الأهرام 26/7/2007م السنة 131 العدد 44061 م عن مقالة بعنوان [ ديوان الحياة المعاصرة - معركة التجديد النصفي لمجلس الشيوخ!] بقلم المؤرخ المعاصر العلامة : د يونان لبيب رزق
الحلقة693
لأول مرة في تاريخ البرلمان المصري في ظل دستور1923 يصبح هناك مجلسان متنافران; نواب وبه أقلية وفدية, وشيوخ صاحب( غلبة), وليس( أغلبية) وفدية, وقد دعانا إلي هذا التوصيف أن الوفد خاض انتخابات عام1936 في ظل الجبهة الوطنية التي اتفق زعماؤها علي نظام لتوزيع المقاعد, مما سمح للأحزاب الأخري أن تحصل علي أكثر من حجمها في المجلسين, وهو ما تكرر بالنسبة لتعيينات مجلس الشيوخ.بدت الغلبة وليست الأغلبية أيضا في رئاسة المجلس, فقد نجحت حكومة محمد محمود الثالثة بعد تأليفها في أواخر إبريل عام1938 في إغراء مجلس الشيوخ علي اختيار محمد محمود خليل بك رئيسا للمجلس في8 من الشهر التالي, وهو شخصية مستقلة, وكان منحازا للثقافة الفرنسية, وخاصة وأنه كان متزوجا من سيدة باريسية, ثم أنه اشتهر بحب انتقاء اللوحات الفنية القيمة, حتي إن الدولة بعد وفاته حولت بيته إلي متحف للفن
ولم بلجأ مستشارو الملك فاروق بعد إقالة وزارة النحاس في آخر أيام1938 لما كان يلجأ إليه سلفه بتعطيل الدستور, كما حدث في عهد وزارة محمد محمود(1928-1929), أو إلغائه كلية, فيما جري في عهد صدقي, مما كان يتيح للقصر التخلص من المجلسين, وفضلوا الاكتفاء بحل المجلس الصغير, النواب, وإعادة تشكيله من خلال انتخابات يعترف المؤرخون أنها كانت أول انتخابات يتم تزييفها في التاريخ السياسي المصري, وقد تصور هؤلاء أنه يمكن ترويض المجلس الكبير, الذي لا تسمح نصوص الدستور بحله, والذي يتم تجديد نصف أعضائه, كل خمس سنوات, ولم يكن تصورا في محله.
فقد ظل الوفديون والمستقلون يشكلون النسبة الأكبر من أعضاء المجلس,64 للأوائل و47 للأخيرين, بمجموع111 مقعدا, بينما لم يكن للحكومة أو الأحزاب التي تمثلها, السعديون والدستوريون والاتحاديون والوطنيون أكثر من36 مقعدا.
ووقف المجلس الكبير الذي تصور رجال القصر أنه يمكن تقليم أظافره مثل' العقلة في الزور' يبدي الملاحظات علي قرارات المجلس الصغير, وكان أشهرها عند عرض الموازنة المالية للدولة خلال صيف1939, والتي أدت إلي معركة علنية خاضت فيها الكتابات الصحفية, ولم تنته إلا بعد أن سحبت وزارة المالية بعض المواد محل الاختلاف, ولكن رجال القصر حرصوا بعد ذلك علي تحين الفرصة, ليس بتغيير الدستور, وإنما بتغيير بنية المجلس المشاكس, وكان عليهم الانتظار بعض الوقت إلي أن يحين موعد التجديد النصفي للمجلس عام1941, وكان مطلوبا من دولة حسين سري باشا رئيس الوزراء وقتئذ أن يقوم علي تنفيذ الخطة, مما نتج عنه معركة دستورية لا يعرف عنها الكثيرون شيئا, اللهم إلا الإشارة التي جاءت في مذكرات الدكتور محمد حسين هيكل, وكان وزيرا للمعارف في الوزارة' السرية', والتي قال فيها إنه بعد تولي عبد الحميد بدوي باشا وزارة المالية كان يحل موعد تجديده النصفي في7 مايو من ذلك العام, وكان واجبا إجراء القرعة ليتسني إجراء انتخابات التجديد النصفي. وقد رأي سري باشا, ورجال القصر طبعا أن الخير في عدم إجراء الانتخابات بحجة قيام الحرب وعدم تعريض البلاد إلي هزة لا تتفق مع ما يقتضيه المجهود الحربي من طمأنينة, الأمر الذي وافق عليه بدوي باشا, وزاد علي ذلك بالقول إن تأجيل الانتخابات لمجلس الشيوخ لا يقتضي تأجيل التعيين محل الأعضاء المعينين الذين انتهت مدتهم أسوة بزملائهم المنتخبين' فخروجهم وتعيين غيرهم مكانهم لا يترتب عليه إضرار بالمجهود الحربي'. وهي الفتوي التي لقيت هوي في نفوس رجال القصر, وبالطبع لم تستقبل بأي حماس في دوائر المعارضة الوفدية التي اعتبرتها محاولة للالتفاف علي الوجود الوفدي القوي في مجلس الشيوخ.
وقد ساعد المناخ القائم في البلاد وقتئذ أصحاب هذا الرأي أن يسيروا قدما في استكمال مخططهم, فعلي مرمي قريب هناك المعركة الطاحنة بين الحلفاء وقوات روميل التي كانت قد اخترقت الصحراء الغربية متجهة إلي الإسكندرية, كما جاءت الأنباء في نفس الوقت عن محاولة هروب عزيز المصري باشا واثنين من الطيارين علي متن طائرة عسكرية مصرية, مما زاد من توجس سري باشا.
وبدت خطة الوزارة بسيطة بتطبيق ما نص عليه الدستور بإجراء القرعة لتحديد عدد الخارجين وعدد الباقين, وبينما بلغ عدد الأوائل73 استبقت القرعة74 شيخا, ولأن الوفد كان يحظي بغالبية كبيرة في المجلس فقد أخرجت القرعة32 من أعضائه, كما خرج من المستقلين ثلاثة وعشرين, وذلك في الجلسة التي انعقدت يوم7 مارس1941, وكانت جلسة نادرة من جلسات البرلمان المصري.
نترك لمراسل الأهرام في قاعة المجلس وصفها, فقد تم الاتفاق بعد مناقشات ضافية, طمأن خلالها رئيس الوزاء الأعضاء أن انتخابات التجديد النصفي ستجري في جو من الحرية, ولم يكن صادقا في هذا فقد كان تم الاتفاق وقتئذ علي خطة أخري اتضحت معالمها فيما بعد.
المهم تقرر أن تجري القرعة بناء علي اقتراح من العضو محمد علوي الجزار بك علي دفعتين متواليتين; أولاهما للأعضاء المنتخبين والثانية للأعضاء المعينين علي أن يتولاها الرئيس والسكرتيرون البرلمانيون وثلاثة من الأعضاء يختارهم المجلس, وأعدت اللجنة أوراق القرعة فوضعت88 ورقة في كيس وكتب علي44 منها( يخرج), وعلي44 منها( يبقي) ثم نودي علي أعضاء المجلس المنتخبين بأسمائهم وجعل كل منهم يسحب ورقة يقرأها رئيس المجلس, وهو ما حدث بالنسبة للمعينين, ونظن أنها كانت لحظة رهيبة للمشاركين, فبقاؤه أو خروجه من عضوية المجلس يعتمد علي الصدفة, ولكنه قانون القرعة!
وفي تحليل لمحرر الأهرام البرلماني لاحظ أن عملية القرعة هذه لم تجر من قبل إلا عام1930, وإن عددا ممن خرجوا في ذلك العام اختارتهم القرعة مرة أخري للخروج, حتي إنه أسماهم' أصحاب السوابق في الخروج' وكان منهم إبراهيم سيد أحمد بك وأحمد علي باشا وسيد قرشي بك والأستاذ عبد الرحيم مهنا وعبد الحكيم عبد الفتاح بك وعلي عبد الرازق بك والفريق علي فهمي باشا ومحمد حفني الطرزي باشا ومحمد شفيق باشا وأخيرا محمد علوي الجزار الذي تم إجراء القرعة بناء علي اقتراحه, ولم يكن يعلم وقتها أنه سيكون أحد ضحاياها.
وفي جانب آخر من التحليل لاحظ الرجل أن غالبية اللجان قد خرج أكثر من نصف أعضائها; خمسة من عشرة من لجنة المالية, وسبعة من اثني عشر من لجنة العدل, وثمانية من اثني عشر من لجنة الدفاع الوطني والسودان, وتسعة من اثني عشر من لجنة الأحكام العرفية, وثمانية من خمسة عشر من لجنة لشئون الدستورية, وثلاثة من اثني عشر من لجنة الخارجية وخمسة من اثني عشر من لجنة الأوقاف, وكان من الطبيعي أن ترتبك أعمال أعضاء اللجان الباقين من جراء ذلك, وكان علي الجميع انتظار إعادة تشكيل المجلس واستكمال اللجان لتكويناتها, الأمر الذي لم يتم بسهولة!
بعد مداولات بين الحكومة والقصر, وبعد أن تم إرجاء الانتخابات المزمعة كشفت وزارة حسين سري عن السياسة الجديدة حيال هذه الانتخابات, ففي جلسة عقدها المجلس, أو من بقي من أعضائه يوم24 مارس عام1941 طلب رئيس الوزراء إلقاء كلمة كشف فيها عما كان يحاك للمجلس القديم.
ولأهمية ما جاء في هذه الكلمة بالنسبة للتاريخ البرلماني المصري نقتطف منها بعض العبارات الطويلة, والدالة في نفس الوقت.
قال:' أعلنت الحكومة غير مرة حرصها علي تنفيذ الدستور, ومنذ تمت عملية الاقتراع جعلت تقلب المسألة علي كل وجوهها. ولم تعد الحالة الدولية بالصفاء النسبي الذي وجد في صدر هذا العام فقد جدت حوادث وتوالت نذر تواتر معها أن الحرب ستدخل في هذا الربيع في دور خطير ليست هذه البلاد بعيدة عنه ويجب عليها أن تفرغ لمراقبة تطوراته', وخلص من ذلك إلي القول إن الحكومة رأت والحال كذلك أن إجراء الانتخابات في مثل هذه الظروف غير ميسور وأن نفس الظروف لا تسمح بتحديد الميعاد الذي يمكن أن تباشر فيه.
وانتهي من ذلك إلي القول بأنه ليس ما يمنع من إجراء التعيينات من خرج من المعينين بطريق القرعة.. فإذا كانت الضرورة تقوم علي عدم مباشرة الانتخابات فليس ثمة ما يمنع من التعيين, وكانت المفاجأة الثانية في هذه الجلسة التاريخية عندما أخرج من جيبه نص مرسوم ملكي وبدأ يقرأه في تؤدة أثارت دهشة الحاضرين.
تضمن المرسوم الملكي مادتين:
الأولي.. إلي أن يصدر أمر آخر, يوقف انتخاب أعضاء لمجلس الشيوخ بدلا من نصف أعضاء الشيوخ المنتخبين الذين خرجوا بالقرعة وتمتد نيابة الأعضاء الخارجين بتلك القرعة.
الثانية: يعين أعضاء بمجلس الشيوخ بدلا من الأعضاء المعينين الذين خرجوا بالقرعة السابق الإشارة إليها, وبدا واضحا أن الهدف الأساسي التخلص من أعضاء الوفد في المجلس القديم, الأمر الذي لاحظه مندوب الأهرام البرلماني في التحليل الذي قدمه عن المرسوم.
لاحظ صاحبنا أنه قد أعيد تعيين14 شيخا ممن كانت أبعدتهم القرعة في المرة الأولي, وكان أغلبهم من وزراء الحكومة, علي رأسهم حسين سري باشا ومحمد حسين هيكل باشا ومدحت يكن بك ولم يكن فيهم سوي وفدي واحد هو الأستاذ يوسف أحمد الجندي, ذرا للرماد في العيون, أو علي الأقل اطمئنانا لعدم رفضه لهذه المكرمة الملكية, فيما فسره الدكتور هيكل في مذكراته بأن القرار الملكي لم يحدث أية رجة' اعتمادا علي تشبث الأعضاء بعضويتهم, وعلي قبول الأستاذ يوسف الجندي عضويته الجديدة وشكره للملك'!
أما من لم يعد تعيينهم فكانوا أربعة من المستقلين وأحد عشر من الوفديين, الذين فقدوا بذلك نسبة من أغلبيتهم, ليحل محلهم اثنان من السعديين وثلاثة من الأحرار الدستوريين واثنان من الاتحاديين الشعبيين وواحد من الحزب الوطني, والبقية تم اختيارهم من المستقلين من أعضاء الحكومة.
وتصور حسين سري ورجال القصر أنهم قد نجحوا في تقليص النفوذ الوفدي في' المجلس الكبير' بعد التخلص من ربع المعينين من رجاله, ولم يكن هذا التصور صحيحا, فإن يوسف الجندي بقي رغم المجاملة الملكية شوكة في حلق الحكومة, وانضم إلي سائر النواب الوفديين في معارضتها, خاصة فيما يتصل بقوانين المطبوعات التي استهدفت من ورائها فرض مزيد من القيود علي حرية الصحافة, ثم أنه من خارج قاعات المجلس ارتفعت الاحتجاجات علي تصرف الحكومة' السرية', الأمر الذي شاركت فيه زعامات الحزب علي رأسهم مصطفي النحاس باشا.
قال الرجل في إحدي خطبه مفسرا ما أقدمت عليه هذه الحكومة ومن ورائها أنه كان يجب التجديد بالانتخاب' ولكن ما الحيلة وهناك الوفد إذا تقدم لانتخابات حرة اكتسح ولا ريب أصوات الناخبين. هل يضطرون مرة أخري إلي ركوب الصعب من الأمور وتزييف إرادة الأمة في الانتخابات, أم يترك الانتخاب حرا فينتصر الوفد وينكشف المستور؟ أم يتعللون لإرجاء الانتخابات ولو كرهت أحكام الدستور؟'.
وسخر زعيم الوفد مما تصوره خصوم الحزب الكبير أن مصدر قوته كراسي النيابة' فالوفد بتأييد الأمة لا بكراسي الحكم أو كراسي الشيوخ والنواب. ما قيمة هذه الكراسي التي يتعلقون بها وهم من ثقة الأمة محرومون! ليتهم يعلمون أن كراسيهم زائلة, وأن حكمهم زائل, وأن عهدهم زائل, وسيبقي الوفد كعهد الأمة به أبيض الصفحة, نقي الماضي, يحمل علم الجهاد ويصون حقوق البلاد, ويدفع عنها كل معتد أثيم'!
والحقيقة أنه لم يمض وقت طويل حتي أثبت الشارع المصري صحة ما جاء في كلمة' الزعيم الجليل', فقد حدث خلال تلك الفترة أن خلت دائرة القنال وسيناء لوفاة مرشحها, وجرت معركة شرسة لشغل المقعد الشاغر, كان قطباها الوفد يمثله أحمد عطالله بك والسعديون يمثلهم عمر لطفي بك, وعلي الرغم من كل المساعدات الحكومية التي تلقاها الأخير فقد انتهت الانتخابات بفوز المرشح الوفدي بـ4937 صوتا و3138 صوتا نالها خصمه, مما اعتبره النحاس دليلا علي صدق كلامه.
المهم انفضت الدورة البرلمانية بعد ذلك واقتصر السجال علي ما جري في مجلس الشيوخ علي الصحافة الوفدية والمؤيدة للحكومة, فبينما لم تهدأ الصحف المؤيدة للحزب الكبير في انتقاد الحكومة ومن وقف وراءها علي العمل الذي أقدمت عليه, فقد تجاهلت صحف أحزاب الحكومة الموقف كله, وقد حرصت الدوائر الرسمية علي أن تضفي علي افتتاح الدورة الجديدة في15 نوفمبر كل أسباب الأبهة التي توقف سيل الانتقادات علي تصرفها في تعيينات أعضاء مجلس الشيوخ!
بدت هذه الأبهة( المصنوعة) من مقاطعة حسين سري باشا أثناء إلقائه لخطاب العرش بالتصفيق المتواصل, وبدا الأمر مثيرا للسخرية, وكما يقول مندوب الأهرام في المناسبة أنه ما أن أتم رئيس الوزراء إلقاء الخطبة وسلمها للملك الذي سلمها بدوره إلي رئيس مجلس الشيوخ محمد محمود خليل بك, الذي تخلي عن وقاره' فهتف بحياة جلالة الملك ثلاثا وردد الحاضرون الهتاف. ثم ارتفع صوت حضرات النواب بالهتاف( لملك مصر والسودان).. واستقل جلالته السيارة وفي معيته دولة حسين سري باشا وأخذت أسراب الطائرات تحلق فوق الركب السامي'.
وعلي غير العادة فقد أدلي الملك قبل رحيله بنطق سامي كان مما جاء فيه' كانت إجازتكم قصيرة ومع ذلك فإن العمل الذي أمامكم في هذه الدورة كبير خصوصا المشروعات التي تتعلق بالترفيه عن الفلاح والفقير, ويهمني أن تتعاونا مع الوزارة لمعالجة هذا الموضوع, فلا يبقي فقير يشكو من الجوع ولا محتاج بطلب القوت', وعلي الرغم من عمومية ما جاء في هذا النطق الملكي فقد استخف الحماس ببعض النواب فهتف كل من الشيخ الأستاذ لويس فانوس والنائب حسين محمود سعيد بحياة ملك مصر والسودان, وردد الحضور من النواب والشيوخ الهتاف, الأمر الذي حرص رئيس الجلسة علي تضمينه في محضر الجلسة!
رد النحاس باشا علي هذه التظاهرة في الخطبة التي ألقاها بمناسبة عيد الجهاد الوطني, وبدا منها تصميم الوفد علي إجراء انتخابات مجلس الشيوخ فيما جاء في قوله أنه صحيح قد تشدد في تنفيذ الدستور من حيث المبدأ ولكنه ذهب إلي أبعد حدود التساهل فيما يخص التفاصيل' فقبلت أن تجري الانتخابات الجديدة في الوقت الذي تسمح به الظروف, وأن تؤلف هيئة من جميع الأحزاب يشترك الوفد فيها وترجع الوزارة المحايدة إليها في مهام الأمور حتي تظهر مشيئة الأمة في الانتخاب.. ولكن النية لم تكن سليمة من رجال الحكومة فمضوا في غيهم, مصرين علي أنهم متمسكون بمجلس نوابهم, وهو المظهر الحي لتزييف إرادة الأمة وتجاهل سلطتها وإخضاع أغلبيتها لأهواء أقليتها'!!
لم يكن قد مضي علي الافتتاح الأبهة, وخطبة النحاس سوي أقل من شهرين, جرت بعدهما حادثة4 فبراير1942 التي اضطر الملك, تحت ضغط التهديد العسكري البريطاني, إلي التخلص من حكومة سري باشا وإسناد تشكيل وزارة جديدة لزعيم الوفد, مصطفي النحاس باشا, الأمر الذي قلب الموائد علي رءوس الجميع.
وكان من الطبيعي أن تطول تلك التغييرات من بين ما طالت الوضع البرلماني, وفي المجلسين; بالنسبة للنواب لم تكن ثمة مشكلة, فقد صدر قرار حل مجلسهم, وكان من أكثر المجالس التي طالها التجريح منذ تكوينه1938, ولم يحدث أي اعتراض سواء من جانب الجالس علي العرش أو من جانب الإنجليز, الذين لم يطلبوا أكثر من تخصيص بعض مقاعد للأحزاب المعارضة, وهو ما لم يستجب إليه النحاس, وقد أنهي المشكلة أن الحزبين الكبيرين, الأحرار الدستوريين والسعديين, قد قرروا مقاطعة هذه الانتخابات, واتهم الحزبان الكبيران الوفد بأنه أعاد تقسيم الدوائر الانتخابية علي نحو يناسبه, وإن كان الدكتور محمد صابر عرب في عمله:' حادث4 فبراير1942 والحياة السياسية المعاصرة' قد رأي أنه كان اتهاما غير حقيقي.
المشكلة كانت في مجلس الشيوخ الذي تضمن المرسوم القاضي بحل مجلس النواب في7 فبراير1942 قرارا بوقف جلساته وكان من بين ما جاء فيه أن ذلك قد تقرر' بمناسبة الشروع في إجراء انتخابات عامة لتجديد نصف الأعضاء المنتخبين لمجلس الشيوخ بدل الأعضاء الذين خرجوا بالقرعة حتي يتيسر اجتماع المجلس بكامل أعضائه مع مجلس النواب الجديد'.
وكان ما جري حتي ذلك الوقت طبيعيا بحكم أن تجميد أوضاع الشيوخ المنتخبين الذين أسقطت عضويتهم, حدث بذريعة أن حكومة سري قد أبقت عليه حتي تتحسن ظروف الحرب, وهو ما رأي زعماء الوفد أنه قد تحقق!
المشكلة كانت في الشيوخ المعينين الذين خرجوا بالقرعة, وعينت حكومة سري غيرهم دون أن يجري ذلك بالتواكب مع إعادة انتخاب الشيوخ الخارجين بنفس الطريقة, وأخفت حكومة الوفد أولا نيتها علي تغيير المرسوم الذي صدر في عهد صدقي, وإن رأت مخالفته لروح الدستور التي تقضي بأن يتم التعيين بعد إعلان نتائج الانتخابات, لتكميل ما قد يظهر من النقص في الانتخاب من عدم تمثيل بعض الطوائف وأصحاب المهن والكفاءات.
في يوم22 فبراير1942 استصدرت الحكومة الوفدية من الملك الأمر الذي ألغي بمقتضاه المرسوم الصادر في24 السابق, وقد فسرت هذا العمل بالاعتراضات التي أثيرت علي دستورية هذه التعيينات في حينها, والتي صدر بعضها عن رئيس المجلس نفسه, وأن عملية التعيين ليست مستقلة بذاتها وإنما هدفها إكمال النقص في الكفايات ووجود عناصر لا تهيئ لهم ظروفهم الخاصة الدخول فيه بطريق الانتخاب'.
أضف إلي ذلك فسرت الحكومة الوفدية عملها بعدم استقلالية عملية التعيين, وكان ما أصدرته حكومة سري مخالفا لنص الدستور وروحه, الذي يري أن التجديد النصفي لا يسمي تجديدا إذا اقتصر علي جانب دون آخر' فإذا لم يتيسر التجديد في الميعاد المذكور امتدت نيابة الأعضاء الذين انتهت مدة عضويتهم' فحكم الدستور بالنسبة للامتداد جار علي المعينين والمنتخبين معا, وكل تفريق بينهما في المعاملة يترتب عليه الإخلال بعملية التجديد, وفيه إفساد لها.
وسارت الحكومة الوفدية في طريقها لا تلوي علي شيء, ولم تكن ثمة مشكلة في الانتخابات, فبعد انسحاب الحزبين المنافسين الآخرين كانت المنافسة أقرب إلي مباراة من جانب واحد, إلي الحد أن19 مرشحا وفديا فازوا بالتزكية للاقتصار علي مرشح واحد في دوائرهم, بينما كانت المنافسة في سائر الدوائر تجري بدون روح بين بعض المرشحين الوفديين وبين المستقلين.بالمقابل بعد ما تقرر من إلغاء مرسوم التعيين الصادر في عهد حكومة سري صدر مرسوم آخر بتعيين أعضاء جدد حاول الوفد أن تكون متوازنة علي قدر الإمكان, فضمت من بين من ضمت محمد شريف صبري باشا من الأسرة المالكة ومحمد حلمي عيسي باشا قطب حزب الاتحاد الشعبي الموالي للقصر, ومحمد حافظ رمضان زعيم الحزب الوطني وأنطون الجميل بك رئيس تحرير جريدة الأهرام علي اعتبار أنه كان يمثل دائما جناح المستقلين, الأغرب من ذلك أن القائمة شملت حسين سري باشا رئيس الوزراء السابق, والدكتور محمد حسين هيكل وزير المعارف في وزارته, والأهم من ذلك رئيس الأحرار الدستوريين, أحد الحزبين الكبيرين اللذين قاطعا الانتخابات, الأمر الذي كان محل استغراب المتابعين أن يقبل الرجل المنصب.
وكما يقول الدكتور صابر عرب أن الرجل قد برر قبول التعيين في المجلس علي اعتبار أن الحزبية ليست أشخاصا, وإنما هي فكرة وعقيدة وما دام رجال الحزب متمسكين بالفكرة التي أنشئ من أجلها فإن خروج فرد أو فراد علي قرار من القرارات لا يعتبر خروجا من الحزب أو خروجا علي فكرته وأن حرية الرأي هي أول مظهر من مظاهر قيام الأحزاب, وهو ما لم يوافق عليه الدكتور صابر عرب الذي رأي في وجهة نظر الدكتور هيكل خروجا علي تضامن السعديين والدستوريين, وهو ما أضعف من جبهة المعارضة.
وتم افتتاح البرلمان في يوم الاثنين30 مارس1942, وتضمن خطاب العرش إشارة سريعة عن قضية الانتخابات, ولم تقترب من بعيد أو قريب لمسألة تعيينات مجلس الشيوخ, كل ما قاله النحاس باشا أن حكومته ما كادت تستقر في الحكم حتي وجهت عنايتها لتنفيذ الإجراءات الكفيلة بتحقيق الحكم الديموقراطي' فكان أول ما فعلته في هذا السبيل أن اتخذت التدابير لإجراء انتخابات جديدة لأعضاء مجلس النواب وأعضاء مجلس الشيوخ المنتخبين الذين أخرجتهم القرعة, بعد أن أعادت النظر في تحديد دوائر الانتخاب', ولم يشر من بعيد أو قريب لمسألة إلغاء مرسوم المعينين وإصدار مرسوم بتعيين غيرهم.
وتصور الجميع أن الأمر قد انتهي عند هذا الحد إلي أن خرج أحد الشيوخ, أحمد رمزي بك, باعتراض علي المرسوم الجديد بتعيين الشيوخ واعتبره غير دستوري مطالبا بالعودة للمرسوم الأول وقدم استجوابا في هذا الموضوع, وقد بدت حكومة الوفد مستعدة لقبول مناقشة الاستجواب في أسرع وقت, معتمدة في ذلك علي النص الذي جاء في اللائحة الداخلية للمجلس بأنه' علي العضو الذي يريد أن يستجوب واحدا أو أكثر من الوزراء أن يقدم إلي الرئيس بيانا مكتوبا بموضوع هذا الاستجواب فيأمر الرئيس بتلاوة هذا البيان, ويحدد المجلس موعد المناقشة في موضوع الاستجواب بعد ثمانية أيام علي الأقل.
ولم يجد هذا الاستجواب الصدي المذكور بحكم الأغلبية التي أصبح يحظي بها الوفد في المجلس وبحكم ضعف حجة المستجوب, مما كان نهاية لهذه القصة الغريبة في حياة مجلس الشيوخ في ظل دستور1923, والتي لم تتكرر بعد ذلك