Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم المؤرخ / عزت اندراوس

الحلقة الرابعة من مذكرات السرية لمؤسس جهاز مخابرات الاخوان

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
3 مذكرات مؤسس مخابرات الإخوان
4 مذكرات مؤسس مخابرات الإخوان
5 مذكرات مؤسس مخابرات الإخوان
6 مذكرات مؤسس مخابرات الإخوان

 

الحلقة الرابعة من مذكرات السرية لمؤسس جهاز مخابرات الاخوان
الدكتور عساف يروي حكايات مــن دفاتر الإخوان خلف السجون

الموجــز الخميس, 13 سبتمبر 2012
كشفنا في الحلقة الماضية معسكرات الاخوان وحقيقة انقلاب شباب الجماعة علي الامام حسن البنا ونواصل في هذه الحلقة كشف حكايات مثيرة من مذكرات الدكتور عساف عن قصص الاخاون داخل السجون وتهجير لليهود والسيطرة علي شركة الاعلانات المصرية وغيرها من التفاصيل في نص المذكرات التالي. أقمشة الإغاثة تولي الحزب السعدي الحكم بعد حزب الوفد في عام 1945، وكان الناس في عهد الوفد يعيشون أزمة طاحنة بسبب نقص أقمشة الملابس وارتفاع ثمنها وبخاصة في ريف مصر، فاستولت حكومة السعديين علي جميع إنتاج مصانع النسيج، وقررت توزيعه في الأرياف بواقع خمسة أمتار لكل أسرة، طبعاً خمسة أمتار لا تغني من الحر أو البرد شيئاً لأسرة تتكون من خمسة أفراد علي الأقل، ولكن كان هذا بمثابة انقاذ ما يمكن انقاذه. وضعت الحكومة خطة محكمة للتوزيع، إذ أرسلت إلي القري عن طريق مراكز الشرطة ومديريات التموين، لكي تعد كل قرية بيانا بأسماء أرباب الأسر فيها، ويوقع العمدة والصراف وشيخ الخفر وشيخ البلد علي البيان، ثم قسمت القطر إلي مناطق، كل منها يحتوي علي عدد من تلك القري، ثم اختارت عدداً من موظفي الدولة ليشرف كل منهم علي عدد من القري، ومنحت هؤلاء الموظفين صفة الضبطية القضائية. كنت وقتئذ بمكتب الشكاوي التابع لوزير التموين، وخصصت لي ثمان قري تابعة لمركز دسوق، وكانت أول قرية تدعي «البكاتوش» جلست بها لمدة أسبوع في انتظار ورود الأقشمة، كان عمدتها الشيخ محمد حرفوش رجلاً كريماً وأصيلا، وكنا نجلس للمسامرة مساء كل يوم بحديقة داره. كان غائباً في إحدي الليالي، وجاء أحد أقربائه لكي نتسامر كالعادة كانوا يسمونني محمد أفندي لأن الإشارة التي جاءتهم من المركز ذكرت اسم محمد بدلا من محمود، ولم أجد غضاضة في أن ينادوني بأي اسم، قال ذلك القريب: يا محمد أفندي.. انت مرهق نفسك كل هذا الارهاق في انتظار وصول القماش من المركز، وكذلك التاجر الذي سوف يبيعه للناس.. وأنت تنتظر كذلك حتي تحصل علي توقيع أصحاب الأسر عندنا أمام أسمائهم الواردة في البيان المسلم إليك من المركز.. ما رأيك في أن نحصل لك علي توقيع أصحاب الأسر مصدقا عليها من العمدة والصراف وشيخ البلد وشيخ الخفراء.. وتأخذ لك 500 جنيه وتذهب إلي حال سبيلك؟ كانت مفاجأة مفجعة لي، فهو يريد رشوتي بخمسمائة جنيه، وقت أن كان فدان الأرض بمائة جنيه «هو الآن بحوالي خمسة وثلاثين ألفاً»، فغضبت غضبا شديداً، ووجهت إليه سبابا يتناسب مع تطاوله معي، وقلت له إني تربيت في الإخوان المسلمين علي العفة والقناعة والنزاهة والأمانة في العمل.. فوجئ هو الآخر بموقفي الغاضب، فقال: هل غضبت هكذا أنا كنت أمزح معك. حين حضر العمدة، شكوت له قريبه هذا فعنفه هو أيضاً، وصلت الأقمشة في اليوم التالي، وكان من بينها صوف العسكري ورمش العين والدمور.. الخ، وأحسست بأن الناس محتاجون إلي الدمور أكثر من غيره لصلاحيته للتنجيد، فأعددت أوراقا صغيرة بعدد أصناف القماش وكتبت علي كل ورقة صنفا، ثم وضعت الورق في طربوشي بعد أن قلبته، وجلست أمام شباك في غرفة التليفون بالدوار، فيجيء المنتفع الوارد اسمه في الدفتر ويوقع أمام اسمه ويصادق شيخ البلد الجالس إلي جواري علي أنه هو الشخص المعني، ثم يسحب ورقة، ويسدد الثمن في شيك آخر ويتسلم ما يخصه من قماش، وكنت قد علقت لوحة علي ذلك الشباك تبين ثمن الأمتار الخمسة من كل صنف من القماش. سارت العملية سيرا منتظما علي أحسن ما يكون، وما جاء وقت صلاة المغرب حتي كان القماش قد تم توزيعه، والكل وقع علي البيان الوارد بالدفتر الذي في حوزتي، ثم حرزت القماش الباقي وسجلت به محضراً بعثت به إلي مفتش التموين ليعيد توزيعه بمعرفته علي المستحقين بقري أخري. غادرت البكاتوش في ضحي اليوم التالي متجها إلي قرية تبعد حوالي خمسة كيلومترات فاستأجرت حماراً بخمسة قروش، وتوجهت إلي تلك البلدة وإذا بي أجد علي الطريق حوالي عشرة أشخاص قادمين نحوي، وأنا علي مسافة نصف كيلو متر من البلدة، قال أحدهم: محمد أفندي؟ قلت: نعم قال إن سيرتك قد سبقتك إلينا، فأردنا أن نحتفي بك ونستقبلك أهلا وسهلا كانت هذه أكبر مكافأة لي فهي تزيد كثيراً علي الخمسمائة جنيه. كان التوزيع ناجحا في جميع القري فيما عدا قرية تسمي منشأة الشاذل، حيث اضطررت للمبيت بمضيفة العمدة لليلة كانت من أسوأ ليالي حياتي، إذ لم تتركني البراغيث أنام لحظة، فضلا عن أنني كنت أحس بجوع شديد. في الصباح بدأنا التوزيع، وإذا بشيخ الخفر يحضر ويسر لي أن العمدة يحتاج إلي عشر قطع لنفسه، قلت له: هذا ممنوع والتوزيع قاصر علي الأسماء الواردة بالدفتر، فقال إن العمدة هو شقيق عبدالسلام الشاذلي باشا، وقد يضرك قلت لا أحد يستطيع أن يضرني مادام الله معي «تذكرت دعاء من المأثورات التي كنا نقرأها كل ليلة: «بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم»، تطاول شيخ الخفر علي بالقول فذهبت إلي عامل التليفون وطلبت منه إرسال إشارة إلي مأمور المركز لوقف شيخ الخفر عن عمله، وذلك بصفتي من رجال الضبطية القضائية، تحرك العمدة وجاءني مهرولا وراجيا وجاء شيخ الخفر معتذراً وآسفا، فأنهيت الموضوع عند ذلك الحد. بعد أن عدت إلي القاهرة قدمت تقريرا وكشوف الأسماء الموقع عليها والتي كانت بحوزتي، وحررت استمارة لبدل السفر والانتقال، فؤجئت حينما ذهبت لأقبض المبلغ، بأن بدل السفر لا تغير فيه فإنه محسوب علي أساس عدد الليالي، أما مصروفات الانتقال فقد خفضت إلي النصف، بالرغم من أنني تحريت الدقة التامة في قيدها بالكشف بما يطابق الحقيقة تماماً، سألت في حسابات الوزارة عن سبب التخفيض، فقالوا إن قلم الشطب قد خفض النفقات إلي النصف لأن عندك استمارات سفر وكان يمكنك أن تركب بها القطار، حاولت إفهامهم أنه لا توجد مواصلات بين هذه القري إلا بالحمير، قالوا كان ينبغي أن تحصل علي إيصالات من أصحاب الحمير قلت وكيف يتأكدون من أن التوقيع علي الإيصال هو توقيع صاحب الحمار؟ سكتوا وقالوا لا مجال للتغيير بعد قرار قلم الشطب. كان المبلغ المشطوب ضئيلاً، ولكنه ضايقني.. فالمسألة مسألة مبدأ وليس قيمة المبلغ. بعد ذلك بأسبوع كلفت بالإشراف علي توزيع أقمشة الإغاثة في ست قري بالشرقية، وطلبت من القائم علي التوزيع ألا يعطيني بلدي «القطاوية» من بينها حتي لا أتعرض لضغوط الأقارب والأصدقاء. وفي بلد اسمها «بني جري» حضر تاجر القماش من المركز «أبوحماد» وكان صديقا لوالدي قلت له توزع في الغد ووضعت الترتيبات التي سبق أن وضعتها لقري مركز دسوق، وذهبت للمبيت بدار أسرتي التي تبعد كيلو مترين عن «بني جري»، وتوجهت في الصباح إلي مركز التوزيع بالقرية، وهو دوار العمدة فوجدت أناسا صادفتهم في الطريق وكل منهم يحمل قطعة قماش، سألتهم عن الثمن الذي اشتروا به فوجدته يزيد علي التسعيرة المقررة بما يتراوح بين ثلاثة وستة قروش. توجهت إلي الدوار، واصطحبت شيخ الخفر ووضعت يدي علي النقود التي جمعها التاجر وحرزتها في منديل سلمته لشيخ الخفر وأخذت الأقمشة الباقية والمقسمة إلي قطع كل منها 5 أمتار وذهبت بذلك إلي المضيفة وفتحت محضراً أثبت فيه الواقعة. صار التاجر يرتجف.. وتدخل عمدة البلدة قائلاً إنهم علي أبواب الانتخابات وهذا الموقف قد يضرهم كثيراً عند أهالي أبوحماد وقال لي إفعل ما تشاء ولكن لا تقدم التاجر إلي النيابة لمخالفته للتسعيرة. وجدت حلا ملائما، وعرضته علي العمدة فوافق عليه وهو أن يبعث مناديا ينادي كل من اشتري قماشا في صباح ذلك اليوم ومعه القطعة التي اشتراها حدث ذلك وأوقفت المشترين صفا وأغلقت أحد بوابتي الدوار حتي لا يتكرر دخول أحد المشترين منها وصرت أسأل الشخص عن الثمن الذي اشتري به القماش، ثم أرد إليه الفرق بين ذلك الثمن والثمن المقرر بالتسعيرة والتاجر إلي جواري يسدد للناس حقوقهم وفقا لأقوالهم حتي ولو كان بعضهم مبالغاً. في المساء ذهبت إلي بلدتي، وحضر والدي من أبوحماد، وقال لي: لماذا عمك أحمد «التاجر» غضبان منك؟ فرويت له الحادثة وقرر علي أثرها مقاطعته نهائياً. عندما عدت إلي القاهرة حكيت هذه القصة في إحدي الليالي للأستاذ الإمام ونحن في الطريق إلي منزله، فدعا لي بالخير قائلاً: بارك الله فيك. شركة الإعلانات العربية من المعروف أن وسائل الإعلام لا يمكن لها أن تستمر في حياتها، إلا إذا اعتمدت علي الإعلان كمصدر رئيسي لايراداتها إلا في حالة الوسائل التي تنفق عليها الحكومة فيكون إيراد الإعلان فيها عاملاً علي تحسين أحوالها. ولقد فطن الأجانب إلي ذلك منذ القرن الثامن عشر، فأخذوا يغزون مصر بالإعلان إلي جانب غزوهم العسكري واحتلالهم للأرض وسيطرتهم علي الناس، وعملهم علي تفريق الأمة بين أحزاب متناحرة كل منها يسعي إلي الحكم متنافسا مع غيره في ممالأة المستعمر. في الأربعينيات كان في مصر وكالات وشركات إعلان، كلها أجنبية كانت وكالة «لند» للإعلان يملكها مستر لند وهو إنجليزي ويملك امتياز الإعلان عن كثير من السلع المستوردة من بريطانيا وكانت هناك وكالة «ويلسون» التي تملكها مسز ويلسون الأمريكية والتي تتلقي تعليماتها من السفارة الأمريكية، كما كانت هناك وكالة «ماجيار» التي يملكها الإخوان ماجيار الفرنسيان في الأصل، واللذان كانا يتلقيان تعليماتهما من السفارة الفرنسية وفضلاً عن ذلك كانت في مصر وكالة إعلان اسمها: «أسبرنت» مركزها الرئيسي في تل أبيب، والمصيبة الكبري كانت في «شركة الإعلان الشرقية» التي يملكها ويديرها اليهود، وغيروا اسمها عام 1949 لتصير «شركة الإعلانات المصرية» يديرها مصريون شكلاً ويسيطر عليها اليهود في حقيقة الأمر. أذكر وأنا أصدر مجلة الكشكول الجديد وكانت حرب فلسطين علي أشدها بين المجاهدين من الإخوان والجيش المصري بأسلحته الضعيفة والجيوش العربية الهزيلة من جهة واليهود من جهة أخري أن كنا نهاجم اليهود وبخاصة أولئك الذين يتبرعون بأرباحهم التي يحصلون عليها من مصر لصالح العصابات الصهيونية، طلبني مسيو «حاييم» رئيس مجلس إدارة شركة الإعلانات الشرقية وقتذاك. والذي حللت مكانه عام 1955 لكي أمصر هذه الشركة، قال مسيو عساف أنت تعرف أن العملاء الكبار للإعلانات هم اليهود: شيكوريل، وأريكو، وعمر أفندي، وداود عدس، وينزايون، غير المحلات الصغيرة الكثيرة وقد طلبوا مني عدم نشر أي إعلان في مجلتك إن لم تتوقف عن مهاجمة اليهود. عرضت الأمر علي الإمام الشهيد فقال: نحن أصحاب رسالة والصحافة من وسائلنا وليست غاية لنا، لا نستمع إليهم وليكن ما يكن ولم تمض 4 أشهر بعد ذلك إلا وكنت قد أغلقت المجلة لكثرة خسائرها. فكرنا في عام 1945 أن ننشئ شركة إعلانات وطنية وعرض الإمام الشهيد هذه الفكرة علي عدد من رجال الأعمال المسلمين، فوافق عليها محمد سالم «صاحب شركات الأوتوبيس» ومحمد عبدالمنعم إبراهيم، ومحمد علي إمام تاجر الجملة وعضو حزب الكتلة، وأسسنا الشركة برأسمال قدره عشرة آلاف جنيه دفع منها الربع فقط. وبعد نجاح الشركة وتمصيرها لمهنه المندوبين الذين كان معظمهم يهوداً أو غير متعلمين اتجهت الأنظار إليها لوقف نشاطها اتصل بالإمام الشهيد جابربيل أنكيري وهو ماروني لبناني وثيق الصلة بالهامي حسين زوج الأميرة شويكار، وقال له إن الهامي باشا يتابع نشاط شركتكم وهو يرغب في توسيعها والاشتراك معكم فيها، كان نصيب جريدة الإخوان في الشركة 1000 جنيه مدفوع منها الربع. تقدم للمشاركة عدد كبير من زعماء الأحزاب «فيما عدا الوفد» وأقيم حفل الافتتاح بفندق الكونتيننتال وافتتحه الهامي حسين بكلمة باللغة الفرنسية «لأنه لا يعرف العربية»، وعين أنكيري مديراً عاماً وابنه سكرتيراً وأنا نائباً للمدير العام مالبثت الشركة أن خسرت نصف رأسمالها في شهور ثم انسلخنا وعدنا إلي شركتنا وحدنا إلي أن صفتها الحكومية عام 1950 وأنشأ أنكيري وشركاه شركة إعلانات الشرق الأوسط، التي لم تلبث أن أفلست عام 1951. اليمن السعيد والطشت والابريق صديقي أ.ز كان مدرسا باليمن 1946 موفدا من الحكومة المصرية وصنعاء العاصمة ليس فيها إلا مدرسة واحدة ابتدائية يهتم بها الإمام يحيي حميد الدين شخصيا فكان يزورها كل حين وآخر دخل مرة إلي الفصل الذي يدرس فيه صديقي مادة التاريخ فسأله الإمام ويا أستاذ «أ» هل هذا التاريخ يساعدهم علي أكل العيش فقال لا ولكنه يمدهم بالثقافة العامة التي لابد منها لكل عربي ومسلم فقال الإمام لا تدرس لهم التاريخ بل اقصروا التدريس علي الكتابة والقراءة والحساب «أي مثل ما كان يتعلمه الصبية في الكتاتيب في القري المصرية قبل دخول المدارس النظامية». قال لي أ.ز إن اليمن من أكثر بلاد الله تخلفا إن لم يكن أكثرها علي الإطلاق كذلك فإنه بلد فقير لدرجة أن البيت الذي فيه امرأتان أو ثلاث تجدهن لا يملكن إلا رداء واحداً للخروج لذلك لا يمكن أن يخرجن من البيت كلهن حيث ينبغي أن تخرج الواحدة وغيرها تنتظر إلي أن تعود لترتدي الجلباب بدورها. ولم تكن صنابير الماء لها وجود، ولا يوجد مكان للاستحمام فلابد من استخدام الطشت والكوز. وكان الإمام يحيي محتكرا النحاس باعتباره معدنا ثمينا، وكذلك أجهزة الراديو، ولا يستطيع أحد أن يحصل علي إناء نحاس أو جهاز راديو إلا بتصريح من الإمام. وكانت محطة الإذاعة اليمنية هي عبارة عن سيارة لاسلكي من السيارات المتخلفة عن حاجة الجيش الإنجليزي بعدن «وكان مستعمرة بريطانية» اشترتها حكومة اليمن، ولم يستطع خبراؤها أن يفككوا الأجهزة ويعيدوا تركيبها في مبني ما، فوضعوا السيارة علي الأرض ثم بنوا حولها حائطا له باب ثم وضعوا السقف بعد ذلك. احتاج صديقي أ.ز إلي طشت لكي يستحم فيه، وإلي جهاز راديو ليتسلي به هو وزملاؤه ولكن الإمام يحيي لم يوافق علي التصريح. كان من عادة ذلك الإمام فتح جميع البريد الصادر والوارد والاطلاع عليه، وكان عدد الرسائل محدوداً جداً، وكان في الاطلاع عليه تسلية للإمام. خطرت علي بال صديقي فكرة نيرة وجريئة فكتب رسالة وجهها إلي جلالة الملك فاروق الأول ملك مصر يبلغه فيها بأنه يعمل في اليمن السعيد، ويسأله أن ينقل تحياته إلي الوالدة العزيزة الملكة نازلي وإلي الأخوات الكريمات فايزة وفتحية وفوزية- وكأنه قريب للأسرة المالكة- وفي أسفل الخطاب كتب ملحوظة تقول: أرجو إرسال طشت وراديو لشدة حاجتي إليهما، وكان في تقديره أن هذا الخطاب إن وصل إلي السراي سيمزقونه باعتباره صادراً من معتوه. بعد يومين اتصل به الإمام يحيي يسأل عن حاله، وقال له ألا تريد شيئاً؟ قال: لا والحمد لله قال: كيف تستحم؟ قال: علي الأرض قال: ألا يوجد عندك طشت؟ قال: لا، قال: كيف تقضي وقتك؟ قال: نتبادل الحديث أنا وأصدقائي قال: لا لابد لك من طشت وراديو وأمر بصرف ذلك إليه. الأمير أحمد والنمران كان للأمير أحمد الذي يطلق عليه الإمام يحيي الولد أحمد، وهو ولي العهد- نمران، كان يربطهما إلي يمين وشمال باب المسجد، ويذهب يصلي الجمعة، ثم يطلق النمرين وهو خارج فيصيح الناس ويعدون هربا، والولد أحمد يضحك مسروراً بهذا المنظر. يحكي «محمود» خادم الأمير الخاص لرجال الجامعة العربية حين ذهبوا إلي هناك للتحقيق بعد قيام ثورة ابن الوزير- أن الأمير ذهب مرة إلي الصلاة وهو جنب- فقال له محمود: مولاي ألا تتطهرون؟ فرد قائلاً: نحن طاهرون مطهرون آل البيت مشيراً إلي قوله تعالي: «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً» ذلك أن آل حميد الدين ينتسبون ليزيد علي بن أبي طالب من أم غير فاطمة الزهراء، والإمام يحيي لقب بالإمام باعتباره رأس الطائفة الزيدية والمذهب الزيدي وهو مذهب شيعي وهو السائد في اليمن. ثروة الإمام يحيي كان الإمام يحيي حميد الدين محتكرا لبيع الأواني المصنوعة من النحاس وأجهزة الراديو، مثلما أسلفنا ذكره، إلي جانب زراعة وبيع القات، الذي فرض علي كل أسرة أن تشتري منه أسبوعيا ما قيمته «ريال يمني» فكان يجمع ثروة طائلة يضخمها ما كان يرد إليه من رسوم الميناء وما كان يفرض علي التجار من إتاوات. ولم تكن للدولة نفقات تذكر سوي بعض الموظفين البدائيين والجنود لدرجة أن الدولة لم تكن ملتزمة بنفقات اطعام المساجين حيث كان الجندي يصحب صف المساجين المصفدين مع بعضهم ويطوف بهم الشوارع يحشدون طعامهم وطعام الجندي الذي يحرسهم، كذلك لم تكن الدولة تنفق شيئاً علي تعبيد الطرق، والمعاونة التي كانت تقدمها للسكان لم تتمثل إلا في شق قناة بواسطة المساجين في منتصف الطريق لتتجمع بها المياه المتخلفة عن الأمطار أو التي يلقيها السكان في الشارع، حيث لم تكن توجد شبكة للمجاري. كان الإمام يحيي كلما جمع مبلغا من المال يعتد به، فإنه يحوله إلي ذهب ثم يكلف اثنين من العبيد بحمله، وينقلانه بصحبته إلي الجبل حيث يوجد هناك مكان خفي لاخفائه، لا يعلمه إلا الإمام يحيي والعبدان وبعد إخفاء المال وتكديسه مع ما سبقه، يعود الإمام مع العبدين ثم يكلف أحدهما سرا أثناء طريق العودة بأن يقتل الآخر بالخنجر الذي يحمله اليمنيون عادة وبعد ذلك يتولي هو قتل العبد الباقي. وبذلك لا يعرف مكان الكنز إلا الإمام وقد قتل الإمام ومات وسره معه كان الإمام يحيي يحترم ويقدر الإمام الشهيد حسن البنا، وتقديراً له أهداه عمامة يمنية كان الإمام الشهيد يرتديها كثيراً، ولم نكن حتي ذلك الوقت نعلم شيئاً عن أحوال اليمن السعيد، إلي أن قامت ثورة بن الوزير ففضحت ما كان مستوراً. التاجر اليمني مما كشفته ثورة أحمد بن الوزير بعد قتل الإمام يحيي وجود رجل في جب تحت الأرض وله في هذا الجب عددا من السنين لا يعرفه أحد كان الجب مسقوفا وفيه فتحة علوية منها يدلون له إناء فيه ماء وإناء فيه ذرة جافة، وبعد أن يأكل الرجل ويشرب يسحبون الأناءين كشف رجال الثورة عن هذا الرجل، فإذا له لحية طويلة بيضاء اللون، وشعر أبيض كذلك قد وصل طوله إلي نصف ظهره، سألوه عن حكايته فقال إنه تاجر يمني بعث بابنته لتتعلم في إنجلترا علي حسابه فتعلمت والتحقت بإحدي كليات الطب، ولما تخرجت عرض عليها أن تعمل هناك فرفضت وقالت إنها تريد أن تخدم بلدها وعادت إلي اليمن. رآها الأمير أحمد بن الإمام يحيي وولي العهد فأعجب بها وطلب من والده خطبتها له استدعي الإمام أبا الفتاة وقال له إن الولد أحمد يرغب في تشريفه بالمصاهرة، قال الرجل: ولكن الأمير متزوج بأربعة، فقال الإمام يحيي سيطلق واحدة.. أسقط في يد الرجل، ثم قال للإمام: اعطني فرصة لأفاتح ابنتي في الأمر، فوجئت الفتاة ورفضت أن تكون واحدة من حريم الأمير، وهربها أبوها إلي إنجلترا في ذات الليلة حيث أرسلها بقارب إلي ميناء بورسودان القريب، ومنها إلي إنجلترا. علم الإمام يحيي بأن الفتاة هربت فوضع أباها في السجن إلي أن اكتشفه الثوار مصادفة وهو في حال يرثي لها وقد فقد بصره من طول مدة بقائه في الظلام. نشرت هذه الأحداث جميعها في مجلة الكشكول الجديد في أعداد متتالية، وإذا باتصال من وزارة الداخلية يبلغونني فيه أن سفير اليمن بالقاهرة آنذاك قد قدم شكوي ضد الكشكول الجديد إلي السراي، التي طلبت من رئيس الوزراء فوزير الداخلية التوقف عن النشر والاعتذار للسفارة اليمنية. كانت ثورة بن الوزير قد أجهضت، وعاد الحكم الملكي إلي اليمن وعلي رأسه البدر بن أحمد بن يحيي حميد الدين إلي أن قامت ثورة عبدالله السلال. طبعا لم تتوقف ولم تعتذر ولكن توقفنا قسرا لتوقف المجلة ذاتها قبيل حل الإخوان. مؤتمر التأمين كان الإمام الشهيد مجتهدا عظيما وسابقا لعصره في تفكيره وجد شركات التأمين تنشط في مصر، وعلماء أفاضل يعتبرون التأمين حراماً، في حين أن رجال التأمين يعتقدون أنه حلال، وكان العلماء الذين يفتون بحرمة التأمين بعضهم يحرم كل أنواعه، والبعض الآخر يحرم بعض تلك الأنواع ويحل الأخري،والاثنان ينظران إليه باعتباره بيع غرر، حيث إن شركة التأمين تبيع للمستأمن وثيقة بموجبها تدفع له مبلغا نظير حادث قد يقع أو لا يقع، وإن كان لابد من وقوعه «كالموت في تأمين الحياة» فإنه غير معروف الزمان، ذلك في حين أن رجال التأمين ينفون عنه الغرر، بل البيع ذاته حيث إن شركة التأمين لا تبيع شيئاً، ولكنها تتوسط بين المستأمنين بعضهم والبعض. رأي الإمام أنه لابد من مواجهة بين هؤلاء وأولئك وليدلي كل من الطرفين بوجهة نظره، ويقارعوا الحجة بالحجة، إلي أن يصلوا إلي فتوي تريح المسلمين من عناء الشك. دعا الإمام نخبة من العلماء في عام 1945 أذكر منهم الشيخ محمد أبوزهرة والشيخ علي الخفيف والشيخ محمود شلتوت كما دعا رجال التأمين وعلي رأسهم الأستاذ أحمد عنان «رئيس مجلس إدارة شركة مصر للتأمين في ذلك الوقت». كان موضوع التأمين قد تعددت فيه البحوث والدراسات منذ عام 1903 غير أن تلك الدراسات كانت متضاربة وينقصها الوعي الكامل بنظرية التأمين. اجتمع العلماء ورجال التأمين في فناء المركز العام مساء في الصيف، وبدأ كل منهم يشرح ما توصل إليه من رأي. ذهب الشيخ علي الخفيف إلي حل أنواع التأمين جميعاً باعتبارها تعاونا علي البر والتقوي، بعد أن شرح الأستاذ أحمد عنان نظرية التأمين. قال أحمد عنان إن التأمين هو عبارة عن نوع من التعاون، وهذه هي صورته الأصلية، حيث يتكافل الناس مع بعضهم البعض، ويدفع كل منهم مبلغا من المال، فإذا وقع الخطر لأحدهم «حريق أو سرقة أو تلف أو وفاة.. الخ» عوضه زملاءه أو عوضوا ورثته مما جمع من الجميع، وهذا لاشك أمر مشروع ولما اتسع النشاط الاقتصادي وكثرت أنواع المعاملات وكبر حجم المجتمعات، فكر البعض في تكوين منشآت اقتصادية تقوم بدور الوساطة بين المتسأمنين، فتتلقي هي اشتراكات كل منهم ثم تسدد لمن وقع له الخطر المبلغ المتفق عليه لمواجهة كل نوع من المخاطر، وهذا الشكل بصورته البسيطة لا تثريب عليه- في رأي المؤلف- إذا كان دور شركة التأمين هو الوساطة وليس تحقيق الربح لنفسها مع الاجحاف بصالح بعض المستأمنين، وقد كانت الصيغة التي قدمها المستر هورسل مدير شركة ميوتوال ليف الأمريكية إلي الإمام محمد عبده، علي هذه الصورة التي تندرج تحت عقود المضاربة الإسلامية فأفتي الإمام بصحة هذا النوع من العقود. ذلك فضلاً عن أن اشتراكات المستأمنين «أي الأقساط» تحدد قيمتها بحسابات «اكتوارية» تقوم علي التنبؤ العلمي الدقيق بنسبة وقوع كل نوع من الأخطار خلال العام. وقد انتهي المجتمعون إلي ما يأتي: 1ـ التأمين الذي تقوم به جمعيات تعاونية يشترك فيها جميع المستأمنين لتؤدي لأعضائها ما يحتاجون إليه من معونات وخدمات أمر مشروع وهو من التعاون علي البر. نظام المعاشات الحكومي وما يشبهه من نظام الضمان الاجتماعي المتبع في بعض الدول ونظام التأمينات الاجتماعية المتبع في دول أخري: كل هذه من الأعمال الجائزة. 3ـ أما أنواع التأمينات التي تقوم بها الشركات أيا كان وضعها، مثل التأمين الخاص بمسئولية المستأمن، والتأمين الخاص بما يقع علي المستأمن من غيره، والتأمين الخاص بالحوادث التي لا مسئول فيها، والتأمين علي الحياة وما في حكمه، فقد قرر المجتمعون الاستمرار في دراستها بواسطة لجنة جامعة لعلماء الشريعة وخبراء اقتصاديين واجتماعيين، مع الوقوف قبل ابداء الرأي علي آراء علماء المسلمين في جميع الأقطار الإسلامية بالقدر المستطاع. وللأسف الشديد، عقدت مؤتمرات في دمشق عام 1960 وفي عام 1965، ولم ينته المؤتمرون إلي رأي قاطع يحل التأمين أو يحرمه، بيد أن بعض العلماء اتسم بالشجاعة فحذا حذو الشيخ علي الخفيف وأفتي بحل جميع أنواع التأمين، مثل الشيخ مصطفي الزرقا، من الأردن حالياً وهو من مؤسسي الإخوان في سوريا منذ الأربعينيات الذي وضع كتابا قيما في هذا الموضوع. تلك أحداث متفرقة أسعفتني بها الذاكرة وهي إن دلت علي شيء فإنما تدل علي ما يأتي: 1ـ أن الإمام الشهيد كان سابقا لعصره في تفكيره وتوقعاته، مجتهدا في تفسيره لأمور الشريعة مع التزامه الكامل بأحكامها الثابتة بالقرآن الكريم والسنة الصحيحة. 2ـ أنه كان يعمل علي تكوين مجتمع إسلامي، يبدأ بالفرد فالأسرة ثم المجتمع ثم العالم اجمع، حيث إن دعوة الإخوان دعوة عالمية. 3ـ أنه كان قوي الذاكرة إلي حد يعجز عنه الوصف، عرفته بوالدي ذات مرة في المركز العام بعد حديث الثلاثاء، وحينما ذهب الإمام زائراً لبلدتنا «القطاوية» وذهب والدي يسلم عليه، قال له «أهلا يا إبراهيم أفندي» ولم يكن قد قابله إلا مرة واحدة. 4ـ كان شديد الذكاء بشهادة حافظ رمضان باشا وغيره من السياسيين. 5ـ كان ضد العنف سبيلا لنشر الدعوة، بل كان يؤمن بالتطور البطيء مع الحكمة والموعظة الحسنة. 6ـ ثم أنني لم أكن أراه في الأحوال العادية إلا وأجده مبتسما، لدرجة أن جميع صوره كانت باسمة، الأمر الذي يدل علي الرضا والتفاؤل. طرائف من المعتقلات هذه هي الأخري أحداث متفرقة حدثت في فترة الاعتقال بالطور وهاكستب فيها من الطرافة ما يبعث علي الابتسام إلا الموضوع الأخير. عباس عسكر يا أولادي كنت أظن الإخوان مجموعة من الرعاع مثلما أفهمتني الداخلية غير أني وجدت فيكم الصحفي والأديب وأستاذ الجامعة والعالم الديني وحامل الدكتوراه والمهندس.. وغيرهم، لهذا فلتعلموا أني معتقل مثلكم، وهم لم يرسلوني إلي هنا رضا، عني، بل غضب علي. هكذا بدأ اللواء عباس عسكر حديثه معنا، في الأيام الأولي منذ نقلنا من معسكر هاكستب إلي معتقل الطور. كنا لجنة مكونة من مصطفي مؤمن «مهندس تخرج حديثا» وأحمد عبدالعزيز جلال «مدرس بدار العلوم»، وأنور الجندي «كاتب وأديب» أطال الله عمره، وأحمد أنس الحجاجي «صحفي» ومحمد البنا «شقيق الإمام الشهيد ومدير مجلة الشئون الاجتماعية» اختارتنا إدارة المعتقل لنكون لجنة اتصال مع القومندان ننقل إليه مطالبنا وننقل عنه تعليماته. كان رجلا جادا وشريفا علي خلاف ما يصفه به كثير من الإخوان الذين لم يروا فيه إلا جانب الشدة فحسب. في يوم من الأيام استدعانا القومندان وقال: يا أولادي أنتم اعتقلتم هنا، ليس لتتربضوا أو تلعبوا الكرة في فسحة الحذاء «المكان المحاط بسياج من السلك الشائك، وكان معتقل الطور مكونا من 6 حذاءات» كما تعلمون، ولكنكم جئتم هنا لكي نكدركم وأنا لم أفعل هذا إنما ستأتي غداً صباحاً باخرة عليها دفعة جديدة من الإخوان المعتقلين، ويصحبهم عدد من ضباط القلم السياسي، وسوف يكتبون تقريراً عنكم، لهذا أطلب منكم ألا تلعبوا الكرة غداً، وسنغلق عليكم بوابة الحذاء، عندما يمر طابور المعتقلين الجدد، فأرجو ألا تهتفوا هتافكم المعهود، حتي يمر هذا اليوم علي خير، وبعد أن ترجع السفينة وعليها الضباط سنعود سيرتنا الأولي ونسمح لكم بالخروج من الأسوار. نقلنا هذه الرغبة إلي الإدارة الداخلية عندنا فانبري أحدهم هائجا وقال: ما هذا الضعف؟ أسيكممون أفواهنا؟ قلت له: من الأفضل أن نتعاون مع إدارة المعتقل لما فيه الخير لنا قال: أنت لا تتسم بالشجاعة الأدبية، ماذا سيفعلون بنا أكثر من هذا؟ قلت: إن ما يمكن أن يفعلوه كثير. جاء اليوم الثاني والوجوم يسيطر علي الإخوان في الحذاء رقم 5، ثم في الساعة الحادية عشرة ظهراً رأينا طابور المعتقلين الجدد يقطع الطريق من الميناء إلي الحذاء رقم 2 مارا من أمامنا وإذا بالإخوان عندنا يجأرون بالهتاف: الله أكبر ولله الحمد.. الخ، ثم زاد الحماس شيئاً فشيئاً فهجم «محمود هـ» و«نحلة» «وهو يعمل بمبوطيا بالسويس وليس من الإخوان» علي البوابة فكسرها وبدأ الإخوان يتجمهرون بعاطفية لا عقلانية فيها خارج بوابة المعتقل. أدخل الإخوان الجدد إلي حذائهم ثم فوجئنا بطابور قادم إلينا عساكر البيادة المدججون بالسلاح ثم الهجانة ومعهم الكرابيج ثم سيارات نصف النقل وبها جنود وضباط مسلحون بالمدافع الرشاشة، تجمعوا أمام الباب فدخل الإخوان إلي داخل الحذاء، ثم تقدم اللواء عباس عسكر ووزع الهجانة في الفناء ضاربين بالكرابيج كل من يجدونه أمامهم، وكان الأخ الذي اعترض علي تعليمات القومندان في الغرفة التي بجوارنا قد خرج من الباب مناديا بصوت عال: يا سعادة القومندان.. يا سعادة القومندان.. فقال القومندان: اضرب يا عسكري فنال الأخ سوطا جعله يقفز ويدخل غرفتنا قلت له: أين الشجاعة الأدبية؟ الأخ المسيحي والأخ الشيوعي في أحد أيام الشتاء عام 1948 دخل علينا في معتقل هاسكتب شاب غريب علي الإخوان، سألوه عن اسمه وإلي أي شعبة ينتمي، فأجاب بأنه لا ينتمي إلي أي شعبة. كان الغرض من سؤاله أن يتعرفوا عما إذا كان من الإخوان أم كان جاسوسا بعث به القلم السياسي. وعندما أجاب بأنه ليس من الإخوان بدأت معاملة المعتقلين له تشتد وتعنف، ثم بدأوا يتجنبونه. أحس الشاب بالعزلة وصار مكتئبا، طلبت منه أن يأتي بسريره إلي جواري فجاء به وصرنا نتبادل الحديث، اسمه أ. الوزان، وهو شيوعي، أتي به لخلاف بينه وبين أحد الضباط فوضع اسمه في قوائم الإخوان المسلمين. حاولت أن أجعله يندمج مع الجماعة بأن يقوم للوضوء والصلاة ولكنني فشلت معه فيبدو أنه كان شيوعيا عريقا ممن لا يؤمنون بالله، ويعتقدون أن المادة هي أساس كل شيء مثلما ورد في النظرية المادية الجدلية لجوزيف ستالين. كانت تسليته الوحيدة هي أن يدندن نشيدا حزينا ألفه الشيوعيون في المعتقلات يقول: يارفاقي.. يارفاقي.. طال بي عهد الفراق ففؤادي في اشتياق.. حبذا هذا التلاقي بين جدران السجون بعد أيام قدم طلبا للنقل إلي عنبر الشيوعيين فنقل إليه ولم أره بعد ذلك إلا في معتقل الطور عندما زرت حذاء الشيوعيين. قرب نهاية المعتقلات في شهر سبتمبر 1950 «قبل غلق المعتقلات في يناير 1951» سيق إلينا شاب يبكي، ويقول لست من الإخوان لقد قبضوا علي ظلما أنا مسيحي وهذا هو الدليل صليب موشوم علي ساعده الأيمن، قربته إلي وطيبت خاطره وسألته عن حكايته فقال: طلب إليه ضابط المباحث أن يعترف علي زميل له بأنه كان يوزع منشورات ضد الحكومة، فأبي أن يشهد زورا وهددوه كثيراً فلم يستجب لهم فأقسم الضابط ليضعنه في المعتقل إلي أجل غير مسمي فكان نصيبه أن وضع مع الإخوان. ومن المعروف أن الإخوان لا يتعصبون ضد المسيحيين.. إذ بدأنا نعطف عليه ونقدر مصيبته، ثم خطرت لي فكرة. كان من ضمن طاقم الحراسة كونستابل نوبي لا أذكر أسمه، إنما كان هو الذي قبض بشجاعة علي قتلة اللورد موين الإنجليزي وهم يهود أرسلوا لمصر لهذا الغرض لكي يتهم المصريون بقتله، وكان هذا الكونستابل يقدم لنا خدمات لا تقدر بثمن، مثل ارسال الخطابات بالبريد لأهالينا وإحضار ملابس من بيت من بليت ملابسه، واحضار خطابات لنا.. إلخ حدثته في موضوع هذا الشاب المسيحي. وكنت قد أعددت خطابا علي لسانه لنيافة بطريرك الأقباط، وطلبت من الكونستابل أن يرمي ذلك الخطاب بيده في صندوق البريد. بعد أيام قرأنا في الجرائد المهربة إلينا أن البطريرك قابل إبراهيم عبدالهادي رئيس الوزراء فأطلعت الشاب علي هذا الخبر، وقلت له لعل في الأمر خيراً له، وقد كان فبعد يومين طلب الشاب لمقابلة القومندان، وأن يأخذ معه ملابسه، ودعناه عند البوابة ونحن نتمني له الخير في حياة الحرية. بعد أيام ذهبت إلي مكتب القومندان لأتسلم خطابا بالبريد، وإذ بي أجد ذلك الشاب هناك. سألته: ألم يفرجوا عنك؟ قال؟ لا.. لقد نقلوني إلي عنبر الشيوعيين وأنا هنا اليوم لأتظلم عند القومندان وأطلب منه إعادتي إلي عنبر الإخوان. أكل السمك النيئ في ديسمبر 1948 كنا في معتقل هاسكتب وكان العدد حوالي المائة وكان متعهد الطعام يورد لنا خروفا مذبوحا ومسلوخا كل يومين ومقسوما بالطول إلي نصفين نطبخ نصفه في اليوم الأول والنصف الثاني في اليوم التالي وكان الوقت شتاء والبرد قارسا لي فكنا نعلق نصف الخروف طول الليل في الهواء الطلق حتي لا يفسد. في صباح كل يوم كنا نجد فجوة في فخذ الخروف أي أنه مأخوذ من الفخذ قطعة لحم هي من أجود ما فيه تساءلنا من منا يطبخ وحده لا أحد إلا الأستاذ عبدالرحمن البنا شقيق الإمام وكان مريضاً بالقلب ويأكل نصيبه كل يوم مشويا وكان نصيبه هذا شريحة صغيرة من اللحم. استمر هذا اللغز قائما إلي أن نقلنا إلي معتقل الطور وكان مسموحا لنا بالتجول خارج أسوار المعتقل حتي المغرب، ثم نتأكد بأنفسنا أن أحداً منا ليس بغائب وفقا لوعدنا لقومندان المعتقل اللواء عباس عسكر حيث كان عبدالعزيز أحمد يتمم علي المعتقلين مغرب كل يوم. كنا نذهب أنا والأساتذة محمد البنا وعبدالباسط البنا وأنس الحجاجي وأنور الندي لنتجول في وادي مدين القريب من الطور لنأكل الفجل الطازج والطماطم والفلفل الأخضر وهي الأشياء التي كنا محرومين منها حوالي الشهرين. قابلنا أحد الأعراب سألناه إن كان يحفظ فاتحة الكتاب فقال نعم قلنا اقرأها فقال «بسم الله الرحمن الرحمن ولا الضالين آمين» فقلنا من هو نبيك قال موسي ثم تردد وقال لا شعيب إلي هذا الحد كان الجهل بالدين. وفي يوم من الأيام كنا نتريض في الميناء عند الرصيف الذي ترسو عليه السفن فوجدنا شابا بدويا قد ألقي شبكته في الماء وربطها من جانبيها في مرسي السفن وتركها مدلاة في الماء فوق القنطرة الخشبية التي تنتصف الرصيف والتي كان الماء يمر من تحتها فكان السمك الصغير يجتاز الشبكة من جانب إلي آخر والكبير يصطدم بها فيرجع علي أعقابه أما السمك الذي يعادل سمكه فتحتي الشبكة فإنه يظل معلقا في فتحاتها حيث تمنعه زعانفه من الحركة ذهابا أو عودة ثم يستخرج الأعرابي الشبكة وهي مرشقة بالسمك ذي الحجم الواحد ومعظمه من سمك البوري باع الاعرابي شبكته أمامنا لأحد اليهود بثلاثين مليما طلبنا منه القاء شبكة أخري فأبي وقال الثلاثة قروش تكفي اليوم تعالوا بكرة.

This site was last updated 09/27/12