Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم المؤرخ / عزت اندراوس

الحلقة الثالثة من مذكرات السرية لمؤسس جهاز مخابرات الاخوان

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
3 مذكرات مؤسس مخابرات الإخوان
4 مذكرات مؤسس مخابرات الإخوان
5 مذكرات مؤسس مخابرات الإخوان
6 مذكرات مؤسس مخابرات الإخوان

 

الحلقة الثالثة من مذكرات السرية لمؤسس جهاز مخابرات الاخوان
قصص مثيرة في معسكرات «الاخوان» نواة «النظام العسكري»

المــوجز الخميس, 13 سبتمبر 2012
تناولنا في الحلقة الماضية تفاصيل لقاءات الإمام حسن البنا مع نجوم الفن في الخمسينيات ومنهم لقاء الصدفة مع الفنان الراحل أنور وجدي كما تناولنا في مذكرات الدكتور عساف تفاصيل الزيارات المتبادلة بين البنا واليهود برعاية الحاخامات في حارة اليهود أعرق المناطق في شوارع القاهرة القديمة وتوقفنا عند انبهار البنا ورجاله بأدب مصطفي صادق الرافعي ونكمل الحلقات من حيث انتهينا.
قال الراوي: وكان إلي جانبي رجل قروي من هؤلا الفلاحين الذين تعرف الخير في وجوهم، والصبر في أجسامهم، والقناعة في نفوسهم، والفضل في سجاياهم، إذ امتزجت بهم روح الطبيعة الخصبة فتخرج من أرضهم زروعا ومن أنفسهم زروعا أخري- فقال لرجل كان معه، إن هذا الخطيب- خطيب المسجد- قد غشنا وهؤلاء الشبان قد فضحوه، فما ينبغي أن تكون خطبة المسلمين إلا في أخص أحوال المسلمين.
قال: ونبهني هذا الرجل الساذج إلي معني دقيق في حكمة هذه المنابر الإسلامية، فما يريد الإسلام إلا أن تكون كمحطات الإذاعة، يلتقط كل منبر أخبار الجهات الأخري ويذيعها في صيغة الخطاب إلي الروح والعقل والقلب، فتكون خطبة الجمعة هي الكلمة الأسبوعية في سياسة الأسبوع أو مسألة الأسبوع.
وبهذا لا يجيء الكلام علي المنابر إلا حيا بحياة الوقت، فيصبح الخطيب ينتظره الناس في كل جمعة انتظار الشيء الجديد، ومن ثم يستطيع المنبر أن يكون بينه وبين الحياة عمل.
قال: وأخرج القروي كيسه فعزل منه دراهم وقال: هذه لطعام أتبلغ به ولأوبتي إلي البلد، ثم أفرغ الباقي في صناديق الجماعة واقتديت أنا به فلم أخرج من المسجد حتي وضعت في صناديق الجماعة كل ما معي، ولقد حسبت أنه لو بقي لي درهم واحد لمضي يسبني مادام معي إلي أن يخرج عني.
ويقول عن خطيب المسجد وسيفه الخشبي: وصعد الخطيب المنبر وفي يده سيفه الخشبي يتوكأ عليه، فما استقر في الذروة حتي خيل إلي أن الرجل قد دخل في سر هذه الخشبة، فهو يبدو كالمريض تقيمه عصاه، وكالهرم يمسكه ما يتوكأ عليه، ونظرت فإذا هو كذب صريح علي الإسلام والمسلمين كهيئة سيفه الخشبي في كذبها علي السيوف ومعدنها وأعمالها.
أفي سيف من الخشب معنوية غير معني الهزل والسخافة، وبلاهة العقل وذلة الحياة، ومسخ التاريخ الفاتح المنتصر، والرمز لخضوع الكلمة وصبيانية الإرادة؟!
قال: وكان تمام الهزء، بهذا السيف الخشبي الذي صنعته وزارة أوقاف المسلمين، أنه في طول صمصامة عمرو بن معديكرب الزبيدي فارس الجاهلية والإسلام فكان إلي صدر الخطب ولولا أنه في يده لظهر مقبضه في صدر الرجل كأنه وسام من الخشب.
ويقول عن أصحاب اللحي، فإذا هناك رجال من علماء المسلمين اثنان أو ثلاثة «الشك في ثالثهم لأنه حليق اللحية» ثم توافد إليهم آخرون فتموا سبعة ورأيتهم قد خلطوا بأنفسهم صاحب «اللالحية»، فعلمت أنه منهم علي المذهب الشائع في بعض العصريين من العلماء والقضاة الشرعيين أحسبهم يحتجون بقوله تعالي «ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم» وكل امرئ فإنما تبصره مرآته كيف يظهر في أحسن تقويم أبلحية أم بلا لحية.
وأدرت عيني في وجوههم فإذا وقار وسمت ونور لم أر منها شيئاً في وجه صاحب اللالحية وأنا ما أبصرت قط لحية رجل عالم أو عابد أو فيلسوف أو شاعر أو كاتب أو ذي فن عظيم إلا ذكرت هذا المعني الشعري البديع الذي ورد في بعض الأخبار من أن لله «تعالي» ملائكة يقسمون والذي زين بني آدم باللحي.
وكان من السبعة رجل ترك لحيته عافية علي طبيعتها فامتدت وعظمت حتي نشرت حولها جوا روحانيا من الهيبة تشعر النفس الرقيقة بتياره علي بعد.
ويقول عن مدي الاستجابة للتبرع ووضع شيء من النقود في صندوق جمع التبرعات وسكت الشاب وسكت الشيوخ وسكت الصندوق أيضاً ثم تحركت النفس بوحي الحالة فمد أولهم يده إلي جيبه ثم دسها فيه ثم عبث فيه «أي بحث بأصابعه» ثم أخرج الساعة ينظر فيها.
وانتقلت العدوي إلي الباقين فأخرج أحدهم منديله يتمخط فيه وظهرت في يد الثالث سبحة طويلة وأخرج الرابع سواكا فمر به علي أسنانه وجر الخامس كراسة كانت في قبائه ومد صاحب اللحية العريضة أصابعة إلي لحيته يخللها أما السابع صاحب «اللالحية» فثبتت يده في جيبه ولم تخرج كأن فيها شيئاً يستحي إذا هو أظهره أو يخشي إذا هو أظهره من تخجيل الجماعة.
وسكت الشاب، وسكت الشيوخ، وسكت الصندوق أيضاً.
سألت الأستاذ فهمي هويدي الكاتب والمفكر الإسلامي المعروف وكان ذلك في لقاء عابر أثناء أحد المؤتمرات: ألاحظ أن أسلوبك يشبه أسلوب مصطفي صادق الرافعي فهل قرأت له قال نعم كل كتبه.
كان الأسلوب الذي تعلمناه من الرافعي بناء علي توصية الإمام الشهيد يتميز بالجزالة مع البساطة والصدق في التعبير ووضع اللفظ في مكانه بحيث لا تحتمل الجملة إضافة كلمة أو يمكن أن تحذف منها كلمة.
السيكا والسكسوكة والهردبيسة
ذهبت مع المرحوم الدكتور حسين كمال الدين لزيارة معسكر لجوالة الإخوان أقيم في حلوان، وكان الغرض من هذا المعسكر هو تدريب أفراد الجوالة ليجتازوا اختبار الكشاف الراقي وكان عددهم 120 فرداً، ذلك أن فرق جوالة الإخوان كانت مسجلة بجمعية الكشافة الأهلية المصرية التي كانت تحت رعاية الملك، وكان يرأسها الأستاذ محمد حسنين زهير وكان كل عضو في الجوالة يحمل بطاقة عليها خاتم الجمعية «المعترف بها من الدولة» توضح بياناته الشخصية ورتبته الكشفية ونداء من وزير الداخلية يرجو تسهيل مهمة الكشاف.
وكان نظام الكشافة يبدأ بالكشاف الحديث، ثم الكشاف الراقي، ثم الجوال، وكنت أنا في رتبة جوال في ذلك الوقت، ومعني الجوال أنه الشخص الذي يضع نفسه في خدمة المجتمع وشعاره: لا يستحق أن يولد من عاش لنفسه فقط.
كان نظام جوالة الإخوان تربويا ورياضيا، رئيسه الدكتور حسن كمال الدين، يعاونه محمد سعد الدين الوليلي وعبدالغني عابدين.
وكان هذا النظام هو نواة النظام العسكري الذي حارب في فلسطين عام 1948 وانتصر في كثير من المعارك بقيادة محمود عبده وغيره من ضباط الإخوان.
وكان لابد لعضو الجوالة أن يرقي من كشاف حديث إلي كشاف راق إلي جوال، عن طريق اختبارات تشمل أنواع العقد الملائمة للأغراض المختلفة والإسعافات الأولية وإنقاذ الغرقي وإغاثة الملهوف.
ولما ذهبنا إلي ذلك المعسكر لاختبار الإخوان لينتقلوا من رتبة كشاف حديث إلي كشاف راق، قسمناهم إلي مجموعات يختبر كل منها كشاف راق علي الأقل.
ولما حل موعد الغذاء وكان الشيخ مصطفي العالم رئيس الإخوان بميت غمر هو المشرف علي المطبخ- قدم لنا الطعام كانت الوجبة عبارة عن رغيف من الخبز وبعض الأرز وصحن من الخضار المطبوخ، كان الطعام لذيذا وله شمخة خاصة تثير الشهية.
سألنا الشيخ مصطفي عن كنه ذلك الطعام فقال إنه شيء يسمي سيكا ولم يفصح لنا عن سره.
أما الحلو فكان شيئاً شبيها بالمهلبية فيها طعم فاكهة لم نتبين نوعها وسألنا الشيخ مصطفي عن نوع ذلك الحلو فقال إن اسمه «سكسوكة».
في المساء حضر الأستاذ الإمام لتفقد أحوال ذلك المعسكر وصلي بنا المغرب وسأل عن أحوال جوالة الإخوان وكان معنا مندوبون عن جمعية الكشافة الأهلية المصرية كمراقبين للامتحانات.
لما علم الإمام بموضوع السيكا والسكسوكة سأل الشيخ مصطفي العالم عن سرهما فلم يملك الشيخ مصطفي إلا أن يبوح بسره.
أما السيكا فإنه بعث أحد الإخوان ليشتري بريال طعمية وعشرة أرطال طماطم بخمسة قروش وثلاث أقات بصل بقرش ونصف وبقرشين زيت، وحمر البصل في الزيت وأضاف إليهما الطماطم مقطعة قطعا صغيرة، ثم أضاف إلي ذلك الطعمية بعد أن هرس أقراصها لتختلط بالصلصة مضيفا إلي كل ذلك قليلا من الملح.
سألناه عن سبب تسمية هذه الوجبة بالسيكا فقال إنها كلمة لا معني لها تتفق مع نوع الطعام الذي لا معني له فأسميناها «هردبيسة» لأنها تمثل نوعا من اللخبطة ما بين هرس للطعمية إلي تخديعة الصلصة التي تشبه الدبس «العصير المركز» في شكلها.
أما السكسوكة فقد شرح الشيخ مصطفي كنهها بأنه عندما نقع الأرز في الماء استخسر أن يلقي بذلك الماء في الأرض وكان الماء مليئاً بالنشا المتخلف عن الأرز المنقوع ثم بعث أحد الإخوان ليشتري بخمسة قروش تين شوكي ثم غسله وهرسه ليفصل البذور عن لحم التين ورمي البذور وألقي بعجينة التين إلي الماء وأضاف بعضا من السكر ووضع ماء الأرز بعجين التين بالسكر علي النار إلي أن صارت النتيجة شيئاً شبيها بالمهلبية.
ضحك الأستاذ الإمام كثيراً علي تصرف الشيخ مصطفي العالم الذي أنجز وجبة غذاء لمائة وعشرين فرداً بمبلغ 35 قرشاً ونصف القرش.
قابلت الشيخ مصطفي العالم- بارك الله في عمره- بعد هذه الواقعة بخمسة وأربعين عاماً في حفل قران ابن الأخ الأستاذ بهجت خليل في جدة وصرنا نتسامر ونضحك علي ما كان يخالط نشاط الدعوة من تصرفات فكهة تبعث علي الابتسام.
قال لي الشيخ مصطفي العالم وهو العالم اسما والعالم الفقيه حقا وصدقا إنه حينما جاء إلي السعودية في الخمسينيات ومعه بعض الإخوان رحب بهم الملك سعود رحمه الله ثم لما تولي الملك فيصل الأمر لم يقربه إليه إلا بعد واقعة هي أن الشيخ مصطفي ذهب إليه وقال له عندي ملحوظة أرجو ابلاغها إياك وهي أنه في المكان الفلاني ترتكب أعمال فاحشة لا يحس بها رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث يقف الشباب من أصحاب السيارات ليلتقطوا النساء، قال الملك فيصل: النصيحة لمن يا شيخ مصطفي؟ فقال: «لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» فقال الملك: بارك الله فيك، وما أسرع استجابة الملك فيصل للنصيحة، حيث ذهب الشيخ مصطفي إلي ذلك الموضع في عصر ذات اليوم فلم يجد سيارة واحدة، ووجد جنوداً يقتادون من يرد بسيارته ويقف هناك إلي مركز الشرطة ليتلقي جزاءه.
قدمه جلالة الملك فيصل إلي بعض الأمراء ورجال الدين وكان معه الشيخ عشماوي- قائلاً: لم يأت هؤلاء الإخوان إلينا هربا من عبدالناصر فحسب ولكن ليصححوا لنا عقيدتنا السلفية.
ومنذ ذلك اليوم والشيخ مصطفي يعتبر مستشاراً للملك بغير منصب رسمي.
لقد تعلم مصطفي العالم من الإمام الشهيد وسار علي نهجه لذلك نال ثقة الحكام والمحكومين في المملكة العربة السعودية التي استضافت كثيراً من الإخوان ورعتهم والفضل في ذلك يرجع إلي ما كان بين الملك عبدالعزيز آل سعود والإمام حسن البنا من روابط وثيقة منبعها العمل علي نصرة دين الله وتطبيق شريعته السمحة الصالحة لكل زمان ومكان.
الفتوات
كان لفكرة الإخوان المسلمين ودعوتهم الأثر الأكبر علي النفوس التي ضلت سواء السبيل لهذا ليس عجيبا أن تجد إخوانا كانوا من قبل من الخارجين علي القانون إلي أن هداهم الله فصاروا قدوة طيبة يقتدي بها الرجال.
كان الأخ أحمد نار- كمال قال لي- قاطع طريق وكان من قرية من قري منيا القمح بالشرقية وكان قويا يهابه الناس جميعاً وله أتباع يأتمرون بأمره.
حضر محاضرة للأستاذ الإمام بمنيا القمح فأصابه شعاع من نور- ثم التقي بالإمام بعد المحاضرة وجلس يتحدث معه ثم زاره في المركز العام وتكررت الزيارات فإذا بأحمد نار يصير من أعظم الدعاة إلي الإسلام الحق والاهتداء بشرعيته وطوع الله لسانه للخطابة فصار خطيبا يأسر الناس بروحانيته العالية.
كان يتقن التحطيب «اللعب بالعصا» بحكم سابق خبرته فصار يعلمنا التحطيب في معسكرات فرق الجوالة بالشرقية.
رحمه الله رحمة واسعة، حيث كان مصابا بحصي في الكليتين وتوفاه الله في السجن الذي وضع فيه مظلوما.
كذلك فإن من الشخصيات الملفتة للنظر في الإخوان: الأخ إبراهيم كروم كان فتوة السبتية وكان يفرض علي المتاجر هناك اتاوات لحمايتها من المخربين واللصوص.
وكان يقطع شارع السبتية راكبا حصانا أبيض وبيده النبوت الشهير وخلفه الأتباع راجلين.
في أحد الأيام دعا إخوان شعبة السبتية الأستاذ الإمام ليلقي كلمة علي أهل الحي وجمعوا من أنفسهم تبرعات لاتكاد تكفي لإقامة سرادق صغير.
علم إبراهيم كروم بالأمر فأخذته النخوة المشهورة عن الفتوات وذهب بنفسه إلي أصحاب المتاجر يجمع منهم التبرعات التي فرضها علي كل منهم وفي المساء حضر الأستاذ الإمام إلي السرادق وحكوا له ما قدمه إبراهيم كروم من مساعدة فقربه الإمام إليه وصار يؤثره بالحديث قبل الخطبة وبعدها.
ذهب إبراهيم كروم يزور الإمام في دار الإخوان المسلمين بالحلمية الجديدة ثم حضر حديث الثلاثاء واستمع إلي كلام عن الإسلام لم يسمعه من أحد من قبل، فتعلق قلبه بالإمام ومن ثم بدعوة الإخوان التي وجد فيها إلي جانب الدعوة إلي الإيمان الحث علي الفضائل والشهامة والاستعداد بالقوة، وأخذ ينظر إلي شعار الإخوان المكون من سيفين بينهما مصحف، وتحتهما كلمة «وأعدوا» ويستمع إلي هتاف الإخوان: الله غايتنا.. والرسول زعيمنا.. والقرآن دستورنا.. والجهاد سبيلنا.. والموت في سبيل الله أسمي أمانينا فوجد في دعوة الإخوان ما يشبع نفسه المؤمنة بالسليقة وما يفي بحاجته إلي استخدام القوة مع الأعداء.
آخر مرة التقيت فيها بإبراهيم كروم، كانت في معتقل الطور عام 1949، كان يسير في الفناء شامخا نوره يسعي بين يديه.
اختبارات
كان الإمام الشهيد إذا وقع اختياره علي شخص ما ليكون مساعداً له أو أمينا علي سر من أسرار الدعوة يختبره أولاً في اخلاصه وصدقه ثم يتبين له بالتجربة معه ما إذا كان صالحا أو غير صالح للعمل الذي يوكل إليه، فإذا نجح يختبره مرة أخري ليتعرف علي قدرته علي تحمل المسئولية وعلي الإخلاص والصدق في النصيحة.
من حيث الإخلاص كان يسأل الشخص المرشح سؤالاً: هل إذا حدث انقلاب في الإخوان وأبعد حسن البنا، هل تظل تعمل في الجماعة؟
كان هذا السؤال يلح عليه حيث انشق بعض الإخوان من قبل معارضين فكر الجماعة مثل شباب محمد وغيرهم الذين لم يعجبهم أسلوب حسن البنا في الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ويرون في العنف وتغيير المنكر باليد وسيلة للإصلاح.
ولم يحس أمثال هؤلاء بمدي تجسيد الدعوة في شخص حسن البنا وما اتسم به خلقه الرفيع وسلوكه السوي المتزن.
ومن كان مثلهم فإنه يجيب بأن الدعوة باقية، وحسن البنا زائل ولعل هذا يكون رداً معقولا لصاحب التفكير السطحي، فيقول له الإمام وماذا لو حدث ذلك في حياة حسن البنا؟
حدث ذلك معي قبل أن أعمل معه أمينا للمعلومات ومطلعا علي أسرار النظام الخاص، فقلت له إن دعوة الإخوان المسلمين بغير حسن البنا ستكون شيئاً آخر غير دعوة الإخوان المسلمين التي تعلمناها وعرفناها وتربينا فيها.
قال لي: انظر يا محمود إن الإيمان بالإسلام يقوم علي شهادتين ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولا تصلح الشهادة الأولي وحدها ليصير الشخص مسلما.
وذلك لأن النبي صلي الله عليه وسلم يتجسد الإسلام في شخصه، ويمكن الاحساس به في خلقه وسلوكه صلي الله عليه وسلم.
فإذا آمن الشخص بألا إله إلا الله، ولم يؤمن بأن محمداً رسول الله فهو كأهل الكتاب الذين يؤمنون بالله فقط، ولا يعترفون برسول الله صلي الله عليه وسلم.
يجب أن يكون الإيمان بالفكرة وصاحبها معا، فلسنا جمعية ولا تشكيلا اجتماعيا.
إن كنا كذلك فلا أهمية للقائد، ويمكن أن يكون أي عضو من أعضاء الجماعة أو الجمعية أو التشكيل، أما ونحن دعوة فلابد من الإيمان بها والسير علي نهج داعيتها والعمل علي تطبيق أفكاره متي اقتنعنا به عن رضا.
ولا تظن أن طاعة القائد واجبة في جميع الظروف، ولكنها تقتصر فقط علي اقتناعنا الخاص وثقتنا في القائد بالدرجة التي تبعد الشك به أو سوء الظن به.
كان للإمام سحره النابع من إخلاصه والإخلاص ينتقل كالعدوي لذلك كان كل معاونيه من الصادقين المخلصين.
كان هذا أحد الاختبارات، أما الاختبار الثاني فكان لصغار المعاونين حيث يستلزم الأمر الشجاعة والإخلاص في العمل والأمانة في الحفاظ علي الأسرار، كان يكلف رئيس القسم المختص بالمركز العام، فيرشح لي من يراه ملائماً من الإخوان العاملين أو المترددين علي القسم، كنت أقول له اذهب إلي مكان كذا.. «ميدان السيدة زينب مثلاً» وستجد شخصا واقفا تحت الساعة في الميدان وفي يده كتاب جلدته خضراء.. قل له: السلام عليكم، فيقول لك: سلام فإذا قال وعليك السلام فإنه يكون غير الشخص المقصود وحينئذ اسأله عن عنوان ما وانصرف، أما إذا رد عليك بالشفرة المتفق عليها فقل له أين الأمانة؟ سيعطيك شيئاً تحمله إلي شخص ما في مكان آخر نفذ تعليماته.
وبالفعل يذهب المرشح للمكان ويتلقي من الشخص المقصود لفافة فيها قطعة حجر ويقول له هذا مسدس خذه وأعطه لفلان الواقف علي محطة الترام أمام المسجد وهو يرتدي حلة زرقاء اللون فإذا تبين له أن المرشح قد انزعج وأظهر الخوف فإنه يقول له: لا تخف لقد نجحت في امتحان إطاعة الأوامر ثم يصرفه أما إذا أظهر شجاعة ونفذ التعليمات فإنه يكون قد نجح بالفعل وحينئذ ينضم إلي الفئة العاملة المخلصة الحافظة للسر.

أما الاختبار الثالث فهو يكون لكبار المعاونين للإمام، حيث يجتمع بهم فرادي ويعرض علي الواحد منهم رأيا يعلم فضيلته أنه سخيف ولا وزن له في الحقيقة، فإذا أبدي الشخص إعجابا بالرأي وحماسا له باعتباره رأي الإمام، وصار يقرظه متملقا إياه، فإن الإمام يعلم عن هذا الشخص النفاق وعدم الإخلاص، فيضعه في ذهنه ضمن أولئك الذين لا يعتمد عليهم في رأي أو نصيحة، أما الذي ينجح في هذا الاختبار فهو الإنسان الصادق الذي يعارض الرأي ويظهر عيوبه.
ليت رجال الأعمال من رؤساء مجالس الإدارات والمديرين العامين يتبعون هذا الأسلوب في الاختبار لكي يقيموا مستشاريهم ومعاونيهم ويتعرفوا علي مدي الصدق فيما يشيرون به.
مشروع زواج
أذكر أنني التحقت بكلية التجارة عام 1938 علي كره مني، فقد كنت أتمني الالتحاق بالهندسة لاتفاقها مع هواياتي في الرسم «حصلت علي 19 من 20 في الرسم الهندسي في الثانوية العامة».
وكان مجموع المواد الرياضية المؤهل لدخول كلية الهندسة يتضمن 130 درجة للهندسة الفراغية والجبر وحساب المثلثات والتحليل الرياضي والميكانيكا والرسم الهندسي، كما كان يتضمن 100 درجة للطبيعة والكيمياء.. وفي حين أني حصلت علي 125 درجة من الـ 130 الأولي، لم أحصل في الطبيعة والكيمياء إلا علي 40 درجة وهي الحد الأدني للنجاح، فلم أقبل بكلية الهندسة.
وأنا داخل من باب كلية التجارة وكانت آنذاك في المنيرة محل معهد التعاون الآن وإذا بمظاهرة ضخمة يقودها المرحوم فؤاد الجنزوري الطالب بالسنة الرابعة تهتف ضد الحكومة، وعجبت لأمر هذه المظاهرة حيث لم تكن هناك أحداث سياسية تدعو إليها، غير أني عرفت فيما بعد أنها بسبب أن الحكومة عينت بعض خريجي العام الماضي بخمسة جنيهات ونصف شهرياً علي سبيل المكافأة حيث لا توجد درجات.
كانت تلك صدمة قاتلة لزملائي بوجه عام، ولي علي وجه خاص لأنني دخلت هذه الكلية علي كره مني، فزادت تلك المظاهرة وأسبابها الطين بلة، وأصبحت البلوي بلوتين.
بقينا في مبني الكلية ذلك لمدة عام واحد، ثم احتاج الجيش البريطاني إليه عام 1939 بعد أن بدأت الحرب العالمية الثانية فأجلونا منه إلي ملحق تم بناؤه لكلية العلوم في جامعة القاهرة بالجيزة.
كنت أسكن في مصر القديمة ثم في حي الروضة، وأسير يومياً من هناك إلي قصر العيني فالمنيرة لأوفر 6 مليمات هي أجر الترام، ثم تحول ذلك إلي سير آخر مضن إلي الجيزة.
وكان لنا أستاذ للقانون «الدكتور محمد هيبة» كثيراً ما كنت ألقاه في الطريق إلي الجماعة ونتسلي معا نتبادل الحديث حتي نصل إلي الكلية.
في عام 1939 تقدمت للالتحاق بالكلية لحربية وبكلية البوليس ونجحت في الكشف الطبي في الاثنتين، ثم رسبت في كشف الهيئة في الاثنتين كذلك بالرغم من أنني لم أدع لمقابلة لجنة الامتحان في أي منهما، في حين أنني كنت واقفا مع غيري علي الباب، إذ خرج لنا ضابط وقال: اذهبوا وسنستدعيكم إذا لزم الأمر، معني هذا أنه لم تكن لي أو لزملائي واسطة، وكان هذا أمراً شائعاً في دخول الحربية والبوليس.
كان كشف الهيئة هذا وبالا علي إذ كان في يوم امتحان الرياضة في الكلية، الأمر الذي أدي إلي أن أرسب في ذلك العام.
كنت في الكلية عضواً بشعبة الإخوان المسلمين منذ عام 1941 وكان رئيسها زميلي محمد يونس الأنصاري «شقيق اللواء محمود يونس الأنصاري» الذي دعاني لزيارة المركز العام، ذهبت معه والتقينا بالإمام الشهيد، وكانت تلك أول مرة أجلس معه ونتبادل الحديث، سألني عن أحوالي وعما إذا كنت أفكر في الزواج فأخبرته بأنني لم أجد بعد ما يوافقني، فقال ابحث بين الأقارب فقلت: لي ابنة خال ولكنها صغيرة في السن، فقال انتظرها وتوكل علي الله.
انتظرتها.. وبعد عام سألني عنها كيف هي؟ فقلت: بخير قال أتحبها؟ قلت: نعم قال أتحبك؟ قلت أعتقد ذلك قال أفصح لها عن حبك.
علمت منه يومها أن ابنته وفاء يتنافس عليها اثنان من الإخوان هما سعد الوليلي وسعيد رمضان ولكنه أبي أن يعطي أيا منهما كلمة إلي أن تكبر ويكون لها الرأي النهائي فيمن تتزوج وكانت في النهاية من نصيب سعيد رمضان.
عند زواجي في 11/11/1948 أوفد الإمام الشهيد نيابة عنه الأستاذ عبدالحكيم عابدين ليعقد القران، وحضر فريق التمثيل بشعبة السيدة عائشة وأحيا حفل الزواج، وكانت ليلة لم تر لها قريتنا مثيلا من قبل.
جهزنا لهم مكانا للمبيت بدوار العائلة وكان معهم موظفو شركة الإعلانات العربية فنهضوا لصلاة الفجر وأرادوا ارتداء أحذيتهم تمهيدا للانصراف فوجدوا الأحذية وقد ربطت كل فردة منها مع فردة حذاء آخر وصار كل منهم يبحث عن حذائه.
كان سعد تاج الدين رئيس حسابات الشركة قد قام في الليل بتبديل الأحذية وربطها من باب الدعابة.. وكانت دعابة مقبولة من الجميع وصاروا يتندرون بها لأيام بعد ذلك.
البنك الأهلي المصري
تخرجت في كلية التجارة عام 1943 وكنت السادس في الترتيب وكانت دفعتي التي تخرجت مكونة من 43 طالبا علي مستوي المملكة المصرية، فلم تكن جامعة فاروق الأول بالإسكندرية قد خرجت أحداً بعد وطلب البنك الأهلي المصري من الكلية- مستجيبا لحركة التمصير- أن ترشح له العشرة الأوائل ليلتحقوا بالبنك، وأرسلوا لنا بموعد امتحان سيتم في الجامعة الأمريكية في موعد محدد، فرحت كثيراً وذهبت إلي الامتحان في موعده ظانا أننا عشرة فقط، فإذا بطالبي الوظائف يزيد عددهم علي السبعين: فتيان وفتيات يونانيون وآرمن وإيطاليون ويهود بعضهم لا يحمل أي شهادات وليس منهم من يحمل مؤهلات عليا وجلسنا للامتحان وأنا أظن أنهم سيختبروننا في المحاسبة التي حصلت فيها علي 18 درجة من 20 في البكالوريوس فوجئنا بأن الامتحان كالآتي: موضوع إنشاء عربي، وموضوع إنشاء إنجليزي ومسألة حساب بسيطة وسؤال عن جغرافية وادي النيل وسؤال عن أهم أعمال رمسيس الثاني وقطعة ترجمة بسيطة من الإنجليزية للعربية احتقر 9 من زملائي ذلك الامتحان وغادروا القاعة ولكنني بقيت وأتممته لحاجتي للوظيفة.
عينت في فرع البنك الأهلي بالزقازيق براتب قدره 8 جنيهات بالإضافة إلي جنيهين بدل أرياف فكانت تلك نعمة من الله لأنني عشت مع والدي الذي كان مهندسا بمساحة الزقازيق.
كان مدير فرع البنك الأهلي اسكتلنديا والباشكاتب «مسيو ليفي» يهوديا وكبير المحاسبين «مسيو زونانا» يهوديا« بعد ذلك صار مديراً لمراقبة النقد».
وكان باقي العاملين 5 من المصريين من بينهم متولي الجمل الذي صار عميداً لتجارة القاهرة بعد ذلك بسبعة وعشرين عاماً.
وكانت المعاملة قاسية وسيئة للغاية، وكل يوم نجد فيها منغصات من اليهود ومن المدير الذي ينصاع إليهم، وكنا نعمل من 30،7 صباحاً إلي 30،8 مساء مع راحة لمدة ساعة لتناول الغداء في المنزل، أي كنا نعمل 12 ساعة صافية يوميا، يوم الأحد «أي يوم الإجازة» نعمل من 10 صباحاً إلي 3 عصراً.
ذهبت إلي الأستاذ الإمام حسن البنا لأستفتيه في العمل في البنك هل هو حلال أم حرام؟
سألته في ذلك باعتبار أن البنك يتعامل بالربا فسألني: هل إذا تركت البنك ستجد عملا آخر لتنفق علي نفسك وأهلك؟ قلت: عسير جدا بل شبه مستحيل قال: إذا استقلت من البنك ألا يستفيد من شغل الوظيفة يهودي أو إيطالي أو يوناني: قلت «طبعا» قال: أهذا في مصلحة الإسلام؟ ثم هل كل أعمال البنك يداخلها الربا؟ فقلت: لا هناك عمليات القطن وفتح الاعتمادات وإصدار الشيكات وغير ذلك مما لا يداخله الربا، فقال إذن مال البنك قد اختلط حلاله بحرامه، وما يدريك أنت أنك تحصل علي راتبك من الجانب الحرام؟ عد إلي عملك فإنك تحصل علي أجر عن عمل تؤديه أنت وهو عمل حلال وقد كنت في البنك أستلم البريد الوارد وأقيده وأعرضه علي المدير وأتابع تأشيراته وأتولي البريد الصادر وآخذ صوراً منه وأضعها في الملفات الملائمة كما كانت عندي عهدة الأدوات المكتبية وأقيد الحسابات.

كان من اختصاصي أن أعد كشوف فرع الخرطوم، وهي كشوف تقيد بها جميع عمليات البنك كل أسبوع، ونبعث بها إلي فرع الخرطوم البعيد عن أخطار الحرب، حتي إذا ضرب أحد فروع البنك بقنبلة لا تضيع الحسابات مع ما يضيع من سجلات وموجودات.
لقد استفدت من عملي بالبنك- علي قسوته وصعوبته- فائدة عظمي كنت أكره الأرقام فصرت أحبها، تعلمت الدقة المتناهية حيث كنت أعيد جميع القيود في كشوف فرع الخرطوم إذا لم يتفق مجموع الأرصدة مع ما هو وارد في الدفاتر كذلك تعلمت الصبر، والكياسة في المعاملة، وتحمل سوء أخلاق الرؤساء.
الاستقالة من البنك الأهلي
في البنك الأهلي بالزقازيق كنا خمسة موظفين ونقوم بعمل 30 موظفاً ولم تكن لنا أيام راحة أو إجازات وفي ليلة عيد الفطر أي في آخر رمضان كنت أعمل بالبنك حتي الساعة الحادية عشرة مساء، جاء مسيو زونانا «رئيس الحسابات اليهودي» فوجدني منهمكا في العمل.
قال: مسيو عساف.. بكرة عندكم عيد.. تقدر تحضر للبنك الساعة 10 صباحا قلت له: يوم العيد عندي ارتباطات عائلية في البلد قال: نحن لايهمنا هذه الارتباطات، أنت موظف هنا ولم تثبت بعد وسأكتب تقريراً ليس في صالحك ثرت عليه وتركت البنك غاضبا ومن شدة غضبي والكبت الذي حدث لي أصبت بمرض لا أعرفه، عرضت نفسي علي طبيب صحة أبوحماد الذي منحني إجازة مرضية لمدة 15 يوما بعثت بها بخطاب مسجل إلي البنك.
بعد أيام العيد توجهت أبحث عن عمل بالقاهرة من الأماكن التي بحثت فيها ديوان المحاسبة «الجهاز المركزي للمحاسبات اليوم» ووجدت هناك أحد زملائي وكان الأخير في الدفعة يعمل هناك في الدرجة السادسة بمرتب 13 جنيها و30 قرشاً، وهو مبلغ كبير نسبيا إذا قورن براتبي البالغ 8 جنيهات بالإضافة إلي جنيهين بدل الأرياف، وكان زونانا يسعي لإلغائها باعتباري من أهل المنطقة.. لم أوفق لشيء في ديوان المحاسبة فقد كان الأمر يحتاج إلي واسطة كبيرة لا تقل عن مستوي البطريرك.
توجهت إلي إدارة الخبراء بوزارة العدل، ووجدت هناك زميلين من دفعتي وجدتهما مع بعض أصدقائهما يتشمسون في الشتاء في فناء الإدارة حول فسقية تضخ الماء ويشربون عصير القصب، في استرخاء علي كراسي من الخشب والقماش مما يستخدم في المصايف، هذا المنظر لا يغيب عن ذاكرتي أبدا.
توجهت لمقابلة عبدالله بك أباظة وكان نائب بلدنا وصديقا لخالي وعرضت عليه الأمر فحاول أن يثنيني عن ترك البنك باعتبار أن المستقبل فيه فأفهمته أنني لا أستطيع تحمل سلوك اليهود تجاهي وأنني مرهق جدا من العمل الذي هو فوق الطاقة كنت بعد أن ينتهي عملي في البنك في الساعة الثامنة مساء في العادة، أتوجه إلي دار الإخوان المسلمين بالزقازيق حيث كنت نائباً لرئيس الجوالة لمنطقة القناة والشرقية لشئون الشرقية، وكنت أعمل علي تكوين فرق الجوالة بمدن الشرقية وقراها وأرتب المؤتمرات الكشفية وأقيم معسكراتها حتي وصل عدد جوالة الشرقية إلي حوالي خمسة آلاف، شاركوا في الاستعراض الكشفي الذي حضره الملك عبدالعزيز آل سعود حين أقام ضيفا علي مصر في قصر الزعفران، وكان الإمام الشهيد يقف إلي جواره أثناء الاستعراض الذي اشترك فيه حوالي 15 ألف جوال، وكنت حاضراً هناك.
وافق عبدالله بك أباظة- وكيل وزارة التجارة آنذاك- علي تعييني بمكتبه بمكافأة قدرها عشرة جنيهات، كنت سعيداً بها، وبعد فترة نقلت إلي الدرجة السادسة براتب قدره 12 جنيهاً تضاف عليها علاوة الغلاء، وقدرها 130 قرشاً.
حينئذ أرسلت استقالتي إلي مدير البنك الأهلي بالزقازيق، وحتي الآن فالبنك مدين لي براتب الشهر الأخير الذي اشتغلته فيه.
أتاح لي عملي بالقاهرة أن أعمل متطوعاً بالمركز العام للإخوان المسلمين، وأن أكون قريباً من الإمام الذي عهد إلي فيما بعد بأمانة المعلومات.
حلواني الوحدة العربية
بينما كنت أعمل مفتشا بإدارة الشكاوي بوزارة التموين، وردت شكوي إلي مكتب الوزير موقعا عليها من الشاكي «حيث لم نكن ننظر للشكاوي المجهلة» يقول فيها إن حلواني الوحدة العربية بشارع الساحة يتاجر بمقررات التموين المخصصة له، في السوق السوداء.
لم أكن أعرف مقدار تلك المقررات فذهبت إلي مراقب تموين القاهرة بشارع قصر العيني، وطلبت منه تكليف أحد مفتشيه لمصاحبتي في تحقيق تلك الشكوي.
انتدب المراقب: حسن أفندي وهو مفتش قديم توجهت معه إلي حلواني الوحدة العربية وكان محله عبارة عن مترين عرضاً في أربعة أمتار طولاً وقد عرض صواني البسبوسة والكنافة والقطايف والبقلاوة في جانب من المتجر، وفي الجانب الآخر طاولات 40 في 40 سم وعلي جانبي كل طاولة كرسيان جلسنا وحضر صاحب المحل قائلاً: أهلا وسهلا يابكوات، قلنا إننا مفتشان من التموين وفتحنا محضراً سجلنا فيه مقرراته التموينية الشهرية من الزيت والسمن والسكر والدقيق، وسألناه عن مخزنه، فأشار إليه وكان في أسفل عمارة في الجانب الآخر من الشارع، ذهبنا لمعاينة هذا المخزن، فوجدنا أن ما به من مواد يعتبر معقولا وانصرفنا علي أن نذهب لنستوفي من الشاكي تفاصيل شكواه.
وفي طريقنا لعنوانه في أحد ميادين الجيزة تحت رقم 25، قال حسن أفندي أستأذنك في المرور علي مكتبي بمراقبة تموين القاهرة.. ذهبنا سويا وإذا بنا ونحن علي الباب الخارجي وكان إلي جواره مكتب مدير مباحث التموين، أن اعترضنا هذا المدير، وكان ضابط بوليس برتبة اميرالاي «عميد» وقال: ماذا يا حسن أفندي؟ لقد أزعجتم فلانا صاحب حلواني الوحدة العربية في حين أنه رجل طيب ولا يستحق هذه البهدلة، ضحك حسن أفندي وقال: يافلان بك إنه لم يذيقنا الصنف، وهل هذا يصح؟ وضحكنا من هذه النكتة.
ذهبنا إلي الشاكي، وعبرنا النيل في قارب ودفع كل منا خمسة مليمات أجرا للعبور، حيث كان كوبري عباس مفتوحا بسبب المظاهرات التي قامت في الجامعة في ذلك الوقت ذهبنا إلي العنوان المذكور بالشكوي، وبحثنا عن الاسم الوارد فيها، فأفادنا أحد أصحاب المحلات من المسنين، بأن هذا الشخص كان موجوداً فعلاً، ولكنه مات من 25 عاماً عرفنا حينئذ أن الشكوي كيدية.
توجهنا في اليوم التالي لمحل الحلواني لكي نختم المحضر ونؤشر عليه بالحفظ دخلنا المحل وجلسنا وإذا بصاحبه يقدم لنا صينية كنافة بالسمن البلدي «النادر في ذلك الوقت» والفستق وعسل النحل ثرت في وجهه فقال حسن أفندي له: اسمع يا رجل إما أن نأكلها بالثمن أو نحرر لك محضر رشوة فقال الرجل: أردت فقط أن تتذوقا الصنف «نفس العبارة التي قالها حسن أفندي لمدير مباحث التموين» ثم أتبع ذلك: كلاها بالثمن.
قال حسن أفندي: كل يا محمود أفندي.. أخذنا نأكل ولم أستطع أن أتناول إلا لقيمات قلائل لشدة حلاوة الكنافة في حين أن حسن أفندي أجهز عليها.
قمنا للخروج وسألت حسن أفندي كم سندفع فيها، فقال انتظر حتي أحاسبه ثم وضع في يد صاحب المحل نقودا وانصرفنا قلت له كم أنا مدين لك به؟ قال 25 مليما ذهلت حيث إن الصينية تساوي خمسين قرشاً علي الأقل وليس خمسة قروش قال حسن أفندي موضحاً: إن هذه الخمسة قروش سوف تسبب لصاحب المحل ضيقا شديداً ففي تقديره إنه لو قبلناها رشوة فإن هذا سيسعده أما أن ندفع فيها أقل من تكلفتها فإن ذلك سيغيظه علي أساس أننا دفعنا فيها ثمنا.
لم أشأ أن أحكي هذه القصة للإمام الشهيد بيد أن أحداثها ظلت عالقة بذهني وبخاصة فيما يتعلق بمباحث التموين..

This site was last updated 09/27/12