Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم عزت اندراوس

سنة سبع وأربعمائة

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
سنة381
سنة382 وسنة383
سنة384 وسنة385
سنة486
سنة387 وسنة388
سنة389
سنة390 وسنة391
سنة392 وسنة393 وسنة394
سنة395 وسنة397 وسنة398
سنة 398 وسنة399 وسنة400
سنة401 وسنة402
سنة403 سنة404 وسنة405
سنة406
سنة407
سنة408 وسنة409
سنة410 وسنة411
سنة412 وسنة413 وسنة414
سنة415 وسنة416
سنة417 وسنة418
سنة419 وسنة420
سنة421 وسنة422

 

الجزء التالى من كتاب: الكامل في التاريخ المؤلف: أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير (المتوفى: 630هـ) تحقيق: عمر عبد السلام تدمري الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1417هـ / 1997م عدد الأجزاء:  10

**************************************************************************************************************************

ثم دخلت سنة سبع وأربعمائة
ذكر قتل خوارزمشاه وملك يمين الدولة خوارزم وتسليمها إلى التونتاش
(4/160)
في هذه السنة قتل خوارزمشاه أبو العباس مأمون بن مأمون وملك يمين الدولة خوارزم.
وسبب ذلك أن أبا العباس كان قد ملك خوارزم والجرجانية، كما ذكرناه، وخطب إلى يمين الدولة، فزوجه أخته. ثم إن يمين الدولة أرسل إليه يطلب أن يخطب له على منابر بلاده، فأجابه إلى ذلك، وأحضر أمراء دولته واستشارهم في ذلك، فأظهروا الامتناع، ونهوه عنه، وتهددوه بالقتل إن فعله فعاد الرسول وحكى ليمين الدولة ما شاهده.
ثم إن الأمراء خافوه حيث ردوا أمره، فقتلوه غيلة، ولم يعلم قاتله، وأجلسوا مكانه أحد أولاده، وعملوا أن يمين الدولة يسوءه ذلك، وربما طالبهم بثأره، فتعاهدوا على مقاتلته ومقارعته.
واتصل الخبر بيمين الدولة، فجمع العساكر وسار نحوهم، فلما قاربهم جمعهم صاحب جيشهم، ويعرف بالبتكين البخاري وأمرهم بالخروج إلى لقاء مقدمة يمين الدولة والإيقاع بمن فيها من الأجناد، فساروا معه وقاتلوا مقدمة يمين الدولة، واشتد القتال بينهم.
واتصل الخبر بيمين الدولة، فتقدم نحوهم في سائر جيوشه. فلحقهم وهم في الحرب، فثبت الخوارزمية إلى أن انتصف النهار، وأحسنوا القتال، ثم إنهم انهزموا، وركبهم أصحاب يمين الدولة يقتلون ويأسرون، ولم يسلم إلا القليل.
ثم إن البتكين ركب سفينة لينجو فيها، فجرى بينه وبين من معه منافرة، فقاموا عليه وأوثقوه، وردوا السفينة إلى ناحية يمين الدولة، وسلموه إليه، فأخذه وسائر القواد المأسورين معه، وصلبهم عند قبر أبي العباس خوارزمشاه، وأخذ الباقين من الأسرى فسيرهم إلى غزنة فوجاً بعد فوج، فلما اجتمعوا بها أفرج عنهم، وأجرى لهم الأرزاق، وسيرهم إلى أطراف بلاده من أرض الهند يحمونها من الأعداء، ويحفظونها من أهل الفساد، وأخذ خوارزم واستناب بها حاجبه التونتاش.
ذكر غزوة قشمير وقنوج وغيرهما
في هذه السنة غزا يمين الدولة بلاد الهند، بعد فراغه من خوارزم، فسار منها إلى غزنة ومنها إلى الهند عازماً على غزو قشمير، إذ كان قد استولى على بلاد الهند ما بينه وبين قشمير؛ وأتاه من المتطوعة نحو عشرين ألف مقاتل من ما وراء النهر، وغيره من البلاد، وسار إليها من غزنة ثلاثة أشهر سيراً دائماً، وعبر نهر سيحون، وجيلوم، وهما نهران عميقان شديدا الجرية، فوطئ أرض الهند، وأتاه رسل ملوكها بالطاعة وبذل الإتاوة.
فلما بلغ درب قشمير أتاه صاحبها وأسلم على يده، وسار بين يديه إلى مقصده، فبلغ ماء جون في العشرين من رجب، وفتح ما حولها من الولايات الفسيحة والحصون المنيعة، حتى بلغ حصن هودت، وهو آخر ملوك الهند، فنظر هودب من أعلى حصنه، فرأى من العساكر ما هاله ورعبه، وعلم أنه لا ينجيه إلا الإسلام، فخرج في نحو عشرة آلاف ينادون بكلمة الإخلاص، طلباً للخلاص، فقبله يمين الدولة، وسار عنه إلى قلعة كلجند، وهو من أعيان الهند وشياطينهم، وكان على طريقه غياض ملتفة لا يقدر السالك على قطعها إلا بمشقة، فسير كلجند عساكره وفيوله إلى أطراف تلك الغياض يمنعون من سلوكها، فترك يمين الدولة عليهم من يقاتلهم، وسلك طريقاً مختصرةً إلى الحصن، فلم يشعروا به إلا وهو معهم، فقاتلهم قتالاً شديداً، فلم يطيقوا الصبر على حد السيوف، فانهزموا، وأخذهم السيف من خلفهم، ولقوا نهراً عميقاً بين أيديهم، فاقتحموه، فغرق أكثرهم وكان القتلى والغرقى قريباً من خمسين ألفاً، وعمد كلجند إلى زوجته فقتلها ثم قتل نفسه بعدها، وغنم المسلمون أمواله وملكوا حصونه.
ثم سار نحو بيت متعبد لهم، وهو مهرة الهند، وهو من أحصن الأبنية على نهر، ولهم به من الأصنام كثير، منها خمسة أصنام من الذهب الأحمر المرصع بالجواهر، وكان فيها من الذهب ستمائة ألف وتسعون ألفاً وثلاثمائة مثقال، وكان بها من الأصنام المصوغة من النقرة نحو مائتي صنم، فأخذ يمين الدولة ذلك جميعه، وأحرق الباقي، وسار نحو قنوج، وصاحبها راجيال، فوصل إليها في شعبان، فرأى صاحبها قد فارقها، وعبر الماء المسمى كنك، وهو ماء شريف عندهم يرون أنه من الجنة، وأن من غرق نفسه فيه طهر من الآثام، فأخذها يمين الدولة، وأخذ قلاعها وأعمالها، وهي سبع على الماء المذكور، وفيها قريب من عشرة آلاف بيت صنم، يذكرون أنها عملت من مائتي ألف سنة إلى ثلاثمائة ألف كذباً منهم وزوراً، ولما فتحها أباحها عسكره. (4/161)
ثم سار إلى قلعة البراهمة، فقاتلوه وثبتوا، فلما عضهم السلاح علموا أنهم لا طاقة لهم، فاستسلموا للسيف فقتلوا، ولم ينج منهم إلا الشريد.
ثم سار نحو قلعة آسي، وصاحبها جند بال، فلما قاربها هرب جند بال، وأخذ يمين الدولة حصنه وما فيه، ثم سار إلى قلعة شروة، وصاحبها جندرآي، فلما قاربه نقل ماله وفيوله نحو جبال هناك منيعة يحتمي بها، وعمي خبره فلم يدر أين هو، فنازل يمين الدولة حصنه فافتتحه وغنم ما فيه، وسار في طلب جندرآي جريدة، وقد بلغه خبره، فلحق به في آخر شعبان، فقاتله، فقتل أكثر جند جندرآي، وأسر كثيراً منهم، وغنم ما معه من مالٍ وفيل، وهرب جندرآي في نفر من أصحابه فنجا.
وكان السبي في هذه الغزوة كثيراً حتى إن أحدهم كان يباع بأقل من عشرة دراهم، ثم عاد إلى غزنة ظافراً؛ ولما عاد من هذه الغزوة أمر ببناء جامع غزنة، فبني بناء لم يسمع بمثله، ووسع فيه، وكان جامعها القديم صغيراً، وأنفق ما غنمه في هذه الغزاة في بنائه.
ذكر حال ابن فولاذ
في هذه السنة عظمت شوكة ابن فولاذ وكبر شأنه.
وكان ابتداء أمره أنه كان وضيعاً، فنجم في دولة بني بويه، وعلا صيته، وارتفع قدره، واجتمع إليه الرجال، فلما كانالآن طلب من مجد الدولة ووالدته أن يقطعاه قزوين لتكون له ولمن معه من الرجال، فلم يفعلا، واعتذرا إليه، فقصد أطراف ولاية الري، وأظهر العصيان، وجعل يفسد ويغير، ويقطع السبيل، وملك ما يليه من القرى، فعجزا عنه، فاستعانا بأصبهبذ المقيم بفريم، فأتاهما في رجال الجيل، وجرى بينهم وبين ابن فولاذ عدة حروب، وجرح ابن فولاذ، وولى منهزماً حتى بلغ الدامغان، فأقام حتى عاد أصحابه إليه ورجع أصبهبذ إلى بلاده.
وكتب ابن فولاذ إلى منوجهر بن قابوس يطلب أن ينفذ له عسكراً ليملك البلاد، ويقيم له الخطبة فيها، ويحمل إليه المال، فأنفذ له ألفي رجل، فسار بهم حتى نزل بظاهر الري، وأعاد الإغارة، ومنع الميرة عنها، فضاقت الأقوات بها، فاضطر مجد الدولة ووالدته إلى مداراته، وإعطائه ما يلتمسه، فاستقر بينهم أن يسلما إليه مدينة أصبهان، فسار إليها وأعاد عسكر منوجهر إليه، وزال الفساد، وعاد إلى طاعة مجد الدولة.
ذكر ابتداء الدولة العلوية بالأندلس وقتل سليمان
وفي هذه السنة ولي الأندلس علي بن حمود بن أبى العيش بن ميمون بن أحمد بن عي بن عبدالله بن عمر بن إدريس بن إدريس بن عبدالله بن الحسن ابن الحسن بن علي بن أبي طالب، عليه السلام، وقيل في نسبه غير ذلك مع اتفاق على صحة نسبه إلى أمير المؤمنين علي، عيه السلام.
وكان سبب ذلك أن الفتى خيران العامري لم يكن راضياً بولاية سليمان بن الحاكم الأموي لأنه كان من أصحاب المؤيد على ما ذكرناه قبل، فلما ملك سليمان قرطبة انهزم خيران في جماعة كثيرة من الفتيان العامريين، فتبعهم البربر وواقعهم، فاشتد القتال بينهم، وجرح خيران عدة جراحات، وترك على أنه ميت، فلما فارقوه قام يمشي، فأخذه رجل من البربر إلى داره بقرطبة وعالجه فبرأ، وأعطاه مالاً، وخرج منها سراً إلى شرق الأندلس، فكثر جمعه، وقويت نفسه، وقاتل من هناك من البربر، وملك المرية، واجتمع إليه الأجناد، وأزال البربر عن البلاد المجاورة له، فغلظ أمره وعظم شأنه.
وكان علي بن حمود بمدينة سبتة، بينه وبين الأندلس عدوة المجاز مالكاً لها، وكان أخوه القاسم بن حمود بالجزيرة الخضراء مستولياً عليها، وبينهما المجاز، وسبب ملكهما أنهما كانا من جملة أصحاب سليمان بن الحاكم، فقودهما على المغاربة، ثم ولاهما هذه البلاد، وكان خيران يميل إلى دولة المؤيد، ويرغب فيها، ويخطب له على منابر بلاده التي استولى عليها لأنه كان يظن حياته حيث فقد من القصر، فحدث لعلي بن حمود طمع في ملك الأندلس لما رأى من الاختلاف، فكتب إلى خيران يذكر له أن المؤيد كان كتب له بولاية العهد والأخذ بثأره إن هو قتل، فدعا لعلي بن حمود بولاية العهد. (4/162)
وكان خيران يكاتب الناس، ويأمرهم بالخروج على سليمان. فوافقه جماعة منهم عامر بن فتوح وزير المؤيد، وهو بمالقة، وكاتبوا علي بن حمود، وهو بسبتة، ليعبر إليهم ليقوموا معه ويسيروا إلى قرطبة، فعبر إلى مالقة في سنة خمس وأربعمائة، فخرج عنها عامر بن فتوح، وسلمها إليه، ودعا له بولاية العهد وسار خيران ومن أجابه إليه، فاجتمعوا بالمنكب، وهي ما بين المرية ومالقة، سنة ست وأربعمائة، وقرروا ما يفعلونه، وعادوا يتجهزون لقصد قرطبة، فتجهزوا وجمعوا من وافقهم، وساروا إلى قرطبة وبايعوا علياً على طاعة المؤيد الأموي.
فلما بلغوا غرناطة وافقهم أميرها، وسار معهم إلى قرطبة، فخرج سليمان والبربر إليهم، فالتقوا واقتتلوا على عشرة فراسخ من قرطبة، ونشب القتال بينهم، فانهزم سليمان والبربر، وقتل منهم خلق كثير، وأخذ سليمان أسيراً، فحمل إلى علي بن حمد ومعه أخوه وأبوه الحاكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر، ودخل علي بن حمود قرطبة في المحرم سنة سبع ودخل خيران وغيره إلى القصر طمعاً في أن يجدوا المؤيد حياً، فلم يجدوه، ورأوا شخصاً مدفوناً فنبشوه، وجمعوا له الناس، وأحضروا بعض فتيانه الذين رباهم وعرضوه عليه، ففتشه، وفتش أسنانه لأنه كان له سن سوداء كان يعرفها ذلك الفتى، فأجمع هو وغيره على أنه المؤيد خوفاً على أنفسهم من علي، فأخبروا خيران أنه المؤيد، وكان ذلك الفتى يعلم أن المؤيد حي، فأخذ علي بن حمود سليمان وقتله سابع المحرم سنة سبع، وقتل أباه وأخاه.
ولما حضر أبوه بين يدي علي بن حمود قال له: يا شيخ قتلتم المؤيد؛ فقال: والله ما قتلناه، وإنه لحي؛ فحينئذ أسرع في قتله، وكان شيخاً صالحاً منقبضاً لم يتدنس بشيء من أحوال ابنه. واستولى علي بن حمود على قرطبة، ودعا الناس إلى بيعته، فبويع، واجتمع له الملك، ولقب المتوكل على الله.
ثم إن خيران أظهر الخلاف عليه لأشياء منها أنه كان طامعاً أن يجد المؤيد فلم يجده، ومنها أنه نقل إليه أن علياً يريد قتله فخرج عن قرطبة وأظهر الخلاف عليه.
ذكر ظهور عبد الرحمن الأموي
لما خالف خيران علياً أرسل يسأل عن بني أمية، فدل على عبد الرحمن ابن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر الأموي، وكان قد خرج من قرطبة مستخفياً، ونزل بجيان، وكان أصلح من بقي من بني أمية، فبايعه خيران وغيره، ولقبوه المرتضى، وراسل خيران منذر بن يحيى التجيبي أمير سرقسطة والثغر الأعلى، وراسل أهل شاطبة، وبلنسية، وطرطوشة، والبنت، فأجابوا كلهم إلى بيعته، والخلاف على علي بن حمود، فاتفق عليه أكثر الأندلس، واجتمعوا بموضع يعرف بالرياحين في الأضحى سنة ثمان وأربعمائة، ومعهم الفقهاء والشيوخ، وجعلوا الخلافة شورى، وأصفقوا على بيعته، وساروا معه إلى صنهاجة والنزول على غرناطة.
وأقبل المرتضى على أهل بلنسية، وشاطبة، وأظهر الجفاء لمنذر بن يحيى التجيبي، ولخيران، ولم يقبل عليهما، فندما على ما كان منهما، وسار حتى وصل إلى غرناطة، فوصل إليها، ونزل عليها، وقاتلوها أياماً قتالاً شديداً، فغلبهم أهل غرناطة، وأميرهم زاوي بن زيري الصنهاجي، وانهزم المرتضى وعسكره، واتبعتهم صنهاجة يقتلون ويأسرون، وقتل المرتضى في هذه الهزيمة وعمره أربعون سنة، وهو أصغر من أخيه هشام، وسار أخوه هشام إلى البنت، وأقام بها إلى أن خوطب بالخلافة، ولم يزل علي بن حمود بعد هذه الهزيمة يقصد بلاد خيران والعامريين مرة بعد أخرى.
ذكر قتل علي بن حمود العلوي
فلما كان في ذي القعدة سنة ثمان وأربعمائة تجهز علي بن حمود للمسير إلى جيان لقتال من بها من عسكر خيران، فلما كان الثامن والعشرون منه برزت العساكر إلى ظاهر قرطبة بالبنود والطبول ووقفوا ينتظرون خروجه، فدخل الحمام ومعه غلمانه، فقتلوه، فلما طال على الناس انتظاره بحثوا عن أمره، فدخلوا عليه، فرأوه مقتولاً، فعاد العسكر إلى البلد.
وكان لقبه المتوكل على الله، وقيل الناس لدين الله، وكان أسمر، أعين أكحل، خفيف الجسم، طويل القامة، حازماً، عازماً، عادلاً، حسن السيرة، وكان قد عزم على أن يعيد إلى أهل قرطبة أموالهم التي أخذها البربر، فلم تطل أيامه، وكان يحب المدح، ويجزر العطاء عليه. (4/163)
ثم ولي بعده أخوه القاسم، وهو أكبر من علي بعدة أعوام، وكان عمر علي ثمانياً وأربعين سنة؛ بنوه يحيى، وإدريس، وأمه قرشية، وكنيته أبو الحسن، وكانت ولايته سنة وتسعة أشهر.
ذكر ولاية القاسم بن حمود العلوي بقرطبة
قد ذكرنا قتل أخيه علي بن حمود سنة سبع وأربعمائة، فلما قتل بايع الناس أخاه القاسم، ولقب المأمون، فلما ولي، واستقر ملكه، كاتب العامريين واستمالهم، وأقطع زهيراً جيان، وقلعة رباح، وبياسة، وكاتب خيران واستعطفه، فلجأ إليه واجتمع به، ثم عاد عنه إلى المرية. وبقي القاسم مالكاً لقرطبة وغيرها إلى سنة اثنتي عشرة وأربعمائة.
وكان وادعاً، ليناً، يحب العافية، فأمن الناس معه، وكان يتشيع إلا أنه لم يظهر شيئاً من ذلك، فسار عن قرطبة إلى إشبيلية، فخالفه يحيى ابن أخيه فيها
ذكر دولة يحيى بن علي بن حمود وما كان منه ومن عمه
لما سار القاسم بن حمود عن قرطبة إلى إشبيلية سار ابن أخيه يحيى بن علي من مالقة إلى قرطبة، فدخلها بغير مانع، فلما تكن بقرطبة دعا الناس إلى بيعته، فأجابوه، فكانت البيعة مستهل جمادى الأولى من سنة اثنتي عشرة وأربعمائة، ولقب بالمعتلي، وبقي بقرطبة يدعى له بالخلافة، وعمه القاسم بإشبيلية يدعى له بالخلافة إلى ذي القعدة سنة ثلاث عشرة وأربعمائة. فسار يحيى عن قرطبة إلى مالقة.
ووصل الخبر إلى عمه، فركب وجد في السير ليلاً ونهاراً إلى أن وصل إلى قرطبة فدخلها ثامن عشر ذي القعدة سنة ثلاثة عشرة، وكان، مدة مقامه بإشبيلية، قد استمال العساكر من البربر وقوي بهم، وبقي القاسم بقرطبة شهوراً، ثم اضطرب أمره بها، وسار ابن أخيه يحيى بن علي إلى الجزيرة الخضراء، وغلب عليها، وبها أهل عمه وماله، وغلب أخوه إدريس بن علي، صاحب سبتة، على طنجة، وهي كانت عدة القاسم التي يلجأ إليها إن رأى ما يخاف بالأندلس، فلما ملك ابنا أخيه بلاده طمع فيه الناس، وتسلط البربر على قرطبة فأخذوا أموالهم، فاجتمع أهلها وبرزوا إلى قتاله عاشر جمادى الأولى سنة أربع عشرة، فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم سكنت الحرب، وأمن بعضهم بعضاً إلى منتصف جمادى الأولى من السنة، والقاسم بالقصر يظهر التودد لأهل قرطبة، وأنه معهم، وباطنه مع البربر.
فلما كان يوم الجمعة منتصف جمادى الآخرة صلى الناس الجمعة، فلما فرغوا تنادوا: السلاح! السلاح! فاجتمعوا ولبسوا السلاح، وحفظوا البلدا ودخلوا قصر الإمارة، فخرج عنها القاسم، واجتمع معه البربر، وقاتلوا أهل البلد وضيقوا عليهم، وكانوا أكثر من أهله، فبقوا كذلك نيفاً وخمسين يوماً والقتال متصل، فخاف أهل قرطبة، وسألوا البربر في أن يفتحوا لهم الطريق ويؤمنوهم على أنفسهم وأهليهم، فأبوا إلا أن يقتلوهم، فصبروا حينئذ على القتال، وخرجوا من البلد ثاني عشر شعبان، وقاتلوهم قتال مستقتل، فنصرهم الله على البربر، (وَمَنْ بُغِيَ عَلَيْه لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ)، وانهزم البربر هزيمة عظيمة، ولحق كل طائفة منهم ببلد فاستولوا عليه.
وأما القاسم بن حمود فإنه سار إلى إشبيلية، وكتب إلى أهلها في إخلاء ألف دار ليسكنها البربر، فعظم ذلك عليهم، وكان بها ابنا محمد والحسن، فثار بهما أهلها، فأخرجوهما عنهم ومن معهما، وضبطوا البلد، وقدموا على أنفسهم ثلاثة من شيوخهم وكبرائهم وهم: القاضي أبو القاسم محمد بن إسماعيل ابن عباد اللخمي، ومحمد بن يريم الالهاني، ومحمد بن محمد بن الحسن الزبيدي، وكانوا يدبرون أمر البلد والناس.
ثم اجتمع ابن يريم والزبيدي، وسألوا ابن عباد أن ينفرد بتدبير أمورهم، فامتنع وألحوا عليه، فلما خاف على البلد بامتناعه أجابهم إلى ذلك، وانفرد بالتدبير وحفظ البلد.
فلما رأى القاسم ذلك سار في تلك البلاد، ثم إنه نزل بشريش، فزحف إليه يحيى ابن أخيه علي، ومعه جمع من البربر، فحصروه ثم أخذوه أسيراً، فحبسه يحيى، فبقي في حبسه إلى أن توفي يحيى، وملك أخوه إدريس، فلما ملك قتله، وقيل: بل مات حتف أنفه، وحمل إلى ابنه محمد، وهو بالجزيرة الخضراء، فدفنه. (4/164)
وكانت مدة ولاية القاسم بقرطبة مذ تسمى بالخلافة إلى أن أسره ابن أخيه، ستة أعوام، وبقي محبوساً ست عشرة سنة إلى أن قتل سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، وكان له ثمانون سنة، وله من الولد محمد والحسن، أمهما أميرة بنت الحسن بن القاسم المعروف بقتون بن إبراهيم بن محمد بن القاسم بن إدريس ابن إدريس بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، عليه السلام، وكان أسمر، أعين، أكحل، مصفر اللون، طويلاً، خفيف العارضين.
ذكر عود بني أمية إلى قرطبة وولاية المستظهر
لما انهزم البربر والقاسم بن علي من أهل قرطبة، على ما ذكرناه، اتفق رأي أهل قرطبة على رد بني أمية، فاختاروا عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر الأموي، فبايعوه بالخلافة ثالث عشر رمضان من سنة أربع عشرة وأربعمائة، وعمره حينئذ اثنتان وعشرون سنة، وتلقب بالمستظهر بالله، فكانت ولايته شهراً واحداً وسبعة عشر يوماً وقتل.
وكان سبب قتله أنه أخذ جماعة من أعيان قرطبة فسجنهم ليميلهم إلى سليمان بن المرتضى عبد الرحمن بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر، وأخذ أموالهم، فسعوا عليه من اسجن، وألبوا الناس، فأجابهم صاحب الشرطة وغيره، واجتمعوا وقصدوا السجن فأخرجوا من فيه.
وكان ممن وافقهم على ذلك أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الرحمن الأموي في جماعة كثيرة، فظفروا بالمستظهر، فقتلوه في ذي القعدة، ولم يعقب، وكنيته أبو المطرف، وأمه أم ولد، وكان أبيض أشقر، أعين، شئن الكفين، رحب الصدر، وكان أديباً، خطيباً، بليغاً، رقيق الطبع، له شعر جيد. وكان وزيره أبا محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، وكان سليمان ابن المرتضى قد مات قبل قتله بعشرة أيام.
ذكر ولاية محمد بن عبد الرحمن
لما قتل المستظهر بايع الناس بقرطبة محمد بن عبد الرحمن بن عبيدالله ابن الناصر، وكنيته أبو عبد الرحمن الأموي، في ذي القعدة سنة أربع عشرة وأربعمائة، وخطبوا له بالخلافة، ولقبوه المستكفي بالله، وكان همه لا يعدو فرجه وبطنه، وليس له هم ولا فكر في سواهما، وبقي بها ستة عشر شهراً وأياماً، وثار عليه أهل قرطبة في ربيع الأول سنة ست عشرة وأربعمائة، فخلعوه وخرج عن قرطبة ومعه جماعة من أصحابه، حتى صار إلى أعمال مدينة سالم، فضجر منه بعض أصحابه، فشوى له دجاجة، وعمل فيها شيئاً من البيش، فأكلها فمات في ربيع الآخر من هذه السنة.
وكان في غاية التخلف، وله أخبار يقبح ذكرها، وكان ربعةً، أشقر، أزرق، مدور الوجه، ضخم الجسم، وكان عمره نحو خمسين سنة. ولما توفي أعاد أهل قرطبة دعوة المعتلي بالله يحيى بن علي بن حمود العلوي بها.
ذكر عود يحيى العلوي إلى قرطبة وقتله
لما مات أبو عبد الرحمن الأموي، وصح عند أهل قرطبة خبر موته، سعى معهم بعض أهلها ليحيى بن علي بن حمود العلوي ليعيدوه إلى الخلافة، وكان بمالقة يخطب لنفسه بالخلافة، فكتبوا إليه وخاطبوه بالخلافة، وخطبوا له في رمضان سنة ست عشرة وأربعمائة، فأجابهم إلى ذلك، وأرسل إليهم عبد الرحمن بن عطاف اليفرني والياً عليهم، ولم يحضر هو باختياره، فبقي عبد الرحمن فيها إلى محرم سنة سبع عشرة، فسار إليه مجاهد وخيران العامريان، في ربيع الأول منها، في جيش كثير، فلما قاربوا قرطبة ثار أهلها بعبد الرحمن فأخرجوه، وقتلوا من أصحابه جماعة كثيرة، ونجا الباقون.
وأقام خيران ومجاهد بها نحو شهر، ثم اختلفا، فخاف كل واحد منهما صاحبه، فعاد خيران عن قرطبة لسبع بقين من ربيع الآخر من السنة إلى المرية، وبقي بها إلى سنة ثماني عشرة وتوفي، وقيل سنة تسع عشرة، وصارت المرية بعده لصاحبه زهير العامري، فخالف حبوس بن ماكسن الصنهاجي البربري وأخوه على طاعة يحيى بن علي العلوي، وبقي مجاهد مدةً ثم سار إلى دانية، وقطعت خطبة يحيى منها، وأعيدت خطبة الأمويين، على ما نذكره فيما بعد إن شاء الله، وبقي يتردد عليها بالعساكر، واتفق البربر على طاعته، وسلموا إليه ما بأيديهم من الحصون والمدن، فقوي وعظم شأنه وبقي كذلك مدة. (4/165)
ثم سار إلى قرمونة فأقام بها محاصراً لإشبيلية طامعاً في أخذها، فأتاه الخبر يوماً أن خيلاً لأهل إشبيلية قد أخرجها القاضي أبو القاسم بن عباد إلى نواحي قرمونة، فركب إليهم ولقيهم وقد كمنوا له، فلم يكن بأسرع من أن قتل، وذلك في المحرم سنة سبع وعشرين وأربعمائة، وخلف من الولد الحسن وإدريس لأمي ولد، وكان أسمر، أعين، أكحل، طويل الظهر، قصير الساقين، وقوراً، هيناً، ليناً، وكان عمره اثنتين وأربعين سنة، وأمه بربرية.
ذكر اخبار أولاد يحيى وأولاد أخيه وغيرهم وقتل ابن عمار
نذكر ها هنا ما كان من أخبار أولاده، وأولاد أخيه، وغيرهم من العلويين، متتابعاً، لئلا ينقطع الكلام، وليأخذ بعضه ببعض.
لما قتل يحيى بن علي رجع أبو جعفر أحمد بن أبي موسى المعروف بابن بقية، ونجا الخادم الصقلبي، وهما مدبرا دولة العلويين، فأتيا مالقة، وهي دار مملكتهم، فخاطبا أخاه إدريس بن علي، وكان له سبتة وطنجة، وطلباه فأتى إلى مالقة، وبايعاه بالخلافة على أن يجعل حسن بن يحيى المقتول مكانه بسبتة، فأجابهما إلى ذلك، فبايعاه، وسار حسن بن يحيى ونجا إلى سبتة وطنجة، وتلقب إدريس بالمتأيد بالله، فبقي كذلك إلى سنة ثلاثين، أو إحدى وثلاثين وأربعمائة.
فسير القاضي أبو القاسم بن عباد ولده إسماعيل في عسكر ليتغلب على تلك البلاد، فأخذ قرمونة، وأخذ أيضاً اشبونة، واستجة، فأرسل صاحبها إلى إدريس، وإلى باديس بن حبوس، صاحب صنهاجة، فأتاه صاحب صنهاجة بنفسه، وأمده إدريس بعسكر يقوده ابن بقية مدبر دولته، فلم يجسروا على إسماعيل بن عباد، فعادوا عنه، فسار إسماعيل مجداً ليأخذ على صنهاجة الطريق، فأدركهم وقد فارقهم عسكر إدريس قبل ذلك بساعة، فأرسلت صنهاجة من ردهم فعادوا، وقاتلوا إسماعيل بن عباد، فلم يلبث أصحابه أن انهزموا وأسلموه، فقتل وحمل رأسه إلى إدريس.
وكان إدريس قد أيقن بالهلاك، وانتقل عن مالقة إلى جبل يحتمي به وهو مريض، فلما أتاه الرأس عاش بعده يومين، ومات وترك من الولد يحيى، ومحمداً، وحسناً، وكان يحيى بن علي المقتول قد حبس ابني عمه محمداً والحسن ابني القاسم بن حمود بالجزيرة، فلما مات إدريس أخرجهما الموكل بهما، ودعا الناس إليهما، فبايعهما السودان خاصة قبل الناس لميل أبيهما إليهم، فملك محمد الجزيرة، ولم يتسم بالخلافة.
وأما الحسن بن القاسم فإنه تنسك وترك الدنيا وحج. وكان ابن بقية قد أقام يحيى بن إدريس بعد موت والده بمالقة، فسار إليها نجا الصقلبي من سبتة هو والحسن بن يحيى، فهرب ابن بقية، ودخلها الحسن ونجا، فاستمالا ابن بقية حتى حضر، فقتله الحسن، وقتل ابن عمه يحيى بن إدريس، وبايعه الناس بالخلافة، ولقب بالمستنصر بالله، ورجع نجا إلى سبتة، وترك مع الحسن المستنصر نائباً له يعرف بالشطيفي، فبقي حسن كذلك نحواً من سنتين، ثم مات سنة أربع وثلاثين وأربعمائة، فقيل إن زوجته ابنة عمه إدريس سمته أسفاً على أخيها يحيى، فلما مات المستنصر اعتقل الشطيفي إدريس بن يحيى، وسار نجا من ستبة إلى مالقة، وعزم على محو أمر العلويين، وأن يضبط البلاد لنفسه، وأظهر البربر على ذلك، فعظم عندهم، فقتلوه، وقتلوا الشطيفي وأخرجوا إدريس بن يحيى، وبايعوه بالخلافة، وتسمى بالعالي، وكان كثير الصدقة يتصدق كل جماعة بخمس مائة دينار، ورد كيل مطرود عن وطنه، وأعاد عليهم أملاكهم.
وكان متأدباً، حسن اللقاء، له شعر جيد إلا أنه كان يصحب الأموال، ولا يحجب نساءه عنهم، وكل من طلب منهم حصناً من بلاده أعطاه، فأخذ منه صنهاجة عدة حصون، وطلبوا وزيره ومدبر أمره صاحب أبيه موسى بن عفان ليقتلوه، فسلمه إليهم فقتلوه. وكان قد اعتقل ابني عمه محمداً والحسن ابني إدريس بن علي في حصن ايرش، فلما رأى ثقته بايرش اضطراب آرائه خالف عليه وبايع ابن عمه محمد بن إدريس بن علي، وثار بإدريس ابن يحيى من عنده من السودان، وطلبوا محمداً فجاء إليهم فسلم إليه إدريس الأمر، وبايع له سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، فاعتقله محمد، وتلقب بالمهدي، وولى أخاه الحسن عهده، ولقبه السامي.
وظهرت من المهدي شجاعة وجرأة، فهابه البربر وخافوه، فراسلوا الموكل بإدريس بن يحيى، فأجابهم إلى إخراجه، وأخرجه وبايع له، وخطب له بسبتة وطنجة بالخلافة، وبقي إلى أن توفي سنة ست وأربعين. (4/166)
ثم إن المهدي رأى من أخيه السامي ما أنكره، فنفاه عنه، فسار إلى العدوة إلى جبال غمارة، وأهلها ينقادون للعلويين ويعظمونهم، فبايعوه. ثم إن البربر خاطبوا محمد بن القاسم بالجزيرة، واجتمعوا إليه وبايعوه بالخلافة، وتسمى بالمهدي أيضاً، فصار الأمر في غاية الأخلوقة والفضيحة، أربعة كلهم يسمى أمير المؤمنين في رقعة من الأرض مقدارها ثلاثون فرسخاً، فرجعت البرابر عنه، وعاد إلى الجزيرة، فمات بعد أيام، فولي الجزيرة ابنه القاسم، ولم يتسم بالخلافة، وبقي محمد بن إدريس بمالقة إلى أن مات سنة خمس وأربعين، وكان إدريس بن يحيى المعروف بالعالي عند بني يفرن بتاكرنا، فلما توفي محمد بن إدريس بن علي قصد إدريس بن يحيى مالقة فملكها، ثم انتقلت إلى صنهاجة.
ذكر ولاية هشام الأموي قرطبة
لما قطعت دعوة يحيى بن علي العلوي عن قرطبة سنة سبع عشرة وأربعمائة، على ما ذكرناه قبل، أجمع أهلها على خلع العلويين لميلهم إلى البربر، وإعادة الخلافة بالأندلس إلى بني أمية، وكان رأسهم في ذلك أبا الحزم جهور بن محمد ابن جهور، فراسلوا أهل الثغور والمتغلبين هناك في هذا، فاتفقوا معهم، فبايعوا أبا بكر هشام بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر الأموي، وكان مقيماً بالبنت مذ قتل أخوه المرتضى، فبايعوه في ربيع الأول سنة ثماني عشرة، وتلقب بالمعتدبالله، وكان أسن من المرتضى، ونهض إلى الثغور فتردد فيها، وجرى له هناك فتن واضطراب شديد من الرؤساء إلى أن اتفق أمرهم على أن يسير إلى قرطبة دار الملك فسار إليها ودخلها ثامن ذي الحجة سنة عشرين وبقي بها حتى خلع ثاني ذي الحجة سنة اثنتين وعشرين.
وكان سبب خلعه أن وزيره أبا عاصم سعيداً القزاز لم يكن له قديم رئاسة، وكان يخالف الوزراء المتقدمين، ويتسبب إلى أخذ أموال التجار وغيرهم، وكان يصل البربر، ويحسن إليهم ويقربهم، فنفر عنه أهل قرطبة، فوضعوا عليه من قتله، فلما قتلوه استوحشوا من هشام فخلعوه بسببه. فلما خلع هشام قام أمية بن عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر، وتسور القصور مع جماعة من الأحداث، ودعا إلى نفسه، فبايعه من سواد الناس كثير، فقال له بعض أهل قرطبة: نخشى عليك أن تقتل في هذه الفتنة، فإن السعادة قد ولت عنكم؛ فقال: بايعوني اليوم واقتلوني غداً. فأنفذ أهل قرطبة وأعيانهم إليه وإلى المعتد بالله يأمرونهما بالخروج عن قرطبة، فودع المعتد أهله وخرج إلى حصن محمد بن الشور بجبل قرطبة، فبقي معه إلى أن غدر أهل الحصن بمحمد ابن الشور فقتلوه وأخرجوا المعتد إلى حصن آخر حبسوه فيه، فاحتال في الخروج منه ليلاً وسار إلى سليمان بن هود الجذامي، فأكرمه وبقي عنده إلى أن مات في صفر سنة ثمان وعشرين، ودفن بناحية لاردة، وهو آخر ملوك بني أمية بالأندلس.
وأما أمية فإنه اختفى بقرطبة، فنادى أهل قرطبة بالأسواق والأرباض أن لا يبقى أحد من بني أمية بها، ولا يتركهم عنده أحد، فخرج أمية فيمن خرج، وانقطع خبره مدةً، ثم أراد العود إليها، فعاد طمعاً في أن يسكنها، فأرسل إليه شيوخ قرطبة من منعه عنها، وقيل قتل وغيب، وذلك في جمادى الآخرة سنة أربع وعشرين، ثم انحل عقد الجماعة وانتشر وافترقت البلاد، على ما نذكره.
ذكر تفرق ممالك الأندلس
ثم إن الأندلس اقتسمه أصحاب الأطراف والرؤساء، فتغلب كل إنسان على شيء منه، فصاروا مثل ملوك الطوائف، وكان ذلك أضر شيء على المسلمين فطمع بسببه العدو الكافر، خذله الله، فيهم، ولم يكن لهم اجتمع إلى أن ملكه أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين، على ما نذكره إن شاء الله. (4/167)
فأما قرطبة فاستولى عليها أبو الحزم جهور بن محمد بن جهور، المقدم ذكره، وكان من وزراء الدولة العامرية، قديم الرئاسة، موصوفاً بالدهاء والعقل، ولم يدخل في شيء من الفتن قبل هذا بل كان يتصاون عنها. فلما خلا له الجو، وأمكنته الفرصة، وثب عليها فتولى أمرها وقام بحمايتها، ولم يتنقل إلى رتبة الإمارة ظاهراً، بل دبرها تدبيراً لم يسبق إليه، وأظهر أنه حامٍ للبلد إلى أن يجيء من يستحقه، ويتفق عليه الناس، فيسلمه إليه. ورتب البوابين والحشم على أبواب قصور الإمارة، ولم يتحول هو عن داره إليها، وجعل ما يرتفع من الأموال السلطانية بأيدي رجالٍ رتبهم لذلك، وهو المشرف عليهم، وصير أهل الأسواق جنداً، وجعل أرزاقهم ربح أموال تكون بأيديهم ديناً عليهم، فيكون الربح لهم، ورأس المال باقياً عليهم، وكان يتعهدهم في الأوقات المتفرقة لينظر كيف حفظهم لها، وفرق السلاح عليهم، فكان أحدهم لا يفارقه سلاحه حتى يعجل حضوره إن احتاج إليه.
وكان جهور يشهد الجنائز، ويعود المرضى، ويحضر الأفراح على طريقة الصالحين، وهو مع ذلك يدبر الأمر تدبير الملوك، وكان مأمون الجانب، وأمن الناس في أيامه، وبقي كذلك إلى أن مات في صفر سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، وقام بأمرها بعده ابنه أبو الوليد محمد بن جهور على هذا التدبير إلى أن مات، فغلب عليها الأمير الملقب بالمأمون، صاحب طليطلة، فدبرها إلى أن مات بها.
وأما إشبيلية فاستولى عليها القاضي أبو القاسم محمد بن إسماعيل بن عباد اللخمي، وهو من ولد النعمان بن المنذر، وقد ذكرنا سبب ذلك في دولة يحيى بن علي بن حمود قبل هذا. وفي هذا الوقت ظهر أمر المؤيد هشام ابن الحاكم، وكان قد اختفى وانقطع خبره، وكان ظهوره بمالقة، ثم سار منها إلى المرية، فخافه صاحبها زهير العامري فأخرجه منها، فقصد قلعة رباح، فأطاعه أهلها، فسار إليهم صاحبه إسماعيل بن ذي النون وحاربهم، فضعفوا عن مقاومته، فأخرجوه، فاستدعاه القاضي أبو القاسم محمد بن إسماعيل بن عباد إليه بإشبيلية، وأذاع أمره، وقام بنصره، وكان رؤساء الأندلس في طاعته، فأجابه إلى ذلك صاحب بلنسية ونواحيها، وصاحب قرطبة، وصاحب دانية والجزائر، وصاحب طرطوشة، وأقروا بخلافته، وخطبوا له، وجددت بيعته بقرطبة في المحرم سنة تسع وعشرين وأربعمائة.
ثم إن ابن عباد سير جيشاً إلى زهير العامري لأنه لم يخطب للمؤيد، فاستنجد زهير حبوس بن ماكسن الصنهاجي صاحب غرناطة، فسار إليه بجيشه، فعادت عساكر ابن عباد، ولم يكن بين العسكرين قتال، وأقام زهير في بياسة، وعاد حبوس إلى مالقة، فمات في رمضان من هذه السنة، وولي بعده ابنه باديس، واجتمع هو وزهير ليتفقا كما كان زهير وحبوس، فلم تستقر بينهما قاعدة، واقتتلا، فقتل زهير وجمع كثير من أصحابه أواخر سنة تسع وعشرين.
ثم في سنة إحدى وثلاثين التقى عسكر ابن عباد وعليهم ابنه إسماعيل مع باديس بن حبوس، وعسكر إدريس العلوي، على ما ذكرناه عند أخبار العلويين فيما تقدم، إلا أنهم اقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل إسماعيل، ثم مات بعده أبوه القاضي أبو القاسم سنة ثلاث وثلاثين، وولي بعده ابنه أبو عمرو عباد بن محمد،ولقب بالمعتضد بالله، فضبط ما ولي، وأظهر موت المؤيد.
هذا قول ابن أبي الفياض في المؤيد، وقال غيره إن المؤيد لم يظهر خبره منذ عدو من قرطبة عند دخول علي بن حمود إليها، وقتله سليمان، وإنما كان هذا من تمويهات ابن عباد وحيله ومكره، وأعجب من اختفاء حال المؤيد، ثم تصديق الناس ابن عباد فيما أخبر به من حياته، أن إنساناً حضرياً ظهر بعد موت المؤيد بعشرين سنة وادعى أنه المؤيد، فبويع بالخلافة، وخطب له على منابر جميع بلاد الأندلس في أوقات متفرقة، وسفكت الدماء بسببه، واجتمعت العساكر في أمره. (4/168)
ولما أظهر ابن عباد موت هشام المؤيد، واستقل بأمر إشبيلية وما انضاف إليها، بقي كذلك إن أن مات من ذبحة لحقته لليلتين خلتا من جمادى الآخرة سنة إحدى وستين وأربعمائة، وولي بعده ابنه أبو القاسم محمد بن عباد ابن القاضي أبي القاسم، ولقب بالمعتمد على الله، فاتسع ملكه، وشمخ سلطانه، وملك كثيراً من الأندلس، وملك قرطبة أيضاً، وولى عليها ابنه الظافر بالله، فبلغ خبر ملكه لها إلى يحيى بن ذي النون، صاحب طليطلة، فحسده عليها، فضمن له جرير بن عكاشة أن يجعل ملكها له، وسار إلى قرطبة وأقام بها يسعى في ذلك وهو ينتهز الفرصة.
فاتفق أن في بعض الليالي جاء مطر عظيم ومعه ريح شديدة ورعد وبرق، فثار جرير فيمن معه، ووصل إلى قصر الإمارة، فلم يجد من يمانعه، فدخل صاحب الباب إلى الظافر وأعلمه، فخرج بمن معه من العبيد والحرس، وكان صغير السن، وحمل عليهم، ودفعهم عن الباب، ثم إنه عثر في بعض كراته فسقط، فوثب بعض من يقاتله وقتله، ولم يبلغ الخبر إلى الأجناد وأهل البلد إلا والقصر قد ملك، وتلاحق بجرير أصحابه وأشياعه، وترك الظافر ملقىً على الأرض عرياناً، فمر عليه بعض أهل قرطبة، فأبصره على تلك الحال، فنزع رداءه وألقاه عليه، وكان أبوه إذا ذكره يتمثل:
ولم أدر من ألقى عليه رداءه ... على أنّه قد سلّ عن ماجدٍ محض
ولم يزل المعتمد يسعى في أخذها، حتى عاد ملكها، وترك ولده المأمون فيها، فأقام بها حتى أخذها جيش أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، وقتل فيها بعد حروب كثيرة يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى سنة أربع وثمانين. وأخذت إشبيلية من أبيه المعتمد في السنة المذكورة، وبقي محبوساً في اغمات إلى أن مات بها، رحمه الله، وكان هو وأولاده جميعهم الرشيد، والمأمون، والراضي، والمعتمد، وأبوه، وجده علماء فضلاء شعراء.
وأما بطليوس فقام بها سابور الفتى العامري، وتلقب بالمنصور، ثم انتقلت بعده إلى أبي بكر محمد بن عبدالله بن سلمة، المعروف بابن الأفطس، أصلحه من بربر مكناسة، لكنه ولد أبوه بالأندلس، ونشأوا بها، وتخلقوا تخلق أهلها، وانتسبوا إلى تجيب، وشاكلهم الملك، فلما توفي صارت بعده إلى ابنه أبي محمد عمر بن محمد واتسع ملكه إلى أقصى المغرب، وقتل صبراً مع ولدين له عند تغلب أمير المسلمين على الأندلس.
وأما طليطلة فقام بأمرها ابن يعيش، فلم تطل مدته، وصارت رئاسته إلى إسماعيل بن عبد الرحمن بن عامر بن مطرف بن ذي النون، ولقبه الظافر بحول الله، وأصله من البربر وولد بالأندلس، وتأدب بآداب أهلها، وكان مولد إسماعيل سنة تسعين وثلاثمائة، وتوفي سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، وكان عالماً بالأدب، وله شعر جيد، وصنف كتاباً في الآداب والأخبار.
وولي بعده ابنه يحيى فاشتغل بالخلاعة والمجون، وأكثر مهاداة الفرنج ومصانعتهم ليتلذذ باللعب، وامتدت يده إلى أموال الرعية، ولم تزل الفرنج تأخذ حصونه شيئاً بعد شيء، حتى أخذت طليطلة في سنة سبع وسبعين وأربعمائة، وصار هو ببلنسية، وأقام بها إلى أن قتله القاضي ابن جحاف الأحنف، وفيه يقول الرئيس أبو عبد الرحمن محمد بن طاهر:
أيّها الأحنف مهلاً ... فلقد جئت عويصا
إذ قتلت الملك يحيى، ... وتقمّصت القميصا
ربّ يومٍ فيه تجري ... إن تجد فيه محيصا
وأما سرقسطة والثغر الأعلى فكان بيد منذر بن يحيى التجيبي، ثم توفي وولي بعده ابنه يحيى، ثم صارت بعده لسليمان بن أحمد بن محمد بن هود الجذامي وكان يلقب بالمستعين بالله، وكان من قواد منذر على مدينة لاردة، وله وقعة مشهورة بالفرنج بطليطلة سنة أربع وثلاثين وأربعمائة.
ثم توفي وولي بعده ابنه المقتدر بالله، وولي بعده ابنه يوسف بن أحمد المؤتمن، ثم ولي بعده ابنه أحمد المستعين بالله على لقب جده، ثم ولي بعده ابنه عبد الملك عماد الدولة، ثم ولي بعده ابنه المستنصر بالله، وعليه انقرضت دولتهم على رأس الخمس مائة، فصارت بلادهم جميعاً لابن تاشفين.
ورأيت بعض أولادهم بدمشق سنة تسعين وخمسمائة، وهو فقير جداً، وهو قيم الربوة، فسبحان من لا يزول، ولا تغيره الدهور.
وأما طرطوشة فوليها لبيب الفتى العامري. (4/169)
وأما بلنسية فكان بها المنصور أبو الحسن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن محمد بن المنصور بن أبي عامر المعافري. ثم انضاف إليه المرية وما كان إليها، وبعده ابنه محمد، ودام فيها إلى أن غدر به صهره المأمون بن إسماعيل بن ذي النون، وأخذ منه رئاسة بلنسية في ذي الحجة سنة سبع وخمسين وأربعمائة، فانتزح إلى المرية، وأقام بها إلى أن خلع، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وأما السهلة فملكها عبود بن رزين، وأصله بربري، ومولده بالأندلس، فلما هلك ولي بعده ابنه عبد الملك، وكان أديباً شاعراً، ثم ولي بعده ابنه عز الدولة، ومنه ملكها الملثمون.
وأما دانية والجزائر فكانت بيد الموفق أبي الحسن مجاهد العامري؛ وسار إليه من قرطبة الفقيه أبو محمد عبدالله المعيطي ومعه خلق كثير، فأقامه مجاهد شبه خليفة يصدر عنه رأيه، وبايعه في جمادى الآخرة سنة خمس وأربعمائة، فأقام المعيطي بدانية مع مجاهد ومن انضم إليه نحو خمسة أشهر، ثم سار هو ومجاهد في البحر إلى الجزائر التي في البحر، وهي ميورقة بالياء، ومنورقة بالنون، ويابسة.
ثم بعث المعيطي بعد ذلك مجاهداً إلى سردانية في مائة وعشرين مركباً بين كبير وصغير ومعه ألف فارس، ففتحها في ربيع الأول سنة ست وأربعين وأربعمائة، وقتل بها خلقاً كثيراً من النصارى، وسبى مثلهم، فسار إليه الفرنج والروم من البر في آخر هذه السنة، فأخرجوه منها، ورجع إلى الأندلس والمعيطي قد توفي، فغاص مجاهد في تلك الفتن إلى أن توفي، وولي بعده ابنه علي بن مجاهد، وكانا جميعاً من أهل العلم والمحبة لأهله والإحسان إليهم، وجلباهم من أقاصي البلاد وأدانيها، ثم مات ابنه عليٌ فولي بعده ابنه أبو عامر، ولم يكن مثل أبيه وجده. ثم إن دانية وسائر بلاد بني مجاهد صارت إلى المقتدر بالله أحمد بن سليمان بن هود في شهر رمضان سنة ثمان وسبعين وأربعمائة.
وأما مرسية فوليها بنو طاهر، واستقامت رئاستها لأبي عبد الرحمن منهم، المدعو بالرئيس، ودامت رئاسته إلى أن أخذها منه المعتمد بن عباد على يد وزيره أبي بكر بن عمار المهري، فلما ملكها عصى على المعتمد فيها، فوجه إليه عسكراً مقدمهم أبو محمد عبد الرحمن بن رشيق القشيري، فحصروه وضيقوا عليه حتى هرب منها، فلما دخلها القشيري عصى فيها أيضاً على المعتمد، إلى أن دخل في طاعة الملثمين، وبقي أبو عبد الرحمن بن طاهر بمدينة بلنسية إلى أن مات بها سنة سبع وخمسمائة، ودفن بمرسية، وقد نيف على تسعين سنة.
وأما المرية فملكها خيران العامري، وتوفي كما ذكرنا، ووليها بعده زهير العامري، واتسع ملكه إلى شاطبة، إلى ما يجاور عمل طليطلة، ودام إلى أن قتل، كما تقدم، وصارت مملكته إلى المنصور أبي الحسن عبد العزيز ابن عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر، فولي بعده ابنه محمد، فلما توفي عبد العزيز ببلنسية أقام ابنه محمد بالمرية، وهو يدبر بلنسية، فانتهز الفرصة فيها المأمون يحيى بن ذي النون وأخذها منه، وبقي بالمرية إلى أن أخذها منه صهره ذو الوزارتين أبو الأحوص المعتصم معن بن صمادح التجيبي، ودانت له لورقة، وبياسة، وجيان، وغيرها إلى أن توفي سنة ثلاث وأربعين، وولي بعده ابنه أبو يحيى محمد بن معن وهو ابن أربع عشرة سنة، فكفله عوه أبو عتبة بن محمد إلى أن توفي سنة ست وأربعين، فبقي أبو يحيى مستضعفاً لصغره، وأخذت بلاده البعيدة عنه، ولم يبق له غير المرية وما يجاورها.
فلما كبر أخذ نفسه بالعلوم، ومكارم الأخلاق، فامتد صيته، واشتهر ذكره، وعظم سلطانه، والتحق بأكابر الملوك، ودام بها إلى أن نازله جيش الملثمين، فمرض في أثناء ذلك، وكان القتال تحت قصره، فسمع يوماً صياحاً وجلبة، فقال: نغص علينا كل شيء حتى الموت ! وتوفي في مرضه ذلك لثمان بقين من ربيع الأول سنة أربع وثمانين وأربعمائة، ودخل أولاده وأهله البحر في مركب إلى بجاية، قاعدة مملكة بني حماد من إفريقية، وملك الملثمون المرية وما معها.
وأما مالقة فملكها بنو علي بن حمود، فلم تزل في مملكة العلويين يخطب لهم فيها إلى أن أخذها منهم إدريس بن حبوس صاحب غرناطة سنة سبع وأربعين، وانقضى أمر العلويين بالأندلس. (4/170)
وأما غرناطة فملكها حبوس بن ماكسن الصنهاجي، ثم مات سنة تسع وعشرين وأربعمائة، وولي بعده ابنه باديس، فلما توفي ولي بعده ابن أخيه عبد الله بن بلكين، وبقي إلى أن ملكها منه الملثمون في رجب سنة أربع وثمانين وأربعمائة، وانقرضت دول جميعهم، وصارت الأندلس جميعها للملثمين، وملكهم أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، واتصلت مملكته من المغرب الأقصى إلى آخر بلاد المسلمين بالأندلس؛ نعود إلى سنة سبع وأربعمائة.
ذكر الحرب بين سلطان الدولة وأخيه أبي الفوارس
قد ذكرنا أن الملك سلطان الدولة لما ملك بعد أبيه بهاء الدولة ولى أخاه أبا الفوارس بن بهاء الدولة كرمان، فلما وليها اجتمع إليه الديلم، وحسنوا له محاربة أخيه وأخذ البلاد منه، فتجهز وتوجه إلى شيراز، فلم يشعر سلطان الدولة حتى دخل أبو الفوارس إلى شيراز، فجمع عساكره وسار إليه فحاربه، فانهزم أبو الفوارس، وعاد إلى كرمان، فتبعه إليها، فخرج منها هارباً إلى خراسان، وقصد يمين الدولة محمود بن سبكتكين، وهو ببست فأكرمه وعظمه، وحمل إليه شيئاً كثيراً، وأجلسه فوق دارا بن قابوس بن وشمكير، فقال دارا: نحن أعظم محلاً منهم لأن أباه وأعمامه خدموا آبائي؛ فقال محمود: لكنهم أخذوا الملك بالسيف؛ أراد بهذا نصرة نفسه حيث أخذ خراسان من السامانية، ووعد محمود أن ينصره.
ثم إن أبا الفوارس باع جوهرتين كانتا على جبهة فرسه بعشرة آلاف دينار، فاشتراهما محمود وحملهما إليه، فقال له: من غلطكم تتركون هذا على جبهة الفرس، وقيمتهما ستون ألف دينار. ثم إن محموداً سير جيشاً مع أبي الفوارس إلى كرمان، مقدمهم أبو سعد الطائي، وهو من أعين قواده، فسار إلى كرمان فملكها، وقصد بلاد فارس وقد فارقها سلطان الدولة إلى بغداد، فدخل شيراز.
فلما سمع سلطان الدولة عاد إلى فارس، فالتقوا هناك واقتتلوا، فانهزم أبو الفوارس، وقتل كثير من أصحابه، وعاد بأسوإ حالٍ، وملك سلطان الدولة بلاد فارس، وهرب أبو الفوارس سنة ثمان وأربعمائة إلى كرمان، فسير سلطان الدولة الجيوش في أثره، فأخذوا كرمان منه، فلحق بشمس الدولة بن فخر الدولة بن بويه، صاحب همذان، ولم يمكنه العود إلى يمين لدولة، لأنه أساء السيرة مع أبي سعد الطائي.
ثم فارق شمس الدولة، ولحق بمهذب الدولة، صاحب البطيحة، فأكرمه وأنزله داره، وأنفذ إليه أخوه جلال الدولة من البصرة مالاً وثياباً، وعرض عليه الانحدار إليه فلم يفعله، وترددت الرسل بينه وبين سلطان الدولة، فأعاد إليه كرمان، وسيرت إليه الخلع والتقليد بذلك، وحملت إليه الأموال، فعاد إليها.
ذكر قتل الشيعة بإفريقية
في هذه السنة، في المحرم، قتلت الشيعة بجميع بلاد إفريقية.
وكان سبب ذلك أن المعز بن باديس ركب ومشى في القيروان والناس يسلمون عليه ويدعون له، فاجتاز بجماعة، فسأل عنهم، فقيل: هؤلاء رافضة يسبون أبا بكر وعمر؛ فقال: رضي الله عن أبي بكر وعمر ! فانصرفت العامة من فورها إلى درب المقلى من القيروان، وهو حومة تجتمع به الشيعة، فقتلوا منهم، وكان ذلك شهوة العسكر وأتباعهم، طمعاً في النهب، وانبسطت أيدي العامة في الشيعة، وأغراهم عامل القيروان وحرضهم.
وسبب ذلك أنه كان قد أصلح أمور البلد، فبلغه أن المعز بن باديس يريد عزله، فأراد فساده، فقتل من الشيعة خلق كثير، وأحرقوا بالنار، ونهبت ديارهم، وقتلوا في جميع إفريقية، واجتمع جماعة منهم إلى قصر المنصور قريب القيروان، فتحصنوا به، فحصرهم العامة وضيقوا عليهم، فاشتد عليهم الجوع، فأقبلوا يخرجون والناس يقتلونهم حتى قتلوا عن آخرهم، ولجأ من كان منهم بالمهدية إلى الجامع فقتلوا كلهم.
وكانت الشيعة تسمى بالمغرب المشارقة نسبة إلى أبي عبدالله الشيعي، وكان من المشرق، وأكثر الشعراء ذكر هذه الحادثة، فمن فرحٍ مسرورٍ ومن باكٍ حزينٍ.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة، في ربيع الأول، احترقت قبة مشهد الحسين والأروقة، وكان سببه أنهم أشعلوا شمعتين كبيرتين، فسقطتا في الليل على التازير فاحترق وتعدت النار؛ وفيه أيضاً احترق نهر طابق، ودار القطن، وكثير من باب البصرة، واحترق جامع سر من رأى.
وفيها تشعث الركن اليماني من البيت الحرام، وسقط حائط بين يدي حجرة النبي، صلى الله عليه وسلم، ووقعت القبة الكبيرة على الصخرة بالبيت المقدس. (4/171)
وفيها كانت فتنة كبيرة بين السنة والشيعة بواسط، فانتصر السنة وهرب وجوه الشيعة والعلويين إلى علي بن مزيد فاستنصروه.
وفيها، في رجب، مات محمد بن أحمد بن القاسم بن إسماعيل أبو الحسين الضبي القاضي المعروف بابن المحاملي، وكان من أعيان الفقهاء الشافعية وكبار المحدثين؛ مولده سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة؛ ومحمد بن الحسين بن محمد ابن الهيثم أبو عمر البسطامي، الواعظ، الفقيه، الشافعي، ولي قضاء نيسابور.

This site was last updated 07/25/11