Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم المؤرخ / عزت اندراوس

القائمقام يوسف صديق الذى أنقذ ثورة يوليو وكان أول ضحاياها

إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس هناك تفاصيل لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
يوسف صديق ينقذ الثورة
زكريا محى الدين
حسين الشافعى
كمال الدين حسين
خالد محى الدين
عبد اللطيف البغدادي
عبد الحكيم عامر
وجيه‏ ‏أباظة
فؤاد محى الدين
صلاح نصر
قبطى مع الثوار
صلاح سالم
الضباط الأحرار توفيق إسماعيل
كمال الدين رفعت
أحمد حمروش
وحيد رمضان
القائمقام يوسف صديق

 

 

يوسف صديق.. منقذ الثورة.. أول ضحاياها (1 من 2)
جريدة الدستور - محمد القدوسي
منذ أكثر من خمسين سنة، وفي إحدي ليالي ذلك الصيف البعيد من خمسينيات القرن الماضي، كانت قوات الأمن تحاصر «دار الفكر للنشر»، وبعد اعتقال صاحبها الكاتب المعروف «إبراهيم عبد الحليم» راح الجنود يفتشون بين الأوراق الموجودة في الدار، حتي عثروا علي دفتر يضم المجموعة الكاملة لأشعار بطل ثورة يوليو 1952 العقيد «يوسف صديق» فحملوه معهم. وبعد شهور تم الإفراج عن «إبراهيم عبد الحليم»، لكن دفتر الأشعار لم يفرج عنه حتي الآن، وحين طالب ورثة «يوسف صديق» باسترداده قالوا لهم: انسوا الأمر، فهو غالباً لم يعد موجوداً! وهكذا ضاع ـ إلا قليلاً ـ تراث شاعر كبير، هو واحد من «أرباب السيف والقلم» في تاريخنا الأدبي، وهو الرجل الذي أنقذ الثورة من الفشل.
وصفه الأستاذ «محمد حسنين هيكل» بـ«العملاق الأسمر ذي العينين الحمراوين»، وقال عنه «لطفي واكد» إنه «بطل مصر الأسطوري»، وكتب عنه «أحمد حمروش» يقول «الاسم: يوسف صديق، المهنة: بطل».
.أما هو فقد كتب في مذكراته عن دوره في ثورة يوليو: «لئن كانت ثورة 23 من يوليو 1952م تعتبر بمثابة الشرارة الأولي التي اندلعت في حركة تحرير الشعوب ـ بعد الحرب العالمية الثانية ـ فإنني أسجد لله شكراً علي أن هيأ لي مع ضعف صحتي وقوتي أن أكون الشرارة الأولي التي اندلعت في هذه الثورة الخالدة».
لو أردنا تلخيص سيرته لقلنا: ضابط أصيل في جنديته، شاعر من سلالة شعراء، عرف الحياة مغامرة كلها، وما كان يمكن لمجازفة كبري مثل ثورة يوليو أن تنجح إلا علي يد فارس مثله، في شجاعته وفدائيته وإنكاره لذاته. لم يطلب نظير ما قدم جزاءً ولا شكوراً، لم يطلب الأجر ولا هو حصل عليه، بل تواصلت معاناته بعد شهر عسل قصير مع زملائه في مجلس القيادة.
ولد «يوسف منصور يوسف صديق» في 3 من يناير 1910م بقرية «زاوية المصلوب» إحدي قري محافظة «بني سويف» شمالي صعيد مصر، وتوفي متأثراً بالعلة التي لازمته في الرئة، وتطورت من الربو إلي السرطان، في 31 من مارس 1975، وكان قد استأصل إحدي رئتيه قبيل وفاته، كما أصيب بأمراض أخري، منها السكر وسل العظام، وعاش حياةً تلخصها أبيات له يقول فيها:
حتام تَخدعُ يا زمان وأُخدعُ
وتري سراباً في القفارِ وأتبعُ؟
عودتني صبرَ الرسولِ علي الأذي
علمتني أن الحياة تَوَجعُ
أبني فتهدم يا زمان معاقلي
وأجدد البنيانَ ثم تُضعضعُ
لا أنتَ تخضعُ يا زمانُ لهمتي
أبداً، ولا أنا للنوائبِ أخضعُ
كان جده «يوسف صديق الأزهري» قاضياً تصدي للخديو «توفيق»، الذي لم يشأ أن يعاقبه علانية خوفاً من ثورة زملائه علماء الأزهر الشريف، وليتخلص منه منحه رتبة «باشا» وأرسله إلي السودان حاكماً عاماً للقوات المصرية في «كردفان» وهناك تم اغتياله. وعلي طريق الجد سار الأب «منصور يوسف صديق» الذي توفي في ريعان شبابه عام 1911 وهو برتبة «نقيب» تاركاً نجله «يوسف» طفلاً رضيعاً في كنف خاله الشاعر الوطني «محمد توفيق علي» ـ 1882 : 1937م ـ صاحب «ديوان توفيق» الذي أصدرته الهيئة المصرية العامة للكتاب في جزئين تقديراً لموهبة صاحبه، والضابط الذي استقال من الجيش في 1912م بسبب خلافاته المتكررة مع القادة الإنجليز. وهكذا نشأ «يوسف صديق» في بيئة يحفها المجد والموت، يسري في عروقها الشعر، وتزدان أمسياتها بقصص الحرب وأحاديث التوق إلي الحرية، وفتانا يصاغ من هذا كله، سائراً ـ بإخلاص ـ علي طريق الآباء نفسه، وبرغم نصيحة خاله له بالالتحاق بكلية مدنية، ونبوغه المبكر في الشعر، فقد أصر علي الالتحاق بالكلية الحربية في 1930م، حيث كان يحلم بالمساهمة في تخليص مصر من الاحتلال، ومن الطريف أنه فكر في 1950م في القيام بثورة علي رأس القوة الصغيرة التي كان يقودها كضابط في الجيش المصري، لكنه تراجع ـ فقط ـ بسبب طول المسافة بين وحدته العسكرية والقاهرة، وسوء حالة السيارات الموجودة في الوحدة!
في ليلة الثورة كان العقيد «يوسف صديق» في مقر وحدته العسكرية، يعاني نزيفاً في الرئة اليسري ويمارس الاستهتار بنصيحة الطبيب الذي طلب منه الالتزام بالراحة التامة، وحذره من خطورة الحركة علي حالته المرضية، وهو ما عبر عنه في إحدي قصائده بقوله:
أنا الوفي الذي لم يثنه دمهُ
ينساب من صدره عن يومك الحفلِ
لم يكفني شرفاً أن كنتُ شاهدَه
بل كنتُ فتي فتيانه الأولِ
ليلتها سهر ينتظر ـ بإرادة المقاتل وروح الشاعر ـ مندوب قيادة الثورة المكلف بنقل موعد بدء التحرك (ساعة الصفر) وكلمة السر، وجاء المندوب ليخبره بأن منتصف الليل هو الموعد المحدد، وحتي الآن لا نعرف هل أخطأ المندوب، أم أن الأمر اختلط علي «يوسف صديق»؟ ولو كان الأمر اختلط عليه، فلماذا تحرك معه المندوب الذي جاء يبلغه بالموعد ولم ينبهه إلي أنه تحرك قبل الموعد الصحيح، الذي كان في الواحدة صباحاً، أي بعد ساعة كاملة؟! تساؤلات كثيرة، والمؤكد أنه لو تحرك «يوسف صديق» في الموعد الصحيح لفشلت الثورة؛ حيث إن «الملك فاروق» كان قد كشف أمرها، وأمر الفريق «حسين فريد» قائد الجيش بالتصدي لها، وحين وصل «يوسف صديق» علي رأس قوته المحدودة ـ وكانت هي القوة الوحيدة من قوات الثورة التي تحركت ـ إلي مقر قيادة الجيش لم يجد إلا الفريق «حسين فريد» وثلاثة من القادة، بينما الباقون أنهوا الاجتماع وتلقوا أوامرهم وتحركوا إلي مواقعهم لإجهاض الثورة، لكن نجاح «يوسف صديق» في احتلال مقر القيادة واعتقال من فيه كان رسالة واضحة أربكت حسابات الموالين للملك وجعلتهم يستسلمون.
يقول «يوسف صديق» في مذكراته: «تحركت قبل الموعد بساعة كاملة، ومع ذلك فإنني كنت أدفع الخطر من علي الأبواب، فلقد دفعت خطر دخول قائد الفرقة (التي كان يوسف ضابطاً فيها والتي كانت القوة الثورية الأولي) إلي المعسكر.... علي قيد أمتار من بوابة المعسكر، ثم كان لقاء الفصيلة مع رجال الشرطة العسكرية علي قيد خطوات من مدخل القيادة العامة، وكان وصولهم قبلنا وتعزيز قوة حرس القيادة سيزيد من صعوبة موقفنا.... وهكذا رأيت أن الله سبحانه وتعالي قد تولي تصحيح تدبير الأحرار وتدبيري.... والأمر كله إذا تدبرناه ملياً فإننا لن نختلف علي أن كل نجاح صادفناه في تلك الليلة إنما جاء نتيجة (خطأ)..... طبيعة الأمور تقول بأن (الخطأ) يوصل إلي (الفشل) غير أن حوادث الليلة بينت بوضوح أن الخطأ لم يوصلنا إلي النجاح فحسب، بل إنه كان (الحل الوحيد) الذي بني عليه النجاح».
وقد بدأ «يوسف صديق» أحداث ليلة الثورة التي يسميها بشاعرية «ليلة عمري» بأن اعتقل قائد فرقته ونائبه، واصطحبهما ـ مكرمين ـ في سيارة، ثم قبضت قواته علي «جمال عبد الناصر» ـ «دينامو» تنظيم الضباط الأحرار وقائده كما يقول «يوسف» في مذكراته ـ وقبضت معه علي «عبد الحكيم عامر»، وكان الاثنان يراقبان ساحة الأحداث بملابسهما المدنية، وفور أن تعرف «يوسف صديق» عليهما أفرج عنهما، وحملهما معه، وإن ظل هو القائد الميداني للثورة حتي تم الاستيلاء علي مقر قيادة الجيش، ولهذا كتب عنه «مصطفي أمين» في زاويته الشهيرة «فكرة» : «كان يستطيع في تلك الليلة أن يحكم مصر، وأن يطالب بحقه في قيادة الثورة، ولكنه كان رجلاً متواضعاً يرفض أن يفرض نفسه أو يطالب بحقه في النفوذ والسلطان. قال لي يوماً: لبضع ساعات كنت أستطيع أن أصبح حاكم مصر، ولكنني فضلت أن أتراجع خطوتين إلي الوراء خشية أن تفشل الثورة، ولست نادماً الآن علي أنني فعلت ذلك» وهي كلمات تعبر بوضوح عن نفس كبيرة.
يقول اللواء «محمد نجيب» ـ أول رئيس لجمهورية مصر ـ في مذكراته التي كتبها تحت عنوان «كلمتي للتاريخ» عن أحداث ليلة الثورة: «وجدت ضباط الثورة يصفقون وقوفاً لـ«يوسف صديق» الذي كانت قواته أول قوات تحتل القيادة»، فما الذي جري لينقلب الضباط علي زميلهم الذي صفقوا اعترافاً ببسالته وفضله؟ ولماذا استقال «يوسف صديق» من عضوية مجلس قيادة الثورة، قبل أن يخرج إلي سويسرا ـ منفياً تحت ستار «العلاج» ـ في مارس 1953؟
الإجابة نجدها في طبيعة الفارس الشاعر المثقف صاحب النفس الكبيرة، الذي ولد مكرساً للثورة ومؤمناً ـ أشد الإيمان ـ بقيم الحرية والعدالة والديمقراطية، وبديهي أن كل أعضاء المجلس لم يكونوا علي الدرجة نفسها من المثالية والتجرد والاندفاع الصادق وراء ما يؤمنون به، كان بينهم «ضباط» يقودون «انقلاباً» أو «حركة جيش» كما سميت وقت قيامها، وكان هو فارساً يحلم بثورة تمتد من الوطن والشعب إلي الأمة والإنسانية كلها

************************************************************************************************

يوسف صديق.. منقذ الثورة.. أول ضحاياها
جريدة الدستور - محمد القدوسى :
يقول «أحمد حمروش» في كتابه «قصة ثورة 23 يوليو» عن أسباب الخلاف بين «يوسف صديق» وبين مجلس قيادة الثورة: «كانت بعض قرارات المجلس تلقي معارضة شديدة من جانب يوسف صديق الذي انبري لمعارضة قانون تنظيم الأحزاب واعتقال السياسيين... وقد وقف إلي جانبه في المراحل الأولي «جمال عبد الناصر» و«عبد الحكيم عامر» و«خالد محيي الدين».. ولكن وحدة «يوسف صديق» و«جمال عبد الناصر» لم تستمر طويلاً، فقد تراجع جمال عبد الناصر عن موقفه.. وكان مجلس القيادة قد حذر منذ أيامه الأولي من تكرار ما حدث في سوريا من سلسلة انقلابات متعاقبة، فبادر إلي اعتقال 35 ضابطاً من ضباط المدفعية،

وانتهز هذه الفرصة لإصدار قرارات جامحة تظهره في مظهر القوة، وتقوي قبضته علي السلطات، فكان قرار حل الأحزاب في 17 من يناير وتشكيل مجلس قيادة الثورة. اختار مجلس قيادة الثورة جانب الصدام المباشر.... ولم يقبل يوسف صديق مبدأ اعتقال الضباط بعد معارضته الشديدة لاعتقال السياسيين، وقرر الاستقالة من مجلس القيادة معلناً أن ضميره لا يمكن أن يستريح وهو عضو في مجلس يصدر قرارات تخالف أفكاره وعقيدته، ولا يستقيم الأمر بأن قرارات المجلس تصدر بالأغلبية، فإن المجلس ذاته لا يمثل الشعب، ولا يمثل الجيش أيضاً. أصر يوسف صديق علي الاستقالة، وزاد إصراره بعد عودة الرقابة علي الصحف وصدور قانون حل الأحزاب... ووجد أن ضميره سيكون مثقلاً بما لا يقبله، ولم يعلن المجلس استقالته، ولكنهم أجبروه علي السفر إلي سويسرا في مارس 1953.
قبل أن ينفي إلي سويسرا، أبعد «يوسف صديق» إلي «أسوان»، حيث حددت إقامته في استراحة حكومية. كان حراسه هم أنفسهم الضباط الذين تتلمذوا علي يديه وخرجوا تحت قيادته في ليلة الثورة، وقد عاملوه بالإكبار الذي يليق به. ومن الطرائف أن مكاتبة حكومية جاءته في الستينيات تطالبه بسداد أجر الإقامة في الاستراحة، فأرسل «يوسف صديق» هذه المطالبة إلي «جمال عبد الناصر»بعد أن كتب عليها «منذ متي يدفع المعتقلون أجر إقامتهم في المعتقل؟ أنت أولي مني بذلك»!
من منفي إلي منفي، ومن تحديد إقامة إلي اعتقال إلي إبعاد عن أي منصب أو مهمة، هكذا عاش «يوسف صديق» ما تبقي من حياته، فقد سافر إلي سويسرا مبعداً بدعوي الاستجمام لثلاثة أشهر، لكن المدة طالت، وقوبلت مطالبته بالعودة بالإهمال والمماطلة، وفي سويسرا كتب يصف حاله:
الحق في جانبي والظالمون همُ ** والله ينصر أهل الحق في الجللِ
.....
فإن أبيتم فإن السيف محتكمٌ ** بيني وبينكمُ في أقرب الأجلِ
...
فقال قومٌ وقانا الله شرهمُ ** هذا مريبٌ وقد يدعو إلي خطلِ
فأرسلوه بعيداً لا يهددنا ** وشتتوا صحبه في كل معتقلِ
فأبعدوني إليكم، ألف مغفرةٍ ** لأهل مصر وإن هم شوهوا عملي
علي الرغم من جمال الطبيعة في سويسرا لم يطق «الثائر» أن يبقي فيها طويلاً؛ فغادرها، مرورا بإيطاليا، إلي الجنوب اللبناني حيث أقام في فندق ببلدة «بكفية» محاطاً بحب المواطنين الذين قدروا سجاياه وثقافته الرفيعة، حتي سافرت إليه زوجته وابنة خاله السيدة «علية توفيق»، رحمها الله، لتعيده إلي مصر ـ بدون استئذان ـ في أغسطس 1953، كانت العودة مغامرة مليئة بالتفاصيل المثيرة، وفوجئ «عبد الناصر» بيوسف صديق يهاتفه من بيته في «بني سويف» ليخبره أنه في مصر، فكان رد الفعل الفوري هو تحديد إقامته حيث هو، ثم تحديد إقامته في منزله بضاحية «حلمية الزيتون» بالقاهرة بعد ذلك.
وفيما عرف بـ«أزمة مارس»، بعث «يوسف صديق» رسالة إلي الرئيس «محمد نجيب» يقترح فيها قيام حكومة ائتلافية تضم مختلف القوي السياسية، ونشرت جريدة «المصري» الرسالة علي صدر صفحتها الأولي في عدد 24 من مارس 1954، كانت الرسالة تدعم معسكر «نجيب» والديمقراطيين، وكان «مصطفي أمين» يقف في صف «عبد الناصر» والفريق الآخر، ولهذا كتب يصف اقتراح «يوسف صديق» بأنه «سلاطة روسية» مستنكراً أن يشارك الإخوان والوفديون والشيوعيون والاشتراكيون في حكومة واحدة، والوصف ينطوي علي غمز واتهام بالشيوعية لصاحب الاقتراح، وحين التقي «يوسف» مصطفي أمين اكتفي بأن قال له ـ ضاحكاً ـ إنها سلاطة «بلدي» يا مصطفي وليست روسية. وفي التسعينيات كتب مصطفي أمين مقراً بأنه كان علي خطأ وأن الحق كان مع «يوسف صديق».
انتهت الأزمة بهزيمة ساحقة لمعسكر «محمد نجيب» الذي اعتقل في 29 من مارس، أما «يوسف صديق» فقد تم اعتقاله في أول أبريل، حيث أودع سجن الأجانب ثم السجن الحربي، وبعد شهر من تحديد إقامة عائلته تم اعتقال زوجته، وقد كانت السيدة الوحيدة التي حضرت اجتماعات تنظيم «الضباط الأحرار» قبل قيام الثورة، فأصبحت الوحيدة بين زوجات «الأحرار» التي زج بها في السجن. واستمر اعتقالهما 14 شهراً، حيث أفرج عنه في يونيو 1955، ثم أفرج عنها بعد شهر. وفي المعتقل تنطلق حمم الغضب من صدر الشاعر الفارس في ثلاث قصائد ، قال في أولاها:
ألا أي هذا الدعي اللعين ** ألا أي هذا الشقي الحرون
لبستَ المسوحَ وضللتنا ** ولما حكمتَ كشفتَ الفتون
أفرعون مصر وجبارها ** صحوت لها من وراء القرون
وناديتَ في الناس إني إله ** وأنتم عبيد ولي تسجدون
ولكن فرعونَ دانت له ** عروش، وعرشك واهٍ مهين
.....
سجنت النساء ولم تحترم ** وقار الشيوخ وطول الذقون
أعرضي يباح ويلقي به **  علي ناظريك بقاع السجون
وكل رجالي غدرتَ بهم **  أكلُّ رجالي من المجرمين؟!
*****************
وفي قصيدة أخري من المعتقل يقول «يوسف صديق»:
تهيبتَ أن تلقي عدواً جمعتنا ** علي حربهِ ثم انثنيتَ تماطلُ
...
وأظهرتَ بأسكَ للنساءِ بخٍ بخٍ ** أتيتَ بما لم تستطعه الأوائلُ

******************************
وحين علم بميلاد أول أحفاده وهو في المعتقل قال يخاطبه:
ونحن نعلم أن السجن منزلنا ** حتي تدك حصون الإفك والزورِ
ونحن نعلم أن الموت موردنا ** نلقاه في الله في بشرٍ وتكبيرِ
جرِّد حسامك فالميدان مفتقدٌ ** سيفاً يضاء به في كف نحريرِ
خرج «يوسف صديق» من المعتقل إلي تحديد الإقامة في بيته، وتجلت سماحة نفسه في أروع صورها حين أعلن «عبد الناصر» تأميم قناة السويس عام 1956م، لينطلق صوت «الشاعر» مرحباً ومهنئاً، مسانداً وفخوراً في قصيدة لا نلمس فيها أي أثر لمرارة الاعتقال ولا للإحساس بالظلم، إنه صوت الفارس الذي يضع أمته ووطنه قبل نفسه وشخصه، فيقول:
الله أكبر يا «جمال» جمعتنا
والعهد دون الحق أن نستشهدا
فاضرب وراءك أمة إن تدعها
لتسابقت واستعذبت طعم الردي
وفي 3 من سبتمبر يصل رئيس وزراء أستراليا «منزيس» إلي القاهرة موفداً من الغرب لإقناع مصر بإلغاء قرار تأميم القناة، وفي اليوم نفسه تنشر جريدة «الجمهورية» قصيدة ليوسف صديق يقول فيها:
رسول الغرب حي النيل واخفض
قوامكَ بالتحية والجبينا
وحي معالم التاريخ واركع
تبرك بالقناة وطور سينا
إلي الوادي المقدس جئت فاخلع
به نعليك شأنَ المؤمنينا
وفي القصيدة يقول «وتلك قناتنا ردت إلينا»، وهي العبارة التي أصبحت شعاراً للتأميم، ولم تكن العبارة الوحيدة التي أطلقها «يوسف صديق» ليرددها الناس من بعده.
وعندما يقع العدوان الثلاثي علي مصر (1956) يرتدي «يوسف صديق» ملابسه العسكرية ويخرج إلي الشارع ـ برغم تحديد الإقامة ـ ليدعو الناس إلي المشاركة في المقاومة الشعبية، ويرفع تحديد الإقامة عنه، لكن السلطات تظل تترصد زواره وتعتقلهم لإبعاد الناس عنه، وفي 1957 يقابل طلب ترشيحه للانتخابات البرلمانية بالرفض، ويتم اعتقال قريبه الذي نزل ضيفاً عليه وهو في «بني سويف» يقدم الطلب، ولا يفرج عنه إلا ليموت في منزله.
وفي 1960 تبث الإذاعة البلغارية خبراً عن اضطهاد «يوسف صديق» فيسرع «محمد حسنين هيكل» بكتابة مقال ينفي صحة الخبر، وبعدها بسنتين يشير «جمال عبد الناصر» إلي دور «يوسف صديق» في نجاح الثورة علي نحو مقتضب، لكنه يظل مبعداً عن أي منصب أو مهمة، وتقتصر لقاءاته بـ«عبد الناصر» علي المناسبات العائلية والخاصة.
وحين تقع هزيمة يونيو يشعر «يوسف صديق» بأن شيئاً داخله قد انكسر، وتستبد به الأمراض فيسافر للعلاج في الاتحاد السوفييتي (سبتمبر 1970) وفي 28 من الشهر نفسه يتلقي نبأ وفاة «عبد الناصر» فيعود إلي مصر مسرعاً محملاً بدموع صادقة علي «رفيق السلاح»، ويرثيه بقصيدة هي من أروع ما كتب، قصيدة لا تثير الإعجاب بشاعريتها الدفاقة فحسب، بل بتلك المقدرة الأسطورية علي نسيان الإساءة والتقدير الموضوعي للدور التاريخي الذي أداه «جمال عبد الناصر» في تاريخ الوطن، وفيها يقول:
أبا الثوارِ هل سامحتَ دمعي ** يفيض وصوت نعيك ملء سمعي؟
وكنا قد تعاهدنا قديماً ** علي ترك الدموع لذاتِ روعِ
وأن الخطبَ يحسم بالتصدي ** لهول الخطبِ في سيفٍ ودرعِ
ولكن زلزل الأركان مني **  وهزَّ تماسكي من جاء ينعي
نعاكَ وأنت ملء الأرض سعياً **  وذكرك قائم في كلِّ ربعِ
بكتكَ عيون أهل الأرض حولي ** فكيف أصون بين الناسِ دمعي؟
كانت القصيدة ـ وعنوانها «دمعة علي البطل» ـ هي آخر ما كتب «يوسف صديق» من شعره، الذي ظل ما بقي منه ـ بعد إعدام مخطوط ديوانه علي يد السلطات الأمنية ـ مفرقاً في قصاصات الصحف وصدور المحبين والأهل، حتي قام ابنه «اللواء حسين صديق» بجمع كل ما استطاع جمعه منه ونشره في طبعة محدودة تحت عنوان محمد القدوسي«ضعوا الأقلام»، وهو قليل ينبئنا أية خسارة لحقت بنا متمثلة في ضياع شعر «يوسف صديق» الحبة الأخيرة في عقد «أرباب السيف والقلم».

 

This site was last updated 10/17/14