الجزء التالى من كتاب: الكامل في التاريخ المؤلف: أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير (المتوفى: 630هـ) تحقيق: عمر عبد السلام تدمري الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1417هـ / 1997م عدد الأجزاء: 10
**************************************************************************************************************************
حوادث سنة إحدى وسبعين ومائة
ذكر وفاة عبد الرحمن الأموي (3/86)
وفيها مات عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، صاحب الأندلس، في ربيع الآخر، وقيل سنة اثنتين وسبعين ومائة، وهوأصح، وكان مولده بأرض دمشق، وفيها بالعلياء من ناحية تدمر، سنة ثلاث عشرة ومائة، وكان موته بقرطبة، وصلى عليه ابنه عبد الله، وكان عهد إلى ابنه هشام، وكان هشام بمدينة ماردة والياً عليها وكان ابنه سليمان بن عبد الرحمن، وهوالأكبر، بطليطلة والياً عليهأن فلم يحضرا موت أبيهمأن وحضره عبد الله المعروف بالبلنسي، وأخذ البيعة لأخيه هشام، وكتب إليه بنعي أبيه وبالإمارة، فسار إلى قرطبة.
وكانت دولة عبد الرحمن ثلاثاً وثلاثين سنة واشهرأن وكانت كنيته أبا المطرف، وقيل: أبا سليمان، وقيل: أبا زيد، وكان له من الولد: أحد عشر ذكرأن وتسع بنات، وكانت أمه بربرية من سبي إفريقية.
وكان أصهب، خفيف العارضين، طويل القامة، نحيف الجسم، أعور، له ضفيرتان، وكان فصيحاً لسنأن شاعرأن حليمأن عالمأن حازمأن سريع النهضة في طلب الخارجين عليه، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دعة، ولا يكل الأمور إلى غيره، ولا ينفرد في الأمور برأيه، شجاعاً مقداماً بعيد الغور، شديد الحذر، سخيأن جوادأن يكثر لبس البياض، وكان يقاس بالمنصور في حزمه وشدته، وضبط المملكة.
وبنى الرصافة بقرطبة تشبهاً بجده هشام حيث بنى الرصافة بالشام، ولما سكنها رأى فيها نخلة منفردة، فقال:
تبدت لنا وسط الرصافة نخلة ... تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل
فقلت: شبيهي في التغرب والنوى ... وطول التنائي عن بني وعن أهلي
نشأت بأرض أنت فيها غريبة ... فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي
سقتك غوادي المزن من صوبها الذي ... يسح ويستمري السماكين بالوبل
وقصده بنوأمية من المشرق، فمن المشهورين: عبد الملك بن عمر بن مروان، وهوقعدد بني أمية، وهوالذي كان سبب قطع الدعوة العباسية بالأندلس، على ما تقدم، وكان معه أحد عشر ولداً له.
ذكر إمارة ابنه هشام
كان عبد الرحمن قد عهد إلى ابنه هشام، ولم يكن أكبر ولده، فإن سليمان كان أكبر منه، وإمنا كان يتوسم فيه الشهامة، والاضطلاع بهذا الأمر، فلهذا عهد إليه.
ولما توفي أبوه كان هوبماردة متولياً لهأن وناظراً في أمرهأن وكان أخوه سليمان، وهوأكبر منه، بمدينة طليطلة، وكان يروم الأمر لنفسه، ويحسد أخاه هشاماً على تقديم والده له عليه، وأضمر له الغش والعصيان؛ وكان أخوه عبد الله المعروف بالبلنسي حاضراً بقرطبة عند والده. فلما توفي جدد عبد الله البيعة لأخيه هشام، بعد أن صلى على والده، وكتب إلى أخيه هشام يعرفه موت والده، والبيعة له، فسار من ساعته إلى قرطبة، فدخلها في ستة أيام، واستولى على الملك، وخرج عبد الله إلى داره، مظهراً لطاعته، وفي نفسه غير هذأن وسنذكر ما كان منه إن شاء الله تعالى.
ذكرالصحصح الخارجي
وفيها خرج الصحصح الخارجي بالجزيرة، وكان عليها أبوهريرة، فوجه عسكراً إلى الصحصح، فلقوه، فهزمهم، وسار الصحصح إلى الموصل فلقيه عسكرها بباجرمى، فقتل منهم كثيرأن ورجع إلى الجزيرة، فغلب على ديار ربيعة، فسير الرشيد إليه جيشاً فلقوه بدورين، فقتلوه، وعزل الرشيد أبا هريرة عن الجزيرة.
ذكر قتل روح بن صالح
وفيها استعمل الرشيد على صدقات بني تغلب روح بن صالح الهمداني، وهومن قواد الموصل، فجرى بينه وبين تغلب خلاف، فجمع جمعأن وقصدهم، فبلغهم الخبر، فاجتمعوأن وساروا إلى روح، فبيتوه، فقتل هو وجماعة من أصحابه، فسمع حاتم بن صالح، وهوبالسكير، فجمع جمعاً كثيرأن وسار إلى تغلب، فبيتهم، وقتل منهم خلقاً كثيرأن وأسر مثلهم.
وفيها عزل الرشيد بن الملك بن صالح الهاشمي عن الموصل، واستعمل عليها إسحاق بن محمد.
ذكر استعمال روح بن حاتم على إفريقية
وفيها استعمل الرشيد على إفريقية روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة، لما بلغه وفاة أخيه يزيد بن حاتم بهأن على ما ذكرناه، فقدمها في رجب، وكان داود بن يزيد أخيه على إفريقية، فلما وصل عمه روح ساد داود إلى الرشيد، فاستعمله.
قال روح: كنت عاملاً في فلسطين، فأحضرني الرشيد، فوصلت وقد بلغه موت أخي يزيد، فقال: أحسن الله عزاءك في أخيك، وقد وليتك مكانه لتحفظ صنائعه ومواليه. (3/87)
فسار إليهأن ولم تزل البلاد معه آمنة، ساكنة من فتنة، لأن أخاه يزيد كان قد أكثر القتل في الخوارج بإفريقية فذلوا.
ثم توفي روح بالقيروان، ودفن إلى جانب قبر أخيه يزيد، وكانت وفاته في رمضان سنة أربع وسبعين ومائة؛ ولما استعمل المنصور يزيد بن حاتم على إفريقية، استعمل أخاه روحاً على السند فقيل له: يا أمير المؤمنين لقد باعدت ما بين قبريهما؛ فتوفي يزيد بالقيروان، ثم وليها روح، فتوفي بها ودفن إلى جانب أخيه يزيد.
وكان روح أشهر بالشرق من يزيد، ويزيد أشهر بالغرب من روح لطول مدة ولايته، وكثرة خروجه فيها والخارجين عليه.
ذكر عدة حوادث
فيها قدم أبوالعباس الفضل بن سليمان الطوسي من خراسان، واستعمل الرشيد عليها جعفر بن محمد بن الأشعث، فلما قدم خراسان سير ابنه العباس إلى كابل، فقاتل أهلها حتى افتتحهأن ثم افتتح سانهار، وغمن ما كان بها.
وفيها قتل الرشيد أبا هريرة محمد بن فروخ، وكان على الجزيرة، فوجه إليه الرشيد أبا حنيفة حرب بن قيس، فأحضره إلى بغداد وقتله.
وفيها أمر الرشيد بإخراج الطالبيين من بغداد إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، خلا العباس بن الحسن بن عبد الله بن علي بن أبي طالب.
وفيها خرج الفضل بن سعيد الحروري فقتله أبوخالد المروروذي.
وفيها قدم روح بن حاتم إفريقية. وحج بالناس هذه السنة عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس.
حوادث سنة اثنتين وسبعين ومائة
ذكر خروج سليمان وعبد الله على هشام
في هذه السنة، وقيل سنة ثلاث وسبعين ومائة، وهوالصحيح، خرج سليمان وعبد الله ابنا عبد الرحمن بن معاوية بن هشام، أمير الأندلس، عن طاعة أخيهما هشام بالأندلس، وكان هشام قد ملك بعد أبيه، كما ذكرناه، فلما استقر له الملك كان معه أخوه عبد الله المعروف بالبلنسي، وكان هشام يؤثره ويبره ويقدمه، فلم يرض عبد الله إلا بالمشاركة في أمره.
ثم إنه خاف من أخيه هشام، فمضى هارباً إلى أخيه سليمان، وهوبطليطلة، فلما خرج من قرطبة أخرج هشام جمعاً في أثره ليردوه فلم يلحقوه، فجمع هشام عساكره، وسار إلى طليطلة، فحضر أخويه بهأن وكان سليمان قد جمع وحشد خلقاً كبيرأن فلما حصرهما هشام سار سليمان من طليطلة وترك ابنه وأخاه عبد الله يحفظان البلد، وسار هوإلى قرطبة ليملكهأن فعلم هشام الحال، فلم يتحرك، ولا فارق طليطلة بل أقام يحصرها.
وسار سليمان، فوصل إلى شقندة، فدخلهأن وخرج إليه أهل قرطبة مقاتلين ودافعين عن أنفسهم.
ثم إن هشاماً سير في أثره ابنه عميد الملك، في قطعة من الجيش، فلما قاربه مضى سليمان هاربأن فقصد مدينة ماردة، فخرج إليه الوالي بها لهشام، فحاربه، فانهزم سليمان، وبقي هشام على طليطلة شهرين وأياماً محاصراً لها ثم عاد عنهأن وقد قطع أشجارها وسار إلى قرطبة، فأتاه أخوه عبد الله بغير أمان، فأكرمه وأحسن إليه.
فلما دخلت سنة أربع وسبعين سير هشام ابنه معاوية في جيش كثيف إلى تدمير، وبها سليمان، فحاربه، وخربوا أعمال تدمير، ودوخوا أهلها ومن بهأن وبلغوا البحر، فخرج سليمان من تدمير هاربأن فلجأ إلى البرابر بناحية بلنسية، فاعتصم بتلك الناحية الوعرة المسلك، فعاد معاوية إلى قرطبة.
ثم أن الحال استقر بين هشام وسليمان أن يأخذ سليمان أهله وأولاده وأمواله ويفارق الأندلس، وأعطاه هشام ستين ألف دينار مصالحة عن تركة أبيه عبد الرحمن، فسار إلى بلد البرابر فأقام به.
ذكر خروج جماعة على هشام أيضاً
وفيها خرج بالأندلس أيضاً سعيد بن الحسين بن يحيى الأنصاري بشاغنت، من أقاليم طرطوشة، في شرق الأندلس؛ وكان قد التجأ إليها حين قتل أبوه، كما تقدم، ودعا إلى اليمانية، وتعصب لهم، فاجتمع لهم خلق كثير وملك مدينة طرطوشة، وأخرج عامله يوسف القيسي، فعارضه موسى بن فرتون، وقام بدعوة هشام، ووافقته مضر، فاقتتلأن فانهزم سعيد وقتل، وسار موسى إلى سرقسطة فملكهأن فخرج عليه مولى للحسين بن يحيى اسمه جحدر في جمع كثير فقاتله وقتل موسى.
وخرج أيضاً مطروح بن سليمان بن يقظان بمدينة برشلونة، وخرج معه جمع كثير، فملك مدينة سرقسطة ومدينة وشقه، وتغلب على تلك الناحية، وقوي أمره، وكان هشام مشغولاً بمحاربة أخويه سليمان وعبد الله.
ذكر عدة حوادث (3/88)
وفيها عزل الرشيد إسحاق بن محمد عن الموصل، واستعمل سعيد بن سلم الباهلي، وعزل الرشيد يزيد بن مزيد بن زائدة، وهوابن أخي معن بن زائدة، عن أرمينية، واستعمل عليها أخاه عبيد الله بن المهدي.
وفيها غزا الصائفة إسحاق بن سليمان بن علي.
وفيها وضع الرشيد على أهل السواد العشر الذي كان يؤخذ منهم بعد النصف.
وحج بالناس يعقوب بن المنصور.
وفيها مات الفضل بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس، وهوأخوعبد الملك؛ وتوفي سليمان بن بلال مولى ابن أبي عتيق؛ وتوفي أبويزيد رباح بن يزيد اللخمي الزاهد، بمدينة القيروان، وكان مجاب الدعوة.
حوادث سنة ثلاث وسبعين ومائة
فيها توفي محمد بن سليمان بن علي بالبصرة، فأرسل الرشيد من قبض تركته، وكانت عظيمة من المال والمتاع، والدواب، فحملوا منه ما يصلح للخلافة، وتركوا مال لا يصلح.
وكان من جملة ما أخذوا ستون ألف ألف، فلما قدموا بذلك عليه أطلق منه للندماء والمغنين شيئاً كبيرأن ورفع الباقي إلى خزانته.
وكان سبب أخذ الرشيد تركته أن أخاه جعفر بن سليمان كان يسعى به إلى الرشيد حسداً له، ويقول: إنه لا مال له، ولا ضيعة إلا وقد أخذ أكثر من ثمنها ليتقوى به على ما تحدث به نفسه، يعني الخلافة، وإن أمواله حل طلق لأمير المؤمنين؛ وكان الرشيد يأمر بالاحتفاظ بكتبه، فلما توفي محمد بن سليمان أخرجت كتبه إلى جعفر أخيه، واحتج عليه بهأن ولم يكن له أخ لأبيه وأمه غير جعفر، فأقر بهأن فلهذا قبضت أمواله.
وفيها ماتت الخيزران أم الرشيد، فحمل الرشيد جنازتهأن ودفنها في مقابر قريش، ولما فرغ من دفنها أعطى الخاتم الفضل بن الربيع، وأخذه من جعفر بن يحيى بن خالد.
وفيها استقدم الرشيد جعفر بن محمد بن الأشعث من خراسان، واستعمل عليها ابنه العباس بن جعفر؛ وحج بالناس الرشيد، أحرم من بغداد.
وفيها مات مورقاط ملك جليقية، من بلاد الأندلس، وولي بعده برمند بن قلورية القس، ثم تبرأ من الملك، وترهب، وجعل ابن أخيه في الملك، وكان ملك ابن أخيه سنة خمس وسبعين ومائة.
وفيها توفي سلام بن أبي مطيع بتشديد اللام؛ وجريرية بن أسماء بن عبيد البصري؛ ومروان بن معاوية بن الحارث بن أسماء الفزاري، أبوعبد الله، وكان موته بمكة فجاءة.