Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم المؤرخ / عزت اندراوس

السلطان الملك الكامل على مصر - 160

إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس ستجد تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
نقش عربى حفره الصليبيون

 

  ****************************************************************************************

 الجزء التالى عن الأسرة الأيوبية الذين حكموا مصر بعد إحتلالهم مصر وهم يدينون لخلافة الأسرة العباسية السنية الإسلامية من مرجع - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة - جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي - منذ غزو مصر على يد جيش المسلمين بقيادة عمرو بن العاص ومن تولوا إمارة مصر قبل الإسلام وبعد الإسلام إلى نهاية سنة إحدى وسبعين وثمانمائة

*****************************************************************************************************************************************

سلطنة الملك الكامل على مصر

 

سلطنة الملك الكامل على مصر أعني بذلك استقلالًا بعد وفاة أبيه العادل لأن الكامل هذا كان متولي سلطنة مصر في حياة والده العادل لما قسم العادل الممالك في أولاده من سنين عديدة أعطى المعظم عيسى دمشق وأعطى الأشرف موسى الشرق وأعطى الملك الكامل محمدًا هذا مصر وصار هو يتنقل في ممالك أولاده والعمدة في كل الممالك عليه إلى أن مات الملك العادل تفرد الملك الكامل محمد بالخطبة في ديار مصر وأعمالها واستقل بأمورها وتدبير أحوالها وذلك من يوم وفاة والده الملك إلى المذكور وهو من يوم الجمعة سابع جمادى الآخرة من سنة خمس عشرة وستمائة‏.‏
قلت‏:‏ وقد تقدم نسب الملك الكامل هذا في ترجمة عمه السلطان صلاح الدين واستوعبنا ذلك من عدة أقوال وحررناه فلينظر هناك‏.‏ قال أبو المظفر‏:‏ ‏"‏ ولد الكامل سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة وكان أكبر أولاد العادل بعد مودود وكان العادل قد عهد إليه لما رأى من ثباته وعقله وسداده‏.‏ وكان شجاعًا ذكيًا فطنًا يحب العلماء والأماثل ويلقي عليهم المشكلات ويتكلم على صحيح مسلم بكلام مليح ويثبت بين يدي العدو‏.‏ وأما عدله فإليه المنتهى ‏"‏ انتهى كلام أبي المظفر باختصار‏.‏
وقال الحافظ أبو عبد الله شمس الدين محمد الذهبي في تاريخ الإسلام‏:‏ ‏"‏ الملك الكامل محمد السلطان ناصر الدين أبو المعالي وأبو المظفر ابن السلطان الملك العادل سيف الدين أبي بكر محمد بن أيوب بن شادي صاحب مصر‏.‏ ولد بمصر سنة ست وسبعين وخمسمائة ‏"‏‏.‏
- قلت‏:‏ وهذا بخلاف ما نقله أبو المظفر في سنة مولده وعندي أن أبا المظفر أثبت لصحبته بأخيه المعظم عيسى وكونه أيضًا عصري الملك الكامل هذا -‏.‏ والله أعلم‏.‏
قال أعني الذهبي‏:‏ وأجاز له العلامة عبد الله بن بري وأبو عبد الله ابن صدقة الحراني وعبد الرحمن بن الخرقي قرأت بخط ابن مسدي في معجمه‏:‏ كان الكامل محبًا للحديث وأهله حريصًا على حفظه ونقله وللعلم عنده شرف خرج له أبو القاسم بن الصفراوي أربعين حديثًا وسمعها جماعة‏.‏
وحكى لي عنه مكرم الكاتب أن أباه العادل استجاز له السلفي قبل موت السلفي بأيام قال ابن المسدي‏:‏ ثم وقفت أنا على ذلك وأجاز لي ‏"‏ و ‏"‏ لابني‏.‏ قال الذهبي‏:‏ وتملك الديار المصرية أربعين سنة شطرها في أيام والده‏.‏
وقيل‏:‏ بل ولد في ذي القعدة سنة خمس وسبعين‏.‏ قلت‏:‏ وهذا قول ثالث في مولده‏.‏
وقال الحافظ عبد العظيم المنذري استادار الحديث بالقاهرة يعني بذلك المدرسة الكاملية ببين القصرين‏.‏
قال‏:‏ وعمر القبة على ضريح الشافعي وأجرى الماء من بركه الحبش إلى حوض السبيل والسقايه وهما على باب القبة المذكورة ووقف غير ذلك من الوقوف على أنواع من أعمال البر بمصر وغيرها‏.‏
وله المواقف المشهودة في الجهاد بدمياط المدة الطويلة وأنفق الأموال الكثيرة وكافح العدو المخذول برًا وبحرًا ليلًا ونهارًا‏.‏ يعرف ذلك من مشاهده‏.‏
‏ انتهى كلام المنذري باختصار‏.‏
وقال القاضي شمس الدين ابن خلكان في تاريخه بعد ما ساق نسبه وذكره نحوًا مما ذكرناه حتى قال‏:‏ ‏"‏ ولما وصل الفرنج إلى دمياط كما تقدم ذكره كان الملك الكامل في مبدأ استقلاله بالسلطنة وكان عنده جماعة كثيرة من أكابر الأمراء منهم‏:‏ عماد الدين أحمد بن المشطوب فاتفقوا مع أخيه الملك الفائز سابق الدين إبراهيم ابن الملك العادل وانضموا إليه فظهر للملك الكامل منهم أمور تدل على أنهم عازمون على تفويض الملك إليه وخلع الكامل واشتهر ذلك بين الناس وكان الملك الكامل يداريهم لكونه في قبالة العدو ولا يمكنه المقاهرة وطول روحه معهم ولم يزل على ذلك حتى وصل إليه أخوه الملك المعظم عيسى صاحب دمشق يوم الخميس تاسع عشر ذي القعدة من سنة خمس عشرة وستمائة فأطلعه الكامل في الباطن على صورة الحال وأن رأس هذه الطائفة ابن المشطوب فجاءه يومًا على غفلة في خيمته واستدعاه فخرج إليه فقال له‏:‏ أريد أن أتحدث أمعك سرًا في خلوة فركب فرسه يعني ابن المشطوب‏.‏ وسار معه جريدة وقد خرد المعظم جماعة ممن يعتمد عليهم ويثق إليهم وقال لهم‏:‏ اتبعونا‏.‏
ولم يزل المعظم يشغله بالحديث ويخرج معه من شيء إلى شيء حتى أبعد عن المخيم ثم قال له‏:‏ يا عماد الدين هذه البلاد لك ونشتهي أن تهبها لنا ثم أعطاه شيئًا من النفقة وقال لأولئك المجردين‏:‏ تسلموه حتى تخرجوه من الرمل فلم يسعه إلا الامتثال لانفراده وعدم القدرة على الممانعة في تلك الحال ثم عاد المعظم إلى أخيه الملك الكامل وعرفه صورة ما جرى‏.‏
ثم جهز أخاه الملك الفائز المذكور إلى الموصل لإحضار النجدة منها ‏"‏ و ‏"‏ من بلاد الشرق فمات بسنجار‏.‏ وكان ذلك خديعة لإخراجه من البلاد‏.‏ فلما خرج هذان الشخصان من العسكر تحللت عزائم من بقي من الأمراء الموافقين لهما ودخلوا في طاعة الملك الكامل كرهًا لا طوعًا‏.‏ وجرى في قصة دمياط ما هو مشهور فلا حاجة للإطالة في ذكره‏.‏
ولما ملك الفرنج دمياط وصارت في أيديهم خرجوا منها قاصدين القاهرة ومصر ونزلوا في رأس الجزيرة التي دمياط في برها وكان المسلمون قبالتهم في القرية المعروفة بالمنصورة والبحر حائل بينهم وهو بحر أشموم ونصر الله - سبحانه وتعالى - بمنه وجميل لطفه المسلمين عليهم كما هو مشهور ورحل الفرنج عن منزلتهم ليلة الجمعة سابع رجب سنة ثماني عشرة وستمائة وتم الصلح بينهم وبين المسلمين في حادي عشر الشهر المذكور ورحل الفرنج عن البلاد في شعبان من السنة المذكورة وكانت مدة إقامتهم في بلاد الإسلام ما بين الشام والديار المصرية أربعين شهرًا وأربعة عشر يومًا وكفى الله - تعالى - المسلمين شرهم والحمد لله على ذلك‏.‏
- قلت ونذكر أمر دمياط من كلام أبي المظفر في آخر هذه الترجمة بأوسع من ذلك لأنه معاصر الكامل وصاحب المعظم فهو أجدر بهذه الواقعة -‏.‏
فلما استراح خاطر الملك الكامل من جهة هذا العدو تفرغ للأمراء الذين كانوا متحاملين عليه فنفاهم عن البلاد وبدد شملهم وشردهم ودخل القاهرة وشرع في عمارة البلاد واستخراج الأموال من جهاتها وكان سلطانًا عظيم القدر جميل الذكر محبًا للعلماء متمسكًا بالسنة حسن الاعتقاد معاشرًا لأرباب الفضائل حازمًا في أموره لا يضع الشيء إلا في مواضعه من غير إسراف ولا إقتارة وكان يبيت عنده كل ليلة جمعة جماعة من الفضلاء يشاركهم في مباحثهم ويسألهم عن المواضع المشكلة في كل فنٍ وهو معهم كواحد منهم وكان - رحمه الله - يعجبه هذان البيتان وينشدهما كثيرًا وهما‏:‏ ما كنت من قبل ملك قلبي تصد عن مدنفٍ حزين وإنما قد طمعت لما حللت في موضع حصين قال‏:‏ ولما مات أخوه الملك المعظم عيسى صاحب الشام وقام ابنه الملك الناصر صلاح الدين داود مقامه خرج الملك الكامل من الديار المصرية قاصدًا أخذ دمشق منه وجاءه أخوه الملك الأشرف مظفر الدين موسى واجتمعا على أخذ دمشق بعد فصول يطول شرحها‏.‏
وملك الكامل دمشق في أول شعبان سنة ست وعشرين وستمائة وكان يوم الاثنين فلما ملكها دفعها لأخيه الملك الأشرف وأخذ عوضها من بلاد الأشرف‏:‏ حران والرها وسروج والرقة ورأس العين توجه إليها بنفسه في تاسع شهر رمضان من السنة‏.‏
قال ابن خلكان‏:‏ واجتزت بحران في شوال سنة ست وعشرين وستمائة والملك الكامل مقيم به بعساكر الديار المصرية وجلال الدين خوارزم شاه يوم ذاك محاصر لخلاط وكانت لأخيه الملك الأشرف ثم رجع إلى الديار المصرية‏.‏
ثم تجهز في جيش عظيم وقصد آمد في سنة تسع وعشرين وستمائة فأخذها مع حصن كيفا والبلاد من الملك المسعود ركن الدين مودود بن الملك الصالح أبي الفتح محمود بن نور الدين محمد بن فخر الدين قرا أرسلان بن ركن الدولة داود بن نور الدولة سقمان ويقال سكمان بن أرتق قال‏:‏ ثم مات أخوه الملك الأشرف وجعل ولي عهده أخاه الملك الصالح إسماعيل بن العادل فقصده الملك الكامل أيضًا وانتزع منه دمشق بعد مصالحة جرت بينهما في التاسع من جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين وستمائة وأبقى له بعلبك وأعمالها وبصرى وأرض السواد وتلك البلاد‏.‏
ولما ملك البلاد المشرقية وآمد وتلك النواحي استخلف فيها ولده الملك الصالح نجم الدين أيوب واستخلف ولده الأصغر الملك العادل سيف الدين أبا بكر بالديار المصرية‏.‏
وقد تقدم في ترجمة الملك العادل أنه سير ولده الملك المسعود أقسيس إلى اليمن وكان أكبر أولاد الملك الكامل‏.‏
وملك الملك المسعود مكة - حرسها الله تعالى - وبلاد الحجاز مضافة إلى اليمن وكان رحيل الملك المسعود من الديار المصرية متوجهًا إلى اليمن في يوم الاثنين سابع عشر رمضان سنة إحدى عشرة وستمائة ودخل مكة في ثالث ذي القعدة من السنة وخطب له بها وحج ودخل زبيد وملكها مستهل المحرم سنة اثنتي عشرة وستمائة‏.‏
ثم ملك مكة في شهر ربيع الآخر سنة عشرين وستمائة أخذها من الشريف حسن بن قتادة الحسني‏.‏
قلت‏:‏ وقد ذكرنا خروج الملك المسعود إلى اليمن من وقته في ترجمة جده الملك العادل‏.‏
وتوفي الملك المسعود في حياة والده الملك الكامل بمكة في ثالث جمادى الأولى سنة ست وعشرين وستمائة‏.‏
وكان مولده في سنة سبع وتسعين وخمسمائة وأظنه أكبر أولاد الكامل‏.‏
قال ابن خلكان‏:‏ واتسعت المملكة للملك الكامل ولقد حكى لي من حضر الخطبة يوم الجمعة بمكة أنه لما وصل الخطيب إلى الدعاء للملك الكامل قال‏:‏ صاحب مكة وعبيدها واليمن وزبيدها ومصر وصعيدها والشام وصناديدها والجزيرة ووليدها سلطان القبلتين ورب العلامتين وخادم الحرمين الشريفين الملك الكامل أبو المعالي ناصر الدين محمد خليل أمير المؤمنين‏.‏
قال‏:‏ ولقد رأيته بدمشق سنة ثلاث وثلاثين وستمائة عند رجوعه من بلاد المشرق واستنقاذه إياها من الأمير علاء الدين كيقباد بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود ابن قليج أرسلان بن سليمان ابن قتلمش بن إسرائيل بن سلجوق بن دقاق السلجوقي صاحب الروم وهي وقعة مشهورة يطول شرحها وفي خدمته يومئذ بضعة عشر ملكًا منهم أخوه الملك الأشرف‏.‏
ولم يزل في علو شأنه وعظيم سلطانه إلى أن مرض بعد أخذه دمشق ولم يركب وكان ينشد في مرضه كثيرًا‏:‏ يا خليلي خبراني بصدق كيف طعم الكرى فإني نسيته ولم يزل كذلك إلى أن توفي يوم الأربعاء بعد العصر ودفن بالقلعة بمدينة دمشق يوم الخميس الثاني والعشرين من رجب سنة خمس وثلاثين وستمائة وأنا بدمشق يومئذ وحضرت الصيحة يوم السبت في جامع دمشق لأنهم أخذوا موته إلى وقت صلاة الجمعة فلما أحضرت الصلاة قام بعض الدعاة على العريش بين يدي المنبر وترحم على الملك الكامل ودعا لولده الملك العادل صاحب مصر وكنت حاضرًا في ذلك الموضع فضج الناس ضجة واحدة وكانوا قد أحسوا بذلك لكنهم لم يتحققوه إلا ذلك اليوم‏.‏
وترتب ابن أخيه الملك الجواد مظفر الدين يونس بن شمس الدين مودود ابن الملك العادل في نيابة السلطنة بدمشق عن الملك العادل بن الكامل صاحب مصر باتفاق الأمراء الذين كانوا حاضرين ذلك الوقت بدمشق‏.‏
ثم بني له تربة مجاورة للجامع ولها شباك إلى الجامع ونقل إليها‏.‏
قال‏:‏ وأما ولده الملك العادل فإنه أقام في المملكة إلى يوم الجمعة ثامن ذي القعدة من سنة سبع وثلاثين وستمائة فقبض عليه أمراء دولته بظاهر بلبيس ‏"‏‏.‏ انتهى كلام ابن خلكان على جليته‏.‏
ونذكر أيضًا من أحوال الكامل نبذة جيدة من أقوال غيره من المؤرخين‏.‏ إن شاء الله تعالى‏.‏
قال بعضهم‏:‏ كان الملك الكامل فاضلًا عالمًا شهمًا مهيبًا عاقلًا محبًا للعلماء وله شعر حسن واشتغال في العلم‏.‏
قيل‏:‏ إنه شكا إليه ركبدار أستاذه بأنه استخدمه ستة أشهر بلا جامكية فأنزل أستاذه من فرسه وألبسه ثياب الركبدار وألبس الركبدار ثيابه وأمره بخدمة الركبدار وحمل مداسه ستة أشهر حتى شفع وكانت الطرق آمنة في زمانه‏.‏
ولما بعث ابنه الملك المسعود أقسيس وافتتح اليمن والحجاز ثم مات قبله كما ذكرناه ورث منه أموالًا عظيمة ففرق غالبها في وجوه البر والصدقات‏.‏
وكانت راية الملك الكامل صفراء‏.‏
وفيه يقول البهاء زهير - رحمه الله تعالى -‏.‏
بك اهتز عطف الدين في حلل النصر وردت على أعقاب ملة الكفر وأقسم إن ذاقت بنو الأصفر الكرى لما حلمت إلا بأعلامك الضفر ثلاثة أعوام أقمت وأشهرًا تجاهد فيهم لا بزيد ولا عمرو وليلة نفر للعدو رأيتها بكثرة من أرديته ليلة النحر وقال‏:‏ وكان فيه جبروت مع سفك الدماء‏.‏
وذكر الشيخ شمس الدين محمد بن إبراهيم الجزري‏:‏ أن عماد الدين يحيى البيضاوي الشريف قال‏:‏ حكى لي الخادم الذي للكامل قال‏:‏ طلب مني الكامل طستا حتى يتقيأ فيه فأحضرته وكان الملك الناصر داود على الباب جاء ليعود عمه الكامل فقلت‏:‏ داود على الباب فقال‏:‏ ينتظر موتي فانزعج فخرجت وقلت‏:‏ ما ذاك وقتك‏.‏
السلطان منزعج فنزل إلى داره ودخلت إلى السلطان فوجدته قد قضى والطست بين يديه وهو مكبوب على المخدة‏.‏
وقال ابن واصل‏:‏ حكى لي طبيبه قال‏:‏ أصابه لما دخل قلعة دمشق زكام فدخل الحمام وصب على رأسه ماء شديد الحرارة اتباعًا لقول محمد بن زكريا الرازي في كتاب سماه ‏"‏ طب ساعة ‏"‏ قال فيه‏:‏ من أصابه زكام وصب على رأسه ماء شديد الحرارة انحل زكامه لوقته وهو لا ينبغي أن يعمل على إطلاقه قال الطبيب‏:‏ فانصب من دماغه إلى فم معدته فتورمت وعرضت له حمى شديدة وأراد القيء فنهاه الأطباء وقالوا‏:‏ إن تقيأ هلك فخالفهم وتقيأ فهلك لوقته‏.‏
قال ابن واصل‏:‏ وحكى لي الحكم رضي الدين قال‏:‏ عرض له خوانيق وتقيأ دمًا كثيرًا ومدة فأراد القيء أيضًا فنهاه موفق الدين إبراهيم وأشار عليه بعض الأطباء بالقيء فتقيأ فانصبت وقال ابن واصل‏:‏ وكان ملكًا جليلًا حازمًا سديد الآراء حسن التدبير لممالكه عفيفًا حليمًا عمرت في أيامه الديار المصرية عمارة كبيرة وكان عنده مسائل غريبة من الفقه والنحو يوردها فمن أجابه حظي عنده‏.‏
 أخذ دمياط قال أبو المظفر في تاريخه‏:‏ ‏"‏ في شعبان أخذ الفرنج دمياط وكان المعظم قد جهز إليها الناهض بن الجرخي في خمسمائة راجل فهجموا على الخنادق فقتل ابن الجرخي ومن كان معه وصفوا رؤوس القتلى على الخنادق وكان الفرنج قد طموها يعني الخنادق وضعف أهل دمياط وأكلوا الميتات وعجز الملك الكامل عن نصرتهم ووقع فيهم الوباء والفناء فراسلوا الفرنج على أن يسلموا إليهم البلد ويخرجوا منه بأموالهم وأهلهم واجتمعوا وحلفوهم على ذلك فركبوا في المراكب وزحفوا في البر والبحر وفتح لهم أهل دمياط الأبواب فدخلوا ورفعوا أعلامهم على السور وغدروا بأهل دمياط ووضعوا فيهم السيف قتلًا وأسرًا وباتوا تلك الليلة بالجامع يفجرون بالنساء ويفتضون البنات وأخذوا المنبر والمصاحف ورؤوس القتلى وبعثوا بها إلى الجزائر وجعلوا الجامع كنيسة وكان أبو الحسن ابن قفل بدمياط فسألوا عنه فقيل لهم‏:‏ هذا رجل صالح من مشايخ المسلمين يأوي إليه الفقراء فما تعرضوا له‏.‏  ووقع على المسلمين كآبة عظيمة‏.‏
وبكى الكامل والمعظم بكاءً شديدًا ثم تأخرت العساكر عن تلك المنزلة‏.‏
ثم قال الكامل لأخيه المعظم‏:‏ قد فات المطلوب وجرى المقدر بما هو كائن وما في مقامك هاهنا فائدة والمصلحة أن تنزل إلى الشام تشغل خواطر الفرنج وتستجلب العساكر من بلاد الشرق‏.‏
قال أبو المظفر‏:‏ فكتب المعظم إلي وأنا بدمشق كتابًا بخطه يقول - في أوله -‏:‏ قد علم الأخ العزيز بأن قد جرى على دمياط ما جرى وأريد أن تحرض الناس على الجهاد وتعرفهم ما جرى على إخوانهم أهل دمياط من الكفرة أهل العناد‏.‏
وإني كشفت ضياع الشام فوجدتها ألفي قرية منها ألف وستمائة أملاك لأهلها وأربعمائة سلطانية وكم مقدار ما تقوم به هذه الأربعمائة من العساكر وأريد أن تخرج الدماشقة ليذبوا عن أملاكهم الأصاغر منهم والأكابر‏.‏
ويكون لقاؤنا وهم صحبتك إلى نابلس في وقت سماه‏.‏ قال‏:‏ فجلست بجامع دمشق وقرأت كتابه عليهم فأجابوا بالسمع والطاعة وقالوا‏:‏ نمتثل أمره بحسب الاستطاعة‏.‏ وتجهزوا فلما حل ركابه بالساحل وقع التقاعد وكان تقاعدهم سببًا لأخذه الثمن والخمس من أموالهم‏.‏
وكتب إلي يقول‏:‏ إذا لم يخرجوا فسر أنت إلينا فخرجت إلى الساحل وهو نازل على قيسارية فأقمنا حتى فتحها عنوة ثم سرنا إلى النفر ففتحه وهدمه وعاد إلى دمشق بعد أن أخرج العساكر إلى السواحل‏.‏
واستمر الملك الكامل على مقاتلة الفرنج إلى أن فتح الله عليه في سنة ثماني عشرة وستمائة وطلب من إخوته النجدة وتوجه المعظم في أول السنة إلى أخيه الأشرف موسى واجتمعا على حران‏.‏
وكتب صاحب ماردين إلى الأشرف يسأله أن يصعد المعظم إليه فسأله فسار إلى ماردين فتلقاه صاحب ماردين من دنيسر وأصدمه إلى القلعة وخدمه خدمة عظيمة وقدم له التحف والجواهر وتحالفا واتفقا على ما أرادا ثم عاد المعظم إلى أخيه الأشرف‏. وجاء خبر دمياط‏.‏
وكان المعظم أحرص الناس على خلاص دمياط والغزاة وكان مصافيًا لأخيه الكامل وكان الأشرف مقصرًا في حق الكامل مباينًا له في الباطن فلما اجتمعت العساكر على حران قطع بهم المعظم الفرات وسار الأشرف في آثاره ونزل المعظم حمص والأشرف سلمية‏.‏
قال‏:‏ وكنت قد خرجت من دمشق إلى حمص لطلب الغزاة فإنهم كانوا على عزم الدخول إلى طرابلس فاجتمعت بالمعظم في شهر ربيع الآخر فقال لي‏:‏ قد سحبت الأشرف إلى هاهنا وهو كاره وكل يوم أعتبه في تأخره وهو يكاسر وأخاف من الفرنج أن يستولوا على مصر وهو صديقك وأشتهي أن تقوم تروح إليه فقد سألني عنك مرارًا ثم كتب إلى أخيه كتابًا بخطه نحو ثمانين سطرًا فأخذته ومضيت إلى سلمية وبلغ الأشرف وصولي فخرج من الخيمة وتلقاني وعاتبني على انقطاعي عنه وجرى بيني وبينه فصول وقلت له‏:‏ المسلمون في ضائقة وإذا أخذ الفرنج الديار المصرية ملكوا إلى حضرموت وعفوا آثار مكة والمدينة والشام وأنت تلعب قم الساعة وارحل فقال‏:‏ ارموا الخيام والدهليز وسبقته إلى حمص فتلقاني المعظم وقال‏:‏ ما نمت البارحة ولا أكلت اليوم شيئًا فقلت‏:‏ غدا يصبح أخوك الأشرف حمصي‏.‏
فلما كان من الغد أقبلت الأطلاب وجاء طلب الأشرف والله ما رأيت أجمل منه ولا أحسن رجالًا ولا أكمل عدة وسر المعظم سرورًا عظيمًا وجلسوا تلك الليلة يتشاورون فاتفقوا على الدخول في السحر إلى طرابلس وكانوا على حال فأنطق الله الملك الأشرف من غير قصد وقال للمعظم‏:‏ يا خوند عوض ما ندخل الساحل وتضعف خيلنا وعساكرنا ويضيع الزمان ما نروح إلى دمياط ونستريح فقال له المعظم - قول رماة البندق قال -‏:‏ نعم فقبل المعظم قدمه ونام الأشرف فخرج المعظم من الخيمة كالأسد الضاري يصيح‏:‏ الرحيل الرحيل إلى دمياط وما كان يظن أن الأشرف يسمح بذلك وساق المعظم إلى دمشق وتبعته العساكر ونام الأشرف في خيمته إلى قرب الظهر وانتبه فدخل الحمام فلم ير حول خيمته أحدًا فقال‏:‏ وأين العساكر فأخبروه الخبر فسكت وساق إلى دمشق فنزل القصير يوم الثلاثاء رابع جمادى الأولى فأقام إلى سلخه وعرض العساكر تحت قلعة دمشق وكان هو وأخوه المعظم في الطيارة بقلعة دمشق وساروا إلى مصر‏.‏
وأما الفرنج فإنهم خرجوا بالفارس والراجل وكان البحر زائدًا جدًا فجاؤوا إلى ترعة فأرسوا عليها وفتح المسلمون عليهم الترع من كل مكان وأحدق بهم عساكر الكامل فلم يبق لهم وصول إلى دمياط وجاء أسطول المسلمين فأخذوا مراكبهم ومنعوهم أن تصل إليهم الميرة من دمياط وكانوا خلقًا عظيمًا وانقطعت أخبارهم عن دمياط وكان فيهم مائة كند وثمانمائة من الخيالة المعروفين وملك عكا والدوك واللوكان نائب البابا ومن الرجالة ما لا يحصى فلما عاينوا الهلاك أرسلوا إلى الكامل يطلبون الصلح والرهائن ويسلمون دمياط فمن حرص الكامل على خلاص دمياط أجابهم ولو أقاموا يومين أخذوا برقابهم فبعث إليهم الكامل ابنه الملك الصالح نجم الدين أيوب وابن أخيه شمس الملوك وجاء ملوكهم إلى الكامل ممن سمينا فالتقاهم وأنعم عليهم وضرب لهم الخيام‏.‏
ووصل المعظم والأشرف في تلك الحال إلى المنصورة في ثالث رجب فجلس الكامل مجلسًا عظيمًا في خيمة كبيرة عالية وقد مد سماطًا عظيمًا وأحضر ملوك الفرنج ووقف المعظم والأشرف والملوك في خدمته وقام الحلي الشاعر - رحمه الله تعالى - فأنشد‏:‏ هنيئًا فإن السعد راح مخلدًا وقد أنجز الرحمن بالنصر موعدا حبانا إله الخلق فتحًا بدا لنا مبينًا وإنعامًا وعزًا مؤيدا ولما طغى البحر الخضم بأهله ال - - طغاة وأضحى بالمراكب مزبدا أقام لهذا الدين من سل سيفه صقيلًا كما سل الحسام مجردا فلم ينج إلا كل شلو مجدلٍ ثوى منهم أو من تراه مقيدا ونادى لسان الكون في الأرض رافعًا عقيرته في الخافقين ومنشدا أعباد عيسى إن عيسى وحزبه وموسى جميعًا يخدمون محمدا وهذا من أبيات كثيرة‏.‏
قلت‏:‏ صح للشاعر فيما قصد من التورية في المعظم عيسى والأشرف موسى لما وقفا في خدمة العامل محمد فلله دره‏!‏ لقد أجاد فيما قال‏.‏
ووقع الصلح بين الملك الكامل وبين الفرنج في يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رجب سنة ثماني عشرة وستمائة وسار بعض الفرنج في البر وبعضهم في البحر إلى عكا وتسلم الكامل دمياط‏.‏
قلت‏:‏ ويعجبني قول البارع كمال الدين علي بن النبيه في مدح مخدومه الملك الأشرف موسى لما حضر مع أخيه المعظم إلى دمياط في هذه الكائنة قصيدته التي أولها‏:‏ للذة العيش والأفراح أوقات فانشر لواءً له بالنصر عادات إلى أن قال منها‏:‏ ألق العصا تتلقف كل ما صنعوا ولا تخف ما حبال القوم حيات وقي قصيدة طويلة مثبتة في ديوان ابن النبيه‏.‏
قال أبو المظفر‏:‏ قال فخر الدين ابن شيخ الشيوخ‏:‏ حضر الفرنج دمياط صعد الكامل على مكان عالٍ وقال لي‏:‏ ما ترى ما أكثر الفرنج‏!‏ ما لنا بهم طاقة فقلت‏:‏ أعوذ بالله من هذا الكلام قال‏:‏ ولم‏.‏
قلت لأن السعد موكل بالمنطق قال‏:‏ فأخذت الفرنج دمياط بعد قليل فلما طال الحصار صعد يومًا على مكان عال وقال‏:‏ يا فلان ترى الفرنج ما أقلهم‏!‏ والله ما هم شيء فقلت‏:‏ أخذتهم والله قال‏:‏ وكيف قلت‏:‏ قلت في يوم كذا وكذا‏:‏ كذا وكذا فأخذوا دمياط وقد قلت اليوم‏:‏ كذا والملوك منطقون بخير وشرة فأخذ دمياط بعد قليل ‏"

وفي سنة سبع وسبعين وخمسمائة رتبت المقاتلة على البرجين وشدّت مراكب إلى السلسلة ليقاتل عليها ويدافع عن الدخول من بين البرجين ورمّ شعث سور المدينة وسدّت ثلمة وأتقنت السلسلة التي بين البرجين فبلغت النفقة على ذلك ألف ألف دينار واعتبر السور فكان قياسه‏:‏ أربعة آلاف وستمائة وثلاثين ذراعًا‏.‏

وفي سنة ثمان وثمانين وخمسمائة أمر السلطان بقطع أشجار بساتين دمياط وحفر خندقها وعمل جسر عند سلسلة البرج‏.‏

وفي سنة خمس عشرة وستمائة كانت واقعة دمياط العظمى وكان سبب هذه الواقعة أنّ الفرنج في سنة أربع عشرة وستمائة تتابعت إمدادهم من رومية الكبرى‏:‏ مقرّ البابا ومن غيرها من بلاد الفرنج وساروا إلى مدينة عكا فاجتمع بها عدة من ملوك الفرنج وتعاقدوا على قصد القدس وأخذه من أيدي المسلمين فصاروا بعكا في جمع عظيم‏.‏

وبلغ ذلك الملك أبا بكر بن أيوب فخرج من مصر في العساكر إلى الرملة فبرز الفرنج من عكا في جموع عظيمة فسار العادل إلى بيسان فقصده الفرنج فخافهم لكثرتهم وقلة عسكره فأخذ على عقبة رفيق يريد دمشق وكان أهل بيسان وصا حولها قد اطمأنوا لنزول السلطان هناك فأقاموا في أماكنهم وما هو إلا أن سار السلطان وإذا بالفرنج قد وضعوا السيف في الناس ونهبوا البلاد فحازوا من أموال المسلمين ما لا يحصى كثرة وأخذوا بيسان وبانياس وسائر القرى التي هناك وأقاموا ثلاثة أيام ثم عادوا إلى مرج عكا بالغنائم والسبي وهلك من المسلمين خلق كثير فاستراح الفرنج بالمرج أيامًا ثم عادوا ثانيًا ونهبوا صيدا والشقيف وعادوا إلى مرج عكا فأقاموا به وكان ذلك كله فيما بين النصف من شهر رمضان وعيد الفطر والملك العادل مقيم بمرج الصفر وقد سير ابنه المعظم عيسى بعسكر إلى نابلس لمنع الفرنج من طروقها والوصول إلى بيت المقدس فنازل الفرنج قلعة الطور سبعة عشر يومًا ثم عادوا إلى عكا وعزموا على قصد الديار المصرية فركبوا بجموعهم البحر وساروا إلى دمياط في صفر فنزلوا عليها يوم الثلاثاء رابع ربيع الأوّل سنة خمس عشرة وستمائة الموافق لثامن حزيران وهم نحو السبعين ألف فارس وأربعمائة ألف راجل فخيموا تجاه دمياط في البرّ الغربيّ وحفروا على عسكرهم خندقًا وأقاموا عليه سورًا وشرعوا في قتال برج دمياط فإنه كان برجًا منيعًا فيه سلاسل من حديد غلاظ تُمدُّ على النيل لتمنع المراكب الواصلة في البحر الملح من الدخول إلى ديار مصر في النيل وذلك أنّ النيل إذا انتهى إلى فسطاط مصر مرّ عليه في ناحية الشمال إلى شطنوف فإذا صار إلى شطنوف انقسم قسمين أحدهما يمرّ في الشمال إلى رشيد فيصب في البحر الملح والشطر الآخر يمرّ من شطنوف إلى جوجر ثم يتفرّق من عند جوجر فرقتين فرقة تمرّ إلى أشموم فتصب في بحيرة تنيس وفرقة تمرّ من جوجر إلى دمياط فتصب في البحر الملح هناك وتصير هذه الفرقة من النيل فاصلة بين مدينة دمياط والبرّ الغربيّ وهذا البرّ الغربيّ من دمياط يعرف بجزيرة دمياط يحيط بها ماء النيل والبحر الملح‏.‏

وفي مدة إقامة الفرنج بهذا البرّ الغربيّ عملوا الآلات والمراسي وأقاموا أبراجًا يزحفون بها في المراكب إلى برج السلسلة ليملكوه فإنهم إذا ملكوه تمكنوا من العبور في النيل إلى القاهرة ومصر وكان هذا البرج مشحونًا بالمقاتلة فتحيل الفرنج عليه وعملوا برجًا من الصواري على بسطة كبيرة وأقلعوا بها حتى أسندوها إليه وقاتلوا من به حتى أخذوه‏.‏

فبلغ نزول الفرنج على دمياط الملك الكامل وكان يحلف أباه الملك العادل على ديار مصر فخرج بمن معه من العساكر في ثالث يوم من وقوع الطائر بخبر نزول الفرنج لخمس خلون منه وأمر والي الغربية بجمع العربان وسار في جمع كبير وخرج الأسطول فأقام تحت دمياط ونزل السلطان بمن معه من العساكر بمنزلة العادلية قرب دمياط وامتدّت عساكره إلى دمياط لتمنع الفرنج من السور والقتال مستمرّ والبرج ممتنع مدّة أربعة أشهر والعادل يسير العساكر من البلاد الشامية شيئًا بعد شيء حتى تكاملت عند الملك الكامل واهتمّ الملك لنزول الفرنج على دمياط واشتدّ خوفه فرحل من مرج الصفر إلى عالقين فنزل به المرض ومات في سابع جمادى الآخرة فكتم الملك المعظم عيسى موته وحمله في محفة وجعل عنده خادمًا وطبيبًا راكبًا إلى جانب المحفة والشر بدار يصلح الشراب ويحمله إلى الخادم فيشربه ويوهم الناس أنّ السلطان شربه إلى أن دخلوا به إلى قلعة دمشق وصارت إليها الخزائن والبيوتات فأعلن بموته‏.‏

وتسلم ابنه الملك المعظم جميع ما كان معه ودفنه بالقلعة ثم نقله إلى مدرسة العادلية بدمشق وبلغ الملك الكامل موت أبيه وهو بمنزلة العادلية قرب دمياط فاستقلّ بمملكة ديار مصر واشتدّ الفرنج وألحوا في القتال حتى استولوا على برج السلسلة وقطعوا السلاسل المتصلة به لتجوز مراكبهم في بحر النيل ويتمكنوا من البلاد فنصب الملك الكامل بدل السلاسل جسرًا عظيمًا لمنع الفرنج من عبور النيل فقاتلت الفرنج عليه قتالًا شديدًا إلى أن قطعوه وكان قد أنفق على البرج والجسر ما ينيف على سبعين ألف دينار وكان الكامل يركب في كل يوم عدة مرار من العادلية إلى دمياط لتدبير الأمور وإعمال الحيلة في مكايدة الفرنج فأمر الملك الكامل أن يفرّق عدة من المراكب في النيل حتى تمنع الفرنج من سلوك النيل فعمد الفرنج إلى خليج هناك يعرف بالأزرق كان النيل يجري فيه قديمًا فحفروه وعمقوا حفره وأجروا فيه المال إلى البحر الملح وأصعدوا مراكبهم فيه إلى بورة على أرض جيزة دمياط مقابل المنزلة التي بها السلطان ليقاتلوه من هناك فلما صاروا في بورة جاؤوه وقاتلوه في الماء وزحفوا إليه عدة مرار فلم يظفروا منه بطائل ولم يتغير على أهل دمياط شيء لأن الميرة والإمداد متصلة إليهم والنيل يحجز بينهم بين الفرنج وأبواب المدينة مفتحة وليس عليها من الحصر ضيق ولا ضرر والعربان تتخطف الفرنج في كل ليلة بحيث امتنعوا من الرقاد خوفًا من غاراتهم فلما قوي طمع العرب في الفرنج حتى صاروا يخطفونهم نهارًا ويأخذون الخيم بمن فيها أكمن الفرنج لهم عدة كمناء وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا وأدرك الناس الشتاء وهاج البحر على مخيم المسلمين وغرّقهم فعظم البلاء وتزايد الغم وألح الفرنج في القتال وكادوا أن يملكوا فبعث الله ريحًا قطعت مراسي مرمة الفرنج‏.‏

وكانت من عجائب الدنيا فمرّت إلى برّ المسلمين فأخذوها فإذا هي مصفحة بالحديد لا تعمل فيها النار ومساحتها خمسمائة ذراع فكسروها فإذا فيها مسا ميرزنة الواحد منها خمسة وعشرون رطلًا وبعث الكامل إلى الآفاق سبعين رسولًا يستنجد أهل الإسلام لنصرة المسلمين ويخوّفهم من غلبة الفرنج على مصر‏.‏

فساروا في شوال وأتته النجدات من حماه وحلب وبينا الناس في ذلك إذ طمع الأمير عماد الدين أحمد بن الأمير سيف الدين أبي الحسين عليّ بن أحمد الهكاريّ‏:‏ المعروف بابن المشطوب في الملك الكامل عندما بلغه موت الملك العادل وكان له لفيف ينقادون إليه ويطيعونه وكان أميرًا كبيرًا مقدّمًا عظيمًا في الأكراد الهكارية وافر الحرمة عند الملوك معدودًا بينهم مثل واحد منهم وكان مع ذلك عالي الهمة غزير الجود واسع الكرم شجاعًا أبيّ النفس تهابه الملوك وله الوقائع المشهورة وهو من أمراء دولة صلاح الدين يوسف فاتفق مع جماعة من الجند وأراد على خلع الملك الكامل وإقامة أخيه الملك الفائز إبراهيم ليصير له الحكم ووافقه الأمير عز الدين الحميدي والأمير أسد الدين الهكاريّ والأمير مجاهد الدين وجماعة من الأمراء فلما بلغ ذلك الملك الكامل دخل عليهم وهم مجتمعون والمصحف بين أيديهم ليحلفوا للفائز فلما رأوه انفضوا فخشي على نفسه فخرج فاتفق وصول الصاحب صفيّ الدين بن سكر من آمد إلى الملك الكامل فإنه كان استدعاه بعد موت أبيه فتلقاه وأكرمه وذكر له ما هو فيه فضمن له تحصيل المال فلما كان في الليل ركب الملك الكامل وتوجه من العادلية في جريدة إلى أشموم طناح فنزلها وأصبح العسكر بغير سلطان فركب كل منهم هواه ولم يعطف الأخ على أخيه وتركوا أثقالهم وخيامهم وأموالهم وأسلحتهم ولحقوا بالسلطان‏.‏
فبادر الفرنج في الصباح إلى مدينة دمياط ونزلوا البرّ الشرقيّ يوم الثلاثاء سادس عشر ذي القعدة بغير منازع ولا مدافع وأخذوا سائر ما كان في عسكر المسلمين وكان شيئًا لا يحيط به الوصف وداخل السلطان وهم عظيم وكاد أن يفارق البلاد فإنه تخيل من جميع من معه واشتدّ طمع الفرنج في أرض مصر كلها وظنوا أنهم قد ملكوها إلا أنّ الله سبحانه وتعالى‏:‏ أغاث المسلمين وثبت السلطان وواقاه أخوه الملك المعظم بأشموم طناح فاشتدّ به أزره وقوي جأشه وأطلعه على ما كان من ابن المشطوب فوعده بإزاحة ما يكره ثم إنّ المعظم ركب إلى خيمة ابن المشطوب واستدعاه للركوب معه ومسايرته فاستمهله حتى يلبس خفيه وثياب الركوب فلم يمهله وأعجله فركب معه وسايره حتى خرج به من العسكر الكامليّ‏.‏

ثم قال له‏:‏ يا عماد الدين هذه البلاد لك وأشتهي أن تهبها لنا وأعطاه نفقة وسلمه إلى جماعة من أصحابه يثق بهم وقال لهم‏:‏ أخرجوه من الرمل ولا تفارقوه حتى يخرج من الشام فلم يسع ابن المشطوب إلا امتثال ما قال المعظم لأنه معه بمفرده ولا قدرة له على الممانعة فساروا به إلى حماه ثم مضى منها إلى المشرق ولما شيع الملك المعظم ابن المشطوب رجع إلى الملك الكامل وأمر أخاه الفائز إبراهيم أن يسير إلى ملوك الشام في رسالة عن أخيه الملك الكامل لاستدعائهم إلى قتال الفرنج فمضى إلى دمشق وخرج منها إلى حماه فمات بها مسمومًا على ما قيل فثبت للملك الكامل أمر الملك وسكن روعه هذا والفرنج قد أحاطوا بدمياط برًّا وبحرًا وأحدقوا وضيقوا على أهلها ومنعوا القوت من الوصول إليهم وحفروا على عسكرهم المحيط بدمياط خندقًا وبنوا عليه سورًا وأهل دمياط يقاتلونهم أشدّ القتال ويمانعونهم وقد غلت عندهم الأسعار لقلّة الأقوات ثم إنّ المعظم فارق الملك الكامل وسار إلى بلاد الشام‏.‏

وأقام الكامل لمحاربة الفرنج وانتدب شمائل أحد الجاندارية في الركاب للدخول إلى دمياط فكان يسبح في الماء ويصل إلى أهل دمياط فيعدهم بوصول النجدات فحظي بذلك عند الكامل وتقرّب منه حتى عمله والي القاهرة وإليه تنسب خزانة شمائل بالقاهرة فلم يزل الحال على ذلك إلى أن دخلت سنة ست عشرة فجهز الملك المنصور محمد بن عمرو بن شاهنشاه بن أيوب صاحب حماه ابنه المظفر تقيّ الدين محمودًا إلى مصر نجمة لخاله الملك الكامل على الفرنج في جيش كثيف فوصل إلى العسكر وتلقاه الملك الكامل وأنزله في ميمنة العسكر منزلة أبيه وجده عند السلطان صلاح الدين يوسف فألح الفرنج في القتال وكان بدمياط نحو العشرين ألف مقاتل فنهكتهم الأمراض وغلت عندهم الأسعار حتى بلغت بيضة الدجاجة عندهم عدة دنانير‏.‏

قال الحافظ عبد العظيم المنذري‏:‏ سمعت الشيخ أبا الحسن عليّ بن فضل يقول‏:‏ كان لبعض بني خيار بقرة فذبحوها وباعوها في الحصار فجاءت ثمانمائة دينار‏.‏

وقال في المعجم المترجم‏:‏ سمعت الأمير أبا بكر بن حسن بن خسويام يقول‏:‏ كنت بدمياط في حصار العدوّ بها فبيع السكر بها بمائة وأربعين دينارًا الرطل والدجاجة بثلاثين دينارًا قال‏:‏ واشتريت ثلاث دجاجات بتسعين دينارًا والرواية بأربعين درهمًا والقبر يحفر بأربعين مثقالًا وأخذت أختي جملًا فشقت جوفه وملأته دجاجًا وفاكهةً وبقلًا وغير ذلك وخاطته ورمته في البحر وكتبت إليّ تقول‏:‏ قد فعلت كذا فإذا رأيتم جملًا ميتًا فخذوه فوقع لنا ليلًا فأخذناه وكان فيه ما يساوي جملة ففرّقته على الناس ثم عمل بعد ذلك ثلاثة جمال على هيئته ففطن لها الفرنج فأخذوها وامتلأت مساكنهم وطرقات البلد من الموتى وعدمت الأقوات وصار السكر كَعِزة الياقوت وفقدت اللحوم فلم يقدر عليها بوجه وآلت بهم الحال إلى أن لم يبق بها سوى قليل من القمح والشعير فقط‏.‏

فتسوّر الفرنج وأخذوا منه البلد في يوم الثلاثاء لخمس بقين من شعبان وكانت مدة الحصار ستة عشر شهرًا واثنين وعشرين يومًا ولما أخذوا البلد وضعوا السيف في الناس فتجاوزوا الحدّ في القتل وأسرفوا في مقدار القتلى وبلغ ذلك السلطان فرحل بعد أخذ دمياط بيومين ونزل قبالة طلخا على رأس بحر أشموم ورأس بحر دمياط وحيز في المنزلة التي صار يقال لها المنصورة وحصَّن الفرنج أسوار دمياط وجعلوا الجامع كنيسة وبثوا سراياهم في القرى فقتلوا ونهبوا وسير السلطان الكتب إلى الآفاق ليستحث الناس على الحضور لدفع الفرنج عن ملك مصر وشرع العسكر في بناء الدور والفنادق والحمامات والأسواق بمنزلة المنصورة وجهز الفرنج من أسروه من المسلمين في البحر إلى عكا وخرجوا من دمياط ونازلوا السلطان تجاه المنصورة وصار بينهم وبينه بحر أشموم وبحر دمياط وكان الفرنج في مائتي ألف راجل وعشرة آلاف فارس فقدّم المسلمون شوانيهم أمام المنصورة وعدّتها مائة قطعة واجتمع الناس من القاهرة ومصر وسائر النواحي من أسوان إلى القاهرة ووصل الأمير حسام الدين يونس والفقيه تقيّ الدين أبو الطاهر محمد بن الحسن بن عبد الرحمن المحلي فأخرجا الناس من القاهرة ومصر ونودي بالنفير العام وخرج الأمير علاء الدين جلدك وجمال الدين بن صيرم لجمع الناس فيما بين القاهرة إلى آخر الحوف الشرقيّ فاجتمع عالم لا يقع عليه حصر وأنزل السلطان على ناحية شارمساح ألف فارس في آلاف من العربان ليحولوا بين الفرنج ودمياط وسارت الشواني ومعها حراقة كبيرة على رأس بحر المحلة وعليها الأمير بدر الدين بن حسون فانقطعت الميرة عن الفرنج من البر والبحر‏.‏

وسارت عساكر المسلمين من الشرق والشام إلى الديار المصرية وكان قد خرج الفرنج من داخل البحر لمدد الفرنج على دمياط فقدم منهم أمم لا تحصى يريدون التوغل في أرض مصر فلما تكاملوا بدمياط خرجوا منها في حدهم وحديدهم ونزلوا تجاه الملك الكامل كما تقدّم فقدمت النجدات يقدمها الملك الأشرف موسى بن العادل وعلى ساقتها الملك المعظم عيسى فتلقاهم الملك الكامل وأنزلهم عنده بالمنصورة في ثالث عشر جمادى الآخرة سنة ثمان عشرة وتتابع مجيء الملوك حتى بلغت عدّة فرسان المسلمين نحو أربعين ألف فارس فحاربوا الفرنج في البر والبحر وأخذوا منهم ست شواني وجلاسة وبطسة وأسروا من الفرنج ألفين ومائتين ثم ظفر المسلمون بثلاث قطائع أخر فتضعضع الفرنج لذلك وضاق بهم المقام‏.‏

فبعثوا يطلبون الصلح فقدم عند مجيء رسلهم أهل الإسكندرية في ثمانية آلاف مقاتل وكان الذي طلب الفرنج القدس وعسقلان وطبرية وجبلة واللاذقية وسائر ما فتحه السلطان صلاح الدين يوسف من الساحل ليرحلوا عن ديار مصر فبذل المسلمون لهم سائر ما ذكر من البلاد خلا مدينة الكرك والشويك فامتنع الفرنج من الصلح وقالوا لا بدّ من أخذهم الكرك والشوبك ومبلغ ثلثمائة ألف دينار عوضًا عما خرّبه الملك المعظم عيسى صاحب دمشق من أسوار القدس وكان المعظم لما مات أبوه العادل واستولى الفرنج على دمياط ونازلوا الملك الكامل قبالة المنصورة خاف أن يصل منهم في البحر من يأخذ القدس ويتحصنوا به فأمر بتخريب أسواره وكانت أسواره وأبراجه في غاية العظمة والمنعة فأتى الهدم على جميعها ما خلا برج داود وانتقل أكثر الناس من القدس ولم يبق به إلا القليل ونقل المعظم ما كان بالقدس من الأسلحة وآلالات فامتنع المسلمون من إجابة الفرنج إلى ذلك وقاتلوهم وعبر جماعة من المسلمين في بحر المحلة إلى الأرض التي عليها الفرنج وحفروا مكانًا عظيمًا في النيل وكان في قوّة الزيادة فركب الماء أكثر تلك الأرض وصار حائلًا بين الفرنج ومدينة دمياط وانحصروا فلم يبق لهم سوى طريق ضيقة فأمر السلطان للوقت بنصب الجسور عند أشموم طناح فعبرت العساكر عليها وملكت الطريق التي يسلكها الفرنج إلى دمياط إذا أرادوا الوصول إليها فاضطربوا وضاقت عليهم الأرض‏.‏

واتفق مع ذلك وصول مرمّة عظيمة للفرنج في البحر حولها عدّة حراقات تحميها وقد ملئت كلها بالميرة والأسلحة فقاتلتهم شواني المسلمين وظفرها الله بهم فأخذها المسلمون وعندما علم الفرنج ذلك أيقنوا بالهلاك وصار المسلمون يرمونهم بالنشاب ويحملون على أطرافهم فهدموا حينئذٍ خيامهم ومجانيقهم وألقوا فيها النار وهموا بالزحف على المسلمين ومقاتلتهم ليخلصوا إلى دمياط فحال بينهم وبين ذلك كثرة الوحل والمياه الراكبة على الأرض وخشوا من الإقامة لقلة أقواتهم فذلوا وسألوا الأمان على أن يتركوا دمياط للمسلمين فاستشار السلطان في ذلك فاختلف الناس عليه فمنهم من امتنع من تأمين الفرنج ورأى أن يؤخذوا عنوة ومنهم من جنح إلى إعطائهم الأمان خوفًا ممن وراءهم من الفرنج في الجزائر وغيرها ثم اتفقوا على الأمان وأن يعطي كل من الفريقين رهائن فتقرّر ذلك في تاسع شهر رجب سنة ثمان عشرة وسير الفرنج عشرين ملكًا رهنًا عند الملك الكامل‏.‏

وبعث الملك الكامل بابنه الملك الصالح نجم الدين أيوب وجماعة من الأمراء إلى الفرنج وجلس السلطان مجلسًا عظيمًا لقدوم ملك الفرنج وقد وقف إخوته وأهل بيته بين يديه وصار في أبهة وناموس مهاب وخرج قسوس الفرنج ورهبانهم إلى دمياط فسلموها للمسلمين في تاسع عشرة وكان يوم تسليمها يومًا عظيمًا وعندما تسلم المسلمون دمياط وصارت بأيديهم قدمت نجدة في البحر للفرنج فكان من جميل صنع الله تأخرها حتى ملكت دمياط بأيدي المسلَمين فإنها لو قدمت قبل ذلك لقوى بها الفرنج فإن المسلمين وجدوا مدينة دمياط قد حصنها للفرنج وصارت بحيث لا ترام ولما تمّ الأمر بعث الفرنج بولد السلطان وأمرائه إليه وسيرَ إليهم السلطان من كان عنده من الملوك في الرهن وتقرّرت الهدنة بين الفرنج والمسلمين مدة ثماني سنين وكان مما وقع الصلح عليه أن كلًا من المسلمين والفرنج يطلق ما عنده من الأسرى وحلف السلطان وإخوته وحلفت ملوك الفرنج وتفرّق الناس إلى بلادهم‏.‏

ودخل الملك الكامل إلى دمياط بإخوته وعساكره وكان يوم دخوله إليها من الأيام المذكورة ورحل الفرنج إلى بلادهم وعاد السلطان إلى مقرّ ملكه وأطلقت الأسرى من ديار مصر وكان فيهم من له من أيام السلطان صلاح الدين يوسف وسارت ملوك الشام بعساكرها إلى بلادها وعمت بشارة أخذ المسلمين مدينة دمياط من الفرنج سائر الآفاق فإن التتر كانوا قد استولوا على ممالك المشرق فأشرف الفرنج على أخذ ديار مصر من أيدي المسلمين وكانت مدة نزول الفرنج على دمياط إلى أن أقلعوا عنها سائرين إلى بلادهم ثلاث سنين وأربعة أشهر وتسعة عشر يومًا منها مدة استيلائهم على مدينة دمياط سنة وعشرة أشهر وأربعة وعشرون يومًا‏.‏

فلما كان في سنة ست وأربعين وستمائة حدث بالسلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد ورم في مأبضه تكوّن منه ناصور فتح وعسر برؤه فمرض من ذلك وانضاف إليه قرحة في الصدر فلزم الفراش إلا أنّ علوّ همته اقتضى مسيره من ديار مصر إلى الشام فسار في محفة ونزل بقلعة دمشق فورد عليه رسول الإمبراطور ملك الفرنج الألمانية بجزيرة صقلية في هيئة تاجر وأخبره سرًّا بأن بواش الذي يقال له‏:‏ رواد فرنس عازم على المسير إلى أرض مصر وأخذها فسار السلطان من دمشق وهو مريض في محفة ونزل بأشموم طناح في المحرّم سنة سبع وأربعين وجمع في مدينة دمياط من الأقوات والأزواد والأسلحة وآلات القتال شيئًا كثيرًا خوفًا أن يجري على دمياط ما جرى في أيام أبيه فأخذت بغير ذلك‏.‏

ولما نزل السلطان بأشموم كتب إلى الأمير حسام الدين أبي عليّ بن عليّ الهديانيّ نائبه بديار مصر أن يجهز الأسطول من صناعة مصر فشرع في الاهتمام بذلك وشحن الأسطول بالرجال والسلاح وسائر ما يحتاج إليه وسيره شيئًا بعد شيء وجهز السلطان الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ ومعه الأمراء والعساكر فنزل بحيرة دمياط من برّها الغربيّ وصار النيل بينه وبينها فلما كان في الساعة الثانية من نهار الجمعة لتسع بقين من صفر وردت مراكب الفرنج البحريين فيها جموعهم العظيمة وقد انضم إليهم فرنج الساحل وأرسوا بإزاء المسلمين‏.‏

وبعث ملكهم إلى السلطان كتابًا نصه‏:‏ أما بعد‏:‏ فإنه لم يخف عليك أني أمين الأمة العيسوية كما أنه لا يخفى عليّ أنك أمين الأمّة المحمدية وغير خافٍ عليك أن عندنا أهل جزائر الأندلس وما يحملونه إلينا من الأموال والهدايا ونحن نسوقهم سوق البقر ونقتل منهم الرجال ونرمّل النساء ونستأسر البنات والصبيان ونخلي منهم الديار وأنا قد أبديت لك ما فيه الكفاية وبذلت لك النصح إلى النهاية فلو حلفت لي بكل الإيمان وأدخلت علي الأقساء والرهبان وحملت قدّامي الشمع طاعة للصلبان لكنت واصلًا إليك وقاتلك في أعز البقاع إليك فإما إن تكون البلاد لي فيا هدية حصلت في يديّ وإما أن تكون البلاد لك والغلبة عليّ فيدك العليا ممتدة إليّ وقد عرّفتك وحذرتك من عساكر حضرت في طاعتي تملأ السهل والجبل وعددهم كعدد الحصى وهم مرسلون إليك بأسياف القضاء‏.‏

فلما قُرئ الكتاب على السلطان وقد اشتدّ به المرض بكى واسترجع‏.‏

فكتب القاضي بهاء الدين زهير بن محمد الجواب‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم وصلواته على سيدنا محمد رسول الله وآله وصحبه أجمعين أما بعد‏:‏ فإنه وصل كتابك وأنت تهدّد فيه بكثرة جيوشك وعدد أبطالك فنحن أرباب السيوف وما قتل منا فرد إلا جددناه ولا بغى علينا باغٍ إلا دمّرناه ولو رأت عينك أيها المغرور حدّ سيوفنا وعظم حروبنا وفتحنا منكم الحصون والسواحل وتخريبنا ديار الأواخر منكم والأوائل لكان لك أن تعض على أناملك بالندم ولا بدّ أن تزل بك القدم في يوم أوّله لنا وآخره عليك فهنالك تسيء الظنون وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون فإذا قرأت كتابي هذا فتكون فيه على أول سورة النحل‏:‏ ‏"‏ أتى أمر الله فلا تستعجلوه ‏"‏ النحل 1 وتكون على آخر سورة ص‏:‏ ‏"‏ ولتعلمنّ نبأه بعد حين ‏"‏ ص 88 ونعود إلى قول الله تعالى وهو أصدق القائلين‏:‏ ‏"‏ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ‏"‏ البقرة 249 وقول الحكماء‏:‏ إن الباغي له مصرع وبغيك يصرعك وإلى البلاد وفي يوم السبت ورد الفرنج وضربوا خيامهم في أكثر البلاد التي فيها عساكر المسلمين وكانت خيمة الملك رواد فرنس حمراء فناوشهم المسلمون القتال واستشهد يومئذِ الأمير نجم الدين يوسف بن شيخ الإسلام والأمير صارم الدين أزبك الوزيريّ فلما أمسى الليل رحل الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ بعساكر المسلمين جبنًا وصلفًا وسار بهم في برّ دمياط وسار إلى جهة أشموم طناح فخاف من كان في مدينة دمياط وخرجوا منها على وجوههم في الليل لا يلتفتون إلى شيء وتركوا المدينة خالية من الناس ولحقوا بالعسكر في أشموم وهم حفاة عرايا جياع حيارى بمن معهم من النساء والأولاد ومروا هاربين إلى القاهرة فأخذ منهم قطاع الطريق ما عليهم من الثياب وتركوهم عرايا فشنعت القالة على الأمير فخر الدين من كل أحد وعُد جميع ما نزل بالمسلمين من البلاه بسبب هزيمته فإن دمياط كانت مشحونة بالمقاتلة والأزواد العظيمة والأسلحة وغيرها خوفًا أن يصيبها في هذه المدّة ما أصابها في أيام الكامل فإنه ما أتى عليها ذاك إلا من قلّة الأقوات بها ومع ذلك امتنعت من الفرنج أكثر من سنة حتى فني أهلها كما تقدّم ولكن الله يفعل ما يريد‏.‏

ولما أصبح الفرنج يوم الأحد لسبع بقين من صفر قصدوا دمياط فإذا أبواب المدينة مفتحة ولا أحد يدفع عنها فظنوا أنّ ذلك مكيدة وتمهلوا حتى ظهر لهم خلوّها فدخلوا إليها من غير مانع ولا مدافع واستولوا على ما بها من الأسلحة العظيمة وآلات الحرب والأقوات الخارجة عن الحدّ في الكثرة والأموال والأمتعة صفوًا بغير كلفة فأصيب الإسلام والمسلمون ببلاء لولا لطف الله لمحي اسم الإسلام ورسمه بالكلية وانزعج الناس في القاهرة ومصر انزعاجًا عظيمًا لما نزل بالمسلمين مع شدة مرض السلطان وعدم حركته وأما السلطان فإنه اشتدّ حنقه علي الأمير فخر الدين وقال‏:‏ أما قدرت أنت والعساكر أن تقفوا ساعة بين يدي الفرنج وأقام عليه القيامة لكن الوقت لم يكن يسع غير الصبر والإغضاء وغضب على الكنانيين الذين كانوا بدمياط ووبخهم فقالوا‏:‏ ما نعمل إذا كانت عساكر السلطان بأجمعهم وأمراؤه هربوا وأخربوا الزردخاناه كيف لا نهرب نحن فأمر بشنقهم لكونهم خرجوا من دمياط بغير إذن وكانت عدّة من شنق من الأمراء الكنانية زيادة على خمسين أميرًا في ساعة واحدة ومن جملتهم أمير جسيم له ابن جميل يسأل أن يُشنق قبل ابنه فأمر السلطان أن يُشنق ابنه قبله فشنق الابن ثم الأب ويقال‏:‏ إنّ شنق هؤلاء كان بفتوى الفقهاء فخاف جماعة من الأمراء وهموا بالقيام على السلطان‏.‏

فأشار عليهم الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ بأن السلطان على خطة فإن مات فقد كفيتم أمره وإلا فهو بين أيديكم وأخذ السلطان في إصلاح سور المنصورة وانتقل إليها لخمس بقين من صفر وجعل الستائر على السور وقدمت الشواني إلى تجاه المنصورة وفيها العُدَد الكاملة وشرع العسكر في تجديد الأبنية هناك وقدم من العربان وأهل النواحي ومن المطوّعة خلق لا يحصى عددهم وأخذوا في الإغارة على الفرنج فملأ الفرنج أسوار مدينة دمياط بالمقاتلة والآلات فلما كان أول ربيع الأوّل قدم إلى القاهرة من أسرى الفرنج الذين تخطفهم العربان ستة وثلاثون منهم‏:‏ فارسان وفي خامس ربيع الآخر ورد منهم تسعة وثلاثون وفي سابعه ورد اثنان وعشرون أسيرًا وفي سادس عشرة ورد خمسة وأربعون أسيرًا منهم‏:‏ ثلاثة خيالة وفي ثامن عشر جمادى الأولى ورد خمسون أسيرًا‏.‏

هذا ومرض السلطان يتزايد وقواه تتناقص حتى آيس الأطباء منه وفي ثالث عشر رجب قدم إلى القاهرة سبعة وأربعون أسيرًا وأحد عشر فارسًا وظفر المسلمون بمسطح للفرنج في البحر فيه مقاتلة من نستراوة‏.‏ فلما كانت

ليلة الأحد لأربع عشرة مضت من شعبان مات الملك الصالح بالمنصورة فلم يظهر موته وحمل في تابوت إلى قلعة الروضة وقام بأمر العسكر الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ‏.‏

فإن شجرة الدر زوجة السلطان لما مات أحضرتُ الأمير فخر الدين والطواشي جمال الدين محسنًا وإليه أمر المماليك البحرية والحاشية وأعلمتهما بموته فكتما ذلك خوفًا من الفرنج لأنهم وسيروا إلى الملك المعظم توران شاه وهو بحصن كيفا الفارس أقطاي لإحضاره وأخذ الأمير فخر الدين في تحليف العسكر للملك الصالح وابنه الملك المعظم بولاية العهد من بعده وللأمير فخر الدين بأتابكية العسكر والقيام بأمر الملك حتى حلفهم كلهم بالمنصورة وبالقاهرة في دار الوزارة عند الأمير حسام الدين بن أبي عليّ في يوم الخميس لاثنتي عشرة بقيت من شعبان وكانت العلامات تخرج من الدهاليز السلطانية بالمنصورة إلى القاهرة بخط خادم يقال له‏:‏ سهيل لا يشك من رآها إنها خط السلطان ومشى ذلك على الأمير حسام الدين بالقاهرة ولم يتفوّه أحد بموت السلطان إلى أن كان يوم الاثنين لثمان بقين من شعبان ورد الأمر إلى القاهرة بدعاء الخطباء في الجمعة الثانية للملك المعظم بعد الدعاء للسلطان وأن ينقش اسمه على السكة فلما علم الفرنج بموت السلطان خرجوا من دمياط بفارسهم وراجلهم وشوانيهم تحاذيهم في البحر حتى نزلوا فارسكور يوم الخميس لخمس بقين من شعبان‏.‏

فورد في يوم الجمعة من الغد كتاب إلى القاهرة من العسكر أوّله‏:‏ ‏(‏انفروا خفافًا وثقالًا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون‏)‏ وفيه مواعظ بليغة بالحث على الجهاد فقرئ على منبر جامع القاهرة وقد جمع الناس لسماعه فارتجت القاهرة ومصر وظواهرهما بالبكاء والعويل وأيقن الناس باستيلاء الفرنج على البلاد لخلو الوقت من ملك يقوم فلما كان يوم الثلاثاء أوّل شهر رمضان اقتتل المسلمون والفرنج فاستشهد العلائيّ أمير مجلس وجماعة ونزل الفرنج شارمساح وفي يوم الاثنين سابعه نزلوا البرمون فاضطرب الناس وزلزلوا زلزالًا شديدًا لقربهم من العسكر وفي يوم الأحد ثالث عشره وصلوا تجاه المنصور وصار بينهم وبين المسلمين بحر أشموم وخندقوا عليهم وأداروا على خندقهم سورًا ستروه بكثير من الستائر ونصبوا المجانيق ليرموا بها على المسلمين وصارت شوانيهم بإزائهم في بحر النيل وشواني المسلمين بإزاء المنصورة والتحم القتال برًّا وبحرًا‏.‏

وفي سادس عشرة نفر إلى المسلمين ستة خيالة أخبروا بمضايقة الفرنج وفي يوم عيد الفطر أسروا من الفرنج كند من أقارب الملك وأبلى عوامّ المسلمين في قتال الفرنج بلاءً كبيرًا وأنكوهم نكاية عظيمة وصاروا يقتلون منهم في كل وقت ويأسرون ويلقون أنفسهم في الماء ويمرّون فيه إلى الجانب الذي فيه الفرنج ويتحيلون في اختطاف الفرنج بكل حيلة ولا يهابون الموت حتى إن إنسانًا قوّر بطيخة وحملها على رأسه وغطس في الماء حتى حاذى الفرنج فظنه بعضهم بطيخة ونزل حتى يأخذها فخطفه وأتى به إلى المسلمين وفي يوم الأربعاء سابع شوّال أخذ المسلمون شونة للفرنج فيها‏:‏ كندا ومائتا رجل وفي يوم الخميس النصف منه ركب الفرنج إلى برّ المسلمين واقتتلوا فقتل منهم أربعون فارسًا وسير في عدة إلى القاهرة بسبعة وستين أسيرًا منهم‏:‏ ثلاثة من أكابر الدوادارية وفي يوم الخميس ثاني عشرية أحرقت للفرنج مَرمّة عظيمة في البحر واستظهر المسلمون عليهم وكان بحر أشموم فيه مخايض فدل بعض من لا دين له ممن يظهر الإسلام الفرنج عليها فركبوا سحر يوم الثلاثاء خامس في القعدة أو رابعه ولم يشعر المسلمون بهم إلا وقد هجموا على العسكر وكان الأمير فخر الدين قد عبر إلى الحمام فأتاه الصريخ بأنّ الفرنج قد هجموا على العسكر فركب دهشًا غير معتدّ ولا متحفظ وساق ليأمر الأمراء والأجناد بالركوب في طائفة من مماليكه فلقيه عدة من الفرنج الدوادارية وحملوا عليه ففرّ أصحابه وأتته طعنة في جنبه وأخذته السيوف من كل جانب حتى لحق بالله عز وجل وفي الحال غدت مماليكه في طائفة إلى داره وكسروا صناديقه وخزائنه ونهبوا أمواله وخيوله وساق الفرنج عند مقتل الأمير فخر الدين إلى المنصورة ففرّ المسلمون خوفًا منهم وتفرقوا يمنةً ويسرةً وكادت الكسرة أن تكون وتمحوا الفرنج كلمة الإسلام من أرض مصر ووصل الملك رواد فرنس إلى باب قصر السلطان ولم يبق إلا أن يملكه فأذن الله تعالى أنَّ طائفة المماليك من البحرية والجمدارية الذين استجدّهم الملك الصالح ومن جملتهم‏:‏ بيبرس البندقداري حملوا على الفرنج حملة صدقوا فيها اللقاء حتى أزاحوهم عن مواقفهم وأبلوا في مكافحتهم بالسيوف والدبابيس فانهزموا وبلغت عدة من قتل من فرسان الفرنج الخيالة في هذه النوبة ألفًا وخمسمائة فارس وأما الرجالة فإنها كانت وصلت إلى الجسر لعدّي فلو تراخى الأمر حتى صاروا مع المسلمين لأعضل الداء على أن هذه الواقعة كانت بين الأزقة والحروب ولولا ضيق المجال لما أفلت من الفرنج أحد فنجا من بقي منهم وضربوا عليهم سورًا وحفروا خندقًا وصارت طائفة منهم في البرّ الشرقيّ ومعظمهم في الجزيرة المتصلة بدمياط وكانت البطاقة عند الكبسة سرّحت على جناح الطائر إلى القاهرة فانزعج الناس انزعاجًا عظيمًا ووردت السوقة وبعض العسكر ولم تغلق أبواب القاهرة ليلة الأربعاء وفي يوم الأربعاء‏:‏ سقط الطائر بالبشارة بهزيمة الفرنج وعدة من قتل منهم فزينت القاهرة وضربت البشائر بقلعة الجبل‏.‏

وسار المعظم توران شاه إلى دمشق فدخلها يوم السبت آخر شهر رمضان واستولى على من بها ولأربع مضين من شوّال سقط الطائر بوصوله إلى دمشق فضربت البشائر في العسكر بالمنصورة وفي قلعة الجبل وسار من دمشق لثلاث بقين منه فتواترت الأخبار بقدومه وخرج الأمير حسام الدين بن أبي عليّ إلى لقائه فوافاه بالصالحية لأربع عشرة بقيت من ذي القعدة ومن يومئذٍ أعلن بموت الملك الصالح بعدما كان قبل ذلك لا ينطق أحد بموته البتة بل الأمور على حالها والدهليز السلطانيّ بحاله والسماط على العادة وشجرة الدر أم خليل زوجة السلطان تدبر الأمور وتقول‏:‏ السلطان مريض ما إليه وصول ثم سار من الصالحية فتلقاه الأمراء والمماليك واستقرّ بقصر السلطنة من المنصورة يوم الثلاثاء تاسع عشر في القعدة وفي أثناء هذه المدة عمل المسلمون مراكب وحملوها على الجمال إلى بحلة المحلة وألقوها فيه وشحنوها بالمقاتلة فعندما حاذت مراكب الفرنج بحر المحلة وتلك المراكب فيه مكمنة خرجت عليهم ووقع الحرب بينهما وقدم الأسطول الإسلاميّ من جهة المنصورة وأحاط بالفرنج فظفر باثنين وخمسين مركبًا للفرنج وقتل وأسر منهم نحو ألف رجل فانقطعت الميرة عن الفرنج واشتدّ عندهم الغلاء وصاروا محصورين‏.‏

فلما كان أوّل يوم من في الحجة أخذ الفرنج من المراكب في بحر المحلة سبعُ حراريق وفرّ من كان فيها من المسلمين وفي يوم عرفة برزت الشواني الإسلامية إلى مراكب قدمت للفرنج فيها ميرة فأخذت منها اثنين وثلاثين مركبًا منها تسع شواني فوهنت قوّة الفرنج وتزايد الغلاء عندهم وشرعوا في طلب الهدنة من المسلمين على أن يسلموا دمياط ويأخذوا بدلًا منها القدس وبعض بلاد الساحل فلم يجابوا إلى ذلك فلما كان اليوم السابع والعشرون من في الحجة أحرق الفرنج أخشابهم كلها وأتلفوا مراكبهم يريدون التحصن بدمياط ورحلوا في ليلة الأربعاء لثلاث مضين من المحرّم سنة ثمان وأربعين وستمائة إلى دمياط وأخذت مراكبهم في الانحدار قبالتهم فركب المسلمون أقفيتهم بعدما عدوا إلى برهم وطلع الفجر من يوم الأربعاء وقد أحاط المسلمون بالفرنج وقتلوا وأسروا منهم كثيرًا حتى قيل‏:‏ إن عدد من قتل من الفرسان على فارسكور يزيد على عشرة آلاف وأسر من الخيالة والرجال والصناع والسوقة ما يناهز مائة ألف ونهب من المال والذخائر والخيول والبغال ما لا يحصى وانحاز الملك رواد فرنس وأكابر الفرنج إلى تل ووقفوا مستسلمين وسألوا الأمان فأمنهم الطواشي جمال الدين محسن الصالحي ونزلوا على أمانة‏.‏

وأحيط بهم وسيقوا إلى المنصورة فقيد روادفرنس واعتقل في الدار التي كان ينزل فيها القاضي فخر الدين إبراهيم بن لقمان كاتب الإنشاء ووكل به الطواشي صبيح المعظميّ واعتقل معه أخوه ورتب له راتب يحمل إليه في كل يوم ورسم الملك المعظم لسيف الدين يوسف بن الطوري أحد من وصل صحبته من الشرق أن يتولى قتل الأسرى فكان يخرج منهم كل ليلة ثلثمائة رجل ويقتلهم ويلقيهم في البحر حتى فنوا‏.‏

ولما قبض على الملك روادفرنس رحل الملك المعظم من المنصورة ونزل بالدهليز السلطانيّ على فارسكور وعمل له برجًا من خشب وتراخى في قصد دمياط وكتب بخطه إلى الأمير جمال الدين بن يغمور نائبه بدمشق وولده توران شاه‏.‏

الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن وما النصر إلا من عند الله ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله وأما بنعمة ربك فحدّث وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها نبشر المجلس السامي الجماليّ بل نبشر المسلمين كافة بما من الله به على المسلمين من الظفر بعدوّ الدين فإنه كان قد استكمل أمره واستحكم شرّه ويئس العباد من البلاد والأهل والأولاد فنودوا ألا تيأسوا من روح الله‏.‏
 

‏‏ السنة الأولى من سلطنة الملك الكامل
محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب على مصر وهي سنة ست عشرة وستمائة‏.‏
وقد تقدم أن الكامل كان ولي مصر في حياة والده العادل سنين عديدة فلا عمدة بولايته تلك الأيام فإنه كان كالنائب بمصر لأبيه العادل ولا عبرة إلا بعد استقلاله بسلطنة مصر بعد وفاة أبيه‏.‏
فيها أعني سنة ست عشرة وستمائة أخرب الملك المعظم عيسى صاحب دمشق القدس لأنه كان توجه إلى أخيه الملك الكامل صاحب الترجمة في نوبة دمياط في المرة الأولى فبلغه أن الفرنج على عزم أخذ القدس فاتفق الأمراء على خرابه وقالوا‏:‏ قد خلا الشام من العساكر فلو أخذ الفرنج القدس حكموا على الشام جميعه‏.‏
وكان بالقدس أخوه العزيز عثمان وعز الدين أيبك أستادار فكتب إليهما المعظم بخرابه فتوقفا وقالا‏:‏ نحن نحفظه فكتب إليهما المعظم ثانيًا‏:‏ لو أخذوه لقتلوا كل من فيه وحكموا على الشام وبلاد الإسلام فألجأت الضرورة إلى خرابه‏.فشرعوا في خراب السور أول يوم من المحرم ووقع في البلد ضجة عظيمة‏.‏
وخرج النساء المخدرات والبنات والشيوخ وغيرهم إلى الصخرة والأقصى وقطعوا شعورهم ومزقوا ثيابهم وفعلوا أشياء من هذه الفعال ثم خرجوا هاربين وتركوا أموالهم وأهاليهم وما شكوا أن الفرنج تصبحهم وامتلأت بهم الطرقات فتوجه بعضهم إلى مصر وبعضهم إلى الكرك وبعضهم إلى دمشق وكانت البنات المخدرات يمزقن ثيابهن ويربطنها على أرجلهن من الحفا ومات خلق كثير من الجوع والعطش ونهبت الأموال التي كانت لهم بالقدس وبلغ ثمن القنطار الزيت عشرة دراهم والرطل النحاس نصف درهم وذم الناس المعظم فقال بعض أهل العلم في ذلك‏:‏ في رجب حلل الحميا وأخرب القدس في المحرم وقال القاضي مجد الدين محمد بن عبد الله الحنفي قاضي الطور في خراب القدس‏:‏ مررت على القدس الشريف مسلمًا على ما تبقى من زبوع كأنجم ففاضت دموع العين مني صبابةً على ما مضى من عصرنا المتقدم وقد رام علج أن يعفي رسومه وشمر عن كفي لئيمٍ مذمم فقلت له شلت يمينك خلها لمعتبر أو سائل أو مسلم فلو كان يفدى بالنفوص فديته بنفسي وهذا الظن في كل مسلم وفيها حج بالناس من العراق أقباش الناصري ومن الشام مملوك الملك المعظم عيسى‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم أربع أذرع ونصف إصبع‏.‏ مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا سواء‏.‏
السنة الثانية من سلطنة الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب على مصر وهي سنة سبع عشرة وستمائة‏.‏
وفيها توفي الملك الفائز إبراهيم ابن الملك العادل أبي بكر ابن الأمير نجم الدين أيوب أخو الملك الكامل صاحب الترجمة‏.‏
وقد تقدم أنه كان يريد الوثوب على أخيه الملك الكامل واتفق مع ابن المشطوب حتى أخرجهما أخوه الملك المعظم عيسى من مصر فمات الفائز بين سنجار والموصل فحمل إلى سنجار ودفن بتربة عماد الدين زنكي والد السلطان الملك العادل نور الدين محمود الشهيد ومات وهو في عنفوان شبيبته ,

وفيها توفي محمود بن محمد بن قرا أرسلان بن أرتق الملك الصالح ناصر الدين صاحب آمد كان شجاعًا عاقلًا جوادًا محبًا للعلماء وكان الأشرف يحبه وجاء إلى الأشرف وخدمه غير مرة ة ومات بآمد في صفر‏.‏
وقام بعده ولده مسعود وكان مسعود ضد اسمه بخيلًا فاسقًا حصره الملك الكامل هذا وظفر به وأخذه إلى مصر وأحسن إليه فكاتب الروم وسعى في هلاك الكامل فحبسه الكامل - لما سمع ذلك - في الحبس مدة ثم أطلقه فمضى إلى التتار وكان معه الجواهر والأموال فقتلته التتار وأخذوا جميع ما كان معه‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ثلاث أذرع ونصف إصبع‏.‏ مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وثماني أصابع‏.‏
السنة الثالثة من سلطنة الملك الكامل بن العادل أبي بكر بن أيوب على مصر وهي سنة ثماني عشرة وستمائة‏.‏
وفيها توفي الأمير قطب الدين أحمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب أخو الملك الكامل محمد هذا‏.‏ مات بالفيوم فنقل إلى القاهرة ودفن بها‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ثلاث أذرع وسبع أصابع‏.‏ مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وثلاث أصابع‏.‏
السنة الرابع من سلطنة الملك الكامل بن العادل أبي بكر بن أيوب على مصر وهي سنة عشرين وستمائة‏.‏
قال أبو شامة‏:‏ ففيها عاد الملك الأشرف موسى من مصر إلى الشام قاصدًا بلاده بالشرق فالتقاه أخوه المعظم عيسى وعرض عليه النزول بالقلعة فامتنع ونزل بجوسق والده العادل وبدت الوحشة بين الإخوة الثلاثة يعني الكامل محمدًا صاحب الترجمة والمعظم عيسى صاحب دمشق والأشرف موسى صاحب خلاط وغيرها قال‏:‏ ثم رحل الأشرف سحرًا على ضمير ثم سار إلى حران وكان الأشرف قد استناب أخاه شهاب الدين غازيًا صاحب ميافارقين على خلاط لما سافر إلى مصر وجعله ولي عهده ومكنه من بلاده فسولت له نفسه العصيان وحسن له ذلك الملك المعظم وكاتبه وأعانه وكذا كاتبه صاحب إربل والمشارقة فأرسل الأشرف إلى غازي المذكور يطلبه فامتنع فأرسل إليه‏:‏ يا أخي لا تفعل أنت ولي عهدي والبلاد في حكمك فأبى فجمع الأشرف عساكره وقصده ووقع له معه أمور حتى هزمه ثم رضي عنه الأشرف حسب ما نذكره في السنة الآتية‏.‏
وفيها كانت بين التتار الذين جاؤوا إلى الدربند وبين القبجاق والروس وقعة هائلة وصبر الفريقان أيامًا ثم انهزم القبجاق والروس ولم يسلم منهم إلا اليسير‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم أربع أذرع ونصف إصبع‏.‏ مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا سواء‏.‏
السنة السادسة من سلطنة الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب على مصر وهي سنة إحدى وعشرين وستمائة‏.‏
فيها استرد الملك الأشرف موسى مدينة خلاط من أخيه شهاب الدين غازي وأبقى عليه ميافارقين ورضي عنه بعد أمور وقعت بينهما وقد تقدم ذكر ذلك أيضًا‏.‏
وفيها ظهر السلطان جلال اللين بن خوارزم شاه بعد ما انفصل عن بلاد الهند وكرمان واستولى على أذربيجان وحكم عليها‏.‏
وراسله الملك المعظم عيسى ليعينه على قتال أخيه الملك الأشرف موسى ثم كتب المعظم أيضًا لصاحب إربل في هذا المعنى وبعث ولده الملك الناصر داود إليه رهينة‏.‏
وفيها استولى بدر الدين لؤلؤ على الموصل وأظهر أن الملك محمود بن القاهر قد توفي وكان قد أمر بخنقه‏.‏
وفيها بنى الملك الكامل صاحب الترجمة دار الحديث الكاملية بالقاهرة في بين القصرين وجعل أبا الخطاب بن دحية شيخها‏.‏
وفيها قدم الملك مسعود أضسيس المشهور بأقسيس على أبيه الملك الكامل من اليمن طائعًا وعزمه أخذ الشام من عمه الملك المعظم عيسى وقدم لأبيه أشياء عظيمة منها مائتا خادم‏.‏
قال ابن الأثير‏:‏ وفيها عادت التتار من بلاد القبجاق ووصلت إلى الري وكان من سلم من أهلها قد عمروها فلم يشعروا إلا بقدوم التتار بغتة فوضعوا فيهم السيف ثم فعلوا بعدة بلاد أخر وفيها حدثت واقعة قبيحة من الكرج وهو أن الكرج - لعنهم الله - لم يبق فيهم من بيت الملك أحد سوى امرأة فملكوها عليهم‏.‏
قال ابن الأثير‏:‏ ثم طلبوا لها زوجًا يتزوجها وينوب عنها في الملك ويكون من بيت مملكة‏.‏
وكان صاحب أرزن الروم مغيث الدين طغرل شاه بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان وهو من الملوك السلجوقية وله ولد فأرسل إلى الكرج يخطب الملكة لولده فامتنعوا وقالوا‏:‏ لا يملكنا مسلم فقال لهم‏:‏ إن ابني يتنصر ويتزوجها فأجابوا فتنصر وتزوج بها وأقام عندها حاكمًا في بلادهم فنعوذ بالله من الخذلان‏!‏ وكانت الملكة تهوى مملوكًا فكان هذا الزوج يسمع عنها من القبائح أشياء ولا يمكنه الكلام لعجزه فدخل يومًا فرآها مع المملوك فأنكر ذلك فقالت‏:‏ إن رضيت بذا وإلا أنت أخبر بما أفعله معك‏!‏‏.‏  فقال‏:‏ إنني لا أرضى بهذا فنقلته إلى بلد آخر ووكلت به من يحفظه وحجرت عليه وأرسلت إلى بلاد اللان وأحضرت رجلين وصفًا لها بحسن الصورة فتزوجت بأحدهما وبقي معها ذاك يسيرًا ثم فارقته وأحضرت آخر من كنجة وهو مسلم فطلبت منه أن يتنصر ويتزوجها فلم يفعل فأرادت أن تتزوجه وهو مسلم فقام عليها الأمراء ومعهم إبواني مقدمهم وقالوا لها‏:‏ فضحتينا بين الملوك بما تفعلين‏!‏ ‏"‏ ثم تريدين أن يتزوجك مسلم وهذا لا نمكنك منه أبدًا ‏"‏ والأمر بينهم متردد والرجل الكنجي عندهم ‏"‏ لم يجبهم إلى الدخول في النصرانية

الماء القديم ثلاث أذرع سواء‏.‏ مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وثلاث وعشرون إصبعًا‏.‏
السنة السابعة من سلطنة الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب على مصر وهي سنة اثنتين وعشرين وستمائة‏.‏
فيها في شهر ربيع الأولى وصل السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه إلى دقوقا فافتتحها بالسيف وأحرق البلد ونهب أهلها وفعل فيها ما لا تفعله الكفار لكونهم شتموه ولعنوه على الأسوار ثم عزم على قصد بغداد فانزعج الخليفة الناصر لدين الله واستعد لقتاله وأنفق ألف ألف دينار في هذا المعنى‏.‏
قال أبو المظفر‏:‏ ‏"‏ قال لي الملك المعظم عيسى‏:‏ كتب إلي جلال الدين يقول‏:‏ تحضر أنت ومن عاهدني فنتفق حتى نقصد الخليفة فإنه كان السبب في هلاك المسلمين وفي هلاك أبي وفي مجيء الكفار إلى البلاد ووجدنا كتبه إلى الخطا وتواقيعه لهم بالبلاد والخلع والخيل فقال المعظم‏:‏ فكتبت إليه‏:‏ أنا معك على كل أحد إلا على الخليفة فإنه إمام المسلمين ‏"‏‏.‏ انتهى‏.‏
قلت‏:‏ ثم وقع لجلال الدين المذكور في هذه السنة أمور ووقائع مع غير الخليفة من الملوك يطول وفيها توفي الخليفة الناصر لدين الله أمير المؤمنين أبو العباس أحمد ابن الخليفة المستضيء بالله أبي محمد الحسن ابن الخليفة المستنجد بالله أبي المظفر يوسف ابن الخليفة المقتفي بأمر الله أبي عبد الله محمد ابن الخليفة المستظهر بالله أحمد الهاشمي العباسي البغدادي‏.‏
ولد يوم الاثنين عاشر شهر رجب سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة وبويع بالخلافة بعد موت أبيه المستضيء في أول ذي القعدة سنة خمس وسبعين وخمسمائة‏.‏ وأمه أم ولد تركية‏.‏
قال الشيخ شمس الدين‏:‏ ‏"‏ وكان أبيض اللون تركي الوجه مليح العينين أنور الجبهة أقنى الأنف خفيف العارضين أشقر اللحية رقيق المحاسن‏.‏ كان نقش خاتمه‏:‏ ‏"‏ رجائي من الله عفوه ‏"‏‏.‏
لم يل الخلافة قبله أحد من بني العباس أطول مدة منه إلا ما ذكرنا من خلفاء العبيدية المستنصر معد ‏"‏ انتهى‏.‏
وفي أيام الناصر لدين الله ظهرت الفتوة ببغداد ورمي البندق ولعب الحمام المناسيب وافتن الناس في ذلك ودخل فيه الأجلاء ثم الملوك فألبسوا الملك العادل ثم أولاده سراويل الفتوة ولبسها أيضًا الملك شهاب الدين صاحب غزنة والهند من الخليفة الناصر لدين الله ولبسها جماعة أخر من الملوك‏.‏
وأما لعب الحمام فخرج فيه عن الحد يحكى عنه أنه لما دخلت التتار البلاد وملكوا من ما وراء النهر إلى العراق وقتلوا تلك المقتلة من المسلمين التي ما نكب المسلمون بأعظم منها دخل عليه الوزير فقال له‏:‏ آه يا مولانا إن التتار قد ملكت البلاد وقتلت المسلمين‏!‏ فقال له الناصر لدين الله‏:‏ دعني أنا في شيء أهم من ذلك‏!‏ طيرتي البلقاء لي ثلاثة أيام ما رأيتها‏!‏ وفي هذه الحكاية كفاية إن صحت عنه‏.‏ وكانت وفاته في سلخ شهر رمضان وكانت خلافته سبعًا وأربعين سنة‏.‏
وبويع بعده لولده أبي نصر ولقب بالظاهر بأمر الله فكانت خلافه الظاهر المذكور تسعة أشهر ومات‏.‏
وفيها توفي السلطان الملك الأفضل على بن ابن السلطان صلاح الدين يوسف ابن الأمير نجم الدين أيوب في يوم الجمعة من شهر ربيع الأول من السنة وهو الذي كان ملك الشام في حياة أبيه ثم من بعده ووقع له تلك الأمور مع أخيه وعمه العادل وقد تقدم ذكر ذلك كله وتنقلت به الأحوال إلى أن صار صاحب سميساط وبقي بها إلى أن مات في هذه السنة‏.‏
وكان مولده بمصر في سلطنة والده سنة خمس وستين وخمسمائة‏.‏
وكان فاضلًا شاعرًا حسن الخط قليل الحظ غير مسعود في حركاته -
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم أربع أذرع ونصف إصبع‏.‏ مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وتسع عشرة إصبعًا‏.‏
 

تمم الله على الإسلام بركتها فتحنا الخزائن وبذلنا الأموال وفرّقنا السلاح وجمعنا العربان والمطوّعة وخلقًا لا يعلمهم إلا الله جاءوا من كل فج عميق ومكان سحيق فلما رأى العدوّ ذلك أرسل يطلب الصلح على ما وقع الاتفاق بينهم وبين الملك الكامل فأبينا ولما كانت ليلة الأربعاء تركوا خيامهم وأموالهم وأثقالهم وقصدوا دمياط هاربين فسرنا في آثارهم طالبين وما زال السيف يعمل في أدبارهم عامّة الليل وقد حلّ بهم الخزي والويل فلما أصبحنا يوم الأربعاء قتلنا منهم ثلاثين ألفًا غير من ألقى نفسه في اللجج وأما الأسرى فحدّث عن الحر ولا حرج والتجأ الفرنسيس إلى المينة وطلب الأمان فأمّناه وأخذناه وكرمناه وسلمناه دمياط بعون الله تعالى وقوله وجلاله وعظمته وبعث مع الكتاب غفارة الملك فرنسيس فلبسها الأمير جمال الدين بن يغمور وهي‏:‏ اشكر لاطا أحمر بفرو سنجاب فقال الشيخ نجم الدين بن إسرائيل‏:‏ إنّ غفارة الفرنسيس جاءت فهي حقًا لسيد الأمراء وقال آخر‏:‏ أسيّدُ أملاك الزمان بأسرهم تنجزت من نصر الإله وعوده فلا زال مولانا يبيح حمى العدى ويُلبس أثواب الملوك عبيده وأخذ الملك المعظم يهدّد زوجة أبيه شجرة الدر ويطالبها بمال أبيه فخافته وكاتبت مماليك الملك الصالح تحرّضهم عليه وكان المعظم لما وصل إليه الفارس أقطاي إلى حصن كيفا وعده أن يعطيه إمرة فلم يفِ له بها وأعرض مع ذلك عن مماليك أبيه واطّرح أمراءه وصرف الأمير حسام الدين بن أبي عليّ عن نيابة السلطنة وأحضره إلى العسكر ولم يعبأ به وأبعد غلمان أبيه واختص بمن وصل معه من المشرق وجعلهم في الوظائف السلطانية فجعل الطواشي مسرورًا خادمه إستادارًا وعمل صبيحًا وكان عبدًا حبشيًا فحلًا خازنداره وأمر أن تكون له عصا من ذهب وأعطاه مالًا جزيلًا وإقطاعات جليلة وكان إذا سكر جمع الشمع وضرب رؤوسها بالسيف حتى تنقطع ويقول هكذا أفعل بالبحرية فإنه كان فيه هرج وخفة واحتجب على العكوف بملاذه فنفرت منه النفوس وبقي كذلك إلى يوم الاثنين تاسع عشري المحرّم وقد جلس على السماط فتقدّم إليه أحد المماليك البحرية وضربه بسيف قطع أصابع يديه ففرّ إلى البرج فاقتحموا عليه وسيوفهم مصلتة فصعد أعلى البرج الخشب فرموه بالنشاب وأطلقوا الناس في البرج فألقى نفسه ومرّ إلى البحر وهو يقول‏:‏ ما أريد ملككهم دعوني أرجع إلى الحصن يا مسلمين ما فيكم من يصطنعني ويجيرني‏.‏

وسائر العساكر بالسيوف واقفة فلم يجبه أحد والنشاب يأخذه من كل ناحية وأدركوه فقطع بالسيوف ومات حريقًا غريقًا قتيلًا في يوم الاثنين المذكور وترك على الشط ثلاثة أيام ثم دفن‏.‏

ولما قتل الملك المعظم اتفق أهل الدولة على إقامة شجرة الدر والدة خليل في مملكة مصر وأن يكون مقدّم العسكر الأمير عز الدين أيبك التركمانيّ الصالحيّ وحلف الكل على ذلك وسيروا إليها عز الدين الروميّ فقدم عليها في قلعة الجبل وأعلمها بما اتفق فرضيت به وكتبت على التواقيع علامتها وهي والدة خليل وخطب لها على المنابر بمصر والقاهرة وجرى الحديث مع الملك روادفرنس في تسليم دمياط وتولى مفاوضته في ذلك الأمير حسام الدين بن أبي عليّ الهديانيّ فأجاب إلى تسليمها وأن يُخلى عنه بعد محاورات وسير إلى الفرنج بدمياط يأمرهم بتسليمها إلى المسلمين فسلموها بعد جهد جهيد من كثرة المراجعات في يوم الجمعة ثالث صفر ورفع العلم السلطاني على سورها وأعلن فيها بكلمة الإسلام وشهادة الحق بعدما أقامت بيد الفرنج أحد عشر شهرًا وسبعة أيام وأفرج عن الملك روادفرنس وعن أخيه وزوجته ومن بقي من أصحابه إلى البرّ الغربيّ وركبوا البحر من الغد وهو يوم السبت رابع قل للفرنسيس إذا جئته مقال نصح عن قؤول نصيح آجرك الله على ما جرى من قبل عباد يسوع المسيح أتيت مصر تبتغي ملكها تحسب أنّ الزمر يا طبل ريح فساقك الحين إلى أدهم ضاق به عن ناظريك الفسيح وكل أصحابك أودعتهم بحسن تدبيرك بطن الضريح خمسون ألفًا لا يرى منهم إلا قتيل أو أسير جريح وفقك الله لأمثالها لعلّ عيسى منكم يستريح إن كان بابًا كم بذار راضيًا فرب غش قد أتى من نصيح قل لهم أن أضمروا عودة لأخذ ثأرٍ أو لنقد صحيح دار ابن لقمان على حالها والقيد باقي والطواشي صبيح وقدر الله أن الفرنسيس هذا بعد خلاصه من هذه الوقعة جمع عدّة جموع وقصد يونس فقال شاب من أهلها يقال له أحمد بن إسماعيل الزيات‏:‏ يا فرنسيس هذه أخت مصر فتأهب لما إليه تصير فكان هذا فألًا حسنًا فإنه مات وهو على محاصرة تونس ولما تسلم الأمراء دمياط وردت البشرى إلى القاهرة فضربت البشائر وزينت القاهرة ومصر فقدمت العساكر من دمياط يوم الخميس تاسع صفر فلما كان في سلطنة الأشرف موسى بن الملك المسعود أقسيس بن الملك الكامل والملك المعزّ عز الدين التركماني وكثر الاختلاف بمصر واستولى الملك الناصر يوسف بن العزيز على دمشق اتفق أرباب الدولة بمصر وهم المماليك البحرية على تخريب مدينة دمياط خوفًا من مسير الفرنج إليها مرّة أخرى فسيروا إليها الحجارين والفعلة فوقع الهدم في أسوارها يوم الاثنين الثامن عشر من شعبان سنة ثمان وأربعين وستمائة حتى خربت كلها ومحيت آثارها ولم يبق منها سوى الجامع وصار في قبليها أخصاص على النيل سكنها الناس الضعفاء وسموها المنشية وهذا السور هو الذي بناه أمير المؤمنين المتوكل على الله كما تقدم ذكره‏.‏

فلما استبدّ الملك الظاهر بيبرس البندقداري‏:‏ الصالحيّ بمملكة مصر بعد قتل الملك المظفر قطز أخرج من مصر عدّة من الحجارين في سنة تسع وخمسين وستمائة لردم فم بحر دمياط فمضوا وقطعوا كثيرًا من القرابيص وألقوها في بحر النيل الذي ينصب من شمال دمياط في البحر الملح حتى ضاق وتعذر دخول المراكب منه إلى دمياط وهو إلى اليوم على ذلك لا تقدر مراكب البحر الكبار أن تدخل منه وإنما ينقل ما فيها من البضائع في مراكب نيلية تعرف عند أهل دمياط بالجروم واحدها‏:‏ جرم وتصير مراكب البحر جبل في فم البحر أو رمل يتربى هناك وهذا قول باطل حملهم عليه ما يجدونه من تلافِ المراكب إذا هجمت على هذا المكان وجهلهم بأحوال الوجود وما مرّ من الوقائع وإلى يومنا هذا يخاف على المراكب عند ورودها فم البحر وكثيرًا ما تتلف فيه‏.‏

وقد سرت إليه حتى شاهدته ورأيته من أعجب ما يراه الإنسان‏.‏

وأما دمياط الآن فإنها حدثت بعد تخريب مدينة دمياط وعمل هناك أخصاص وما برحت تزداد إلى أن صارت بلدة كبيرة ذات أسواق وحمامات وجوامع ومدارس ومساجد ودورها تشرف على النيل الأعظم ومن ورائها البساتين وهي أحسن بلاد الله منظرًا‏.‏

وقد أخبرني الأمير الوزير المشير الإستادار يلبغا السالمين رحمه الله أنه لم ير في البلاد التي سلكها من سمرقند إلى مصر أحسن من دمياط هذه فظننت أنه يغلو في مدحها إلى أن شاهدتها فإذا هي أحسن بلد وأنزهه وفيها أقول‏:‏

 


السنة الثامنة من سلطنة الملك الكامل محمد وهي سنة ثلاث وعشرين وستمائة‏.‏
فيها قدم الشيخ محيي الدين بن الجوزي إلى دمشق رسولًا إلى الملك المعظم عيسى صاحب دمشق ومعه الخلع له ولإخوته أولاد العادل من الخليفة الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد العباسي المتولي الخلافة بعد وفاة والده الناصر لدين الله‏.‏ ومضمون رسالته طلب رجوع المعظم عن موالاة ابن الخوارزمي‏.‏
قال أبو المظفر سبط ابن الجوزي قال لي الملك المعظم قال خالك‏:‏ المصلحة رجوعك عن هذا الخارجي يعني جلال الدين بن الخوارزمي وترجع إلى إخوتك ونصلح بينكم قال‏:‏ فقلت لخالك‏:‏ إذا رجعت عن ابن الخوارزمي وقصدني إخوتي تنجدونني‏.‏
قال‏:‏ نعم فقلت‏:‏ ما لكم عادة تنجحون أحدًا‏!‏ هذه كتب الخليفة الناصر لدين الله عندنا ونحن على دمياط نكتب ونستصرخ به فيجيء الجواب بأنا قد كتبنا إلى ملوك الجزيرة ولم يفعلوا‏.‏
قال‏:‏ قلت‏:‏ مثلي معكم كمثل رجل كان يخرج إلى الصلاة وبيده عكاز خوفًا من الكلاب فقال له بعض أصدقائه‏:‏ أنت شيخ كبير وهذا العكاز يثقلك وأنا أدلك على شيء يغنيك عن حمله قال‏:‏ وما هو قال‏:‏ تقرأ سورة يس عند خروجك من الدار وما يقربك كلب وأقام مدة فرأى الشيخ حامل العكاز فقال له‏:‏ أما قد علمتك ما يغنيك عن حمله فقال‏:‏ هذا العكاز لكلب لا يعرف القرآن‏.‏
وقد اتفق إخوتي علي وقد أنزلت ابن الخوارزمي على خلاط إن قصدني أخي الأشرف منعه وإن قصدني أخي الكامل يعني صاحب الترجمة فأنا له‏.‏ ثم اصطلح الإخوة‏.‏ بعد ذلك في السنة‏.‏
وفيها توفي الخليفة أمير المؤمنين الظاهر بأمر الله أبو نصر محمد ابن الخليفة الناصر لدين الله أبي العباس أحمد الهاشمي البغدادي‏.‏ ولي الخلافة بعد وفاة أبيه في السنة الماضية فلم تطل مدته فيها ووقع له شدائد إلى أن مات في شهر رجب وأمه أم ولد‏.‏ وكانت خلافته تسعة أشهر وأيامًا وكان مولده في المحرم سنة سبعين وخمسمائة وكان جميل الصورة أبيض مشربا بحمرة حلو الشمائل شديد القوى‏.‏ أفضت الخلافة إليه وله اثنتان وخمسون سنة إلا أشهرًا فقيل له‏:‏ إلا تنفسح فقال‏:‏ قد فات الزرع‏!‏ فقيل له‏:‏ يبارك الله في عمرك فقال‏:‏ من فتح دكانًا بعد العصر إيش يكسب‏!‏‏.‏
وسببه أنه لما ولي الخلافة ولى الشيخ عماد الدين ابن الشيخ عبد القادر الجيلي القضاء فما قبل عماد الدين إلا بشرط أن يورث ذوي الأرحام فقال له الخليفة‏:‏ أعط كل ذي حق حقه واتق الله ولا تثق بسواه فكلمه القاضي أيضًا في الأوراق التي ترفع إلى الخليفة وهو أن حراس الحروب كانت ترفع إلى الخليفة في صبيحة كل يوم ما يكون عندهم من أحوال الناس الصالحة والطالحة فأمر الظاهر بتبطيل ذلك وقال‏:‏ أي فائدة في كشف أحوال الناس‏!‏ فقيل له‏:‏ إن تركت ذلك فسدت أحوال الرعية فقال‏:‏ نحن ندعو لهم بالإصلاح‏.‏
ولما مات الظاهر تولى الخلافة بعده ولده المستنصر بالله أبو جعفر‏.‏
والظاهر بأمر الله أبو نصر محمد بن الناصر لدين الله في رجب وله ثلاث وخمسون سنة وكانت خلافته عشرة أشهر‏.‏ وبويع بعده ابنه المستنصر‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم أربع أذرع وعشرون إصبعًا‏.‏ مبلغ الزيادة ثماني عشرة ذراعًا وإصبع واحدة‏.‏
السنة التاسعة من سلطنة الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب على مصر وهي سنة أربع وعشرين وستمائة‏.‏
فيها عاد الملك الأشرف موسى ابن الملك العادل إلى بلاده بعد أن صالح أخاه الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل وكلاهما أخو الملك الكامل هذا‏.‏
وفيها توفي السلطان الملك المعظم شرف الدين عيسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب بن شادي الأيوبي صاحب الشام‏.‏
قال أبو المظفر‏:‏ وفيها توفي الملك المعظم العالم الفقيه المجاهد في سبيل الله الغازي النحوي اللغوي‏.‏ ولد بالقاهرة سنة ست وسبعين وخمسمائة ونشأ بالشام وقرأ القرآن وتفقه على مذهب أبي حنيفة بجمال الدين الحصيري وحفظ المسعودي واعتنى بالجامع الكبير ‏"‏ وقرأ الأدب والنحو على تاج الدين الكندي فأخذ عنه ‏"‏ كتاب ‏"‏ سيبويه وشرحه الكبير للسيرافي ‏"‏ والحجة في القراءات ‏"‏ لأبي علي الفارسي و ‏"‏ الحماسة ‏"‏ وقرأ عليه الإيضاح لأبي علي حفظًا ثم ذكر مسموعاته في الحديث وغيره إلى أن قال‏:‏ وشرح الجامع الكبير وصنف الرد على الخطيب والعروض وله ‏"‏ ديوان شعر ‏"‏‏.‏
وكانت وفاته - رحمه الله - في ثالث ساعة من نهار الجمعة أول يوم ذي الحجة ودفن بقلعة دمشق ثم نقل بعد ذلك من قلعة دمشق ودفن مع والدته في القبة عند الباب‏.‏
وخلف عدة أولاد‏:‏ الملك الناصر داود والملك المغيث عبد العزيز والملك القاهر عبد الملك ومن البنات تسعًا وقيل إحدى عشرة‏.‏
وتولى ابنه الناصر داود دمشق بعده إلى أن أخذها منه عمه الملك الكامل صاحب الترجمة‏.‏
وفيها توفي الملك جنكزخان التركي طاغية التتار وملكهم الأول الذي خرب البلاد وأباد العباد وليس قلت‏:‏ هو صاحب ‏"‏ التورا ‏"‏ و ‏"‏ اليسق ‏"‏ وقد أوضحنا أمره في غير هذا الكتاب وذكرنا أصله واعتقاد التتار فيه وأشياء كثيرة‏.‏
والتورا باللغة التركية هو المذهب واليسق هو الترتيب وأصل كلمة اليسق‏:‏ سي يسا وهو لفظ مركب من أعجمي وتركي ومعناه‏:‏ التراتيب الثلاث لأن ‏"‏ سي ‏"‏ بالعجمي في العدد ثلاثة و ‏"‏ يسا ‏"‏ بالتركي‏:‏ الترتيب وعلى هذا مشت التتار من يومه إلى يومنا هذا وانتشر ذلك في سائر الممالك حتى ممالك مصر والشام وصاروا يقولون‏:‏ ‏"‏ سي يسا ‏"‏ فثقلت عليهم فقالوا‏:‏ ‏"‏ سياسة ‏"‏ على تحاريف أولاد العرب في اللغات الأعجمية‏.‏
ولما أن تسلطن الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري أحب أن يسلك في ملكه بالديار المصرية طريقة جنكرخان هذا وأموره ففعل ما أمكنه ورتب في سلطنته أشياء كثيرة لم تكن قبله بديار مصر‏:‏ مثل ضرب البوقات وتجديد الوظائف على ما نذكره - إن شاء الله تعالى - في ترجمته‏.‏
واستمر أولاد جنكزخان في ممالكه التي قسمها عليهم في حياته ولم يختلف منهم واحد على واحد ومشوا على ما أوصاهم به وعلى طريقته ‏"‏ التورا ‏"‏ و ‏"‏ اليسق ‏"‏ إلى يومنا هذا‏.‏ انتهى‏.‏
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال‏:‏ وفيها توفي وطاغية التتار جنكزخان في شهر رمضان‏.‏
والملك المعظم شرف الدين عيسى بن العادل في ذي القعدة وله ثمان وأربعون سنة‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم أربع أذرع وعشرون إصبعًا‏.‏ مبلغ الزيادة سبع أذرع واثنتا عشرة إصبعًا‏.‏ هكذا وجدته مكتوبًا ولعله وهم من الكاتب‏.‏
السنة العاشرة من سلطنة الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب على مصر وهي سنة خمس وعشرين وستمائة‏.‏
‏أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم خمس أذرع وتسع عشرة إصبعًا‏.‏ مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وخمس أصابع‏.‏
السنة الحادية عشرة من سلطنة الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب على مصر وهي سنة ست وعشرين وستمائة‏.‏
فيها أعطى الملك الكامل صاحب الترجمة بيت المقدس لملك الفرنج الأنبرور وفيها خرج الملك الكامل في صفر من مصر ونزل تل العجول وكان الملك الناصر داود ابن الملك المعظم عيسى صاحب دمشق كاتب عمه الملك الأشرف موسى بالحضور إلى دمشق فوصل إليها ونزل بالنيرب وكان عز الدين أيبك قد أشار على الملك الناصر داود بمداراة عمه الملك الكامل محمد صاحب مصر فخالفه وقال الناصر لعمه الأشرف في قتال عمه الكامل فلم يلتفت الأشرف إلى كلامه واجتمع الأشرف مع أخيه الملك الكامل واتفقا على حصار دمشق‏.‏
ووصلت الأخبار بتسليم القدس إلى الأنبرور فقامت قيامة الناس لذلك ووقع أمور وتسلم الأنبرور القدس والكامل والأشرف على حصار دمشق فلم يقم الأنبرور بالقدس سوى ليلتين وعاد إلى يافا بعد أن أحسن إلى أهل القدس ولم يغير من شعائر الإسلام شيئًا‏.‏
وفيها سلم الملك الناصر داود إلى عمه الملك الكامل دمشق وعوضه عمه الكامل الشوبك وذلك في شهر ربيع الآخر من السنة‏.‏
وفيها توفي أضسيس المعروف بأقسيس المنعوت بالملك المسعود بن الملك الكامل صاحب الترجمة مرض بعد خروجه من اليمن مرضًا مزمنًا ومات بمكة ودفن بالمعلي في حياة والده الملك الكامل وكان معه من الأموال شيء كثير‏.‏ وكان ظالمًا جبارًا سفاكًا للدماء قتل باليمن خلائق لا تدخل تحت حصر واستولى على أموالهم‏.‏ وكان أبوه الملك الكامل يكرهه ويخافه‏.‏
ودام باليمن حتى سمع بموت عمه الملك المعظم عيسى فخرج من اليمن بطمع دمشق فمرض ومات‏.‏ فلما سمع أبوه الملك الكامل بموته سر بذلك واستولى على جميع أمواله‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم أربع أذرع وثلاث أصابع‏.‏ مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وإحدى عشرة إصبعًا‏.‏
السنة الثانية عشرة من سلطنة الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب على مصر وهي سنة سبع وعشرين وستمائة‏.‏
فيها أخذ السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه مدينة خلاط بعد حصار طويل أقام عليها عشرة أشهر ولما بلغ صاحبها الملك الأشرف ذلك استنجد بملك الروم وغيره من الملوك وواقع جلال الدين الخوارزمي المذكور وكسره بعد أمور وقتل معظم عسكره وامتلأت الجبال والأودية منهم وشبعت الوحوش والطيور من رممهم وعظم الملك الأشرف في النفوس‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ذراعان سواء‏.‏ مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وثلاث أصابع‏.‏
السنة الثالثة عشرة من سلطنة الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب على مصر‏!‏

فيها ساق التتار خلف السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه بعد أن واقعهم عدة وقائع من بلاد تبريز فانهزم بين أيديهم إلى ديار بكر فقتل في قرية من أعمال ميافارقين‏.‏
وفيها توفي بهرام شاه بن فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب الملك الأمجد صاحب بعلبك‏.‏
كان السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب أعطاه بعلبك عند وفاة أبيه سنة ثمان وسبعين وخمسمائة فأقام فيها خمسين سنة حتى حصره الملك الأشرف موسى بن العادل أبي بكر بن أيوب وأخرجه منها وساعده عليه ابن عمه أسد الدين شيركوه صاحب حمص فانتقل الملك الأمجد إلى الشام وسكنها حتى قتله بعض مماليكه غيلة وكان فاضلًا شاعرًا فصيحًا كاتبًا وله ديوان شعر كبير‏.‏
 وفيها قتل السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه واسمه تكش وقيل محمود ابن السلطان علاء الدين خوارزم شاه واسمه محمد بن تكش وهو من نسل عبد الله بن طاهر بن الحسين وجده تكش هو الذي أزال ملك السلجوقية‏.‏
ولما قتل دخل جماعة على الملك الأشرف موسى فهنؤوه بموته فقال‏:‏ تهنوني به ولفرحون‏!‏ سوف ترون غبة‏!‏ والله لتكونن هذه الكسرة سببًا لدخول التتار إلى بلاد الإسلام ما كان الخوارزمي إلا مثل السد الذي بيننا وبين يأجوج ومأجوج فكان كما قال الأشرف‏.‏
كان الخوارزمي يقاتل التتار عشرة أيام بلياليها بعساكره يترجلون عن خيولهم ويلتقون بالسيوف ويبقى الرجل منهم يأكل ويبول وهو يقاتل‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ذراع واحدة ونصف إصبع‏.‏ مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا سواء‏.‏
السنة الرابعة عشرة من سلطنة الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب على مصر وهي سنة تسع وعشرين وستمائة‏.‏
فيها عاد التتار إلى الجزيرة وحران وقتلوا وأسروا وسبوا وخرج الكامل صاحب الترجمة من مصر إلى أن وصل إلى ديار بكر واجتمع مع أخيه الأشرف موسى واجتمعوا على دفع التتار وكان أهل حران قد خرجوا لقتال التتار فما رجع منهم إلا القليل‏.‏
وعاد التتار إلى بلادهم بعد أمور صدرت منهم في حق المسلمين‏.‏
فلما بلغ الكامل عود التتار نزل على مدينة آمد ومعه أخوه الأشرف وحاصرها حتى استولى عليها وعلى عدة قلاع‏.‏
تب‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ثلاث أذرع وثماني أصابع‏.‏ مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا‏.‏ وثلاث أصابع‏.‏
السنة الخامسة عشرة من سلطنة الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب على مصر وهي سنة ثلاثين وستمائة‏.‏
فيها فتح الملك الكامل محمد صاحب الترجمة آمد وأخرج منها صاحبها الملك المسعود بن مودود بعد حصار طويل وتسلم منه جميع القلاع التي كانت بيده وبقي حصن كيفا عاصيًا فبعث الكامل أخاه الأشرف وأخاه شهاب الدين غازيًا ومعهما صاحب آمد تحت الحوطة فسألهم صاحب آمد في تسليم الحصن فلم يسلموا البلد فعذبه الأشرف عذابًا عظيمًا وكان يبغضه ولا زال الأشرف يحاصر حصن كيفا حتى تسلمها بعد أمور في صفر من السنة ووجد عند مسعود المذكور خمسمائة بنت من بنات الناس للفراش‏.‏
وفيها فتحت دار الحديث الأشرفية المجاورة لقلعة دمشق التي بناها الملك الأشرف موسى وأمده بها ابن الصلاح الحديث وذلك في ليلة النصف من شعبان ووقف عليها الأشرف الأوقاف وجعل بها نعل النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏
وفيها توفي الملك العزيز عثمان ابن السلطان الملك العادل أبي بكر بن أيوب أخو الملك الكامل هذا وكان شقيق المعظم عيسى وهو صاحب بانياس وتبنين والحصون وهو الذي بنى الصبيبة ودام مالكًا لهذه القلاع إلى أن مات في يوم الاثنين عاشر شهر رمضان ببستانه ببيت لهيا وحمل تابوته فدفن بقاسيون عند أخيه الملك المعظم عيسى وقد تقدم أنه كان شقيقه‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم أربع أذرع وعشر أصابع‏.‏ مبلغ الزيادة ثماني عشرة ذراعًا وست أصابع وطال مكثه على الأراضي‏.‏
السنة السادسة عشرة من سلطنة الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب على مصر وهي سنة إحدى وثلاثين وستمائة‏.‏
فيها اجتمع الملك الكامل صاحب الترجمة وإخوته وأسد الدين شيركوه صاحب حمص وساروا ليدخلوا بلاد الروم من عند النهر الأزرق فوجدوا الروم قد حفظوا الدربند ووقفوا على رؤوس الجبال وسموا الطرق فامتنعت العساكر من الدخول وكان الملك الأشرف صاحب دمشق يومئذ ضيق الصدر من أخيه الملك الكامل هذا لأنه طلب منه الرقة فامتنع وقال له‏:‏ ما يكفيك كرسي بني أمية‏!‏ فاجتمع أسد الدين شيركوه صاحب حمص بالأشرف وقال له‏:‏ إن حكم الكامل على الروم أخذ جميع ما بأيدينا فوقع التقاعد فلما رأى الكامل ذلك عبر الفرات ونزل السويداء وجاءه صاحب خرتبرت وهو من بني أرتق وقال له‏:‏ عندنا طريق سهلة تدخل منها إلى الروم‏.‏
فجهز الملك الكامل بين يديه ولده الملك الصالح نجم الدين الوب وابن أخيه الملك الناصر داود بن المعظم والخادم صوابا فجاءتهم عساكر الروم وكان الناصر تأخر وتقدم صواب في خمسة آلاف فارس ومعه الملك المظفر صاحب حماة وقاتلوا الروم وانهزموا فعاد الملك الكامل إلى آمد‏.‏ كان أسر صواب وجماعة من الأمراء فأطلقهم الروم بعد أن أحسنوا إليهم‏.‏
وفيها قدم رسول الأنبرور الفرنجي على الملك الكامل بهدايا فيها دب أبيض وشعره مثل شعر السبع ينزل البحر فيصعد بالسمك فيأكله ومعه أيضًا طاووس أبيض‏.‏
وفيها توفي الشيخ عبد الله الأرمني الزاهد العابد الورع‏.‏ كان رحالًا سافر إلى البلاد ولقي الأبدال وأخذ عنهم وكان له مجاهدات ورياضات وعبادات وسياحات وكان في بداية أمره لا يأوي إلا البراري القفار ويتناول المباحات قرأ القرآن وكتاب القدوري في الفقه وصحب رجالًا من الأولياء وكان معدودًا من فقهاء الحنفية وله حكايات ومناقب كثيرة‏.‏ ومات في يوم الجمعة تاسع عشرين ذي القعدة ودفن بسفح قاسيون وقد جاوز سبعين سنة‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم خمس أذرع سواء‏.‏ مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وثلاث أصابع‏.‏
السنة السابعة عشرة من سلطنة الملك الكامل  محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب على مصر وهي سنة اثنتين وثلاثين وستمائة‏.‏
فيها خرجت عساكر الروم نحو آمد وحاصروها وأقاموا عليها أيامًا ثم نازلوا السويداء فأخذوها‏.‏
وفيها كان الوباء العظيم بمصر حيث إنه مات في شهر نيفٍ وثلاثون ألف إنسان‏.‏
الماء القديم خمس أذرع سواء‏.‏ مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وثلاث عشرة إصبعًا‏.‏
السنة الثامنة عشرة من سلطنة الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب على مصر وهي سنة ثلاث وثلاثين وستمائة‏.‏
فيها استعاد الكامل من الروم حران والرها وغيرهما وأخرب قلعة الرها ونزل على دنيسر فأخربها ومعه أخوه الأشرف وبينما هم في ذلك جاء كتاب بدر الدين لؤلؤ إلى الأشرف يقول‏:‏ قد قطع التتار دجلة في مائة طلب كل طلب خمسمائة فارس ووصلوا إلى سنجار فخرج إليهم معين الدين بن كمال الدين بن مهاجر فقتلوه على باب سنجار ثم رجع التتار ثم عادت‏.‏
فأمنهم الأشرف للتوجه إلى جهة الشرق‏.‏
وفي هذه السنة كان الطاعون العظيم بمصر وقراها مات فيه خلق كثير من أهلها وغيرها حتى تجاوز الحد‏.‏
وفيها جاءت الخوارزمية إلى صاحب ماردين فنزل إليهم وقاتلهم ثم نزلوا نصيبين وأحرقوها وفعلوا فيها أعظم ما فعل الكامل بدنيسر‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم خمس أذرع وسبع عشرة إصبعًا‏.‏ مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وإصبعان‏.‏
السنة التاسعة عشرة من سلطنة الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر ابن أيوب على مصر وهي سنة أربع وثلاثين وستمائة‏.‏
فيها نزلت التتار على إربل وحاصرتها مدة حتى أخذوها عنوة وقتلوا كل من فيها وسبوا وفضحوا البنات وصارت الآبار والدور قبورا للناس‏.‏ وكان أيدكين مملوك الخليفة بالقلعة فقاتلهم فنقبوا القلعة وجعلوا لها سردابًا وطرقًا وقلت عندهم المياه حتى مات بعضهم عطشًا فلم يبق سوى أخذها فرحلوا عنها في ذي الحجة وقد عجزوا عن حمل ما أخذوا من الأموال والغنائم‏.‏
وفيها استخدم الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل - صاحب الترجمة - الخوارزمية أصحاب جلال الدين فانضموا عليه وانفصلوا من الروم وسر والده الملك الكامل بذلك‏.‏
وفيها بدت الوحشة بين الأخوين وسببها أن الأشرف طلب من الكامل الرقة وقال‏:‏ الشرق كله صار له وأنا أركب كل يوم في خدمته فتكون الرقة برسم عليق دوابي فأبى الكامل وأغلظ في الجواب فوقعت الوحشة بينهم بسبب ذلك‏.‏
‏أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم سبع أذرع سواء‏.‏ مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وثلاث وعشرون إصبعًا‏.‏
السنة العشرون من سلطنة الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب على مصر وهي سنة خمس وثلاثين وستمائة‏.‏
وهي السنة التي مات الكامل المذكور في رجبها وحكم ابنه العادل في باقيها حسب ما تقدم في وفاة الكامل في ترجمته‏.‏
وفيها أيضًا توفي الملك الأشرف موسى ثم بعده أخوه الملك الكامل‏.‏ وملك دمشق بعد موت الأشرف الملك الجواد بن الأشرف‏.‏
وفيها اختلفت الخوارزمية على الملك الصالح أيوب بن الكامل وأرادوا القبض عليه فهرب إلى سنجار وترك خزائنه وأثقاله فنهبوا الجميع‏.‏
ولما قدم الصالح سنجار سار إليه بدر الدين لؤلؤ في ذي القعدة وحصره بها فأرسل إليه الصالح يسأله الصلح فقال‏:‏ لا بد من حمله في قفص إلى بغداد وكان لؤلؤ ‏"‏ و ‏"‏ المشارقة يكرهونه وينسبونه إلى التكبر والظلم فاحتاج الصالح أن يبعث إلى الخوارزمية وهم على حران يستنجدهم فساقوا جريدة من حران وكبسوا لؤلؤًا فنجا وحده ونهبوا أمواله وخزائنه وجميع ما كان في عسكره‏.‏
وفيها توفي الملك الأشرف أبو الفتح مظفر الدين موسى شاه أرمن ابن السلطان الملك العادل أبي بكر ابن الأمير نجم الدين أيوب أخو الملك الكامل محمد صاحب الترجمة‏.‏ وأول شيء ملكه الأشرف هذا من القلاع والبلاد الرها في أيام أبيه وآخر شيء دمشق‏.‏ ومات بها بعد أن ملك قلاع ديار بكر سنين‏.‏
ومولده سنة ثمان وسبعين وخمسمائة بقصر الزمرد بالقاهرة قبل أخيه المعظم عيسى بليلة واحدة وكان مولدهما بموضع واحد - وقيل‏:‏ كان بقلعة الكرك - والأول أشهر‏.‏
وكان الملك الأشرف ملكًا كريمًا حليمًا واسع الصدر كريم الأخلاق كثير العطايا لا يوجد في خزائنه شيء من المال مع اتساع مملكته ولا تزال عليه الديون ونظر يومًا في دواة كاتبه وشاعره كمال الدين علي بن النبيه المصري فرأى بها قلمًا واحدًا فأنكر عليه فأنشد الكمال بديهًا ‏"‏ دوبيت ‏"‏‏:‏ قال الملك الأشرف قولًا رشدًا أقلامك يا كمال قلت عددا جاوبت لعظم كتب ما تطلقه تحفى فتقط فهي تفنى أبدا ولكمال الدين ابن النبيه المذكور فيه غرر المدائح معروفة بمخالص قصائده في ديوانه وتسمى الأشرفيات‏.‏
وكانت وفاة الأشرف في يوم الخميس رابع المحرم بدمشق ودفن بقلعتها ثم نقل بعد محق إلى التربة التي أنشئت له بالكلاسة في الجانب الشمالي من جامع دمشق‏.‏
وفيها توفي يحيى بن هبة الله بن الحسن القاضي شمس الدين أبو البركات بن سناء الدولة كان إمامًا فقيهًا فاضلًا حافظًا للقوانين الشرعية ولي القضاء بالبيت المقدس ثم بدمشق وكان الملك الأشرف موسى يحبه ويثني عليه‏.‏ ومات في ذي القعدة‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم أربع أذرع ونصف إصبع‏.‏  مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا سواء‏.‏


*****************************************

أولاد الشيخ

ذكر المقريزى فى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار الجزء الثاني  ( 102 من 167 )  : " أولاد شيخ الشيوخ‏:‏ جماعة أصلهم الذي ينتسبون إليه حَمَوية بن عليّ يقال أنه من ولد رزم بن يونان أحد قوّاد كسرى أنو شروان وولي قيادة جيش نصر بن نوح بن سامان ودبر دولته وهو جدّ شيخ الإسلام محمد وأخيه أبي سعد بني حَمَوية بن محمد بن حَمَوية وكان محمد وأبو سعد من ملوك خراسان فتركا الدنيا وأقبلا على طريق الآخرة ومات ركب الإسلام أبو سعد بنجران من قرى جوين في سنة سبع وعشرين وخمسمائة ومات أخوه شيخ الإسلام محمد بها في سنة ثلاثين وخمسمائة وترك أبو سعد زيد الدين أحمد وبنات وترك شيخ الإسلام محمد ولدًا واحدًا وهو أبو الحسن عليّ فتزوّد عليّ بن محمد بابنة عمه أبي سعد ورزق منها سعد الدين ومعين الدين حسنًا وعماد الدين عمر وترك زين الدين أحمد بن أبي سعد ركن الدين أبا سعد وعزيز الدين وزير الدين القاسم فقدّم عليه ابنه شيخ الشيوخ صدر الدين عليّ فلما مات عمر في رجب سنة سبع وسبعين وخمسمائة بدمشق أقرّ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ولده صدر الدين محمدًا موضعه وصار شيخ الشيوخ بدمشق فتزوّد بابنة القاضي شهاب الدين ابن أبي عصرون ورزق منها عشرة بنين منهم عماد الدين عمر وفخر الدين يوسف وكمال الدين أحمد ومعين الدين حسن فأرضت أمّهم بنت أبي عصرون السلطان الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكب بن أيوب فصار أخًا لأولاد صدر الدين شيخ الشيوخ من الرضاعة وقدم صدر إلى القاهرة وولي تدريس الشافعيّ بالقرافة ومشيخة الخانقاه الصلاحية سعيد السعدا ثم سافر فمات بالموصل في رابع عشر جمادى الأولى سنة سبع عشر وستمائة واستبدّ الملك الكامل بمملكة مصر بعد أبيه فرقّى أولاد صدر الدين شيخ الشيوخ محمد بن جويه الأربعة وبعث عماد الدين عمر في الرسالة إلى الخليفة ببغداد وجمع له بين رياسة العلم والقلم في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة ولم يجتمع ذلك لأحد في زمانه وما زال على ذلك إلى أن مات الملك الكامل وقام من بعده في سلطنة مصر ابنه الملك العادل أبو بكر بن الكامل فخرج إلى دمشق ليحضر إليه الجواد مظفر الدين يونس بن مردود بن العادل أبي بكر بن أيوب نائب السلطنة بدمشق فدسّ عليه من قتله على باب الجامع في سادس عشري جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين وستمائة‏.‏
وأما فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ صدر الدين فإن الملك الكامل جعله أحد الأمراء والبسه الشربوش والقباء ونادمه وبعثه في الرسالة عنه إلى ملك الفرنج ثم إلى أخيه المعظم بدمشق ثم إلى الخليفة ببغداد وأقامه يتحدّث بمصر في تدبير المملكة وتحصيل الأموال ثم بعثه حتى تسلم حران والرها وجهزه إلى مكة على عسكر فقاتل صاحبها الأمير راجح الدين بن قتادة وأخذها بالسيف وقتل عسكر اليمن وما زال مكرّمًا محترمًا حتى مات الملك الكامل فقبض عليه العادل ابن الكامل واعتقله فلما خلع العادل بأخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب أطلقه وأمّره وبالغ في الإحسان إليه وبعثه على العساكر إلى الكرك فأوقع بالخوارزمية وبدّد شملهم وكانوا قد قدموا من المشرق إلى غزة وأقام الدعوة للصالح في بلاد الشام وعاد ثم قدّمه على العساكر فأخذ طبرية من الفرنج وهدمها وأخذ عسقلان من الفرنج وهدم حصونها ونازل حمص حتى أشرف على أخذها ثم تقدّم على العساكر بقتال الفرنج بدمياط فمات السلطان عند المنصورة وقام بتدبير الدولة بعده خمسة وسبعين يومًا إلى أن استشهد في رابع ذي القعدة سنة سبع وأربعين وستمائة فحمل من المنصورة إلى القرافة فدفن بها‏.‏
وأما كمال الدين أحمد فإن لملك الكامل استنابه بحران والجزيرة وولي تدريس المدرسة الناصرية بجوار الجامع العتيق بمصر وتدريس الشافعيّ بالقرافة ومشيخة الشيوخ بديار مصر وقدّمه الملك الصالح نجم الدين أيوب على العساكر غير مرّة ومات بغزة في صفر سنة تسع وثلاثين وستمائة‏.‏
وأما معين الدين حسن فنه وليَّ مشيخة الشيوخ بديار مصر وبعثه الملك الكامل في الرسالة عنه إلى بغداد ثم أقامه نائب الوزارة إلى أن مات فاستوزره الملك الصالح نجم الدين أيوب في ذي القعدة سنة سبع وثلاثين وستمائة وجهّره على العساكر في هيئة الملوك إلى دمشق فقاتل الصالح إسماعيل ابن العادل حتى ملكها ومات بها في ثاني عشري رمضان سنة ثلاث وأربعين وستمائة وقد ذكرت أولاد شيخ الشيوخ في كتاب تاريخ مصر الكبير واسقصيت فيه أخبارهم والله تعالى أعلم‏.‏
****************************************

قال المقريزى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار الجزء الثالث ( 139 من 167 ) : " السلطان الملك الكامل ناصر الدين أبو المعالي محمد‏:‏ بعهد أبيه‏.‏ فاقام في السلطنة عشرين سنة وخمس وأربعين يومًا ومات بدمشق يوم الأربعاء حادي عشري رجب سنة خمس وثلاثين وستمائة‏.‏ وأقيم بعده أبنه‏.‏
*******************************************************************************

قال المقريزى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار الجزء الثالث ( 153 من 167 ) : " الملك الكامل‏:‏ ناصر الدين أبو المعالي محمد بن الملك العادل سيف الدين أبي بكرمحمد بن نجم الدين أيوب بن شادي بن مروان الكرديّ الأيوبيّ خامس ملوك بني أيوب الأكرادبديار مصر ولد في خامس عشري ربيع الأوّل سنة ست وسبعين وخمسمائة وخلف أباه الملك العادل على بلاد الشرق فلما استولى على مملكة مصر قدم الملك الكامل إلى القاهرة في سنة ست وتسعين وخمسمائة ونصبه أبوه نائبًا عنه بديار مصر وأقطعه الشرقية وجعله وليّ عهده وحلف له الأمراء وأسكنه قلعة الجبل وسكن العادل في دار الوزارة بالقاهرة وصار يحكم بديارمصر مدّة غيبة الملك العادل ببلاد الشام وغيرها بمفرده‏.‏
فلما مات الملك العادل ببلاد الشام استقل الملك الكامل بمملكة مصر في جمادى الاّخرة سنة خمس عشرة وستمائة وهو على محاربة الفرنج بالمنزلة العادلية قريبًا من دمياط وقد ملكوا البرّ الغربي‏.‏
فثبت لقتالهم مع ما حدث من الوهن بموت السلطان وثارت العربان بنواحي أرض مصر وكثرخلافهم واشتدّ ضررهم وقام الأمير عماد الدين أحمد ابن الأمير سيف الدين أبي الحسين عليّ بن أحمد الهكاريّ المعروف بابن المشطوب وكان أجلّ الأمراءالأكابر وله لفيف من الأكراد الهكارية يريد خلع الملك الكامل وتمليك أخيه الملك الفائز إبراهيم بن العادل ووافقه على ذلك كثير من الأمراء فلم يجد الكامل بدًا من الرحيل في الليل جريدة وسار من العادلية إلى أشموم طناح ونزل بها وأصبح العسكر بغير سلطان فركب كل واحد هواه ولم يعرج واحد منهم على آخر وتركوا أثقالهم وسائر ما معهم فاغتنّم الفرنج الفرصة وعبروا إلى برّ دمياط واستولوا على جميع ما تركه المسلمون وكان شيئًا عظيمًا وهمّ الملك الكامل بمفارقة أرض مصر ثم إن الله تعالى ثبته وتلاحقت العساكر وبعد يومين قدم عليه أخوه الملك المعظم عيسى صاحب دمشق باشموم فاشتدّ عضده بأخيه وأخرج ابن المشطوب من العسكر إلى الشام ثم أخرج الفائز إبراهيم إلى الملوك الأيوبية بالشام والشرق يستنفرهم لجهاد الفرنج وكتب الملك الكامل إلى أخيه الملك الأشرف موسى شاه يستحثه على الحضور وصدر المكاتبة بهذه الأبيات‏:‏ يا مسعدي أن كنت حقًا مُسعفي فانهض بغيرتلبثٍ وتوقفٍ‏.‏
واحثِث قَلوصَك َمرقلًا أو موجفًا بتجشم في سيرها وتعسف‏.‏ واطو المنازٍ لَ ما استطعتَ ولا تنخ إلاّ على بابِ المليكِ الأشرفِ‏.‏
واقر السلامَ عليه من عبدٍ له متوقعٍ لقدومِهِ متشوِّف‏.‏ وإذا وصلتَ إلى حماه فقل له عني بحسنِ توصل وتلطفِ‏.‏
إن تأت عبدُكَ عن قليل تلقَّهُ مابين كل مهندٍ ومثقفِ‏.‏ أو تبطِ عن إنجادِهٍ فلقاؤه بكِ في القيامَةٍ في عراصِ الموقفِ‏.‏
وجدّ الكامل في قتال الفرنج وأمر بالنفير في ديار مصرِ وأتته الملوك من الأطراف فقدّر الله أخذ الفرنج لدمياط بعدما حماصروها ستهّ عشر شهرًا واثنين وعشرين يومًا ووضعوا السيف في أهلها فرحل الكامل من أشموم ونزل بالمنصورة وبعث يستنفر الناس وقوي الفرنج حتى بلغت عدتهم نحو المائتي ألف راجل وعشرة آلاف فارس وقدم عامّة أهل أرض مصر وأتت النجدات من البلاد الشامية وغيرها فصارالمسلمون في جمع عظيم إلى الغاية بلغت عدّة فرسانهم خاصة نحو الأربعين ألفًا وكانت بين الفريقين خطوب آلت إلىوقوع الصلح وتسلم المسلمون مدينة دمياط في تاسع عشري رجب سنة ثمان عشرة وستمائة بعدما أقامت بيد الفرنج سنة وأحد عشر شهرًا تنقص ستة أيام وسار الفرنج إلى بلادهم وعاد السلطان إلى قلعة الجبل‏.‏
وأخرج كثيرًا من الأمراء الذين وافقوا ابن المشطوب من القاهرة إلى الشام وفرّق أخبارهم على مماليكه ثم تخوف من أمرائه في سنة إحدى وعشرين بميلهم إلى أخيه الملك المعظم فقبض على جماعة منهم وكاتب أخاه الملك الأشرف في موافقته على المعظم فقويت الوحشة بين الكامل والمعظم واشتدٌ خوف الكامل من عسكره وهمّ أن يخرج من القاهرة لقتال المعظم فلم يجسر على ذلك وقدم الأشرف إلى القاهرة فسرّ بذلك سرورًا كثيرًا وتحالفًا على المعاضدة وسافر من القاهرة فمال مع المعظم فتحير الكامل في أمره وبعث إلى ملك الفرنج يستدعيه إلى عكا ووعده بأن يمكنه من بلاد الساحل وقصد بذلك أن يشغل سرّ أخيه فلما بلغ ذلك المعظم خطب للسلطان جلال الدين الخوارزميّ وبعث يستنجد به على الكامل وأبطل الخطبة للكامل فخرج الكامل من القاهرة يريد محاربته في رمضان سنة أربع وعشرين وسار إلى العباسة ثم عاد إلى قلعة الجبل وقبض على عدّة من الأمراء ومماليك أبيه لمكاتبتهم المعظم وأنفق في العسكر فاتفق موت الملك المعظم في سلخ ذي القعدة وقيام ابنه الملك الناصر داود بسلطنة دمشق وطلبه من الكامل الموادعة فبعث إليه خلعة سنية وسنجقًا سلطانيًا وطلب منه أن ينزل له عن قلعة الشوبك فامتنع الناصر من ذلك فوقعت المنافرة بينهما وعهد الملك الكامل إلى ابنه الملك الصالح نجم الدين أيوب وأركبه بشعار السلطنة وأنزله بدار الوزارة وخرج من القاهرة في العساكر يريد دمشق فأخذنا بلس والقدس فخرج الناصر داود من دمشق ومعه عمه الأشرف وسارا إلى الكامل يطلبان منه الصلح فلما بلغ ذلك الكامل رحل من نابلس يريد القاهرة فقدمها الناصر والأشرف وأقام بها الناصر وسار الأشرف والمجاهد إلى الكامل فأدركاه بتل العجوز فأكرمهما وقرّر مع الأشرف انتزاع دمشق من الناصر وإعطاءها للأشرف على أن يكون للكامل ما بين عقبة أفيق إلى القاهرة وللأشرف من دمشق إلى عقبة أفيق وأن يعين بجماعة من ملوك بني أيوب فاتفق قدوم الملك الأنبرطور إلى عكا باستدعاء الملك الكامل له فتحير الكامل في أمره لعجزه عن محاربته وأخذ يلاطفه وشرع الفرنج في عمارة صيدا وكانت مناصفة بين المسلمين والفرنج وسورها خراب فلما بلغ الناصر موافقة الأشرف للكامل عاد من نابلس إلى دمشق واستعدّ للحرب فسار إليه الأشرف من تل العجوز وحاصره بدمشق وأقام الكامل بتل العجوز وقد تورط مع الفرنج فلم يجد بدًّا من إعطائهم القدس على أن لا يجدّد سوره وأن تبقى الصخرة والأقصى مع المسلمين ويكون حكم قرى القدس إلى المسلمين وأن القرى التي فيما بين عكا ويافا وبين لد والقدس للفرنج وانعقدت الهدنة على ذلك لمدّة عشرسنين وخمسة أشهر وأربعين يومًا أولها ثامن ربيع الأوّل سنة ست وعشرين ونودي في القدس بخروج المسلمين منه وتسليمه إلى الفرنج فكان أمرًا مهولًا من شدّهَ البكاء والصراخ وخرجوا بأجمعهم فصاروا إلى مخيم الكامل وأذنوا على بابه في غير وقت الأذان فشق عليه ذلك وأخذ منهم الستور وقناديل الفضة والاَلات وزجرهم وقيل لهم امضوا حيث شئتم فعظم على المسلمين هذا وكثر الإنكار على الملك الكامل وشنعت المقالة فيه وعاد الأنبرطور إلى بلاده بعدما دخل القدس وكان مسيره في آخر جمادى الآخرة سنة ست وعشرين‏.‏
وسير الكامل إلى الاَفاق بتسكين قلوب المسلمين وانزعاجهم لأخذ الفرنج القدس ورحل من تل العجوز يريد دمشق والأشرف على محاصرتها فجدّ في القتال واشتد الأمر على الناصر إلى أن ترامى في الليل على الملك الكامل فأكرمه وأعاده إلى قلعة دمشق وبعث من تسلمها منه وعوّضه عن دمشق الكرك والشوبك والصلت والبلقاء والأغوار ونابلس وأعمال القدس ثم ترك الشوبك للكامل مع عدّة مما ذكر وتسلم الكامل دمشق في أوّل شعبان وأعطاها للأشرف وأخذ منه ما معه من بلاد الشرق وهي حران والرها وسروج وغير ذلك ثم سار الكامل فأخذ حماه وتوجه منها فقطع الفرات ثم سارإلى جعبروالرقة ودخل حران والرّها ورتب أمورها وأتته الرسل من ماردين وآمد والموصل وأربل وغير ذلك وأقيمت له الخطبة بماردين وبعث يستدعي عساكر الشام لقتال الخوارزميّ وهو بخلاط ثم رحل الكامل من حرّان لأمور حدثت وسار إلى مصر فدخلها في شهر رجب سنة سبع وعشرين وقد تغير على ولده الملك الصالح نجم الدين أيوب وخلعه من ولاية العهد وعهد إلى ابنه الملك العادل أبي بكر ثم سار إلى الإسكندرية في سنة ثمان وعشرين ثم عاد إلى مصر وحفر بحر النيل فيما بين المقياس وبرّ مصر وعمل فيه بنفسه واستعمل فيه الملوك من أهله والأمراء والجند فصار الماء دائمًا فيما بين مصر والمقياس وانكشف البرّ فيما بين المقياس والجيزة في أيام احتراق النيل وخرج من القاهرهّ إلى بلاد الشام في آخر جمادى الاَخرة سنة تسع وعشرين واستخلف على ديار مصر ابنه العادل وأسكنه قلعة الجبل وأخذ الصالح معه فدخل دمشق من طريق الكرك وخرج منها لقتال التتر وجعل ابنه الصالح على مقدّمته فسار إلى حران فرحل التترعن خلاط ثم رحل إلى الرها وسار إلى آمد ونازلها حتى أخذها وأنعم على ابنه الصالح بحصن كيفا وبعثه إليه وعاد إلى مصر في سنة ثلاثين فقبض على عدّة من الأمراء‏.‏
ثم خرج في سنة إحدى وثلاثين إلى دمشق وسار منها ودخل الدربند وقد أعجبته كثرة عساكره فإنه اجتمع معه ثمانية عشر طلبًا لثمانية عشر ملكًا‏.‏
وقال هذه العساكر لم تجتمع لأحد من ملوك الإسلام ونزل على النهر الأزرق بأوّل بلد الروم وقد نزلت عساكر الروم وأخذت عليه رأس الدربند ومنعوه فتحير لقلة الأقوات عنده ولاختلاف ملوك بني أيوب عليه ورحل إلى مصر وقد فسد ما بينه وبين الأشرف وغيره وأخذ ملك الروم الرها وحران بالسيف فتجهز الكامل وخرج بعساكره من القاهرة في سنة ثلاث وثلاثين وسار إلى الرها ونازلها حتى أخذها وهدم قلعتها وأخذ حران بعد قتال شديد وبعث بمن كان فيها من الروم إلى القاهرة في القيود وكانوا زيادة على ثلاثة آلاف نفس ثم خرج إلى دنيسر وعاد إلى دمشق وسار منها إلى القاهرة فدخلها في سنة أربع وثلاثين ثم خرج في سنة خمس وثلاثين ونزل على دمشق وقد امتنعت عليه فضايقها حتى أخذها من أخيه الملك الصالح إسماعيل وعوضه عنها بعلبك وبصرى وغيرهما في تاسع عشر جمادى الأولى ونزل بالقلعة وأخذ يتجهزلأخذ حلب وقد نزل به زكام فدخل في ابتدائه الحقام فاندفعت الموادّ إلى معدته فتورم وثارت فيه حمى فنهاه الأطباء عن القيء وحذروه منه فلم يصبر وتقيأ فمات لوقته في آخر نهار الأربعاء حادي عشري رجب سنة خمس وثلاثين وستمائة عن ستين سنة منها ملكه أرض مصر نحو أربعين سنة استبدّ فيها بعد موت أبيه مدّة عشرين سنة وخمسة وأربعين يومًا‏.‏
وكان يحب العلم وأهله ويؤثر مجالستهم وشغف بسماع الحديث النبويّ وحدث وبنى دار الحديث الكاملية بالقاهرة وكان يناظر العلماء ويمتحنهم بمسائل غريبة من فقه ونحو فمن أجاب عنها حظي عنده وكان يبيت عنده بقلعة الجبل عدّة من أهل العلم على أسرّة بجانب سريره ليسامروه وكان للعلم والأدب عنده نفاق فقصده الناس لذلك وصار يُطلق الأرزاق الدارة لمن يقصده لهذا وكان مهابًا حازمًا سديد الرأي حسن التدبير عفيفًا عن الدماء وكان يباشر أمور مملكته بنفسه من غير اعتماد على وزير ولا غيره ولم يستوزر بعد الصاحب صفيّ الدين عبد اللّه بن عليّ بن شكر أحدًا وإنما كان ينتدب من يختاره لتدبير الأشغال ويحضر عنده الدواوين ويحاسبهم بنفسه وإذا ابتدأت زيادة النيل خرج وكشف الجسور ورتب الأمراء لعملها فإذا انتهى عمل الجسور خرج ثانيًا وتفقدها بنفسه فإن وقف فيها على خلل عاقب متوليها أشدّ العقوبة فعمرت أرض مصر في أيامه عمارة جيدة وكان يخرج من زكوات الأموال التي تجبى من الناس سهمي الفقراء والمساكين ويعين مصرف ذلك لمستحقيه شرعًا ويفرز منه معاليم الفقهاء والصلحاء وكان يجلس كلّ ليلة جمعة مجلسًا لأهل العلم فيجتمعون عنده للمناظرة وكان كثير السياسة حسن المداراة وأقام على كل طريق خفراء لحفظ المسافرين إلاّ أنه كان مغرمًا بجمع المال مجتهدًا في تحصيله وأحدث في البلاد حوادث سماها الحقوق لم تعرف قبله ومن شعره قوله رحمه اللّه تعالى‏:‏ إذا تحققتُمْ ما عند صاحبَكُمْ من الغرامِ فداكَ القدرُ يكفيهِ‏.‏
أنتمْ سكنتُمْ فؤادي وهو منزلُكُمْ وصاحبُ البيتِ أدرى بالذي فيه‏.‏
وقال له الطبيب علم الدين أبو النصر جرجس بن أبي حليقة في اليوم الذي مات فيه كيف نوم السلطان في ليلته فأنشد‏:‏ ياخليلي خبراني بصدق كيفَ طعمُ الكرى فإني نسيتُ‏.‏
ودُفن أولًا بقلعة دمشق ثم نقل إلى جوار جامع بني أمية وقبره هناك رحمه اللّه تعالى‏.‏
**********************************************************************************************************

وقعت في عصر الملك الكامل، وتتلخص في أن "فرنسيس الأسيزي" ـ (ت 1226م) مؤسس رهبنة الفرنسيسكان، قام برحلة تبشيرية إلى مصر في سنة 1219م، حيث وصل إلى دمياط في زمن الحملة الصليبية السادسة (بقيادة جان دي بريين في عهد الملك الكامل الأيوبي)، والتقى هو وزميله "الوميناتو" بالملك الكامل في تشرين الثاني 1219م، وأخذ فرنسيس يشرح للملك معنى الثالوث، وهو يصغي برحابة صدر، وإذ شعر الأسيزي برحابة صدر الملك المسلم، وتسامحه الكبير، بادر بدعوة الملك إلى اعتناق المسيحية، مع استعداده للبقاء إلى جانبه لكي يعلمه حقائقها , ولكن مات الملك الكامل

This site was last updated 11/17/11