جريدة الأخبار يوم ألأربعاء 20/6/2007م السنة 56 العدد 17212 عن مقالة بعنوان " مصر القديمة القلقشندي صاحب أكبر الموسوعات المصرية "
بقلم :جمال بدوي
كان سقوط بغداد تحت سنابك المغول '656 ه 1258م' نذير شؤم علي الحضارة الإسلامية، فقد ردم المغول نهر دجلة بكتب العلم وما تحويه من ثمرات العقول، وذبحوا العلماء والفقهاء، ومن نجا منهم شد الرحال إلي مصر التي حملت عبء الجهاد والتصدي للزحف المغولي، وهرع قطز وبيبرس إلي فلسطين علي رأس الجيش المصري الذي قطع رأس الافعي في عين جالوت ، ونقلوا الخلافة العباسية إلي مصر حتي يبقي الرمز الجامع للعالم الإسلامي مرفوعا.
واحتضنت مصر العلماء من كل صقع وكان من أبرز ثمرات النهضة الثقافية ظهور 'الموسوعات' أو دوائر المعارف التي حوت كل ما اختزنه العقل الإسلامي من فنون المعرفة.. ومن هذه الموسوعات توالدت العلوم وتطورت بعد ان خيل للناس انها محيت في محنة بغداد.
القرية المحظوظة
لقد ولد ابو العباس في سنة 756هـ في قرية قلقشندة القريبة من طوخ بمحافظة القليوبية ومن حق هذه القرية ان تفخر بمن انجبت من عظماء، ويكفيها ان تباهت بثلاثة من رجالاتها. اولهم: امام مصر العظيم وفقيهها الشهير الليث بن سعد الذي وصفه الشافعي بأنه 'افقه من مالك.. ولكن اصحابه لم يقدموا به' ولم يجد الليث من التلاميذ والاصحاب مثلما وجد مالك والشافعي وابو حنيفة وابن حنبل، فهؤلاء التلاميذ هم الذين تكفلوا بنشر اراء اساتذتهم. ولم يكن نصيب القلقشندي الاديب باسعد من نصيب الفقيه الليث. اما ثالث النجباء في قلقشندة فهو 'محمد' ابن ابيه ابي العباس احمد وقد نبغ في علوم الحديث والشعر معا.
وقد نشأ الاب 'أبو العباس' نشأة علمية سليمة، وتربي تربية صحيحة قبل ان يتوجه إلي الإسكندرية ليطلب العلم علي مشاهير علمائها، واشتغل في أثناء ذلك بفنون اللغة العربية والادب حتي اجتمع له من ذلك نصيب كبير فاجازه شيخه سراج الدين ابو حفص المشهور 'بابن الملقن' للفتيا والتدريس علي مذهب الشافعي، كما اجاز له ان يروي عنه كل تأليف له في الفقه والحديث وكتب الصحاح الستة ومسند الشافعي ومسند ابن حنبل وغير ذلك من الكتب التي هي أصول الفقه الإسلامي.
في أصول الفقه
وفي المرحلة الثانية من حياته العلمية جلس القلقشندي للتدريس وبدا للناس فقيها يميل للاجتهاد، ويحاول ان يضع لعلم الفقه اصولا وقواعد، ويبدو انه يأمل ان يعمل بالقضاء، وان كان اسلافه من أصل العلم والورع كانوا يتحرجون من شغل مناصب القضاء خشية الوقوع في الشبهات.. وفي هذه الفترة وضع الرجل مجموعة من المؤلفات الفقهية والادبية.
قلما بلغ القلقشندي سن الخامسة والثلاثين اختير للعمل في ديوان الانشاء. وعندئذ جادت قريحته بطائفة أخري من المؤلفات كان من بينها الكواكب الدرية في المناقب البدرية' ووضعها علي نمط المقامات واوضح فيها فنون صناعة الكتابة، ثم لم يلبث ان توسع في شرح هذه المقامة حتي انتهت بموسوعته الشهيرة 'صبح الاعشي في صناعة الانشا' واستغرق في ذلك عشرين عاما.
موسوعة صبح الاعشي
وعندما نذكر الموسوعات: نذكر علي الفور موسوعة 'صبح الاعشي في صناعة الانشاء' التي وضعها العالم المصري الكبير ابو العباسي القلقشندي في عدة مجلدات تناقلها الناسخون إلي ان ظهرت حديثا في طباعة انيقة تناسب جلالها ومكانتها في صقل الثقافة المصرية.
ومن المؤسف ان 'القلقشندي' لم يجد سوي التجاهل ممن جاء بعده من المؤرخين سواء القدامي أوالمحدثين، فاذا بحثت في موسوعة اعلام 'الزركلي' فلن تجد سوي بضع سطور لا تشفي غليل الباحث في تاريخ الادب المملوكي. وقد لفتت هذه الظاهرة السيئة نظر استاذنا الراحل الدكتور عبداللطيف حمزة وهو يقدم لنا دراسته النقدية لكتاب 'صبح الاعشي' الذي صدر في سلسلة 'اعلام العرب' عام .1962 فقال: ا نني اقدم للقراء رجلا من اعظم بناة الثقافة العربية في العصور الوسطي، عاش في العصر المملوكي وهو العصر الذي تبلورت فيه الشخصية المصرية شكلا نهائيا.
ثم يقول: ان كثيرا من المثقفين إلي اليوم يتردد علي السنتهم اسم أبي العباس القلقشندي، وكثيرون منهم كذلك يشيرون إلي موسوعته التي اشتهر بها، وقلما تنظر في بحث من البحوث العلمية الادبية الحديثة.. حتي تجد فيه اسم 'القلقشندي' واشارة إلي موسوعته في أكثر من موضع، وربما نفهم من هذا الحديث ان مؤلف هذه الموسوعة الكبيرة لابد ان يكون مشهورا في التاريخ شهرة غيره من العلماء والادباء والمؤرخين امثال الجاحظ والمقريزي وياقوت وابن خلكان وغيرهم، ولكن العجب يملأ نفس الباحث، والدهشة تملك عليه حواسه حين ينظر في المراجع فاذا بها تخلو او تكاد تخلو من ذكر رجل كالقلقشندي علي سعة علمه، وغزارة فضله، ونبض ادبه، وسحر قلمه، وعظم ماله من دين علي الادب العربي والثقافة العربية.
ويتحسر الدكتوره حمزة علي ان التاريخ كالأدب، ينصف الناس ان شاء، ويظلم الناس ان شاء، ويرفع بعضهم ان اراد، ويخفض آخرين مادامت له غاية وراء ذلك.. ولا يجد الدكتور حمزة تفسيرا لهذا الاهمال الذي بدأ واضحا من كتابات المؤرخين الذين جاءوا من بعده وتجاهلوه من امثال المقريزي والعيني وابن حجر والسخاوي، حتي انهم خلطوا في ذكر اسم ابيه. وعندما اشار السخاوي إلي 'صبح الاعشي'. جاءت اشارته مبتورة، وتدل دلالة واضحة علي انه لم يقف علي محتواها كي يعطي القارئ العربي فكرة ولو بسيطة عنها.
نهاية الأرب
وللقلقشندي كتاب آخر مشهور اسمه 'نهاية الأرب في معرفة انساب العرب'. وقام علي تحقيقه الاستاذ ابراهيم الابياري، وقد رتب القلقشندي كتابه علي حروف المعجم، وذكر في مقدمته الامور التي يحتاج إليها في علم الانساب ومعرفة القبائل، ويري الدكتور حمزة ان أهم الكتب التي خلفها هما: نهاية الارب، وصبح الاعشي غير ان الذي لاشك فيه ان 'صبح الاعشي' أهم بكثير من الاول ولا يشك احد في أن كتاب 'صبح الاعشي' هو اخطركتب القلقشندي علي الاطلاق، وهو الكتاب الذي يعرف به الرجل عبر العصور، ويذكر به دائما بين المؤلفين في سائر الدهور، فلا يمر اسم القلقشندي في مجال من مجالات العلم والادب الا عرف انه 'مؤلف صبح الاعشي' وكفي.. وقل من المثقفين من يعرف انه مؤلف نهاية الارب، او قلائد الجمان، أو شارح كذا وكذا من كتب الفقه.
فى خدمة الثقافة
وفي أوائل القرن العشرين اخرجت دار الكتب أول جزء من هذا الكتاب الكبير والموسوعة العظيمة، فهال الناس جميعا ما اشتمل عليه هذا الجزء من العلم ومن الفائدة، وشجع ذلك دار الكتب علي المضي في نشره بالطرق العلمية السليمة. وهكذا استطاعت دار الكتب بهذا الصنيع ان تسدي للثقافة العربية عن طريق نشر هذه الموسوعة العلمية الادبية يدا لا يمكن ان ننسي واضافت إلي ذلك جهدا مشكورا عندما عهدت إلي استاذ متخصص هو الدكتور عبد اللطيف حمزة بدراسة الكتاب وتحليله وتقديمه إلي القارئ الحديث بصورة جذابة.
===========================================================