Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم عزت اندراوس

سنة تسع وأربعين وأربعمائة سنة خمسين وأربعمائة

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
سنة422
سنة423 وسنة424 وسنة425
سنة426 وسنة427
سنة428 وسنة429
سنة430 سنة431
سنة432
سنة433
سنة434
سنة435
سنة436 وسنة437 وسنة438
سنة439
سنة440
سنة441
سنة442
سنة443 وسنة444
سنة445 وسنة446
سنة447
سنة448
سنة449 وسنة450
سنة451 وسنة452
سنة453 وسنة454 وسنة455
سنة456
سنة457 وسنة458
من سنة459 إلى سنة462
سنة463 وسنة464 وسنة465
Untitled 4980

 

الجزء التالى من كتاب: الكامل في التاريخ المؤلف: أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير (المتوفى: 630هـ) تحقيق: عمر عبد السلام تدمري الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1417هـ / 1997م عدد الأجزاء:  10

**************************************************************************************************************************

ثم دخلت سنة تسع وأربعين وأربعمائة
ذكر عود السلطان طغرلبك إلى بغداد
(4/274)
لما سلم السلطان طغرلبك الموصل وأعمالها إلى أخيه إبراهيم ينال عاد إلى بغداد، فلما وصل إلى القفص خرج رئيس الرؤساء إلى لقائه، فلما قارب القفص لقيه عميد الملك، وزير السلطان، في جماعة من الأمراء، وجاء رئيس الرؤساء إلى السلطان فأبلغه سلام الخليفة واستيحاشه، فقبل الأرض، وقدم رئيس الرؤساء جاماً من ذهب فيه جواهر وألبسة فرجية جاءت معه من عند الخليفة، ووضع العمامة على مخدته، فخدم السلطان، وقبل الأرض، ووصل إلى بغداد، ولم يمكن أحداً من النزول في دور الناس، وطلب السلطان الاجتماع بالخليفة، فأذن له في ذلك.
وجلس الخليفة يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة جلوساً عاماً، وحضر وجوه عسكر السلطان وأعيان بغداد، وحضر السلطان في الماء، وأصحابه حوله في السميريات، فلما خرج من السميرية ركب فرساً من مراكب الخليفة، فحضر عند الخليفة، والخليفة على سرير عال من الأرض نحو سبعة أذرع، وعليه بردة النبي، صلى الله عليه وسلم، وبيده القضيب الخيزران، فقبل السلطان الأرض، وقبل يده، وأجلس على كرسي، فقال الخليفة لرئيس الرؤساء: قل له إن أمير المؤمنين شاكر لسعيك، حامد لفعلك، مستأنس بقربك، وقد ولاك جميع ما ولاه الله من بلاده، ورد عليك مراعاة عباده، فاتق الله فيما ولاك، وأعرف نعمته عليك في ذلك، واجتهد في نشر العدل، وكف الظلم، وإصلاح الرعية.
فقبل الأرض، وأمر الخليفة بإفاضة الخلع عليه، فقام إلى موضع لبسها فيه وعاد وقبل يد الخليفة ووضعها على عينيه، وخاطبه الخليفة بملك المشرق والمغرب، وأعطي العهد، وخرج، وأرسل إلى الخليفة خدمة كثيرة منها خمسون ألف دينار، وخمسون مملوكاً أتراكاً من أجود ما يكون، ومعهم خيولهم وسلاحهم، إلى غير ذلك من الثياب وغيرها.
ذكر الحرب بين هزارسب وفولاذ
كان السلطان قد ضمن هزارسب بن بنكير بن عياض البصرة، وأرجان، وخوزستان، وشيراز، فتجرد رسولتكين ابن عم السلطان ومعه فولاذ لهزارسب، وقصدا أرجان ونهباها.
وكان هزارسب مع طغرلبك بالموصل والجزيرة، فلما فرغ السلطان من تلك الناحية رد هزارسب إلى بلاده، وأمره بقتال رسولتكين وفولاذ، فسار إلى البصرة وصادر بها تاج الدين بن سخطة العلوي وابن سمحا اليهودي بمائة ألف وعشرين ألف دينار، وسار منها إلى قتال فولاذ ورسولتكين فلقيهما، وقاتلهما قتالاً شديداً، فقتل فولاذ، وأسر رسولتكين ابن عم السلطان، فأبقى عليه هزارسب، فسأل رسولتكين هزارسب ليرسله إلى دار الخلافة ليشفع فيه الخليفة، ففعل ذلك.
ووصل بغداد مع أصحاب هزارسب، فاجتاز بدار رئيس الرؤساء، فهجم ودخلها، واستدعى طعاماً إيجازاً للحرمة، فأمر الخليفة بإحضار عميد الملك وإعلامه بحال رسولتكين ليخاطب السلطان في أمره، فلما حضر عميد الملك وقيل له ذلك قال: إن السلطان يقول إن هذا لا حرمة له يستحق بها المراعاة، وقد قابل إحساني بالعصيان، ويجب تسليمه ليتحقق الناس منزلتي، وتتضاعف هيبتي، فاستقر الأمر، بعد مراجعة، على أن يقيده، وخرج توقيع الخليفة: إن منزلة ركن الدين، يعني طغرلبك، عندنا اقتضت ما لم نفعله مع غيره لأنه لم تجر العادة بتقييد أحد في الدار العزيز، ولا بد أن يكون الرضا في جواب ما فعل، فراسله رئيس الرؤساء حتى رضي.
وقد كانت دار الخلافة أيام بني بويه ملجأ لكل خائف منهم، من وزير وعميد وغير ذلك، ففي الأيام السلجوقية سلك غير ذلك، وكان أول شيء فعلوه هذا.
ذكر القبض على الوزير اليازوري بمصر
في هذه السنة، في ذي الحجة، قبض بمصر على الوزير أبي محمد الحسن بن عبد الرحمن اليازوري، وقرر عليه أموال عظيمة منه ومن أصحابه، ووجد له مكاتبات إلى بغداد.
وكان في ابتداء أمره قد حج، فلما قضى حجه أتى المدينة، وزار مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فسقط على منكبيه قطعة من الخلوق الذي على حائط الحجرة، فقال له أحد القوام: أيها الشيخ! إني أبشرك، ولي الحباء والكرامة إذ بلغته، أنك تلي ولاية عظيمة، وهذا الخلوق دليل على ذلك..
فلم يحل عليه الحول حتى ولي الوزارة، وأحسن إلى ذلك الرجل وراعاه.
وكان يتفقه على مذهب أبي حنيفة، وكان قاضياً بالرملة، يكرم العلماء، ويحسن إليهم ويجالسهم، وكان ابتداء أمره كابتداء أمر رئيس الرؤساء: الشهادة، والقضاء، وكانت سعادتهما متفقة، ونهايتهما متقاربة.
ذكر عدة حوادث (4/275)
في هذه السنة زاد الغلاء ببغداد والعراق حتى بيعت كارة الدقيق السميد بثلاثة عشر ديناراً، والكارة من الشعير والذرة بثمانية دنانير، وأكل الناس الميتة والكلاب وغيرها، وكثر الوباء حتى عجز الناس عن دفن الموتى، فكانوا يجعلون الجماعة في الحفيرة.
وفيها، في ربيع الأول، توفي أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري، الأديب، وله نحو ست وثمانين سنة، وعلمه أشهر من أن يذكر، إلا أن أكثر الناس يرمونه بالزندقة، وفي شعره ما يدل على ذلك، حكي أنه قال يوماً لأبي يوسف القزويني: ما هجوت أحداً، فقال له القزويني: هجوت الأنبياء، فتغير وجهه وقال: ما أخاف أحداً سواك.
وحكى عنه القزويني أنه قال: ما رأيت شعراً في مرثية الحسين بن علي يساوي أن يحفظ، فقال القزويني: بلى، قد قال بعض أهل سوادانا:
رأس ابن بنت محمد ووصيه ... للمسلمين على قناة يرفع
والمسلمون بمنظر وبمسمع، ... لا جازع منهم، ولا متفجع
أيقظت أجفاناً وكنت لها كرى، ... وأنمت عيناً لم تكن بك تهجع
كحلت بمصرعك العيون عماية، ... وأصم نعيك كل أذن تسمع
ما روضة إلا تمنت أنها ... لك مضجع ولخط قبرك موضع
وفيها أصلح دبيس بن علي بن مزيد ومحمود بن الأخرم الخفاجي حالهما مع السلطان، فعاد دبيس إلى بلاده فوجدها خراباً لكثرة من مات بها من الوباء الجارف، ليس بها أحد.
وفيها كثر الوباء ببخارى حتى قيل إنه مات في يوم واحد ثمانية عشر ألف إنسان من أعمال بخارى، وهلك في هذه الولاية في مدة الوباء ألف ألف وستمائة ألف وخمسون ألفاً، وكان بسمرقند مثل ذلك، ووجد ميت، وقد دخل تركي يأخذ لحافاً عليه، فمات التركي وطرف اللحاف بيده، وبقيت أموال الناس سائبة.
وفيها نهبت دار أبي جعفر الطوسي بالكرخ، وهو فقيه الإمامية، وأخذ ما فيها، وكان قد فارقها إلى المشهد الغربي.
وفيها، في صفر، توفي أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني، مقدم أصحاب الحديث بخراسان، وكان فقيهاً، خطيباً، إماماً، في عدة علوم.
وفيها، في ربيع الأول، توفي اياز بن ايماق أبو النجم غلام محمود بن سبكتكين، وأخباره معه مشهورة.
وفيها مات أبو أحمد عدنان ابن الشريف الرضي نقيب العلويين.
وفيها توفي أبو الحسن عبد الوهاب بن أحمد بن هارون الغساني، المعروف بابن الجندي.


ثم دخلت سنة خمسين وأربعمائة
ذكر مفارقة إبراهيم ينال الموصل واستيلاء البساسيري عليها وأخذها منه

في هذه السنة فارق إبراهيم ينال الموصل نحو بلاد الجبل، فنسب السلطان طغرلبك رحيله إلى العصيان، فأرسل إليه رسولاً يستدعيه، وصحبته الفرجية التي خلعها عليه الخليفة، وكتب الخليفة إليه أيضاً كتاباً في المعنى، فرجع إبراهيم إلى السلطان، وهو ببغداد، فخرج الوزير الكندري لاستقباله، وأرسل الخليفة إليه الخلع.
ولما فارق إبراهيم الموصل قصدها البساسيري، وقريش بن بدران، وحاصراها، فملكا البلد ليومه، وبقيت القلعة، وبها الخازن، وأردم، وجماعة من العسكر، فحاصراها أربعة أشهر حتى أكل من فيها دوابهم، فخاطب ابن موسك صاحب إربل قريشاً حتى أمنهم فخرجوا، فهدم البساسيري القلعة، وعفى أثرها.
وكان السلطان قد فرق عسكره في النوروز، وبقي جريدة في ألفي فارس حين بلغه الخبر، فسار إلى الموصل فلم يجد بها أحداً، وكان قريش والبساسيري قد فارقاها، فسار السلطان إلى نصيبين ليتتبع آثارهم ويخرجهم من البلاد، ففارقه أخوه إبراهيم ينال، وسار نحو همذان، فوصلها في السادس والعشرين من رمضان سنة خمسين، وكان قد قيل إن المصريين كاتبوه والبساسيري قد استماله وأطمعه في السلطنة والبلاد، فلما عاد إلى همذان سار السلطان في أثره.
ذكر الخطبة بالعراق للعلوي المصري وما كان إلى قتل البساسيري
لما عاد إبراهيم ينال إلى همذان سار طغرلبك خلفه، ورد وزيره عميد الملك الكندري وزوجته إلى بغداد. (4/276)
وكان مسيره من نصيبين في منتصف شهر رمضان، ووصل إلى همذان، وتحصن بالبلد، وقاتل أهلها بين يديه، وأرسل إلى الخاتون زوجته وعميد الملك الكندري يأمرهما باللحاق به، فمنعهما الخليفة من ذلك تمسكاً بهما، وفرق غلالاً كثيرة في الناس، وسار من كان ببغداد من الأتراك إلى السلطان بهمذان، وسار عميد الملك إلى دبيس بن مزيد فاحترمه وعظمه، ثم سار من عنده إلى هزارسب، وسارت خاتون إلى السلطان بهمذان، فأرسل الخليفة إلى نور الدولة دبيس بن مزيد يأمره بالوصول إلى بغداد، فورد إليها مائة فارس، ونزل في النجمي ثم عبر إلى الأتانين.
وقوي الإرجاف بوصول البساسيري، فلما تحقق الخليفة وصوله إلى هيت أمر الناس بالعبور من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي، فأرسل دبيس بن مزيد إلى الخليفة وإلى رئيس الرؤساء يقول: الرأي عندي خروجكما من البلد معي، فإنني أجتمع أنا وهزارسب فإنه بواسط على دفع عدوكما.
فأجيب ابن مزيد بأن يقيم حتى يقع الفكر في ذلك، فقال: العرب لا تطيعني على المقام، وأنا أتقدم إلى ديالى! فإذا انحدرتم سرت في خدمتكم. وسار وأقام بديالى ينتظرهما، فلم ير لذلك أثراً، فسار إلى بلاده.
ثم إن البساسيري وصل إلى بغداد يوم الأحد ثامن ذي القعدة، ومعه أربعمائة غلام على غاية الضر والفقر، وكان معه أبو الحسن بن عبد الرحيم الوزير، فنزل البساسيري بمشرعة الروايا، ونزل قريش بن بدران، وهو في مائتي فارس، عند مشرعة باب البصرة، وركب عميد العراق، ومعه العسكر والعوام، وأقاموا بإزاء عسكر البساسيري، وعادوا، وخطب البساسيري بجامع المنصور للمستنصر بالله العلوي، صاحب مصر، وأمر فأذن بحي على خير العمل، وعقد الجسر، وعبر عسكره إلى الزاهر وخيموا فيه، وخطب في الجمعة من وصوله بجامع الرصافة للمصري، وجرى بين الطائفتين حروب في أثناء الأسبوع.
وكان عميد العراق يشير على رئيس الرؤساء بالتوقف عن المناجزة، ويرى المحاجزة ومطاولة الأيام انتظاراً لما يكون من السلطان، ولما يراه من المصلحة بسبب ميل العامة إلى البساسيري، أما الشيعة فللمذهب، وأما السنة فلما فعل بهم الأتراك.
وكان رئيس الرؤساء لقلة معرفته بالحرب ولما عنده من البساسيري يرى المبادرة إلى الحرب، فاتفق أن في بعض الأيام حضر القاضي الهمذاني عند رئيس الرؤساء واستأذنه في الحرب، وضمن به قتل البساسيري، فأذن له من غير علم عميد العراق، فخرج ومعه الخدم، والهاشميون، والعجم، والعوام، إلى الحلبة وأبعدوا، البساسيري يستجرهم، فلما أبعدوا حمل عليهم فعادوا منهزمين، وقتل منهم جماعة، ومات في الزحمة جماعة من الأعيان، ونهب باب الأزج، وكان رئيس الرؤساء واقفاً دون الباب، فدخل الدار، وهرب كل من في الحريم.
ولما بلغ عميد العراق فعل رئيس الرؤساء لطم على وجهه كيف استبد برأيه ولا معرفة له بالحرب. ورجع البساسيري إلى معسكره، واستدعى الخليفة عميد العراق، وأمره بالقتال على سور الحريم، فلم يرعهم إلا الزعقات، وقد نهب الحريم، وقد دخلوا بباب النوبي، فركب الخليفة لابساً للسواد، وعلى كتفه البردة، وبيده السيف، وعلى رأسه اللواء، وحوله زمرة من العباسيين والخدم بالسيوف المسلولة، فرأى النهب قد وصل إلى باب الفردوس من داره، فرجع إلى ورائه، ومضى نحو عميد العراق، فوجده قد استأمن إلى قريش، فعاد وصعد المنظرة، صاح رئيس الرؤساء: يا علم الدين! يعني قريشاً، أمير المؤمنين يستدنيك، فدنا منه، فقال له رئيس الرؤساء: قد أنالك الله منزلة لم ينلها أمثالك، وأمير المؤمنين يستذم منك على نفسه، وأهله، وأصحابه بذمام الله، وذمام رسوله، صلى الله عليه وسلم، وذمام العربية.
فقال: قد أذم الله تعالى له، فقال: ولي؟ ولمن معه؟ قال: نعم، وخلع قلنسوته فأعطاها الخليفة، وأعطى مخصرته رئيس الرؤساء ذماماً، فنزل إليه الخليفة ورئيس الرؤساء من الباب المقابل لباب الحلبة، وصارا معه. (4/277)
فأرسل إليه البساسيري: أتخالف ما استقر بيننا، وتنقض ما تعاهدنا عليه؟ فقال قريش: لا، وكانا قد تعاهدا على المشاركة في الذي يحصل لهما، وأن لا يستبد أحدهما دون الآخر بشيء، فاتفقا على أن يسلم قريش رئيس الرؤساء إلى البساسيري لأنه عدوه، ويترك الخليفة عنده، فأرسل قريش رئيس الرؤساء إلى البساسيري، فلما رآه قال: مرحباً بمهلك الدول، ومخرب البلاد! فقال: العفو عند المقدرة. فقال البساسيري: فقد قدرت فما عفوت، وأنت صاحب طيلسان، وركبت الأفعال الشنيعة مع حرمي وأطفالي، فكيف أعفو أنا، وأنا صاحب سيف؟ وأما الخليفة فإنه حمله قريش راكباً إلى معسكره، وعليه السواد والبردة، وبيده السيف، وعلى رأسه اللواء، وأنزله في خيمة، وأخذ أرسلان خاتون زوجة الخليفة، وهي ابنة أخي السلطان طغرلبك، فسلمها إلى أبي عبد الله بن جردة ليقوم بخدمتها.
ونهبت دار الخلافة وحريمها أياماً، وسلم قريش الخليفة إلى ابن عمه مهارش بن المجلي، وهو رجل فيه دين، وله مروءة، فحمله في هودج وسار به إلى حديثة عانة فتركه بها، وسار من كان مع الخليفة من خدمه وأصحابه إلى السلطان طغرلبك مستنفرين.
فلما وصل الخليفة إلى الأنبار شكا البرد، فأنفذ إلى مقدمها يطلب منه ما يلبسه، فأرسل له جبة فيها قطن ولحافاً.
وأما البساسيري فإنه ركب يوم عيد النحر، وعبر إلى المصلى بالجانب الشرقي، وعلى رأسه الألوية المصرية، فأحسن إلى الناس، وأجرى الجرايات على المتفقهة، ولم يتعصب لمذهب، وأفرد لوالدة الخليفة القائم بأمر الله داراً، وكانت قد قاربت تسعين سنة، وأعطاها جاريتين من جواريها للخدمة، وأجرى لها الجراية، وأخرج محمود بن الأخرم إلى الكوفة وسقى الفرات أميراً.
وأما رئيس الرؤساء فأخرجه البساسيري، آخر ذي الحجة، من محبسه بالحريم الطاهري مقيداً، وعليه جبة صوف، وطرطور من لبد أحمر، وفي رقبته مخنقة جلود بعير، وهو يقرأ: " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء " .
وبصق أهل الكرخ في وجهه عند اجتيازه بهم، لأنه كان يتعصب عليهم، وشهر إلى حد النجمي، وأعيد إلى معسكر البساسيري، وقد نصبت له خشبة، وأنزل عن الجمل، وألبس جلد ثور وجعلت قرونه على رأسه، وجعل في فكيه كلابان من حديد، وصلب فبقي يضطرب إلى آخر النهار ومات.
وكان مولده في شعبان سنة سبعين وثلاثمائة، وكانت شهادته عند ابن ماكولا سنة أربع عشرة وأربعمائة، وكان حسن التلاوة للقرآن، جيد المعرفة بالنحو.
وأما عميد العراق فقتله البساسيري، وكان فيه شجاعة، وله فتوة، وهو الذي بنى رباط شيخ الشيوخ.
ولما خطب البساسيري للمستنصر العلوي بالعراق أرسل إليه بمصر يعرفه ما فعل، وكان الوزير هناك أبا الفرج ابن أخي أبي القاسم المغربي، وهو ممن هرب من البساسيري وفي نفسه ما فيها، فوقع فيه، وبرد فعله، وخوف عاقبته، فتركت أجوبته مدة، ثم عادت بغير الذي أمله ورجاه.
وسار البساسيري من بغداد إلى واسط والبصرة فملكهما، وأراد قصد الأهواز، فأنفذ صاحبها هزارسب بن بنكير إلى دبيس بن مزيد يطلب منه أن يصلح الأمر على مال يحمله إليه، فلم يجب إلى ذلك، وقال: لا بد من الخطبة للمستنصر، والسكة باسمه، فلم يفعل هزارسب ذلك ورأى البساسيري أن طغرلبك يمد هزارسب بالعساكر، فصالحه، وأصعد إلى واسط في مستهل شعبان من سنة إحدى وخمسين، وفارقه صدقة بن منصور بن الحسين الأسدي، ولحق بهزارسب، وكان قد ولي بعد أبيه على ما نذكره. (4/278)
وأما أحوال السلطان طغرلبك، وإبراهيم ينال، فإن السلطان كان في قلة من العسكر، كما ذكرناه، وكان إبراهيم قد اجتمع معه كثير من الأتراك، وحلف لهم أنه لا يصالح أخاه طغرلبك، ولا يكلفهم المسير إلى العراق، وكانوا يكرهونه لطول مقامهم وكثرة إخراجاتهم، فلم يقو به طغرلبك، وأتى إلى إبراهيم محمد وأحمد ابنا أخيه أرتاش في خلق كثير، فازداد بهم قوة، وازداد طغرلبك ضعفاً، فانزاح من بين يديه إلى الري، وكاتب ألب أرسلان، وياقوتي، وقاروت بك، أولاد أخيه داود، وكان داود قد مات، على ما نذكره سنة إحدة وخمسين إن شاء الله تعالى، وملك خراسان بعده ابنه ألب أرسلان إليهم طغرلبك يستدعيهم إليه، فجاؤوا بالعساكر الكثيرة، فلقي إبراهيم بالقرب من الري، فانهزم إبراهيم ومن معه وأخذ أسيراً هو ومحمد وأحمد ولدا أخيه، فأمر به فخنق بوتر قوسه تاسع جمادى الآخرة سنة إحدى وخمسين، وقتل ولدا أخيه معه.
وكان إبراهيم قد خرج على طغرلبك مراراً، فعفا عنه، وإنما قتله في هذه الدفعة لأنه علم أن جميع ما جرى على الخليفة كان بسببه، فلهذا لم يعف عنه، ولما قتل إبراهيم أرسل طغرلبك إلى هزارسب بالأهواز يعرفه ذلك، وعنده عميد الملك الكندري، فسار إلى السلطان، فجهزه هزارسب تجهيز مثله.
ذكر عود الخليفة إلى بغداد
لما فرغ السلطان من أمر أخيه إبراهيم ينال عاد يطلب العراق، ليس له هم إلا إعادة القائم بأمر الله إلى داره، فأرسل إلى البساسيري وقريش في إعادة الخليفة إلى داره على أن لا يدخل طغرلبك العراق، ويقنع بالخطبة والسكة، فلم يجب البساسيري إلى ذلك، فرحل طغرلبك إلى العراق، فوصلت مقدمته إلى قصر شيرين، فوصل الخبر إلى بغداد، فانحدر حرم البساسيري وأولاده، ورحل أهل الكرخ بنسائهم وأولادهم في دجلة وعلى الظهر، ونهب بنو شيبان الناس، وقتلوا كثيراً منهم، وكان دخول البساسيري وأولاده بغداد سادس ذي القعدة سنة خمسين وخرجوا منها سادس ذي القعدة سنة إحدى وخمسين.
وثار أهل باب البصرة إلى الكرخ فنهبوه، وأحرقوا درب الزعفران، وهو من أحسن الدروب وأعمرها، ووصل طغرلبك إلى بغداد، وكان قد أرسل من الطريق الإمام أبا بكر أحمد بن محمد بن أيوب المعروف بابن فورك، إلى قريش بن بدران يشكره على فعله بالخليفة، وحفظه على صيانته ابنة أخيه امرأة الخليفة، ويعرفه أنه قد أرسل أبا بكر بن فورك للقيام بخدمة الخليفة، وإحضاره، وإحضار أرسلان خاتون ابنة أخيه امرأة الخليفة.
ولما سمع قريش بقصد طغرلبك العراق أرسل إلى مهارش يقول له: أودعنا الخليفة عندك ثقة بإمانتك، لينكف بلاء الغز عنا، والآن فقد عادوا، وهم عازمون على قصدك، فارحل أنت وأهلك إلى البرية، فإنهم إذا علموا أن الخليفة عندنا في البرية لم يقصدوا العراق، ونحكم عليهم بما نريد. فقال مهارش: كان بيني وبين البساسيري عهود ومواثيق نقضها، وإن الخليفة قد استخلفني بعهود ومواثيق لا مخلص منها.
وسار مهارش ومعه الخليفة حادي عشر ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وأربعمائة إلى العراق، وجعلا طريقهما على بلد بدر بن مهلهل ليأمنا من يقصدهما، ووصل ابن فورك إلى حلة بدر بن مهلهل، وطلب منه أن يوصله إلى مهارش، فجاء إنسان سوادي إلى بدر وأخبره أنه رأى الخليفة ومهارشاً بتل عكبرا، فسر بذلك بدر ورحل ومعه ابن فورك، وخدماه، وحمل له بدر شيئاً كثيراً، وأوصل إليه ابن فورك رسالة طغرلبك وهدايا كثيرة أرسلها معه.
ولما سمع طغرلبك بوصول الخليفة إلى بلد بدر أرسل وزيره الكندري، والأمراء، والحجاب، وأصحبهم الخيام العظيمة، والسرادقات، والتحف من الخيل بالمراكب الذهب وغير ذلك، فوصلوا إلى الخليفة وخدموه ورحلوا، ووصل الخليفة إلى النهروان في الرابع والعشرين من ذي القعدة، وخرج السلطان إلى خدمته، فاجتمع به، وقبل الأرض بين يديه، وهنأه بالسلامة، وأظهر الفرح بسلامته، واعتذر من تأخره بعصيان إبراهيم، وأنه قتله عقوبة لما جرى منه من الوهن على الدولة العباسية، وبوفاة أخيه داود بخراسان، وأنه اضطر إلى التريث حتى يرتب أولاده بعده في المملكة، وقال: أنا أمضي خلف هذا الكلب، يعني البساسيري، وأقصد الشام، وأفعل في حق صاحب مصر ما أجازي به فعله! (4/279)
وقلده الخليفة بيده سيفاً، وقال: لم يبق مع أمير المؤمنين من داره سواه، وقد تبرك به أمير المؤمنين، فكشف غشاء الخركاة حتى رآه الأمراء، فخدموا وانصرفوا.
ولم يبق ببغداد من أعيانها من يستقبل الخليفة غير القاضي أبي عبد الله الدامغاني وثلاثة نفر من الشهود. وتقدم السلطان في المسير، فوصل إلى بغداد، وجلس في باب النوبي مكان الحاجب، ووصل الخليفة فقام طغرلبك وأخذ بلجام بغلته، حتى صار على باب حجرته، وكان وصوله يوم الاثنين لخمس بقين من ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وعبر السلطان إلى معسكره، وكانت السنة مجدبة، ولم ير الناس فيها مطراً، فجاء تلك الليلة وهنأ الشعراء الخليفة والسلطان بهذا الأمر، ودام البرد بعد قدوم الخليفة نيفاً وثلاثين يوماً، ومات بالجوع والعقوبة عدد لا يحصى، وكان أبو علي بن شبل ممن هرب من طائفة الغز، فوقع به غيرهم فأخذوا ماله، فقال:
خرجنا من قضاء الله خوفاً، ... فكان فرارنا منه إليه
وأشقى الناس ذو عزم توالت ... مصائبه عليه، من يديه
تضيق عليه طرق العذر منها ... ويقسو قلب راحمه عليه
ذكر قتل البساسيري
أنفذ السلطان بعد استقرار الخليفة في داره جيشاً عليهم خمارتكين الطغراني في ألفي فارس نحو الكوفة، فأضاف إليهم سرايا بن منيع الخفاجي، وكان قد قال السلطان: أرسل معي هذه العدة حتى أمضي إلى الكوفة وأمنع البساسيري من الإصعاد إلى الشام.
وسار السلطان طغرلبك في أثرهم، فلم يشعر دبيس بن مزيد والبساسيري إلا والسرية قد وصلت إليهم ثامن ذي الحجة من طريق الكوفة، بعد أن نهبوها، وأخذ نور الدولة دبيس بن مزيد رحله جميعه وأحدره إلى البطيحة، وجعل أصحاب نور الدولة دبيس يرحلون بأهليهم، فيتبعهم الأتراك، فتقدم نور الدولة ليرد العرب إلى القتال، فلم يرجعوا، فمضى.
ووقف البساسيري في جماعته، وحمل عليه الجيش، فأسر من أصحابه أبو الفتح بن ورام، وأسر منصور وبدران وحماد، بنو نور الدولة دبيس، وضرب فرس البساسيري بنشابة، وأراد قطع تجفافه لتسهل عليه النجاة فلم ينقطع، وسقط عن الفرس، ووقع في وجهه ضربة، ودل عليه بعض الجرحى، فأخذه كمشتكين دواتي عميد الملك الكندري وقتله، وحمل رأسه إلى السلطان، ودخل الجند في الظعن، فساقوه جميعه، وأخذت أموال أهل بغداد وأموال البساسيري مع نسائه وأولاده، وهلك من الناس الخلق العظيم، وأمر السلطان بحمل رأس البساسيري إلى دار الخلافة، فحمل إليها، فوصل منتصف ذي الحجة سنة إحدى وخمسين، فنظف وغسل وجعل على قناة وطيف به، وصلب قبالة باب النوبي.
وكان في أسر البساسيري جماعة من النساء المتعلقات بدار الخلافة، فأخذن، وأكرمن، وحملن إلى بغداد.
ومضى نور الدولة دبيس إلى البطيحة، ومعه زعيم الملك أبو الحسن عبد الرحيم، وكان من حق هذه الحوادث المتأخرة أن تذكر سنة إحدى وخمسين، وإنما ذكرناها هاهنا لأنها كالحادثة الواحدة يتلو بعضها بعضاً.
وكان البساسيري مملوكاً تركياً من مماليك بهاء الدولة بن عضد الدولة، تقلبت به الأمور حتى بلغ هذا المقام المشهور، واسمه أرسلان، وكنيته أبو الحارث، وهو منسوب إلى بسا مدينة بفارس، والعرب تجعل عوض الباء فاء فتقول فسا، والنسبة فساوي، ومنها أبو علي الفارسي النحوي، وكان سيد هذا المملوك أولاً من بسا، فقيل به البساسيري لذلك، وجعل العرب الباء فاء فقيل فساسيري.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة أقر السلطان طغرلبك مملان بن هسوذان بن مملان على ولاية أبيه بأذربيجان.
وفيها مات شهاب الدولة أبو الفوارس منصور بن الحسين الأسدي، صاحب الجزيرة، عند خوزستان، واجتمعت عشيرته على ولده صدقة.
وفيها توفي الملك الرحيم، آخر ملوك بني بويه، بقلعة الري، وكان طغرلبك سجنه أولاً بقلعة السيروان، ثم نقله إلى قلعة الري فتوفي بها.
وفيها عصى أبو علي بن أبي الجبر بالبطائح، وكان متقدم بعض نواحيها، فأرسل إليه طغرلبك جيشاً مع عميد العراق أبي نصر، فهزمهم أبو علي.
وفيها يوم النوروز أرسل السلطان مع وزيره عميد الملك إلى الخليفة عشرة آلاف دينار سوى ما أضيف إليها من الأعلاق النفيسة.
وفيها، في صفر، توفي أبو الفتح بن شيطا القاري، الشاهد، وكانت شهادته سنة خمس وأربعين وأربعمائة. (4/280)
وفيها، في شهر ربيع الأول، توفي القاضي أبو الطيب الطبري، الفقيه الشافعي، وله مائة سنة وسنتان، وكان صحيح السمع والبصر، سليم الأعضاء، يناظر ويفتي ويستدرك على الفقهاء، وحضر عميد الملك جنازته، ودفن عند قبر أحمد، وله شعر حسن.
وفي سلخه توفي قاضي القضاة أبو الحسين علي بن محمد بن حبيب الماوردي، الفقيه الشافعي، وكان إماماً، وله تصانيف كثيرة منها: الحاوي وغيره في علوم كثيرة، وكان عمره ستاً وثمانين سنة.
وفي آخر هذه السنة توفي أبو عبد الله الحسين بن علي الرفا، الضرير الفرضي، وكان إماماً فيها على مذهب الشافعي.
وفيها، في شوال، كانت زلزلة عظيمة بالعراق، والموصل، ووصلت إلى همذان، ولبثت ساعة، فخربت كثيراً من الدور، وهلك فيها الجم الغفير.
وفيها توفي أبو محمد عبد الله بن علي بن عياض المعروف بابن أبي عقيل، وكان قد سمع الكثير من الحديث رواه.
وتوفي أيضاً القاضي أبو الحسن علي بن هندي قاضي حمص، وكان وافر العلم والأدب.

 

This site was last updated 07/26/11