Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم عزت اندراوس

سنة اثنتين وخمسمائة

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
سنة487 وسنة488
سنة489 وسنة490
سنة491 وسنة 492
سنة493
سنة494
سنة485
سنة496 وسنة497 وسنة498
سنة499
سنة500 وسنة501
سنة502
سنة503 وسنة504
سنة505 وسنة506
سنة507 وسنة508
سنة509 وسنة510
سنة511 وسنة512

 

الجزء التالى من كتاب: الكامل في التاريخ المؤلف: أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير (المتوفى: 630هـ) تحقيق: عمر عبد السلام تدمري الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1417هـ / 1997م عدد الأجزاء:  10

**************************************************************************************************************************

ثم دخلت سنة اثنتين وخمسمائة
ذكر استيلاء مودود على الموصل
(4/419)
في هذه السنة، في صفر، استولى مودود، والعسكر الذي أرسله السلطان معه، على مدينة الموصل، وأخذوها من أصحاب جاولي سقاوو، وقد ذكرنا سنة خمسمائة استيلاء جاولي عليها، وما جرى بينه وبين جكرمش والملك قلج أرسلان، وهلاكهما على يده، وصار معه بعد ذلك العسكر الكثير، والعدة التامة، والأموال الكثيرة، وكان السلطان محمد قد جعل إليه ولاية كل بلد يفتحه، فاستولى على كثير من البلاد والأموال.
وكان سبب أخذ البلاد منه: أنه لما استولى عليها، وعلى الأموال الكثيرة منها، لم يحمل إلى السلطان منها شيئاً، فلما وصل السلطان إلى بغداد، لقصد بلاد سيف الدولة صدقة، أرسل إلى جاولي يستدعيه إليه بالعساكر، وكرر الرسل إليه، فلم يحضر، وغالط في الانحدار إليه، وأظهر أنه يخاف أن يجتمع به، ولم يقنع بذلك، حتى كاتب صدقة، وأظهر له أنه معه، ومساعده على حرب السلطان، وأطمعه في الخلاف والعصيان.
فلما فرغ السلطان من أمر صدقة، وقتله، كما ذكرناه، تقدم إلى الأمراء بني برسق، وسكمان القطبي، ومودود نب التونتكين، وآقسنقر البرسقي، ونصر بن مهلهل بن أبي الشوك الكردي، وأبي الهيجاء، صاحب إربل، بالمسير إلى الموصل، وبلاد جاولي، وأخذها منه، فتوجهوا نحو الموصل، فوجدوا جاولي عاصياً قد شيد سور الموصل، وأحكم ما بناه جكرمش، وأعد الميرة والأقوات والآلات، واستظهر على الأعيان بالموصل، فحبسهم، وأخرج من أحداثها ما يزيد على عشرين ألفاً، ونادى: متى اجتمع عاميان على الحديث في هذا الأمر قتلتهما، وخرج عن البلد، ونهب السواد.
وترك بالبلد زوجته ابنة برسق، وأسكنها القلعة، ومعها ألف وخمسمائة فارس من الأتراك، سوى غيرهم، وسوى الرجالة، ونزل العسكر عليها في شهر رمضان سنة إحدى وخمسمائة، وصادرت زوجته من بقي بالبلد، وعسفت نساء الخارجين عنه، وبالغت في الاحتراز عليهم، فأوحشهم ذلك، ودعاهم إلى الانحراف عنها، وقوتل أهل البلد قتالاً متتابعاً، فتمادى الحصار بأهلها من خارج، والظلم من داخل إلى آخر المحرم، والجند بها يمنعون عامياً من القرب من السور.
فلما طال الأمر على الناس، اتفق نفر من الجصاصين، ومقدمهم جصاص يعرف بسعدي، على تسليم البلد، وتحالفوا على التساعد، وأتوا وقت صلاة الجمعة، والناس بالجامع، وصعدوا برجاً، وأغلقوا أبوابه، وقتلوا من به من الجند، وكانوا نياماً، فلم يشعروا بشيء، حتى قتلوا، وأخذوا سلاحهم، وألقوهم إلى الأرض، وملكوا برجاً آخر.
ووقعت الصيحة، وقصدهم مائتا فارس من العسكر، ورموهم بالنشاب، وهم يقاتلون، وينادون بشعار السلطان، فزحف عسكر السلطان إليهم، ودخلوا البلد من ناحيتهم، وملكوه، ودخله الأمير مودود، ونودي بالسكون والأمن، وأن يعود الناس إلى دورهم وأملاكهم، وأقامت زوجة جاولي بالقلعة ثمانية أيام، وراسلت الأمير مودود في أن يفرج لها عن طريقها، وأن يحلف لها على الصيانة والحراسة، فحلف، وخرجت إلى أخيها برسق بن برسق، ومعها أموالها وما استولت عليه، وولي مودود الموصل وما ينضاف إليها.
ذكر حال جاولي مدة الحصار
وأما جاولي فإنه لما وصل عسكر السلطان إلى الموصل، وحصرها، سار عنها، وأخذ معه القمص، صاحب الرها، الذي كان قد أسره سقمان وأخذه منه جكرمش، وقد ذكرنا ذلك، وسار إلى نصيبين، وهي حينئذ للأمير إيلغازي بن أرتق، وراسله، وسأله الاجتماع به، واستدعاه إلى معاضدته، وأن يكونا يداً واحدة، وأعلمه أن خوفهما من السلطان ينبغي أن يجمعهما على الاحتماء منه. فلم يجبه إيلغازي إلى ذلك، ورحل عن نصيبين، ورتب بها ولده، وأمره بحفظهما من جاولي، وأن يقاتله إن قصده، وسار إلى ماردين.
فلما سمع جاولي ذلك عدل عن نصيبين، وقصد دارا، وأرسل إلى إيلغازي ثانياً في المعاني، وسار بعد الرسول، فبينما رسوله عند إيلغازي بمادرين، لم يشعر إلا وجاولي معه في القلعة وحده، وقصد أن يتألفه ويستميله، فلما رآه إيلغازي قام إليه وخدمه، ولما رأى جاولي محسناً للظن فيه، غير مستشعر منه، لم يجد إلى دفعه سبيلاً، فنزل معه، وعسكرا بظاهر نصيبين، وسارا منها إلى سنجار، وحاصراها مدة، فلم يجبهما صاحبها إلى صلح، فتركاه وسارا نحو الرحبة، وإيلغازي يظهر لجاولي المساعدة، ويبطن الخلاف، وينتظر فرصة لينصرف عنه، فلما وصلا إلى عرابان، من الخابور، هرب إيلغازي ليلاً وقصد نصيبين.(4/420)
ذكر إطلاق جاولي للقمص الفرنجي
لما هرب إيلغازي من جاولي سار جاولي إلى الرحبة، فلما وصل إلى ماكسين أطلق القمص الفرنجي، الذي كان أسيراً بالموصل، وأخذه معه، وسمه بردويل، وكان صاحب الرها وسروج وغيرهما، وبقي في الحبس إلى الآن، وبذل الأموال الكثيرة، فلم يطلق، فلما كان الآن أطلقه جاولي، وخلع عليه، وكان مقامه في السجن ما يقارب خمس سنين، وقرر عليه أن يفدي نفسه بمال، وأن يطلق أسرى المسلمين الذين في سجنه، وأن ينصره متى أراد ذلك منه بنفسه وعسكره وماله.
فلما اتفقا على ذلك سير القمص إلى قلعة جعبر، وسلمه إلى صاحبها سالم بن مالك، حتى ورد عليه ابن خالته جوسلين، وهو من فرسان الفرنج وشجعانها، وهو صاحب تل باشر وغيره، وكان أسر مع القمص في تلك الوقعة، ففدى نفسه بعشرين ألف دينار، فلما وصل جوسلين إلى قلعة جعبر أقام رهينة عوض القمص، وأطلق القمص، وسار إلى أنطاكية، وأخذ جاولي جوسلين من قلعة جعبر فأطلقه، وأخذ عوضه أخا زوجته، وأخا زوجة القمص، وسيره إلى القمص ليقوى به، وليحثه على إطلاق الأسرى، وإنفاذ المال وما ضمنه، فلما وصل جوسلين إلى منبج أغار عليها ونهبها، وكان معه جماعة من أصحاب جاولي، فأنكروا عليه ذلك، ونسبوه إلى الغدر، فقال: إن هذه المدينة ليست لكم.
ذكر ما جرى بين هذا القمص وبين صاحب أنطاكية
لما أطلق القمص وسار إلى أنطاكية أعطاه طنكري صاحبها ثلاثين ألف دينار، وخيلاً، وسلاحاً، وثياباً، وغيره ذلك، وكان طنكري قد أخذ الرها من أصحاب القمص حين أسر، فخاطبه الآن في ردها عليه، فلم يفعل، فخرج من عنده إلى تل باشر، فلما قدم عليه جوسلين، وقد أطلقه جاولي، سره ذلك، وفرح به.
وسار إليهما طنكري، صاحب أنطاكية، بعساكره ليحاربهما، قبل أن يقوى أمرهما، ويجمعا عسكراً، ويلتحق بهما جاولي وينجدهما، فكانوا يقتتلون، فإذا فرغوا من القتال اجتمعوا وأكل بعضهم مع بعض وتحادثوا.
وأطلق القمص من الأسرى المسلمين مائة وستين أسيراً كلهم من سواد حلب، وكساهم وسيرهم.
وعاد طنكري إلى أنطاكية من غير فصل حال في معنى الرها، فسار القمص وجوسلين وأغارا على حصون طنكري، صاحب أنطاكية والتجأ إلى ولاية كواسيل، وهو رجل أرمني، ومعه خلق كثير من المرتدين وغيرهم، وهو صاحب رعبان، وكيسوم، وغيرهما من القلاع، شمالي حلب، فأنجد القمص بألف فارس من المرتدين، وألفي راجل، فقصدهم طنكري، فتنازعوا في أمر الرها، فتوسط بينهم البطرك الذي لهم، وهو عندهم كالإمام الي للمسلمين، لا يخالف أمره، وشهد جماعة من المطارنة والقسيسين: أن بيمند خال طنكري قال له، لما أراد ركوب البحر، والعود إلى بلاده، ليعيد الرها إلى القمص، إذا خلص من الأسر، فأعادها عليه طنكري تاسع صفر، وعبر القمص الفرات، ليسلم إلى أصحاب جاولي المال والأسرى، فأطلق في طريقه خلقاً كثيراً من الأسرى من حران وغيرها.
وكان بسروج ثلاثمائة مسلم ضعفى، فعمر أصحاب جاولي مساجدهم، وكان رئيس سروج مسلماً قد ارتد، فسمعه أصحاب جاولي يقول في الإسلام قولاً شنيعاً، فضربوه، وجرى بينهم وبين الفرنج بسببه نزاع، فذكر ذلك للقمص، فقال: هذا لا يصلح لنا ولا للمسلمين، فقتله.
ذكر حال جاولي بعد إطلاق القمص
لما أطلق جاولي القمص بماكسين سار إلى الرحبة، فأتاه أبو النجم بدران، وأبو كامل منصور، ابنا سيف الدولة صدقة، وكانا، بعد قتل أبيهما بقلعة جعبر، عند سالم بن مالك، فتعاهدوا على امساعدة والمعاضدة، ووعدهما أنه يسير معهما إلى الحلة، وعزموا أن يقدموا عليهم بكتاش بن تكش بن ألب أرسلان. فوصل إليهم، وهم على هذا العزم، أصبهبذ صباوة، وكان قد قصد السلطان فأقطعه الرحبة وقد ذكرناه، فاجتمع بجاولي، وأشار عليه أن يقصد الشام، فإن بلاده خالية من الأجناد، والفرنج قد استولوا على كثير منها، وعرفه أنه متى قصد العراق، والسلطان بها، أو قريباً منها، لم يأمن شراً يصل إليه. فقبل قوله، وأصعد عن الرحبة، فوصل إليه رسل سالم بن مالك، صاحب قلعة جعبر، يستغيث به من بني نمير، وكانت الرقة بيد ولده علي بن سالم، فوقب جوشن النميري، ومعه جماعة من بني نمير، فقتل علياً وملك الرقة. (4/421)
فبلغ ذلك الملك رضوان، فسار من حلب إلى صفين، فصادف تسعين رجلاً من الفرنج معهم مال من فدية القمص، صاحب الرها، قد سيره إلى جاولي، فأخذه، وأسر عدداً منهم، وأتى الرقة، فصالحه بنو نمير على مال، فرحل عنهم إلى حلب، فاستنجد سالم بن مالك جاولي، وسأله أن يرحل إلى الرقة ويأخذها، ووعده بما يحتاج إليه. فقصد الرقة، وحصرها سبعين يوماً، فضمن له بنو نمير مالاً وخيلاً، فأرسل إلى سالم: إنني في أمر أهم من هذا، وأنا بإزاء عدو، ويجب التشاغل به دون غيره، وأنا عازم على الانحدار إلى العراق، فإن تم أمري فالرقة وغيرها لك، ولا أشتغل عن هذا المهم بحصار خمسة نفر من بني نمير.
ووصل إلى جاولي الأمير حسين بن أتابك قتلغ تكين، وكان أبوه أتابك السلطان محمد، فقتله، وتقدم ولده هذا عند السلطان، واختص به، فسيره السلطان مع فخر الملك بن عمار ليصلح الحال مع جاولي، ويأمر العساكر بالمسير مع ابن عمار إلى جهاد الكفار، فحضر عند جاولي، وأمر بتسليم البلاد، وطيب قلبه عن السلطان، وضمن الجميل، إذا سلم البلاد، وأظهر الطاعة والعبودية، فقال جاولي: أنا مملوك السلطان، وفي طاعته، وحمل إليه مالاً وثياباً لها مقدار جليل، وقال له: سر إلى الموصل ورحّل العسكر عنها، فإني أرسل معك من يسلم ولدي إليك رهينة، وينفذ السلطان إليها من يتولى أمرها وجباية أموالها، ففعل حسين ذلك، وسار ومعه صاحب جاولي، فلما وصلا إلى العسكر الذي على الموصل، وكانوا لم يفتحوها بعد، أمرهم حسين بالرحيل، فكلهم أجاب، إلا الأمير مودود فإنه قال: لا أرحل إلا بأمر السلطان، وقبض على صاحب جاولي، وأقام على الموصل، حتى فتحها كما ذكرناه.
وعاد حسين بن قتلغ تكين إلى السلطان، فأحسن النيابة عن جاولي عنده، وسار جاولي إلى مدينة بالس، فوصلها ثالث عشر صفر، فاحتمى أهلها منه، وهرب من بها من أصحاب الملك رضوان، صاحب حلب، فحصرها خمسة أيام، وملكها بعد أن نقب برجاً من أبراجها، فوقع على النقابين، فقتل منهم جماعة، وملك البلد، وصلب جماعة من أعيانه عند النقب، وأحضر القاضي محمد بن بد العزيز بن إلياس فقتله، وكان فقيهاً صالحاً، ونهب البلد، وأخذ منه مالاً كثيراً.
ذكر الحرب بين جاولي والفرنج
وفي هذه السنة، في صفر، كان المصاف بين جاولي سقاوو وبين طنكري الفرنجي، صاحب أنطاكية.
وسبب ذلك أن الملك رضوان كتب إلى طنكري، صاحب أنطاكية، يعرفه ما هو جاولي عليه من الغدر، والمكر، والخداع، ويحذره منه، ويعلمه أنه على قصد حلب، وأنه إن ملكها لا يبقي للفرنج معه بالشام مقام، وطلب منه النصرة، والاتفاق على منعه. فأجابه طنكري إلى منعه وبرز من أنطاكية، فأرسل إليه رضوان ستمائة فارس، فلما سمع جاولي الخبر أرسل إلى القمص، صاحب الرها، يستدعيه إلى مساعدته، وأطلق له ما بقي عليه من مال المفاداة، فسار إلى جاولي فلحق به، وهو على منبج، فوصل الخبر إليه، وعلى هذه الحال، بأن الموصل قد استولى عليها عسكر السلطان، وملكوا خزائنه وأمواله، فاشتد ذلك عليه، وفارقه كثير من أصحابه منهم أتابك زنكي بن آقسنقر، وبكتاش النهاوندي، وبقي جاولي في ألف فارس، وانضم إليه خلق من المطوعة، فنزل بتل باشر.
وقاربهم طنكري، وهو في ألف وخمسمائة فارس من الفرنج، وستمائة من أصحاب الملك رضوان، سوى الرجالة، فجعل جاولي في ميمنته الأمير أقسيان، والأمير التونتاش الابري، وغيرهما، وفي الميسرة الأمير بدران بن صدقة، وأصبهبذ صباوة، وسنقر دراز، وفي القلب القمص، صاحب الرها، واشتد القتال، فأزاح طنكري القلب عن موضعه، وحملت ميسرة جاولي على رجالة صاحب أنطاكية، فقتلت منهم خلقاً كثيراً، ولم يبق غير هزيمة صاحب أنطاكية، فحينئذ عمد أصحاب جاولي إلى جنائب القمص، وجوسلين، وغيرهما من الفرنج، فركبوها وانهزموا، فمضى جاولي وراءهم ليردهم، فلم يرجعوا، وكانت طاعته قد زالت عنهم حين أخذت الموصل منه، فلما رأى أنهم لا يعودون معه أهمته نفسه، وخاف من المقام، فانهزم، وانهزم باقي عسكره. (4/422)
فأما أصبهبذ صباوة فسار نحو الشام، وأما بدران بن صدقة فسار إلى قلعة جعبر، وأما ابن جكرمش فقصد جزيرة ابن عمر، وأما جاولي فقصد الرحبة، وقتل من المسلمين خلق كثير، ونهب صاحب أنطاكية أموالهم وأثقالهم، وعظم البلاء عليهم من الفرنج، وهرب القمص وجوسلين إلى تل باشر والتجأ إليهما خلق كثير من المسلمين، ففعلا معهم الجميل، وداويا الجرحى، وكسوا العراة، وسيراهم إلى بلادهم.
ذكر عود جاولي إلى السلطان
لما انهزم جاولي سقاوو قصد الرحبة، فلما قاربها بات دونها في عدة فوارس، فاتفق أن طائفة من عسكر الأمير مودود، الذين أخذوا الموصل منه، أغاروا على قوم من العرب يجاورون الرحبة، فقاربوا جاولي ولا يشعرون به، ولو علموا لأخذوه.
فلما رأى الحال كذلك، علم أنه لا يقدر أن يقيم بالجزيرة، ولا بالشام، ولا يقدر على شيء يحفظ به نفسه، ويرجع إليه، ويداوي به مرضه، غير قصد باب السلطان محمد عن رغبة واختيار، وكان واثقاً بالأمير حسين بن قتلغتكين، فرحل من مكانه وهو خائف حذر، قد أخفى شخصه وكتم أمره، وسار إلى عسكر السلطان، وكان بالقرب من أصبهان، فوصل إليه في سبعة عشر يوماً من مكانه لجده في السير، فلما وصل المعسكر قصد الأمير حسيناً، فحمله إلى السلطان، فدخل إليه وكفنه تحت يده، فأمنه، وأتاه الأمراء يهنونه بذلك، وطلب منه السلطان الملك بكتاش بن تكش، فسلمه إليه، فاعتقله بأصبهان.
ذكر الحرب بين طغتكين والفرنج والهدنة بعدها.
في هذه السنة كانت حرب شديدة بين طغتكين أتابك والفرنج، وسببها أن طغتكين سار إلى طبرية، وقد وصل إليها ابن أخت بغدوين الفرنجي، ملك القدس، فتحاربا واقتتلا، وكان طغتكين في ألفي فارس، وكثير من الرجالة، وكان ابن أخت ملك الفرنج في أربعمائة فارس وألفي رجل.
فلما اشتد القتال انهزم المسلمون، فترجل طغتكين، ونادى بالمسلمين، وشجعهم، فعادوا الحرب، وكسروا الفرنج، وأسروا ابن أخت الملك، وحمل إلى طغتكين، فعرض طغتكين عليه الإسلام، فامتنع منه، وبذل في فداء نفسه ثلاثين ألف دينار، وإطلاق خمسمائة أسير، فلم يقنع طغتكين منه بغير الإسلام، فلما لم يجب قتله بيده، وأرسل إلى الخليفة والسلطان الأسرى، ثم اصطلح طغتكين وبغدوين ملك الفرنج على وضع الحرب أربع سنين، وكان ذلك من لطف الله تعالى بالمسلمين، ولولا هذه الهدنة لكان الفرنج بلغوا من المسلمين، بعد الهزيمة الآتي ذكرها، أمراً عظيماً.
ذكر انهزام طغتكين من الفرنج
في هذه السنة، في شعبان، انهزم أتابك طغتكين من الفرنج.
وسبب ذلك أن حصن عرقة، وهو من أعمال طرابلس، كان بيد غلام للقاضي فخر الملك أبي علي بن علي بن عمار، صاحب طرابلس، وهو من الحصون المنيعة، فعصى على مولاه، فضاق به القوت، وانقطعت عنه الميرة، لطول مكث الفرنج في نواحيه، فأرسل إلى أتابك طغتكين، صاحب دمشق، وقال له: أرسل من يتسلم هذا الحصن مني، قد عجزت عن حفظه، ولأن يأخذه المسلمون خير لي دنيا وآخرة من أن يأخذه الفرنج. فبعث إليه طغتكين صاحباً له، اسمه إسرائيل، في ثلاثمائة رجل، فتسلم الحصن، فلما نزل غلام ابن عمار منه رماه إسرائيل، في الأخلاط، بسهم فقتله، وكان قصده بذلك أن لا يطلع أتابك طغتكين على ما خلفه بالقلعة من المال.
وأراد طغتكين قصد الحصن للاطلاع عليه، وتقويته بالعساكر، والأقوات، وآلات الحرب، فنزل الغيث والثلج مدة شهرين، ليلاً ونهاراً، فمنعه، فلما زال ذلك سار في أربعة آلاف فارس، ففتح حصوناً للفرنج، منها حصن الأكمة. فلما سمع السرداني الفرنجي بمجيء طغتكين، وهو على حصار طرابلس، توجه في ثلاثمائة فارس، فلما أشرف أوائل أصحابه على عسكر طغتكين انهزموا، وخلوا ثقلهم ورحلهم ودوابهم للفرنج، فغنموا، وقووا به، وزاد في تجملهم.
ووصل المسلمون إلى حمص، على أقبح حال من التقطع، ولم يقتل منهم أحد لأنه لم تجر حرب، وقصد السرداني إلى عرقة، فلما نازلها طلب من كان بها الأمان، فأمنهم على نفوسهم، وتسلم الحصن، فلما خرج من فيه قبض على إسرائيل، وقال: لا أطلقه إلا بإطلاق فلان، وهو أسير كان بدمشق من الفرنج، منذ سبع سنين، ففودي به وأطلقا معاً. (4/423)
ولما وصل طغتكين إلى دمشق، بعد الهزيمة، أرسل إليه ملك القدس يقول له: لا تظن أنني أنقص الهدنة للذي تم عليك من الهزيمة، فالملوك ينالهم أكثر مما نالك، ثم تعود أمورهم إلى الانتظام والاستقامة، وكان طغتكين خائفاً أن يقصده بعد هذه الكسرة فينال من بلده كل ما أراد.
ذكر صلح السنة والشيعة ببغداد
في هذه السنة، في شعبان، اصطلح عامة بغداد السنة والشيعة، وكان الشر منهم على طول الزمان، وقد اجتهد الخلفاء، والسلاطين، والشحن في إصلاح الحال، فتعذر عليهم ذلك، إلى أن أذن الله تعالى فيه، وكان بغير واسطة.
وكان السبب ذي ذلك أن السلطان محمداً لما قتل ملك العرب صدقة، كما ذكرناه، خاف الشيعة ببغداد، أهل الكرخ وغيرهم، لأن صدقة كان يتشيع هو وأهل بيته، فشنع أهل السنة عليهم بأنهم نالهم غم وهم لقتله، فخاف الشيعة، وأغضوا على سماع هذا، ولم يزالوا خائفين إلى شعبان، فلما دخل شعبان تجهز السنة لزيارة قبر مصعب بن الزبير، وكانوا قد تركوا ذلك سنين كثيرة، ومنعوا منه لتقطع الفتن الحادثة بسببه.
فلما تجهزوا للمسير، اتفقوا على أن يجعلوا طريقهم في الكرخ، فأظهروا ذلك، فاتفق رأي أهل الكرخ على ترك معارضتهم، وأنهم لا يمنعونهم، فصارت السنة تسير أهل كل محلة منفردين، ومعهم من الزينة والسلاح شيء كثير، وجاء أهل باب المراتب، ومعهم فيل قد عمل من خشب، وعليه الرجال بالسلاح، وقصدوا جميعهم الكرخ ليعبروا فيه، فاستقبلهم أهله بالبخور والطيب، والماء المبرد، والسلاح الكثير، وأظهروا بهم السرور، وشيعوهم حتى خرجوا من المحلة.
وخرج الشيعة، ليلة النصف منه، إلى مشهد موسى بن جعفر وغيره، فلم يعترضهم أحد من السنة، فعجب الناس لذلك، ولما عادوا من زيارة مصعب لقيهم أهل الكرخ بالفرح والسرور، فاتفق أن أهل باب المراتب انكسر فيلهم عند قنطرة باب حرب، فقرأ لهم قوم: " ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل " إلى آخر السورة.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة عاد منصور بن صدقة بن مزيد إلى باب السلطان، فتقبله وأكرمه وكان قد هرب، بعد قتل والده، إلى الآن، والتحق أخوه بدران بن صدقة بالأمير مودود الذي أقطعه السلطان الموصل، فأكرمه وأحسن صحبته.
وفيها، في نيسان، زادت دجلة زيادة عظيمة، وتقطعت الطرق، وغرقت الغلات الشتوية والصيفية، وحدث غلاء عظيم بالعراق، بلغت كارة الدقيق الخشكار عشرة دنانير إمامية، وعدم الخبز رأساً، وأكل الناس التمر والباقلاء الخضراء، وأما أهل السواد فإنهم لم يأكلوا جميع شهر رمضان، ونصف شوال، سوى الحشيش والتوت.
وفيها، في رجب، عزل وزير الخليفة أبو المعالي هبة الله بن المطلب، ووزر أبو القاسم علي بن أبي نصر بن جهير.
وفيها، في شعبان، تزوج الخليفة المستظهر بالله ابنة السلطان ملكشاه، وهي أخت السلطان محمد، وكان الذي خطب خطبة النكاح القاضي أبو العلاء صاعد بن محمد النيسابوري، الحنفي، وكان المتولي لقبول العقد نظام الملك أحمد بن نظام الملك، وزير السلطان، بوكالة من الخليفة، وكان الصداق مائة ألف دينار، ونثرت الجواهر والدنانير، وكان العقد بأصبهان.
وفيها توفي مجاهد الدين بهروز شحنكية بغداد، وكان سبب ذلك أن السلطان محمداً كان قبض على أبي القاسم الحسين بن عبد الواحد، صاحب المخزن، وعلى أبي الفرج بن رئيس الرؤساء، واعتقلهما عنده، ثم أطلقهما الآن، وقرر عليهما مالاً يحملانه إليه، فأرسل مجاهد الدين بهروز لقبض المال، وأمره السلطان بعمارة دار المملكة، ففعل ذلك وعمر الدار، وأحسن إلى الناس، فلما قدم السلطان إلى بغداد ولاه شحنكية العراق جميعه، وخلع على سعيد بن حميد العمري، صاحب جيش صدقة، وولاه الحلة السيفية، وكان صارماً، حازماً، ذا رأي وجلد.
وفيها، في شوال، ملك الأمير سكمان القطبي، صاحب خلاط، مدينة ميافارقين بالأمان، بعد أن حصرها وضيق على أهلها عدة شهور، فعدمت الأقوات بها، واشتد الجوع بأهلها فسلموها. (4/424)
وفي هذه السنة، في صفر، قتل قاضي أصبهان عبيد الله بن علي الخطيبي بهمذان، وكان قد تجرد، في أمر الباطنية، تجرداً عظيماً، وصار يلبس درعاً حذراً منهم، ويحتاط، ويحترز، فقصده إنسان أعجمي، يوم جمعة، ودخل بينه وبين أصحابه فقتله، وقتل صاعد بن محمد بن عبد الرحمن أبو العلاء قاضي نيسابور، يوم عيد الفطر، قتله باطني، وقتل الباطني، ومولده سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، وسمع الحديث، وكان حنفي المذهب.
وفي هذه السنة سار قفل عظيم من دمشق إلى مصر، فأتى الخبر إلى ملك الفرنج، فسار إليه وعارضه في البر، وأخذ كل من فيه، ولم يسلم منهم إلا القليل، ومن سلم أخذه العرب.
وفيها، في فصح النصارى، ثار جماعة من الباطنية في حصن شيزر على حين غفلة من أهله في مائة رجل، فملكوه، وأخرجوا من كان فيه، وأغلقوا بابه، وصعدوا إلى القلعة فملكوها، وكان أصحابها بنو منقذ قد نزلوا منها لمشاهدة عيد النصارى، وكانوا قد أحسنوا، إلى هؤلاء الذين أفسدوا، كل الإحسان، فبادر أهل المدينة الباشورة، فأصعدهم النساء في الحبال من الطاقات، وصاروا معهم، وأدركهم الأمراء بنو منقذ، أصحاب الحصن، فصعدوا إليهم، فكبروا عليهم وقاتلوهم، فانخذل الباطنية، وأخذهم السيف من كل جانب، فلم يفلت منهم أحد، وقتل من كان على مثل رأيهم في البلد.
وفيها وصل إلى المهدية ثلاثة نفر غرباء، فكتبوا إلى أميرها يحيى بن تميم يقولون: إنهم يعملون الكيمياء، فأحضرهم عنده، وأمرهم أن يعملوا شيئاً يراه من صناعتهم، فقالوا: نعمل النقرة، فأحضر لهم ما طلبوا من آلة وغيرها، وقعد معهم هو والشريف أبو الحسن، وقائد جيشه واسمه إبراهيم، وكانا يختصان به، فلما رأى الكيماوية المكان خالياً من جمع ثاروا بهم، فضرب أحدهم يحيى بن تميم على رأسه، فوقعت السكين في عمامته فلم تصنع شيئاً، ورفسه يحيى فألقاه على ظهره، ودخل يحيى باباً وأغلقه على نفسه، فضرب الثاني الشريف فقتله، وأخذ القائد إبراهيم السيف فقاتل الكيماوية، ووقع الصوت، فدخل أصحاب الأمير يحيى فقتلوا الكيماوية، وكان زيهم زي أهل الأندلس، فقتل جماعة من أهل البلد على مثل زيهم، وقيل للأمير يحيى: إن هؤلاء رآهم بعض الناس عند المقدم بن خليفة، واتفق أن الأمير أبا الفتوح بن تميم، أخا يحيى، وصل تلك الساعة إلى القصر في أصحابه وقد لبسوا السلاح، فمنع من الدخول، فثبت عند الأمير يحيى أن ذلك بوضع منهما، فأحضر المقدم بن خليفة، وأمر أولاد أخيه فقتلوه قصاصاً، لأنه قتل أباهم، وأخرج الأمير أبا الفتوح وزوجته بلارة بنت القاسم بن تميم، وهي ابنة عمه، ووكل بهما في قصر زيادة بين المهدية وسفاقس، فبقي هناك إلى أن مات يحيى، وملك بعده ابنه علي سنة تسع وخمسمائة، فسير أبا الفتوح وزوجته بلارة إلى ديار مصر في البحر، فوصلا إلى إسكندرية، على ما نذكره إن شاء الله.
وفيها، في المحرم، قتل عبد الواحد بن إسماعيل بن أحمد بن محمد أبو المحاسن الروياني الطبري، الفقيه الشافعي، ومولده سنة خمس عشرة وأربعمائة، وكان حافظاً للمذهب، ويقول: لو احترقت كتب الشافعي لأمليتها من قلبي.
وفيها، في جمادى الآخرة، توفي الخطيب أبو زكرياء يحيى بن علي التبريزي، الشيباني، اللغوي، صاحب التصانيف المشهورة، وله شعر ليس بالجيد.
وفيها، في رجب، توفي السيد أبو هاشم زيد الحسني، العلوي، رئيس همذان، وكان نافذ الحكم، ماضي الأمر، وكانت مدة رئاسته لها سبعاً وأربعين سنة، وجده لأمه الصاحب أبو القاسم بن عباد، وكان عظيم المال جداً، فمن ذلك أنه أخذ منه السلطان محمد في دفعة واحدة سبع مائة ألف دينار لم يبع لأجلها ملكاً ولا استدان ديناراً، وأقام بعد ذلك بالسلطان محمد، عدة شهور، في جميع ما يريده، وكان قليل المعروف.
وفيها، في ذي الحجة، توفي أبو الفوارس الحسن بن علي الخازن، الكاتب المشهور بجودة الخط، وله شعر منه: من المديد
عنت الدنيا لطالبها، ... واستراح الزاهد الفطن
عرف الدنيا، فلم يرها ... وسواه حظاً الفتن
كل ملك نال زخرفها ... حظه مما حوى كفن
يقتني مالاً، ويتركه، ... في كلا الحالين مفتتن
أملي كوني على ثقة ... من لقاء الله مرتهن (4/425)
أكره الدنيا، وكيف بها، ... والذي تسخو به وسن
لم تدم قبلي على أحد، ... فلماذا الهم والحزن؟
وقيل توفي سنة تسع وتسعين وأربعمائة، وقد ذكر هناك.

This site was last updated 07/27/11