هي زبيدة بنت جعفر بن المنصور الهاشمية العباسية أم جعفر، ولدت في عام 145هـ، ونشأت وترعرعت في بيت والدها أبو جعفر المنصور، عرفت بكرمها وانفتاحها. وكان والدها أبو جعفر المنصور شديد الحب لها و قد خصها بالرعاية. اسمها أمة العزيز، أو أم العزيز، وغلب عليها لقب (زبيدة)، قيل إن جدها المنصور كان يرقصها في طفولتها ويقول: يا زبيدة فغلب على اسمها. وقد اطلق عليها هذا الاسم لما رأى فيها من ذكاء و نعومة، بالإضافة إلى بنية قوية تشع نضارة،و قد قيل:" لم تلد عباسية قط إلا هي".
زبيدة زوجة لهارون الرشيد
تزوجت هارون الرشيد سنة 165هـ، وكان ذلك في خلافة المهدي ببغداد. و قد كان يوم زفافها أقرب إلى ألساطير في أثناء مرور موكبها نثرت عليها اللآلئ الثمينة مما أعاق سيرها، كما فرشت الطرقات بالبسط الموشاة بالذهب.
ولدت لهارون ولدا أسمه محمد الأمين حباً جما. وظلت تلح على أبيه هارون الرشيد أن يوليه الخلافة من بعده لكن الرشيد كان يهيئ ويريد أن يكون خليفة المسلمين من بعده ابنه المأمون. فغضبت منه وذهبت إليه تعاتبه على هذا الأمر الذي كان يريد. فقال لها الرشيد: "ويحك إنما هي أمة محمد ورعاية من استرعاني الله تعالى مطوقاً بعنقي وقد عرفت ما بين ابني وابنك. ليس ابنك يا زبيدة أهلاً للخلافة ولا يصلح للرعية ". فقالت: ابني والله خير من ابنك وأصلح لما تريد ليس بكبير سفيه ولا صغير فيه، أسخى من ابنك نفساً، وأشجع قلباً.
فقال الرشيد: ويحك إن ابنك لأحب إلى لأنها الخلافة لا تصلح إلا لمن كان لها أهلاً وبها مستحقاً ونحن مسؤلون عن هذا الخلق ومأخوذون بهذا الأنام، فما أغنانا أن نلقى الله بوزرهم وننقلب إليه بإثمهم فاقعدي حتى أعرض عليك ما بين ابني وابنك.
أجرى هارون الرشيد الاختبار بين الأمين والمأمون فاستدعى المأمون أولاً. ولما وصل إلى باب المجلس سلم على أبيه ثم وقف طويلاً مطأطأ الرأس، حتى أذن له الرشيد بالجلوس والكلام. جلس وحمد الله تعالى ثم استأذن الرشيد بأن يقترب فأذن له بذلك. اقترب وقبل أطرافه ويدي زبيدة، ثم رجع إلى مكانه وحمد الله على رضى أبيه حسن رأيه فيه. فقال الرشيد: يا بني إني أريد أن أعهد إليك عهد الإمامة وأقعدك مقعد الخلافة فإني قد رأيتك لها أهلاً وبها حقيقاً. فبكى وصاح المأمون يسأل الله العافية لوالده. ثم قال: يا أبتاه أخي أحق مني وابن سيدتي و لا أخال إلا أنه أقوى على هذا الأمر مني وأشد استطلاعا عرض الله لك ما فيه الرشاد والخلاص، وللعباد الخير والصلاح. ثم أستأذن للخروج فأذن له الرشيد.
وبعد ذلك استدعى الرشيد ابنه الأمين فأول ما فعله الأمين أن دخل على أبيه دون أن يستأذن وهو يتبختر في مشيته حتى وصل إلى كرسي العرش إلى أبيه. فبدأ الرشيد بسؤاله: ما تقول يا بني أن أعهد إليك. فرد على الفور: ومن أحق بذلك مني يا أمير المؤمنين؟ فصرفه أمير المؤمنين هارون الرشيد وقال لزبيدة: كيف رأيت؟ فقالت: يا أمير المؤمنين: أبنك أحق بما تريد. فرد الرشيد: فإذا أقررت بالحق وأنصفت فأنا أعهد إلى ابني ثم إلى ابنك.
حبها لأبنها الأمين
وهناك أيضاً ما يدل على حبها الكبير لأبنها فقد بعثت ذات يوم بجاريتها إلى مدرس ابنها الكسائي الذي كان يقسو عليه. فقالت له الجارية ما أمرتها زبيدة أن تقوله وهو: ترفق بالأمين فهو ثمرة فؤادي و قرة عيني وأنا أرق عليه رقة شديدة. والدليل الآخر على حبها للأمين عندما توفيت الفطيم زوجة الأمين حزن عليها حزناً شديداً وبلغ أم جعفر زبيدة بذلك فقالت إلى أمير المؤمنين. فذهبت إليه فاستقبلها. و قال لها: يا سيدتي ماتت فطيم.
فقالت : نفسي فداؤك لا يذهب بك اللهف ففي بقائك ممن قد مضى خلف عوضت موسى فهانت كل مرزئة ما بعد موسى على مفقودة أسف، وقالت له: أعظم الله أجرك ووفر صبرك وجعل العزاء عنها ذخرك. أما الأمين فكان يرد على حنان وعطف أمه بتعظيمها وتبجيلها. وكانت الشجاعة من صفات الأمين والدليل على ذلك ما قاله لزبيدة عندما كان العدو محيطاً به: إنه ليس بجزع النساء وهلعهن عقدت التيجان، والخلافة سياسة لاتسعها صدور المراضع وراءك.
مقتل أبنها الخليفة الأمين
وقامت الحرب بين الخليفة ألأمين وأخيه غير الشقيق المأمون وقتل أمه زبيده
وقالت زبيدة في رثاء ابنه (الامين) بعد مقتله:
أودى بألفين من لم يترك الناسا فامنح فؤادك عن مقتولك الباسا
لما رأيت المنايا قد قصدن له أصبن منه سواد القلب والراسا
فبت متكئــأً أرعى النجوم له أخال سنته في الليل قرطاسا
والموت كان به والهم قارنــــــــــه حتى سقاه التي أودي بها الكاسا
رزئته حين باهيت الرجال به وقد بنيت به للدهر أساسا
فليس من مات مردوداً لنا أبداً حتى يرد علينا قبله ناســـــا
ويقال أن زبيدة أمرت أبو العتاهية بكتابة أبيات على لسانها للمأمون :
ألا إن صرف الدهر يدني ويبعد ويمتع بالآلاف طورا ويفقد
أصابت بريب الدهر مني يدى فسلمت للأقدار والله أحمد
وقلت لريب الدهر إن هلكت يد فقد بقيت والحمد لله لي يد
إذا بقي المأمون لها فالرشيد لي ولي جعفر لم يفقدا ومحمد..
ولما مات وقتل ابنها الأمين اضطهدها رجال المأمون، فكتبت إليه تشكو حالها فعطف عليها وجعل لها قصرا في دار الخليفة، وأقام لها الوصائف والخدم. قيل عنها إنها كانت أعظم نساء عصرها دينا وأصالة ومعروفا.
قال ابن تغري بردي في وصفها: ((أعظم نساء عصرها ديناً وأصلاً وجمالاً وصيانة ومعروفاً))،
كما قال عنها ابن جبير في طريقه إلى مكة: (( وهذه المصانع والبرك والآبار والمنازل التي من بغداد إلى مكة، هي آثار زبيدة ابنة جعفر، انتدبت لذلك مدة حياتها، فأبقت في هذا الطريق مرافق ومنافع تعم وفد الله تعالى كل سنة من لدن وفاتها حتى الآن، ولولا آثارها الكريمة في ذلك لما سلكت هذه الطريق))
لقد كانت زبيدة سيدة جليلة سخية لها فضل في الحضارة والعمران والعطف على الأدباء والأطباء والشعراء.
فمن الأطباء الذين كانت تعطف عليهم جبريل الذي منحته راتباً شهرياً، وقدره خمسون ألف درهم. وكانت صاحبة اليد البيضاء بعطفها على الفقراء والمساكين
ومن صفاتها أيضا أنها كانت ذات عقل وفصاحة ورأي وبلاغة.
وهناك حادثة تدل على فصاحة الكلام. وهي أن بعث إليها مرة من أحد عمالها كتاب فردته إليه وبه ملاحظة تقول: (أن أصلح كتابك وإلا صرفناك) فتعجب العامل لذلك وأقلقه الأمر؛ لأنه لم يستطع معرفة موضع الخطأ. وعرض كتابه على أصحاب الفصاحة والبلاغة فقالوا له : إنك تدعو لها في كتابك وتقول: أدام الله كرامتك، وذلك دعاء عليها وليس لها؛ لأن كرامة النساء بدفنهن فعرف العامل الخطأ وأصلحه. ثم عاد وأرسله لها فقَبِلته.
وعرفت زبيدة باهتمامها بالعمران، فقد بنت المساكن والنزل على امتداد طريق مكة المكرمة.
فعندما حجت إلى سنة 186 هجرية، أقامت من بغداد إلى مكة كما أنشأت مجموعة من المساجد والبرك والآبار والمنازل والمصانع والمرافق وجعلتها للنفع العام،، وإليها تنسب (عين زبيدة) بمكة،، جلبت إليها الماء من أقصى وادي نعمان، شرقي مكة وأقامت الأقنية حتى أبلغت الماء إلى مكة وكان أهم حدث قامت به .
وكان لزبيدة من الجواري مائة جارية، و كن يحفظن القرآن الكريم، وكان يسمع في قصرها طنين كطنين النحل من قراءة القرآن الكريم.وقد كان لها الدور الكبير في تطور الزي النسائي في العصر العباسي.
وكانت زبيدة أول من اتخذ الآلة من الذهب والفضة المكللة بالجوهر. وهي أول من اتخذ الخدم والجواري يختلفون على الدواب في جهاتها ويذهبون برسائلها وكتبها. وهي أيضاً أول من اتخذ القباب من الفضة والآبنوس والصندل والكلاليب من الذهب والفضة ملبسة بالوشي والسمور وأنواع الحرير الأحمر والأصفر والأخضر والأزرق.
وفاتها
توفيت زبيدة ببغداد في جمادى الأولى سنة 216هـ الموافق 831م وقد رثاها مسلم بن عمرو الخاسر الشاعر البصري. وقد سامحت المأمون بعد قتله لوحيدها و فلذة كبدها الأمين، حيث إنها هنأته بالخلافة قائلة:" اهنيك بخلافة قد هنأت نفسي بها عنك قبل أن أراك.، ولئن كنت فقدت ابنا خليفة فقد عوضت ابنا خليفة لم ألده، و ما خسر من اعتاض مثلك، و لا ثكلت أم ملأت يدها منك،و أنا اسأل الله أجرا على ما أخذ، وإمتاعا بما عوض ".