Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم عزت اندراوس

سنة خمس وتسعين وأربعمائة

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
سنة487 وسنة488
سنة489 وسنة490
سنة491 وسنة 492
سنة493
سنة494
سنة485
سنة496 وسنة497 وسنة498
سنة499
سنة500 وسنة501
سنة502
سنة503 وسنة504
سنة505 وسنة506
سنة507 وسنة508
سنة509 وسنة510
سنة511 وسنة512

 

الجزء التالى من كتاب: الكامل في التاريخ المؤلف: أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير (المتوفى: 630هـ) تحقيق: عمر عبد السلام تدمري الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1417هـ / 1997م عدد الأجزاء:  10

**************************************************************************************************************************

ثم دخلت سنة خمس وتسعين وأربعمائة
ذكر وفاة المستعلي بالله وولاية الآمر بأحكام الله

في هذه السنة توفي المستعلي بالله أبو القاسم أحمد بن معد المستنصر بالله العلوي، الخليفة المصري، لسبع عشرة خلت من صفر، وكان مولده في العشرين من شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة، وكانت خلافته سبع سنين وقريب شهرين، وكان المدبر لدولته الأفضل.
ولما توفي ولي بعده ابنه أبو علي المنصور، ومولده ثالث عشر المحرم سنة تسعين وأربعمائة، وبويع له بالخلافة في اليوم الذي مات فيه أبوه، وله خمس سنين وشهر وأربعة أيام،
ولقب الآمر بأحكام الله، ولم يكن من تسمى بالخلافة قط أصغر منه ومن المستنصر، وكان المستنصر أكبر من هذا، ولم يقدر يركب وحده على الفرس لصغر سنه، وقام بتدبير دولته الأفضل ابن أمير الجيوش أحسن قيام، ولم يزل كذلك يدبر الأمر إلى أن قتل سنة خمس عشرة وخمسمائة.
ذكر الحرب بين السلطان بركيارق والسلطان محمد والصلح بينهما
في هذه السنة، في صفر، كان المصاف الثالث بين السلطانين بركيارق ومحمد. (4/377)
قد ذكرنا سنة أربع وتسعين قدوم السلطان محمد إلى بغداد، ورحيل السلطان بركيارق عنها إلى واسط مريضاً، فأقام السلطان محمد ببغداد إلى سابع عشر المحرم من هذه السنة، وسار عنها هو وأخوه السلطان سنجر عائدين إلى بلادهما، وسنجر يقصد خراسان، والسلطان محمد يقصد همذان. فلما سار محمد عن بغداد وصلت الأخبار أن بركيارق قد اعترض خاص الخليفة بواسط وسمع منه في حق الخليفة ما يقبح نقله، فأرسله الخليفة وأعاد السلطان محمداً إلى بغداد، وذكر له ما نقل إليه، وعزم على الحركة مع محمد إلى قتال بركيارق، فقال السلطان محمد: لا حاجة إلى حركة أمير المؤمنين، فإني أقوم في هذا القيام المرضي. وسار عائداً، ورتب ببغداد أبا المعالي المفضل ابن عبد الرزاق في جباية الأموال وإيلغازي شحنة.
وكان لما دخل بغداد قد خلف عسكره بطريق خراسان، فنهبوا البلاد وخربوها، فأخذهم السلطان محمد معه، وجد السير إلى روذراور.
وأما السلطان بركيارق فقد تقدم سنة أربع وتسعين أنه سار من بغداد عند وصول محمد إليها قاصداً إلى واسط، فلما سمع عسكر واسط بقربه منهم، خافوا منه، وأخذوا نساءهم، وأولادهم، وأموالهم، وجمعوا السفن جميعها، وانحدروا إلى الزبيدية، فأقاموا هناك.
ووصل السلطان، وهو شديد المرض، يحمل في محفة، وقد هلك من دواب عسكره ومتاعهم الكثير، فإنهم كانوا يجدون السرير خوفاً أن يتبعهم السلطان محمد، أو الأمير صدقة، صاحب الحلة، فكانوا كلما جازوا قنطرة هدموها، ليمتنع من يجتاز بها من اتباعهم.
ولما وصلوا إلى واسط عوفي بركيارق، ولم يكن له ولأصحابه همة غير العبور من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي، فلم يجد هناك سفينة، وكان الزمان شاتياً، شديد البرد، والماء زائداً، وكان أهل البلد قد خافوهم، فلزموا الجامع وبيوتهم، فخلت الطرق والأسواق من مجتاز فيها، فخرج القاضي أبو علي الفارقي إلى العسكر، واجتمع بالأمير إياز، والوزير، واستعطفهما للخلق، وطلب إنفاذ شحنة لتطمئن القلوب، فأجابوه إلى ملتمسه، وقالوا له: نريد أن تجمع لنا من يعبر دوابنا في الماء، ونسبح معها، فجمع لهم من شباب واسط، وأعطاهم الأجرة الوافرة، فعبروا دوابهم من الخيل والبغال والجمال، وكان الأمير إياز بنفسه يسوق الدواب، ويفعل ما يفعله الغلمان، ولم يكن معهم غير سفينة واحدة انحدرت مع السلطان من بغداد، فعبروا أموالهم ورحالهم فيها. فلما صاروا في الجانب الشرقي اطمأنوا، ونهب العسكر البلد، فرجع القاضي وجدد الخطاب في الكف عنهم، فأجيب إلى ذلك، فأرسل معه من يمنع من النهب.
ثم إن عسكر واسط أرسلوا إلى السلطان بركيارق يطلبون الأمان ليحضروا الخدمة فأمنهم، فحضر أكثرهم عنده، وساروا معه إلى بلاد بني برسق، فحضروا أيضاً عنده وخدموه، واجتمعت العساكر عليه.
وبلغه مسير أخيه محمد عن بغداد، فسار يتبعه على نهاوند، فأدركه بروذراور، وكان العسكران متقاربين في العدة، كل واحد منهما أربعة آلاف فارس من الأتراك، فتصافوا، أول يوم، جميع النهار، ولم يجر بينهم قتال لشدة البرد، وعادوا في اليوم الثاني، ثم تواقفوا كذلك، ثم كان الرجل يخرج من أحد الصفين فيخرج إليه من يقاتله، فإذا تقاربا اعتنق كل واحد منهما صاحبه، وسلم عليه، ويعود عنه.
ثم خرج الأمير بلدجي وغيره من عسكر محمد إلى الأمير إياز والوزير الأعز، فاجتمعوا، واتفقوا على الصلح، لما قد عم الناس من الضرر، والملل، والوهن، فاستقرت القاعدة أن يكون بركيارق السلطان، ومحمد الملك، ويضرب له ثلاث نوب، ويكون له من البلاد جنزة وأعمالها، وأذربيجان، وديار بكر، والجزيرة، والموصل، وأن يمده السلطان بركيارق بالعساكر، حتى يفتح ما يمتنع عليه منها، وحلف كل واحد منهما لصاحبه، وانصرف الفريقان من المصاف رابع ربيع الأول، وسار بركيارق إلى مرج قراتكين قاصداً ساوة، والسلطان محمد إلى أسداباذ، وتفرق العسكران وقصد الملك أمير أقطاعه.
ذكر الحرب بين السلطان بركيارق ومحمد وانفساخ الصلح بينهما
في هذه السنة، في جمادى الأولى، كان المصاف الرابع بين السلطان بركيارق وأخيه محمد. (4/378)
وكان سببه أن السلطان محمداً سار من روذراور، من الوقعة المذكورة، إلى أسداباذ، ومنها إلى قزوين، ونسب الأمراء الذين سعوا في الصلح إلى المخامرة عليه، والتقاعد به، فوضع رئيس قزوين أن يتوسل إليه بأولئك الأمراء ليحضر دعوته، فاستشفع الرئيس بهم إلى السلطان، فحضر دعوته، بعد أن امتنع، ووصى خواصه بحمل السلاح تحت أقبيتهم، وحضر الدعوة ومعه الأمير أيتكين، وبسمل، فقتل الأمير بسمل، وهو من أكابر الأمراء، وكحل الأمير أيتكين.
وكان الأمير ينال بن أنوشتكين الحسامي قد فارق بركيارق، وأقام مجاهداً للباطنية الذين في القلاع والجبال، فقصد الآن السلطان محمداً، وسار معه إلى الري يضرب النوب الخمس، واجتمعت إليه العساكر، وأقام ثمانية أيام، ووافاه أخوه السلطان بركيارق في اليوم التاسع، ووقع بينهما المصاف عند الري، وكانت عدة العسكريين متقاربة كل عسكر منهما عشرة آلاف فارس، فلما اصطفوا حمل الأمير سرخاب بن كيخسرو الديلمي، صاحب أبة، على الأمير ينال، فهزمه، وتبعه في الهزيمة جميع عسكر محمد، وتفرقوا، ومضى معظمهم نحو طبرستان، ولم يقتل في هذا المصاف غير رجل واحد قتل صبراً.
ومضى قطعة من المنهزمين نحو قزوين، ونهبت خزائن محمد، ومضى في نفر يسير إلى أصبهان، وحمل هو علمه بيده ليتبعه أصحابه، وسار في طلبه الأمير البكي بن برسق، والأمير إياز إلى قم، وتتبع السلطان بركيارق أصحاب أخيه محمد، وأخذ أموالهم.
ذكر حصار السلطان محمد بأصبهان
لما انهزم السلطان محمد من الوقعة التي ذكرناها بالري، مضى إلى أصبهان في سبعين فارساً، والبلد في حكمه، وفيه نائبه، ومعه من الأمراء ينال، وغيره من الأمراء، ودخل المدينة في ربيع الأول، وأمر بتجديد ما تشعث من السور، وهذا السور هو الذي بناه علاء الدولة بن كاكويه سنة تسع وعشرين وأربعمائة، عند خوفه من طغرلبك، وأمر محمد بتعميق الخندق حتى صعد الماء فيه، وسلم إلى كل أمير باباً، وكان معه في البلد ألف ومائة فارس وخمس مائة راجل، ونصب المجانيق.
ولما علم السلطان بركيارق بمسير أخيه محمد إلى أصبهان سار يتبعه، فوصلها في جمادى الأولى، وعساكره كثيرة، تزيد على خمسة عشر ألف فارس، ومعها مائة ألف من الحواشي، وأقام يحاصر البلد، وضيق عليه.
وكان السلطان محمد يدور كل ليلة على سور البلد ثلاث دفعات، فلما زاد الأمر في الحصار، أخرج الضعفاء والفقراء من البلد، حتى خلت المحال، وعدمت الأقوات، وأكل الناس الخيل، والجمال، وغير ذلك، وقلت الأموال، فاضطر السلطان محمد إلى أن يستقرض من أعيان البلد، فأخذ مالاً عظيماً، ثم عاود الجند الطلب، فقسط على أهل البلد شيئاً آخر، وأخذه منهم بالشدة والعنف، فلم تزل الأسعار تغلو، حتى بلغ عشرة أمنان من الحنطة بدينار، وأربعة أرطال لحماً بدينار، وكل مائة رطل تبناً بأربعة دنانير، ورخصت الأمتعة وهانت لعدم الطالب.
وكانت الأسعار، في عسكر بركيارق، رخيصة. فبقي الحصار على البلد إلى عاشر ذي الحجة، فلما رأى السلطان محمد أنه لا قدرة له على الدفع عن البلد، وكلما جاء أمره يضعف، قوي عزمه على مفارقته وقصد جهة أخرى، يجمع فيها العساكر، ويعود يدفع الخصم عن الحصار، فسار عن البلد في مائة وخمسين فارساً، ومعه الأمير ينال، واستخلف بالبلد جماعة من الأمراء الكبار في باقي العسكر، فلما فارق العسكر والبلد لم يكن في دوابهم ما يدوم على السير، لقلة العلف في الحصار، فنزل على ستة فراسخ.
فلما سمع بركيارق بمسيره سير وراءه الأمير إياز في عسكر كثير، وأمره بالجد في السير في طلبه، فقيل: إن محمداً سبقهم، فلم يدركوه، فرجعوا، وقيل: بل أدركوه، فأرسل إلى الأمير إياز يقول: أنت تعلم أنني لي في رقبتك عهود وأيمان ما نقضت، ولم يكن مني إليك ما تبالغ في أذاي. فعاد عنه، وأرسل له خيلاً، وأخذ علمه، والجتر، وثلاثة أحمال دنانير، وعاد إلى بركيارق، فدخل عليه، وأعلام أخيه السلطان محمد منكوسة، فأنكر بركيارق ذلك، وقال: إن كان قد أساء، فلا ينبغي أن يعتمد معه هذا، فأخبره الخبر، فاستحسن ذلك منه. (4/379)
فلما فارق محمد أصبهان اجتمع من المفسدين، والسوادية، ومن يريد النهب، ما يزيد على مائة ألف نفس، وزحفوا إلى البلد بالسلاليم، والدبابات، وطموا الخندق بالتبن، والتصقوا بالسور، وصعد الناس في السلاليم فقاتلهم أهل البلد قتال من يريد أن يحمي حريمه وماله، فعادوا خائبين، فحينئذ أشار الأمراء على بركيارق بالرحيل، فرحل ثامن عشر ذي الحجة من السنة، واستخلف على البلد القديم، الذي يقال له شهرستان، ترشك الصوابي في ألف فارس مع ابنه ملكشاه، وسار إلى همذان، وكان هذا من أعجب ما سطر أن سلطاناً محصوراً قد تقطعت مواده، وهو يخطب له في أكثر البلاد، ثم يخلص من الحصر الشديد، وينجو من العساكر الكثيرة التي كلها قد شرع إليه رمحه، وفوّق إليه سهمه.
ذكر قتل الوزير الأعز ووزارة الخطير أبي منصور
في هذه السنة، ثاني عشر صفر، قتل الوزير الأعز أبو المحاسن عبد الجليل ابن محمد الدهستاني، وزير السلطان بركيارق على أصبهان، وكان مع بركيارق محاصراً لها، فركب هذا اليوم من خيمته إلى خدمة السلطان، فجاء شاب أشقر، قيل: إنه كان من غلمان أبي سعيد الحداد، وكان الوزير قتله في العام الماضي، فانتهز الفرصة فيه، وقيل: كان باطنياً، فجرحه عدة جراحات، فتفرق أصحابه عنه، ثم عادوا إليه، فجرح أقربهم منه جراحات أثخنته، وعاد إلى الوزير فتركه بآخر رمق.
وكان كريماً، واسع الصدر، حسن الخلق، كثير العمارة، ونفر الناس منه لأنه دخل في الوزارة، وقد تغيرت القوانين، ولم يبق دخل ولا مال، ففعل للضرورة ما خافه الناس بسببه.
وكان حسن المعاملة مع التجار، فاستغنى به خلق كثير، فكانوا يسألونه ليعاملهم، فلما قتل ضاع منهم مال كثير.
حكي أن بعض التجار باعه متاعاً بألف دينار، فقال له: خذ بها حنطة من الراذان خمسين كراً، كل كر بعشرين ديناراً، فامتنع التاجر من أخذها، وقال: لا أريد غير الدنانير. فلما كان من الغد دخل إليه التاجر، فقال له: يهنئك، يا فلان! فقال: وما هو؟ قال: خبر حنطتك، فقال: ما لي حنطة، ولا أريدها، قال: بلى، وقد بيعت كل كر بخمسين ديناراً، فقال: أنا لم أتقبل بها! فقال الوزير: ما كنت لأفسخ عقداً عقدته. قال: فخرجت، وأخذت ثمن الحنطة ألفين وخمسمائة دينار، وأضفت إليها مثلها وعاملته، فقتل فضاع الجميع.
وكان قد نفق عليه عمل الكيمياء، واختص به إنسان كيميائي، فكان يعده الشهر بعد الشهر، والحول بعد الحول، وقال له بعض أصحابه، وقد أحاله عليه بكر حنطة، فاستزاده: لو كان صادقاً في عمله، لما كان يستزيد من القدر القليل، وقتل ولم يصح له منه شيء.
ولما قتل الأعز أبو المحاسن وزر بعده الوزير الخطير أبو منصور الميبذي الذي كان وزير السلطان محمد.
وكان سبب فراقه لوزارة محمد أنه كان معه بأصبهان، وبركيارق يحاصره، وقد سلم إليه محمد باباً من أبوابها ليحفظها، فقال له الأمير ينال بن أنوشتكين: كنت قد كلفتنا، ونحن بالري، لنقصد همذان، وقلت: أنا أقيم بالعسكر من مالي، وأحصل لهم ما يقوم بهم، ولا بد من ذلك. فقال الخطير: أنا أفعل ذلك. فلما كان الليل فارق البلد، وخرج من الباب الذي كان مسلماً إليه، وقصد بلده ميبذ، وأقام بقلعتها متحصناً، فأرسل إليه السلطان بركيارق وحصره، فنزل منها مستأمناً، فحمل على بغل بإكاف إلى العسكر، فوصله في طريقه قتل الوزير الأعز، وكتاب السلطان له بالأمان، وطيب قلبه، فلما وصل إلى العسكر خلع عليه واستوزره.
حادثة يعتبر بها
في سنة ثلاث وتسعين بيع رحل بني جهير ودورهم بباب العامة، ووصل ثمن ذلك إلى مؤيد الملك، ثم قتل في سنة أربع وتسعين مؤيد الملك، وبيع ماله وبركة، وأخذ الجميع وحمل إلى الوزير الأعز، وقتل الوزير الأعز، هذه السنة، وبيع رحله، واقتسمت أمواله، وأخذ السلطان ومن ولي بعده أكثرها، وتفرقت أيدي سبا، وهذا عاقبة خدمة الملوك.
ذكر الفتنة بين إيلغازي وعامة بغداد
في هذه السنة، في رجب، كانت فتنة شديدة بين عسكر الأمير إيلغازي ابن أرتق، شحنة بغداد، وبين عامتها. (4/380)
وسببها أن إيلغازي كان بطريق خراسان، فعاد إلى بغداد. فلما وصل أتى جماعة من أصحابه إلى دجلة، فنادوا ملاحاً ليعبر بهم، فتأخر، فرماه أحدهم بنشابة، فوقعت في مشعره فمات، فأخذ العامة القاتل، وقصدوا باب النوبي، فلقيهم ولد إيلغازي مع جماعة، فاستنقذوه، ورجمهم العامة بسوق الثلاثاء، فمضى إلى أبيه مستغيثاً، فأخذ حاجب الباب من له في هذه الحادثة عمل فلم يقنع إيلغازي ذلك، فعبر بأصحابه إلى محلة الملاحين، المعروفة بمربعة القطانين، ويتبعهم خلق كثير، فنهبوا ما وجدوا وقدروا عليه، فعطف عليهم العيارون فقتلوا أكثرهم.
ونزل من سلم في السفن ليعبروا دجلة، فلما توسطوها ألقى الملاحون أنفسهم في الماء وتركوهم فغرقوا، فكان الغريق أكثر من القتيل، وجمع إيلغازي التركمان، وأراد نهب الجانب الغربي، فأرسل الخليفة قاضي القضاة، والكيا الهراس، المدرس بالنظامية، فمنعاه من ذلك، فامتنع.
ذكر قصد صاحب البصرة مدينة واسط وعوده عنها
في هذه السنة، في العشرين من شوال، قصد الأمير إسماعيل، صاحب البصرة، مدينة واسط للاستيلاء عليها.
ونحن نبتديء بذكر إسماعيل، وتنقل الأحوال به إلى أن ملك البصرة، وهو إسماعيل بن سلانجق، وكان إليه في أيام ملكشاه شحنكية الري، ولما وليها كان أهل الري والرستاقية قد أعيوا من وليهم، وعجز الولاة عنهم، فسلك معهم طريقاً أصلحهم بها، وقتل منهم مقتلة عظيمة فتهذبوا بها، وأرسل من شعورهم إلى السلطان ما عمل منه مقاود وشكلاً للدواب، ثم عزل عنها.
ثم إن السلطان بركيارق أقطع البصرة للأمير قماج، فأرسل إليها هذا الأمير إسماعيل نائباً عنه، فلما فارق قماج بركيارق، وانتقل إلى خراسان، حدثته نفسه بالتغلب على البصرة، والاستبداد، فانحدر مهذب الدولة بن أبي الجبر من البطيحة إليه ليحاربه، ومعه معقل بن صدقة بن منصور بن الحسين الأسدي، صاحب الجزيرة الدبيسية، فأقبلا في جمع كثير من السفن والخيل، ووصلوا إلى مطارا.
فبينما معقل يقاتل قريباً من القلعة التي بناها ينال بمطارا، وجددها إسماعيل وأحكمها، أتاه سهم غرب فقتله، فعاد ابن أبي الجبر إلى البطيحة، وأخذ إسماعيل سفنه، وذلك سنة إحدى وتسعين، فاستمد ابن أبي الجبر كوهرائين، فأمده بأبي الحسن الهروي، وعباس بن أبي الجبر، فلقياه، فكسرهما وأسرهما، وأطلق عباساً على مال أرسله أبوه، واصطلحا.
وأما الهروي فبقي في حبسه مدة، ثم أطلقه على خمسة آلاف دينار، فلم يصح له منها شيء.
وقوي حال إسماعيل، فبنى قلعة بالأبلة، وقلعة بالشاطيء مقابل مطارا، وصار مخوف الجانب وأمن البصريون به، وأسقط شيئاً من المكوس، واتسعت إمارته باشتغال السلاطين، وملك المشان، واستضافها إلى ما بيده.
فلما كان هذه السنة كاتبه بعض عسكر واسط بالتسليم إليه، فقوي طمعه في واسط، فأصعد في السفن إلى نهرابان، وراسلهم في التسليم، فامتنعوا من ذلك، وقالوا: راسلناك، وقد رأينا غير ذلك الرأي. فأصعد إلى الجانب الشرقي، فخيم تحت النخيل، وسفنه بين يديه، وخيم جند واسط حذاءه، وراسلهم، ووعدهم، وهم لا يجيبونه.
واتفقت العامة مع الجند، وشتموه أقبح شتم، فلما أيس منهم عاد إلى البصرة، وساروا بإزائه من الجانب الآخر، فوصل إلى العمر، وعبر طائفة من أصحابه فوق البلد، وهو يظن أن البلد خال، وأن الناس قد خرجوا منه، لما رأى كثرة من بإزائه، فيوقع الحريق في البلد، فإذا رجع الأتراك عاد هو من ورائهم، فكان ظنه خائباً لأن العامة كانوا على دجلة، أولهم في البلد، وآخرهم مع الأتراك بإزائه.
فلما عبر أصحابه عاد الأتراك عليهم، ومعهم العامة، فقتلوا منهم ثلاثين رجلاً، وأسروا خلقاً كثيراً، وألقى الباقون أنفسهم في الماء، فأتاه من ذلك مصيبة لم يظنها، وصار أعيان أصحابه مأسورين، وعاد إلى البصرة، وكان عوده من سعادته، فإنه كان قد قصد الأمير أبو سعد محمد بن مضر بن محمود البصرة ذلك الوقت، وله أعمال واسعة، منها: نصف عمان، وجنابة، وسيراف، وجزيرة بني نفيس. (4/381)
وكان سبب قصده إياها أنه كان قد صار مع إسماعيل إنسان يعرف بجعفرك، وآخر اسمه زنجويه، والثالث بأبي الفضل الأبلي، فأطمعوه في أن يعمل مراكب يرسل فيها مقاتلة في البحر إلى أبي سعد هذا وغيره، فعمل نيفاً وعشرين قطعة، فلما علم أبو سعد الحال أرسل جماعة كثيرة من أصحابه في نحو خمسين قطعة، فأتوا إلى دجلة البصرة، وذلك في السنة الخالية، فأقاموا بها محاربين، وظفروا بطائفة من أصحاب إسماعيل، وقتلوا صاحب قلعة الأبلة، وكاتبوا بني برسق بخوزستان يطلبون أن يرسلوا عسكراً ليساعدوهم على أخذ البصرة، فتمادى الجواب، وركن الطائفتان إلى الصلح، على أن يسلم إليهم إسماعيل جعفرك ورفيقه، ويقطعهم مواضع ذكروها من أعمال البصرة.
فلما رجعوا لم يفعل شيئاً من ذلك، وأخذ مركبين لقوم من أصحاب أبي سعد، فحمله ذلك على أن سار بنفسه في قطع كثيرة تزيد على مائة قطعة بين كبيرة وصغيرة، ووصل إلى فوهة نهر الأبلة.
وخرج عسكر إسماعيل في عدة مراكب، ووقع القتال بينهم، وكان البحريون في نحو عشرة آلاف، وإسماعيل في سبعمائة، وأصعد البحريون في دجلة، فأحرقوا عدة مواضع، وتفرق عسكر إسماعيل، فبعضه بالأبلة، وبعضه بنهر الدير، وبعضه في مواضع أخر.
فلما ضعف إسماعيل عن مقاومة أبي سعد طلب من وكيل الخليفة، على ما يتعلق بديوانه من البلاد، أن يسعى في الصلح، فأرسل إليه في ذلك، فأعاد الجواب يذكر قبح ما عامله به إسماعيل مرة بعد أخرى، وتكررت الرسائل بينهم، فأجاب إلى الصلح، فاصطلحا، واجتمعا، وعاد أبو سعد إلى بلاده، وحمل كل واحد منهما لصاحبه هدية جميلة.
ذكر وفاة كربوقا وملك موسى التركماني الموصل وجكرمش بعده وملك سقمان الحصن
في هذه السنة، في ذي القعدة، توفي قوام الدولة كربوقا، عند مدينة خوي، وكان السلطان بركيارق قد أرسله في العام الماضي إلى أذربيجان، كما ذكرناه، فاستولى على أكثرها، وأتى إلى خوي، فمرض بها ثلاثة عشر يوماً، وكان معه أصبهبذ صباوة بن خمارتكين، وسنقرجه، فوصى إلى سنقرجه، وأمر الأتراك بطاعته، وأخذ له على عسكره العهد، ومات على أربعة فراسخ من خوي، ولف في زلية لعدم ما يكفن فيه ودفن بخوي.
وسار سنقرجه وأكثر العسكر إلى الموصل، فتسلمها، فأقام بها ثلاثة أيام، وكان أعيان الموصل قد كاتبوا موسى التركماني، وهو بحض كيفا ينوب عن كربوقا فيها، وسألوه أن يبادر إليهم ليسلموا إليه البلد، فسار مجداً، فسمع سنقرجه بوصوله، فظن أنه جاء إليه خدمة له، فخرج ليستقبله في أهل البلد، فلما تقاربا نزل كل واحد منهما لصاحبه عن فرسه، واعتنقا، وبكيا على قوام الدولة، فتسايرا.
فقال سنقرجه لموسى في جملة حديثه: أنا مقصودي من جميع ما كان لصاحبنا المخدة، والمنصب، والأموال، والولايات لكم وبحكمكم. فقال موسى: من نحن حتى يكون لنا مناصب ودسوت؟ الأمر في هذا إلى السلطان يرتب فيه من يريد، ويولي من يختار. وجرى بينهما محاورات، فجذب سنقرجه سيفه وضربه صفحاً على رأسه فجرحه، فألقى موسى نفسه إلى الأرض، وجذب سنقرجه فألقاه إلى الأرض، وكان مع موسى ولد منصور بن مروان الذي كان أبوه صاحب ديار بكر، فجذب سكيناً وضرب بها رأس سنقرجه فأبانه، ودخل موسى البلد، وخلع على أصحاب سنقرجه، وطيب نفوسهم فصارت الولاية له.
ولما سمع شمس الدولة جكرمش، صاحب جزيرة ابن عمر، الخبر قصد نصيبين وتسلمها، وسار موسى قاصداً إلى الجزيرة، فلما قارب جكرمش غدر بموسى عسكره، وصاروا مع جكرمش، فعاد موسى إلى الموصل، وقصده جكرمش، وحصره مدة طويلة، فاستعان موسى بالأمير سقمان بن أرتق، وهو يومئذ بديار بكر، وأعطاه حصن كيفا وعشرة آلاف دينار، فسار سقمان إليه، فرحل جكرمش عنه.
وخرج موسى لاستقبال سقمان، فلما كان موسى عند قرية تسمى كراثا، وثب عليه عدة من الغلمان القوامية، فقتلوه: رماه أحدهم بنشابة فقتله، فعاد أصحابه منهزمين، ودفن على تل هناك يعرف الآن بتل موسى، ورجع الأمير سقمان إلى الحصن، فملكها وهي بيد أولاده إلى يومنا هذا، سنة عشرين وستمائة، وصاحبها حينئذ غازي بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق.
وقصد جكرمش الموصل وحصرها أياماً، ثم تسلمها صلحاً، وأحسن السيرة فيها، وأخذ القوامية الذين قتلوا موسى، فقتلهم واستولى بعد ذلك على الخابور، وملك العرب والأكراد، فأطاعوه.
ذكر حال صنجيل الفرنجي (4/382) وما كان منه في حصار طرابلس
كان صنجيل الفرنجي، لعنه الله، قد لقي قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش، صاحب قونية، وكان صنجيل في مائة ألف مقاتل، وكان قلج أرسلان في عدد قليل، فاقتتلوا، فانهزم الفرنج وقتل منهم كثير، وأسر كثير، وعاد قلج أرسلان بالغنائم، والظفر الذي لم يحسبه.
ومضى صنجيل مهزوماً في ثلاثمائة، فوصل إلى الشام، فأرسل فخر الملك بن عمار، صاحب طرابلس، إلى الأمير ياخز، خليفة جناح الدولة على حمص، فإلى الملك دقاق بن تتش، يقول: من الصواب أن يعاجل صنجيل إذ هو في هذه العدة القريبة، فخرج الأمير ياخز بنفسه، وسير دقاق ألفي مقاتل، وأتتهم الأمداد من طرابلس، فاجتمعوا على باب طرابلس، وصافوا صنجيل هناك، فأخرج مائة من عسكره إلى أهل طرابلس، ومائة إلى عسكر دمشق، وخمسين إلى عسكر حمص، وبقي هو في خمسين.
فأما عسكر حمص فإنهم انكسروا عند المشاهدة، وولوا منهزمين، وتبعهم عسكر دمشق.
وأما أهل طرابلس فإنهم قاتلوا المائة الذين قاتلوهم، فلما شاهد ذلك صنجيل حمل في المائتين الباقيتين، فكسروا أهل طرابلس، وقتلوا منهم سبعة آلاف رجل، ونازل صنجيل طرابلس وحصرها.
وأتاه أهل الجبل فأعانوه على حصارها، وكذلك أهل السواد، وأكثرهم نصارى، فقاتل من بها أشد قتال، فقتل من الفرنج ثلاثمائة، ثم إنه هادنهم على مال وخيل، فرحل عنهم إلى مدينة أنطرسوس، وهي من أعمال طرابلس، فحصرها، وفتحها، وقتل من بها من المسلمين، ورحل إلى حصن الطوبان، وهو يقارب رفنية، ومقدمه يقال له ابن العريض، فقاتلهم، فنصر عليه أهل الحصن، وأسر ابن العريض منه فارساً من أكابر فرسانه، فبذل صنجيل في فدائه عشرة آلاف دينار وألف أسير، فلم يجبه ابن العريض إلى ذلك.
ذكر ما فعله الفرنج
في هذه السنة أطلق الدانشمند بيمند الفرنجي، صاحب أنطاكية، وكان قد أسره، وقد تقدم ذكر ذلك، وأخذ مائة ألف دينار، وشرط عليه إطلاق ابنه باغي سيان الذي كان صاحب أنطاكية، وكانت في أسره.
ولما خلص بيمند من أسره عاد إلى أنطاكية، فقويت نفوس أهلها به، ولم يستقر حتى أرسل إلى أهل العواصم وقنسرين وما جاورها يطالبهم بالإتاوة، فورد على المسلمين من ذلك ما طمس المعالم التي بناها الدانشمند.
وفيها سار صنجيل إلى حصن الأكراد فحصره، فجمع جناح الدولة عسكره ليسير إليه ويكبسه، فقتله باطني بالمسجد الجامع، فقيل: إن الملك رضوان ربيبه وضع عليه من قتله، فلما قتل صبح صنجيل حمص من الغد، ونازلها، وحصر أهلها، وملك أعمالها.
ونزل القمص على عكة في جمادى الآخرة، وضيق عليها، وكاد يأخذها، ونصب عليها المنجنيقات والأبراج، وكان له في البحر ست عشرة قطعة، فاجتمع المسلمون من سائر السواحل، وأتوا إلى منجنيقاتهم، وأبراجهم، فأحرقوها، وأحرقوا سفنهم أيضاً، وكان ذلك نصراً عجيباً أذل الله به الكفار.
وفيها صار القمص الفرنجي، صاحب الرها، إلى بيروت من ساحل الشام، وحصرها وضايقها، وأطال المقام عليها، فلم ير فيها طمعاً فرحل عنها.
وفيها، في رجب، خرجت عساكر مصر إلى عسقلان ليمنعوا الفرنج عما بقي في أيديهم من البلاد الشامية، فسمع بهم بردويل، صاحب القدس، فسار إليهم في سبعمائة فارس، وقاتلهم، فنصر الله المسلمين، وانهزم الفرنج، وكثر القتل فيهم، وانهزم بردويل، فاختفى في أجمة قصب، فأحرقت تلك الأجمة، ولحقت النار بعض جسده، ونجا منها إلى الرملة، فتبعه المسلمون، وأحاطوا به فتنكر، وخرج منها إلى يافا، وكثر القتل والأسر في أصحابه.
ذكر عود قلعة خفتيذكان إلى سرخاب بن بدر
في هذه السنة عادت قلعة خفتيذكان إلى الأمير سرخاب بن بدر بن مهلهل.
وكان سبب أخذها منه أن القرابلي، وهو من قبيل من التركمان يقال لهم سلغر، كان قد أتى إلى بلد سرخاب، فمنعه من المراعي، وقتل جماعة من أصحابه، فمضى قرابلي إلى التركمان، واستجاش بهم، وجاء في عسكر كثير، فلقيه سرخاب وقاتله، فقتل قرابلي من أصحابه الأكراد قريباً من ألفي رجل، وانهزم سرخاب إلى بعض جباله في عشرين رجلاً. (4/383)
فلما سمع المستحفظان بقلعة خفتيذكان ذلك، وكانا رجلين حدثتهما أنفسهما بالاستيلاء عليها، وكان بها ذخائره، وأمواله، وقدرها يزيد على ألفي دينار، فتملكاها، واجتاز بها السلطان بركيارق، فأنفذا إليه مائتي ألف دينار، واستولى التركمان على جميع بلاد سرخاب بن بدر، سوى دقوقا وشهرزور، فلما كان هذا الوقت قتل أحد المستحفظين الآخر، وأرسل إلى سرخاب يطلب منه الأمان ليسلم إليه القلعة، فأمنه على نفسه، وعلى ما حصل بيده من أموالها، فسلمها إليه ووفى له.
ذكر قتل قدرخان صاحب سمرقند
قد ذكرنا قبل قدوم الملك سنجر مع أخيه السلطان محمد إلى بغداد وعوده إلى خراسان، فلما وصل إلى نيسابور خطب لأخيه محمد بخراسان جميعها، ولما كان ببغداد طمع قدرخان جبريل بن عمر، صاحب سمرقند، في خراسان لبعده عنها، وجمع عساكر تملأ الأرض، قيل: كانوا مائة ألف مقاتل فيهم مسلمون وكفار، وقصد بلاد سنجر.
وكان أمير من أمراء سنجر، اسمه كندغدي، قد كاتب قدرخان بالأخبار، وأعلمه مرض سنجر، بعد عوده إلى بلاده، وأنه قد أشفى على الهلاك، وقوى طمعه بالاختلاف الواقع بين السلطانين بركيارق ومحمد، وبشدة عداوة بركيارق لسنجر، وأشار عليه بالسرعة مهما الاختلاف واقع، وأنه متى أسرع ملك خراسان والعراق. فبادر قدرخان وأقدم، وقصد البلاد، فبلغ السلطان سنجر الخبر، وكان قد عوفي، فبادر وسار نحوه قاصداً قتاله ومنعه عن البلاد، وكان من جملة من معه كندغدي المذكور، وهو لا يتهمه بشيء مما فعل، فوصل إلى بلخ في ستة آلاف فارس، فبقي بينه وبين قدرخان نحو خمسة أيام، فهرب كندغدي إلى قدرخان، وحلف كل واحد منهما لصاحبه على الاتفاق والمناصحة، وسار من عنده إلى ترمذ، فملكها. وكان الباعث للكندغدي على ما فعل حسده للأمير بزغش على منزلته.
ثم تقدم قدرخان، فلما تدانى العسكران أرسل سنجر يذكر قدرخان العهود والمواثيق القديمة، فلم يصغ إلى قوله، وأذكى سنجر العيون والجواسيس على قدرخان، فكان لا يخفى عنه شيء من خبره، فأتاه من أخبره أنه نزل بالقرب من بلخ، وأنه خرج متصيداً في ثلاثمائة فارس، فندب سنجر، عند ذلك، الأمير بزغش لقصده، فسار إليه، فلحقه وهو على تلك الحال، فقاتله، فلم يصبر من مع قدرخان، فانهزموا، وأسر كندغدي وقدرخان، وأحضرهما عند سنجر، فأما قدرخان فإنه قبل الأرض واعتذر، فقال له سنجر: إن خدمتنا، أو لم تخدمنا، فما جزاؤك إلا السيف، ثم أمر به فقتل.
فلما سمع كندغدي الخبر نجا بنفسه، ونزل في قناة، ومشى فيها فرسخين تحت الأرض، على ما به من النقرس، وقتل فيها حيتين عظيمتين، وسبق أصحابه إلى مخرجها، وسار منها في ثلاثمائة فارس إلى غزنة. وقيل: بل جمع سنجر عساكر كثيرة، والتقى هو وقدرخان، وجرى بينهما مصاف، وقتال عظيم، أكثر فيه القتل فيهم، فانهزم قدرخان وعسكره، وحمل أسيراً إلى سنجر، فقتله، وحصر ترمذ، وبها كندغدي، فطلب الأمان، فأمنه سنجر، ونزل إليه، وسلم ترمذ، فأمره سنجر بمفارقة بلاده، فسار إلى غزنة، فلما وصل إليها أكرمه صاحبها علاء الدولة، وحل عنده المحل الكبير.
واتفق أن صاحب غزنة عزم على قصد أوتان، وهي جبال منيعة، على أربعين فرسخاً من غزنة، وقد عصى عليه قوم، وتحصنوا بمعاقلها، ووعور مسالكها، فقاتلهم عسكر علاء الدولة، فلم يظفروا منهم بطائل، فتقدم كندغدي منفرداً عنهم، فأبلى بلاء حسناً، ونصر عليهم، وأخذ غنائمهم، وحملها إلى علاء الدولة، فلم يقبل منها شيئاً، ووفرها عليه، فغضب العسكر، وحسدوه على ذلك، وعلى قربه من صاحبهم، ونفاقه عليه، فأشاروا بقبضه، وقالوا: إنا لا نأمن أن يقصد بعض الأماكن فيفعل في أمر الدولة ما لا يمكن تلافيه. فقال: قد تحققت قصدكم، ولكن بمن أقبض عليه؟ فإني أخاف أن آمركم بالقبض عليه، فينالكم منه ما تفتضحون به. فقالوا: الصواب أن توليه ولاية ويقبض عليه إذا سار إليها. فولاه حصنين جرت عادته أن يسجن فيهما من يخاف جانبه، فسار إليهما.(4/384)
فلما قاربهما عرف ما يراد منه، فأحرق جميع ماله، ونحر جماله، وسار جريدة، وكان في مدة مقامه بغزنة يسأل عن الطرق وتشعبها، فإنه ندم على قصد تلك الجهة، فلما سار سأل راعياً عن الطريق التي يريدها، فدله، فأخذه معه خوفاً أن يكون قد غره، ولم يزل سائراً إلى أن وصل إلى قريب هراة، فمات هناك، وهو من مماليك تتش بن ألب أرسلان الذي كحله أخوه ملكشاه، وسجنه بتكريت، وقد تقدم ذكر حادثته.
ذكر ملك محمد خان سمرقند
في هذه السنة أحضر السلطان سنجر محمداً أرسلان خان بن سليمان بن داود بلراخان، من مرو، وملكه سمرقند، بعد قتل قدرخان، وكان محمد خان هذا من أولاد الخانية بما وراء النهر، وأمه ابنة السلطان ملكشاه، فدفع عسكر ملك آبائه، فقصد مرو، وأقام بها إلى الآن.
فلما قتل قدرخان ولاه سنجر أعماله، وسير معه العساكر الكثيرة، فعبروا النهر، فأطاعه العساكر بتلك البلاد جميعها، وعظم شأنه، وكثرت جموعه، إلا أنه انتصب له أمير اسمه هاغوبك، وزاحمه في الملك، فطمع فيه، فجرى له معه حروب احتاج في بعضها إلى الاستنجاد بعساكر سنجر، على ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى.
ولما ملك محمد خان البلاد أحسن إلى الرعايا بوصية من سنجر، وحقن الدماء، وصار بابه مقصداً، وجنابه ملجأ.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة، في ربيع الأول، خرج تاج الرؤساء ابن أخت أمين الدولة أبي سعد بن الموصلايا إلى الحلة السيفية، مستجيراً بسيف الدولة صدقة.
وسبب ذلك أن الوزير الأعز وزير السلطان بركيارق كان ينسب إليه أنه هو الذي يميل جانب الخليفة إلى السلطان محمد، فسار خائفاً، واعتزل خاله أمين الدولة الديوان، وجلس في داره، فلما قتل الوزير الأعز، على ما ذكرنا، عاد تاج الرؤساء من الحلة إلى بغداد، وعاد خاله إلى منصبه.
وفي ربيع الأول أيضاً ورد العميد المهذب أبو المجد، أخو الوزير الأعز، إلى بغداد، نائباً عن أخيه، ظناً منه أن إيلغازي لا يخالفهم، حيث كان بركيارق ومحمد قد اتفقا، كما ذكرناه، فقبض عليه إيلغازي، ولم يتغير عن طاعة محمد.
وفيها، في جمادى الأولى، ورد إلى بغداد ابن تكش بن ألب أرسلان، وكان قد استولى على الموصل، فخدعه من كان بها، حتى سار عنها إلى بغداد، فلما وصل إليها زوجه إيلغازي بن أرتق ابنته.
وفيها، في شهر رمضان، استوزر الخليفة سديد الملك أبا المعالي بن عبد الرزاق، ولقب عضد الدين.
وفيها، في صفر، قتل الربعيون بهيت قاضي البلد أبا علي بن المثنى، وكان ورعاً، فقيهاً، حنفياً، من أصحاب القاضي أبي عبد الله الدامغاني، وكان هذا القاضي على ما جرت به عادة القضاة هناك من الدخول بين القبائل، فنسبوه في ذلك إلى التحامل عليهم، فقتله أحدهم، فندم الباقون على قتله، وقد فات الأمر.
وفيها بنى سيف الدولة صدقة بن مزيد الحلة بالجامعين، وسكنها، وإنما كان يسكن هو وآباؤه قبله في البيوت العربية.
وفي جمادى الأولى قتل المؤيد بن شرف الدولة مسلم بن قريش أمير بني عقيل، قتله بنو نمير عند هيت قصاصاً.
وفيها توفي القاضي البندنيجي الضرير، الفقيه الشافعي، انتقل إلى مكة، فجاور بها أربعين سنة يدرس الفقه، ويسمع الحديث، ويشتغل بالعبادة.
وفيها توفي أبو عبد الله الحسين بن محمد الطبري بأصبهان، وكان يدرس فقه الشافعي بالمدرسة النظامية، وقد جاوز تسعين سنة، وهو من أصحاب أبي إسحاق.
وفيها توفي الأمير منظور بن عمارة الحسيني، أمير المدينة، على ساكنها السلام، وقام ولده مقامه، وهو من ولد المهنا، وقد كان قتل المعمار الذي أنفذه مجد الملك البلاساني لعمارة القبة التي على قبر الحسن بن علي والعباس، رضي الله عنهما، وكان من أهل قم، فلما قتل البلاساني قتله منظور بعد أن أمنه، وكان قد هرب منه إلى مكة، فأرسل إليه بأمانه.

This site was last updated 07/28/11