Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم عزت اندراوس

سنة ثلاث وسبعين

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
الخليفة عبد الملك بن مروان والبذخ
الخوارج والخليفة عبد الملك
سنة ست وستين
سنة سبع وستين
سنة ثمان وستين
سنة تسع وستين
سنة سبعين
سنة إحدى وسبعين
سنة اثنتين وسبعين
سنة ثلاث وسبعين
سنة أربع وسبعين
سنة خمس وسبعين
سنة ست وسبعين
سنة سبع وسبعين
سنة 78 و 79
سنة ثمانين
سنة إحدى وثمانين
سنة اثنتين وثمانين
سنة ثلاث وثمانين
سنة أربع وثمانين
سنة 86 وفاة عبد الملك

الجزء التالى من كتاب: الكامل في التاريخ المؤلف: أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير (المتوفى: 630هـ) تحقيق: عمر عبد السلام تدمري الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1417هـ / 1997م عدد الأجزاء:  10

**************************************************************************************************************************

الجزء الثالث

ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين
ذكر قتل عبد الله بن الزبير

لما بويع عبد الملك بالشام بعث إلى المدينة عروة بن أنيف في ستة آلاف من أهل الشام وأمره أن لا يدخل المدينة وأن يعسكر بالعرصة، وكان عامل عبد الله بن الزبير على المدينة الحارث بن حاطب بن الحارث بن معمر الجمحي، فهرب الحارث، وكان ابن أنيف يدخل ويصلي بالناس الجمعة ثم يعود إلى معسكره، فأقام شهراً ولم يبعث إليهم ابن الزبير أحداً.
وكتب إليه عبد الملك بالعود إليه، فعاد هو ومن معه، وكان يصلي بالناس بعده عبد الرحمن بن سعد القرظي، ثم عاد الحارث إلى المدينة، وبعث ابن الزبير سليمان بن خالد الرزقي الأنصاري، وكان رجلاً صالحاً عاملاً على خيبر وفدك، فنزل في عمله، فبعث عبد الملك عبد الواحد بن الحارث بن الحكم، وقيل: اسمه عبد الملك، وهو أصح، في أربعة آلاف، فسار حتى نزل وادي القرى وسير سريةً عليها أبو القمقام في خمسمائة إلى سليمان، فوجدوه قد هرب، فطلبوه فأدركوه فقتلوه ومن معه. فاغتم عبد الملك بن مروان لقتله وقال: قتلوا رجلاً مسلماً صالحاً بغير ذنب.
وعزل ابن الزبير الحارث واستعمل مكانه جابر بن الأسود بن عوف الزهري، فوجه جابر أبا بكر بن أبي قيس في ستمائة فارس وأربعين فارساً إلى خيبر، فوجدوا أبا القمقام ومن معه مقيمين بفدك يعسفون الناس فقاتلوهم، فانهزم أصحاب أبي القمقام وأسر منهم ثلاثون رجلاً فقتلوا صبراً. وقيل: بل قتل الخمسمائة أو أكثرهم.
ووجه عبد الملك طارق بن عمرو مولى عثمان وأمره أن ينزل بين أيلة ووادي القرى ويمنع عمال ابن الزبير من الإنتشار ويسد خللاً إن ظهر له. فوجه طارق إلى أبي بكر خيلاً، فاقتتلوا فأصيب أبو بكر في المعركة وأصيب من أصحابه أكثر من مائتي رجل.
وكان ابن الزبير قد كتب إلى القباع أيام كان عامله على البصرة يأمره أن يرسل إليه ألفي فارس ليعينوا عامله على المدينة، فوجه إليه ألفي رجل، فلما قتل أبو بكر أمر ابن الزبير جابر بن الأسود أن يسير جيش البصرة إلى قتال طارق، فسار البصريون عن المدينة، وبلغ طارقاً الخبر فسار نحوه، فالتقيا، فقتل مقدم البصريين وقتل أصحابه قتلاً ذريعاً، وطلب طارق مدبرهم وأجهز على جريحهم ولم يستبق أسيرهم. ورجع طارق إلى وادي القرى، وكان عامل ابن الزبير بالمدينة جابر بن الأسود، وعزل ابن الزبير جابراً واستعمل طلحة بن عبيد الله بن عوف، الذي يعرف بطلحة الندى، سنة سبعين فلم يزل على المدينة حتى أخرجه طارق. [ج3 (2/271)]

فلما قتل عبد الملك مصعباً وأتى الكوفة وجه منها الحجاج بن يوسف الثقفي في ألفين، وقيل: في ثلاثة آلاف، من أهل الشام لقتال عبد الله بن الزبير. وكان السبب في تسييره دون غيره أنه قال لعبد الملك: قد رأيت في المنام أني أخذت عبد الله بن الزبير فسلخته، فابعثني إليه وولني قتاله. فبعثه وكتب معه أماناً لابن الزبير ومن معه إن أطاعوا، فسار في جمادى الأولي سنة اثنتين وسبعين، ولم يعرض للمدينة، ونزل الطائف، وكان يبعث الخيل إلى عرفة ويبعث ابن الزبير أيضاً فيقتلون بعرفة فتنهزم خيل ابن الزبير في كل ذلك وتعود خيل الحجاج بالظفر.
ثم كتب الحجاج إلى عبد الملك يستأذنه في دخول الحرم وحصر ابن الزبير ويخبره بضعفه وتفرق أصحابه ويستمده، فكتب عبد الملك إلى طارق يأمره باللحاق بالحجاج، فقدم المدينة في ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين، وأخرج عامل ابن الزبير عنها وجعل عليها رجلاً من أهل الشام اسمه ثعلبة، فكان ثعلبة يخرج المخ وهو على منبر النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم يأكل عليه التمر لغيظ أهل المدينة، وكان مع ذلك شديداً على أهل الزبير، وقدم طارق على الحجاج بمكة في سلخ ذي الحجة في خمسة آلاف.
وأما الحجاج فإنه قدم مكة في ذي القعدة وقد أحرم بحجة، فنزل بئر ميمون، وحج بالناس تلك السنة الحجاج، إلا أنه لم يطف بالكعبة ولا سعى بين الصفا والمروة، منعه ابن الزبير من ذلك، فكان يلبس السلاح ولا يقرب النساء ولا الطيب إلى أن قتل ابن الزبير، ولم يحج ابن الزبير ولا أصحابه لأنهم لم يفوا بعرفة ولم يرموا الجمار، ونحر ابن الزبير بدنة بمكة.
ولما حصر الحجاج ابن الزبير نصب المنجنيق على أبي قبيس ورمى به الكعبة، وكان عبد الملك ينكر ذلك أيام يزيد بن معاوية ثم أمر به، فكان الناس يقولون: خذل في دينه.
وحج ابن عمر تلك السنة فأرسل إلى الحجاج: أن اتق الله واكفف هذه الحجارة عن الناس فإنك في شهر حرام وبلد حرام وقد قدمت وفود الله من أقطار الأرض ليؤدوا فريضة الله ويزدادوا خيراً، وإن المنجنيق قد منعهم عن الطواف، فاكفف عن الرمي حتى يقضوا ما يجب عليهم بمكة. فبطل الرمي حتى عاد الناس من عرفات وطافوا وسعوا، ولم يمنع ابن الزبير الحاج من الطواف والسعي، فلما فرغوا من طواف الزيارة نادى منادي الحجاج: انصرفوا إلى بلادكم فإنا نعود بالحجارة على ابن الزبير الملحد.
وأول ما رمي بالمنجنيق إلى الكعبة رعدت السماء وبرقت وعلا صوت الرعد على الحجارة، فأعظم ذلك أهل الشام وأمسكوا أيديهم، فأخذ الحجاج حجر المنجنيق بيده فوضعه في ورمى به معهم، فلما أصبحوا جاءت الصواعق فقتلت من أصحابه اثني عشر رجلاً، فانكسر أهل الشام، فقال الحجاج: يا أهل الشام لا تنكروا هذا، فإني ابن تهامة وهذه صواعقها وهذا الفتح قد حضر فأبشروا. فلما كان الغد جاءت الصاعقة فأصابت من أصحاب ابن الزبير عدة، فقال الحجاج: ألا ترون أنهم يصابون وأنتم على الطاعة وهم على خلافها؟ وكان الحجر يقع بين يدي ابن الزبير وهو يصلي فلا ينصرف، وكان أهل الشام يقولون:
يا ابن الزبير طالما عصيكا ... وطالما عنيتنا إليكا
لتجزين بالذي أتيكا يعنون: عصيت وأتيت.
وقدم عليه قوم من الأعراب فقالوا: قدمنا للقتال معك، فنظر فإذا مع كل امرئ منهم سيف كأنه شفرة وقد خرج من غمده، فقال: يا معشر الأعراب لا قربكم الله! فوالله إن سلاحكم لرث، وإن حديثكم لغث؛ وإنكم لقتال في الجدب، أعداء في لخصب. فتفرقوا ولم يزل القتال بينهم دائماً، فغلت الأسعار عند ابن الزبير وأصاب الناس مجاعة شديدة حتى ذبح فرسه وقسم لحمها في أصحابه، وبيعت الدجاجة بعشرة دراهم، والمد الذرة بعشرين درهماً، وإن بيوت ابن الزبير لمملوءة قمحاً وشعيراً وذرة وتمراً، وكان أهل الشام ينتظرون فناء ما عنده، وكان يحفظ ذلك ولا ينفق منه إلا ما يمسك الرمق، ويقول: أنفس أصحابي قوية ما لم يفن.
فلما كان قبيل مقتله تفرق الناس عنه وخرجوا إلى الحجاج بالأمان، خرج من عنده نحو عشرة آلاف، وكان ممن فارقه ابناه حمزة وخبيب، وأخذا لأنفسهما أماناً، فقال عبد الله لابنه الزبير: خذ لنفسك أماناً كما فعل أخواك، فو الله إني لأحب بقاءكم. فقال ما كنت لأرغب بنفسي عنك. فصبر معه فقتل. [ج3 (2/272)]
ولما تفرق أصحابه عنه خطب الحجاج الناس وقال: قد ترون قلة من مع ابن الزبير وماهم عليه من الجهد والضيق. ففرحوا واستبشروا فتقدموا فملأوا ما بين الحجون إلى الأبواء. فدخل على أمه فقال: يا أماه قد خذلني الناس حتى ولدي وأهلي ولم يبق معي إلا اليسير ومن ليس عنده أكثر من صبر ساعة، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: أنت أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له فقد قتل عليه أصحابك ولا تمكن من رقبتك يتلعب بها غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت أهلكت نفسك ومن قتل معك، وإن قلت كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، كم خلودك في الدنيا! القتل أحسن! فقال: يا أماه أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي ويصلبوني. قالت: يا بني إن الشاة لا تتألم بالسلخ إذا ذبحت، فامض على بصيرتك واستعن بالله.
فقبل رأسها وقال: هذا رأيي والذي قمت به داعياً إلى يومي هذا ما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله وأن تستحل حرماته، ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فقد زدتني بصيرة، فانظري يا أماه فإني مقتول في يومي هذا فلا يشتد حزنك وسلمي الأمر إلى الله، فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر ولا عملاً بفاحشة، ولم يجر في حكم الله، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم أو معاهد، ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به بل أنكرته، ولم يكن شيء آثر عندي من رضا ربي، اللهم لا أقول هذا تزكية لنفسي ولكني أقوله تعزية لأمي حتى تسلو عني! فقالت أمه: غني لأرجو أن يكون عزائي فيك جميلاً، إن تقدمتني احتسبتك، وإن ظفرت سررت بظفرك، أخرج حتى أنظر إلى ما يصير أمرك. فقال: جزاك الله خيراً، فلا تدعي الدعاء لي. قالت: لا أدعه لك أبداً، فمن قتل على باطل فقد قتت على حق. ثم قالت: اللهم ارحم طول ذاك القيام في الليل الطويل وذلك النحيب والظمأ في هواجر مكة والمدينة وبره بأبيه وبي! اللهم قد سلمته لأمرك فيه ورضيت بما قضيت فأثبني فيه ثواب الصابرين الشاكرين! فتناول يديها لقبلهما فقالت: هذا وداع فلا تبعد. فقال لها: جئت مودعاً لأني أرى هذا آخر أيامي من الدنيا. قالت: امض على بصيرتك وادن مني حتى أودعك. فدنا منها فعانقها وقبلها، فوقعت يدها على الدرع فقالت: ما هذا صنيع من يريد ما تريد. فقال: مالبسته إلا لأشد منك. قالت: فإنه لا يشد مني، فنزعها ثم درج كمية وشد أسفل قميصه وجبة خز تحت أثناء السراويل وادخل أسفلها تحت المنطقة وأمه تقول له: البس ثيابك مشمرة. فخرج وهو يقول:
إني إذا أعرف يومي أصبر ... وإنما يعرف يومه الحر
إذ بعضهم يعرف ثم ينكر فسمعته فقالت: تصبر إن شاء الله، أبواك أبو بكر والزبير، وأمك صفية بنت عبد المطلب. فحمل على أهل الشام حملةً منكرةً فقتل منهم ثم انكشف هو وأصحابه، وقال له بعض أصحابه: لو لحقت بموضع كذا. قال: بئس الشيخ أنا إذاً في الإسلام لئن أوقعت قوماً فقتلوا ثم فررت عن مثل مصارعهم. ودنا أهل الشام حتى امتلأت منهم الأبواب، وكانوا يصيحون به: يا ابن ذات النطاقين، فيقول: وتلك شكاة ظاهر عنك عارها وجعل أهل الشام على أبواب المسجد رجلاً من أهل كل بلد، لكان لأهل حمص الباب الذي يواجه باب الكعبة، ولأهل دمشق باب بني تميم، وكان الحجاج وطارق من ناحية الأبطح إلى المروة، فمرة يحمل ابن الزبير في هذه الناحية ومرة في هذه الناحية ومرة في هذه الناحية، فكأنه أسد في أجمة ما يقدم عليه الرجال يعدو في أثر القوم حتى يخرجهم، ثم يصيح: أبا صفوان! ويل أمه فتحاً لو كان له رجال أو كان قرني واحداً كفيته! فيقول أبو صفوان عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف: إي والله وألف. [ج3 (2/273) ]

فلما رأى الحجاج أن الناس لا يقدمون على ابن الزبير غضب وترجل وأقبل يسوق الناس ويصمد بهم صمد صاحب علم ابن الزبير وهو بين يديه. فتقدم ابن الزبير على صاحب علمه وضاربهم وانكشفوا، وعرج وصلى ركعتين عند المقام، فحملوا على صاحب علمه فقتلوه عند باب بني شيبة وصار العلم بأيدي أصحاب الحجاج. فلما فرغ من صلاته تقدم فقاتل بغير علم فضرب رجلاً من أهل الشام وقال: خذها وأنا ابن الحواري! وضرب آخر، وكان حبشياً، فقطع يده وقال: اصبر أبا حمدة، اصبر ابن حام. وقاتل معه عبد الله بن مطيع وهو يقول:
أنا الذي فررت يوم الحره ... والحر لا يفر إلا مره
واليوم أجزي فرةً بكره وقاتل حتى قتل، وقيل: إنه أصابته جراح فمات منها بعد أيام.
وقال ابن الزبير لأصحابه وأهله يوم قتل بعد صلاة الصبح: اكشفوا وجوهكم حتى أنظر إليكم، وعليهم لمغافر. ففعلوا. فقال: يا آل الزبير لو طبتم بي نفساً عن أنفسكم كنا أهل بيت من العرب اصطلحنا في الله، فلا يرعكم وقع السيوف، فإن ألم الدواء للجراح أشد من ألم وقعها، صونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم، غضوا أبصاركم من البارقة وليشغل كل امرئٍ قرنه ولا تسألوا عني، فمن كان سائلاً عني فإني في الرعيل الأول، احملوا على بركة الله. ثم حمل عليهم حتى بلغ بهم الحجون، فرمي بآجرة، رماه رجل من السكون، فأصابته في وجهه فأرعش لها ودمي وجهه، فلما وجد الدم على وجهه قال:
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدما
وقاتلهم قتالاً شديداً، فتعاوروا عليه فقتلوه يوم الثلاثاء من جمادى الآخرة وله ثلاث وسبعون سنة، وتولى قتله رجل من مراد، وحمل رأسه إلى الحجاج فسجد ووفد السكوني والمرادي إلى عبد الملك بالخبر، فأعطى كل واحد منهما خمسمائة دينار.
وسار الحجاج طارق وطارق حتى وقفا عليه، فقال طارق: ما ولدت النساء أذكر من هذا. فقال الحجاج: أتمدح مخالف أمير المؤمنين؟ قال: نعم هو أعذر لنا، ولولا هذا لما كان لنا عذر، غنا محاصروه منذ سبعة أشهر وهو في غير جند ولا حصن ولا منعة فينتصف منا بل يفضل علينا. فبلغ كلامهما عبد الملك فصوب طارقاً.
ولما قتل ابن الزبير كبر أهل الشام فرحاً بقتله، فقال ابن عمر: انظروا إلى هؤلاء ولقد كبر المسلمون فرحاً بولادته وهؤلاء يكبرون فرحا بقتله.
وبعث الحجاج برأسه ورأس عبد الله بن صفوان ورأس عمارة بن عمرو بن حزم إلى المدينة ثم ذهب بها إلى عبد الملك بن مروان وأخذ جثته فصلبها على الثنية اليمنى بالحجون. فأرسلت إليه فكتب إليه يلومه ويقول: ألا خليت بينه وبين أمه! فأذن لها الحجاج فدفنته بالحجون، فمر به عبد الله بن عمر فقال: السلام عليك يا أبا خبيب! أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا ولقد كنت صواماً قواماً وصولاً للرحم، أما والله إن قوماً أنت شرهم لنعم القوم.
وكان ابن الزبير قبل قتله بقي أياماً يستعمل الصبر والمسك لئلا ينتن، فلما صلب ظهرت منه رائحة المسك، فقيل: إن الحجاج صلب معه كلباً ميتاً فغلب على ريح المسك، وقيل: بل صلب معه سنوراً.
ولما قتل عبد الله ركب أخوه عروة ناقةً لم ير مثلها فسار إلى عبد الملك فقدم الشام قبل وصول رسل الحجاج بقتل عبد الله، فأتى باب عبد الملك فاستأذن عليه فأذن له، فلما دخل سلم عليه بالخلافة، فرد عليه عبد الملك ورحب به وعانقه وأجلسه على السرير، فقال عروة:
متت بأرحامٍ إليك قريبةٍ ... ولا قرب للأرحام ما لم تقرب
ثم تحدثا حتى جرى ذكر عبد الله، فقال عروة: إنه كان، فقال عبد الملك: وما فعل؟ قال: قتل، فخر ساجداً، فقال عروة: إن الحجاج صلبه فهب جثته لأمه. قال: نعم، وكتب إلى الحجاج يعظم صلبه. وكان الحجاج لما فقد عروة كتب إلى عبد الملك يقول له: عن عروة كان مع أخيه، فلما قتل عبد الله أخذ مالاً من مال الله فهرب. فكتب إليه عبد الملك: إنه لم يهرب ولكنه أتاني مبايعاً وقد آمنته وحللته مما كان، وهو قادم عليك فإياك وعروة. وعاد عروة إلى مكة وكانت غبيته عنها ثلاثين يوماً.
فأنزل الحجاج جثة عبد الله عن الخشبة بعث به إلى أمه، فغسلته، فلما أصابه الماء تقطع، فغسلته عضواً عضواً فاستمسك، وصلى عليه عروة، فدفنته. [ج3 (2/274)]
وقيل: إن عروة لما كان غائباً عند عبد الملك كتب إليه الحجاج وعاوده في إنفاذ عروة إليه، فهم عبد الملك بإنفاذه، فقال عروة: ليس الذليل من قتلتموه ولكن الذليل من ملكتمخوه، وليس بملوم من صبر فمات، ولكن الملوم من فر من الموت. فسمع مثل هذا الكلام فقال عبد الملك: يا أباعبد الله لن تسمع منا شيئاً تكرهه.
وإن عبد الله لم يصل عليه أحد، منع الحجاج من الصلاة عليه، وقال: غنما أمر أمير المؤمنين بدفنه، وقيل: صلى عليه غير عروة، والذي ذكره مسلم في صحيحه: إن عبد الله بن الزير ألقي في مقابر اليهود، وعاشت أمه بعده قليلاً وماتت، وكانت قد أضرت، وهي أم عروة أيضاً .
فلما فرغ الحجاج من أمر ابن الزبير دخل مكة فبايعه أهلها لعبد الملك ابن مروان، وأمر بكنس المسجد الحرام من الحجارة والدم، وسار إلى المدينة، وكان عبد الملك قد استعمله على مكة والمدينة، فلما قدم المدينة أقام بها شهراً أو شهرين فأساء إلى أهلها واستخف بهم وقال: أنتم قتلة أمير المؤمنين عثمان، وختم أيدي جماعة من الصحابة بالرصاص استخفافاً بهم كما يفعل بأهل الذمة، منهم جابر بن عبد الله وأنس بن مالك وسهل بن سعد، ثم عاد إلى مكة، فقال حين خرج منها: الحمد الله الذي أخرجني من أم نتن، أهلها أخبث بلد وأغشه لأمير المؤمنين وأحسدهم له على نعمة الله، والله لو ما كنت تأتيني كتب أمير المؤمنين فيهم لجعلتها مثل جوف الحمار أعواداً يهودون بها ورمة قد بليت، يغلون منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم . فبلغ جابر بن عبد الله قوله فقال: إن وراءه ما يسوءه، قد قال فرعون ما قال ثم أخذه الله بعد أن أنظره.
وقيل: إن ولاية الحجاج المدينة وما فعله بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان سنة أربع وسبعين في صفر.
خبيب بن عبد الله بن الزير بضم الخاء المعجمة، وببائين موحدتين بينهما ياء مثناه من تحت، وكان عبد الله يكنى به ويأبي بكر أيضاً.
ذكر عمر ابن الزبير وسيرته
كان له من العمر حين قتل اثنتان وسبعون سنة، وكانت خلافته تسع سنين، لنه بويع له سنة أربع وستين، وكانت له جمة مفروقة طويلة.
قال يحيى بن وثاب: كان ابن الزير إذا سجد وقعت العصافير على ظهره تظنه حائطاً لسكونه وطول سجوده. وقال غيره: قسم عبد الله الدهر ثلاث حالات: فليلة قائم حتى الصباح، وليلة راكع حتى الصباح، وليلة ساجد حتى الصباح.
وقيل: أول ما علم من همة ابن الزير أنه كان ذات يوم يلعب مع الصبيان وهو صبي فمر به رجل فصاح عليهم ففروا، ومشى ابن الزبير القهقري وقال: يا صبيان اجعلوني أميركم وشدوا بنا عليه، ففعلوا. ومر به عمر بن الخطاب وهو يلعب ففر الصبيان ووقف هو، فقال له عمر: ما لك لم تفر معهم؟ فقال: لم أجرم فأخافك، ولم تكن الطريق ضيقة فأوسع لك.
وقال قطن بن عبد الله: كان ابن الزبير يواصل من الجمعة إلى الجمعة. قال خالد بن أبي عمران: كان ابن الزبير يفطر في الشهر ثلاثة أيام، ومكث أربعين سنة لم ينزع ثيابه عن ظهره.
وقال مجاهد: لم يكن باب من أبواب العبادة يعجز عنه الناس إلا تكلفه ابن الزبير، ولقد جاء سيل طبق البيت فجعل ابن الزير يطوف سباحةً. قال هشام بن عروة: كان أول ما أفصح به عمي عبد الله بن الزبير وهو صغير السيف، فكان لا يضعه من يده، فكان الزبير يقول: والله ليكونن لك منه يوم وأيام. قال ابن سيرين: قال ابن الزبير: ما شيء كان يحدثنا به كعب إلا وقد جاء على ما قال إلا قوله: فتى ثقيف يقتلني وهذا رأسه بين يدي، يعني المختار، قال ابن سيرين: ولا يشعر ابن الزيبر أن الحجاج قد خبئ له.
وقال عبد العزيز بن أبي جميلة الأنصاري: إن ابن عمر مر بابن الزير وهو مصلوب بعد قتله فقال: رحمك الله أبا خبيب! إنك كنت لصواماً قواماً، ولقد أفلحت قريش إن كنت شرها. [ج3 (2/275) ]
وكان الحجاج قد صلبه ثم ألقاه في مقابر اليهود وأرسل إلى أمه يستحضرها، فلم تحضر، فأرسل إليها: لتأتيني أو لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك، فلم تأته، فقام إليها. فلما حضر قال لها: كيف رأيتني صنعت بعبد الله؟ قالت: رأيتك أفسدت على ابني دنياه وأفسد عليك آخرتك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حدثنا أن: في ثقيف كذاباً ومبيراً، فأما الكذاب فقد رأيناه، تعني المختار، وأما المبير فأنت هو. وهذا حديث صحيح أخرجه مسلم في صحيحه.
وقال أبن الزبير لعبد الله بن جعفر: أتذكر يوم لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنا وأنت فأخذ ابني فاطمة؟ فقال: نعم فحملنا وتركك، ولو علم أنه يقول له هذا ما سأله.
ذكر ولاية محمد بن مروان الجزيرة
وأرمينية

وفي هذه السنة استعمل عبد الملك أخاه محمداً على الجزيرة وأرمينية فغزا منها وأثخن في العدو، وكانت بحيرة الطريخ التي بأرمينية مباحة لم يعرض لها أحد بل يأخذ منها من شاء، فمنع من صيدها وجعل عليها من يأخذه ويبيعه ويأخذ ثمنه، ثم صارت بعده لابنه مروان، ثم أخذت منه لما انتقلت الدولة عنهم، وهي إلى الآن على هذه الحال من لحجر، ومن سن سنة سيئة كان عليها وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيء.
وهذا الطريخ من عجائب الدنيا لأن سمكه صغير له كل سنة موسم يخرج من هذه البحيرة في نهر يصب إليها كثيراً يؤخذ بالأيدي والآلات المصنوعة له، فإذا انقض موسمه لا يوجد منه شيء.
ذكر قتل أبي فديك الخارجي
قد ذكرنا سنة اثنتين وسبعين قتل نجدة بن عامر الخارجي وطاعة أصحابه أبا فديك، وثبت قدم أبي فديك إلى الآن، فأمر عبد الملك بن مروان عمر بن عبيد الله بن معمر أن يندب الناس من أهل الكوفة والبصرة ويسير إلى قتاله، فندبهم وانتدب معه عشرة آلاف، فأخرج لهم أرزاقهم، ثم سار بهم، وجعل أهل الكوفة على الميمنة وعليهم محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، وأهل البصرة على الميسرة وعليهم عمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر، وهو ابن أخي عمر، وجعل خيله في القلب، وساروا حتى انتهوا إلى البحرين فالتقوا واصطفوا للقتال، فحمل أبو فديك وأصحابه حملة رجل واحد فكشفوا ميسرة عمر حتى أبعدوا إلا المغيرة بن الملهب ومجاعة بن عبد الرحمن وفرسان الناس، فإنهم مالوا إلى صف أهل الكوفة بالميمنة، وجرح عمر بن موسى.
فلما رأى أهل الميسرة أهل الميمنة لم ينهزموا رجعوا وقاتلوا وما عليهم أمير لأن أميرهم عمر بن موسى جريحاً، فحملوه معهم، واشتد قتالهم حتى دخلوا عسكر الخوارج، وحمل أهل الكوفة من الميسرة حتى استباحوا عسكرهم وقتلوا أبا فديك وحصروا أصحابه بالمشقر فنزلوا على الحكم، فقتل منهم نحو ستة آلاف وأسر ثمانمائة، ووجدوا جارية عبد الله بن أمية حبلى من أبي فديك، وعادوا إلى البصرة.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة عزل عبد الملك خالد بن عبد الله عن البصرة وولاها أخاه بشراً، في قول بعضهم، فاجتمع له المصران الكوفة والبصرة، فسار بشر إلى البصرة واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث. وفيها غزا محمد بن مروان الروم صائفة فهزمهم. وفيها كانت وقعة عثمان بن الوليد بالروم من ناحية أرمينية في أربعة آلاف والروم في ستين ألفا، فهزمهم وأكثر القتل فيهم.
وحج بالناس هذه السنة الحجاج، وكان على مكة واليمن واليمامة. وكلن على الكوفة والبصرة في قول بعضهم بشر بن مروان، وقيل: كان على الكوفة بشر، وعلى البصرة خالد بن عبد الله، وعلى قضاء الكوفة شريح بن عبد الحارث، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة، وعلى خراسان بكير بن وشاح.
وفي هذه السنة مات عبد الله بن عمر بمكة ودفن بذي طوى، وقيل بفخ، وكان سبب موته أن الحجاج أمر بعض أصحابه فضرب ظهر قدمه بزج رمح مسموم فمات منها، وعاد الحجاج في مرضه، فقال: من فعل بك هذا؟ قال: أنت لأنك أمرت بحمل السلاح في بلد لا يحل حمله فيه. وكان موته بعد ابن الزبير بثلاثة أشهر، وقيل غير ذلك، وكلن عمره سبعاً وثمانين سنة.
وفيها مات سلمة بن الأكوع. وأبو سعيد الخدري، ورافع بن خديج. ومالك بن مسمع أبو غسان البكري، وقيل: مات سنة أربع وستين، وولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم [ج3 (2/276) ]
وتوفي سلم بن زياد بن أبيه قبل بشر بن مروان. وأسماء بنت أبي بكر بعد ابنها توطأ أمه، فطلقها. وفيها مات عوف بن مالك الأشجعي، وكان أول مشاهده خيبر. ومعاوية بن حديج قبل ابن عمر بيسير. وفيها مات معبد بن خالد الجهني وهو ابن ثمانين سنة، وله صحبة. وفيها قتل عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله مع ابن الزبير، وهو ابن أخي طلحة بن عبيد الله، وله صحبة.
رافع بن خديج بفتح الخاء المعجمة، وكسر الدال المهملة. ومعاوية بن حديج بضم الحاء، وفتح الدال المهملتين، وآخره جيم [ج3 (2/277) ]


This site was last updated 06/16/11