Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم عزت اندراوس

سنة تسع وتسعين وأربعمائة

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
سنة487 وسنة488
سنة489 وسنة490
سنة491 وسنة 492
سنة493
سنة494
سنة485
سنة496 وسنة497 وسنة498
سنة499
سنة500 وسنة501
سنة502
سنة503 وسنة504
سنة505 وسنة506
سنة507 وسنة508
سنة509 وسنة510
سنة511 وسنة512

 

الجزء التالى من كتاب: الكامل في التاريخ المؤلف: أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير (المتوفى: 630هـ) تحقيق: عمر عبد السلام تدمري الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1417هـ / 1997م عدد الأجزاء:  10

**************************************************************************************************************************

ثم دخلت سنة تسع وتسعين وأربعمائة
ذكر خروج منكبرس على السلطان محمد

في هذه السنة، في المحرم، أظهر منكبرس ابن الملك بوربرس بن ألب أرسلان، وهو ابن عماد الملك السلطان محمد، العصيان للسلطان محمد والخلاف عليه.
وسبب ذلك: أنه كان مقيماً بأصبهان، فلحقته ضائقة شديدة، وانقطعت المواد عنه، فخرج منها وسار إلى نهاوند، فاجتمع عليه بها جماعة من العسكر، وظاهره على أمره جماعة من الأمراء، وتغلب على نهاوند، وخطب لنفسه بها، وكاتب الأمراء بني برسق يدعوهم إلى طاعته ونصرته.
وكان السلطان محمد قد قبض على زنكي بن برسق، فكاتب زنكي إخوته، وحذرهم من طاعة منكبرس، وما فيها من الأذى والخطر، وأمرهم بتدبير الأمر في القبض عليه.
فلما أتاهم كتاب أخيهم بذلك أرسلوا إلى منكبرس يبذلون له الطاعة والموافقة، فسار إليهم، وساروا إليه، فاجتمعوا به، وقبضوا عليه بالقرب من أعمالهم، وبلد خوزستان، وتفرق أصحابه، وأخذوا منكبرس إلى أصبهان، فاعتقله السلطان مع بني عمه تكش، وأخرج زنكي بن برسق، وأعاده إلى مرتبته، واستنزله وإخوته عن أقطاعهم، وهي ليشتر، وسابور خواست وغيرهما، ما بين الأهواز وهمذان، وأقطعهم عوضها الدينور وغيرها.
واتفق أن ظهر بنهاوند أيضاً، في هذه السنة، رجل من السواد ادعى النبوة، فأطاعه خلق كثير من السوادية، واتبعوه، وباعوا أملاكهم ودفعوا إليه أثمانها، فكان يخرج ذلك جميعه، وسمى أربعة من أصحابه: أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلياً، وقتل بنهاوند، فكان أهلها يقولون: ظهر عندنا، في مدة شهرين، اثنان ادعى أحدهما النبوة، والآخر المملكة، فلم يتم لواحد منهما أمره.
ذكر الحرب بين طغتكين والفرنج
في هذه السنة، في صفر، كانت وقعة بين طغتكين أتابك، صاحب دمشق، وبين قمص كبير من قمامصة الفرنج.
وسبب ذلك: أنه تكررت الحروب، والمغاورات، بين عسكر دمشق وبغدوين، فتارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء، ففي آخر الأمر بنى بغدوين حصناً بينه وبين دمشق نحو يومين، فخاف طغتكين من عاقبة ذلك، وما يحدث به من الضرر، فجمع عسكره وخرج إلى مقاتلتهم، فسار بغدوين ملك القدس، وعكا، وغيرهما، إلى هذا القمص ليعاضده، ويساعده إلى المسلمين، فعرفه القمص غناه عنه، وأنه قادر على مقارعة المسلمين إن قاتلوه، فعاد بغدوين إلى عكا.
وتقدم طغتكين إلى الفرنج، واقتتلوا، واشتد القتال، فانهزم أميران من عسكر دمشق، فتبعهما طغتكين وقتلهما، وانهزم الفرنج إلى حصنهم، فاحتموا به، فقال طغتكين: من أحسن قتالهم وطلب مني أمراً فعلته معه، ومن أتاني بحجر من حجارة الحصن أعطيته خمسة دنانير. فبذل الرجالة نفوسهم، وصعدوا إلى الحصن وخربوه، وحملوا حجارته إلى طغتكين، فوفى لهم بما وعدهم، وأمر بإلقاء الحجارة في الوادي، وأسروا من بالحصن، فأمر بهم فقتلوا كلهم، واستبقى الفرسان أسراء، وكانوا مائتي فارس، ولم ينج ممن كان في الحصن إلا القليل.
وعاد طغتكين إلى دمشق منصوراً، فزين البلد أربعة أيام، وخرج منها إلى رفنية، وهو من حصون الشام، وقد تغلب عليه الفرنج، وصاحبه ابن أخت صنجيل المقيم على حصار طرابلس، فحصره طغتكين، وملكه، وقتل به خمسمائة رجل من الفرنج.
ذكر الحرب بين عبادة وخفاجة
في هذه السنة كانت حرب شديدة بين عبادة وخفاجة. (4/400)
وسببها: أن رجلاً من عبادة أخذ منه جماعة خفاجة جملين، فجاء إليهم وطالبهم بهما، فلم يعطوه شيئاً، فأخذ منهم غارة أحد عشر بعيرا، فلحقته خفاجة، وقتلوا من أصحابه رجلاً، وقطعوا يد آخر، وكان ذلك بالموقف من الحلة السيفية، ففرق بينهم أهلها. فسمعت عبادة الخبر، فتواعدت، وانحدرت إلى العراق للأخذ بثأرها، وساروا مع جماعة من أمرائهم، فبلغت عدتهم سبعمائة فارس، وكانت خفاجة دون هذه العدة، فراسلتهم خفاجة يبذلون الدية ويصطلحون، فلم تجبهم إلى ذلك عبادة، وأشار به سيف الدولة صدقة، فلم تقبل عبادة، فالتقوا بالقرب من الكوفة، ومع عبادة الإبل والغنم بين البيوت، فكمنت لهم خفاجة ثلاثمائة فارس، وقاتلوهم مطاردة من غير جد في القتال، فداموا كذلك ثلاثة أيام، ثم إنهم اشتد بينهم القتال، واختلطوا، حتى تركوا الرماح، وتضاربوا بالسيوف.
فبينما هم كذلك، وقد أعيا الفريقان من القتال، إذ طلع كمين خفاجة، وهم مستريحون، فانهزمت عبادة، وانتصرت عليهم خفاجة، وقتل من وجوه عبادة اثنا عشر رجلاً، ومن خفاجة جماعة، وغنمت خفاجة الأموال من الخيل، والإبل، والغنم، والعبيد، والإماء.
وكان الأمير صدقة بن مزيد قد أعان خفاجة سراً، فلما وصل المنهزمون إليه هنأهم صدقة بالسلامة، فقال له بعضهم: ما زلت أقاتل، وأضارب، وأنا طامع في الظفر بهم، حتى رأيت فرسك الشقراء تحت أحدهم، فعلمت أنهم أجلبوا علينا بخيلك ورجلك، وأننا لا طاقة لنا بهم، فنصروا علينا بمعونتك، وفلونا بحدك. فلم يجبه صدقة.
ذكر ملك صدقة البصرة
في هذه السنة، في جمادى الأولى، انحدر سيف الدولة من الحلة إلى البصرة فملكها. وقد ذكرنا فيما تقدم تمكن إسماعيل بن أرسلانجق من البصرة ونواحيها، وأقام بها عشر سنين نافذ الأمر، وازداد قوة وتمكناً بالاختلاف الواقع بين السلاطين، وأخذ الأموال السلطانية، وكان قد راسل صدقة، وأظهر له أنه في طاعته وموافقته. فلما استقر الأمر للسلطان محمد أراد أن يرسل إلى البصرة مقطعاً يأخذها من إسماعيل، فخاطب صدقة في معناه، حتى أقرت البصرة عليه، فأنفذ السلطان عميداً إليها ليتولى ما يتعلق بالسلطان هناك، فمنعه إسماعيل، ولم يمكنه من عمله، وفعل ما خرج به عن حد المجاملة، فأمر السلطان صدقة بقصده، وأخذ البصرة منه، فتحرك لذلك.
فاتفق ظهور منكبرس، وخلافه على السلطان، وأنه على قصد واسط، فسر إسماعيل بذلك، وزاد انبساطه، وأرسل صدقة حاجباً له، وكان قبله قد خدم أباه وجده، إلى إسماعيل يأمره بتسليم الشرطة وأعمالها إلى مهذب الدولة بن أبي الجبر لأنها كانت في ضمانه، فوصل إلى الشرطة، وأخذ منها أربعمائة دينار، فأحضره إسماعيل وحبسه، وأخذ الدنانير منه، فلما رأى صدقة مكاشفته سار من حلته، وأظهر أنه يريد قصد الرحبة، ثم جد السير إلى البصرة، فلم يشعر إسماعيل إلا بقربه منه، ففرق أصحابه في القلاع التي استجدها بمطارا ونهر معقل، وغيرهما، واعتقل وجوه العباسيين، والعلويين، وقاضي البصرة، ومدرسها، وأعيان أهلها.
ونازلهم صدقة، فجرى قتال بين طائفة من عسكره، وطائفة من البصريين، قتل فيه أبو النجم بن أبي القاسم الورامي، وهو ابن خال سيف الدولة صدقة، فلما مدح به سيف الدولة، ورثي به أبو النجم بن أبي القاسم، قول بعضهم:
تهن، يا خير من يحمي حريم حمىً، ... فتحاً أغثت به الدنيا مع الدين
ركبت للبصرة الغراء في نخبٍ ... غرٍ، كجيش علي يوم صفين
هوى أبو النجم كالنجم المنير بها، ... لكنه كان رجماً للشياطين
وأقام صدقة محاصراً لإسماعيل بالبصرة، فأشار على سيف الدولة صدقة بعض أصحابه بالعود عنها، وأعلموه أنهم لا يظفرون بطائل، فأشار عليهم بالمقام، وقالوا: إن رحلنا كانت كسرة، وكان رأي سيف الدولة المقام، وقال: إن تعذر علي فتح البصرة لم يطعني أحد، واستعجزني الناس.(4/401)
ثم إن إسماعيل خرج من البلد، وقاتل صدقة، فسار بعض أصحاب صدقة إلى مكان آخر من البلد، ودخلوه، وقتلوا من السوادية، الذين جمعهم إسماعيل، خلقاً كثيراً وانهزم إسماعيل إلى قلعته بالجزيرة، فأدركه بعض أصحاب سيف الدولة وأراد قتله، ففداه أحد غلمانه بنفسه، فوقعت الضربة فيه فأثخنته، فنهبت البصرة، وغنم من معه من عرب البر، وغيرهم، ما فيها، ولم يسلم منهم إلا المحلة المجاورة لقبر طلحة والمربد، فإن العباسيين دخلوا المدرسة النظامية وامتنعوا بها، وحموا المربد، وعمت المصيبة لأهل البلد، سوى من ذكرنا، وامتنع إسماعيل بقلعته.
فاتفق أن المهذب بن أبي الجبر انحدر في سفن كثيرة، وأخذ القلعة التي لإسماعيل بمطارا، وقتل بها خلقاً من أصحاب إسماعيل، وحمل إلى صدقة كثيراً فأطلقهم.
فلما علم إسماعيل بذلك أرسل إلى صدقة يطلب الأمان على نفسه، وأهله، وأمواله، فأجابه إلى ذلك، وأجله سبعة أيام، فأخذ كل ما يمكنه حمله مما يعز عليه، وما لم يقدر على حمله أهلكه بالماء وغيره، ونزل إلى سيف الدولة، وأمن سيف الدولة أهل البصرة من كل أذى، ورتب عندهم شحنة، وعاد إلى الحلة ثالث جمادى الآخرة، وكان مقامه بالبصرة ستة عشر يوماً.
وأما إسماعيل فإنه لما سار صدقة إلى الحلة قصد هو الباسيان إلى أن وصله ماله في المراكب، وسار نحو فارس، وصار يتعنت أصحابه، وزوجته، وقبض على جماعة من خواصه وقال لهم: أنتم سقيتم ولدي أفراسياب السم حتى مات! وكان قد مات في صفر من هذه السنة، ففارقه كثير منهم، حتى زوجته فارقته وسارت إلى بغداد.
وأخذته الحمى، وقويت عليه، فلما بلغ رامهرمز انفرد في خيمته، ولم يظهر لأصحابه يوماً وليلة، فظهر لهم موته، فنهبوا ماله وتفرقوا، فأرسل الأمير برامهرمز فردهم وأخذ ما معهم من أمواله، ودفن بالقرب من إيذج، وكان عمره قد جاوز خمسين سنة، وكانت سيرته قد حسنت في أهل البصرة أخيراً.
ذكر حصر رضوان نصيبين وعوده عنها
في هذه السنة، في شهر رمضان، حصر الملك رضوان بن تتش نصيبين.
وسبب ذلك: أنه عزم على حرب الفرنج، واجتمع معه من الأمراء: إيلغازي بن أرتق، الذي كان شحنة بغداد، وأصبهبذ صباوة، وألبى أرسلان تاش، صاحب سنجار، وهو صهر جكرمش، صاحب الموصل، فقال إيلغازي: الرأي أننا نقصد بلاد جكرمش، وما والاها، فنملكها، ونتكثر بعسكرها والأموال. ووافقه ألبى، فسار إلى نصيبين في عشرة آلاف فارس، مستهل رمضان، وكان قد جعل فيها أميرين من أصحابه في عسكر، فتحصنوا بالبلد، وقاتلوا من وراء السور، فرمي ألي أرسلان بنشابة، فجرح جرحاً شديداً، فعاد إلى سنجار.
وأما جكرمش فإنه بلغه الخبر بنزولهم على نصيبين، وهو بالجامة، التي بالقرب من طنزة، يتداوى بمائها من مرضه، فرحل إلى الموصل، وقد أجفل إليها أهل السواد، فخيم على باب البلد، عازماً على حرب رضوان، واستعمل المخادعة، فكاتب أعيان عسكر رضوان، ورغبهم، حتى أفسد نياتهم، وتقدم إلى أصحابه بنصيبين بخدمة الملك رضوان، وبإخراج الإقامات إليه مع الاحتراز منه، وأرسل إلى رضوان يبذل له خدمته، والدخول في طاعته، ويقول له: إن السلطان محمداً قد حصرني، ولم يبلغ مني غرضاً، فترحل عن صلح، وإن قبضت على إيلغازي الذي قد عرفت أنت وغيرك فساده وشره فأنا معك، ومعينك بالرجال والأموال والسلاح.
فاتفق هذا، ورضوان قد تغيرت نيته مع إيلغازي، فازداد تغيراً، وعزم على قبضه، فاستدعاه يوماً، وقال له: هذه بلاد ممتنعة، وربما استولى الفرنج على حلب، والمصلحة مصالحة جكرمش، واستصحابه معنا، فإنه يسير بعساكر كثيرة ظاهرة التجمل، ونعود إلى قتال الفرنج، فإن ذلك مما يعود باجتماع شمل المسلمين. فقال له إيلغازي: إنك جئت بحكمك، وأنت الآن بحكمي لا أمكنك من المسير بدون أخذ هذه البلاد، فإن أقمت، وإلا بدأت بقتالك.
وكان إيلغازي قد قويت نفسه بكثرة من اجتمع عنده من التركمان، وكان الملك رضوان قد واعد قوماً من أصحابه ليقبضوا عليه، فلما جرى ما ذكرناه أمرهم رضوان فقبضوا عليه وقيدوه، فلما سمع التركمان الحال أظهروا الخلاف والامتعاض، ففارقوا رضوان والتجأوا إلى سور المدينة، وأصعد إيلغازي إلى قلعتها، وخرج من بنصيبين من العسكر فأعانوه، فلما رأى التركمان ذلك تفرقوا، ونهبوا ما قدروا عليه من المواشي وغيرها، ورحل رضوان من وقته وسار إلى حلب. (4/402)
وكان جكرمش قد رحل من الموصل قاصداً لحرب القوم، فلما بلغ تل يعفر أتاه المبشرون بانصراف رضوان على اختلاف وافتراق، فرحل عند ذلك إلى سنجار، ووصلت إليه رسل رضوان تستدعي منه النجدة، ويعتد عليه ما فعل بإيلغازي، فأجابه مغالطة، ولم يف له بما وعده، ونازل سنجار ليشفي غيظه من ظهره ألبي بن أرسلان تاش بما اعتمده من معاداته، ومظاهرة أعدائه، وكان ألبي على شدة من المرض بالسهم الذي أصابه على نصيبين، فلما نزل جكرمش عليها أمر ألبي أصحابه أن يحملوه إليه، فحملوه في محفة، فحضر عنده، وأخذ يعتذر مما كان منه، وقال: جئت مذنباً، فافعل بي ما تراه. فرق له وأعاده إلى بلده، فلما عاد قضى نحبه، فلما مات عصى على جكرمش من كان بسنجار، وتمسكوا بالبلد، فقاتلهم بقية رمضان، وشوالاً، ولم يظفر منهم بشيء، فجاء تميرك أخو أرسلان تاش، عم ألبي، فأصلح حاله مع جكرمش، وبذل له الخدمة، فعاد إلى الموصل.
ذكر ملك طغتكين بصرى
قد ذكرنا سنة سبع وتسعين حال بكتاش بن تتش، وخروجه من دمشق، واتصاله بالفرنج، ومعه أيتكين الحلبي، صاحب بصرى، وسيرهما إلى الرحبة، وعودهما عنها، فلما ضعفت أحوالهم سار طغتكين إلى بصرى فحصرها، وبها أصحاب أيتكين، فراسلوا طغتكين، وبذلوا له التسليم إليه، بعد أجل قرروه بينهم، فأجابهم إلى ذلك، فرحل عنهم إلى دمشق، فلما انقضى الأجل، هذه السنة، تسلمها، وأحسن إلى من بها، ووفى لهم بما وعدهم، وبالغ في إكرامهم، وكثر الثناء عليه، والدعاء له، ومالت النفوس إليه، وأحبوه.
ذكر ملك الفرنج حصن أفامية
في هذه السنة ملك الفرنج حصن أفامية من بلد الشام.
وسبب ذلك: أن خلف بن ملاعب الكلابي كان متغلباً على حمص، وكان الضرر به عظيماً، ورجاله يقطعون الطريق، فكثر الحرامية عنده، فأخذها منه تتش بن ألب أرسلان وأبعده عنها، فتقلبت به الأحوال إلى أن دخل إلى مصر، فلم يلتفت إليه من بها، فأقام بها.
واتفق أن المتولي لأفامية من جهة الملك رضوان أرسل إلى صاحب مصر، وكان يميل إلى مذهبهم، يستدعي منهم من يسلم إليه الحصن، وهو من أمنع الحصون، وطلب ابن ملاعب منهم أن يكون هو المقيم به، وقال: إنني أرغب في قتال الفرنج، وأوثر الجهاد. فسلموه إليه، وأخذوا رهائنه، فلما ملكه خلع طاعتهم ولم يرع حقهم، فأرسلوا إليه يتهددونه بما يفعلونه بولده الذي عندهم. فأعاد الجواب: إنني لا أنزل من مكاني، وابعثوا إلي ببعض أعضاء ولدي حتى آكله، فأيسوا من رجوعه إلى الطاعة، وأقام بأفامية يخيف السبيل، ويقطع الطريق، واجتمع عنده كثير من المفسدين، فكثرت أمواله.
ثم إن الفرنج ملكوا سرمين، وهي من أعمال حلب، وأهلها غلاة في التشيع، فلما ملكها الفرنج تفرق أهلها، فتوجه القاضي الذي بها إلى ابن ملاعب وأقام عنده، فأكرمه، وأحبه، ووثق به، فأعمل القاضي الحيلة عليه، وكتب إلى أبي طاهر، المعروف بالصائغ، وهو من أعيان أصحاب الملك رضوان، ووجوه الباطنية ودعاتهم، ووافقهم على الفتك بابن ملاعب، وأن يسلم أفامية إلى الملك رضوان، فظهر شيء من هذا، فأتى إلى ابن ملاعب أولاده، وكانوا قد تسللوا إليه من مصر، وقالوا له: قد بلغنا عن هذا القاضي كذا وكذا، والرأي أن تعاجله، وتحتاط لنفسك، فإن الأمر قد اشتهر وظهر. فأحضره ابن ملاعب، فأتاه في كمه مصحف، لأنه رأى أمارات الشر، فقال له ابن ملاعب ما بلغه عنه، فقال له: أيها الأمير، قد علم كل أحد أني أتيتك خائفاً جائعاً، فأمنتني، وأغنيتني، وعززتني، فصرت ذات مال وجاه، فإن كان بعض من حسدني على منزلتي منك، وما غمرني من نعمتك سعى بي إليك، فأسألك أن تأخذ جميع ما معي، وأخرج كما جئت. وحلف له على الوفاء والنصح، فقبل عذره وأمنه.(4/403)
وعاود القاضي مكاتبة أبي طاهر بن الصائغ، وأشار عليه أن يوافق رضوان على إنفاذ ثلاثمائة رجل من أهل سرمين، وينفذ معهم خيلاً من خيول الفرنج، وسلاحاً من أسلحتهم، ورؤوساً من رؤوس الفرنج، ويأتوا إلى ابن ملاعب ويظهروا أنهم غزاة ويشكوا من سوء معاملة الملك رضوان وأصحابه لهم، وأنهم فارقوه، فلقيهم طائفة من الفرنج، فظفروا بهم، ويحملوا جميع ما معهم إليه، فإذا أذن لهم في المقام اتفقت آراؤهم على إعمال الحيلة عليه، ففعل ابن الصائغ ذلك، ووصل القوم إلى أفامية، وقدموا إلى ابن ملاعب بما معهم من الخيل وغيرها، فقبل ذلك منهم، وأمرهم بالمقام عنده، وأنزلهم في ربض أفامية.
فلما كان في بعض الليالي نام الحراس بالقلعة، فقام القاضي ومن بالحصن من أهل سرمين، ودلوا الحبال وأصعدوا أولئك القادمين جميعهم، وقصدوا أولاد ابن ملاعب، وبني عمه، وأصحابه، فقتلوهم، وأتى القاضي وجماعة معه إلى ابن ملاعب، وهو مع امرأته، فأحس بهم، فقال: من أنت؟ فقال: ملك الموت جئت لقبض روحك! فناشده الله، فلم يرجع عنه، وجرحه، وقتله، وقتل أصحابه، وهرب ابناه، فقتل أحدهما، والتحق الآخر بأبي الحسن بن منقذ، صاحب شيزر، فحفظه لعهد كان بينهما.
ولما سمع ابن الصائغ خبر أفامية سار إليها، وهو لا يشك أنها له، فقال له القاضي: إن وافقتني، وأقمت معي، فبالرحب والسعة، ونحن بحكمك، وإلا فارجع من حيث جئت. فأيس ابن الصائغ منه، وكان أحد أولاد ابن ملاعب بدمشق عند طغتكين، غضبان على أبيه، فولاه طغتكين حصناً، وضمن على نفسه حفظ الطريق، وأخذ القوافل، فاستغاثوا إلى طغتكين منه، فأرسل إليه من طلبه، فهرب إلى الفرنج، واستدعاهم إلى حصن أفامية، وقال: ليس فيه غير قوت شهر، فأقاموا عليه يحاصرونه، فجاع أهله، وملكه الفرنج، وقتلوا القاضي المتغلب عليه، وأخذوا الصائغ فقتلوه، وكان هو الذي أظهر مذهب الباطنية بالشام.
هكذا ذكر بعضهم أن أبا طاهر الصائغ قتله الفرنج بأفامية، وقد قيل إن ابن بديع، رئيس حلب، قتله سنة سبع وخمسمائة، بعد وفاة رضوان، وقد ذكرناه هناك، والله أعلم.
ذكر نهب العرب البصرة
قد ذكرنا استيلاء الأمير صدقة على البصرة، وأنه استناب بها مملوكاً كان لجده دبيس بن مزيد، اسمه التونتاش، وجعل معه مائة وعشرين فارساً. فاجتمعت ربيعة والمنتفق ومن انضم إليها من العرب، وقصدوا البصرة في جمع كثير، فقاتلهم التونتاش، فأسروه، وانهزم أصحابه، ولم يقدر من بها على حفظها، فدخلوها بالسيف أواخر ذي القعدة، وأحرقوا الأسواق، والدور الحسان، ونهبوا ما قدروا عليه، وأقاموا ينهبون ويحرقون اثنين وثلاثين يوماً، وتشرد أهلها في السواد، ونهبت خزانة كتب كانت موقوفة، وقفها القاضي أبو الفرج بن أبي البقاء.
وبلغ الخبر صدقة، فأرسل عسكراً، فوصلوا وقد فارقها العرب. ثم إن السلطان محمداً أرسل شحنة وعميداً إلى البصرة، وأخذها من صدقة، وعاد أهلها إليها وشرعوا في عمارتها.
ذكر حال طرابلس الشام مع الفرنج
كان صنجيل الفرنجي، لعنه الله، قد ملك مدينة جبلة، وأقام على طرابلس يحصرها، فحيث لم يقدر أن يملكها، بنى بالقرب منها حصناً، وبنى تحته ربضاً، وأقام مراصداً لها، ومنتظراً وجود فرصة فيها، فخرج فخر الملك أبو علي بن عمار، صاحب طرابلس، فأحرق ربضه، ووقف صنجيل على بعض سقوفه المتحرقة، ومعه جماعة من القمامصة والفرسان، فانخسف بهم، فمرض صنجيل من ذلك عشرة أيام ومات، وحمل إلى القدس فدفن فيه.
ثم إن ملك الروم أمر أصحابه باللاذقية ليحملوا الميرة إلى هؤلاء الفرنج الذين على طرابلس، فحملوها في البحر، فأخرج إليها فخر الملك بن عمار أسطولاً، فجرى بينهم وبين الروم قتال شديد، فظفر المسلمون بقطعة من الروم، فأخذوها، وأسروا من كان بها وعادوا.
ولم تزل الحرب بين أهل طرابلس والفرنج خمس سنين إلى هذا الوقت، فعدمت الأقوات به، وخاف أهله على نفوسهم وأولادهم وحرمهم، فجلا الفقراء، وافتقر الأغنياء، وظهر من ابن عمار صبر عظيم، وشجاعة، ورأي سديد.
ومما أضر بالمسلمين فيها أن صاحبها استنجد سقمان بن أرتق، فجمع العساكر وسار إليه، فمات في الطريق، على ما ذكرناه، وإذا أراد الله أمراً هيأ أسبابه.(4/404)
وأجرى ابن عمار الجرايات على الجند والضعفى، فلما قلت الأموال عنده شرع يقسط على الناس ما يخرجه في باب الجهاد، فأخذ من رجلين من الأغنياء مالاً مع غيرهما، فخرج الرجلان إلى الفرنج وقالا: إن صاحبنا صادرنا، فخرجنا إليكم لنكون معكم، وذكرا لهم أنه تأتيه الميرة من عرقة والجبل، فجعل الفرنج جميعاً على ذلك الجانب يحفظه من دخول شيء إلى البلد، فأرسل ابن عمار وبذل للفرنج مالاً كثيراً ليسلموا الرجلين إليه، فلم يفعلوا، فوضع عليهما من قتلهما غيلة.
وكانت طرابلس من أعظم بلاد الإسلام وأكثرها تجملاً وثروة، فباع أهلها من الحلى، والأواني الغريبة، ما لا حد عليه، حتى بيع كل مائة درهم نقرة بدينار. وشتان بين هذه الحالة وبين حال الروم أيام السلطان ألب أرسلان، وقد ذكرت ظفره بهم سنة ثلاث وستين وأربعمائة، وقد كان بعض أصحابه، وهو كمشتكين دواتي، عميد الملك، هرب منه خوفاً لما قبض على صاحبه عميد الملك، وسار إلى الرقة فملكها، وصار مع كثير من التركمان، فيهم: الأفشين وأحمد شاه، فقتلاه، وأرسلا أمواله إلى ألب أرسلان، ودخل الأفشين بلاد الروم، وقاتل الفردوس، صاحب أنطاكية، فهزمه، وقتل من الروم خلقاً كثيراً.
وسار ملك الروم من القسطنطينية إلى ملطية، فدخل الأفشين بلاده، ووصل إلى عمورية، وقتل في غزاته مائة ألف آدمي، ولما عاد إلى بلاد الإسلام وتفرق من معه خرج عليه عسكر الرها، وهي حينئذ للروم، ومعهم بنو نمير من العرب، فقاتلهم، ومعه مائتا فارس، فهزمهم ونهبهم، ونهب بلاد الروم، فأرسل ملك الروم رسولاً إلى القائم بأمر الله يسأله الصلح، فأرسل إلى ألب أرسلان في ذلك، فصالح الروم على مائة ألف دينار، وأربعة آلاف ثوب أصنافاً، وثلاثمائة رأس بغالاً. فشتان بين الحالتين.
وأقول شتان بين حال أولئك المرذولين الذين استعجزهم، وبين حال الناس في زماننا هذا، وهو سنة ست عشرة وستمائة مع الفرنج أيضاً والتتر، وسترى ذلك مشروحاً، إن شاء الله تعالى، لتعلم الفرق، نسأل الله تعالى أن ييسر للإسلام وأهله قائماً يقوم بنصرهم، وأن يدفع عنهم بمن أحب من خلقه، وما ذلك على الله بعزيز.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة ورد إلى بغداد إنسان من الملثمين، ملوك الغرب، قاصداً إلى دار الخلافة، فأكرم، وكان معه إنسان يقال له الفقيه، من الملثمين أيضاً، فوعظ الفقيه في جامع القصر، واجتمع له العالم العظيم، وكان يعظ وهو متلثم لا يظهر منه غير عينيه، وكان هذا الملثم قد حضر ابن الأفضل، أمير الجيوش بمصر، وقعته مع الفرنج، وأبلى بلاءً حسناً.
وكان سبب مجيئه إلى بغداد: أن المغاربة كانوا يعتقدون في العلويين، أصحاب مصر، الاعتقاد القبيح، فكانوا، إذا أرادوا الحج، يعدلون عن مصر، وكان أمير الجيوش بدر والد الأفضل أراد إصلاحهم، فلم يميلوا إليه، ولا قاربوه، فأمر بقتل من ظفر به منهم، فلما ولي ابنه الأفضل أحسن إليهم، واستعان بمن قاربه منهم على حرب الفرنج، وكان هذا من جملة من قاتل معه، فلما خالط المصريين خاف العود إلى بلاده، فقدم بغداد، ثم عاد إلى دمشق، ولم يكن للمصريين حرب مع الفرنج إلا وشهدها، فقتل في بعضها شهيداً، وكان شجاعاً فتاكاً مقداماً.
وفيها، في ربيع الآخر، ظهر كوكب في السماء له ذؤابة، كقوس قزح، آخذة من المغرب إلى وسط السماء، وكان يرى قريباً من الشمس قبل ظهوره ليلاً، وبقي يظهر عدة ليال، ثم غاب.
وفيها وصل الملك قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش، صاحب بلاد الروم، إلى الرها ليحصرها، وبها الفرنج، فراسله أصحاب جكرمش المقيمون بحران ليسلموها إليه، فسار إليهم وتسلم البلد، وفرح به الناس لأجل جهاد الفرنج، فأقام بحران أياماً، ومرض مرضاً شديداً، أوجب عوده إلى ملطية، فعاد مريضاً، وبقي أصحابه بحران.
وفي هذه السنة توفي الشيخ أبو منصور الخياط المقري، إمام مسجد ابن جردة، وكان خيراً صالحاً.
وفيها قتل القاضي أبو العلاء صاعد بن أبي محمد النيسابوري الحنفي بجامع أصبهان، قتله باطني.
وفيها توفي أبو الفوارس الحسين بن علي بن الحسين بن الخازن، صاحب الخط الجيد، وعمره سبعون سنة، قيل إنه كتب خمسمائة ختمة.(4/405)
وفيها، في المحرم، توفي القاضي أبو الفرج محمد بن عبيد الله بن الحسن، قاضي البصرة، وله ثلاث وثمانون سنة، وكان من الفقهاء الشافعية المشهورين، تفقه على الماوردي، وأبي إسحاق، وأخذ النحو عن الرقي، والدهان، وابن برهان، وكان عفيفاً، مقدماً عند الخلفاء والسلاطين.
وفيها، في المحرم، توفي سهل بن أحمد بن علي الأرغياني، أبو الفتح الحاكم، تفقه على الجويني، وبرز، ثم ترك المناظرة، وبنى رباطاً، واشتغل بالعبادة وقراءة القرآن.
وفيها، في صفر، توفي الأمير مهارش بن مجلي وله نحو ثمانين سنة، وهو الذي كان الخليفة القائم عنده بالحديثة، وكان كثير الصلاة والصوم، يحب الخير وأهله، ولما توفي ملك الحديثة بعده ابنه سليمان.

This site was last updated 07/27/11