الجزء التالى من كتاب: الكامل في التاريخ المؤلف: أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير (المتوفى: 630هـ) تحقيق: عمر عبد السلام تدمري الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1417هـ / 1997م عدد الأجزاء: 10
**************************************************************************************************************************
حوادث سنة ثمان وثمانين ومائة
في هذه السنة غزا إبراهيم بن جبرئيل الصائفة، فدخل أرض الروم من درب الصفصاف، فخرج إليه نقفور ملك الروم، فأتاه من ورائه أمر صرفه عنه، ولقي جمعاً من المسلمين، فجرح ثلاث جراحات، وقتل من الروم، فيما قيل، أربعون ألفاً وسبعمائة.
وفيها رابط القاسم بن الرشيد بدابق. وحج بالناس فيها الرشيد، فقسم أموالاً كثيرة، وهي آخر حجة حجها في قول بعضهم.
وفيها توفي جرير بن عبد الحميد الضبي الرازي وله ثمان وسبعون سنة.
وفيها توفي العباس بن الأحنف الشاعر، وقيل سنة ثلاثة وتسعين، ومات أبوه الأحنف سنة خمسين ومائة.
وفيها توفي شهيد بن عيسى بالأندلس وعمره ثلاث وتسعون سنة؛ وكان دخوله الأندلس مع عبد الرحمن بن معاوية.
شهيد بضم الشين المعجمة، وفتح الهاء.
حوادث سنة تسع وثمانين ومائة
ذكر مسير هارون الرشيد إلى الري
وفي هذه السنة سار الرشيد إلى الري؛ وسبب ذلك أن الرشيد لما استعمل علي بن عيسى بن ماهان على خراسان ظلم أهلهأن وأساء السيرة فيهم، فكتب كبراء أهلها وأشرافها إلى الرشيد يشكون سوء سيرته وظلمه، واستخفافه بهم، وأخذ أموالهم. وقيل للرشيد: إن علي بن عيسى قد أجمع على الخلاف، فسار إلى الري في جمادى الأولى، ومعه ابناه عبد الله المأمون والقاسم، وكان قد جعله ولي عهد بعد المأمون، وجعل أمره إلى المأمون إن شاء أقره، وإن شاء خلعه، وأحضر القضاة والشهود وأشهدهم أن جميع ما في عسكره في الأموال والخزائن والسلاح والكراع وغير ذلك للمأمون وليس له فيه شيء.
وأقام الرشيد بالري أربعة أشهر حتى أتاه علي بن عيسى من خراسان، فلما قدم عليه أهدى له الهدايا الكثيرة، والأموال العظيمة، وأهدى لجميع من معه من أهل بيته، وولده، وكتابه، وقواده من الطرف والجواهر، وغير ذلك، ورأى الرشيد خلاف ما كان يظن فرده إلى خراسان.
ولما أقام الرشيد بالري سير حسيناً الخادم إلى طبرستان، وكتب معه أماناً لشروين أبي قارن، وأماناً لوندا هرمز، جد مازيار، وأماناً لمرزبان بن جستان صاحب الديلم، فقدم جستان ووندا هرمز، فأكرمهما، وأحسن إليهما، وضمن وندا هرمز السمع والطاعة، وأداء الخراج عن شروين.
ورجع الرشيد إلى العراق، ودخل بغداد في آخر ذي الحجة. فلما مر بالجسر أمر بإحراق جثة جعفر بن يحيى، ولم ينزل بغداد، ومضى من فوره إلى الرقة، ولما جاز بغداد قال: والله إني لأطوي مدينة ما وضع بشرق ولا غرب مدينة أيمن ولا أيسر منهأن وإنها لدار مملكة بني العباس ما بقوأن وحافظوا عليهأن ولا رأى أحد من آبائي سوءاً ولا نكبة منهأن ولنعم الدار هي، ولكني أريد المناخ على ناحية أهل الشقاق والنفاق، والبغض لأئمة الهدى، والحب لشجرة اللعنة بني أمية مع ما فيها من المارقة، والمتلصصة ومخيفي السبيل، ولولا ذلك ما فارقت بغداد ما حييت. فقال العباس بن الأحنف في طي الرشيد بغداد:
ما أنحنا حتى ارتحلنا فمانف ... رق بين المناخ والارتحال
ساءلونا عن حالنا إذ قدمنا ... فقرنا وداعهم بالسؤال
ذكر الفتنة بطرابلس الغرب
في هذه السنة كثر شغب أهل طرابلس الغرب على ولاتهم، وكان إبراهيم بن الأغلب، أمير إفريقية، قد استعمل عليهم عدة ولاة، فكانوا يشكون من ولاتهم، فيعزلهم، ويولي غيرهم، فاستعمل عليهم هذه السنة سفيان بن المضاء، وهي ولايته الرابعة، فاتفق أهل البلد على إخراجه عنهم، وإعادته إلى القيروان، فزحفوا إليه، فأخذ سلاحه، وقاتلهم هو وجماعة ممن معه، فأخرجوه من داره، فدخل المسجد الجامع، فقاتلهم فيه، فقتلوا أصحابه، ثم أمنوه، فخرج عنهم في شعبان من هذه السنة، فكانت ولايته سبعاً وعشرين يوماً. (3/109)
واستعمل الجند الذين بطرابلس على البلد وأهله إبراهيم بن سفيان التميمي.
ثم وقع بين الأبناء بطرابلس أيضاً وبين قوم يعرفون ببني أبي كنانة وبني يوسف حروب كثيرة، وقتال، حتى فسدت طرابلس، فبلغ ذلك إبراهيم بن الأغلب، فأرسل جمعاً من الجند، وأمرهم أن يحضروا الأبناء وبني أبي كنانة، وبني يوسف، فأحضروهم عنده بالقيروان في ذي الحجة، فلما قدموا عليه سألوه العفوعنهم في الذي فعلوه، فعفا عنهم، فعادوا إلى بلدهم.
ذكر عدة حوادث
فيها كان الفداء بين المسلمين والروم، فلم يبق بأرض الروم مسلم إلا فودي به.
وحج بالناس العباس بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.
وفيها ولى الرشيد عبد الله بن مالك طبرستان والري ودنباوند وقومس وهمذان، وهومتوجه إلى الري، فقال أبوالعتاهية في مسيره إليهأن وكان الرشيد ولد بها:
إن أمين الله في خلقه ... حن به البر إلى مولده
ليصلح الري وأقطارها ... ويمطر الخير بها من يده
وفيها مات محمد بن الحسن الشيباني الفقيه، صاحب أبي حنيفة، وحميد بن عبد الرحمن بن حميد الرؤاسي أبوعوف، وسابق بن عبد الله الموصلي، وكان من الصالحين البكائين من خشية الله تعالى.
حوادث سنة تسعين ومائة
ذكر خلع رافع بن الليث بن نصر
وفي هذه السنة ظهر رافع بن الليث بن نصر بما وراء النهر مخالفاً للرشيد بسمرقند.
وكان سبب ذلك أن يحيى بن الأشعث بن يحيى الطائي تزوج ابنة لعمه أبي النعمان، وكانت ذات يسار ولسان، ثم تركها بسمرقند، وأقام ببغداد، واتخذ السراري، فلما طال ذلك عليهأن أرادت التخلص منه، وبلغ رافعاً خبرهأن فطمع فيها وفي مالهأن فدس إليها من قال لها: إنه لا سبيل إلى الخلاص من زوجها إلا أن تشهد عليها قوماً أنها أشركت بالله، ثم تتوب، فينفسخ نكاحهأن وتحل للأزواج، ففعلت ذلك، وتزوجها رافع. فبلغ الخبر يحيى بن الأشعث، فشكا إلى الرشيد، فكتب إلى علي بن عيسى بن ماهان يأمره أن يفرق بينهمأن وأن يعاقب رافعأن ويجلده الحد، ويقيده ويطوف به في سمرقند على حمار ليكون عظة لغيره، ففعل به ذلك، ولم يحده، وطلقها رافع وحبس بسمرقند، فهرب من الحبس، فلحق بعلي بن عيسى ببلخ، فأراد ضرب عنقه، فشفع فيه عيسى بن علي بن عيسى، وأمره بالانصراف إلى سمرقند، فرجع إليهأن ووثب بعامل علي بن عيسى عليها، فقتله، واستولى عليها فوجه إليه ابنه، فلقيه، فهزمه رافع، فأخذ علي بن عيسى في جمع الرجال والتأهب لمحاربته، وانقضت السنة.
ذكر فتح هرقلة
في هذه السنة فتح الرشيد هرقلة، وأخربها؛ وكان سبب مسيره إليها ما ذكرناه سنة سبع وثمانين ومائة، من غدر نقفور، وكان فتحها في شوال، وكان حصرها ثلاثين يومأن وسبى أهلهأن وكان قد دخل البلاد في مائة ألف وخمسة وثلاثين ألفاً من المرتزقة، سوى الأتباع والمتطوعة، ومن لا ديوان له، وأناخ عبد الله بن مالك على ذي الكلاع، ووجه داود بن عيسى بن موسى سائراً في أرض الروم في سبعين ألفاً يخرب وينهب، ففتح الله عليه، وفتح شراحيل بن معن بن زائدة حصن الصقالبة ودلسة، وافتتح يزيد بن مخلد الصفصاف وملقونية، واستعمل حميد بن معيوف على سواحل الشام ومصر، فبلغ قبرس، فهدم واحرق وسبى من أهلها سبعة عشر ألفاً فأقدمهم الرافقة، فبيعوا بهأن وبلغ فداء أسقف قبرس ألفي دينار.
ثم سار الرشيد إلى طوانة، فنزل بهأن ثم رحل عنهأن وخلف عليها عقبة بن جعفر.
وبعث نقفور بالخراج والجزية عن رأسه أربعة دنانير، وعن رأس ولده دينارين، وعن بطارقته كذلك، وكتب نقفور إلى الرشيد في جارية من سبي هرقلة كان خطبها لولده، فأرسلها إليه.
ذكر عدة حوادث
وخرج في هذه السنة خارجي من ناحية عبد القيس، يقال له سيف بن بكير، فوجه إليه الرشيد محمد بن يزيد ين مزيد، فقتله بعين النورة.
وفيها نقض أهل قبرس العهد، فعزاهم معيوف بن يحيى، فسبى أهلها. وحج بالناس عيسى بن موسى الهادي.(3/110)
وفيها اسلم الفضل بن سهل على يد المأمون، وقيل بل أسلم أبوه سهل على يد المهدي، وكان محبوسأن وقيل أسلم الفضل وأخوه الحسن على يد يحيى بن خالد، فاختاره يحيى لخدمة المأمون، فلهذا كان الفضل يرعى البرامكة، ويثني عليهم، ولقب بذي الرئاستين لأنه تقلد الوزارة والسيف، وكان يتشيع، وهوالذي أشار على المامون بالعهد لعلي بن موسى الرضي، عليه السلام.
وكان على الموصل هذه السنة خالد بن يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب، ولما دخل الموصل أنكسر لواؤه في باب المدينة، فتطير منه، وكان معه أبوالشيص الشاعر، فقال في ذلك:
ما كان منكسر اللواء لطيرة ... تخشى ولا أمر يكون مويلا
لكن هذا الرمح أضعف ركنه ... صغر الولاية فاستقل الموصلا
فسري عن خالد وفيها غزا الرشيد الصائفة، واستخلف المأمون بالرقة، وفوض إليه الأمور، وكتب إليه الآفاق بذلك، ودفع إليه خاتم المنصور تيمناً به، ونقشه: الله ثقتي آمنت به.
وفيها خرجت الروم إلى عين زربي، والكنيسة السوداء وأغاروأن فاستنقذ أهل المصيصة ما كان معهم من الغنيمة.
وفيها توفي أسد بن عمروبن عامر أبوالمنذر البجلي الكوفي، صاحب أبي حنيفة.
وفيها توفي يحيى بن خالد بن برمك محبوساً بالرافقة في المحرم وعمره سبعون سنة، وعمر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي البصري.