Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم عزت اندراوس

سنة ست وتسعين ومائتين

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
سنة295
سنة296
سنة297 وسنة298 وسنة299
سنة300 وسنة301
سنة302 وسنة303
سنة303 وسنة304 وسنة305 وسنة306
سنة307 وسنة308 وسنة309
سنة310 وسنة311
سنة312
سنة313 وسنة314
سنة315
سنة316
سنة317
سنة318 وسنة319
سنة320

 

الجزء التالى من كتاب: الكامل في التاريخ المؤلف: أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير (المتوفى: 630هـ) تحقيق: عمر عبد السلام تدمري الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1417هـ / 1997م عدد الأجزاء:  10

**************************************************************************************************************************

المجلد الخامس
بسم الله الرحمن الرحيم
ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائتين
ذكر خلع المقتدر وولاية ابن المعتز

وفي هذه السنة اجتمع القوّاد، والقضاة، والكتّاب، مع الوزير العبّاس بن الحسن، على خلع المقتدر، والبيعة لابن المعتزّ، وأرسلوا إلى ابن المعتز في ذلك، فأجابهم على أن لا يكون فيه سفك دم، ولا حرب، فأخبروه باجتماعهم عليه، وأنّهم ليس لهم منازعٌ ولا محاربٌ.
وكان الرأس في ذلك العبّاس بن الحسن، ومحمّد بن داود بن الجَرّاح، وأبو المثنّى أحمد بن يعقوب القاضي؛ ومن القوّاد الحسين بن حمدان، وبدر الأعجميُّ، ووصيف بن صوارتكين.
ثمّ إنّ الوزير رأى أمره صالحاً مع المقتدر، وأنّه على ما يحبّ، فبدا له في ذلك، فوثب به الآخرون فقتلوه، وكان الذي تولى قتله منهم الحسين ابن حّمدان، وبدر الأعجميّ، ووصيف، ولحقوه، وهو سائر إلى بستان له، فقتلوه في طريقه، وقتلوا معه فاتكاً المعتضديَّ، وذلك في العشرين من ربيع الأوّل، وخُلع المقتدر من الغد، وبايع الناس لابن المعتّز.
وركض الحسين بن حَمدان إلى الحَلبة ظنّاً منه أنّ المقتدر يلعب هناك بالكرة، فيقتله، فلم يصادفه، لأنّه كان هناك، فبلغه قتل الوزير وفاتك، فركض دابّته فدخل الدار، وغُلّقت الأبواب، فندم الحسين حيث لم يبدأ بالمقتدر.
وأحضروا ابن المعتّز وبايعوه بالخلافة، وكان الذي يتولّى أخذ البيعة له محمّد بن سعيد الأزرق، وحضر الناس، والقوّاد، وأصحاب الدواوين، سوى أبي الحسن بن الفُرات، وخواصّ المقتدر، فإنّهم لم يحضروا، ولُقّب ابنُ المعتزّ المرتضي بالله، واستوزر محمّد بن داود بن الجرّاح، وقلّد عليّ بن عيسى الدواوين، وكُتبت الكتبُ إلى البلاد من أمير المؤمنين المرتضي بالله أبي العبّاس عبدالله بن المعتزّ بالله، ووجّه إلى المقتدر يأمره بالانتقال إلى دار ابن طاهر التي كان مقيماً فيها، لينتقل هو إلى دار الخلافة، فأجابه بالسمع والطاعة، وسأل الإمهال إلى الليل.
وعاد الحسين بن حَمدان بُكرة غد إلى دار الخلافة، فقاتله الخدم والغلمان والرجّالة من وراء الستور عامّة النهار، فانصرف عنهم آخر النهار، فلمّا جنّه الليل سار عن بغداد بأهله وماله وكلّ ما له إلى الموصل، لا يُدرى لِمَ فعل ذلك؛ ولم يكن بقي مع المقتدر من القوّاد غير مُؤنس الخادم، ومؤنس الخازن، وغريب الخال وحاشية الدار.
فلمّا همّ المقتدر بالانتقال عن الدار قال بعضهم لبعض: لا نسلم الخلافة من غير أن نُبلي عّذراً، ونجتهد في دفع ما أصابنا؛ فأجمع رأيهم على أن يصعدوا في الماء إلى الدار التي فيها ابن المعتزّ بالحرم يقاتلونه، فأخرج لهم المقتدر السلاح والزرديّات وغير ذلك، وركبوا السُّمَيريّات، وأصعدوا في الماء، فلمّا رآهم مَن عند ابن المعتزّ هالهم كثرتهم، واضطربوا، وهربوا على وجوههم من قبل أن يصلوا إليهم، وقال بعضهم لبعض: إنّ الحسين بن حمدان عرف ما يريد أن يجري فهرب من الليل، وهذه مواطأة بينه وبين المقتدر، وهذا كان سبب هربه.
ولمّا رأى ابن المعتزّ ذلك ركب ومعه وزيره محمّد بن داود وهربا، وغلام له ينادي بين يديه: يا معشر العامّة، ادعوا لخليفتكم السنّيّ البربهاريّ، وإنّما نسبت هذه النسبة لأنّ الحسين بن القاسم بن عبيد الله البربهاريّ كان مقدّم الحَنابلة والسُّنّة من العامّة، ولهم فيه اعتقاد عظيم، فأراد استمالتهم بهذا القول. 3/374)
ثمّ إنّ المعتزّ ومَن معه ساروا نحو الصحراء، ظنّاً منهم أنّ مَن بايعه من الجند يتبعونه، فلم يلحقه منهم أحد، فكانوا عزموا أن يسيروا إلى سُرَّ من رأى بمن يتبعهم من الجند، فيشتدّ سلطانهم، فلمّا رأوا أنّهم لم يأتهم أحدٌ رجعوا عن ذلك الرأي، واختفى محمّد بن داود في داره ونزل ابن المعتزّ عن دابّته، ومعه غلامه يَمِن، وانحدر إلى دار أبي عبد الله بن الجصّاص، فاستجار به، واستتر أكثر مَن بايع ابن المعتزّ، ووقعت الفتنة والنهب والقتل ببغداد، وثار العيّارون والسُّفّل ينهبون الدور.
وكان ابن عمرَويْه، صاحب الشُّرطة، ممّن بايع ابن المعتزّ، فلمّا هرب جمع ابن عمرّويْه أصحابه، ونادى بشعار المقتدر، يدلّس بذلك، فناداه العامّة: يا مرائي، يا كذّاب ! وقاتلوه، فهرب واستتر، وتفرّق أصحابه، فهجاه يحيى بن عليّ بأبياتٍ منها:
بايعوه فلم يكن عند الأن ... وك إلاّ التغييرُ والتخبيط
رافضيّون بايعوا أنْصَبَ الأ ... مَة هذا لعَمْريَ التخليطُ
ثمّ ولَّى من زَعْقَةٍ ومحامو ... ومن خلفهم لهم تَضريطُ
وقلّد المقتدر، تلك الساعة، الشُّرطة مؤنساً الخازن، وهُو غير مؤنس الخادم، وخرج بالعسكر، وقبض على وصيف بن صُوارتكين وغيره، فقتلهم، وقبض على القاضي أبي عُمر، وعليّ بن عيسى، والقاضي محمّد ابن خلف وكيع، ثمّ أطلقهم، وقبض على القاضي المثنّى أحمد بن يعقوب، فقتله لأنّه قيل له: بايع المقتدر، فقال: لا أبايع صبيّاً، فذُبح.
وأرسل المقتدر إلى أبي الحسن بن الفُرات، وكان مختفياً، فاحضره واستوزره، وخلع عليه.
وكان في هذه الحادثة عجائب منها: أنّ الناس كلّهم أجمعوا على خلع المقتدر والبيعة لأبن المعتزّ، فلم يتمّ ذلك، بل كان على العكس من إرادتهم، وكان أمر الله مفعولاً.
ومنها أنّ ابن حَمدان، على شدّة تشيّعه وميله إلى عليّ، عليه السلام، وأهل بيته، يسعى في البيعة لابن المعتزّ على انحرافه عن عليّ وغلوّه في النصْب إلى غير ذلك.
ثمّ إنّ خادماً لابن الجَصّاص، يُعرف بسوسن، أخبر صافياً الحرميَّ بأنّ ابن المعتزّ عند مولاه، ومعه جماعة، فكُبست دار ابن الجَصّاص، وأُخذ ابن المعتزّ منها، وحُبس إلى الليل، وعُصِرتْ خصيتاه حتّى مات، ولُفّ في كساء، وسُلّم إلى أهله.
وصودر ابن الجَصّاص على مال كثير، وأُخذ محمّد بن داود وزير ابن المعتزّ، وكان مستتراً، فقُتل، ونُفي عليُّ بن عيسى إلى واسط، فأرسل إلى الوزير ابن الفُرات يطلب منه أن يأذن له في المسير إلى مكّة، فأذن له في ذلك فسار إليها على طريق البصرة وأقام بها.
وصودر القاضي أبو عُمر على مائة ألف دينار، وسُيّرت العساكر من بغداد في طلب الحسين بن حَمدان فتبعوه إلى الموصل، ثمّ إلى بَلَد فلم يظفروا به، فعادوا إلى بغداد فكتب الوزير إلى أخيه أبي الهيجاء بن حمدان، وهو الأمير على الموصل، يأمره بطلبه، فسار إليه إلى بَلَد، ففارقها الحسين إلى سِنجار، وأخوه في أثره، فدخل البرّيّة فتبعه أخوه عشرة أيّام، فادركه، فاقتتلوا، فظفر أبو الهيجاء، وأسر بعض أصحابه، وأخذ منه عشرة آلاف دينار، وعاد عنه إلى الموصل، ثمّ انحدر إلى بغداد، فلمّا كان فوق تكريت أدركه أخوه الحسين، فبيّته، فقتل منهم قتلى، وانحدر أبو الهيجاء إلى بغداد.
وأرسل الحسين إلى ابن الفُرات، وزير المقتدر، يسأله الرضى عنه، فشفع فيه إلى المقتدر بالله ليرضى عنه، وعن إبراهيم بن كَيْغَلَغ، وابن عمرَوَيْه صاحب الشُّرطة وغيرهم، فرضي عنهم، ودخل الحسين بغداد، فرد عليه أخوه ما أخذ منه، وأقام الحسين ببغداد إلى أن وليّ قُمّ فسار إليها، وأخذ الجرائد التي فيها أسماء مَن أعان على المقتدر، فغرَّقها في دجلة، وبسط ابن الفُرات العدل والإحسان وأخرج الإدرارات للعبّاسيّين والطالبيّين، وأرضى القوّاد بالأموال، ففرّق معظم ما كان في بيوت الأموال.
ذكر حادثة ينبغي أن يحتاط من مثلها ويفعل فيها مثل فعل صاحبها (3/375)
كان سليمان بن الحسن بن مخلَّد متّصلاً بابن الفرات، وبينهما مودّة وصداقة، فوجد الوزير كتب البيعة لابن المعتزّ بخطّ سليمان، وقلّده الأعمال، فسعى سليمان بابن الفرات إلى المقتدر، وكتب بخطّه مطالعة تتضمّن ذكر أملاك الوزير وضياعه ومستغلاته وما يتعلّق بأسبابه، وأخذ الرقعة ليوصلها إلى المقتدر، فلم يتهيّأ له ذلك.
وحضر دارَ الوزير وهي معه، وسقطت من كمّه، فظفر بها بعضُ الكتّاب فأوصلها إلى الوزير، فلمّا قرأها قبض على سليمان، وجعله في زورق، وأحضره إلى واسط، ووكّل به هناك، وصادره، ثمّ أراد العفو عنه، فكتب إليه: نظرتُ، أعزّك الله، في حقّك عليّ وجرمك إليّ، فرأيتُ الحقّ مُوفياً على الجرم، وتذكّرتُ من سالف خدمتك ما عطفني عليك، وثناني إليك وأعادني لك إلى أفضل ما عهدت، وأجمل ما ألفت؛ وأطلق له عشرة آلاف درهم، وعفا عنه، واستعمله وأكرمه.
ذكر ولاية أبي مضر إفريقية وهربه إلى العراق وما كان من أمره
في هذه السنة، مستهلّ شهر رمضان، وليّ أبو مُضر زيادة الله بن أبي العبّاس بن عبدالله إفريقية، بعد قتل أبيه، فعكف على اللذّات والشهوات وملازمة الندماء والمضحكين، وأهمل أمور المملكة وأحوال الرعيّة، وأرسل كتاباً يوم وُلّي إلى عمّه الأحول على لسان أبيه يستعجله في القدوم عليه، ويحثّه على السُّرعة، فسار مجدّاً ولم يعلم بقتل أبي العبّاس، فلمّا وصل قتله، وقتل مَن قدر عليه من أعمامه وإخوته.
واشتدّت شوكة أبي عبدالله الشيعيّ في أيّامه، وقوي أمرُه، وكان الأحوال قبالته، فلمّا قُتل صفتْ له البلاد، ودانت له الأمصار والعباد، فسيّر إليه زيادة الله جيشاً مع إبراهيم بن أبي الأغلب، وهو من بني عمّه، بلغت عدّتهم أربعين ألفاً سوى من انضاف إليه، فهزمه أبو عبدالله الشيعيُّ على ما ذكرناه آنفاً؛ فلمّا اتّصل بزيادة الله خبر الهزيمة علم أنّه لا مقام له لأن هذا الجمع هو آخر ما انتهت قدرته إليه، فجمع ما عزّ عليه من أهل ومال وغير ذلك، وعزم على الهرب إلى بلاد الشرق، وأظهر للناس أنّه قد جاءه خبرُ هزيمة أبي عبدالله الشيعيّ، وأمر بإخراج رجال من الحبس، فقتلهم، وأعلم خاصّته حقيقة الحال، وأمرهم بالخروج معه.
فأشار عليه بعض أهل دولته بأن لا يفعل ولا يترك ملكه. قال له: إنّ أبا عبدالله لا يجسر عليك، فشتمه، وردّ عليه رأيه، وقال: أحبّ الأشياء إليك أن يأخذني بيدي. وانصرف كلّ واحد من خاصّته وأهله يتجهّز للمسير معه، وأخذ ما أمكنه حمله.
وكانت دولة آل الأغلب بإفريقية قد طالت مدّتها، وكثرت عبيدها وقوي سلطانها، وسار عن إفريقية إلى مصر في سنة ستّ وتسعين ومائتين، واجتمع معه خلق عظيم، فلم يزل سائراً حتّى وصل طرابلس، فدخلها، فأقام بها تسعة عشر يوماً، ورأى بها أبا العبّاس أخا أبي عبدالله الشيعيّ، وكان محبوساً بالقيروان، حبسه زيادة الله، فهرب إلى طرابلس، فلمّا رآه أحضره وقرّره: هل هو أخو أبي عبدالله ؟ فأنكر وقال: أنا رجل تاجر قيل عنّي إنّني أخو أبي عبدالله فحبستَني. فقال له زيادة الله: أنا أطلقك، فإن كنت صادقاً في أنّك تاجر فلا نأثم فيك، وإنّ كنتَ كاذباً، وأنت أخو أبي عبدالله، فليكن للصنيعة عندك موضع، وتحفظنا فيمن خلّفناه. وأطلقه.
وكان من كبار أهله وأصحابه إبراهيم بن أبي الأغلب، فأراد قتله وقتل رجل آخر كانا قد عرضا أنفسهما على ولاية القيروان، فعلما ذلك، وهربا إلى مصر، وقدما على العامل بها وهو عيسى النُّوشريُّ، فتحدّثا معه، وسعيا بزيادة الله، وقالا له: إنّه يُمنيّ نفسه بولاية مصر، فوقع ذلك في نفسه، وأراد منعه عن دخول مصر إلاّ بأمر الخليفة من بغداد، فوصل زيادة الله ليلاً، وعبر الجسر إلى الجيزة قهراً، فلمّا رأى ذلك النُّوشريُّ لم يمكنه منعه، فأنزله بدار ابن الجصّاص، ونزل أصحابه في مواضع كثيرة، فأقام ثمانية أيّام، ورحل يريد بغداد، فهرب عنه بعض أصحابه، وفيهم غلام له، وأخذ منه مائة ألف دينار، فأقام عند النُّوشريِّ، فأسرل النُّوشريُّ إلى الخليفة، وهو المقتدر بالله، يعرّفه حال زيادة الله وحال من تخلّف بمصر، فأمره بردّ من تخلّف عنه إليه مع المال، ففعل.(3/376)
وسار زيادة الله حتّى بلغ الرَّقّة وكتب إلى الوزير، وهو ابن الفرات، يسأله في الإذن له لدخول بغداد، فأمره بالتوقّف، فبقي على ذلك سنة، فتفرّق عنه أصحابه، وهو مع هذا مُدمن الخمر، واستماع الملاهي، وسُعي به إلى المقتدر، وقيل له يُرَدّ إلى المغرب يطلب بثأره، فكتب إليه بذلك وكتب إلى النوشري بإنجاده بالرجال والعُدد والأموال من مصر ليعود إلى المغرب، فعاد إلى مصر، فأمره النُّوشريُّ بالخروج إلى ذات الحمّام ليكون هناك إلى أن يجتمع إليه ما يحتاج إليه من الرجال والمال، ففعل، ومطله، فطال مُقامه، وتتابعت به الأمراض، وقيل بل سمّه بعض غلمانه، فسقط شعر لحيته، فعاد إلى مصر، وقصد البيت المقدّس، فتوفّي بالرملة ودُفن بها.
فسبحان الحيّ الذي لا يموت، ولا يزول ملكه، ولم يبق بالمغرب من بني الأغلب أحد، وكانت مدّة ملكهم مائة سنة واثنتي عشرة سنة، وكانوا يقولون: إنّنا نخرج إلى مصر والشام، ونربط خيلنا في زيتون فلسطين؛ فكان زيادة الله هو الخارج إلى فلسطين على هذه الحال لا على ما ظّنوه.
ذكر ابتداء الدولة العلويّة بإفريقية
هذه دولة اتّسعت أكناف مملكتها، وطالت مدّتها، فإنّها ملكت إفريقية هذه السنة، وانقرضت دولتهم بمصر سنة سبع وستين وخمسمائة، فنحتاج أن نستقصي ذكرها فنقول: أوّل مَن وليَ منهم أبو محمّد عبيد الله، فقيل هو محمّد بن عبد الله بن ميمون بن محمّد بن إسماعيل بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ ابن أبي طالب، رضي الله عنهم، ومَن ينسب هذا النسب يجعله عبد الله بن ميمون القدّاح الذي يُنسب إليه القدّاحيّة، وقيل هو عبيد الله بن أحمد بن إسماعيل الثاني ابن محمّد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن عليّ بن عليّ بن الحسين بن أبي طالب، رضي الله عنهم.
وقد اختلف العلماء في صحّة نسبه، فقال هو وأصحابه القائلون بإمامته: إنّ نسبه صحيح على ما ذكرناه، ولم يرتابوا فيه، وذهب كثير من العلويّين العالمين بالأنساب إلى موافقتهم أيضاً، ويشهد بصحّة هذا القول ما قاله الشريف الرَّضيُّ:
ما مُقامي على الهوان وعندي ... مِقْوَلٌ صارمٌ، وأنْفٌ حميُّ
ألبَسُ الذُّلّ في بلاد الأعادي؛ ... وبمصر الخليفةُ العَلَويُّ
مَنْ أبوه أبي، ومولاه مولا ... ي إذا ضامني البعيدُ القَصيُّ
لفّ عرقي بعرقه سيّدَا النّا ... س جميعاً: محمّدٌ، وعليُّ
إنّ ذُلّي بذلك الجَوّ عزٌّ ... وأُوامي بذلك النّقْعِ ريُّ
وإنّما لم يودعها في بعض ديوانه خوفاً، ولا حجّة بما كَتبه في المحضر المتضمّن القدح في أنسابهم، فإنّ الخوف يحمل على أكثر من هذا، على أنّه قد ورد ما يصدّق ما ذكرتُه، وهو أنّ القادر بالله لمّا بلغته هذه الأبيات أحضر القاضي أبا بكر بن الباقلانيّ، فأرسله إلى الشريف أبي أحمد الموسويّ، والد الشريف الرضيّ، يقول له: قد عرفتَ منزلتك منّا، وما لا نزال عليه من الاعتداد بك بصدق الموالاة منك، وما تقدّم لك في الدولة من مواقف محمودة، ولا يجوز أن تكون أنت على خليفة ترضاه، ويكون ولدك على ما يضادّها، وقد بلغنا أنّه قال شعراً، وهو كذا وكذا، فيا ليت شعري على أيّ مقام ذلٍّ أقام، وهو ناظر في النّقابة والحجّ، وهما من أشرف الأعمال، ولو كان بمصر لكان كبعض الرعايا؛ وأطال القول، فحلف أبو أحمد أنّه ما علم بذلك.
وأحضر ولده وقال له في المعنى فأنكر الشعر، فقال له: اكتب خطّك إلى الخليفة بالاعتذار، واذكر فيه أنّ نسب المصريّ مدخولٌ، وأنّه مدّع في نسبه؛ فقال: لا أفعل ! فقال أبوه: تكذّبني في قولي ؟ فقال: ما أكذبك، ولكنيّ أخاف من الديلم، أخاف من المصريّ ومن الدُّعاة في البلاد؛ فقال أبوه: أتخاف ممّن هو بعيد عنك، وتراقبه، وتُسخط من هو قريب، وأنت بمرأى منه ومسمع، وهو قادر عليك وعلى أهل بيتك ؟ وتردّد القول بينهما، ولم يكتب الرضيُّ خطّه، فحرد عليه أبوه وغضب وحلف أنّه لا يقيم معه في بلد، فآل الأمر إلى أنّ حلف الرضيُّ أنّه ما قال هذا الشعر واندرجت القصّة على هذا.
ففي امتناع الرضيّ من الاعتذار، ومن أن يكتب طعناً في نسبهم مع الخوف، دليلٌ قويٌّ على صحّة نسبهم. (3/377)
وسألتُ أنا جماعة من أعيان العلويّين في نسبه، فلم يرتابوا في صحّته، وذهب غيرهم إلى أنّ نسبه مدخول ليس بصحيح، وعدا طائفة منهم إلى أن جعلوا نسبه يهوديّاً، وقد كُتب في الأيّام القادريّة محضر يتضمّن القدح في نسبه ونسب أولاده، وكتب فيه جماعة من العلويّين وغيرهم أنّ نسبه إلى أمير المؤمنين عليّ غير صحيح.
فممن كتب فيه من العلويّين المرتضى، وأخوه الرضيُّ، وابن البطحاوي، وابن الأزرق العلويّان، ومن غيرهم ابن الأكفانيّ وابن الخرزيّ، وأبو العبّاس الأبيورديُّ، وأبو حامد، والكشفليُّ، والقدوريُّ، والصَّيْمريُّ، وأبو الفضل النسويُّ، وأبو جعفر النسفيُّ، وأبو عبدالله بن النُّعمان، فقيه الشيعة.
وزعم القائلون بصحّة نسبه أنّ العلماء ممّن كتب في المحضر إنّما كتبوا خوفاً وتقيّة، ومن لا علم عنده بالأنساب فلا احتجاج بقوله.
وزعم الأمير عبد العزيز، صاحب تاريخ إفريقية والمغرب، أنّ نسبه مُعرِقٌ في إليهوديّة، ونقل فيه عن جماعة من العلماء، وقد استقصى ذكر ابتداء دولتهم، وبالغ.
وأنا أذكر معنى ما قاله مع البراءة من عهدة طعنه في نسبه، وما عداه فقد أحسن فيما ذكر، قال: لّما بعث الله تعالى سيّد الأوّلين والآخرين محمّداً، صلى الله عليه وسلم، عظم ذلك على إليهود والنصارى والروم والفرس وقريش، وسائر العرب، لأنّه سفَّه أحلامهم، وعاب أديانهم وآلهتهم، وفرَّق جمعهم، فاجتمعوا يداً واحدةً عليه، فكفاه الله كيدهم، ونصره عليهم، فأسلم منهم مَن هداه الله تعالى؛ فلمّا قُبض، صلى الله عليه وسلم، نجم النفاق، وارتدّت العرب، وظنّوا أنّ الصحابة يضعفون بعده، فجاهد أبو بكر، رضي الله عنه، في سبيل الله، فقتل مُسَيْلمة، وردّ الرِّدّة، وأذلّ الكفر، ووطّأ جزيرة العرب، وغزا فارس والروم، فلمّا حضرتْه الوفاة ظنّوا أن بوفاته ينتقص الإسلام، فاستخلف عمر بن الخطّاب، فأذلّ فارس والروم، وغلب على ممالكها، فدسّ عليه المنافقون أبا لؤلؤة فقتله، ظنّاً منهم أن بقتله ينطفئ نور الإسلام، فوليَ بعده عثمان، فزاد في الفتوح، واتّسعت مملكة الإسلام، فلمّا قُتل ووليَ بعده أمير المؤمنين عليٌّ قام بالأمر أحسن قيام، فلمّا يئس أعداء الإسلام من استئصاله بالقوّة أخذوا في وضع الأحاديث الكاذبة، وتشكيك ضعفة العقول في دينهم، بأمور قد ضبطها المحدّثون، وأفسدوا الصحيح بالتأويل والطعن عليه.
فكان أوّل من فعل ذلك أبو الخطّاب محمّج بن أبي زينب مولى بني أسد، وأبو شاكر ميمون بن ديصان، صاحب كتاب الميزان في نصرة الزندقة، وغيرهما، فألقوا إلى من وثقوا به أنّ لكلّ شيء من العبادات باطناً، وأنّ الله تعالى لم يوجب على أوليائه، ومن عرف الأئمّة والأبواب، صلاة، ولا زكاة، ولا غير ذلك، ولا حرّم عليهم شيئاً، وأباحوا لهم نكاح الأمّهات والأخوات، وإنّما هذه قيود للعامّة ساقطة عن الخاصّة.
وكانوا يظهرون التشيّع لآل النبيّ، صلى الله عليه وسلم، ليستروا أمرهم، ويستميلوا العامّة، وتفرّق أصحابهم في البلاد، وأظهروا الزهد والعبادة، يغرّون الناس بذلك وهم على خلافه، فقُتل أبو الخطّاب وجماعة من أصحابه بالكوفة، وكان أصحابه قالوا له: إنّا نخاف الجند؛ فقال لهم: إنّ أسلحتهم لا تعمل فيكم؛ فلمّا ابتدأوا في ضرب أعناقهم قال له أصحابه: ألم تقُلْ إنّ سيوفهم لا تعمل فينا ؟ فقال: إذا كان قد أراد اللهُ فما حيلتي ؟ وتفرّقت هذه الطائفة في البلاد وتعلّموا الشعبذة، والنارنجيات، والزرق، والنجوم، والكيمياء، فهم يحتالون على كل قوم بما يتّفق عليهم وعلى العامّة بإظهار الزهد.
ونشأ لأبن ديصان ابن يقال له عبدالله القدّاح، علّمه الحيل، وأطلعه على أسرار هذه النِّحلة، فحذق وتقدّم. (3/378)
وكان بنواحي كرْخ وأصبهان رجل يُعرف بمحمّد بن الحسين ويلقّب بدندان يتولّى تلك المواضع، وله نيابة عَظيمة، وكان يبغض العرب، ويجمع مساويهم، فسار إليه القدّاح، وعرّفه من ذلك ما زاد به محلّه، وأشار عليه أن لا يُظهر ما في نفسه، إنّما يكتمه، ويُظهر التشيّع والطعن على الصحابة، فإنّ الطعن فيهم طعن في الشريعة، فإنّ بطريقهم وصلتَ إلى من بعدهم. فاستحسن قوله وأعطاه مالاً عظيماً ينفقه على الدُّعاة إلى هذا المذهب، فسيّره إلى كُوَر الأهواز، والبصرة، والكوفة، وطالقان، وخُراسان، وسلميّة، من أرض حِمص، وفرّقه في دعاته؛ وتوفّي القدّاح، ودندان.
وإنّما لُقّب القدّاح لأنّه كان يعالج العيون ويقدحها. فلمّا توفّي القدّاح قام بعده ابنه أحمد مقامه، وصحبه إنسان يقال له رستم بن الحسين ابن حوشب بن داذان النجّار، من أهل الكوفة، فكانا يقصدان المشاهد، وكان باليمن رجل اسمه محمّد بن الفضل كثير المال والعشيرة من أهل الجَنَد، يتشيّع، فجاء إلى مشهد الحسين بن عليّ يزوره، فرآه أحمد ورستم يبكي كثيراً، فلمّا خرج اجتمع به أحمد، وطمع فيه لما رأى من بكائه، وألقى إليه مذهبه، فقبله، وسيّر معه النّجّار إلى اليمن، وأمره بلزوم العبادة والزهد ودعوة الناس إلى المهديّ وأنّه خارج في هذا الزمان باليمن، فسار النّجار إلى اليمن، ونزل بعدن، بقرب قوم من الشيعة يُعرفون ببني موسى، وأخذ في بيع ما معه.
وأتاه بنو موسى، وقالوا له: فِيمَ جئتَ ؟ قال: للتجارة. قالوا: لستَ بتاجر، وإنّما أنت رسول المهديّ، وقد بلغنا خبرُك، ونحن بنو موسى، ولعلّك قد سمعتَ بنا، فانبسطْ، ولا تحتشم، فإنّا إخوانك. فأظهر أمره، وقوّي عزائمهم، وقرب أمر المهديّ فأمرهم بالاستكثار من الخيل والسلاح، وأخبرهم أنّ هذا أوان ظهور المهديّ، ومن عندهم يظهر.
واتّصلت أخباره بالشيعة الذين بالعراق، فساروا إليه فكثر جمعهم، وعظم بأسهم، وأغاروا على من جاورهم، وسبوا، وجبوا الأموال، وأرسل إلى مَن بالكوفة من ولد عبدالله القدّاح هدايا عظيمة، وكانوا أنفذوا إلى المغرب رجلينْ أحدهما يُعرف بالحلوانيّ، والآخر يعرف بأبي سفيان، وقالوا لهما: إنّ المغرب أرض بور، فاذهبا فاحرثا حتى يجيء صاحب البدر؛ فسارا فنزل أحدهما بأرض كُتامة ببلد يسمّى مَرْمجَنّة والآخر بسوق حمار، فمالت قلوب أهل تلك النواحي إليهما، وحملوا إليهما الأموال والتحف، فأقاما سنين كثيرة، وماتا، وكان أحدهما قريب الوفاة من الآخر.
ذكر إرسال أبي عبد الله الشيعيّ إلى المغرب
كان أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمّد بن زكريّاء الشيعيُّ من أهل صنعاء، وقد سار إلى ابن حوشب النجّار، وصحبه بعدن، وصار من كبار أصحابه، وكان له علم وفهم ودهاء ومكر، فلمّا أتى خبر وفاة الحلوانيّ وأبي سفيان إلى ابن حوشب قال لأبي عبد الله الشيعيّ: إنّ أرض كُتامة من المغرب قد حرثها الحلوانيُّ وأبو سفيان، وقد ماتا، وليس لها غيرك، فبادِرْ، فإنّها موطَّأة ممهّدة لك.
فخرج أبو عبدالله إلى مكّة، وأعطاه ابن حوشب مالاً، وسيّر معه عبد الله بن أبي ملاحف، فلمّا قدم أبو عبدالله مكّة سأل عن حُجّاج كُتامة فأُرشد إليهم، فاجتمع به، ولم يعرّفهم قصده، وجلس قريباً منهم، فسمعهم يتحدّثون بفضائل أهل البيت، فأظهر استحسان ذلك، وحدثهم بما لم يُعلموه، فلمّا أراد القيام سألوه أن يأذن لهم في زيارته والأنبساط معه، فأذن لهم في ذلك، فسألوه أين مقصده، فقال: أُريد مصر؛ ففرحوا بصحبته.
وكان من رؤساء الكُتاميّين بمكّة رجل اسمه حُرَيْث الجُميليُّ، وآخر اسمه موسى بن مكاد، فرحلوا، وهو لا يخبرهم بغرضه، وأظهر لهم العبادة والزهد، فازدادوا فيه رغبةً، وخدموه، وكان يسألهم عن بلادهم وأحوالهم وقبائلهم، وعن طاعتهم لسلطان إفريقية، فقالوا: ما له علينا طاعة، وبيننا وبينه عشرة أيّام. قال: أفتحملون السلاح ؟ قالوا: هو شغلنا؛ ولم يزل يتعرّف أحوالهم، حتّى وصلوا إلى مصر، فلمّا أراد وداعهم قالوا له: أيّ شيء تطلب بمصر ؟ قال: أطلب التعليم بها، قالوا: إذا كنتَ تقصد هذا فبلادنا أنفع لك، ونحن أعرف بحقّك؛ ولم يزالوا به حتّى أجابهم إلى المسير معهم بعد الخضوع والسؤال، فسار معهم. (3/379)
فلمّا قاربوا بلادهم لقيهم رجال من الشيعة، فأخبروهم بخبره، فرغبوا في نزوله عندهم، واقترعوا فيمن يضيفه منهم ثم رحلوا حتّى وصلوا إلى أرض كُتامة، منتصف شهر ربيع الأوّل سنة ثمانين ومائتين، فسأله قوم منهم أن ينزل عندهم حتّى يقاتلوا دونه، فقال لهم: أين يكون فجّ الأخيار ؟ فتعجّبوا من ذلك، ولم يكونوا ذكروه له، فقالوا له: عند بني سليان. فقال: إليه نقصد، ثمّ نأتي كلّ قوم منكم في ديارهم، ونزورهم في بيوتهم؛ فأرضى بذلك الجميع.
وسار إلى جبل يقال له إنْكِجان، وفيه فجّ الأخيار، فقال: هذا فجّ الأخيار، وما سُمّي إلاّ بكم، ولقد جاء في الآثار: إنّ للمهديّ هِجرة تنبو عن الأوطان، ينصره فيها الأخيار من أهل ذلك الزمان، قوم مشتقٌ اسمهم من الكِتمان، فإنّهم كُتامة، وبخروجكم من هذا الفجّ يسمّى فجّ الأخيار.
فتسامعتِ القبائل، وصنع من الحيل والمَكِيدات والنارنجيات ما أذهل عقولهم، وأتاه البربر من كلّ مكان، وعظم أمره إلى أن تقاتلتْ كُتامة عليه مع قبائل البربر، وسلم من القتل مراراً، وهو في كلّ ذلك لا يذكر اسم المهديّ، فاجتمع أهل العلم على مناظرته وقتله، فلم يتركه الكُتاميّون يناظرهم، وكان اسمه عندهم أبا عبدالله المشرقيّ.
وبلغ خبره إلى إبراهيم بن أحمد بن الأغلب أمير إفريقية، فأرسل إلى عامله على مدينة ميْلَةَ يسأله عن أمره، فصغّره وذكر له أنّه يلبس الخشن، ويأمر بالخير والعبادة، فسكت عنه.
ثمّ إنّه قال للكُتاميّين. أنا صاحب البدر الذي ذكر لكم أبو سفيان والحلوانيُّ؛ فازدادت محبّتهم له، وتعظيمهم لأمره، وتفرّقت كلمة البربر وكُتامة بسببه، فأراد بعضهم قتله، فاختفى، ووقع بينهم قتال شديد، واتّصل الخبر بإنسان اسمه الحسن بنهارون، وهو من أكابر كُتامة، فأخذ أبا عبدالله إليهن ودافع عنه، ومضيا إلى مدينة ناصرون، فأتته القبائل من كلّ مكان وعظم شأنه، وصارت الرئاسة للحسن بن هارون، وسلّم إليه أبو عبدالله أعنّة الخيل، وظهر من الاستتار، وشهر الحروب، فكان الظفر له فيها، وغنم الأموال، وانتقل إلى مدينة ناصرون وخندق عليها، فزحفت قبائل البربر إليها، واقتتلوا، ثمّ اصطلحوا، ثمّ أعادوا القتال، وكان بينهم وقائع كثيرة، وظفر بهم، وصارت إليه أموالهم، فاستقام له أمر البربر وعامّة كُتامة.
ذكر ملكه مدينة مِيْلَةَ وانهزامه
فلمّا تمّ لأبي عبد الله ذلك زحف إلى مدين مِيْلة، فجاءه منها رجل اسمه الحسن بن أحمد، فأطلعه على غرّة البلد، فقاتل أهله قتالاً شديداً، وأخذ الأرباض، فطلبوا منه الأمان فأمّنهم، ودخل مدينة مِيلة، وبلغ الخبر أمير إفريقية، وهو حينئذٍ إبراهيم بن أحمد، فنفّذ ولده الأحول في اثني عشر ألفاً، وتبعه مثلهم، فالتقيا، فاقتتل العسكران، فانهزم أبو عبد الله، وكثر القتل في أصحابه، وتبعه الأحول، وسقط ثلج عظيم حال بينهم، وسار أبو عبد الله إلى جبل إنِكجَان، فوصل الأحوال إلى مدينة ناصرون، فأحرقها، وأحرق مدينة مِيلَة، ولم يجد بها أحداً.
وبنى أبو عبد الله بإنْكِجَانَ دار هجرة، فقصدها أصحابه، وعاد الأحول إلى إفريقية، فسار أبو عبد الله بعد رحيلهم، فغنم ما رأى ممّا تخلّف عنهم؛ وأتاه خبر وفاة إبراهيم، فسُرّ به، ثمّ أتاه خبر قتل أبي العبّاس ولده، وولاية زيادة الله، واشتغاله باللهو اللعب، فاشتدّ سروره.
وكان الحول قد جمع جيشاً كثيراً أيّام أخيه أبي العبّاس، ولقي أبا عبد الله، فانهزم الأحول.
وبقي الأحول قريباً منه يقاتله ويمنعه من التقدّم، فلمّا وليَ أبو مُضر زيادة الله إفريقية أحضر الأحولَ وقتله، كما ذكرناه؛ ولم يكن أحولَ، وإنّما كان يكسر عينه إذا أدام النظر فلُقّب بهِ، فلمّا قُتل انتشرت حينئذ جيوش أبي عبدالله في البلاد، وصار أبو عبدالله يقول: المهديُّ يخرج في هذه الأيّام، ويملك الأرض، فيا طوبى لمن هاجر إليّ وأطاعني ! ويغري الناس بأبي مُضر، ويعيبه.
وكان كلّ مَن عنده زيادة الله من الوزراء شيعة، فلا يسوءهم أن يظفر أبو عبدالله لا سيّما مع ما كان يُذْكَر لهم من الكرامات التي للمهديّ من إحياء الموتى، وردّ الشمس من مغربها، وملكه الأرض بأسرها ! وأبو عبد الله يرسل إليهم، ويسحرهم، ويعدهم.
ذكر سبب اتّصال المهديّ عبيد الله بأبي عبد الله الشيعيّ ومسيره إلى سِجِلْماسة (3/380)
لمّا توفّي عبد الله بن ميمون القدّاح ادّعى ولده أنهم من ولد عَقِيل بن أبي طالب، وهم مع هذا يسترون، ويُسِرّون أمرهم، ويخُفون أشخاصهم.
وكان ولده أحمد هو المشار إليه منهم، فتوفّي وخلّف ولَدهُ محمّداً، وكان هو الذي يكاتبه الدعاة في البلاد، وتوفّي محمّد وخلّف أحمد والحسين، فسار الحسين إلى سَلَمِيّة من أرض حِمص، وله بها ودائع وأموال من ودائع جدّه عبدالله القدّاح، ووكلاء، وغلمان، وبقي ببغداد من أولاد القدّاح أبو الشلَغْلَغ.
وكان الحسين يدّعي أنّه الوصيّ وصاحب الأمر، والدعاة باليمن والمغرب يكاتبونه ويراسلونه؛ واتّفق أنّه جرى بحضرته حديث النساء بسَلَمِيّة، فوصفوا له امرأة رجل يهوديّ حدّاد، مات عنها زوجها، وهي في غاية الحسن، فتزوّجها، ولها ولد من الحدّاد يماثلها في الجمال، فأحبّها وحسُن موقعها معه، وأحبّ ولدها، وأدّبه، وعلّمه، فتعلّم العلم، وصارت له نفس عظيمة، وهمّة كبيرة.
فمن العلماء من أهل هذه الدعوة مَن يقول: إنّ الإمام الذي كان بسَلَمِيّة، وهو الحسين، مات ولم يكن له ولدٌ، فعهد إلى ابن إليهوديّ الحدّاد، وهو عبيدالله، وعرّفه أسرار الدعوة من قول وفعل، وأين الدُّعاة، وأعطاه الأموال والعلامات، وتقدّم إلى أصحابه بطاعته وخدمته، وأنّه الإمام والوصيّ، وزوّجه ابنة عمّه أبي الشلَغْلَغ. وهذا قول أبي القاسم الأبيض العلويّ وغيره، وجعل لنفسه نسباً، وهو عبيدالله بن الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ ابن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب.
وبعض الناس يقولون، وهم قليل: إنّ عبيدالله هذا من ولد القدّاح، وهذه الأقوال فيها ما فيها، فيا ليت شعري ما الذي حمل أبا عبدالله الشيعيّ وغيره ممّن قام بإظهار هذه الدعوة، حتّى يخرجوا هذا الأمر من أنفسهم، ويسلّموه إلى ولد يهوديّ، وهل يسامح نفسه بهذا الأمر من يعتقده ديناً يثاب عليه ؟ قال: فلمّا عهد الحسين إلى عبيدالله قال له: إنّك ستهاجر بعدي هجرة بعيدة، وتلقى محناً شديدةً؛ فتوفّي الحسين، وقام بعده عبيدالله، وانتشرت دعوته، وبذل الأموال خلاف مَن تقدّم، وأرسل إليه أبو عبدالله رجالاً من كُتامة من المغرب ليخبروه بما فتح الله عليه، وأنّهم ينتظرونه.
وشاع خبره عند الناس أيّام المكتفي فطُلب، فهرب هو وولده أبو القاسم نزار الذي وليّ بعده، وتلقّب بالقائم، وهو يومئذ غلام، وخرج معه خاصّته وموإليه يريد المغرب، وذلك أيّام زيادة الله، فلمّا انتهى إلى مصر أقام مستتراً بزيّ التجار، وكان عامل مصر حينئذ عيسى النُّوشريّ، فأتته الكتب من الخليفة بصفته وحليته، وأمر بالقبض عليه وعلى كلّ مَن يشبهه.
وكان بعض خاصّة عيسى متشيّعاً، فأخبر المهديَّ وأشار عليه بالانصراف، فخرج من مصر مع أصحابه، ومعه أموال كثيرة، فأوسع النفقة على مَن صحبه، فلمّا وصل الكتاب إلى النُّوشريّ فرّق الرسل في طلب المهديّ وخرج بنفسه فلحقه، فلمّا رآه لم يشكّ فيه، فقبض عليه، ونزل ببستان، ووكّل به، فلمّا حضر الطعام دعاه ليأكل، فأعلمه أنّه صائم، وفرّق له، وقال له: أعلمني بحقيقة حالك حتّى أُطلقك؛ فخوّفه بالله تعالى، وأنكر حاله، ولم يزل يخوّفه ويتلطّفه فأطلقه، وخلّى سبيله، وأراد أن يرسل معه مَن يوصله إلى رفقته، فقال: لا حاجة بي إلى ذلك، ودعا له.
وقيل: إنّه أعطاه في الباطن مالاً حتّى أطلقه، فرجع بعض أصحاب النُّوشريّ عليه اللوم، فندم على إطلاقه، وأراد إرسال الجيش وراءه ليردّوه، وكان المهديُّ لمّا لحق أصحابه رأى أبنه أبا القاسم قد ضيّع كلباً كان له يصيد به، وهو يبكي عليه، فعرّفه عبيده أنّهم تركوه في لبستان الذي كانوا فيه، فرجع المهديُّ بسبب الكلب، حتّى دخل البستان ومعه عبيده، فرآهم لنُّوشريُّ فسأل عنهم فقيل: إنّه فلان، وقد عاد بسبب كذا وكذا؛ فقال النُّوشريُّ لأصحابه: فبحكم الله ! أردتم أن تحملوني على قتل هذا حتّى آخذه، فلو كان يطلب ما يقال أو كان مُريباً كان يطوي المراحل، ويخفي نفسه، وما كان رجع في طلب كلب؛ وتركه.
وجدّ المهديُّ في الهرب، فلحقه لصوصٌ بموضع يقال له الطاحونة، فأخذوا بعض متاعه، وكانت عنده كتب وملاحم لآبائه، فأُخذت، فعظم أمرها عليه، فيقال إنّه لمّا خرج ابنه أبو القاسم في المرّة الأولى إلى الديار المصريّة أخذها من ذلك المكان. (3/381)
وانتهى المهديُّ وولده إلى مدينة طرابلس، وتفرّق مَن صحبه من التجار، وكان في صحبته أبو العبّاس أخو أبي عبدالله الشيعيّ، فقدّمه المهديًُّ إلى القَيروان ببعض ما معه، وأمره أن يلحق بكُتامة. فلمّا وصل أبو العبّاس إلى القَيروان وجد الخبر قد سبقه إلى زيادة الله بخبر المهديّ، فسأل عنه رفقته، فأخبروا أنّه تخلّف بطرابلس، وأنّ صاحبه أبا العبّاس بالقَيروان، فأُخذ أبو العبّاس، وقُرّر فأنكر وقال: إنّما أنا رجل تاجر صحبتُ رجلاً في القفل؛ فحبسه.
وسمع المهديُّ، فسار إلى قَسطيلة، ووصل كتاب زيادة الله إلى عامل طرابلس بأخذه، وكان المهديُّ قد أهدى له واجتمع به، فكتب العامل يخبره أنّه قد سار ولم يدركه، فلمّا وصل المهديُّ إلى قَسطيلة ترك قصد أبي عبد الله الشيعيّ، لأن أخاه أبا العبّاس كان قد أُخذ، فعلم أنّه إذا قصد أخاه تحقّقوا الأمر وقتلوه، فتركه وسار إلى سِجِلْماسة، ولّما سار من قَسطيلة وصل الرسل في طلبه فلم يوجد، ووصل إلى سِجِلماسة، فأقام بها؛ وفي كلّ ذلك عليه العيون في طريقه.
وكان صاحب سِجِلماسة رجلاً ألِيْسَع بن مدرار، فأهدى له المهديُّ، وواصله، فقرّب ألِيْسَع، وأحبّه، فأتاه كتاب زيادة الله يعرّفه أنّه الرجل الذي يدعو إليه أبو عبد الله الشيعيُّ، فقبض عليه وحبسه، فلم يزل محبوساً حتّى أخرجه أبو عبد الله على ما نذكره.
ذكر استيلاء أبي عبد الله على إفريقية وهرب زيادة الله أميرها
قد ذكرنا من حال أبي عبد الله ما تقدّم، ثمّ إنّ زيادة الله لما رأى استيلاء أبى عبد الله على البلاد، وأنّه قد فتح مدينة مِيْلة ومدينة سَطيف، وغيرهما، أخذ في جمع العساكر، وبذل الأموال، فاجتمعت إليه عساكر عظيمة، فقدّم عليهم إبراهيم بن خُنَيْش وهو من أقاربه، وكان لا يعرف الحرب، فبلغت عدّة جيشه أربعين ألفاً، وسلّم إليه الأموال والعُدد، ولم يترك بإفريقية شجاعاً إلاّ أخرجه معه، وسار إليه، فانضاف إليه مثل جيشه، فلّما وصل قسطنطينية الهواء، وهي مدينة قديمة حصينة، نزل بها، وأتاه كثير من كُتامة الذين لم يطيعوا أبا عبد الله، فقتل في طريقه كثيراً من أصحاب أبي عبدالله، وخاف أبو عبد الله منه، وجميع كُتامة، وأقام بقُسطنطينية ستّة أشهر، وأبو عبدالله متحصّن في الجبل.
فلمّا رأى إبراهيم أنّ أبا عبد الله لا يتقدّم إليه بادر وزحف بالعساكر المجتمعة إلى بلد اسمه كرمة، فأخرج إليه أبو عبد الله خيلاً اختارها ليختبر نزوله، فوافاها بالموضع المذكور، فلمّا رأى إبراهيم الخيل قصد إليها بنفسه، ولم يصحبه إليها أحدٌ من جيشه، وكانت أثقال العسكر على ظهور الدوابّ لم تحطّ، ونشبت الحرب، واقتتلوا قتالاً شديداً.
واتّصل الخبر بأبي عبدالله، فزحف بالعساكر، فوقعت الهزيمة على إبراهيم ومَن معه، فجُرح، وعُقر فرسه، وتمّت الهزيمة على الجيش جميعه، وأسلموا الأثقال بأسرها، فغنمها أبو عبدالله، وقتل منهم خلقاً كثيراً، وتمّ أمر إبراهيم إلى القَيروان، فشاشت بلاد إفريقية، وعظم أمر أبي عبد الله، واستقرّت دولته، وكتب أبو عبد الله كتاباً إلى المهديّ، وهو في سجن سِجِلماسة، يبشّره، وسيّر الكتاب مع بعض ثقاته، فدخل السجن في زيّ قصّاب يبيع اللحم، فاجتمع به وعرّفه ذلك.
وسار أبو عبد الله إلى مدينة طُبْنَة، ونصب عليها الدبابات، ونقب برجاً وبدنة، فسقط السور بعد قتال شديد، وملك البلد، فاحتمى المقدّمون بحصن البلد، فحصرهم، فطلبوا الأمان، فأمّنهم، وأمّن أهل البلد، وسار إلى مدينة بَلَزْمة، وكان قد حصرها مراراً كثيرة فلم يظفر بها، فلمّا حصرها الآن ضيّق عليها، وجدّ في القتال، ونصب عليها الدبابات، ورماها بالنار، فأحرقها، وفتحها بالسيف وقتل الرجال، وهدم الأسوار. (3/382)
واتّصلت الأخبار بزيادة الله، فعظم عليه وأخذ في الجمع والحشد، فجمع عسكراً عدّتهم اثنا عشر ألفاً، وأمرّ عليهم هارونَ بن الطُّبنيّ، فسار، واجتمع معه خلق كثير، وقصد مدينة دار ملوك، وكان أهلها قد أطاعوا أبا عبدالله، فقتل هارون أهلها، وهدم الحصن، ولقيه في طريقه خيل لأبي عبدالله كان قد أرسلها ليختبروا عسكره، فلمّا رآها العسكر اضطربوا، وصاحوا صيحة عظيمة، وهربوا من غير قتال، فظنّ أصحاب أبي عبدالله أنّها مكيدة، فلمّا ظهر أنّها هزيمة استدركوا الأمر، ووضعوا السيف، فما يحصى مَن قتلوا، وقُتل هارون أمير العسكر، وفتح أبو عبدالله مدينة تيجس صلحاً، فاشتدّ الأمر حينئذ على زيادة الله، وأخرج الأموال، وجيّش الجيوش، وخرج بنفسه إلى محاربة أبي عبدالله، فوصل إلى الأُرْبُس في سنة خمس وتسعين ومائتين، فقال له وجوه دولته: إنّك تغرّر بنفسك، فإن يكن عليك لا يبقى لنا ملجأ والرأي أن ترجع إلى مستقرّ ملكك، وترسل الجيش مع مَن تثق به، فإن كان الفتح لنا فنصل إليك، وإن كان غير ذلك فتكون ملجأ لنا.
ورجع ففعل ذلك، وسيّر الجيش، وقدّم عليه رجلاً من بني عمّه يقال له إبراهيم بن أبي الأغلب، وكان شجاعاًن وبلغ أبا عبدالله الخبر، وكان أهل باغاية قد كاتبوه بالطاعة، فسار إليهم، فلمّا قر منها هرب عاملها إلى الاُربُس، فدخلها أبو عبدالله، وترك بها جنداً، وعاد إلى إنكِجَان، ووصل الخبر إلى زيادة الله، فزاده غمّاً وحوناً، فقال له إنسان كان يضحّكه: يا مولانا لقد عملتُ بيت شعر، فعسى تجعل من يلحّنه وتشرب عليه واترك هذا الحزن؛ فقال: ما هو ؟ فقال المضحك للمغّنين: غنّوا شعراً كذا، وقولوا بعد فراغ كلّ بيت:
اشرب واسقينا من القرن يكفينا
فلمّا غنّوا طرب زيادة الله، وشرب، وانهمك في الأكل والشرب والشهوات، فلمّا رأى ذلك أصحابه ساعدوه على مراده.
ثمّ إنّ أبا عبدالله أخرج إلى مدينة مَجَانةَ فافتتحها عنوةً، وقتل عاملها، وسيّر عسكراً آخر إلى مدينة تيفاش، فملكها وأمّن أهلها.
وقصد جماعة من رؤساء القبائل أبا عبدالله يطلبون منه الأمان فأمّنهم، وسار بنفسه إلى مسكيانة ثمّ إلى تَبِسّةَ، ثم إلى مدبرة، فوجد فيها أهل قصر الإفريقي ومدينة مَرمَجَنّة، ومدينة مَجَانَة، وأخلاطاً من الناس قد التجأوا إليها وتحصّنوا فيها، وهي حصينة، فنزل عليها، وقاتلها، فأصابه علّة الحصى، وكانت تعتاده، فشغل بنفسه، وطلب أهلها الأمان فأمّنهم بعض أهل العسكر، ففتحوا الحصن، فدخلها العسكر، ووضعوا السيف، وانتهبوا.
وبلغ ذلك أبا عبدالله، فعظم عليه، ورحل، فنزل على القصرين من قمودة وطلب أهلها الأمان فأمّنهم، وبلغ إبراهيم بن أبي الأغلب، أمير الجيش الذي سيره زيادة الله، أنّ أبا عبدالله يريد أنت يقصد زيادة الله برَقّادةَ، ولم يكن مع زيادة الله كبير عسكر، فخرج من الأُربُس ونزل دردمين، وسيّر أبو عبدالله سرّية إلى دردمين، فجرى بينهما وبين أصحاب زيادة الله قتال، فقُتل من أصحاب أبي عبدالله جماعة، وانهزم الباقون.
واستبطأ أبو عبدالله خبرهم، فسار في جميع عساكره، فلقي أصحابه منهزمين، فلمّا رأوه قويت قلوبهم، ورجعوا، وكرّوا على أصحاب إبراهيم، وقتلوا منهم جماعة، وحجز الليل بينهم.
ثمّ سار أبو عبدالله إلى قَسطيلة، فحصرها، فقاتله أهلها، ثمّ طلبوا الأمان فأمّنهم، وأخذ ما كان لزيادة الله فيها من الأموال والعُدد، ورحل إلى قَفْصَةَ، فطلب أهلها الأمان فأمّنهم، ورجع إلى باغاية، فترك بها جيشاً، وعاد إلى جبل إنكِجَان.
فسار إبراهيم بن أبي الأغلب في جيشه إلى باغاية وحصرها، فبلغ الخبر أبا عبدالله، فجمع عسكره وسار مجدّاً إليها، ووجّه اثني عشر ألف فارس، وأمر مقدّمهم أن يسير إلى باغاية، فإن كان إبراهيم قد رحل عنها فلا يجاوز فجّ العَرعار، فمضى الجيشُ، وكان أصحاب أبي عبد الله الذين في باغاية قد قاتلوا عسكر إبراهيم قتالاً شديداً، فلمّا رأى صبرهم عجب هو وأصحابه منهم، فأرعب ذلك قلوبهم؛ ثمّ بلغهم قرب العسكر منهم، فعاد إبراهيم بعساكره، فوصل عسكر أبي عبدالله، فلم يرَ واحداً، فنهبوا ما وجدوا وعادوا. (3/383)
ورجع إبراهيم إلى الأُربُس. ولمّا دخل فصل الربيع، وطاب الزمان، جمع أبو عبدالله عساكره، فبلغت مائتَيْ ألف فارس وراجل، واجتمع من عساكر زيادة الله بالأُربُس مع إبراهيم ما لا يُحصى، وسار أبو عبدالله، أوّل جُمادى الآخرة سنة ستّ وتسعين ومائتين، فالتقوا، واقتتلوا أشدّ قتال، وطال زمانه، وظهر أصحاب زيادة الله، فلمّا رأى ذلك أبو عبدالله اختار من أصحابه ستّمائة راجل، وأمرهم أن يأتوا عسكر زيادة الله من خلفهم، فمضوا لما أمرهم في الطريق الذي أمرهم بسلوكه.
واتّفق أنّ إبراهيم فعل مثل ذلك، فالتقى الطائفتان، فاقتتلوا في مضيق هناك فانهزم أصحاب إبراهيم، ووقع الصوت في عسكره بكمين أبي عبدالله وانهزموا، وتفرّقوا، وهرب كلّ قوم إلى جهة بلادهم، وهرب إبراهيم وبعض من معه إلى القَيروان، وتبعهم أصحاب أبي عبدالله يقتلون ويأسرون، وغنموا الأموال والخيل والعُدَد، ودخل أصحابه مدينة الأُربُس فقتلوا بها خلقاً عظيماً، ودخل كثير من أهلها الجامع فقُتل فيه أكثر من ثلاثة آلاف ونهبوا البلد، وكانت الوقعة أواخر جمادى الآخرة، وانصرف أبو عبدالله إلى قمودة.
فلمّا وصل خبر الهزيمة إلى زيادة الله هرب إلى الديار المصريّة، وكان من أمره ما تقدّم ذكره، ولمّا هرب زيادة الله هرب أهل مدينة رقّادة على وجوههم، في الليل، إلى القصر القديم، وإلى القيروان، وسُوسة، ودخل أهل القَيروان رقّادة ونهبوا ما فيها، وأخذ القويُّ الضعيفَ، ونُهبت قصور بني الأغلب، وبقي النهب ستّة أيّام.
ووصل إبراهيم بن أبي الأغلب إلى القَيروان، فقصد قصر الإِمارة، واجتمع إليه أهل القَيروان، ونادى مناديه بالأمان، وتسكين الناس، وذكر لهم أحوال زيادة الله، وما كان عليه، حتّى أفسد ملكه؛ وصغّر أمر أبي عبد الله الشيعيّ، ووعدهم أن يقاتل عنهم، ويحمي حريمهم وبلدهم، وطلب منهم المساعدة بالسمع والطاعة والأموال، فقالوا: إنّما نحن فقهاء، وعامّة، وتجار، وما في أموالنا ما يبلغ غرضك، وليس لنا بالقتال طاقة؛ فأمرهم بالانصراف، فلمّا خرجوا من عنده وأعلموا الناس بما قاله صاحوا به: اخرج عنّا، فما لك عندنا سمع ولا طاعة ! وشتموه، فخرج عنهم وهم يرجمونه.
ولمّا بلغ أبا عبد الله هرب زيادة الله كان بناحية سَبِيبَةَ، ورحل فنزل بوادي النمل، وقدّم بين يديه عروبة بن يوسف، وحسن بن أبي خنزير، في ألف فارس إلى رقّادة، فوجدوا الناس ينهبون ما بقي من الأمتعة والأثاث، فأمّنوهم ولم يتعرّضوا لأحد، وتركوا لكلّ واحد ما حمله، فأتى الناس إلى القَيروان، فأخبروه الخبر، ففرح أهلها.
وخرج الفقهاء ووجوه البلد إلى لقاء أبي عبدالله، فلقوه، وسلّموا عليه، وهنّأوه بالفتح، فردّ عليهم ردّاً حسناً، وحدّثهم، وأعطاهم الأمان، فأعجبهم ذلك وسرّهم، وذمّوا زيادة الله، وذكروا مساوئه، فقال لهم: ما كان إلاّ قويّاً، وله مَنَعة، ودولة شامخة، وما قصرّ في مدافعته، ولكنّ أمر الله لا يُعانَد ولا يُدافَع ! فأمسكوا عن الكلام، ورجعوا إلى القَيروان.
ودخل رقّادة يوم السبت، مستهلّ رجب من سنة ستّ وتسعين ومائتين، فنزل ببعض قصورها، وفرّق دورها على كُتامة، ولم يكن بقي أحد من أهلها فيها، وأمر فنودي بالأمان، فرجع الناس إلى أوطانهم، وأخرج العمّال إلى البلاد، وطلب أهلَ الشرّ فقتلهم، وأمر أن يجمع ما كان لزيادة الله من الأموال، والسلاح، وغير ذلك، فاجتمع كثير منه، وفيه كثير من الجواري لهنّ مقدار وحظّ من الجمال، فسأل عمّن يكفلهنّ، فذُكر له امرأة صالحة كانت لزيادة الله، فأحضرها، وأحسن إليها، وأمر بحفظهنّ، وأمر لهنّ بما يصلحهنّ ولم ينظر إلى واحدة منهنّ.
ولمّا حضرت الجمعة أمر الخطباء بالقَيروان ورَقّادة، فخطبوا ولم يذكروا أحداً، وأمر بضرب السكّة، وأن لا يُنقش عليها اسمٌ، ولكنّه جعل مكان الاسم من وجه: بلغت حجّة الله؛ ومن الوجه الآخر: تفرّق أعداء الله؛ ونقش على السلاح: عُدّةٌ في سبيل الله؛ ووسم الخيل على أفخاذها: الملك لله؛ وأقام على ما كان عليه من لبس الدون الخشن، والقليل من الطعام الغليظ.
ذكر مسير أبي عبد الله إلى سِجِلماسة وظهور المهديّ (3/384)
لمّا استقرّت الأمور لأبي عبد الله في رقّادة وسائر بلاد أفريقية أتاه أخوه أبو العبّاس محمّد، ففرح به، وكان هو الكبير، فسار أبو عبد الله في رمضان من السنة من رقّادة، واستخلف على إفريقية أخاه أبا العبّاس، وأبا زاكي، وسار في جيوش عظيمة، فاهتزّ المغرب لخروجه، وخافته زَناتة، وزالت القبائل عن طريقه، وجاءته رسلهم ودخلوا في طاعته.
فلمّا قر من سِجِلْماسة، وانتهى خبره إلى ألِيْسَع بن مِدرار، أمير سجلماسة، أرسل إلى المهديّ، وهو في حبسه، على ما ذكرناه، يسأله عن نسبه وحاله، وهل إليه قصد أبو عبد الله ؟ فحلف له المهديّ أنّه ما رأى أبا عبدالله؛ ولا عرفه، وإنّما أنا رجل تاجر؛ فاعتُقل في دار وحدة، وكذلك فعل بولده أبي القاسم، وجعل عليهما الحرس، وقرّر ولده أيضاً، فما حال عن كلام أبيه، وقرّر رجلاً كانوا معه، وضربهم، فلم يقرّوا بشيء.
وسمع أبو عبد الله ذلك، فشقّ عليه، فأرسل إلى ألِيْسَع يتلطّفه، وأنّه لم يقصد الحرب، وإنّما له حاجة مهمّة عنده، ووعده الجميل، فرمى الكتاب، وقتل الرسل، فعاوده بالملاطفة خوفاً على المهديّ، ولم يذكره له، فقتل الرسول أيضاً، فأسرع أبو عبد الله في السير، ونزل عليه، فخرج إليه ألِيْسَع، وقاتله يومه ذلك، وافترقوا، فلمّا جنّهم الليل هرب أليسع وأصحابه من أهله وبني عمّه، وبات أبو عبدالله ومَن معه فيغمّ عظيم لا يعلمون ما صنع بالمهديّ وولده، فلمّا أصبح خرج إليه أهل البلد، وأعلموه بهرب أليسع، فدخل هو وأصحابه البلد، وأتوا المكان الذي فيه المهديّ، فاستخرجه، واستخرج ولده، فكانت في الناس مسرّة عظيمة كادت تذهب بعقولهم، فأركبهما، ومشى هو ورؤساء القبائل بين أيديهما، وأبو عبدالله يقول للناس: هذا مولاكم، وهو يبكي من شدّة الفرح، حتّى وصل إلى فسطاط قد ضُرب له، فنزل فيه، وأمر بطلب أليسع، فطُلب، فأُدرك، فأُخذ وضُرب بالسياط ثمّ قُتل.
فلمّا ظهر المهديُّ أقام بسِجِلماسة أربعين يوماً، وسار إلى أفريقية، وأحضر الأموال من إنكجان، فجعلها أحمالاً وأخذها معه، ووصل إلى رقّادة العشر الأخير من ربيع الآخر من سنة سبع وتسعين ومائتين، وزال ملك بني الأغلب، وملك بني مدرار الذين منهم ألِيسع وكان لهم ثلاثون ومائة سنة منفردين بسجلماسة، وزال ملك بني رستم من تاهرَت، ولهم ستون ومائة سنة تفرّدوا بتاهَرت، وملك المهديُّ جميع ذلك، فلمّا قرب من رقّادة تلقّاه أهلها، وأهل القَيروان، وأبو عبدالله، ورؤساء كُتامة مشاةً بين يديه، وولده خلفه، فسلّموا عليه، فردّ جميلاً، وأمرهم بالانصراف، ونزل بقصر من قصور رقّادة، وأمر يوم الجمعة بذكر اسمه في الخطبة في البلاد، وتلقّب بالمهديّ أمير المؤمنين.
وجلس بعد الجمعة رجل يُعرف بالشريف، ومعه الدعاة، وأحضروا الناس بالعنف والشدّة، ودعوهم إلى مذهبهم، فمن أجاب أُحسن إليه، ومَن أبى حُبس، فلم يدخل في مذهبهم إلاّ بعض الناس، وهم قليل، وقُتل كثير ممّن لم يوافقهم على قولهم.
وعَرض عليه أبو عبدالله جواريَ زيادة الله، فاختار منهنّ كثيراً لنفسه ولولده أيضاً، وفرّق ما بقي على وجوه كُتامة، وقسّم عليهم أعمال إفريقية، ودوّن الدواوين، وجبى الأموال، واستقرّت قدمه، ودانت له أهل البلاد، واستعمل العمّال عليها جميعها؛ فاستعمل على جزيرة صِقلّية الحسن بن أحمد ابن أبي خنزير، فوصل إلى مازَرَ عاشر ذي الحجّة سنة سبع وتسعين ومائتين، فولّى أخاه على جرجنت، وجعل قاضياً بصقلّية إسحاق بن المنهال، وهو أوّل قاضٍ تولّى بها للمهديّ العلويّ.
وبقي ابن أبي خنزير إلى سنة ثمان وتسعين، فسار في عسكره إلى دَمَنْشَ، فغنم، وسبى، وأحر، وعاد فبقي مدّة يسيرة، وأساء السيرة في أهلها، فثاروا به، وأخذوه وحبسوه، وكتبوا إلى المهديّ بذلك، واعتذروا، فقبل عذرهم، واستعمل عليهم عليَّ بن عمر البَلَويَّ، فوصل آخر ذي الحجّة سنة تسع وتسعين ومائتين.
ذكر قتل أبي عبد الله الشيعيّ وأخيه أبي العبّاس
في سنة ثمان وتسعين ومائتين قُتل أبو عبد الله الشيعيُّ، قتله المهديَّ عبيد الله. (3/385)
وسبب ذلك أنّ المهديّ لمّا استقامت له البلاد، ودانت له العباد، وباشر الأمور بنفسه، وكفّ يد أبي عبد الله، ويد أخيه أبي العبّاس، داخل أبا العبّاس الحسد، وعظُم عليه الفطام عن الأمر والنهي، والأخذ والعطاء، فأقبل يُزري على المهديّ في مجلس أخيه، ويتكلّم فيه، وأخوه ينهاه، ولا يرضى فعله، فلا يزيده ذلك إلاّ لجاجاً.
ثمّ إنّه أظهر أبا عبدالله على ما في نفسه، وقال له: ملكتَ أمراً، فجئت بمن أزالك عنه، وكان الواجب عليه أن لا يسقط حقّك.
ولم يزل حتّى أثّر في قلب أخيه، فقال يوماً للمهديّ: لو كنتَ تجلس في قصرك، وتتركني مع كُتامة آمرهم وأنهاهم، لأنّي عارفٌ بعاداتهم، لكان أهيب لك في أعين الناس.
وكان المهديُّ سمع شيئاً ممّا يجري بين أبي عبد الله وأخيه، فتحقّق ذلك، غير أنّه ردّ ردّاً لطيفاً، فصار أبو العبّاس يشير إلى المقدّمين بشيء من ذلك، فمن رأى منه قبولاً كشف له ما في نفسه، وقال: ما جازاكم على ما فعلتم، وذكر لهم الأموال التي أخذها المهديُّ من إنكِجَان، وقال: هلاّ قسّمها فيكم ! وكلّ ذلك يتّصل بالمهديّ، وهو يتغافل، وأبو عبدالله يداري، ثمّ صار أبو العبّاس يقول: إن هذا ليس الذي كنّا نعتقد طاعته، وندعو إليه لأنّ المهديّ يختم بالحجّة، ويأتي بالآيات الباهرة، فأخذ قوله بقلوب كثير من الناس، منهم إنسان من كُتامة يقال له شيخ المشايخ، فواجه المهديَّ بذلك، وقال: إن كنتَ المهديَّ فأظهر لنا آيةً، فقد شككنا فيك؛ فقتله المهديُّ، فخافه أبو عبدالله، وعلم أنّ المهديّ قد تغيّر عليه، فاتّفق هو وأخوه ومن معهما على الاجتماع عند أبي زاكي، وعزموا على قتل المهدي واجتمع معهم قبائل كُتامة إلاّ قليلاً منهم.
وكان معهم رجل يُظهر أنّه منهم، وينقل ما يجري إلى المهديّ، ودخلوا عليه مراراً فلم يجسروا على قتله، فاتّفق أنّهم اجتمعوا ليلة عند أبي زاكي، فلمّا أصبحوا لبس أبو عبدالله ثوبه مقلوباً ودخل على المهديّ، فرأى ثوبه، فلم يعرّفه به، ثمّ دخل عليه ثلاثة أيّام والقميص بحاله، فقال له المهديُّ: ما هذا الأمر الذي أذهلك عن إصلاح ثوبك ؟ فهو مقلوب منذ ثلاثة أيّام فعلمتُ أنّك ما نزعتَه؛ فقال: ما علمتُ بذلك إلاّ ساعتي هذه؛ قال: أين كنتَ البارحة والليالي قبلها ؟ فسكت أبو عبدالله؛ فقال: أليس بتّ في دار أبي زاكي ؟ قال: بلى. قال: وما الذي أخرجك من دارك ؟ قال: خفتُ. قال: وهل يخاف الإنسان إلا من عدوّه ؟ فعلم أنّ أمره ظهر للمهديّ، فخرج وأخبر أصحابه، وخافوا، وتخلّفوا عن الحضور.
فذُكر ذلك للمهديّ، وعنده رجل يقال له ابن القديم، كان من جملة القوم، وعنده أموال كثيرة، من أموال زيادة الله، فقال: يا مولاي إن شئتِ أتيتُك بهم، ومضى فجاء بهم، فعلم المهديُّ صحّة ما قيل عنه، فلاطفهم وفرّقهم في البلاد، وجعل أبا زاكي والياً على طرابلس، وكتب إلى عاملها أن يقتله عند وصوله، فلمّا وصلها قتله عاملها، وأرسل رأسه إلى المهديّ، فهرب ابن القديم، فأُخذ، فأمر المهديُّ بقتله فقُتل.
وأمر المهديُّ عُرُوبة ورجالاً معه أن يرصدوا أبا عبدالله وأخاه أبا العبّاس، ويقتلوهما، فلمّا وصلا إلى قرب القصر حمل عروبة على أبي عبدالله، فقال: لا تفعل يا بنيّ ! فقال: الذي أمَرتَنا بطاعته أمرنا بقتلك؛ فقُتل هو وأخوه، وكان قتلهما في اليوم الذي قُتل فيه أبو زاكي، فقيل: إنّ المهديّ صلّى على أبي عبدالله، وقال: رحمك الله: أبا عبدالله، وجزاك خيراً بجميل سعيك.
وثارت فتنة بسبب قتلهما، وجرّد أصحابهما السيوف، فركب المهديُّ وأمّن الناس، فسكنوا، ثمّ تَتّبعهم حتّى قتلهم.
وثارت فتنة ثانية بين كُتامة وأهل القَيروان، قُتل فيها خلق كثير، فخرج المهديُّ وسكّن الفتنة، وكفّ الدعاة عن طلب التشيّع من العامّة.
ولمّا استقامت الدولة للمهديّ عهد إلى ولده أبي القاسم نِزار بالخلافة، ورجعت كُتامة إلى بلادهم، فأقاموا طفلاً وقالوا: هذا هو المهديُّ، ثمّ زعموا أنّه نبيّ يوحى إليه، وزعموا أنّ أبا عبدالله لم يمُتْ، وزحفوا إلى مدينة مِيلة، فبلغ ذلك المهديَّ فأخرج ابنه أبا القاسم، فحصرهم، فقاتلوه فهزمهم واتّبعهم حتّى أجلاهم إلى البحر، وقتل منهم خلقاً عظيماً، وقتل الطفل الذي أقاموه.
وخالف عليه أهل صقلّية مع ابن وهب، فأنفذ إليهم أسطولاً، ففتحها وأتى بابن وهب فقتله. (3/386)
وخالف عليه أهل تاهَرت، فعزاها، ففتحها، وقتل أهل الخلاف، وقتل جماعة من بني الأغلب برقّادة كانوا قد رجعوا إليها بعد وفاة زيادة الله.
ذكر عدّة حوادث
فيها سُيّر القاسم بن سيما وجماعة من القوّاد في طلب الحسين بن حَمدان، فساروا حتّى بلغوا قَرِقِيسياء والرَّحَبة، فلم يظفروا به، فكتب المقتدر إلى أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان، وهو الأمير بالموصِل، يأمره بطلب أخيه الحسين، فسار هو والقاسم بن سيما، فالتقوا عند تَكريت، فانهزم الحسين، فأرسل أخاه إبراهيم بن حَمدان يطلب الأمان، فأُجيب إلى ذلك، ودخل بغداد، وخُلع عليه، وعُقد له على قُمّ وقاشان، فسار غليها وصرف عنها العبّاس بن عمرو.
وفيها وصل بارس غلام إسماعيل السامانيّ، وقُلّد ديار ربيعة، وقد تقدّم ذكره.
وفيها كانت وقعة بين طاهر بن محمّد بن عمرو بن الليث وبين سُبكرى غلام عمرو، فأسر طاهراً ووجّهه وأخاه يعقوب بن محمّد بن عمرو إلى المقتدر مع كاتبه عبد الرحمن بن جعفر الشيرازيّ، فأُدخلا بغداد أسيرين، فحُبسا، وكان سُبكرى قد تغلّب على فارس بغير أمر الخليفة، فلمّا وصل كاتبه قرّر أمره على مال يحمله، وكان وصوله إلى بغداد سنة سبع وتسعين.
وفيها خُلع على مؤنس المظفَّر الخادم، وأُمر بالمسير إلى غزو الروم، فسار في جمع كثيف، فغزا من ناحية مَلَطْية، ومعه أبو الأغر السلميُّ، فظفر وغنم وأسر منهم جماعة وعاد.
وفيها قّلّد يوسف بن أبي الساج أعمال أرمينية وأذربيجان، وضمنها بمائة ألف وعشرين ألف دينار، فسار إليها من الدَّينَور.
وفيها سقط ببغداد ثلج كثير من بُكرة إلى العصر، فصار على الأرض أربع أصابع، وكان معه برد شديد، وجمد الماء والخلّ والبيض والأدهان، وهلك النخل، وكثير من الشجر؛ وحجّ بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشميُّ.
وفيها توفّي محمّد بن طاهر بن عبدالله بن طاهر.
وفيها قُتل سَوْسَن حاجب المقتدر، وسبب ذلك أنّه كان له أثر في أمر ابن المعتزّ، فلمّا بويع ابن المعتّز واستحجب غيره لزم المقتدر، فلمّا استوزر ابن الفرات تفرّد بالأمور، فعاداه سوسن، وسعى في فساد حاله، فأعلم ابنُ الفرات المقتدر بالله بحال سوسن، وأنّه كان ممّن أعان ابن المعتّز فقبض عليه وقتله.
وفيها توفّي محمّد بن داود بن الجرّاح عمّ عليّ بن عيسى الوزير، وكان عالماً بالكتابة.
وفيها توفّي عبدالله بن جعفر بن خاقان، وأبو عبد الرحمن الدهكانيُّ.

This site was last updated 07/15/11