم بالغزاة فوصله رسول صاحب الروم يلتمس الصلح ويتضرر من الأرمن فعزم على قصد بلاد ابن لاون يعني بلاد سيس الفاصلة بين حلب والروم من جهة الساحل لينصر قليج أرسلان عليه فتوجه صلاح الدين إليه واستدعى عسكر حلب لأنه كان في الصلح متى استدعاه حضر إليه يعني صلح صلاح الدين مع الملك الصالح صاحب حلب‏.‏
ثم دخل صلاح الدين بلاد ابن لاون وأخذ في طريقه حصنًا وأخربه ورغبوا إليه في الصلح فصالحهم ورجع عنهم‏.‏
ثم سأله قليج أرسلان في صلح الشرقيين بأسرهم يعني سيف الدين غازي وإخوته فأجاب إلى ذلك صلاح الدين وحلف في عاشر جمادى الأولى سنة ست وسبعين وخمسمائة ودخل في الصلح قليج أرسلان والمواصلة‏.‏
ثم عاد صلاح الدين بعد تمام الصلح إلى دمشق ثم منها إلى مصر‏.‏
فورد عليه الخبر بموت الملك الصالح ابن الملك العادل نور الدين محمود الشهيد بعد أن استحلف أمراء حلب وأجنادها قبل موته لابن عمه عز الدين مسعود صاحب الموصل وهو ابن عم قطب الدين مودود‏.‏
ولما بلغ عز الدين مسعودًا خبر موت ابن عمه الملك الصالح المذكور وأنه أوصى له بحلب بالحر إلى التوجه إليها خوفًا أن يسبقه صلاح الدين إليها فأخذها‏.‏ وكان أول قادم إليها مظفر الدين بن زين الدين صاحب إربل وكان إذ ذاك صاحب حران وهو مضاف إلى الموصل ووصلها مظفر الدين المذكور في ثالث شعبان من سنة سبع وسبعين‏.‏
وفي العشرين منه وصلها عز الدين مسعود وطلع إلى القلعة واستولى على ما فيها من الحواصل وتزوج بأم الملك الصالح في الخامس من شوال من السنة‏.‏ قال‏:‏ وحاصل الأمر أن عز الدين مسعودًا قايض أخاه عماد الدين زنكي صاحب سنجار عن حلب بسنجار وخرج عز الدين من حلب ودخلها عماد الدين زنكي فلما بلغ صلاح الدين ذلك توجه إليه وحاصره فلم يقدر عماد الدين على حفظ حلب وكان نزول صلاح الدين على حلب في السادس والعشرين من المحرم سنة سبع وسبعين وخمسمائة‏.‏
فتحدث عماد الدين زنكي مع الأمير حسام الدين طمان بن غازي في السر بما يفعله فأشار عليه أن يطلب من صلاح الدين بلادًا وينزل له عن حلب بشرط أن يكون له جميع ما في القلعة من الأموال فقال له عماد الدين‏:‏ وهذا كان في نفسي‏.‏
ثم اجتمع حسام الدين طمان بن غازي مع صلاح الدين في السر على تقرير القاعدة لذلك فأجابه صلاح الدين إلى ما طلب ووقع له بسنجار وخابور ونصيبين وسروج ووقع لطمان المذكور بالرقة لسفارته بينهما وحلف صلاح الدين على ذلك في سابع عشر صفر من السنة وكان صلاح الدين قد نزل قبل تاريخه على سنجار وأخذها في ثامن شهر رمضان من سنة ثمان وسبعين وأعطاها لابن أخيه تقي الدين عمر فلما جرى الصلح على هذا أخذها من عمر وأعطاها لعماد الدين المذكور‏.‏
وتسلم صلاح الدين قلعة حلب وصعد إليها في يوم الاثنين السابع والعشرين من صفر سنة تسع وسبعين وخمسمائة وأقام بها حتى رتب أمورها ثم رحل عنها في الثاني والعشرين من شهر ربيع الأخر من السنة وجعل فيها ولده الملك الظاهر وكان صبيًا وولى القلعة لسيف الدين يازكوج الأسدي وجعله يرتب مصالح ولده‏.‏
ثم سار صلاح الدين إلى دمشق وتوجه من دمشق لقصد محاصرة الكرك في الثالث من رجب من السنة وسير إلى أخيه الملك العادل وهو بمصر يستدعيه ليجتمع به على الكرك فسار إليه الملك العادل أبو بكر بجمع عظيم وجيش كبير واجتمع به على الكرك في رابع شعبان فلما بلغ الفرنج نزوله على الكرك حشدوا خلقًا عظيمًا وجاؤوا إلى الكرك ليكونوا من خارج قبالة عسكر المسلمين فخاف صلاح الدين على الديار المصرية فسير إليها ابن أخيه تقي الدين عمر ثم رحل صلاح الدين عن الكرك في سادس عشر شعبان من السنة واستصحب أخاه الملك العادل معه ودخل دمشق في الرابع والعشرين من شعبان من السنة وأعطى أخاه العادل حلب فتوجه إليها العادل ودخلها يوم الجمعة الثاني والعشرين من شهر رمضان من السنة‏.‏
وخرج الملك الظاهر ويازكوج من حلب ودخلا دمشق يوم الاثنين الثامن والعشرين من شوال من السنة‏.‏ 

واقعــــــــــة حطين

المباركة على المسلمين وكانت في يوم السبت رابع عشر شهر ربيع الأخر سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة في وسط نهار الجمعة‏.‏

وكان صلاح الدين كثيرًا ما يقصد لقاء العدو في يوم الجمعة عند الصلاة تبركًا بدعاء المسلمين والخطباء على المنابر فسار في ذلك الوقت واجتمع له من العساكر الإسلامية عدد يفوت الحصر وكان قد بلغه أن العدو اجتمع في عدة كثيرة بمرج صفورية بأرض عكا عندما بلغهم اجتماع العساكر الإسلامية فسار صلاح الدين ونزل على طبرية على سطح الجبل ينتظر قصد الفرنج فلما بلغهم نزوله في الموضع المذكور لم يتحركوا ولا خرجوا من منزلتهم وكان نزولهم في الموضع المذكور يوم الأربعاء الحادي والعشرين من شهر ربيع الآخر فلما رآهم لا يتحركون نزل جريدة على طبرية وترك الأطلاب على حالها قبالة العدو ونزل طبرية وهاجمها وأخذها في ساعة واحدة وانتهب الناس ما فيها وأخذوا في القتل والسبي والحريق وبقيت القلعة ممتنعة بمن فيها‏.‏

ولما بلغ العدو ما جرى في طبرية قلقوا لذلك ورحلوا نحوها فبلغ السلطان صلاح الدين ذلك فترك على طبرية من يحاصرها ولحق بالعسكر والتقى بالعدو على سطح جبل طبرية الغربي منها وذلك في يوم الخميس الثاني والعشرين من شهر ربيع الآخر فحال الليل بين العسكرين فناما على المصاف إلى بكرة يوم الجمعة الثالث والعشرين منه فركب العسكران وتصادما والتحم القتال واشتد الأمر ودام القتال حتى لم يبق إلا الظفر فحال الليل بينهم وناما على المصاف وتحقق المسلمون أن من ورائهم الأردن ومن بين أيديهم بلاد العدو وأنهم لا ينجيهم إلا القتال والجهاد‏.‏

وأصبحوا من الغد فحملت أطلاب المسلمين من جميع الجوانب وحمل القلب وصاحوا صيحة رجل واحد‏:‏ الله أكبر وألقى الله الرعب في قلوب الكافرين وكان حقًا عليه نصر المؤمنين‏.‏

ولما أحس الملك القومص بالخذلان هرب في أوائل الأمر و قصد جهة صور فتبعه جماعة من المسلمين فنجا منهم وأحاط المسلمون بالكافرين من كل جانب وأطلقوا عليهم السهام وحملوا عليهم بالسيوف وسقوهم كأس الحمام وانهزمت طائفة منهم فتبعهم المسلمون يقتلونهم واعتصمت طائفة منهم بتل يقال له‏:‏ تل حطين وهي قرية عندها قبر النبي شعيب عليه السلام فضايقهم المسلمون وأشعلوا حولهم النيران واشتد بهم العطش فاستسلموا للأسر خوفًا من القتل فأسر مقدموهم وقتل الباقون وكان ممن أسر من مقدميهم الملك جفري وأخوه الملك والبرنس أرناط صاحب الكرك والشوبك وابن الهنفري وابن صاحب طبرية أو مقدم الديوية قال ابن شداد‏:‏ لقد حكى لي من أثق به أنه رأى بحوران شخصًا واحدًا ومعه نيف وثلاثون أسيرًا ربطهم بطنب خيمة لما وقع عليهم من الخذلان‏.‏
ثم إن الملك القومص الذي هرب في أول الوقعة وصل إلى طرابلس وأصابه ذات الجنب فهلك‏.‏
وأما مقدم الأسبتار والذيوية فإنه قتلهما السلطان صلاح الدين وقتل من بقي من أصحابهما حيًا وأما البرنس أرناط فإن السلطان كان نذر أنه إن ظفر به قتله وذلك أنه كان عبر إليه بالشوبك قوم من الديار المصرية في حال الصلح فغدر بهم وقتلهم فناشدوه الصلح الذي بينه وبين السلطان فقال ما يتضمن الاستخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم وبلغ ذلك السلطان فحملته حمية دينه على أن أهدر دمه‏.‏
ولما فتح الله عليه بالنصر جلس بالدهليز يعني الخيمة فإنها لم تكن نصبت بعد لشغل السلطان بالجهاد وعرضت عليه الأسارى وصار الناس يتقربون إليه بما في أيديهم منهم وهو فرح بما فتح الله عليه وأشخص الملك جفري وأخاه والبرنس أرناط وناول السلطان الملك جفري شربة من جلاب وثلج فشرب منها وكان على أشد حال من العطش ثم ناولها للبرنس ثم قال السلطان للترجمان‏:‏ قل للملك أنت الذي سقيته وإلا أنا فما سقيته فإنه كان من جميل عادة العرب وكريم أخلاقهم أن الأسير إذا أكل أو شرب من مال من أسره أمن فلذا قال السلطان لترجمان‏:‏ أنت الذي سقيته‏.‏
ثم أمر السلطان بمسيرهم إلى موضع عينه لهم فأكلوا شيئًا ثم عادوا بهم ولم يبق عند السلطان سوى بعض الخدم فاستحضرهم وأقعد الملك في دهليز الخيمة فطلب البرنس أرناط وأوقفه بين يديه وقال له‏:‏ ها أنا أنتصر لمحمد منك‏.‏
ثم عرض عليه الإسلام فلم يفعل فسل النيمجاة فضربه بها فحل كتفه وتمم قتله من حضر وأخرجت جثته فرميت على باب الخيمة فلما رآها الملك جفري لم يشك أنه يلحقه به فاستحضره السلطان وطيب قلبه وقال له‏:‏ لم تجر عادة الملوك أن يقتلوا الملوك إلا أن هذا تجاوز الحد وتجرأ على الأنبياء صلوات الله عليهم ثم أمره بالانصراف‏.‏ وبات الناس تلك الليلة على أتم سرور‏.‏
وفي هذه الواقعة يقول العماد الكاتب قصيدة طنانة منها‏:‏ حططت على حطين قدر ملوكهم ولم تبق من أجناس كفرهم جنسا بطون ذئاب الأرض صارت قبورهم ولم ترض أرض أن تكون لهم رمسا وقد طاب ربانا على طبرية فيا طيبها ريا ويا حسنها مرسى وقال ابن الساعاتي قصيدة أخرى عظيمة في هذا الفتح أولها‏:‏ جلت عزماتك الفتح المبينا فقد قرت عيون المؤمنينا ثم رحل السلطان بعد أن تسلم طبرية ونزل على عكا في يوم الأربعاء سلخ شهر ربيع الآخر وقاتلها بكرة يوم الخميس مستهل جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة وأخذها واستنقذ من كان فيها من أسارى المسلمين وكانوا أكثر من أربعة آلاف أسير واستولى على ما كان فيها من الأموال والذخائر والبضائع لأنها كانت مظنة التجار وتفرقت العساكر في بلاد الساحل يأخذون الحصون والقلاع‏.‏
ثم سار السلطان من عكا ونزل على تبنين يوم الأحد حادي عشر جمادى الأولى وهي قلعة منيعة فحاصرها حتى أخذها في يوم الأحد ثامن عشر جمادى الأولى المذكور عنوة‏.‏ ثم رحل عنها إلى صيدا فنزل عليها وتسلمها في غد يوم نزوله عليها‏.‏
ثم رحل عنها وأتى بيروت فنازلها يوم الخميس الثاني والعشرين من جمادى الأولى حتى أخذها في يوم الخميس تاسع عشرين جمادى الأولى‏.‏
ولما فرغ باله من هذا رأى قصد عسقلان ولم ير الاشتغال بصور بعد أن نزل عليها ثم رأى أن العسكر تفرق في الساحل وكانوا قد ضرسوا من القتال وكان قد اجتمع بصور من بقي من الفرنج فرأى أن فصلى عسقلان أولى لأنها أيسر من صور فأتى عسقلان ونزل عليها يوم الأحد سادس عشر جمادى الآخرة‏.‏
وأقام عليها إلى أن تسلم أصحابه مدينة غزة وبيت جبريل والنطرون من غير قتال وكان بين فتح عسقلان وأخذ الفرنج لها ثانيًا من المسلمين خمس وثلاثون ولما تسلم السلطان عسقلان والبلاد المحيطة بالقدس شمر عن ساق الجد والاجتهاد في قصد القدس المبارك واجتمع عليه العساكر التي كانت متفرقة في الساحل فسار بهم نحو القدس معتمدًا على الله تعالى مفوضًا أمره إليه منتهزًا الفرصة في فتح باب الخير الذي حث على انتهازه بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من فتح له باب خير فلينتهزه فإنه لا يعلم متى يغلق دونه ‏"‏‏.‏
وكان نزول السلطان على القدس في يوم الأحد الخامس عشر من شهر رجب سنة ثلاث وثمانين المذكورة ونزل بالجانب الغربي وكان مشحونًا بالمقاتلة من الخيالة والرجالة حتى إنه حزر أهل الخبرة فمن كان مع السلطان من كان فيه من المقاتلة فكانوا يزيدون على ستين ألفًا خارجًا عن النساء والصبيان ثم انتقل السلطان لمصلحة رآها إلى الجانب الشمالي في يوم الجمعة العشرين من رجب ونصب عليها المجانيق وضايق البلد بالزحف والقتال حتى أخذ النقب في السور مما يلي وادي جهم ولما رأى العدو ما نزل بهم من الأمر الذي لا مدفع لهم عنه وظهرت لهم أمارات فتح المدينة وظهور المسلمين عليهم وكان قد اشتد روعهم لما جرى على أبطالهم ما جرى فاستكانوا إلى طلب الأمان وسلموا المدينة في يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب وليلته كانت ليلة المعراج المنصوص عليها في القرآن الكريم‏.‏
فانظر إلى هذا الاتفاق العظيم كيف يسر الله تعالى عوده إلى المسلمين في مثل زمان الإسراء بنبيهم صلى الله عليه وسلم‏.‏
قال‏:‏ وكان فتحًا عظيمًا شهده من العلماء خلق ومن أرباب الحرب والزهد عالم كثير وارتفعت الأصوات بالضجيج بالدعاء والتهليل والتكبير وصفيت فيه الجمعة يوم فتحه ونكس الصليب الذي كان على قبة الصخرة وكان الصليب شكلًا عظيمًا ونصر الله الإسلام‏.‏
الإستيلاء على أورشليم
وكان الفرنج قد استولوا على القدس - بعد فتحه الأول في زمن عمر - في يوم الجمعة الثالث والعشرين من شعبان سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة وقيل‏:‏ في ثاني شعبان وقيل يوم الجمعة السادس والعشرين من شهر رمضان من السنة أعني سنة اثنتين وتسعين وذلك كان في خلافة المستعلي أبي القاسم أحد خلفاء مصر من بني عبيد وكان من وزارة بدر الجمالي بديار مصر‏.‏
قلت‏:‏ وعلى هذا الحساب يكون القدس أقام بيد الفرنج نيفًا وتسعين سنة من يوم أخفوه في خلافة المستعلي إلى أن فتحه السلطان صلاح الدين في هذه المرة ثانيًا‏.‏
قال ابن شداد‏:‏ وكانت قاعدة الصلح أنهم قطعوا على أنفسهم عن كل رجل عشرين دينارًا وعن كل امرأة خمسة دنانير صورية وعن كل صغير ذكر أو أنثى دينارًا واحدًا فمن أحضر قطيعته نجا بنفسه وإلا أخذ أسيرًا وأفرج عمن كان بالقدس من أسارى المسلمين وكانوا خلقًا عظيمًا‏.‏
وأقام السلطان بالقدس يجمع الأموال ويفرقها على الأمراء والرجال ثم رسم بإيصال من قام بقطيعته من الفرنج إلى مأمنه وهي مدينة صور فلم يرحل السلطان من القدس ومعه من المال الذي جبي شيء وكان يقارب مائتي ألف دينار أو عشرين ألفًا‏.‏
ولما فتح القدس حسن عنده فتح صور وعلم أنه متى أخره عسر عليه فتحه فسار نحوها حتى أتى عكا فنزل عليها ونظر في أمورها ثم رحل عنها متوجهًا إلى صور في يوم الجمعة خامس شهر رمضان من سنة ثلاث وثمانين المذكورة فنزل قريبًا منها وأرسل لإحضار آلات القتال حتى تكاملت عنده نزل عليها في ثاني عشر الشهر المذكور وقاتل أهلها قتالًا شديدًا وضايقها واستدعى أسطول مصر وكان السلطان يضايقها في البر والبحر ثم سير من حاصر هونين فسلمت في الثالث والعشرين من شوال من السنة وخرج أسطول صور في الليل فكبس أسطول المسلمين في البحر وأخذوا المقدم والرئيس وخمس قطع للمسلمين وقتلوا خلقًا كثيرًا من الرجال وذلك في السابع والعشرين من الشهر المذكور وعظم ذلك على السلطان وضاق صدره وكان الشتاء قد هجم وتراكمت الأمطار وامتنع الناس من القتال لكثرة الأمطار فجمع السلطان الأمراء واستشارهم فيما يفعل فأشاروا عليه بالرحيل لتستريح الرجال فرحل عنها في يوم الأحد ثاني في القعدة وتفرقت العساكر وأعطى كل طائفة منها دستورًا فسار كل قوم إلى بلادهم وأقام هو في جماعة من خواضه بمدينة عكا إلى أن دخلت سنة أربع وثمانين وخمسمائة‏.‏
فرحل ونزل على كوكب في أول المحرم ولم يبق معه من العسكر إلا القليل وكان كوكب حصنًا حصينًا فيه الرجال و الأقوات فعلم السلطان أنه لا يؤخذ إلا بقتال شديد‏.‏
فرحل إلى دمشق فدخلها في سادس عشرين شهر ربيع الأول من السنة وأقام بدمشق خمسة أيام‏.‏
وبلغه أن الفرنج قصدوا جبلة واغتالوها فخرج مسرعًا وقد سير يستدعي العساكر من جميع البلاد وسار يطلب جبلة فلما علم الفرنج بخروجه كفوا عن ذلك‏.‏
وكان السلطان بلغه وصول عماد الدين صاحب سنجار ومظفر الدين بن زين الدين صاحب إربل وعسكر الموصل إلى حلب قاصدين خدمته والغزاة معه فسار السلطان نحو حصن الأكراد حتى اجتمع بالمذكورين وتقوى بهم للغاية لما‏.‏ انتهى كلام ابن شداد‏.‏
وقال القاضي شمس الدين بن خلكان‏:‏ ‏"‏ وفي يوم الجمعة رابع جمادى الأولى دخل السلطان يعني صلاح الدين بلاد العدو على تعبئة حسنة ورتب الأطلاب وسارت الميمنة أولًا ومقدمها عماد الدين زنكي والقلب في الوسط والميسرة في الأخير ومقدم الميسرة مظفر الدين بن زين الدين صاحب أربل فوصل إلى أنطرسوس يوم الأحد سادس جمادى الأولى فوقف قبالتها ينظر إليها فإن قصده كان جبلة فاستهان أمرها وعزم على قتالها فسير من رد الميمنة وأمرها بالنزول إلى جانب البحر والميسرة على الجانب الآخر ونزل هو موضعه والعساكر محدقة بها من البحر إلى البحرة وهي مدينة راكبة على البحر ولها برجان فركبوا وقاربوا البلد وزحفوا عليها واشتد القتال فما استتم نصب الخيام حتى صعد المسلمون سورها وأخفوها بالسيف وغنم المسلمون جميع ما فيها وأحرق البلد وأقام عليها إلى رابع عشر جمادى الأولى وسلم أحد البرجين إلى مظفر الدين فما زال يحاربه حتى أخربه‏.‏ وحضر إلى السلطان ولده الملك الظاهر بعساكر حلب لأنه كان طلبه فجاء بعساكر عظيمة‏.‏
ثم سار السلطان يريد جبلة فوصلها في ثاني عشر جمادى الأولى وما استتم نزول العسكر عليها حتى أخذت البلد وكان فيه مسلمون مقيمون وقاض يحكم بينهم وقوتلت القلعة قتالًا شديدًا ثم سلمت بالأمان في يوم السبت تاسع عشر جمادى الأولى من السنة‏.‏
ثم سار السلطان عنها إلى اللاذقية فنزل عليها يوم الخميس الرابع والعشرين من جمادى الأولى ولها قلعتان يعني اللاذقية متصلتان على تل مشرف على البلد واشتد القتال إلى آخر النهار فأخذ البلد دون القلعتين وغنم المسلمون منه غنيمة عظيمة لأنه كان بلد التجار ثم جدوا في أمر القلعتين بالنقوب حتى بلغ طول النقب ستين ذراعًا وعرضه أربع أذرع‏.‏
فلما رأى أهل القلعتين الغلبة لاذوا بطلب الأمان وذلك في عشية يوم الجمعة الخامس والعشرين من الشهر والتمسوا الصلح على سلامة أنفسهم وذراريهم ونسائهم وأموالهم ما خلا الغلال والذخائر والسلاح وآلات الحرب فأجاب السلطان إلى ذلك ورفع العلم الإسلامي عليها في يوم السبت وأقام عليها إلى يوم الأحد السابع والعشرين من الشهر‏.‏
ثم رحل عنها ونزل صهيون وقاتلهم أشذ قتال حتى أخذ البلد يوم ثاني عشر جمادى الآخرة ثم قدموا إلى القلعة وصدقوا القتال فلما عاينوا الهلاك طلبوا الأمان فأجابهم إليه بحيث يؤخذ من الرجل عشرة دنانير ومن المرأة خمسة دنانير ومن كل صغير ديناران الذكر والأنثى سواء‏.‏
وأقام السلطان صلاح الدين بهذه الجهات حتى أخذ عمة قلاع منها بلاطنس وغيرها من الحصون المتعلقة بصهيون‏.‏
ثم رحل عنها وأتى بكاس وهي قلعة حصينة على العاصي ولها نهر يخرج من تحتها وكان النزول عليها في يوم الثلاثاء سادس عشر جمادى الآخرة وقاتلوها قتالًا شديدًا إلى يوم الجمعة تاسع الشهر ففتحها عنوة فقتل أكثر من بها وأسر الباقون وغنم المسلمون جميع ما كان فيها ولها قلعة تسمى الشغر وهي في غاية المنعة يعبر إليها بجسر وليس عليها طريق فسلطت المجانيق عليها من جميع الجوانب فرأوا أن لا ناصر لهم فطلبوا الأمان في يوم الثلاثاء ثالث عشر الشهر‏.‏
ثم سار السلطان إلى برزيه وهي أيضًا من الحصون المنيعة في غاية القوة يضرب بها المثل ويحيط بها أودية من جميع جوانبها وعلوها خمسمائة ونيف وسبعون ذراعًا وكان نزوله عليها يوم السبت الرابع والعشرين من الشهر فقاتلوها حتى أخذوها عنوة في يوم الثلاثاء السابع والعشرين منه‏.‏
ثم سار السلطان إلى دربساك فنزل عليها يوم الجمعة ثامن رجب وهي قلعة منيعة فقاتلها قتالًا شديدًا حتى أخذها وترقى العلم الإسلامي عليها يوم الجمعة الثاني والعشرين من رجب وأعطاها للأمير علم الدين سليمان بن جندر‏.‏
وسار عنها بكرة يوم السبت الثالث والعشرين من رجب ونزل على بغراس وهي قلعة حصينة بالقرب من أنطاكية وقاتلها قتالًا شديدًا حتى صعد العلم الإسلامي عليها في ثاني شعبان فراسله أهل أنطاكية في طلب الصلح فصالحهم لشدة ضجر العسكرة فكان الصلح بينهم على أن يطلقوا كل أسير عندهم لا غير والصلح إلى سبعة أشهر فإن جاءهم من ينصرهم وإلا سلموا البلد‏.‏
ثم رحل السلطان فسأله ولده الملك الظاهر صاحب حلب أن يجتاز به فأجابه إلى ذلك فوصل إلى حلب في حادي عشر شعبان وأقام بالقلعة ثلاثة أيام وولده يقوم بالضيافة حق القيام‏.‏
ثم سار من حلب فاعترضه تقي الدين عمر ابن أخيه وأصعده إلى قلعة حماة وصنع له طعامًا وأحضر له سماعًا من جنس ما يعمل الصوفية وبات فيها ليلة واحدة وأعطاه السلطان جبلة واللاذقية‏.‏
ثم سار السلطان على طريق بعلبك ودخل دمشق قبل شهر رمضان بأيام يسيرة‏.‏
ثم سار في أوائل شهر رمضان يريد صفد فنزل عليها ولم يزل القتال عمالًا في كل يوم حتى تسلمها بالأمان في رابع عشر شوال‏.‏
وفي شهر رمضان المذكور سلمت الكرك سلمها نواب صاحبها وخلصوا صاحبها بذلك فإنه كان في الأسر من نوبة حطين‏.‏
ثم نزل السلطان بالغور وأقام بقية الشهر فأعطى الجماعة دستورًا‏.‏
وسار السلطان مع أخيه العادل يريد زيارة القدس ووداع أخيه العادل المذكور لأن العادل المذكور كان متوجهًا إلى مصر فدخل السلطان القدس في ثامن ذي الحجة وصلى به العيد‏.‏
وتوجه في حادي عشر ذي الحجة إلى عسقلان لينظر في أمورها فتوجه إليها وأخذها من أخيه وعوضه عنها الكرك‏.‏ ثم مر على بلاد الساحل يتفقد أحوالها‏.‏
ثم سار فدخل عكا وأقام بها معظم المحرم من سنة خمس وثمانين وخمسمائة يصلح أحوالها ورتب فيها الأمير بهاء ودخل السلطان دمشق في مستهل صفر من السنة وأقام بها إلى شهر ربيع الأول من السنة‏.‏
ثم خرج إلى شقيف أرنون وهو موضع حصين فخيم في مرج عيون بالقرب من الشقيف في سابع عشرين شهر ربيع الأول فأقام أيامًا على قتاله والعسكر تتواصل إليه فلما تحقق صاحب الشقيف أنه لا طاقة له به نزل إليه بنفسه فلم يشعر به إلا وهو قائم على باب خيمته فأذن له في الدخول وأكرمه السلطان واحترمه وكان من أكبر الفرنج قدرًا وكان يعرف بالعربية وعنده اطلاع على بعض التواريخ والأحاديث وكان حسن التأتي لما حضر بين يدي السلطان وأكل معه الطعام ثم خلا به وذكر أنه مملوكه وتحت طاعته وأنه يسلم إليه المكان من غير تعب واشترط عليه أن يعطى موضعًا يسكنه بدمشق فإنه بعد ذلك لا يقدر على مساكنة الفرنج وإقطاعًا بدمشق يقوم به وبأهله وشروطًا غير ذلك فأجابه إلى ذلك‏.‏
وفي أثناء شهر ربيع الأول وصل إلى السلطان الخبر بتسليم الشوبك وكان قد أقام عليه جمعًا يحاصرونه مدة كاملة إلى أن نفد زاد من كان فيه فسلموه بالأمان‏.‏
ثم ظهر للسلطان بعد ذلك أن جميع ما قاله صاحب شقيف كان خديعة فرسم عليه‏.‏
ثم بلغه أن الفرنج قصدوا عكا ونزلوا عليها في ثالث عشر شهر رجب من سنة خمس وثمانين المذكورة‏.‏ وفي ذلك اليوم سير السلطان صاحب الشقيف إلى دمشق بعد الإهانة الشديدة‏.‏
ثم سار السلطان وأتى عكا ودخلها بغتة ليقوي قلوب من بها واستدعى العساكر من كل ناحية وكان العدو مقدار ألفي فارس وثلاثين ألف راجل‏.‏
وتكاثر الفرنج واستفحل أمرهم وأحاطوا بعكا ومنعوا من يدخل إليها ويخرج وذلك في يوم الخميس سلخ رجب فضاق صدر السلطان لذلك ثم اجتهد في فتح الطريق إليها لتستمر السابلة بالميرة والنجدة وشاور الأمراء فاتفقوا على مضايقة العدو لفتح الطريق ففعلوا ذلك وانفتح الطريق وسلكه المسلمون ودخل السلطان عكا فأشرف على أمورها ثم جرى بين الفريقين مناوشات في عدة أيام وتأخر الناس إلى تل العياضية وهو مشرف على عكا‏.‏
قال ابن خلكان‏:‏ قال شيخنا ابن شداد‏:‏ وسمعت السلطان ينشد - وقد قيل له إن الوخم قد عظم بعكا وان الموت قد فشا بين الطائفتين -‏:‏ اقتلاني ومالكًا واقتلا مالكًا معي - قلت‏:‏ وهذا الشعر له سبب ذكرناه في ترجمة الأشتر النخعي اسمه مالك في أوائل هذا الكتاب فإنه ملك مصر وكان الأشتر من أصحاب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - والحكاية مطولة تنظر في ترجمة مالك أعني الأشتر النخعي من هذا الكتاب‏.‏
قال ابن شداد‏:‏ ثم إن الفرنج جاءهم الإمداد من البحر واستظهروا على الجماعة الإسلامية بعكا وكان فيهم الأمير سيف الدين علي بن أحمد الهكاري المعروف بالمشطوب والأمير بهاء الدين قراقوش الخادم الصلاحي وضايقوهم أشد مضايقة إلى أن غلبوا عن حفظ البلد‏.‏
فلما كان يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة أسنة سبع وثمانين وخمسمائة خرج من عكا رجل عوام في البحر ومعه كتب إلى السلطان من المسلمين يذكرون حالهم وما هم فيه وأنهم تيقنوا الهلاك ومتى أخذوا البلد عنوة ضربت رقابهم وأنهم صالحوا على أن يسلموا البلد وجميع ما فيه من الآلات والأسلحة والمراكب ومائتي ألف دينار وخمسمائة أسير مجاهيل ومائة أسير معينين من جماعتهم وصليب الصلبوت على أن يخرجوا بأنفسهم سالمين وما معهم من الأموال والأقمشة المختصة بهم وفراريهم ونسائهم وضمنوا للمركيس - لأنه كان الواسطة في هذا الأمر - أربعة آلاف دينار‏.‏
فلما وقف السلطان على الكتب المشار إليها أنكر ذلك إنكارًا عظيمًا وعظم عليه هذا الأمر وجمع أهل الرأي من أكابر دولته وشاورهم فيما يصنع واضطربت آراؤه وتقسم فكره وتشوش حاله وعزم أن تكتب في تلك الليلة كتب مع الرجل العوام الني قدم عليه بهذا الخبر ينكر المصالحة على هذا الوجه وبينما هو يتردد في هذا فلم يشعر إلا وقد ارتفعت أعلام العدو وصلبانه وناره على سور البلد وذلك في يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة وصاح الفرنج صيحة واحدة وعظمت المصيبة على المسلمين واشتد حزنهم ووقع من الصياح والعويل والبكاء ما لا يذكر‏.‏ ثم خرجت الفرنج بعد أن ملكوا عكا قاصدين عسقلان
ليأخذوها أيضًا من المسلمين وساروا على الساحل والسلطان وعساكره قبالتهم إلى أن وصلوا إلى أرسوف فكان بينهما قتال عظيم ونال المسلمين وهن شديد‏.‏
ثم ساروا على تلك الهيئة تتمة عشر منازل من سيرهم من عكا فأتى السلطان الرملة فأتاه من أخبر بأن القوم على عزم عمارة يافا وتقويتها بالرجال والعدد والآلات فأحضر السلطان أرباب مشورته وشاورهم في أمر عسقلان وهل الصواب خرابها أو بقاؤها فاتفقت آراؤهم أن يبقى الملك العادل في قبالة العدو ويتوجه السلطان بنفسه ويخربها خوفًا من أن يصل العدو إليها ويستولي عليها وهي عامرة ويأخذ بها القدس وينقطع بها طريق مصر وامتنع العسكر من الدخول وخافوا مما جرى على المسلمين بعكا‏.‏

تخريب أورشليم
ورأوا أن حفظ القدس أولى فتعين خرابها من عدة جهات وكان هذا الاجتماع يوم الثلاثاء سابع عشر شعبان من سنة سبع وثمانين وخمسمائة فسار إليها السلطان في سحر يوم الأربعاء ثامن عشر شعبان المذكور‏.‏
قال ابن شداد‏:‏ وتحدث معي في معنى خرابها يعني عسقلان بعد أن تحدث مع ولده الملك الأفضل أيضًا في أمرها ثم قال السلطان‏:‏ لأن أفقد ولدي جميعهم أحب إلي من أن أهم منها حجرًا واحدًا ولكن إذا قضى الله تعالى ذلك وكان فيه مصلحة للمسلمين فما الحيلة في ذلك‏!‏ فلما اتفق الرأي على خرابها أوقع الله ذلك في نفسه وأن المصلحة فيه لعجز المسلمين عن حفظها‏.‏
وشرع في إخرابها في سحر يوم الخميس التاسع عشر من شعبان من السنة المذكورة وقدم السور على الناس وجعل لكل أمير وطائفة من العسكر بدنة معلومة وبرجًا معلومًا يخربه ودخل الناس البلد ووقع فيهم الضجيج والبكاء لفرقة بلدهم وأوطانهم وكان بلدًا خفيفًا على القلب محكم الأسوار عظيم البناء مرغوبًا في سكنه فلحق الناس على خرابه حزن عظيم‏.‏
وشرع أهل البلد في بيع ما لا يقدرون على حمله فباعوا ما يساوي عشرة دراهم بدرهم واحد حتى باعوا اثني عشر طير دجاج بدرهم واختبط أهل البلد وخرجوا بأولادهم وأهليهم إلى الخيم وتشتتوا فذهب منهم قوم إلى مصر وقوم إلى الشام وجرت عليهم أمور عظيمة‏.‏
واجتهد السلطان وأولاده في خراب البلد كي لا يسمع العدو فيسرع إليه فلا يمكن إخرابه وكانت الناس على أصعب حال واشتد تعب الناس مما قاسوه في خرابها‏.‏
وفي تلك الليلة وصل من جانب الملك العادل من حلب من أخبر أن الفرنج تحدثوا معه في الصلح وطلبوا جميع البلاد الساحلية فرأى السلطان أن ذلك مصلحة لما علم من نفوس الناس والعساكر من الضجر من القتال وكثرة ما عليه من الديون فكتب السلطان إلى أخيه الملك العادل يأذن له في ذلك وفوض الأمر إلى رأيه وأصبح السلطان يوم الجمعة وهو مصر على الخراب ويستعجل الناس عليه ويحثهم على العجلة فيه وأباحهم ما في الهري الذي كان مدخرًا للميرة خوفًا من أن يهجم العدو والعجز عن نقله‏.‏
ثم أمر السلطان بإحراق البلد فأضرمت النيران في بيوته ولم يزل الخراب يعمل في البلد إلى سلخ شعبان المذكور ثم أصبح السلطان يوم الاثنين مستهل شهر رمضان أمر ولده الملك الأفضل أن يباشر خراب البلد بنفسه وخواصه‏.‏
قال ابن شداد ولقد رأيته يحمل الخشب بنفسه يعني الملك الأفضل‏.‏
وفي يوم الأربعاء ثالث شهر رمضان أتى السلطان الرملة وأشرف عليها وأمر أيضًا بإحراقها وإخراب قلعتها يعني الرملة فأحرقت قلعتها خوفًا أيضًا من الفرنج‏.‏
وفي يوم السبت ثالث عشر رمضان تأخر السلطان والعسكر إلى جهة الجبل ليتمكن الناس من تسيير دوابهم لإحضار ما يحتاجون إليه‏.‏
ثم شرع السلطان أيضًا في خراب قلعة النطرون وكانت قلعة منيعة فشرع الناس في ذلك‏.‏
الصلــــــــــــح
ثم ذكر ابن شداد فصلًا طويلًا يتضمن الصلح بين الأنكلتير ملك الفرنج وبين السلطان صلاح الدين المذكور إلى أن قال‏:‏ وحاصل الأمر أنه تم الصلح بينهم وكانت الأيمان يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شعبان سنة ثمان وثمانين وخمسمائة ونادى المنادي بانتظام الصلح وأن البلاد الإسلامية والنصرانية واحدة في الأمن والمسالمة فمن شاء من كل طائفة أن يتردد إلى بلاد الطائفة الأخرى من غير خوف ولا محذور فليفعل‏.‏
وكان يومًا مشهودًا نال الطائفتين فيه من السرور ما لا يعلمه إلا الله تعالى وقد علم الله تعالى أن الصلح لم يكن عن مرضاة السلطان لكنه رأى المصلحة في الصلح لسآمة العسكر من القتال ومظاهرتهم للمخالفة‏.‏
وكان مصلحة في علم الله تعالى فإنه اتفقت وفاته بعد الصلح فلو اتفق ذلك في أثناء وقعاته كان الإسلام على خطر‏.‏
ثم إن السلطان أعطى العساكر الوافدة عليه من البلاد البعيدة برسم الغزاة والنجمة دستورًا فساروا عنه‏.‏
وعزم السلطان على الحج لما فرغ باله من هذه الجهة وأمن الناس وتردد المسلمون إلى بلاد الفرنج وجاؤوا هم أيضًا إلى بلاد المسلمين وحملت البضائع والمتاجر إلى البلادة وتوجه السلطان إلى القدس ليتفقد أحواله وتوجه أخوه الملك العادل إلى الكرك وابنه الملك الظاهر إلى حلب وابنه الملك الأفضل إلى دمشق‏.‏
ثم تأهب السلطان إلى المسير إلى الديار المصرية ولم يزل كذلك إلى أن صح عنده سير مركب الانكلتير ملك الفرنج إلى بلاده في مستهل شوال فعند ذلك قوي عزمه على أن يدخل الساحل جريدة يتفقد أحواله وأحوال القلاح البحرية إلى بانياس‏.‏
ثم يدخل دمشق فيقيم بها قليلًا ثم يعود إلى القدس ومنه إلى الديار المصرية‏.‏
قال ابن شداد‏:‏ وأمرني بالمقام بالقدس إلى حين عوده إليه لعمارة بيمارستان أنشأه به وتكميل المدرسة التي أنشأها به وسار ضاحي نهار الخميس السادس من شوال سنة ثمان وثمانين وخمسمائة‏.‏
فلما فرغ السلطان من افتقاد أحوال القلاع وإزاحة خللها دخل دمشق بكرة يوم الأربعاء سادس عشر شوال وفيها أولاده‏:‏ الملك الأفضل والملك الظاهر والملك الظافر مظفر الذين الخضر المعروف بالمشمر وأولاده الصغار وكان السلطان يحب البلد يعني دمشق ويؤثر الإقامة به على سائر البلاد وجلس للناس في بكرة يوم الخميس السابع والعشرين منه وحضروا عنده وبلوا أشواقهم منه وأنشده الشعراء ولم يتخفف عنه أحد من الخاص والعام وأقام ينشر جناح عدله بدمشق إلى أن كان يوم الاثنين مستهل ذي القعدة عمل الملك الأفضل دعوة للملك الظاهر أخيه لأنه لما وصل إلى دمشق وبلغه حركة السلطان أقام بها ليتملى بالنظر إليه ثانيًا‏.‏
ولما عمل الأفضل الدعوة‏!‏ أظهر فيها من الهمم العالية ما يليق بهمته وكان أراد بذلك مجازاته لما خدمه به حين وصوله إلى بلده وحضر الدعوة المذكورة أرباب الدنيا والآخرة وسأل الأفضل والده السلطان في الحضور فحضر جبرًا لقلبه وكان يومًا مشهودًا على ما بلغني‏.‏
قال‏:‏ ولما أصلح الملك العادل الكرك سار قاصدًا الديار الفراتية وأحب أن يدخل دمشق فوصل إليها وخرج السلطان إلى لقائه‏.‏
وأقام يتصيد حول غباغب إلى الكسوة حتى لقي أخاه الملك العادل وسارا جميعًا يتصيدان ثم عادا إلى دمشق فكان دخولهما دمشق آخر نهار يوم الأحد حادي عشرين ذي القعدة سنة ثمانٍ وثمانين وخمسمائة‏.‏

موت صلاح الدين الأيوبى
وأقام السلطان بدمشق يتصيد هو وأخوه الملك العادل وأولاده ويتفرجون في أراضي دمشق وكأنه وجد راحة مما كان فيه من ملازمة التعب والنصب وسهر الليل فكان ذلك كالوداع لأولاده ونسي عزمه إلى مصر وعرضت له أمور أخر وعزمات غير ما تقدم‏.‏
قال ابن شداد‏:‏ ووصلني كتابه إلى القدس يستدعيني لخدمته فخرجت من القدس في يوم الجمعة الثالث والعشرين من المحرم سنة تسع وثمانين وخمسمائة وكان الوصول إلى دمشق يوم الثلاثاء ثاني عشر صفر من السنة‏.‏
وركب السلطان ليتلقى الحاج في يوم الجمعة خامس عشر صفر وكان ذلك آخر ركوبه‏.‏ ولما كانت ليلة السبت وجد كسلًا عظيمًا وما انتصف الليل حتى غشيته حمى صفراوية وكانت في باطنه أكثر مما في ظاهره‏.‏ وأصبح يوم السبت متكسلًا عليه أثر الحمى‏.‏
ولم يظهر ذلك للناس لكن حضرت عنده أنا والقاضي الفاضل فدخل ولده الملك الأفضل وطال جلوسنا عنده وأخذ يشكو قلقه بالليل وطاب له الحديث إلى وقت الظهر ثم انصرفنا وقلوبنا عنده فتقدم إلينا بالحضور على الطعام في خدمة ولده الأفضل ولم يكن للقاضي الفاضل في ذلك عادة فانصرف - ودخلت إلى الإيوان القبلي وقد مد السماط وابنه الملك الأفضل قد جلس موضعه فانصرفت وما كانت لي قوة للجلوس استيحاشًا له‏.‏
وبكى في ذلك اليوم جماعة تفاؤلًا بجلوس ولده الأفضل موضعه‏.‏
ثم أخذ المرض يتزايد به من حينئذ ونحن نلازم التردد له طرفي النهار وكان مرضه في رأسه‏.‏
وكان من أمارات انتهاء العمر غيبة طبيبه الذي كان قد عرف مزاجه سفرًا وحضرًا ورأى الأطباء فصده فقصدوه في الرابع فاشتد مرضه وقلت رطوبات بدنه وكان يغلب على مزاجه اليبس فلم يزل المرض يتزايد به حتى انتهى إلى غاية الضعف‏.‏
واشتد مرضه في السادس والسابع والثامن ولم يزل يتزايد ويغيب فإنه ولما كان التاسع حدثت له غشية وامتنع من تناول المشروب واشتد الخوف في البلد وخاف الناس ونقلوا أقمشتهم من الأسواق وعلا الناس من الكآبة والحزن ما لا يمكن حكايته‏.‏
ولما كان اليوم العاشر من مرضه أيس منه الأطباء‏.‏ ثم شرع ولده الملك الأفضل في تحليف الناس له‏.‏
ثم إنه توفي - إلى رحمة الله تعالى - بعد صلاة الصبح من يوم الأربعاء السابع والعشرين من صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة‏.‏
وكان يوم موته يومًا لم يصب الإسلام والمسلمون بمثله بعد فقد الخلفاء الراشدين - رضى الله عنهم - وغشي القلعة والملك والدنيا وحشة لا يعلمها إلا الله تعالى‏.‏
وبالله لقد كنت أسمع من الناس أنهم يتمنون فداء من يعز عليهم بنفوسهم وكنت أتوهم أن هذا على ضرب من التجوز والترخص إلى ذلك اليوم فإني علمت من نفسي ومن غيري أنه لو قبل الفداء لفدي بالأنفس‏.‏
ثم جلس ولده الملك الأفضل للعزاء وغسله أبو القاسم ضياء الدين عبد الملك بن زيد الدولعي خطيب دمشق وأخرج تابوت السلطان - رحمه الله تعالى - بعد صلاة الظهر مسبحي بثوب فوط فارتفعت الأصوات عند مشاهدته وعظم الضجيج وأخذ الناس في البكاء والعويل وصلوا عليه أرسالًا ثم أعيد إلى داره التي في البستان وهي التي كان متمرضًا بها ودفن في الصفة الغربية منها‏.‏ وكان نزوله في حفرته قريبًا من صلاة العصر‏.‏
ثم ذكر ابن شداد أنه مات ولم يخلف في خزائنه من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهمًا ناصرية وجرمًا واحدًا ذهبًا صوريًا ولم يخلف ملكًا ولا دارًا ولا عقارًا ولا بستانًا ولا قرية ولا مزرعة‏.‏
وفي ساعة موته كتب القاضي الفاضل إلى ولده الملك الظاهر صاحب حلب بطاقة مضمونها‏:‏ ‏"‏ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ‏"‏‏.‏ ‏"‏ إن زلزلة الساعة شيء عظيم ‏"‏‏.‏
كتبت إلى مولانا السلطان الملك الظاهر أحسن الله عزاءه وجبر مصابه وجعل فيه الخلف في الساعة المذكورة وقد زلزل المسلمون زلزالًا شديدًا وقد حفرت الدموع المحاجر وبلغت القلوب الحناجر وقد وذعت أباك ومخدومي وداعًا لا تلاقي بعده وقد قبلت وجهه عني وعنك وأسلمته إلى الله تعالى مغلوب الحيلة ضعيف القوة راضيًا عن الله ولا حول ولا قوة إلا بالله وبالباب من الجنود المجندة والأسلحة المغمدة ما لا يدفع البلاء ولا ملك يرد القضاء وتدمع العين ويخشع القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنا عليك يا يوسف لمحزونون‏.‏
وأما الوصايا فما يحتاج إليها والآراء فقد شغلني المصاب عنها وأما لائح الأمر فإنه إن وقع اتفاق فما عدمتم إلا شخصه الكريم وإن كان غير ذلك فالمصائب المستقبلة أهونها موته وهو الهول العظيم والسلام‏.‏ انتهى كلام القاضي الفاضل بما كتبه للملك الظاهر‏.‏
قال ابن خلكان‏:‏ واستمر السلطان صلاح الدين مدفونًا بقلعة دمشق إلى أن بنيت له قبة شمالي الكلاسة التي هي شمالي جامع دمشق ولها بابان أحدهما إلى الكلاسة والآخر في زقاق غير نافذ وهو مجاور المدرسة العزيزية‏.‏
ثم نقل من مدفنه بالقلعة إلى هذه القبة في يوم عاشوراء في يوم الخميس من سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة‏.‏
ثم إن ولده الملك العزيز عثمان لما ملك دمشق من أخيه الملك الأفضل بنى إلى جانب هذه القبة المدرسة العزيزية‏.‏

قراقوش وحركة البناء
قلت‏:‏ في أيامه بنى الخصي بهاء الدين قراقوش قلعة الجبل ثم قلعة المقدس ثم سور القاهرة وذرع السور المذكور سبعة وعشرون ألف ذراع وثلاثمائة ذراع‏.‏ قال ابن خلكان‏:‏ ‏"‏

ذكر المقريزى فى  المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار  الجزء الثالث  ( 133 من 167 )  : "قلعة الجبل قال ابن سيده في كتاب المحكم‏:‏ القعلة بتحريك القاف واللام والعين وفتحها الحصن الممتنع في جبل وجمعها قلاع وقلع وأقلعوا بهذه البلاد بنوها فجعلوها كالقلعة‏.‏
وقيل‏:‏ القلعة بسكون اللام حصن مشرف وجمعه قلوع وهذه القلعة على قطعة من الجبل وهي تصل بجبل المقطم وتُشرف على القاهرة ومصر والنيل والقرافة فتصير القاهرة في الجهة البحرية منها ومدينة مصر والقرافة الكبرى وبركة الحبش في الجهة القبلية الغربية والنيل الأعظم في غربيها وجبل المقطم من ورائها في الجهة الشرقية‏.‏
وكان موضعها أوّلًا يُعرف بقبة الهواء ثم صار من تحته ميدان أحمد بن طولون ثم صار موضعها مقبرة فيها عدّة مساجد إلى أن أنشأها السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب أوّل الملوك بديار مصر على يدّ الطواشي بهاء الدين قراقوش الأسديّ في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة وصارت من بعده دارالمُلك بديار مصر إلى يومنا هذا وهي ثامن موضع صار دار المملكة بديار مصر‏.‏

اعلم أن أوّل ما عُرف من خبر موضع قلعة الجبل أنه كان فيه قبة تعرف بقة الهواء قال أبو عمرو الكنديّ في كتاب أمراء مصر‏:‏ وابتنى حاتم بن هرثمة القبة التي تعرف بقبة الهواء وهو أوّل من ابتناها وولي مصر إلى أن صُرف عنها في جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين ومائة قال‏:‏ ثم مات عيسى بن منصور أمير مصر في قبة الهواء بعد عزله لا حدى عشرة خلت من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثين ومائتين ولما قدم أمير المؤمنين المأمون إلى مصر في سنة سبع عشرة ومائتين جلس بقبة الهواء هذه وكان بحضرته سعيد بن عفير فقال المأمون‏:‏ لعن الله فرعون حيث يقول‏:‏ أليس لي ملك مصر فلو رأى العراق وخصبها‏.

ولما بنى أحمد بن طولون القصر والميدان تحت قبة الهواء هذه كان كثيرًا ما يُقيم فيها فإنها كانت تشرف على قصره واعتنى بها الأمير أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون وعل لها الستور الجليلة والفرش العظيمة في كلّ فصل ما يناسبه‏.‏

فلما زالت دولة بني طولون وخرب القصر والميدان كانت قبة الهواء مما خرب كما تقدّم ذكره عند ذكر القطائع من هذا الكتاب ثم عُمل موضع قبة الهواء مقبرة وبني فيها عدّة مساجد‏.‏
سبب بناء القلعة
ذكر المقريزى فى  المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار  الجزء الثالث  ( 133 من 167 )  : "بناء قلعة الجبل وكان سبب بنائها أن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب لما أزال الدولة الفاطمية من مصر واستبدّ بالأمر لم يتحوّل من دار الوزارة بالقاهرة ولم يزل يخاف على نفسه من شيعة الخلفاء الفاطميين بمصر ومن الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي سلطان الشام رحمة الله عليه فامتنع أوّلًا من نور الدين بأن سير أخاه الملك المعظم شمس الدولة توران شاه بن أيوب في سنة تسع وستين وخمسمائة إلى بلاد اليمن لتصير له مملكة تعصمه من نور الدين فاستولى شمس الدولة على ممالك اليمن وكفى الله تعالى صلاح الدين أمر نور الدين ومات في تلك السنة فحلا له الجوّ وأمن جانبه وأحبّ أن يجعل لنفسه معقلًا بمصر فإنه كان قد قسم القصرين بين أمرائه وأنزلهم فيهما فيقال أنّ السبب الذي دعاه إلى اختيار مكان قلعة الجبل أنه علق اللحم بالقاهرة فتغير بعد يوم وليلة فعلق لحم حيوان آخر في موضع القلعة فلم يتغير إلا بعد يومين وليلتين فأمر حينئذ بإنشاء قلعة هناك وأقام على عمارتها الأمير بهاء الدين قراقوش الأسديّ فشرع في بنائها وبنى سور القاهرة الذي زاده في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة وهدم ما هنالك من المساجد وأزال القبور وهدم الأهرام الصغار التي كانت بالجيزة وقناطر الجيزة وقصد أن يجعل السور يحيط بالقاهرة والقلعة ومصر فمات السلطان قبل أن يتم الغرض من السور والقلعة فأهمل العمل إلى أن كانت سلطنة الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب في قلعة الجبلواستنابته في مملكة مصر وجعله وليّ عهد فأتم بناء القلعة وأنشأ بها الآدر السلطانية وذلك في سنة أربع وستمائة وما برح يسكنها حتى مات فاستمرّت من بعده دار مملكة مصر إلى يومنا هذا وقد كان السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب يقيم بها أيامًا وسكنها الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين في أيام أبيه مدّة ثم انتقل إلى دار الوزارة‏.‏ قال ابن عبد الظاهر‏:‏ وسمعت حكاية تُحكى عن صلاح الدين أنه طلعها ومعه أخوه الملك العادل فلما رآها التفت إلى أخيه وقال‏:‏ يا سيف الدين قد بنيت هذه القلعة لأولادك‏.‏ فقال‏:‏ يا خوند منَّ الله عليك أنت وأولادك وأولاد أولادك بالدنيا‏.‏
فقال‏:‏ ما فهمت ما قلت لك أنا نجيب ما يأتي لي أولاد نجباء وأنت غير نجيب فأولادك يكونون نجباء فسكت‏.‏
البئر التي بالقلعة‏:‏ هذه البئر من العجائب استنبطها قراقوش‏.‏

قال ابن عبد الظاهر‏:‏ وهذه البئر من عجائب الأبنية تدور البقر من أعلاها فتنقل الماء من نقالة في وسطها وتدور أربقار في وسطها وتنقل الماء من أسفلها ولها طريق إلى الماء ينزل البقر إلى معينها في مجاز وجميع ذلك حجر منحوت ليس فيه بناء وقيل أن أرضها مسامّة أرض بركة الفيل وماؤها عذب‏.‏

سمت من يحكي من المشايخ أنها لما نُقِرت جاء ماؤها حلوًا فأرد قراقوش أو نوّا به الزيادة في مائها فوسع نقر الجبل فخرجت منه عين مالحة غيرت حلاوتها‏.‏

وذكر القاضي ناصر الدين شافع بن عليّ في كتاب عجائب البنيان أنه يُنزل إلى هذه البئر بدرج نحو ثلاثمائة درجة‏.‏

صفة القلعة وصفة قلعة الجبل أنها بناءً على نشزعال يدور بها سور من حجر بأبراج وبدنات حتى تنتهي إلى القصر الأبلق ثم من هناك تتصل بالدور السلطانية على غير أوضاع أبراج الغلال ويُدخل إلى القلعة من بابين أحدهما بابها الأعظم المواجه للقاهرة ويُقال له الباب المدرّج وبداخله يجلس وغلي القلة ومن خارجه تدق الخليلية قبل المغرب‏.‏

والباب الثاني باب القرافة وبين البابين ساحة فسيح في جانبها بيوت وبجانبها القبليّ سوق للمآكل ويتوصل من هذه الساحة إلى دركاه جليلة كان يجلس بها الأمراء حتى يؤذن لهم بالدخول وفي وسط الدركاه باب القلعة ويُدخل منه في دهليز فسيح إلى ديار وبيوت وإلى الجامع الذي تقام به الجمعة ويُمشى في دهليز باب القلعة في مداخل أبواب إلى رحبة فسيحة في صدرها الإيوان الكبير المعدّ لجلوس السلطان في يوم المواكب وإقامة دار العدل‏.‏

وبجانب هذه الرحبة ديار جليلة ويمرّ منها إلى باب القصر الأبلق وبين يدي باب القصر رحبة ون الأولى يجلس بها خواص الأمراء قبل دخولهم إلى الخدمة الدائمة بالقصر وكان بجانب هذه الرحبة محاذيًا لباب القصر خزانة القصر ويُدخل من باب القصر في دهاليز خمسة إلى قصر عظيم ويتوصل منه إلى الإيوان الكبير بباب خاص ويُدخل منه أيضًا إلى قصور ثلاثة ثم إلى دور الحرم السلطانية وإلى البستان والحمّام والحوش وباقي القلعة فيه دور ومساكن للمماليك السلطانية وخواص الأمراء بنسائم وأولادهم ومماليكهم ودواوينهم وطشتخاناتهم وفرشخاناتهم وشربخاناتهم ومطابخهم وسائر وظائفم وكانت أكابر أمراء الألوف وأعيان أمراء الطبلخاناه والعشراوات تسكن بالقلعة إلى آخر أيام الناصر محمد بن قلاون وكان بها أيضًا طباق المماليك السلطانية ودار الوارة وتعرف بقاعة الصاحب وبها قاعدة الإنشاء وديوان الجيش وبيت المال وخزانة الخاص وبها الدور السلطانية من الطشتخاناه والركابخاناه والحوائجخاناه والزردخاناه وكان بها الجب الشنيع لسجن الأمراء وبها دار النيابة وبها عدّة أبراج يحبس بها الأمراء والمماليك وبها المساجد والحوانيت والأسواق وبها مساكن تعرف بخرائب التتر كانت قدر حارة خرّبها الملك الأشرف برسباي في ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وثمانمائة ومن حقوق القلعة الإصطبل السلطانيّ وكان ينزل إليه السلطان من جانب إيوان القصر ومن حقوقها أيضًا الميدان وهو فاصل بين الإصطبلات وسوق الخيل من غربيه وهو فسيح المدى وفيه يُصلي السلطان صلاة العيدين وفيه يلعب بالأكرة مع خواصه وفيه تعمل المدّات أوقات المهمات أحيانًا ومن رأى القصور والإيوان الكبير والميدان الأخضر والجامع يقرّ لملوك مصر بعلوّ الهمم وسعة الإنفاق والكرم‏.‏



إنشاء المدارس السنية

وكان السلطان صلاح الدين لما ملك الديار المصرية لم يكن بها شيء من المدارس فإن الدولة المصرية كان مذهبها مذهب الإمامية فلم يكونوا يقولون بهذه الأشياء فعمر السلطان صلاح الدين بالقرافة الصغرى المدرسة المجاورة للإمام الشافعي وبنى مدرسة مجاورة للمشهد المنسوب للحسين بن علي - بالقاهرة‏.‏
وجعل دار سعيد السعداء خادم الخلفاء المصريين خانقاه ووقف عليها وقفا هائلًا وكذلك وقف على كل مدرسة عمرها وقفًا جيدًا وجعل دار عباس الوزير العبيدي مدرسة للحنفية وأوقف عليها وقفًا جيدًا أيضًا وهي بالقاهرة وبنى المدرسة التي بمصر المعروفة بابن زين التجار للشافعية ووقف عليها وقفًا جيدًا وبنى بالقصر داخل القاهرة بيمارستانًا وأوقف له وقفًا جيدًا وله بالقدس مدرسة وخانقاه‏.‏
 ورتب هذه الأوقاف العظيمة وليس شيء منسوبًا إليه في الظاهر فإن المدرسة التي بالقرافة ما يسمونها الناس إلا بالشافعي والمجاورة للمشهد لا يقولون إلا المشهد والخانقاه لا يقولون إلا سعيد السعداء والمدرسة الحنفية لا يقولون إلا السيوفية والتي بمصر لا يقولون إلا مدرسة زين التجار والتي بمصر أيضًا مدرسة المالكية وهذه صدقة السر على الحقيقة‏.‏
والعجب أن له بدمشق في جانب البيمارستان النوري مدرسة أيضًا ويقال لها الصلاحية وهي منسوبة إليه وليس لها وقف‏.‏
انتهى ما أوردته من كلام ابن خلكان ومن كلام ابن وقال العلامة أبو المظفر في تاريخه مرآة الزمان‏:‏ ولما كان في سادس عشر صفر وجد السلطان كسلًا وحم حمى صفراوية ثم ذكر نحوًا مما ذكره ابن شداد إلى أن قال‏:‏ وأحضر الأفضل يعني ولده الأمراء‏:‏ سعد الدين مسعودًا أخا بدر الدين مودود شحنة دمشق وناصر الدين صاحب صهيون وسابق الدين عثمان صاحب شيزر ابن الداية وميمونًا القصري والبكي الفارسي وأيبك فطيس وحسام الدين بشارة وأسامة الحلبي وغيرهم فاستحلفهم لنفسه‏.‏
وكان عند السلطان أبو جعفر إمام الكلاسة يقرأ القران فلما انتهى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة ‏"‏ وكان قد غاب فإنه فتح عينيه وقال‏:‏ صحيح‏.‏  ثم قال أبو المظفر‏:‏ وغسله ابن الدولعي وصفى عليه القاضي محيي الدين بن الزكي‏.‏ وبعث القاضي الفاضل له الأكفان والحنوط من أجل الجهات‏.‏
ثم قال‏:‏ وقال العماد الكاتب‏:‏ دخلنا عليه ليلة الأحد للعيادة ومرضه في زيادة وفي كل يوم تضعف القلوب وتتضاعف الكروب ثم انتقل من دار الفناء إلى دار البقاء سحر يوم الأربعاء ومات بموته رجاء الرجال وأظلم بغروب شمسه فضاء الإفضال‏.‏
أولاده ‏
كانوا ستة عشر ذكرًا وابنة واحدة أكبرهم الأفضل علي ولد بمصر سنة خمس وستين يوم عيد الفطر‏.‏ وأخوه لأبيه وأمه الملك الظافر خضر ولد بمصر سنة ثمان وستين‏.‏ وأخوهما أيضًا لأبيهما وأمهما قطب الدين موسى ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين‏.‏ فهؤلاء الثلاثة أشقاء‏.‏

ثم الملك العزيز عثمان الذي ملك مصر بعد أبيه ولد بها سنة سبع وستين‏.‏ وأخوه لأبيه وأمه الأعز يعقوب ولد بمصر سنة اثنتين وسبعين‏.‏
والملك الظاهر غازي صاحب حلب ولد بمصر سنة ثمان وستين‏.‏ وأخوه لأبيه وأمه الملك الزاهر داود ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين‏.‏
والملك المعز إسحاق ولد سنة سبعين‏.‏ والملك المؤيد مسعود ولد بدمشق سنة إحدى وسبعين‏.‏
والملك الأشرف محمد ولد بالشام سنة خمس وسبعين‏.‏ وأخوه أيضًا لأبيه وأمه الملك المحسن أحمد ولد بمصر سنة سبع وسبعين‏.‏
وأخوه أيضًا لأبيه وأمه الملك الغالب ملكشاه ولد بالشام سنة ثمان وسبعين‏.وأخوهم أيضًا لأبيهم وأمهم أبو بكر النصر ولد بحران بعد وفاة أبيه سنة تسع وثمانين‏.‏
والبنت مؤنسة خاتون تزوجها ابن عمها الملك الكامل - الآتي ذكره - ابن الملك العادل وماتت عنده‏.‏
وملك بعد السلطان صلاح الدين مصر ابنه الملك العزيز عثمان الآتي ذكره إن شاء الله تعالى وملك دمشق بعده ابنه الملك الأفضل علي وملك حلب ابنه الظاهر غازي كما كانوا أيام أبيهم‏.‏ ثم وقع بين الملك العزيز والأفضل أمور نذكرها فيما يأتي
السنة الأولى من سلطنة الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب على مصر وهي سنة سبع وستين وخمسمائة‏.‏ أعني سلطنته بعد موت العاضد العبيدي آخر خلفاء الفاطميين بمصر‏.‏
وأما وزارته فكانت قبل ذلك بمدة من يوم مات عمه الملك المنصور أسد الدين شيركوه بن أيوب في يوم السبت ثاني عشر جمادى الآخرة سنة أربع وستين وخمسمائة‏.‏  من يوم سلطنته بعد الخليفة العاضد عني حوادث سنة سبع وستين وخمسمائة‏.‏
فيها خطب لبني العباس بمصر وأبطل الخطبة لبني عبيد حسب ما تقدم ذكره في ترجمة العاضد وفي ترجمة صلاح الدين أيضًا ولما وقع ذلك كتب العماد الكاتب عن السلطان صلاح الدين لنور الدين الشهيد يخبره بذلك‏:‏ قد خطبنا للمستضيء بمصر نائب المصطفى إمام العصر ولدينا تضاعفت نعم الل - - ه وجلت عن كل عد وحصر واستنارت عزائم الملك العا - - دل نور الدين الهمام الأغر وفيها بعث الملك العادل نور الدين محمود المذكور بالبشارة للخليفة فلما وصل شهاب الدين المذكور للخليفة قال في المعنى ابن الحرستاني الشاعر المشهور قصيدة أولها‏:‏ جاء البشير فسر الناس وابتهجوا فما على ذي سرور بعدها حرج وخلع الخليفة على شهاب الدين المذكور‏.‏
ثم بعث جواب الملك العادل على يد الخادم صندل وعلى يديه الخلع والتقاليد له وفي الخلعة الطوق وفيه ألف دينار والفرجية والعمامة ثم أرسل مع الخادم المذكور لصلاح الدين صاحب الترجمة خلعًا دون خلع نور الدين‏.‏ وبعث أيضًا لنور الدين سيفًا قلده للشام ثم سيفًا آخر قلده بمصر ويكون صلاح الدين نائبه بمصر‏.‏ وزينت بغداد وضربت القباب لذلك‏.‏ وفيها وقعت الوحشة بين نور الدين وصلاح الدين‏.‏
 سار الملك العادل نور الدين محمود صاحب دمشق إلى الموصل وصلى بالجامع الذي بناه وسط الموصل وتصدق بمال عظيم‏.‏
ولما علم صلاح الدين بتوجهه إلى الموصل خرج بعساكره من مصر إلى الشام وحصر الكرك والشوبك ونهب أعمالهما ثم عاد لما بلغه عود نور الدين إلى الشام‏.‏ وهذه أول غزوات صلاح الدين‏.‏
وفيها توفي الأمير نجم الدين أيوب بن شادي بن مروان والد صلاح الدين المذكور‏.‏ كان أميرًا عاقلًا حازمًا شجاعًا جوادًا عاطفًا على الفقراء والمساكين محبًا للصالحين قليل الكلام جدًا لا يتكلم إلا لضرورة‏.‏ ولما قدم مصر سأله ولده السلطان صلاح الدين صاحب الترجمة أن يكون هو السلطان فقال‏:‏ أنت أولى‏.‏
وكان سبب موته أنه ركب يومًا وخرج من باب النصر يريد الميدان فشب به فرسه فوقع على رأسه فأقام ثمانية أيام ومات في ليلة الثلاثاء السابع والعشرين من ذي الحجة ودفن إلى جانب أخيه أسد الدين شيركوه بن أيوب في الدار السلطانية ثم نقلا بعد سنين إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وكان ابنه السلطان صلاح الدين قد عاد من الكرك فبلغه خبر موته في الطريق فوجد عليه وتأسف حيث لم يحضره‏.‏
وخلف من الذكور ستة‏:‏ السلطان صلاح الدين يوسف وأبا بكر العادل الآتي ذكره في ملوك مصر وشمس الدولة توران شاه وهو أكبر الجميع وشاهنشاه وسيف الإسلام طغتكين وتاج الملوك بوري وهو وفيها توفي الحسن بن أبي الحسن صافي ملك النحاة مولى الحسين بن الأرموي التاجر البغدادي قرأ النحو وأصول الدين والفقه والخلاف والحديث وبرع في النحو وفاق أهل زمانه وسافر البلاد وصنف الكتب في فنون العلوم من ذلك ‏"‏ المقامات ‏"‏ التي من جنس ‏"‏ مقامات الحريري ‏"‏ وكان يقول‏:‏ مقاماتي جد وصدق ومقامات الحريري هزل وكذب‏.‏
‏ الماء القديم خمس أذرع وعشرون إصبعًا‏.‏ مبلغ الزيادة ثماني عشرة ذراعًا وثماني عشرة إصبعًا‏.‏
السنة الثالثة من سلطنة صلاح الدين يوسف بن أيوب على مصر وهي سنة تسع وستين وخمسمائة‏:‏

فيها كتب صلاح الدين صاحب الترجمة لنور الدين يستأذنه في إنفاذ جيش إلى اليمن فأذن له فبعث صلاح الدين أخاه شمس الدولة توران شاه بن أيوب فسار إليها وكان فيها عبد النبي بن مهدي من أصحاب المصريين وكان ظالمًا فاتكًا فحصره شمس الدولة توران شاه في قصره بزبيد مدة حتى طلب الأمان فأذنه فلما نزل إليه قيده ووكل به وفتح صنعاء وحصون اليمن والمدائن يقال‏:‏ إنه فتح ثمانين حصنًا ومدينة واستولى على أموالها وذخائرها وقتل عبد النبي المذكور‏.‏
وولى على زبيد سيف الدولة مبارك بن منقذ وعز الدين عثمان بن الزنجيلي على باقي البلاد‏.‏
وفيها قبض صلاح الدين على جماعة من أعيان الدولة العبيدية‏:‏ مثل داعي الدعاة وعمارة اليمني وغيرهما بلغه أنهم يجتمعون على إثارة الفتن واتفقوا مع السودان وكاتبوا الفرنج فقتل داعي الدعاة وصلب عمارة اليمني‏.‏
قال القاضي شمس الدين ابن خلكان‏:‏ هو أبو محمد عمارة بن أبي الحسن علي بن زيدان بن أحمد بن محمد الحكمي اليمني الملقب نجم الدين الشاعر وهو من جبال اليمن من مدينة مرطان بينها وبين مكة من جهة الجنوب أحد عشر يومًا‏.‏
وكان فقيهًا فصيحًا أقام بزبيد مدة يقرأ عليه مذهب الشافعي وله في الفرائض مصنف مشهور باليمن ومدح خلفاء مصر فقربوه وأعطوه الأموال فكان عندهم بمنزلة الوزير وكان أيضًا معظمًا قبل ذلك في اليمن ثم ظهرت أمور اقتضت خروجه منها فقدم إلى مصر في سنة خمسين وخمسمائة‏.‏
وقيل‏:‏ إن سبب قتله أنه مدح توران شاه وحرضه على أخذ اليمن بقصيدة أولها‏:‏ لعلم مذ كان محتاج إلى العلم وشفرة السيف تستغني عن القلم إلى أن قال‏:‏ هذا ابن تومرت قد كانت بدايته كما يقول الورى لحمًا على وضم وكان أول هذا الدين من رجل سعى إلى أن دعوه سيد الأمم قال العماد الكاتب‏:‏ اتفقت لعمارة اتفاقات‏:‏ منها أنه نسب إليه قول هذا البيت فكان أحد أسباب قتله وأفتى قضاة مصر بقتله وقيل‏:‏ إنه لما أمر صلاح الدين بصلبه مروا به على دار القاضي الفاضل فرمى بنفسه على بابه وطلب الدخول إليه ليستجير به فلم يؤذن له فقال‏:‏ # عبد الرحيم قد احتجب إن الخلاص من العجب فصلب وهو صائم في شهر رمضان‏.‏
وفيها توفي السلطان الملك العادل نور الدين أبو القاسم محمود بن زنكي بن آق سنقر صاحب الشام ومصر المعروف بنور الدين الشهيد‏.‏
قال ابن عساكر‏:‏ ‏"‏ ولد سنة إحدى عشرة وخمسمائة وكان معتدل القامة أسمر اللون واسع الجبهة حسن الصورة لحيته شعرات خفيفة في حنكه ونشأ على الخير والصلاح‏.‏ وكان زنكي يقدمه على أولاده ويرى فيه مخايل النجابة‏.‏ وفتح في أيام سلطنته نيفًا وخمسين حصنًا ‏"‏‏.‏
قلت‏:‏ ومصر أيضًا من جملة فتوحاته وأيضًا ما فتحه صلاح الدين من البلاد والحصون هو شريكه في الأجر والثواب ولولاه إيش كان صلاح الدين‏!‏ حتى ملك مصر من أيدي تلك الرافضة من بني عبيد خلفاء مصر وقوة بأسهم‏!‏‏.‏

 مرض وموت الملك العادل ووفاته‏.‏
وكان ابتداء مرضه أنه ختن ولده الملك الصالح إسماعيل يوم عيد الفطر فهنئ بالعيد والطهور فقال العماد الكاتب - رحمه الله -‏:‏ كلاهما لك فيه حقًا هناء وأجر فمرض بعد عوده من صلاة العيد بالخوانيق وما كان يرى الطب على قاعدة الأتراك فأشير عليه بالفصد في أول مرضه فامتنع وكان مهيبًا فما روجع فمات يوم الأربعاء حادي عشر شوال ودفن بالقلعة ثم نقل إلى مدرسته التي أنشأها مجاورة الخواصين بدمشق‏.‏ وعاش ثمانيًا وخمسين سنة‏.‏ وكانت سلطنته ثمانيًا وعشرين سنة وستة أشهر‏.‏
وتسلطن بعده ولده الملك الصالح إسماعيل ولم يبلغ الحلم‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ست أذرع وست عشرة إصبعًا‏.‏ مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وعشر أصابع‏.‏
السنة الرابعة من سلطنة صلاح الدين يوسف بن أيوب على مصر

فيها ملك السلطان صلاح الدين دمشق من الملك الصالح ابن الملك العادل نور الدين محمود حسب ما ذكرناه في ترجمته‏.‏
وكان أخذه لدمشق بمكاتبة القاضي كمال الدين الشهرزوري وابن الجاولي والأعيان وكان بالقلعة ريحان الخادم فعزم على قتاله فجهز إليه عسكر دمشق وركب صلاح الدين من الجسور فالتقاه أهل دمشق بأسرهم وأحدقوا به فنثر عليهم الدراهم والدنانير ودخل دمشق فلم يغلق في وجهه باب ولا منعه مانع فملكها عناية لا عنوة‏.‏
وفيها توفي السلطان أرسلان شاه بن طغرل بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقماق السلجوقي‏.‏ وقام بعده في الملك ابنه طغرل شاه وكان صغير السن فتولى تدبير ملكه محمد بن إيلدكز الأتابك وكان يلقب بالبهلوان‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم سبع أذرع وإحدى وعشرون إصبعًا‏.‏ مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وتسع عشرة إصبعًا‏.‏
 لسنة الخامسة من سلطنة صلاح الدين يوسف بن أيوب على مصر وهي سنة إحدى وسبعين وخمسمائة‏:‏

وفيها وثبت الإسماعيلية على السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب وهو على أعزاز جاءه ثلاثة في زي الأجناد فضربه واحد بسكين في رأسه فلم يجرحه وخدشت السكين خده وقتل الثلاثة فرحل صلاح الدين إلى حلب فلغا نزل عليها بعث إليه الملك الصالح إسماعيل بن الملك العادل نور الدين محمود أخته خاتون بنت نور الدين في الليل فدخلت عليه فقام قائمًا وقبل الأرض لها وبكى على نور الدين فسألته أن يرد عليهم أعزاز فأعطاها إياها وقدم لها من الجواهر والتحف شيئًا كثيرًا واتفق مع الملك الصالح أن من حماة وما فتحه إلى مصر له وباقي البلاد الحلبية للصالح‏.‏
وفيها قدم شمس الدولة توران شاه بن أيوب أخو صلاح الدين من اليمن إلى دمشق في سلخ ذي الحجة‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم أربع أذرع وست عشرة إصبعًا‏.‏ مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وعشر أصابع‏.‏

 لسنة السادسة يوسف بن أيوب على مصر وهي سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة‏:‏

فيها تزوج السلطان صلاح الدين يوسف بالخاتون عصمة الدين بنت الأمير معين الدين أنر زوجة الملك العادل نور الدين محمود وكانت بقلعة دمشق‏.‏
وفيها كانت فتنة مقدم السودان من صعيد مصرة سار من الصعيد إلى مصر في مائة ألف أسود ليعيد الدولة المصرية الفاطمية فخرج إليه أخو صلاح الدين الملك العادل أبو بكر وأبو الهيجاء الهكاري وعز الدين موصك بمن معهم من عساكر مصر والتقوا مع السودان فكانت بينهم وقعة هائلة قتل كبير السودان المذكور ومن معه‏.‏
قال الشيخ شمس الدين يوسف في مرآة الزمان‏:‏ ‏"‏ يقال إنهم قتلوا منهم ثمانين ألفًا وعادوا إلى القاهرة‏.‏
وفيها خرج السلطان صلاح من دمشق إلى مصر وأستناب أخاه شمس الدولة توران شاه على الشام‏.‏ وجاءت الفرنج إلى داريا فأحرقوا ونهبوا وعادوا‏.‏

وفيها أمر السلطان صلاح الدين قراقوش الخادم بعمارة سور القاهرة ومصر وضيع فيه أموالًا كثيرة ولم ينتفع به أحد‏.‏
وفيها عمر صلاح الدين مدرسة الشافعي بالقرافة وتولى الشيخ نجم الدين الخبوشاني عمارتها‏.‏ وعمر البيمارستان في القصر ووقف عليه الأوقاف‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ست أذرع وإحدى وعشرون إصبعًا‏.‏ مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وإحدى وعشرون إصبعًا‏.‏
السنة السابعة من سلطنة صلاح الدين يوسف بن أيوب على مصر وهي سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم خمس أذرع وثلاث أصابع‏.‏ مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وإحدى وعشرون إصبعًا‏.‏
السنة الثامنة من سلطنة صلاح الدين يوسف بن أيوب على مصر وهي سنة أربع وسبعين وخمسمائة‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم أربع أذرع وثلاث عشرة إصبعًا‏.‏ مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وتسع عشرة إصبعًا‏.‏
السنة التاسعة من سلطنة صلاح الدين يوسف بن أيوب على مصر وهي سنة خمس وسبعين وخمسمائة‏.‏
وفيها توفي الخليفة أمير المؤمنين المستضيء بأمر الله أبو محمد الحسن بن يوسف المستنجد بن المقتفي محمد العباسي الهاشمي البغدادي‏.‏ كان أحسن الخلفاء سيرة كان إمامًا عادلًا شريف النفس حسن السيرة ليس للمال عنده قدر حليمًا شفيقًا على الرعية أسقط المكوس والضرائب في أيام خلافته وكانت وفاته ببغداد في ثاني ذي القعدة عن ست وثلاثين سنة وكانت خلافته تسع سنين‏.‏ وهو الذي عادت الخطبة باسمه في الديار المصرية والبلاد الشامية والثغور واجتمعت الأمة على خليفة واحد وانقطعت في أيامه دولة بني عبيد الفاطميين الرافضة من مصر وأعمالها‏.‏ وأمه أم ولد مولدة‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم خمس أذرع وست أصابع‏.‏ مبلغ الزيادة ثماني عشرة ذراعًا وسبع أصابع‏.‏
السنة العاشرة من سلطنة صلاح الدين يوسف بن أيوب على مصر وهي سنة ست وسبعين وخمسمائة‏.‏
فيها قدمت امرأة إلى القاهرة عديمة اليدين وكانت تكتب برجليها كتابة حسنة فحصل لها القبول التام ونالها مال جزيل‏.‏
وفيها توفي أحمد بن محمد بن أحمد الحافظ أبو طاهر السلفي الأصبهاني ولد سنة سبعين وأربعمائة وكان طاف الدنيا ولقي المشايخ وكان يمشي حافيًا لطلب العلم والحديث وقدم دمشق وغيرها وسمع بعدة بلاد ثم دخل مصر وسمع بها واستوطن الإسكندرية حتى مات بها في يوم الجمعة خامس شهر ربيع الآخر ودفن داخل الإسكندرية وقد جاوز المائة بخمس سنين‏.‏
ومن شعره في معنى كبر سنه‏:‏ أنا إن بان شبابي ومضى فلربي الحمد ذهني حاضر ولئن خفت وجفت أعظمي كبرًا غصن علومي ناضر وفيها توفي الملك المعظم فخر الدين شمس الدولة توران شاه بن أيوب أخو السلطان صلاح الدين صاحب الترجمة لأبيه‏.‏ كان أكبر من صلاح الدين في السن وكان يرى في نفسه أنه أحق بالملك من صلاح الدين يوسف المذكور وكان تبدو منه كلمات في سكره في حق صلاح الدين ويبلغ صلاح الدين فأبعده وبعثه إلى اليمن فسفك الدماء وقتل الأماثل وأخذ الأموال‏.‏
ولم يطب له اليمن فعاد إلى الشام على مضض من صلاح الدين فأعطاه بعلبك فبلغه عنه أشياء فأبعده إلى الإسكندرية فتوجه إليها وأقام بها معتكفًا على اللهو ولم يحضر حروب أخيه صلاح الدين ولا غزواته ومات بالإسكندرية فأرسلت أخته شقيقته ست الشام فحملته في تابوت إلى دمشق فدفنته في تربتها التي أنشأتها بدمشق‏.‏
وكان توران شاه المذكور جوادًا ممدحًا حسن الأخلاق إلا أنه كان أسوأ بني أيوب سيرة وأقبحهم طريقة‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ عشرة إصبعًا‏.‏
السنة الحادية عشرة من سلطنة صلاح الدين يوسف بن أيوب على مصر وهي سنة سبع وسبعين وخمسمائة‏.‏
فيها عاد السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب الترجمة من دمشق إلى القاهرة واستناب على الشام ابن أخيه عز الدين فرخشاه‏.‏
وفيها أمر السلطان صلاح الدين أخاه سيف الإسلام طغتكين بالمسير إلى اليمن فأخذ يتجهز للمسير‏.‏
وفيها بعث السلطان صلاح الدين الخادم بهاء الدين قراقوش إلى اليمن فتوجه وقبض على سيف الدولة مبارك بن كامل بن منقذ وطلب منه المال وكان نائب أخيه توران شاه‏.‏ وفيها بنيت قلعة الجبل بالقاهرة‏.‏
وفيها توفي الملك الصالح إسماعيل ابن الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بن آق سنقر صاحب حلب بمرض القولنج وكان لما اشتد به مرض القولنج وصف له الحكماء قليل خمر فقال‏:‏ لا أفعل حتى أسأل الفقهاء‏.‏ فسأل الشافعية فأفتوه بالجواز فلم يقبل وقال‏:‏ إن الله تعالى قرب أجلي أيؤخره شرب الخمر‏!‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فوالله لا لقيت الله وقد فعلت ما حرم علي فمات ولم يشربه‏.‏
ولما أشرف على الموت أحضر الأمراء واستحلفهم لابن عمه عز الدين مسعود بن مردود صاحب الموصل فقيل له‏:‏ لو أوصيت لابن عمك عماد الدين صاحب سنجار‏!‏ فإنه صعلوك ليس له غير سنجار وهو تربية أبيك وزوج أختك وشجاع كريم وعز الدين له من الفرات إلى همذان فقال‏:‏ هذا لم يخف عني ولكن قد علمتم استيلاء صلاح الدين على الشام سوى ما بيدي ومصر واليمن وعماد الدين لا يثبت له إذا أراد أخذ البلاد وعز الدين له العساكر والأموال فهو أقدر على حفظ حلب وأثبت من عماد الدين ومتى ذهبت حلب ذهب الجميع فاستحسنوا قوله‏.‏
قلت‏:‏ ولم يخطر ببال أحد أخذ صلاح الدين بن أيوب الشام من الملك الصالح هذا قبل تاريخه فإنه كان غرس نعمة أبيه الملك العادل فلم يلتفت صلاح الدين للأيادي السالفة وانتهز الفرصة حيث أمكنته وقاتل الملك الصالح هذا حتى أخذ منه دمشق فلهذا صار عند الصالح كمين من صلاح الدين‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم خمس أذرع وعشر أصابع‏.‏ مبلغ الزيادة ثماني عشرة ذراعًا وخمس أصابع‏.‏

السنة الثانية عشرة من سلطنة الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب على مصر

 فيها سار سيف الإسلام طغتكين أخو صلاح الدين من مصر إلى اليمن إلى أن نزل زبيد وبها حطان فأمره أن يسير إلى الشام فجمع أمواله وذخائره ونزل بظاهر زبيد فقبض عليه سيف الإسلام وأخذ جميع ما كان معه وقيمته ألف ألف دينار ثم قتله بعد ذلك‏.‏
وفيها في خامس المحرم خرج صلاح الدين من مصر فنزل البركة قاصدًا الشام وخرج أعيان الدولة لوداعه وأنشده الشعراء أبياتًا في الوداع فسمع قائلًا يقول في ظاهر المخيم‏:‏ تمتع من شميم عرار نجد فما بعد العشية من عرار فطلب القائل فلم يجده‏.
فوجم الناس وتطير الحاضرون فكان كما قال‏.‏ قلت‏:‏ وقول من قال ‏"‏ فكان كما قال ‏"‏ ليس بشيء فإن صلاح الدين عاش بعد ذلك نحو العشر سنين غير أنه ما دخل مصر بعدها فيما أظن فإنه اشتغل بفتح الساحل وقتال الفرنج كما تقدم ذكره في ترجمته‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ست أذرع وإحدى وعشرون إصبعًا‏.‏ مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وإصبعًا‏.‏
السنة الثالثة عشرة من سلطنة صلاح الدين يوسف بن أيوب على مصر وهي سنة تسع وسبعين وخمسمائة‏.‏
فيها في يوم الأحد عاشر المحرم تسلم السلطان صلاح الدين آمد من ديار بكر ودخل إليها وجلس في دار الإمارة ثم سلمها وأعمالها إلى نور الدين محمد بن قرا أرسلان صاحب حصن كيفا وكان قد وعده بها لما جاء إلى خدمته‏.‏
ثم عاد إلى حلب وحاصرها حتى أخذها من عماد الدين زنكي ابن أخي نور الدين الشهيد وبذل له عوضها سنجار وعمل الناس في ذلك أشعارًا كثيرة منها‏:‏ وبعت بسنجار خير القلاع ثكلتك من بائعٍ مشتري وكان في أيام حصار حلب أصاب تاج الملوك بوري بن أيوب سهم في عينه فمات بعد أيام فحزن أخوه السلطان صلاح الدين عليه حزنًا شديدًا وكان يبكي ويقول‏:‏ ‏"‏ ما وفت حلب بشعرة من أخي تاج الملوك بوري ‏"‏‏.‏ وخرج عماد الدين من حلب وسار إلى سنجار‏.‏
ولما طلع صلاح الدين إلى قلعة حلب في سلخ صفر أنشد القاضي محيي الدين بن زكي الدين محمد بن علي القرشي قاضي دمشق أبياتًا منها‏:‏ وفتحه حلبًا بالسيف في صفرٍ مبشر بفتوح القدس في رجب فكان كما قال لكن بعد سنين وهو الذي خطب بالقدس لما فتحه صلاح الدين في رجب‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ست أذرع وإحدى وعشرون إصبعًا‏.‏ مبلغ الزيادة سبع عشرة

 السنة الرابعة عشرة من سلطنة صلاح الدين يوسف بن أيوب على مصر وهي سنة ثمانين وخمسمائة‏:‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ست أذرع وثلاث عشرة إصبعًا‏.‏ مبلغ الزيادة ثماني عشرة ذراعًا وثلاث عشرة إصبعًا‏.‏

السنة الخامسة عشرة من سلطنة صلاح الدين يوسف بن أيوب على مصر

فيها قطع السلطان صلاح الدين الفرات ونزل على الموصل وافتتح عدة بلاد‏.‏
فلما توفي تزوجها وفيها توفي محمد ابن الملك المنصور أسد الدين شيركوه بن شادي الأمير ناصر الدين ابن عم السلطان صلاح الدين‏.‏ كان السلطان صلاح الدين يخافه لأنه كان يدعي أنه أحق بالملك منه‏.‏ وكان السلطان صلاح الدين يبلغه عنه هذا وكان زوج أخت السلطان صلاح الدين ست الشام بنت أيوب‏.‏
ومات بحمص في يوم عرفة وتناثر لحمه حتى قيل إنه سم وقيل‏:‏ مات فجأة فنقلته زوجته ست الشام إلى تربتها ودفنته عند أخيها الملك المعظم توران شاه بن أيوب المقدم ذكره‏.‏
ولما بلغ صلاح الدين موته أبقى على ولده أسد الدين شيركوه بن محمد المذكور ما كان بيد والده‏:‏ حمص وتدمر والرحبة وسلمية وخلع عليه وكتب منشورًا بذلك‏.‏
‏ أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم سبع أذرع وتسع عشرة إصبعًا‏.‏ مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وإصبع واحدة‏.‏

السنة السادسة عشرة من سلطنة صلاح الدين

فيها حكم المنجمون في الآفاق بخراب العالم في جمادى الآخرة وقالوا‏:‏ تقترن الكواكب السيارة‏:‏ الشمس والقمر وزحل والمريخ والزهرة وعطارد والمشتري في برج الميزان أو السرطان فتؤثر تأثيرًا يضمحل به العالم وتهب سموم محرقة تحمل رملًا أحمر فاستعد الناس وحفروا السراديب وجمعوا فيها الزاد‏.‏ وانقضت المدة المعينة وظهر كذب المنجمين‏.‏
فقال أبو الغنائم محمد بن المعلم في أبي الفضل المنجم قصيدة طنانة‏:‏ قل لأبي الفضل قول معترفٍ مضى جمادى وجاءنا رجب وما جرت زعزغ كما حكموا ولا بدا كوكب له ذنب ومنها‏:‏ مدبر الأمر واحد ليس للسب - - عة في كل حادثٍ سبب لا المشتري سالم ولا زحل باقٍ ولا زهرة ولا قطب ومنها‏:‏ فليبطل المدعون ما وضعوا في كتبهم ولتحرق الكتب قلت‏:‏ وهذا الكذب متداول بين القوم إلى زماننا هذا حتى إنه لا يمضي شهر إلا وقد أوعدوا الناس بشيء لا حقيقة له‏.‏
والعجب أن الشخص من العامة إذا كذب مرة على رجل يستحي دع النجوم لصوفي يعيش بها وبالعزائم فانهض أيها الملك إن النبي وأصحاب النبي نهوا عن النجوم وقد أبصرت ما ملكوا وفيها عاد السلطان صلاح الدين إلى الشام وتلقاه شيركوه بن محمد بن شيركوه وأخته سفري خاتون أولاد ابن عمه محمد بن أسد الدين شيركوه وزوجته ست الشام وهي أخت السلطان صلاح الدين فقال السلطان لأخيه العادل أبي بكر بن أيوب‏:‏ اقسم التركة بينهم على فرائض الله تعالى‏.‏ وكان محمد قد خلف أموالًا عظيمة فكان مبلغ التركة ألف ألف دينار‏.‏
وفيها دخل سيف الإسلام أخو صلاح الدين إلى مكة ومنع من الأذان في الحرم ب ‏"‏ حيي على خير العمل ‏"‏‏.
وفيها قدم السلطان صلاح الدين يوسف البلاد بين أهله وولده برأي القاضي الفاضل فأعطى مصر لولده العزيز عثمان والشام لولده الأفضل وحلب لولده الظاهر وأعطى أخاه العادل أبا بكر إقطاعات كثيرة بمصر وجعله أتابك العزيز وأعطى لابن أخيه تقي الدين حماة والمعرة ومنبج وأضاف إليه ميافارقين‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ست أذرع واثنتا عشرة إصبعًا‏.‏ مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وإصبع واحدة‏.‏
السنة السابعة عشرة من سلطنة صلاح الدين وهي سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة‏.‏
فيها فتح السلطان صلاح الدين بيت المقدس وعكا وحصونًا كثيرة بالساحل بعد أمور وحروب ذكرناها في ترجمته‏.‏
وفيها توفي محمد بن عبد الله بن المقدم الأمير شمس الدين كان من أكابر أمراء الملك العادل نور الدين ثم صلاح الدين بن أيوب‏.‏ وله المواقف المشهودة وحضر جميع فتوحات السلطان صلاح الدين ثم إنه استأذن صلاح الدين في الحج فأذن له على كره من مفارقته فلما وصل إلى عرفات أراد أن يرفع علم صلاح الدين ويضرب الطبل فمنعه طاشتكين وقال‏:‏ لا يرفع هنا سوى علم الخليفة‏.‏ فقال ابن المقدم هذا‏:‏ والسلطان مملوك الخليفة‏.‏
فمنعه طاشتكين فأمر ابن المقدم غلمانه فرفع العلم فنكسوه فركب ابن المقدم ومن معه وركب طاشتكين له واقتتلوا فقتل من الفريقين ورمى مملوك طاشتكين ابن المقدم بسهم فوقع في عينه فخر صريعًا وجاء طاشتكين وحمله إلى خيمته فتوفي في يوم الخميس يوم النحر ودفن بالمعلى‏.‏ ثم أرسل الخليفة يعتذر لصلاح الدين أن ابن المقدم كان الباغي فلم يقبل صلاح الدين وقال‏:‏ أنا الجواب عن الكتاب‏.‏ ولولا اشتغاله بالجهاد لكان له وللخليفة شأن‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ست أذرع وثماني أصابع‏.‏ مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا واثنتا عشرة إصبعًا‏.‏
السنة الثامنة عشرة من سلطنة صلاح الدين يوسف بن أيوب على مصر وهي سنة أربع وثمانين وخمسمائة‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ست أذرع واثنتا عشرة إصبعًا‏.‏ مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وثلاث عشرة إصبعًا‏.‏
السنة التاسعة عشرة من سلطنة صلاح الدين يوسف بن أيوب على مصر وهي سنة خمس وثمانين وخمسمائة‏.‏
فيها وفي السلطان صلاح الدين على عكة حسام الدين بشارة وولى على عمارة سررها الخادم بهاء الدين قراقوش‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم خمس أذرع وخمس عشرة إصبعًا‏.‏ مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا واثنتان وعشرون إصبعًا‏.‏
السنة العشرون من سلطنة صلاح الدين يوسف بن أيوب على مصر وهي سنة ست وثمانين وخمسمائة‏.‏
 أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم خمس أذرع وخمس وعشرون إصبعًا‏.‏ مبلغ الزيادة ثماني عشرة ذراعًا وأربع أصابع‏.‏
السنة الحادية والعشرون من سلطنة صلاح الدين يوسف بن أيوب على مصر وهي سنة سبع وثمانين وخمسمائة‏.‏
فيها كان استيلاء الفرنج على عكا
قد ذكرنا من أمره‏:‏ أن عمه السلطان صلاح الدين كان أعطاه حماة وعدة بلاد من حماة إلى ديار بكر فطمع في مملكة الشرق فنفرت عنه وعن عمه صلاح الدين القلوب لعظم طمعهما‏.‏
ووقع لتقي الدين هذا مع بكتمر بن عبد الله مملوك شاه أرمن صاحب خلاط وقائع وحروب فمات تقي الدين بتلك البلاد فكتم محمد ولده موته وحمله إلى ميافارقين فدفن بها‏.‏
وكانت وفاته يوم الجمعة عاشر شهر رمضان ثم بنيت له مدرسة بظاهر حماة فنقل إليها‏.‏
وكان السلطان صلاح الدين يكره ابنه محمدًا فأخذ منه بلاد أبيه وأبقى معه حماة لا غير‏.‏ ولقب محمد هذا بالملك المنصور‏.‏
واجتمع بالملك الظاهر ابن السلطان صلاح الدين صاحب حلب فأعجب الظاهر كلامه ومال إليه‏.‏
فكتب أهل حلب إلى السلطان صلاح الدين‏:‏ أدرك ولدك وإلا تتلف عقيدته فكتب إليه أبوه صلاح الدين بإبعاده فلم يبعده فكتب بمناظرته فناظره العلماء فظهر عليهم بعبارته فقالوا‏:‏ إنك قلت في بعض تصانيفك‏:‏ إن الله قادر على أن يخلق نبيًا وهذا مستحيل‏.‏
فقال‏:‏ ما وجه استحالته فإن الله القادر هو الذي لا يمتنع عليه شيء‏.‏ فتعصبوا عليه فحبسه الظاهر وجرت بسببه خطوب وشناعات‏.‏ وكان السهروردي رديء الهيئة زري الخلقة دنس الثياب وسخ البدن لا يغسل له ثوبًا ولا جسمًا ولا يقص ظفرًا ولا شعرًا فكان القمل يتناثر على وجهه وكان من رآه يهرب منه لسوء منظره وقبح زيه‏.‏
وطال أمره إلى أن أمر السلطان بقتله فقتل في يوم الجمعة منسلخ ذي الحجة من هذه السنة أخرج من الحبس ميتًا‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ست أذرع وعشرون إصبعًا‏.‏  مبلغ الزيادة ثماني عشرة ذراعًا وأربع عشرة إصبعًا‏.‏
السنة الثانية والعشرون من سلطنة صلاح الدين يوسف بن أيوب على مصر وهي سنة ثمان وثمانين وخمسمائة‏.‏
وفيها توفي السلطان قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قتلمش بن إسرائيل بن سلجوق الملك عز الدين السلجوقي صاحب بلاد الروم‏.‏ طالت أيامه واتسعت ممالكه‏.‏ ولما أسن أصابه الفالج فتعطلت حركته وتنافس أولاده في الملك وحكم عليه ولده قطب الدين ملكشاه وقتل كثيرًا من خواصه في حياة أبيه‏.‏ وكان قطب الدين مقيمًا بسيواس وأبوه بقونية‏.‏
ثم جاء إلى أبيه يقاتله فأخرج إليه العساكر فالتقاهم قطب الدين وكسرهم وبدد شمل أصحاب أبيه ثم ظفر بأبيه فأخذه مكرها وحمله إلى قيسارية ووقع له معه أمور أخر‏.‏ وآخر الأمر أنه عهد إلى ولده غياث الدين بالملك ولم يعهد لقطب الدين‏.‏
وكانت وفاته في نصف شعبان‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ست أذرع وثلاث وعشرون إصبعًا‏.‏ مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وإحدى عشرة إصبعًا‏.‏
 

****************************************************************************************

عمـــــــــود السوارى
وذكر المقريزى فى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار الجزء الأول 32 / 167 كتب قائلاً : " ذكر عمود السواري هذا العمود حجر أحمر منقط وهو من الصوّان الماتع كان حوله نحو أربعمائة عمود كسرها قراجا والي الإسكندرية في أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ورماها بشاطئ البحر ليوعر على العدو سلوكه إذا قدموا ويذكر أن هذا العمود من جملة أعمدة كانت تحمل رواق أرسطاطاليس الذي كان يُدرس به الحكمة وأنه كان دار علم وفيه خزانة كتب أحرقها عمرو بن العاص بإشارة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويقال‏:‏ إنّ ارتفاع هذا العمود سبعون ذراعًا وقطره خمسة أذرع وذكر بعضهم‏:‏ أن طوله بقاعدتيه‏:‏ اثنان وستون ذراعًا وسدس ذراع وهو على نشز طوله ثلاثة وعشرون ذراعًا ونصف ذراع فجملة ذلك خمسة وثمانون ذراعًا وثلثا ذراع وطول قاعدته السفلي اثنا عشر ذراعًا وطول القاعدة العليا سبعة أذرع ونصف‏ "
*****************************************************************************

سوء أفكار صلاح الدين فى تعمير مصر
ذكر المؤرخ المقريزى المسلم فى كتابه المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار  - الجزء الثالث  119 / 167 : " وقال القاضي الفاضل عبد الرحيم البيسانيّ رحمه الله في تعليق المتجدّدات لسنة سبع وسبعين وخمسمائة وفيه يعني يوم الثلاثاء لستٍ بقين من المحرّم ركب السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب أعز الله نصره لمشاهدة ساحل النيل وكان قد انحسر وتشمر عن المقس وما يليه وبعد عن السور والقلعة المستجدّين بالمقس وأحضر أرباب الخبرة واستشارهم فأشير عليه بإقامة الجراريف لرفع الرمال التي قد عارضت جزائرها طريق الماء وسدّته ووقفت فيه وكان الأفضل بن أمير الجيوش لما تربى قدّام دار الملك جزيرة رمل كما هي اليوم أراد أن يقرب البحر وينقل الجزيرة فأشير عليه بأن يبني مما يلي الجزيرة أنفًا خارجًا في البحر ليلقى التيار وينقل الرمل فعسر هذا وعظمت غرامته فأشار عليه ابن سيد بأن يأخذ قصاري فخار تثقب ويعمل تحتها رؤوس برابخ وتلطخ بالزفت وتُكّبُّ القصاري عليها وتدفن في الرمل فإذا أراد النيل وركبها نزل من خروق القصاري إلى الرؤوس فأدارها الماء ومنعتها القاصري أن تنحدر ودامت حركة الرمل بتحريك الماء للرؤوس فانتقل الرمل وذكر أنّ للزفت خاصية في تحويل الرمل قال‏:‏ وفي هذا الوقت احترق النيل وصار البحر مخايض يقطعها الراجل وتوحل فيه المراكب وتشمر الماء على ساحل المقس ومصر وربّى جزائر رملية أشفق منها على المقياس لئلا يتقلص النيل عنه ويحتاج إلى عمل غيره وخشي منها أيضًا على ساحل المقس لكون بنيان السور كان اتصل بالماء وقد تباعد الآن عن السور وصار المدّقوّتة من برّ الغرب ووقع النظر في إقامة جراريف لقطع الجزائر التي رباها البحر وعمر أنوف خارجة في بر الجيزة ليميل بها الماء إلى هذا الجانب ولم يتم شيء من ذلك‏.‏
*****************************************************************************

صلاح الدين الأيوبى يهدم أهرام الجيزة
ذكر المقريزى فى  المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار  الجزء الثالث  ( 123 من 167 )  : "  قناطر الجيزة‏:‏ قال في كتاب عجائب البنيان‏:‏ أن القناطر الموجودة اليوم في الجيزة من الأبنية العجيبة‏.‏
ومن أعمال الجبارين وهي نيف وأربعون قنطرة عمرها الأمير قراقوش الأسديّ وكان على العمائر في أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بما هدمه من الأهرام التي كانت بالجيزة وأخذ حجرها فبنى منه هذه القناطر وبنى سور القاهرةومصر وما بينهما وبنى قلعة الجبل وكان خصيًا روميًا سامي الهمة وهو صاحب الأحاكم المشهورة والحكايات المذكورة وفيه صنف الكتاب المشهور المسمى بالفاشوش في أحكام قراقوش وفي سنة تسع وتسعين وخمسمائة تولى أمر هذه القناطر من لا بصيرة عنده فسدّها رجاء أن يحبس الماء فقويت عليها جرية الماء فقويت عليها جرية الماء فزلزلت منها ثلاث قناطر وانشقت ومع ذلك فما روى ما رجا أن يروي وفي سنة ثمان وسبعمائة رسم الملك المظفر بيبرس الجاشنكير برمّها فعمر ما خرب منها وأصلح ما فسد فيها فحصل النفع بها‏.‏
وكان قراقوش لما أراد بناء هذه القناطر بنى رصيفًا من حجارة ابتدأ به من حيز النيل بإزاء مدينة مصر كأنه جبل ممتدّ على الأرض مسيرة ستة أميال حتى يتصل بالقناطر‏.‏
البرك قال ابن سيده‏:‏ البركة مستنقع الماء والبركة شبه حوض يُحفر في الأرض‏.‏ انتهى‏.‏
******************************************************************************

لماذا أعتنق أبى مليح / مماتى  الإسلام ؟

ذكر المقريزى فى  المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار  الجزء الثالث  ( 126 من 167 )  : " وأما ابن مماتي فنه أسعد بن مهذب بن زكريا بن قدامة بن نينا شرف الدين مماتي أبي المكارم بن سعيد بن أبي المليح الكاتب المصري فأصله من نصارى أسيوط من صعيد مصر واتصل جدّه أبو المليح بأمير الجيوش بدر الجماليّ وزير مصر في أيام الخليفة المستنصر بالله وكتب في ديوان مصر وولي استيفاء الديوان وكان جوادًا ممدوحًا انقطع إليه أبو الطاهر إسماعيل بن محمد المعروف بابن مكيسة الشاعر فمن قوله فيه لما مات‏:‏ طويتْ سماءُ المكرما - تِ وكوّرتْ شمسُ المديحِ وتناثرتْ شهبُ العُلا من بعدِ موتِ أبي المليحِ ما كان بالنكس الدن - يء من الرجالِ ولا الشحيحِ كفر النصارى بعدما عذروا به دونَ المسيحِ ورثاه جماعة من الشعراء ولما مات ولي ابنه المهذب بن أبي المليح زكريا ديوان الجيش بمصر في آخر الفاطمية فلما قدم الأمير أسد الدين شيركوه وتقلد وزارة الخليفة العاضد شدّد على النصارى وأمرهم بشدّ الزنانير على أوساطهم ومنعهم من إرخاء الذؤابة التي تسمى اليوم بالعذبة فكتب لأسد الدين‏:‏ يا أسدَ الدين ومن عدله يحفظُ فينا سنَّةَ المصطفى كفى غيارًا شَدَّ أوساطنا فما الذي أوجبَ كشفَ القفا فلم يسعفه بطلبته ولا مكنه من إرخاء الذؤابة وعندا آيس من ذلك أسلم فقُدِّم على الدواوين حتى مات فخلفه ابنه أبو المكارم أسعد بن مهذب الملقب بالخير على ديوان الجيش واستمرّ في ذلك مدّة أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب وايام ابنه الملك العزيز عثمان وولي نظر الدواوين أيضًا واختص بالقاضي الفاضل وحظي عنده وكان يسميه بلبل المجلس لما يرى من حسن خطابه وصنف عدّة مصنفات منها‏:‏ تلقين اليقين فيه الكلام على حديث بني الإسلام على خمس‏.‏
وكتاب حجة الحق على الخلق في التحذير من سوء عاقبة الظلم‏.‏
وهو كبير وكان السلطان صلاح الدين يُكثر النظر فيه وقال فيه القاضي الفاضل‏:‏ وقفت من التاب على ما لا تحصى عدّته فما رأيت والله كتابًا يكون قبالة باب منه وإنه والله من أهمّ ما طالعه الملوك وكتاب قوانين الدواوين صنفه للملك العزيز فيما يتعلق بدواوين مصر ورسومها وأصولها وأحوالها وما يجري فيها وهو أربعة أجزاء ضخمة والذي يقع في أيدي الناس جزء من واحد اختصره منه غير المصنف فإنْ ابن مماتي ذكر فيه أربعة آلاف ضيعة من أعمال مصر ومساحة كل ضيعة وقانون ريها ومتحصلها من عين وغلة ونظَّم سيرة السلطان صلاح الدين يوسف ونظم كليلة ودمنة وله ديوان شعر ولم يزل بمصر حتى ملك السلطان العادل أبو بكر بن أيوب ووزر له صفيّ الدين عليّ بن عبد الله بن شكر فخافه الأسعد لما كان يصدر منه في حقه من الإهانة وشرع الوزير ابن شكر في العمل عليه ورتب له مؤامرات ونكبه وأحال عليه الأجناد ففرّ من القاهرة وسقط في حلب فخدم بها حتى مات في يوم الأحد سلخ جمادى الأولى سنة ست وستمائة عن اثنتين وستين سنة‏.‏

وكان سبب تلقيب أبي مليح بمماتي أنه كان عنده في غلاء مصر في أيام المستنصر قمح كثير وكان يتصدّق على صغار المسلمين وهو إذ ذاك نصرانيّ وكان الصغار إذا رأوه قالوا مماتي فلقب بها ومن شعره‏:‏ تعاتُبني وتُنهي عن أمورٍ سبيلُ الناسِ أنْ ينهوكَ عنها اتقدرُ أن تكونَ كمثلِ عيني وحقكَ ما عليّ أضرُّ منها وقال في اترجة كانت بين يدي القاضي الفاضل وهو معنى بديع‏:‏ للهِ بلء للحُسنِ أترجةٌ تذكر الناسَ بأمرِ النعيمِ كأنها قَدْ جَمعت نفسها من هيبةِ الفاضلِ عبد الرحيمِ بركة شطا هذه البركة موضعها الآن كيمان على يُسرة من يخرج من باب القنطرة بمدينة مصر طالبًا جسر الأفرم ورباط الآثار كان الماء يعبر إليها من خليج بني وائل وموضعه على يُمنة من يخرج من باب القنطرة المذكورة وكان عليه قنطرة بناها العزيز بالله بن المعز وبها سمي باب القنطرة هذا‏
*****************************************************************************

من أين اتى صلاح الدين ؟ وحروبه

قال المقريزى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار الجزء الثالث ( 138 من 167 ) : " وأول من ملك مصر ن الأكراد الأيوبية‏.‏

السلطان الملك الناصر صلاح الدين‏:‏ أبو المظفر ويف بن نجم الدين أبي الشكر أيوب بن شادي بن مروان الكرديّ من قبيل الروادية أحد بطون الهذبانية‏.‏

نشأ أبوه أيوب وعمه أسد الدين شيركوه ببلددوين من أرض أذربيجان ن جهة أران وبلاد الكرج ودخلا بغداد وخدما مجاهد الدين بهروز شحنة بغداد فبعث أيوب إلى قلعة تكريت وقامه بها مستحفظًا لها ومعه أخوه شيركوه وهو أصغر منه سنًا فخدم أيوب الشهيد زنكي لما انهزم فشكر له خدمته واتفق بعد ذلك أن شيركوه قتل رجلًا بتكريت فطرد هو وأخوه أيوب من قلعتها فمضيا إلى زنكي بالموصل فآواهما وأقطعهما إقطاعًا عنده ثم رتب أيوب بقلعة بعلبلك مستحفظًا ثم أنم عليه بأمرة واتصل شيركوه بنور الدين محمود بن زنكي في أيام أبيه وخدمه فلما ملك حلب بعد أبيه كان لنجم الدين أيوب عمل كثير في أخذ دمشق لنور الدين فتمكنا في دولته حتى بعث شيركوه مع الوزير شاور بن مجير السعدي إلى مصر فسار صلاح الدين في خدمته من جملة أجناده وكان من أمر شيركوه ما كان حتى مات‏.‏

فاقيم بعده في وزارة العاضد ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب في يوم الثلاثاء خامس عشري جمادى الآخرة سنة أربع وستين وخمسمائة ولقبه بالملك الناصر وأنزله بدار الوزارة من القاهرة فاستمال قلوب الناس وأقبل على الجد وترك اللهو وتعاضد هو والقاضي الفاضل عبد الرحيم بن عليّ البيساني رحمه الله على إزالة الدولة الفاطمية وولى صد الدين بن درباس قضاء القضاة وعزل قضاة الشيعة وبنى بمدينة مصر مدرسة للفقهاء المالكية ومدرسة للفقهاء الشافعية وقبض على أمراء الدولة وأقام أصحابه عوضهم وأبطل المكوس بأسرها من أرض مصر ولم يزل يدأب في إزالة الدولة حتى تم له ذلك وخطب لخليفة بغداد المستنصر بأمر الله أبي محمد بن الحسن العباسيّ وكان العاضد مريضًا فتوفي بعد ذلك بثلاثة أيام واستبدّ صلاح الدين بالسلطنة ن أول سنة سبع وستين وخمسمائة واستدعى أباه نجم الدين أيوب وإخوته من بلاد الشام فقدموا عليه بأهاليهم‏.‏

وتأهب لغزو الفرنج وسار إلى الشوبك وهي بيد الفرنج فواقعهم وعاد إلى أيلة فجبى الزكوات من أهل مصر وفرقها على أصنافها ورفع إلى بيت المال سهم العاملين وسهم المؤلفة وسهم المقاتلة وسهم المكاتبين وأنزل الغزو بالقصر الغربيّ وأحاط بأموال القصر وبعث بها إلى الخليفة ببغداد وإلى السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بالشام فأتته الخلع الخليفية فلبسها ورتب نوب الطبلخاناه في كل يوم ثلاث مرات ثم سار إلى الإسكندرية وبعث ابن أخيه تقي الدين عمرو بن شاهنشاه بن أيوب على عسكر إلى برقة وعاد إلى القاهرة‏.‏ثم سار في سنة ثمان وخمسين إلى الكرك هي بيد الفرنج فحصرها وعاد بغير طائل فبعث أخاه الملك المعظم شمس الدولة توران شاه ابن أيوب إلى بلاد النوبة فأخذ قلعة إبريم وعاد بغنائم وسبي كثير ثم سار لأخذ بلاد اليمن فملك زبيد وغيرها فلما مات نور الدين محمود بن زنكي توجه السلطان صلاح الدين في أوّل صفر سنة سبعين إلى الشام وملك دمشق بغير مانع وأبطل ما كان يؤخذ بها من المكوس كما أبطلها من ديار مصر وأخذ حمص وحماه وحاصر حلب وبها الملك الصالح مجير الدين إسماعيل بن العادل نور الدين محمود بن زنكي فقاتله أهلها قتالًا شديدًا فرحل عنها إلى حمص وأخذ بعلبك بغير حصار وثم عاد إلى حلب فوقع الصلح على أن يكون له ما بيده من بلاد الشام مع المعرّة وكفرطاب ولهم ما بأيديهم وعاد فأخذ بغزاس بعد حصار وأقام بدمشق وندب قراقوس التقوي لأخذ بلاد المغرب فأخذ أيجلن وعاد إلى القاهرة‏.‏

وكانت بين السلطان وبين الحبيين وقعة هزمهم فيها وحصرهم بحلب وقدم القاهرة في سادس عشرى ربيع الأول سنة اثنتين وسبعين بعدما كانت لعساكره حروب كثيرة مع الفرنج فأمر ببناء سور يحيط بالقاهرة ومصر وقلعة الجبل وأقام على بنائه الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدي فشرع في بناء قلعة الجبل وعمر السور وحفر الخندق حوله وبدأ السلطان بعمل مدرسة بجوار قبل الإمام الشافعي رضي الله عنه في القرافة وعمل مارستانًا بالقاهرة وتوجه إلى الإسكندرية فصام بها شهر رمضان وسمع الحديث عن الحافظ أبي طاهر أحمد السلفيّ عمر الأسطول وعاد إلى القاهرة وأخرج قراقوش التقوي إلى بلا المغرب وأمر بقطع ما كان يؤخذ من الحجاج وعوض أمير مكة عنه في كل سنة ألف دينار وألف أردب غلة سوى إقطاعه بصعيد مصر وباليمن ومبلغه ثمانية آلاف أردب‏.‏

ثم سار من القاهرة في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين إلى عسقلان وهي بيد الفرنج وقتل وأسر وسبى وغنم ومضى يريدهم بالرملة فقاتل أرياط متملك الكرك قتالًا شديدًا ثم عاد إلى القاهرة ثم سار منها في شعبان يريد الفرنج وقد نزلوا على حماه حتى قدم دمشق وقد رحلوا عنها فواصل الغارات على بلاد الفرنج وعساكره تغزو بلاد المغرب ثم فتح بيت الأحزان من عمل صفد وأخذه من الفرنج عنوة وسار في سنة ست وسبعين لحرب فتح الدين فليح أرسلان صاحب قونيه من بلاد الروم وعاد ثم توجه إلى بلاد الأرمن وعاد فخرّب حصن ثم خرج إلى الإسكنجرية وسمع بها موطأ الإمام مالك على الفقيه أبي طاهر بن عوف وأنشأ بها مارستانًا وداراص للمغاربة ومدرسة وجدد حفر الخليج نقل فوهته ثم مضى إلى دمياط وعاد إلى القاهرة ثم سار في خامس المحرّم سنة ثمان وسبعين على إيلة فأغار على بلاد الفرنج ومضى إلى الكرك فعاثت عساكره ببلاد طبرية وعكا وأخذ الشقيف من الفرنج ونزل السلطان بدمشق وركب إلى طبرية فواقع الفرنج وعاد فتوجه إلى حلب ونازلها ثم مضى إلى البيرة على الفرات وعدى إلى الرها فأخذها وملك حران وارقة ونصيبين وحاصر الموصل فلم ينل منها غرضًا فنازل سنجار حتى أخذها ثم مضى على حران إلى آمد فأخذها وسار على عين تاب إلى حلب فملكها في ثامن عشر صفر سنة تسع وسبعين وعاد إلى دمشق وحرق بيسان على الفرنج وخرب لهم عدة حصون وعاد إلى دمشق ثم سار إلى الكرك فلم ينل منها غرضًا وعاد ثم خرج في سنة ثمانين من دمشق فنازل الكرك ثم رحل عنها إلى نابلس فحرقها وأكثر من الغارات حتى دخل دمشق ثم سار منها إلى حماه ومضى حتى بلغ حرّان ونزل على الموصل وحصرها ثم سار عنها إلى خلاط فلم يملكها فمضى حتى أخذ ميا فارقين وعاد إلى الموصل ثم رحل عنها وقد مرض إلى حران فتقرر الصلح مع المواصلة على أن خطبوا له بها وبديار بكر وجميع البلاد الأرتقية وضرب السكة فيها باسمه ثم سار إلى دمشق فقمها في ثاني ربيع الأول سنة اثنتين وثمانين وخرج منها في أوّل سنة ثلاث وثمانين ونازل الكرك والشبك وطبريةن فملك طبرية في ثالث عشري ربيع الآخر من الفرنج ثم واقعهم على حطين وهم في خمسين ألفًا فهزمهم بعد وقائع عديدة أسر منهم عدة ملوك ونازل عكا حتى تسلمها في ثاني جمادى الأولى وأنقذ منها أربعة آلاف أسير مسلم من الأسر وأخذ مجدل يافا وعدة حسون منها الناصرية وقيسارية وحيفا وصفورية والشقيف والغولة والطور وسبسطية ونابلس وتبنين وصرخد وصيدا وبيروت وجبيل وأنقذ من هذه البلاد زيادة على عشرين ألف اسير مسلم كانوا في أسر الفرنج وأسر من الفرنج مائة ألف إنسان ثم ملك منهم الرملة وبلد الخليل عليه السلام وبيت لحم من القدس ومدينة عسقلان ومدينة غزة وبيت جبريل ثم فتح بيت المقدس في يوم الجعمة سابع عشري رجب وأخرج منه ستين ألفًا من الفرنج بعدما أسر ستة عشر ألفًا ما بين ذكر وأنثى وقبض على مال المفاداة ثلاثمائة الف دينار مصرية وأقام الجمعة بالأقصى وبنى بالقدس مدرسة للشافعية وقرر على من يرد كنيسة قيامة من الفرنج قطيعة يؤديها ثم نازل عكا وصور ونازل في سنة أربع وثمانين حصن كوكب ندب العساكر إلى صفد والكرك والشوبك‏.‏

قال المقريزى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار الجزء الثالث ( 139 من 167 ) : " وعاد إلى دمشق فدخلها سادس ربيع الأول وقد غاب عنها في هذه الغزوة أربعة عشر شهرًا وخمسة أيام ثم خرج منها بعد خمسة أيام فشن الغرات على الفرنج وأخذ منهم انطرسوس وخرب سورها وحرقها وأخذ جبلة واللاذقية وصهيون والشغر وبكاس وبقراص ثم عاد إلى دمشق آخر شعبان بعدما دخل حلب وفملكت عساكره الكرك والشوبك والسلع في شهر رمضان وخرج بنفسه إلى صفد وملكها من الفرنج في رابع عشر شوال وملك كوكب في نصف ذي القعدة وسار إلى القدس ومضى بعد النحر إلى عسقلان ونزل بعكا وعاد إلى دمشق أول صفر سنة خمس وثمانين ثم سار منها في ثالث ربيع الأول ونازل شقيف أرنون وحارب الفرنج حروبًا كثيرة ومضى إلى عكار وقد نزل الفرنج عليها وحصروا من بها من المسلمين فنزل بمرج عكا وقاتل الفرنج من أوّل شعبان حتى انقضت السنة‏.‏وقد خرج الألمان من قسطنطينية في زيادى ألف ألف يريد بلاد الإسلام فاشتّ الأمر ودخلت سنة ست وثمانين والسلطان بالخروبة على حصار الفرنج والإمداد تصل إليه وقد الألمان طرسوس يريد بيت المقدس فخرب السلطان سور طبرية ويافا وأرسوف وقيسارية وصيدا وجبيل وقوي الفرنج بقدوم ابن الألمان إليهم تقوية لهم وقد مات أبو بطرسوس وملك بعده فقدر الله تعالى موته أيضًا على عكا ودخلت سنة سبع وثمانين فملك الفرنج عكا في سابع عشر جمادى الآخرة وأسروا من بها من المسلمين وحاربوا السلطان وقتلوا جميع من أسروه من المسلمين وساروا إلى عسقلان فرحل السلطان في أثرهم وواقعهم بأرسوف فانهزم من معه وهو ثابت حتى عادوا إليه فقاتل الفرن وسبقهم إلى عسقلان وخربها ثم مضى إلى الرملة وخرب حصنها وخرب كنيسة له ودخل القدس فأقام بها إلى عاشر رجب سنة ثمان وثمانين ثم سار إلى يافا فأخذها بعد حروب وعاد إلى القدس وعقد الهدنة بينه وبين الفرنج مدة ثلاث سنين وثلاثة أشهر أولها حادي عشر شعبان على أن للفرنج من يافا إلى عكا إلى صور وطرابلس وإنطاكية ونودي بذلك فكان يومًا مشهودًا وعاد السلطان إلى دمشق فدخلها خامس عشري شوال وقد غاب عنها أربع سنين فمات بها في يوم الأربعاء سابع عشري صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة عن سبع وخمسين سنة منها مدة ملكه بعد موت العاضد اثنتان وعشرون سنة وستة عشر يومًا فقام من بعده بمصر ولده‏.‏
 

This site was last updated 03/19/10