Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم عزت اندراوس

سنة أربع عشرة وخمسمائة

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
باقى سنة512
سنة513
سنة514
سنة515
سنة516 وسنة517
سنة518 وسنة519
سنة520 وسنة521
سنة522 وسنة523
سنة524 وسنة525
سنة526
سنة527 وسنة528
سنة529

 

الجزء التالى من كتاب: الكامل في التاريخ المؤلف: أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير (المتوفى: 630هـ) تحقيق: عمر عبد السلام تدمري الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1417هـ / 1997م عدد الأجزاء:  10

**************************************************************************************************************************

ثم دخلت سنة أربع عشرة وخمسمائة
ذكر عصيان الملك مسعود على أخيه محمود والحرب بينهما

في هذه السنة، في ربيع الأول، كان المصاف بين السلطان محمود وأخيه الملك مسعود، ومسعود حينئذ له الموصل وأذربيجان.
وكان سبب ذلك أن دبيس بن صدقة كان يكاتب جيوش بك أتابك مسعود، يحثه على طلب السلطنة للملك مسعود، ويعده المساعدة، وكان غرضه أن يختلفوا فينال من الجاه وعلو المنزلة ما ناله أبوه باختلاف السلطانين بركيارق ومحمد ابني ملكشاه على ما ذكرناه.
وكان قسيم الدولة البرسقي، أتابك الملك مسعود، قد فارق شحنكية بغداد، وقد أقطعه مسعود مراغة، مضافة إلى الرحبة، وبينه وبين دبيس عداوة محكمة، فكاتب دبيس جيوش بك يشير عليه بقبض البرسقي، وينسبه إلى الميل إلى السلطان محمود، وبذل له مالاً كثيراً على قبضه، فعلم البرسقي ذلك، ففارقهم إلى السلطان محمود، فأكرمه وأعلى محله وزاد في تقديمه.
واتصل الأستاذ أبو إسماعيل الحسين بن علي الأصبهاني الطغرائي بالملك مسعود، فكان ولده أبو المؤيد، محمد بن أبي إسماعيل، يكتب الطغراء مع الملك، فلما وصل والده استوزره مسعود، بعد أن عزل أبا علي بن عمار، صاحب طرابلس، سنة ثلاث عشرة بباب خوي، فحسن ما كان دبيس يكاتب به من مخالفة السلطان محمود والخروج عن طاعته.
وظهر ما هم عليه من ذلك، فبلغ السلطان محموداً الخبر، فكتب إليهم يخوفهم إن خالفوه، ويعدهم الإحسان إن أقاموا على طاعته وموافقته، فلم يصغوا إلى قوله، وأظهروا ما كانوا عليه، وما يسرونه، وخطبوا للملك مسعود بالسلطنة، وضربوا له النوب الخمس، وكان ذلك على تفرق من عساكر السلطان محمود، فقوي طمعهم، وأسرعوا السير إليه ليلقوه وهو مخفف من العساكر، فاجتمع إليه خمسة عشر ألفاً، فسار أيضاً إليهم، فالتقوا عند عقبة أسداباذ، منتصف ربيع الأول، واقتتلوا من بكرة إلى آخر النهار. (4/453)
وكان البرسقي في مقدمة السلطان محمود، وأبلى يومئذ بلاء حسناً، فانهزم عسكر الملك مسعود، آخر النهار، وأسر منهم جماعة كثيرة من أعيانهم ومقدميهم، وأسر الأستاذ أبو إسماعيل وزير مسعود، فأمر السلطان بقتله، وقال: قد ثبت عندي فساد دينه واعتقاده، فكانت وزارته سنة وشهراً، وقد جاوز ستين سنة، وكان حسن الكتابة والشعر، يميل إلى صنعة الكيمياء، وله فيها تصانيف قد ضيعت من الناس أموالاً لا تحصى.
وأما الملك مسعود فإنه لما انهزم أصحابه وتفرقوا قصد جبلاً بينه وبين الوقعة اثنا عشر فرسخاً، فاختفى فيه ومعه غلمان صغار، فأرسل ركابية عثمان إلى أخيه يطلب له الأمان، فسار إلى السلطان محمود وأعلمه حال أخيه مسعود، فرق له، وبذل له الأمان، وأمر آقسنقر البرسقي بالمسير إليه، وتطييب قلبه، وإعلامه بعفوه عنه، وإحضاره، فكان مسعود بعد أن أرسل يطلب الأمان قد وصل بعض الأمراء إليه، وحسن له اللحاق بالموصل، وكانت له، ومعها أذربيجان، وأشار عليه بمكاتبة دبيس بن صدقة ليجتمع به، ويكثر جمعه، ويعاود طلب السلطنة، فسار معه من مكانه.
ووصل البرسقي فلم يره، فأخبر بمسيره، فسار في أثره، وعزم على طلبه ولو إلى الموصل، وجد في السير، فأدركه على ثلاثين فرسخاً من مكانه ذلك، وعرفه عفو أخيه عنه، وضمن له ما أراد، وأعاده إلى العسكر، فأمر السلطان محمود العساكر باستقباله وتعظيمه، ففعلوا ذلك، وأمر السلطان أن ينزل عند والدته، وجلس له، وأحضره، واعتنقا، وبكيا، وانعطف عليه محمود، ووفى له بما بذله، وخلطه بنفسه في كل أفعاله، فعد ذلك من مكارم محمود، وكانت الخطبة بالسلطنة لمسعود بأذربيجان، وبلد الموصل، والجزيرة، ثمانية وعشرين يوماً.
وأما أتابكه جيوش بك فإنه سار إلى عقبة أسادباذ، وانتظر الملك مسعوداً، فلم يره، وانتظر بمكان آخر، فلم يصل إليه، فلما أيس منه سار إلى الموصل، ونزل بظاهرها، وجمع الغلات من السواد إليها، واجتمع إليه عسكره، فلما سمع بما فعله السلطان مع أخيه، وأنه عنده، علم أنه لا مقام له على هذا الحال، فسار كأنه يريد الصيد، فوصل إلى الزاب، وقال لمن معه: إنني قد عزمت على قصد السلطان محمود، وأخاطر بنفسي، فسار إليه، فوصل وهو بهمذان، ودخل إليه، فطيب قلبه وأمنه، وأحسن إليه.
وأما دبيس بن مزيد فإنه كان بالعراق، فلما بلغه خبر انهزام الملك مسعود نهب البلاد وخربها، وفعل فيها الأفاعيل القبيحة، إلى أن أتاه رسول السلطان محمود، وطيب قلبه، فلم يلتفت.
ذكر حال دبيس وما كان منه
لما كان منه ببغداد وسوادها من النهب والقتل والفساد ما لم يجر مثله، أرسل إليه الخليفة المسترشد بالله رسالة ينكر عليه، ويأمره بالكف، فلم يفعل، فأرسل إليه السلطان وطيب قلبه، وأمره بمنع أصحابه عن الفساد، فلم يقبل، وسار بنفسه إلى بغداد، وضرب سرادقه بإزاء دار الخلافة، وأظهر الضغائن التي في نفسه، وكيف طيف برأس أبيه، وتهدد الخليفة، وقال: إنك أرسلت تستدعي السلطان، فإن أعدتموه، وإلا فعلت وصنعت. فأعيد جواب رسالته: أن عود السلطان، وقد سار عن همذان، غير ممكن، ولكنا نصلح حالك معه.
وكان الرسول شيخ الشيوخ إسماعيل، فكف على أن تسير الرسل في الاتفاق بينه وبين السلطان، وعاد عن بغداد في رجب.
ووصل السلطان في رجب إلى بغداد، فأرسل دبيس زوجته ابنة عميد الدولة بن جهير إليه، ومعها مال كثير، وهدية نفيسة، وسأل الصفح عنه، فأجيب إلى ذلك على قاعدة امتنع منها، ولزم لجاجه، ونهب جشيراً للسلطان. فسار السلطان عن بغداد، في شوال، إلى قصد دبيس بالحلة، واستصحب ألف سفينة ليعبر فيها، فلما علم دبيس مسير السلطان أرسل يطلب الأمان، فأمنه، وكان قصده أن يغالطه ليتجهز، فأرسل نساءه إلى البطيحة، وأخذ أمواله وسار عن الحلة، بعد أن نهبها، إلى إيلغازي ملتجأً إليه، ووصل السلطان إلى الحلة، فلم ير أحداً، فبات بها ليلة واحدة وعاد. (4/454)
وأقام دبيس عند إيلغازي، وتردد معه، ثم إنه أرسل أخاه منصوراً في جيش من قلعة جعبر إلى العراق، فنظر الحلة، والكوفة، وانحدر إلى البصرة، وأرسل إلى يرنقش الزكوي يسأله أن يصلح حاله مع السلطان، فلم يتم أمره، فأرسل إلى أخيه دبيس يعرفه ذلك، ويدعوه إلى العراق، فسار من قلعة جعبر إلى الحلة سنة خمس عشرة، فدخلها وملكها، وأرسل إلى الخليفة والسلطان يعتذر، ويعد من نفسه الطاعة، فلم يجب إلى ذلك.
وسيرت إليه العساكر، فلما قاربوه فارق الحلة، ودخل إلى الأزير، وهو نهر سنداد، ووصل العسكر إليها وهي فارغة قد أجلي أهلها عنها، وليس بها إقامة، فكانت الميرة تنقل من بغدد، وكان مقدم العسكر سعد الدولة يرنقش الزكوي، فترك بالحلة خمسمائة فارس، وبالكوفة جماعة أخرى تحفظ الطريق على دبيس، وأرسل إلى عسكر واسط يحفظ طريق البطيحة، ففعلوا ذلك، وعبر عسكر السلطان إلى دبيس، فبقي بين الطائفتين نهر يخاض فيه مواضع، فتراسل يرنقش ودبيس، واتفقا على أن يرسل دبيس أخاه منصوراً رهيناً، ويلازم الطاعة، ففعل، وعاد العسكر إلى بغداد سنة ست عشرة.
ذكر خروج الكرج إلى بلاد الإسلام وملك تفليس
في هذه السنة خرج الكرج، وهم الخزر، إلى بلاد الإسلام، وكانوا قديماً يغيرون، فامتنعوا أيام السلطان ملكشاه إلى آخر أيام السلطان محمد، فلما كانت هذه السنة خرجوا ومعهم قفجاق وغيرهم من الأمم المجاورة لهم، فتكاتب الأمراء المجاورون لبلادهم، واجتمعوا، منهم: الأمير إيلغازي، ودبيس بن صدقة، وكان عنده، والملك طغرل بن محمد، وأتابكه كنتغدي، وكان لطغرل بلد أران، ونقجوان إلى أرس، فاجتمعوا وساروا إلى الكرج، فلما قاربوا تفليس، وكان المسلمون في عسكر كثير يبلغون ثلاثين ألفاً، التقوا واصطفت الطائفتان للقتال، فخرج من القفجاق مائتا رجل، فظن المسلمون أنهم مستأمنون، فلم يحترزوا منهم، ودخلوا بينهم، ورموا بالنشاب، فاضطرب صف المسلمين، فظن من بعد أنها هزيمة، فانهزموا، وتبع الناس بعضهم بعضاً منهزمين، ولشدة الزحام صدم بعضهم بعضاً، فقتل منهم عالم عظيم.
وتبعهم الكفار عشرة فراسخ يقتلون ويأسرون، فقتل أكثرهم، وأسروا أربعة آلاف رجل، ونجا الملك طغرل، وإيلغازي، ودبيس، وعاد الكرج فنهبوا بلاد الإسلام، وحصروا مدينة تفليس، واشتد قتالهم لمن بها، وعظم الأمر، وتفاقم الخطب على أهلها، ودام الحصار إلى سنة خمس عشة فملكوها عنوة.
وكان أهلها لما أشرفوا على الهلاك قد أرسلوا قاضيها وخطيبها إلى الكرج في طلب الأمان، فلم تصغ الكرج إليهما فأخرقوا بهما، ودخلوا البلد قهراً وغلبة، واستباحوه ونهبوه، ووصل المستنفرون منهم إلى بغداد مستصرخين ومستنصرين سنة ست عشرة، فبلغهم أن السلطان محموداً بهمذان، فقصدوه واستغاثوا به فسار إلى أذربيجان، وأقام بمدينة تبريز شهر رمضان، وأنفذ عسكراً إلى الكرج، وسيرد ذكر ما كان منهم، إن شاء الله تعالى.
ذكر غزوات إيلغازي هذه السنة
في هذه السنة أرسل المسترشد بالله خلعاً مع سديد الدولة بن الأنباري لنجم الدين إيلغازي، وشكره على ما يفعله من غزو الفرنج، ويأمره بإبعاد دبيس عنه، وسار أبو علي بن عمار الذي كان صاحب طرابلس، مع ابن الأنباري إلى إيلغازي ليقيم عنده، يعبر الأوقات بما ينعم به عليه، فاعتذر عن إبعاد دبيس، ووعد به، ثم سار إلى الفرنج، وكان قد جمع لهم جمعاً، فالتقوا بموضع اسمه ذات البقل من أعمال حلب، فاقتتلوا، واشتد القتال، وكان الظفر له.
ثم اجتمع إيلغازي وأتابك طغتكين، صاحب دمشق، وحصروا الفرنج في معرة قنسرين يوماً وليلة، ثم أشار أتابك طغتكين بالإفراج عنهم، كيلا يحملهم الخوف على أن يستقتلوا ويخرجوا إلى المسلمين، فربما ظفروا، وكان أكثر خوفه من دبر خيل التركمان، وجودة خيل الفرنج، فأفرج لهم إيلغازي، فساروا عن مكانهم وتخلصوا، وكان إيلغازي لا يطيل المقام في بلد الفرنج لأنه كان يجمع التركمان للطمع، فيحضر أحدهم ومعه جراب فيه دقيق، وشاة، ويعد الساعات لغنيمة يتعجلها، ويعود، فإذا طال مقامهم تفرقوا، ولم يكن له من الأموال ما يفرقها فيهم.
ذكر ابتداء أمر محمد بن تومرت وعبد المؤمن وملكهما (4/455)
في هذه السنة كان ابتداء أمر المهدي أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن تومرت العلوي، الحسني، وقبيلته من المصامدة، تعرف بهرغة في جبل السوس، من بلاد المغرب، نزلوا به لما فتحه المسلمون مع موسى بن نصير، ونذكر أمره وأمر عبد المؤمن هذه السنة إلى أن فرغ من ملك المغرب لنتبع بعض الحادثة بعضاً.
وكان ابن تومرت قد رحل في شبيبته إلى بلاد الشرق في طلب العلم، وكان فقيهاً، فاضلاً، عالماً بالشريعة، حافظاً للحديث، عارفاً بأصولي الدين والفقه، متحققاً بعلم العربية، وكان ورعاً، ناسكاً، ووصل في سفره إلى العراق، واجتمع بالغزالي، والكيا، واجتمع بأبي بكر الطرطوشي بالإسكندرية، وقيل إنه جرى له حديث مع الغزالي فيما فعله بالمغرب من التملك، فقال له الغزالي: إن هذا لا يتمشى في هذه البلاد، ولا يمكن وقوعه لأمثالنا.
كذا قال بعض مؤرخي المغرب، والصحيح أنه لم يجتمع به، فحج من هناك وعاد إلى المغرب، ولما ركب البحر من الإسكندرية، مغرباً، غير المنكر في المركب، وألزم من به بإقامة الصلاة، وقراءة القرآن، حتى انتهى إلى المهدية، وسلطانها حينئذ يحيى بن تميم، سنة خمس وخمسمائة، فنزل بمسجد قبلي مسجد السبت، وليس له سوى ركوة، وعصاً، وتسامع به أهل البلد، فقصدوه يقرأون عليه أنواع العلوم، وكان إذا مر به منكر غيره وأزاله، فلما كثر ذلك منه أحضره الأمير يحيى مع جماعة من الفقهاء، فلما رأى سمته وسمع كلامه أكرمه واحترمه، وسأله الدعاء.
ورحل عن المدينة وأقام بالمنستير مع جماعة من الصالحين، مدة، وسار إلى بجاية ففعل فيها مثل ذلك، فأخرج منها إلى قرية بالقرب منها اسمها ملالة، فلقيه بها عبد المؤمن بن علي، فرأى فيه من النجابة والنهضة ما تفرس فيه التقدم، والقيام بالأمر، فسأله عن اسمه وقبيلته، فأخبره أنه من قيس عيلان، ثم من بني سليم، فقال ابن تومرت: هذا الذي بشر به النبي، صلى الله عليه وسلم، حين قال: " إن الله ينصر هذا الدين، في آخر الزمان، برجل من قيس " ، فقيل: من أي قيس؟ فقال: " من بني سليم " . فاستبشر بعبد المؤمن وسر بلقائه، وكان مولد عبد المؤمن في مدينة تاجرة، من أعمال تلمسان، وهو عائذ، قبيل من كومرة، نزلوا بذلك الإقليم سنة ثمانين ومائة.
ولم يزل المهدي ملازماً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في طريقه إلى أن وصل إلى مراكش دار مملكة أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، فرأى فيها من المنكرات أكثر مما عاينه في طريقه، فزاد في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، فكثر أتباعه، وحسنت ظنون الناس فيه، فبينما هو في بعض الأيام في طريقه، إذ رأى أخت أمير المسلمين في موكبها، ومعها من الجواري الحسان عدة كثيرة، وهن مسفرات، وكانت هذه عادة الملثمين يسفر نساؤهم عن وجوههن، ويتلثم الرجال، فحين رأى النساء كذلك أنكر عليهن، وأمرهن بستر وجوههن وضرب هو وأصحابه دوابهن، فسقطت أخت أمير المسلمين عن دابتها، فرفع أمره إلى أمير المسلمين علي بن يوسف، فأحضره، وأحضر الفقهاء ليناظروه، فأخذ يعظه ويخوفه، فبكى أمير المسلمين، وأمر أن يناظره الفقهاء، فلم يكن فيهم من يقوم له لقوة أدلته في الذي فعله.
وكان عند أمير المسلمين بعض وزرائه يقال له مالك بن وهيب، فقال: يا أمير المسلمين، إن هذا والله لا يريد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما يريد إثارة فتنة، والغلبة على بعض النواحي، فاقتله وقلدني دمه. فلم يفعل ذلك، فقال: إن لم تقتله فاحبسه، وخلده في السجن، وإلا أثار شراً لا يمكن تلافيه. فأراد حبسه، فمنعه رجل من أكابر الملثمين يسمى بيان بن عثمان، فأمر بإخراجه من مراكش، فسار إلى أغمات، ولحق بالجبل، فسار فيه، حتى التحق بالسوس الذي فيه قبيلة هرغة وغيرهم من المصامدة سنة أربع عشرة، فأتوه، واجتمعوا حوله. (4/456)
وتسامع به أهل تلك النواحي، فوفدوا عليه، وحضر أعيانهم بين يديه، وجعل يعظهم، ويذكرهم بأيام الله، ويذكر لهم شرائع الإسلام، وما غير منها، وما حدث من الظلم والفساد، وأنه لا يجب طاعة دولة من هذه الدول لاتباعهم الباطل، بل الواجب قتالهم، ومنعهم عما هم فيه، فأقام على ذلك نحو سنة، وتابعته هرغة قبيلته، وسمى أتباعه الموحدين، وأعلمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم، بشر بالمهدي الذي يملأ الأرض عدلاً، وأن مكانه الذي يخرج منه المغرب الأقصى، فقام إليه عشرة رجال، أحدهم عبد المؤمن، فقالوا لا يوجد هذا إلا فيك فأنت المهدي، فبايعوه على ذلك.
فانتهى خبره إلى أمير المسلمين، فجهز جيشاً من أصحابه وسيرهم إليه، فلما قربوا من الجبل الذي هو فيه قال لأصحابه: إن هؤلاء يريدونني، وأخاف عليكم منهم، فالرأي أن أخرج بنفسي إلى غير هذه البلاد لتسلموا أنتم. فقال له ابن توفيان من مشايخ هرغة: هل تخاف شيئاً من السماء؟ فقال: لا، بل من السماء تنصرون، فقال ابن توفيان: فليأتنا كل من في الأرض. ووافقه جميع قبيلته، فقال المهدي: أبشروا بالنصر بهذه الشرذمة، وبعد قليل تستأصلون دولتهم، وترثون أرضهم. فنزلوا من الجبل، ولقوا جيش أمير المسلمين، فهزموهم، وأخذوا أسلابهم، وقوي ظنهم في صدق المهدي، حيث ظفروا كما ذكر لهم.
وأقبلت إليه أفرواج القبائل، من الحلل التي حوله، شرقاً وغرباً، وبايعوه، وأطاعته قبيلة هنتانة، وهي من أقوى القبائل، فأقبل عليهم، واطمأن إليهم، وأتاه رسل أهل تين ملل بطاعتهم، وطلبوه إليهم، فتوجه إلى جبل تين ملل واستوطنه، وألف لهم كتاباً في التوحيد، وكتاباً في العقيدة، ونهج لهم طريق الأدب بعضهم مع بعض، والاقتصار على القصير من الثياب، القليل الثمن، وهو يحرضهم على قتال عدوهم، وإخراج الأشرار من بين أظهرهم.
وأقام بتين ملل وبنى له مسجداً خارج المدينة، فكان يصلي فيه وجمع ممن معه عنده، ويدخل البلد بعد العشاء الآخرة، فلما رأى كثرة أهل الجبل، وحصانة المدينة، خاف أن يرجعوا عنه، فأمرهم أن يحضروا بغير سلاح، ففعلوا ذلك عدة أيام، ثم أمر أصحابه أن يقتلوهم، فخرجوا عليهم وهم غارون فقتلوهم في ذلك المسجد، ثم دخل المدينة فقتل فيها وأكثر، وسبى الحريم ونهب الأموال، فكان عدة القتلى خمسة عشر ألفاً، وقسم المساكن والأرض بين أصحابه، وبنى على المدينة سوراً، وقلعة على رأس جبل عال.
وفي جبل تين ملل أنهار جارية، وأشجار، وزروع، والطريق إليه صعب، فلا جبل أحصن منه، وقيل: إنه لما خاف أهل تين ملل نظر، فرأى كثير من أولادهم شقراً زرقاً، والذي يغلب على الآباء السمرة، وكان لأمير المسلمين عدة كثيرة من المماليك الفرنج والروم، ويغلب على ألوانهم الشقرة، وكانوا يصعدون الجبل في كل عام مرة، ويأخذون ما لهم فيه من الأموال المقررة لهم من جهة السلطان، فكانوا يسكنون بيوت أهله، ويخرجون أصحابها منها، فلما رأى المهدي أولادهم سألهم: مالي أراكم سمر الألوان، وأرى أولادكم شقراً، زرقاً؟ فأخبروه خبرهم مع مماليك أمير المسلمين، فقبح الصبر على هذا، وأزرى عليهم، وعظم الأمر عندهم، فقالوا له: فكيف الحيلة في الخلاص منهم، وليس لنا بهم قوة؟ فقال: إذا حضروا عندكم في الوقت المعتاد، وتفرقوا في مساكنهم، فليقم كل رجل منكم إلى نزيله فيقتله، واحفظوا جبلكم، فإنه لا يرام ولا يقدر عليه. فصبروا حتى حضر أولئك العبيد، فقتلوهم على ما قرر لهم المهدي، فلما فعلوا ذلك خافوا على نفوسهم من أمير المسلمين، فامتنعوا في الجبل، وسدوا ما فيه من طريق يسلك إليهم، فقويت نفس المهدي بذلك.
ثم إن أمير المسلمين أرسل إليهم جيشاً قوياً، فحصروهم في الجبل، وضيقوا عليهم، ومنعوا عنهم الميرة، فقلت عند أصحاب المهدي الأقوات، حتى صار الخبز معدوماً عندهم، وكان يطبخ لهم كل يوم من الحساء ما يكفيهم، فكان قوت كل واحد منهم أن يغمس يده في ذلك الحساء ويخرجها، فما علق عليها قنع به ذلك اليوم، فاجتمع أعيان أهل تين مل، وأرادوا إصلاح الحال مع أمير المسلمين، فبلغ الخبر بذلك المهدي بن تومرت، وكان معه إنسان يقال له أبو عبد الله الونشريشي، يظهر البله، وعدم المعرفة بشيء من القرآن والعلم، وبزاقه يجري على صدره، وهو كأنه معتوه، ومع هذا فالمهدي يقربه، ويكرمه، ويقول: إن لله سراً في هذا الرجل سوف يظهر. (4/457)
وكان الونشريشي يلزم الاشتغال بالقرآن والعلم في السر بحيث لا يعلم أحد ذلك منه، فلما كان سنة تسع عشرة وخاف المهدي من أهل الجبل، خرج يوماً لصلاة الصبح، فرأى إلى جانب محرابه إنساناً حسن الثياب، طيب الريح، فأظهر أنه لا يعرفه، وقال: من هذا؟ فقال: أنا أبو عبد الله الونشريشي! فقال له المهدي: إن أمرك لعجب! ثم صلى، فلما فرغ من صلاته نادى في الناس فحضروا، فقال: إن هذا الرجل يزعم أنه الونشريشي، فانظروه، وحققوا أمره. فلما أضاء النهار عرفوه، فقال له المهدي: ما قصتك؟ قال: إنني أتاني الليلة ملك من السماء، فغسل قلبي، وعلمني الله القرآن، والموطأ، وغيره من العلوم والأحاديث. فبكى المهدي بحضرة الناس، ثم قال له: نحن نمتحنك، فقال: افعل.
وابتدأ يقرأ القرآن قراءة حسنة من أي موضع سئل، وكذلك الموطأ، وغيره من كتب الفقه والأصول، فعجب الناس من ذلك، واستعظموه.
ثم قال لهم: إن الله تعالى قد أعطاني نوراً أعرف به أهل الجنة من أهل النار، وآمركم أن تقتلوا أهل النار، وتتركوا أهل الجنة، وقد أنزل الله تعالى ملائكة إلى البئر التي في المكان الفلاني يشهدون بصدقي.
فسار المهدي، والناس معه وهم يبكون، إلى تلك البئر، وصلى المهدي عند رأسها، وقال: يا ملائكة الله، إن أبا عبد الله الونشريشي قد زعم كيت وكيت، فقال من بها: صدق! وكان قد وضع فيها رجالاً يشهدون بذلك، فلما قيل ذلك من البئر، قال المهدي: إن هذه مطهرة مقدسة قد نزل إليها الملائكة، والمصلحة أن تطم لئلا يقع فيها نجاسة، أو ما لا يجوز، فألقوا فيها من الحجارة والتراب ما طمها، ثم نادى في أهل الجبل بالحضور إلى ذلك المكان، فحضروا للتمييز، فكان الونشريشي يعمد إلى الرجل الذي يخاف ناحيته، فيقول: هذا من أهل النار، فيلقى من الجبل مقتولاً، وإلى الشاب الغر، ومن لا يخشى، فيقول: هذا من أهل الجنة، فيترك على يمينه، فكان عدة القتلى سبعين ألفاً. فلما فرغ من ذلك أمن على نفسه وأصحابه واستقام أمره.
هكذا سمعت جماعة من فضلاء المغاربة يذكرون في التمييز، وسمعت منهم من يقول: إن ابن تومرت لما رأى كثرة أهل الشر والفساد في أهل الجبل، أحضر شيوخ القبائل، وقال لهم: إنكم لا يصح لكم دين، ولا يقوى إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإخراج المفسد من بينكم، فابحثوا عن كل ما عندكم من أهل الشر والفساد، فانهوهم عن ذلك، فإن انتهوا، وإلا فاكتبوا أسماءهم وارفعوها إلي لأنظر في أمرهم. ففعلوا ذلك، وكتبوا له أسماءهم من كل قبيلة، ثم أمرهم بذلك مرة ثانية، وثالثة، ثم جمع المكتوبات فأخذه منها ما تكرر من الأسماء فأثبتها عنده، ثم جمع الناس قاطبة، ورفع الأسماء التي كتبها، ودفعها إلى الونشريشي المعروف بالبشير، وأمره أن يعرض القبائل، ويجعل أولئك المفسدين في جهة الشمال، ومن عداهم في جهة اليمين، ففعل ذلك، وأمر أن يكتف من على شمال الونشريشي، فكتفوا، وقال: إن هؤلاء أشقياء قد وجب قتلهم، وأمر كل قبيلة أن يقتلوا أشقياءهم، فقتلوا عن آخرهم فكان يوم التمييز.
ولما فرغ ابن تومرت من التمييز، رأى أصحابه الباقين على نيات صادقة، وقلوب متفقة على طاعته، فجهز منهم جيشاً وسيرهم إلى جبال أغمات، وبها جمع من المرابطين، فقاتلوهم، فانهزم أصحاب ابن تومرت، وكان أميرهم أبو عبد الله الونشريشي، وقتل منهم كثير، وجرح عمر الهنتاتي، وهو من أكبر أصحابه، وسكن حسه ونبضه، فقالوا: مات! فقال الونشريشي: أما إنه لم يمت، ولا يموت حتى يملك البلاد. فبعد ساعة فتح عينيه، وعادت قوته إليه، فافتتنوا به، وعادوا منهزمين إلى ابن تومرت، فوعظهم، وشكرهم على صبرهم.
ثم لم يزل بعدها يرسل السرايا في أطراف بلاد المسلمين، فإذا رأوا عسكراً تعلقوا بالجبل فأمنوا. وكان المهدي قد رتب أصحابه مراتب، فالأولى يسمون أيت عشرة يعني أهل عشرة، وأولهم عبد المؤمن، ثم أبو حفص الهنتاتي، وغيرهما، وهم أشرف أصحابه، وأهل الثقة عنده، والسابقون إلى متابعته، والثانية: أيت خمسين، يعني أهل خمسين، وهم دون تلك الطبقة، وهم جماعة من رؤساء القبائل، والثالثة: أيت سبعين، يعني أهل سبعين، وهم دون التي قبلها، وسمي عامة أصحابه والداخلين في طاعته موحدين، فإذا ذكر الموحدون في أخبارهم فإنما يعنى أصحابه وأصحاب عبد المؤمن بعده. (4/458)
ولم يزل أمر ابن تومرت يعلو إلى سنة أربع وعشرين، فجهز المهدي جيشاً كثيفاً يبلغون أربعين ألفاً، أكثرهم رجالة، وجعل عليهم الونشريشي، وسير معهم عبد المؤمن، فنزلوا وساروا إلى مراكش فحصروها، وضيقوا عليها، وبها أمير المسلمين علي بن يوسف، فبقي الحصار عليها عشرين يوماً، فأرسل أمير المسلمين إلى متولي سجلماسة يأمره أن يحضر ومعه الجيوش، فجمع جيشاً كثيراً وسار، فلما قارب عسكر المهدي خرج أهل مراكش من غير الجهة التي أقبل منها، فاقتتلوا، واشتد القتال، وكثر القتل في أصحاب المهدي، فقتل الونشريشي أميرهم، فاجتمعوا إلى عبد المؤمن وجعلوه أميراً عليهم.
ولم يزل القتال بينهم عامة النهار، وصلى عبد المؤمن صلاة الخوف، الظهر والعصر، والحرب قائمة، ولم تصل بالمغرب قبل ذلك، فلما رأى المصامدة كثرة المرابطين، وقوتهم، أسندوا ظهورهم إلى بستان كبير هناك، والبستان يسمى عندهم البحيرة، فلهذا قيل وقعة البحيرة، وعام البحيرة، وصاروا يقاتلون من جهة واحدة إلى أن أدركهم الليل، وقد قتل من المصامدة أكثرهم، وحين قتل الونشريشي دفنه عبد المؤمن، فطلبه المصامدة، فلم يروه في القتلى، فقالوا: رفعته الملائكة، ولما جنهم الليل سار عبد المؤمن ومن سلم من القتلى إلى الجبل.
ذكر وفاة المهدي وولاية عبد المؤمن
لما سير الجيش إلى حصار مراكش مرض مرضاً شديداً، فلما بلغه خبر الهزيمة اشتد مرضه، وسأل عن عبد المؤمن، فقيل: هو سالم، فقال: ما مات أحد، الأمر قائم، وهو الذي يفتح البلاد. ووصى أصحابه باتباعه، وتقديمه، وتسليم الأمر إليه، والانقياد له، ولقبه أمير المؤمنين.
ثم مات المهدي، وكان عمره إحدى وخمسين سنة، وقيل: خمساً وخمسين سنة، ومدة ولايته عشرين سنة، وعاد عبد المؤمن إلى تين ملل، وأقام بها يتألف القلوب، ويحسن إلى الناس، وكان جواداً مقداماً في الحروب، ثابتاً في الهزاهز، إلى أن دخلت سنة ثمان وعشرين وخمسمائة، فتجهز وسار في جيش كثير، وجعل يمشي مع الجبل إلى أن وصل إلى تادلة، فمانعه أهلها، وقاتلوه، فقهرهم، وفتحها وسائر البلاد التي تليها ومشى في الجبال يفتح ما امتنع عليه، وأطاعته صنهاجة الجبل.
وكان أمير المسلمين قد جعل ولي عهده ابنه سير، فمات، فأحضر أمير المسلمين ابنه تاشفين من الأندلس، وكان أميراً عليها، فلما حضر عنده جعله ولي عهده سنة إحدى وثلاثين، وجعل معه جيشاً، وصار يمشي في الصحراء قبالة عبد المؤمن في الجبال.
وفي سنة اثنتين وثلاثين كان عبد المؤمن في النواظر، وهو جبل عال مشرف، وتاشفين في الوطأة، وكان يخرج من الطائفتين قوم يترامون ويتطاردون، ولم يكن بينهما لقاء، ويسمى عام النواظر.
وفي سنة ثلاث وثلاثين توجه عبد المؤمن، مع الجبل، في الشعراء، حتى انتهى إلى جبل كرناطة، فنزل في أرض صلبة، بين شجر، ونزل تاشفين قبالته، في الوطأة، في أرض لا نبات فيها، وكان الفصل شاتياً، فتوالت الأمطار أياماً كثيرة لا تقلع، فصارت الأرض التي فيها تاشفين وأصحابه كثيرة الوحل، تسوخ فيها قوائم الخيل إلى صدورها، ويعجز الرجل عن المشي فيها، وتقطعت الطرق عنهم، فأوقدوا رماحهم، وقرابيس سروجهم، وهلكوا جوعاً وبرداً وسوء حال.
وكان عبد المؤمن وأصحابه في أرض خشنة صلبة في الجبل، لا يبالون بشيء، والميرة متصلة إليهم، وفي ذلك الوقت سير عبد المؤمن جيشاً إلى وجرة من أعمال تلمسان، ومقدمهم أبو عبد الله محمد بن رقو، وهو من أيت خمسين، فبلغ خبرهم إلى محمد بن يحيى بن فانوا، متولي تلمسان، فخرج في جيش من الملثمين، فالتقوا بموضع يعرف بخندق الخمر، فهزمهم جيش عبد المؤمن، وقتل محمد بن يحيى وكثير من أصحابه، وغنموا ما معهم ورجعوا، فتوجه عبد المؤمن بجميع جيشه إلى غمارة، فأطاعوه قبيلة بعد قبيلة، وأقام عندهم مدة.
وما برح يمشي في الجبال، وتاشفين يحاذيه في الصحاري، فلم يزل عبد المؤمن كذلك إلى سنة خمس وثلاثين، فتوفي أمير المسلمين علي بن يوسف بمراكش وملك بعده ابنه تاشفين، فقوي طمع عبد المؤمن في البلاد، إلا أنه لم ينزل الصحراء. (4/459)
وفي سنة ثمان وثلاثين توجه عبد المؤمن إلى تلمسان، فنازلها، وضرب خيامه في جبل بأعلاها، ونزل تاشفين على الجانب الآخر من البلد، وكان بينهم مناوشة، فبقوا كذلك إلى سنة تسع وثلاثين، فرحل عبد المؤمن عنها إلى جبل تاجرة، ووجه جيشاً مع عمر الهنتاتي إلى مدينة وهران، فهاجمها بغتة، وحصل هو وجيشه فيها، فسمع بذلك تاشفين فسار إليها، فخرج منها عمر، ونزل تاشفين بظاهر وهران، على البحر، في شهر رمضان سنة تسع وثلاثين، فجاءت ليلة سبع وعشرين منه، وهي ليلة يعظمها أهل المغرب، وبظاهر وهران ربوة مطلة على البحر، وبأعلاها ثنية يجتمع فيها المتعبدون، وهو موضع معظم عندهم، فسار إليه تاشفين في نفر يسير من أصحابه متخفياً، لم يعلم به إلا النفر الذين معه، وقصد التبرك بحضور ذلك الموضع مع أولئك الجماعة الصالحين، فبلغ الخبر إلى عمر بن يحيى الهنتاتي، فسار لوقته بجميع عسكره إلى ذلك المتعبد، وأحاطوا به، وملكوا الربوة، فلما خاف تاشفين على نفسه أن يأخذوه ركب فرسه وحمل عليه إلى جهة البحر، فسقط من جرف عال على الحجارة فهلك، ورفعت جثته على خشبة، وقتل كل من كان معه.
وقيل إن تاشفين قصد حصناً هناك على رابية، وله فيه بستان كبير فيه من كل الثمار، فاتفق أن عمر الهنتاتي، مقدم عسكر عبد المؤمن، سير سرية إلى ذلك الحصن، يعلمهم بضعف من فيه، ولم يعلموا أن تاشفين فيه، فألقوا النار في بابه فاحترق، فأراد تاشفين الهرب، فركب فرسه، فوثب الفرس من داخل الحصن إلى خارج السور، فسقط في النار، فأخذ تاشفين، فاعترف، فأرادوا حمله إلى عبد المؤمن، فمات في الحال لأن رقبته كانت قد اندقت، فصلب، وقتل كل من معه، وتفرق عسكره ولم يعد لهم جماعة. وملك بعده أخوه إسحاق بن علي بن يوسف.
ولما قتل تاشفين أرسل عمر إلى عبد المؤمن بالخبر، فجاء من تاجَرة في يومه بجميع عسكره، وتفرق عسكر أمير المسلمين، واحتمى بعضهم بمدينة وهران، فلما وصل عبد المؤمن دخلها بالسيف، وقتل فيها ما لا يحصى. ثم سار إلى تلمسان، وهما مدينتان بينهما شوط فرس، إحداهما تاهرت، وبها عسكر المسلمين، والأخرى أقادير، وهي بناء قديم، فامتنعت أقادير، وغلقت أبوابها، وتأهب أهلها للقتال.
وأما تاهرت، فكان فيها يحيى بن الصحراوية، فهرب منها بعسكره إلى مدينة فاس، وجاء عبد المؤمن إليها، فدخلها لما فر منها العسكر، ولقيه أهلها بالخضوع والاستكانة، فلم يقبل منهم ذلك، وقتل أكثرهم، ودخلها عسكره، ورتب أمرها، ورحل عنها، وجعل على أقادير جيشاً يحصرها، وسار إلى مدينة فاس سنة أربعين فنزل على جبل مطل عليها، وحصرها تسعة أشهر، وفيها يحيى بن الصحراوية، وعسكره الذين فروا من تلمسان، فلما طال مقام عبد المؤمن عمد إلى نهر يدخل البلد فسكره بالأخشاب والتراب وغير ذلك، فمنعه من دخول البلد، وصار بحيرة تسير فيها السفن، ثم هدم السكر، فجاء الماء دفعة واحدة فخرب سور البلد، وكل ما يجاور النهر من البلد، وأراد عبد المؤمن أن يدخل البلد، فقاتله أهله خارج السور، فتعذر عليه ما قدره من دخوله.
وكان بفاس عبد الله بن خيار الجياني عاملاً عليها وعلى جميع أعمالها، فاتفق هو وجماعة من أعيان البلد، وكاتبوا عبد المؤمن في طلب الأمان لأهل فاس، فأجابهم إليه، ففتحوا له باباً من أبوبها، فدخلها عسكره، وهرب يحيى بن الصحراوية، وكان فتحها آخر سنة أربعين وخمسمائة، وسار إلى طنجة، ورتب عبد المؤمن أمر مدينة فاس، وأمر فنودي في أهلها: من ترك عنده سلاحاً وعدة قتال حل دمه، فحمل كل من في البلد ما عندهم من سلاح إليه، فأخذه منهم.
ثم رجع إلى مكناسة، ففعل بأهلها مثل ذلك، وقتل من بها من الفرسان والأجناد. وأما العسكر الذي كان على تلمسان فإنهم قاتلوا أهلها، ونصبوا المجانيق، وأبراج الخشب، وزحفوا بالدبابات، وكان المقدم على أهلها الفقيه عثمان، فدام الحصار نحو سنة، فلما اشتد الأمر على أهل البلد اجتمع جماعة منهم وراسلوا الموحدين أصحاب عبد المؤمن، بغير علم الفقيه عثمان، وأدخلوهم البلد، فلم يشعر أهله إلا والسيف يأخذهم، فقتل أكثر أهله، وسبيت الذرية والحريم، ونهب من الأموال ما لا يحصى، ومن الجوهر ما لا تحد قيمته، ومن لم يقتل بيع بأوكس الأثمان، وكان عدة القتلى مائة ألف قتيل، وقيل: إن عبد المؤمن هو الذي حصر تلمسان، وسار منها إلى فاس، والله أعلم. (4/460)
وسير عبد المؤمن سرية إلى مكناسة، فحصروها مدة، ثم سلمها إليهم أهلها بالأمان فوفوا لهم.
وسار عبد المؤمن من فاس إلى مدينة سلا ففتحها، وحضر عنده جماعة من أعيان سبتة، فدخلوا في طاعته، فأجابهم إلى بذل الأمان، وكان ذلك سنة إحدى وأربعين.
ذكر ملك عبد المؤمن مدينة مراكش
لما فرغ عبد المؤمن من فاس، وتلك النواحي، سار إلى مراكش، وهي كرسي مملكة الملثمين، وهي من أكبر المدن وأعظمها، وكان صاحبها حينئذ إسحاق بن علي بن يوسف بن تاشفين، وهو صبي، فنازلها، وكان نزوله عليها سنة إحدى وأربعين، فضرب خيامه في غربيها على جبل صغير، وبنى عليه مدينة له ولعسكره، وبنى بها جامعاً وبنى له بناء عالياً يشرف منه على المدينة، ويرى أحوال أهلها، وأحوال المقاتلين من أصحابه، وقاتلها قتالاً كثيراً، وأقام عليها أحد عشر شهراً، فكان من بها من المرابطين يخرجون يقاتلونهم بظاهر البلد، واشتد الجوع على أهله، وتعذرت الأقوات عندهم.
ثم زحف إليهم يوماً، وجعل لهم كميناً، وقال لهم: إذا سمعتم صوت الطبل فاخرجوا، وجلس هو بأعلى المنظرة التي بناها يشاهد القتال، وتقدم عسكره، وقاتلوا، وصبروا، ثم إنهم انهزموا لأهل مراكش ليتبعوهم إلى الكمين الذي لهم، فتبعهم الملثمون إلى أن وصلوا إلى مدينة عبد المؤمن، فهدموا أكثر سورها، وصاحت المصامدة بعبد المؤمن ليأمر بضرب الطبل ليخرج الكمين، فقال لهم: اصبروا حتى يخرج كل طامع في البلد، فلما خرج أكثر أهله أمر بالطبل فضرب وخرج الكمين عليهم، ورجع المصامدة المنهزمون إلى الملثمين فقتلوهم كيف شاءوا، وعادت الهزيمة على الملثمين، فمات في زحمة الأبواب ما لا يحصيه إلا الله سبحانه.
وكان شيوخ الملثمين يدبرون دولة إسحاق بن علي بن يوسف لصغر سنة، فاتفق أن إنساناً من جملتهم يقال له عبد الله بن أبي بكر خرج إلى عبد المؤمن مستأمناً وأطلعه على عوراتهم وضعفهم، فقوي الطمع فيهم، واشتد عليهم البلاء، ونصب عليهم المنجنيقات والأبراج، وفنيت أقواتهم، وأكلوا دوابهم، ومات من العامة بالجوع ما يزيد على مائة ألف إنسان، فأنتن البلد من ريح الموتى.
وكان بمراكش جيش من الفرنج كان المرابطون قد استنجدوا بهم، فجاءوا إليهم نجدة، فلما طال عليهم الأمر راسلوا عبد المؤمن يسألون الأمان، فأجابهم إليه، ففتحوا له باباً من أبواب البلد يقال له باب أغمات، فدخلت عساكره بالسيف، وملكوا المدينة عنوة، وقتلوا من وجدوا، ووصلوا إلى دار أمير المسلمين، فأخرجوا الأمير إسحاق وجميع من معه من أمراء المرابطين، فقتلوا، وجعل إسحاق يرتعد رغبة في البقاء، ويدعو لعبد المؤمن ويبكي، فقام إليه الأمير سير بن الحاج، وكان إلى جانبه مكتوفاً، فبزق في وجهه، وقال: تبكي على أبيك وأمك؟ اصبر صبر الرجال، فهذا رجل لا يخاف الله ولا يدين بدين. فقام الموحدون إليه بالخشب فضربوه حتى قتلوه، وكان من الشجعان المعروفين بالشجاعة، وقدم إسحاق، على صغر سنه، فضربت عنقه سنة اثنتين وأربعين، وآخر ملوك المرابطين وبه انقرضت دولتهم، وكانت مدة ملكهم سبعين سنة، وولي منهم أربعة: يوسف وعلي وتاشفين وإسحاق.
ولما فتح عبد المؤمن مراكش أقام بها، واستوطنها واستقر ملكه. ولما قتل عبد المؤمن من أهل مراكش فأكثر فيهم القتل اختفى كثير من أهلها، فلما كان بعد سبعة أيام أمر فنودي بأمان من بقي من أهلها، فخرجوا، فأراد أصحابه المصامدة قتلهم، فمنعهم، وقال: هؤلاء صناع، وأهل الأسواق من ننتفع به، فتركوا، وأمر بإخراج القتلى من البلد، فأخرجوهم، وبنى بالقصر جامعاً كبيراً، وزخرفه فأحسن عمله، وأمر بهدم الجامع الذي بناه أمير المسلمين يوسف بن تاشفين.
ولقد أساء يوسف بن تاشفين في فعله بالمعتمد بن عباد، وارتكب بسجنه على الحالة المذكورة أقبح مركب، فلا جرم سلط الله عليه في عقابه من أربى في الأخذ عليه وزاد، فتبارك الحي الدائم الملك، الذي لا يزول ملكه، وهذه سنة الدنيا، فأف لها، ثم أف، نسأل الله أن يختم أعمالنا بالحسنى، ويجعل خير أيامنا يوم نلقاه بمحمد وآله.
ذكر ظفر عبد المؤمن بدكالة (4/461)
في سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة سار بعض المرابطين من الملثمين إلى دكالة، فاجتمع إليه قبائلها، وصاروا يغيرون على أعمال مراكش، وعبد المؤمن لا يلتفت إليهم، فلما كثر ذلك منهم سار إليهم سنة أربع وأربعين، فلما سمعت دكالة بذلك انحشروا كلهم إلى ساحل البحر في مائتي ألف راجل وعشرين ألف فارس، وكانوا موصوفين بالشجاعة.
وكان مع عبد المؤمن من الجيوش ما يخرج عن الحصر، وكان الموضع الذي فيه دكالة كثير الحجر والحزونة، فكمنوا فيه كمناء ليخرجوا على عبد المؤمن إذا سلكه، فمن الاتفاق الحسن له أنه قصدهم من غير الجهة التي فيها الكمناء، فانحل عليهم ما قدروه، وفارقوا ذلك الموضع، فأخذهم السيف، فدخلوا البحر، فقتل أكثرهم، وغنمت إبلهم وأغنامهم وأموالهم، وسبيت نساؤهم وذراريهم، فبيعت الجارية الحسناء بدراهم يسيرة، وعاد عبد المؤمن إلى مراكش مظفراً منصوراً، وثبت ملكه، وخافه الناس في جميع المغرب، وأذعنوا له بالطاعة.
ذكر حصر مدينة كتندة
في هذه السنة، يعني سنة أربع عشرة وخمسمائة، وخرج ملك من ملوك الفرنج بالأندلس، يقال له ابن ردمير، فسار حتى انتهى إلى كتندة، وهي بالقرب من مرسية، في شرق الأندلس، فحصرها، وضيق على أهلها، وكان أمير المسلمين علي بن يوسف حينئذ بقرطبة، ومعه جيش كثير من المسلمين والأجناد المتطوعة، فسيرهم إلى ابن ردمير، فالتقوا واقتتلوا أشد القتال، وهزمهم ابن أردمير هزيمة منكرة، وكثر القتل في المسلمين، وكان فيمن قتل أبو عبد الله بن الفراء، قاضي المرية، وكان من العلماء العاملين، والزهاد في الدنيا العادلين في القضاء.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة كسر بلك بن أرتق عفراس الرومي، وقتل من الروم خمسة آلاف رجل على قلعة سرمان من بلد الدكان وأسر عفراس وكثير من عسكره.
وفيها أغار جوسلين الفرنجي، صاحب الرها، على جيوش العرب والتركمان، وكانوا نازلين بصفين، غربي الفرات، وغنم من أموالهم وخيلهم ومواشيهم شيئاً كثيراً، ولما عاد خرب بزاعة.
وفيها تسلم أتابك طغتكين، صاحب دمشق، مدينة تدمر والشقيف.
وفيها أمر السلطان محمود الأمير جيوش بك بالمسير إلى حرب أخيه طغرل، فسار إليه، فسمع طغرل وأتابكه كنتغدي ذلك، فسارا إلى كنجة من بين يدي العسكر، ولم يجر قتال.
وفيها، في المحرم، توفي خالصة الدولة أبو البركات أحمد بن عبد الوهاب بن السيبي صاحب المخزن ببغداد، وولي مكانه الكمال أبو الفتوح حمزة بن طلحة، المعروف بابن البقشلام، والد علم الدين الكاتب المعروف.
وفي جمادى الأولى منها توفي أبو سعد عبد الرحيم بن عبد الكريم بن هوزان القشيري، الإمام ابن الإمام، وكان أخذ العلم من قرابته، والطريقة أيضاً، ثم استفاد أيضاً من إمام الحرمين أبي المعالي الجويني، وسمع الحديث من جماعة، ورواه، وكان حسن الوعظ، سريع الخاطر، ولما توفي جلس الناس في البلاد البعيدة للعزاء به، حتى في بغداد برباط شيخ الشيوخ.

This site was last updated 07/27/11