Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم عزت اندراوس

 المقريزى يصف غزو مصر

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
نظرة الأقباط لهرقل
المقريزى وغزو مصر
فتح مصر عنوة أم صلحاً
المؤرخ البلاذرى وغزو مصر
إهداء أرض مصر
قبائل العرب التى غزت مصر
الجزية ظلماً من الأقباط
كيف سلم المقوقس مصر
يوحنا النيقيوسى وحال الأقباط
Untitled 4495
شروط تسليم مصر
من هو  بن العاص
Untitled 4500
Untitled 4501
Untitled 5203
ثروة عمرو بن العاص
h
مصر بقرة العرب
المقريزى يصف غزو مصر
غزو مصر والمغرب للجعفرى
سير معارك بن العاص لغزو مصر
Untitled 5209
ما كتبه يوحنا النقيوسى بمخطوطته
العاص ينشئ الفسطاط

 

الجزء التالى منقول من كتاب  كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» أحمد بن علي بن عبد القادر، أبو العباس الحسيني العبيدي، تقي الدين المقريزي ولد في القاهرة سنة (766 هـ) ونشأ بها وولي فيها الحسبة والخطابة والإمامة مرات وتوفي في القاهرة سنة (845 هـ) الجزء الأول

****************************************************************************************************************

قال ابن عبد الحكم‏:‏ وكان عمرو بن العاص رضي الله عنه يبعث إلى عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه بالجزية بعد حبس ما كان يحتاج إليه وكانت فريضة مصر لحفر خلجها وإقامة جسورها وبناء قناطرها وقطع جزائرها مائة ألف وعشرين ألفًا معهم الطور والمساحي والأداة يعتقبون ذلك لا يدعون ذلك صيفًا ولا شتاءً ثم كتب إليه عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه‏:‏ أن تختم في رقاب أهل الذمّة بالرصاص ويظهروا مناطقهم ويجزوا نواصيهم ويركبوا على الأكف عرضًا ولا يضربوا الجزية إلا على من جرت عليه الموسى ولا يضربوا على النساء ولا على الولدان ولا تدعهم يتشبهون بالمسلمين في ملبوسهم‏.‏
وعن يزيد بن أسلم‏:‏ أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه كتب إلى أمراء الأجناد‏:‏ أن لا يضربوا الجزية إلا على من جرت عليه الموسى وجزيتهم أربعون درهمًا على أهل الورق وأربعة دنانير على أهل الذهب وعليهم من أرزاق المسلمين من الحنطة والزيت مدّان من حنطة وثلاثة أقساط من زيت في كل شهر لكل إنسان من أهل الشام والجزيرة وودك وعسل لا أدري كم هو ومن كان من أهل مصر فأردب في كل شهر لكل إنسان ولا أدري كم الودك والعسل وعليهم من البز الكسوة التي يكسوها أمير المؤمنين الناس ويضيفون من نزل بهم من أهل الإسلام ثلاثة أيام وعلى أهل العراق خمسة عشر صاعًا لكل إنسان ولا أدري كم لهم من الودك وكان لا يضرب الجزية على النساء والصبيان وكان يختم في أعناق رجال أهل الجزية وكانت ويبة عمر في ولاية عمرو بن العاص‏:‏ ستة أمداد‏.‏
قال‏:‏ وكان عمرو بن العاص لما استوثق له الأمر أقرّ قبطها على جباية الروم فكانت جبايتهم بالتعديل إذا عمرت القرية وكثر أهلها زيد عليهم وإن قل أهلها وخربت نقصوا فيجتمع عرافوا كل فرية وأمراءها ورؤساء أهلها فيتناظرون في العمارة والخراب حتى إذا أقرّوا من القسم بالزيادة انصرفوا بتلك القسمة إلى الكور ثم اجتمعوا هم ورؤساء القرى فوزعوا ذلك على احتمال القرى وسعة المزارع ثم يجتمع كل قرية بقسمهم فيجمعون قسمهم وخراج كل قرية وما فيها من الأرض العامرة فيبتدئون ويخرجون من الأرض فدّادين لكنائسهم وحماياتهم ومعدياتهم من جملة الأرض ثم يخرج منها عدد الضيافة للمسلمين ونزول السلطان فإذا فرغوا نظروا لما في كل قرية من الصناع والأجراء فقسموا عليهم بقدر احتمالهم فإن كانت فيهم جالية قسموا عليها بقدر احتمالها وقلما كانت تكون إلا لرجل الشاب أو المتزوج ثم ينظرون ما بقي من الخراج فيقسمونه بينهم على عدد الأرض ثم يقسمون ذلك بين من يريد الزرع منهم على قدر طاقتهم فإن عجز أحد منهم وشكا ضعفًا عن زرع أرضه وزعوا ما عجز عنه على ذوي الاحتمال وإن كان منهم من يريد الزيادة أعطي ما عجز عنه أهل الضعف فإن تشاحوا قسموا ذلك على عدّتهم وكانت قسمتهم على قراريط الدنانير أربعة وعشرين قيراطًا يقسمون الأرض على ذلك‏.‏
ولذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنكم ستفتحون أرضًا يذكر فيها القيراط وجعل لكل فدان عليهم‏:‏ نصف أردب قمح ويبتين من شعير إلا القرظ فلم يكن عليه ضريبة والويبة ستة أمداد وكان عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه يأخذ ممن صالحه من المعاهدين ما سمى على نفسه لا يضع من ذلك شيئًا ولا يزيد عليه ومن نزل منهم على الجزية ولم يسم شيئًا يؤدّيه نظر عمر في أمره فإذا احتاجوا خفف عنهم وإن استغنوا زاد عليهم بقدر استغنائهم‏.‏
وقال هشام بن أبي رقية اللخمي‏:‏ قدم صاحب أخنا على عمرو بن العاص رضي اللّه عنه فقال له‏:‏ أخبرنا ما على أحدنا من الجزية فنصير لها‏.‏
فقال عمرو وهو يشير إلى ركن كنيسة‏:‏ لو أعطيتني من الأرض إلى السقف ما أخبرتك ما عليك إنما أنتم خزانة لنا إن كثر علينا كثرنا عليكم وإن خفف عنا خففنا عنكم ومن ذهب إلى هذا الحديث ذهب إلى أن مصر فتحت عنوة‏.‏
وعن يزيد بن أبي حبيب قال‏:‏ قال عمر بن عبد‏:‏ العزيز أيُّما ذميّ أسلم فإن إسلامه يحرز له نفسه وماله وما كان من أرض فإنها من فيء الله على المسلمين وأيما قوم صالحوا على جزية يعطونها فمن أسلم منهم كانت داره وأرضه لبقيتهم‏.‏
وقال الليث‏:‏ كتب إلي يحيى بن سعيد‏:‏ أن ما باع القبط في جزيتهم وما يؤخذون به من الحق الذي عليهم من عبد أو وليدة أو بعير أو بقرة أو دابة فإن ذلك جائز عليهم فمن ابتاعه منهم فهو غير مردود عليهم أن أيسروا وما أكروا من أرضهم فجائز كراؤه إلا أن يكون يُضر بالجزية التي عليهم فلعل الأرض إن ترد عليهم أن أضرت بجزيتهم وإن كان فضلًا بعد الجزية فإنا نرى كراءها جائزًا لمن يكراها منهم‏.‏
قال يحيى‏:‏ فنحن نقول‏:‏ الجزية جزيتان‏:‏ جزية على رؤوس الرجال وجزية جملة تكون على أهل القرية يؤخذ بها أهل القرية فمن هلك من أهل القرية التي عليهم جزية مسماة على القرية ليست على رؤوس الرجال فإنا نرى أنّ من هلك من أهل القرية ممن لا ولد له ولا وارث إن أرضه ترجع إلى قريته في جملة ما عليهم من الجزية ومن هلك ممن جزيته على رؤوس الرجال ولم يدع وارثًا فإن أرضه للمسلمين‏.‏
وقال الليث عن عمر بن العزيز‏:‏ الجزية على الرؤوس وليست على الأرضين يريد أهل الذمّة‏.‏
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى حيان بن شريح‏:‏ أن يجعل جزية موتي القبط على أحيائهم وهذا يدل على أنّ عمر كان يرى أنّ أرض مصر فتحت عنوة وأن الجزية إنما هي على القرى فمن مات من أهل القرى كانت تلك الجزية ثابتة عليهم وإن موت من مات منهم لا يضع عنهم من الجزية شيئًا‏.‏
قال‏:‏ ويحتمل أن تكون مصر فتحت بصلح فذلك الصلح ثابت على من بقي منهم وإن موت من مات منهم لا يضع عنهم ممن صالحوا عليه شيئًا‏.‏
قال الليث‏:‏ وضع عمر بن عبد العزيز الجزية على من أسلم من أهل الذمّة من أهل مصر وألحق في الديوان صلح من أسلم منهم في عشائر من أسلموا على يديه وكانت تؤخذ قبل ذلك ممن أسلم وأول من أخذ الجزية ممن أسلم من أهل الذمّة‏:‏ الحجاج بن يوسف ثم كتب عبد الملك بن مروان إلى عبد العزيز بن مروان‏:‏ أن يضع الجزية على من أسلم من أهل الذمّة فكلمه ابن حجيرة في ذلك فقال‏:‏ أعيذك بالله أيها الأمير أن تكون أوّل من سنّ ذلك بمصر فواللّه إن أهل الذمّة ليتحملون جزية من ترهب منهم فكيف نضعها على من أسلم منهم فتركهم عند ذلك‏.‏
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى حيان بن شريح‏:‏ أن تضع الجزية عمن أسلم من أهل الذمة فإن الله تبارك وتعالى قال‏:‏ ‏"‏ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم ‏"‏ التوبة 5 وقال‏:‏ ‏"‏ قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرّم اللّه ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون ‏"‏ التوبة 29‏.‏
وكتب حيان بن شريح إلى عمر بن عبد العزيز‏:‏ أما بعد‏:‏ فإن الإسلام قد أضر بالجزية حتى سلفت من الحارث بن ثابتة عشرين ألف دينارًا تمت بها عطاء أهل الديوان فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بقضائها فعل فكتب إليه عمر‏:‏ أما بعد‏:‏ فقد بلغني كتابك وقد وليتك جند مصر وأنا عارف بضعفك وقد أمرت رسولي بضربك على رأسك عشرين سوطًا فضع الجزية عن من أسلم قبح الله رأيك فإن الله إنما بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم هاديًا ولم يبعثه جابيًا ولعمري لعمر أشقى من أن يدخل الناس كلهم الإسلام على يديه‏.‏
قال‏:‏ ولما استبطأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخراج من قبل عمرو بن العاص كتب إليه‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص سلام الله عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد‏:‏ فإني فكرت في أمرك والذي أنت عليه فإذا أرضك أرض واسعة عريضة رفيعة وقد أعطى اللّه أهلها عددًا وجلدًا وقوّة في بر وبحر وأنها قد عالجتها الفراعنة وعملوا فيها عملًا محكمًا مع شدة عتوهم وكفرهم فعجبت من ذلك وأعجب مما عجبت أنها لا تؤدي نصف ما كانت تؤدّيه من الخراج قبل ذلك على غير قحوط ولا جدب وقد أكثرت في مكاتبتك في الذي على أرضك من الخراج وظننت أن ذلك سيأتينا على غير نزر ورجوت أن تفيق فترفع إليّ ذلك فإذا أنت تأتيني بمعاريض تعبأ بها لا توافق الذي في نفسي لست قابلًا منك دون الذي كانت تؤخذ به من الخراج قبل ذلك ولست أدري مع ذلك ما الذي نفرك من كتابي وقبضك فلئن كنت مجرّبًا كافيًا صحيحًا إن البراءة لنافعة وإن كنت مضيعًا نطعًا إن الأمر لعلى غير ما تحدّث به نفسك وقد تركت أن أبتلي ذلك منك في العام الماضي رجاء أن تفيق فترفع إلي ذلك وقد علمت أنه لم يمنعك من ذلك إلا أن أعمالك عمال السوء وما توالس عليك وتلفف أتخذوك كهفًا وعندي بإذن الله دواء فيه شفاء عما أسألك فيه فلا تجزع أبا عبد اللّه أن يؤخذ منك الحق وتعطاه فإن النهر يخرج الدرّ والحق أبلج ودعني وما عنه تلجلج فإنه قد برح الخفاء والسلام‏.‏
فكتب إليه عمرو بن العاص‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم لعبد اللّه عمر أمير المؤمنين من عمرو بن العاص سلام الله عليك فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو‏.‏
أما بعد‏:‏ فقد بلغني كتابك أمير المؤمنين في الذي استبطأني فيه من الخراج والذي ذكر فيها من عمل الفراعنة قبلي وإعجابه من خراجها على أيديهم ونقص ذلك منها مذ كان الإسلام ولعمري للخراج يومئذٍ أوفر وأكثر والأرض أعمر لأنهم كانوا على كفرهم وعتوّهم أرغب في عمارة أرضهم منا مذ كان الإسلام وذكرت أن النهر يخرج الدر فحلبتها حلبًا قطع درها وأكثرت في كتابك وأنبت وعرضت وتربت وعلمت أن ذلك عن شيء تخفيه على غير خبر فجئت لعمري بالمقطعات المقدّعات ولقد كان لك فيه من الصواب من القول رصين صارم بليغ صادق ولقد عملنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن بعده فكنا نحمد الله مؤدّين لأماناتنا حافظين لما عظم اللّه من حق أئمتنا نرى غير ذلك قبيحًا والعمل به شينًا فتعرف ذلك لنا وتصدّق فيه قلبنا معاذ اللّه من تلك الطعم ومن شرّ الشيم والاجتراء على كل مأثم فامض عملك فإن الله قد نزهني عن تلك الطعم الدنية والرغبة فيها بعد كتابك الذي لم تستبق فيه عرضًا ولم تكرم فيه أخًا والله يا ابن الخطاب لأنا حين يراد ذلك مني أشدّ غضبًا لنفسي ولها إنزاهًا وإكرامًا وما عملت من عمل أرى عليه فيه متعلقًا ولكني حفظت ما لم تحفظ ولو كنت من يهود يثرب ما زدت يغفر الله لك ولنا وسكتُّ عن أشياء كنتُ بها عالمًا وكان اللسان بها مني ذلولًا ولكن الله عظم من حقك ما لا يجهل‏.‏
فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ من عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص‏:‏ سلام عليك فإني أحمد إليك اللّه الذي لا إله إلا هو‏.‏
أما بعد‏:‏ فإني قد عجبت من كثرة كتبي إليك في إبطائك بالخراج وكتابك إلى بثنيات الطرق وقد علمت أني لست أرضى منك إلا بالحق البين ولم أقدّمك إلى مصر أجعلها لك طعمة ولا لقومك ولكني وجهتك لما رجوت من توفيرك الخراج وحسن سياستك فإذا أتاك كتابي هذا فاحمل الخراج فإنما هو فيء المسلمين وعندي من قد تعلم قوم محصورون والسلام‏.‏
فكتب إليه عمرو بن العاص‏:‏ بسم اللّه الرحمن الرحيم لعمر بن الخطاب من عمرو بن العاص سلام عليك فإني أحمد إليك اللّه الذي لا إله إلا هو أما بعد‏:‏ فقد أتاني كتاب أمير المؤمنين يستبطئني في الخراج ويزعم أني أحيد عن الحق وأنكث عن الطريق وإني والله ما أرغب عن صالح ما تعلم ولكن أهل الأرض استنظروني إلى أن تدرك غلتهم فنظرت للمسلمين فكان الرفق بهم خيرًا من أن نخرق بهم فيصيروا إلى بيع ما لا غنى بهم عنه والسلام‏.‏
وقال الليث بن سعد رضي اللّه عنه‏:‏ جباها عمرو بن العاص رضي اللّه عنه اثني عشر ألف ألف دينار وجباها المقوقس قبله لِسَنة عشرين ألف ألف دينار‏.‏
فعند ذلك كتب إليه عمر بن الخطاب بما كتب وجباها عبد الله بن سعد بن سرح حين استعمله عثمان رضي اللّه عنه على مصر أربعة عشر ألف ألف دينار فقال عثمان لعمرو بن العاص بعدما عزله عن مصر‏:‏ يا أبا عبد اللّه درت اللقحة بأكثر من درها الأوّل‏.‏
قال‏:‏ أضررتم بولدها فقال‏:‏ ذلك أن لم يمت الفصيل‏.‏
وكتب معاوية بن أبي سفيان إلى وردان وكان قد ولي خراج مصر‏:‏ أنْ زِد على كل رجل من القبط قيراطًا فكتب إليه وردان‏:‏ كيف نزيد عليهم وفي عهدهم أن لا يزاد عليهم شيء‏.‏
فعزله معاوية وقيل في عزل وردان غير ذلك‏.‏
وقال ابن لهيعة‏:‏ كان الديوان في زمان معاوية أربعين ألفًا وكان منهم أربعة آلاف في مائتين مائتين فأعطى مسلمة بن مخلد أهل الديوان عطياتهم وعطيات عيالهم وأرزاقهم ونوائب البلاد من الجسور وأرزاق الكتبة وحملان القمح إلى الحجاز ثم بعث إلى معاوية بستمائة ألف دينار فضل‏.‏
وقال ابن عفير‏:‏ فلما نهضت الإبل لقيهم برح بن كسحل المهري فقال‏:‏ ما هذا ما بال مالنا يخرج من بلادنا‏.‏
ردّوه فردوه حتى وقف على باب المسجد فقال‏:‏ أخذتم عطياتكم وأرزاقكم وعطاء عيالكم ونوائبكم قالوا‏:‏ نعم قال‏:‏ لا بارك الله لهم فيه خذوه فساروا به‏.‏
وقال بعضهم‏:‏ جبى عمرو بن العاص عشرة آلاف دينار فكتب إليه عمر بن الخطاب بعجزه ويقول له جباية الروم‏:‏ عشرون ألف ألف دينار فلما كان العام المقبل جباه عمرو اثني عشر ألف ألف دينار وقال ابن لهيعة‏:‏ جبى عمرو بن العاص الإسكندرية الجزية ستمائة ألف دينار لأنه وجد فيها ثلاثمائة ألف من أهل الذمّة فرض عليهم دينارين دينارين والله تعالى أعلم‏.‏

ذكر انتقاض القبط وما كان من الأحداث في ذلك
خَرج الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ كيف أنتم إذا لم تجبوا دينارًا ولا درهمًا قالوا‏:‏ وكيف نرى ذلك كائنًا يا أبا هريرة قال‏:‏ إي والذي نفس أبي هريرة بيده عن قول الصادق والمصدوق قالوا‏:‏ عم ذلك قال‏:‏ تنتهك ذمّته وذمّة رسوله فيشدّ اللّه عز وجل قلوب أهل الذمّة فيمنعون ما في أيديهم‏.‏
قال أبو عمرو محمد بن يوسف الكنديّ في كتاب أمراء مصر وأمرة الحرّ بن يوسف أمير مصر كتب عبد اللّه بن الحبحاب صاحب خراجها إلى هشام بن عبد الملك بأنّ أرض مصر تحتمل الزيادة فزاد على كل دينار قيراطًا فانتقصت كورة تنو ونمي وقربيط وطرابية وعامة الحوف الشرقيّ فبعث إليهم الحر بأهل الديوان فحاربوهم فقتل منهم بشر كثير وذلك أول انتقاض القبط بمصر وكان انتقاضهم في سنة سبع ومائة ورابط الحرّ بن يوسف بدمياط ثلاثة أشهر ثم انتقض أهل الصعيد وحارب القبط عمالهم في سنة إحدى وعشرين ومائة فبعث إليهم حنظلة بن صفوان أمير مصر أهل الديوان فقتلوا من القبط ناسًا كثيرًا وظفر بهم وخرج بَخْنَسْ رجل من القبط في سمنود فبعث إليه عبد الملك بن مروان‏:‏ موسى بن نصير أمير مصر فقتل بخنس في كثير من أصحابه وذلك في سنة اثنين وثلاثين ومائة وخالفت القبط برشيد‏.‏
فبعث إليهم مروان بن محمد الجعديّ لما دخل مصر فارًا من بني العباس بعثمان بن أبي قسعة فهزمهم وخرج القبط على يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة أمير مصر بناحية سخا ونابذوا العمال وأخرجوهم وذلك في سنة خمسين ومائة وصاروا إلى شبرا سنباط وانضم إليهم أهل اليشرود والأريسية والنجوم فأتى الخبر يزيد بن حاتم فعقد لنصر بن حبيب المهلبيّ على أهل الديوان ووجوه مصر فخرجوا إليهم فبتهم القبط وقتلوا من المسلمين‏.‏
فألقى المسلمون النار في عسكر القبط وانصرف المسلمون إلى مصر منهزمين‏.‏
وفي ولاية موسى بن عليّ بن رباح على مصر خرج القبط ببلهيب في سنة ست وخمسين ومائة فخرج إليهم عسكر فهزمهم ثم انتقضوا مع من انتقض في سنة ست عشرة ومائتين فأوقع بهم الإفشين في ناحية اليشرود حتى نزلوا على حكم أمير المؤمنين عبد الله المأمون فحكم فيهم بقتل الرجال وبيع النساء والأطفال‏.‏
فبيعوا وسبى أكثرهم‏.‏
ومن حينئذِ أذل الله القبط في جميع أرض مصر وخذل شوكتهم فلم يقدر أحد منهم على الخروج ولا القيام على السلطان وغلب المسلمون على القرى فعاد القبط من بعد ذلك إلى كيد الإسلام وأهله بإعمال الحيلة واستعمال المكر وتمكنوا من النكاية بوضع أيديهم في كتاب الخراج وكان للمسلمين فيهم وقائع يأتي خبرها في موضعه من هذا الكتاب إن شاء اللّه تعالى‏.‏
ذكر نزول العرب بريف مصر واتخاذهم الزرع معاشًا وما كان في نزولهم من الأحداث قال الكندي‏:‏ وفي ولاية الوليد بن رفاعة الفهميّ على مصر نقلت قيس إلى مصر في سنة تسع ومائة ولم يكن بها أحد منهم قبل ذلك إلا ما كان من فهم وعدوان فوفد ابن الحبحاب على هشام بن عبد الملك فسأله أن ينقل إلى مصر منهم أبياتًا فأذن له هشام في لحاق ثلاثة آلاف منهم وتحويل ديوانهم إلى مصر على أن لا ينزلهم بالفسطاط فعرض لهم ابن الحبحاب وقدم بهم فأنزلهم الحوف الشرقيّ وفرّقهم فيه‏.‏
ويقال‏:‏ إن عبيد الله بن الحبحاب لما ولاه هشام بن عبد الملك مصر قال‏:‏ ما أرى لقيس فيها حظًا إلا لناس من جديلة وهم فهم وعدوان‏.‏
فكتب إلى هشام‏:‏ إنّ أمير المؤمنين أطال اللّه بقاءه قد شرّف هذا الحيّ من قيس ونعشهم ورفع من ذكرهم وإني قدمت مصر ولم أر لهم حظًا إلا أبياتًا من فهم وفيها كُوَر ليس فيها أحد وليس يضر بأهلها نزولهم معهم ولا يكسر ذلك فكتب إليه هشام‏:‏ أنت وذاك فبعث إلى البادية فقدم عليه مائة أهل بيت من بني نضر ومائة أهل بيت من بني سليم فأنزلهم بلبيس وأمرهم بالزرع ونظر إلى الصدقة من العشور فصرفها إليهم فاشتروا إبلًا فكانوا يحملون الطعام إلى القلزم وكان الرجل يصيب في الشهر العشرة دنانير وأكثر ثم أمرهم باشتراء الخيول فجعل الرجل يشتري المهر فلا يمكث إلا شهرًا حتى يركب وليس عليهم مؤونة في علف إبلهم ولا خيلهم لجودة مرعاهم‏.‏
فلما بلغ ذلك عامة قومهم تحملوا إليهم فوصل إليهم خمسمائة أهل بيت من البادية فكانوا على مثل ذلك فأقاموا سنة فأتاهم نحو من خمسمائة أهل بيت فصار ببلبيس‏:‏ ألف وخمسمائة أهل بيت من قيس حتى إذا كان زمن مروان بن محمد وولى الحوثرة بن سهيل الباهلي مصر‏.‏
مالت إليه قيس فمات مروان وبها ثلاث آلاف أهل بيت ثم توالدوا وقدم عليهم من البادية من قدم‏.‏
وفي سنة ثمان وسبعين ومائة كشف إسحاق بن سليمان بن عليّ بن عبد اللّه بن عباس أمير مصر أمر الخراج وزاد على المزارعين زيادة أجحفت بهم فخرج عليهم أهل الحوف وعسكروا فبعث إليهم الجيوش وحاربهم فقتل من الجيش جماعة فكتب إلى أمير المؤمنين‏:‏ هارون الرشيد يخبره بذلك فعقد لهرثمة بن أعين في جيش عظيم وبعث به إلى مصر فنزل الحوف وتلقاه أهله بالطاعة وأذعنوا بأداء الخراج فقبل هرثمة منهم واستخرج خراجه كله ثم إن أهل الحوف خرجوا على الليث بن الفضل البيودي أمير مصر وذلك أنه بعث بمساح يمسحون عليهم أراضي زرعهم فانتقصوا من القصبة أصابع فتظلم الناس إلى الليث فلم يسمع منهم فعسكروا وساروا إلى الفسطاط فخرج إليهم الليث في أربعة آلاف من جند مصر في شعبان سنة ست وثمانين ومائة فالتقى معهم في رمضان فانهزم عنه الجند في ثاني عشره وبقي في نحو المائتين فحمل بمن معه على أهل الحوف فهزمهم حتى بلغ بهم غيفة وكان التقاؤهم على أرض جب عميرة وبعث الليث إلى الفسطاط بثمانين رأسًا من رؤوس القيسية ورجع إلى الفسطاط وعاد أهل الحوف إلى منازلهم ومنعوا الخراج‏.‏
فخرج ليث إلى أمير المؤمنين هارون الرشيد في محرم سنة سبع وثمانين ومائة وسأله أن يبعث معه بالجيوش فإنه لا يقدر على استخراج الخراج من أهل الحوف إلا بجيش يبعث معه وكان محفوظ بن سليم بباب الرشيد فرفع محفوظ إلى الرضيد يضمن له خراج مصر عن آخره بلا سوط ولا عصا فولاه الخراج وصرف ليث بن الفضل عن صلاة مصر وخراجها وفي ولاية الحسين بن جميل امتنع أهل الحوف من أداء الخراج فبعث أمير المؤمنين هارون الرشيد يحيى بن معاذ في أمرهم فنزل بلبيس في شوال سنة إحدى وتسعين ومائة وصرف الحسين بن جميل عن وولى مالك بن دلهم وفرغ يحيى بن معاذ من أمر الحوف وقدم الفسطاط في جمادى الآخرة فورد عليه كتاب الرشيد يأمره بالخروج إليه فكتب إلى أهل الحوف‏:‏ أن اقدموا حتى أوصي بكم مالك بن دلهم وأدخل بينكم وبينه في أمر خراجكم فدخل كل رئيس منهم من اليمانية والقيسية وقد أعدّ لهم القيود فأمر بالأبواب فأخذت ثم دعا بالحديد فقيدهم وتوجه بهم للنصف من رجب منها‏.‏
وفي أمارة عيسى بن يزيد الجلوديّ على مصر ظلم صالح بن شيرزاد عامل الخراج الناس وزاد عليهم في خراجهم فانتقض أهل أسفل الأرض وعسكروا فبعث عيسى بابنه محمد في جيش لقتالهم فنزل بلبيس وحاربهم فنجا من المعركة بنفسه ولم ينج أحد من أصحابه وذلك في صفر سنة أربع عشرة ومائتين فعزل عيسى عن مصر‏.‏
وولى عمير بن الوليد التميميّ فاستعدّ لحرب أهل الحوف وسار في جيوشه في ربيع الآخر فزحفوا عليه واقتتلوا فقتل من أهل الحوف جمع وانهزموا فتبعهم عمير في طائفة من أصحابه فعطف عليه كمين لأهل الحوف فقتلوه لست عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر‏.‏
فولى عيسى الجلولي ثانيًا وسار إليهم فلقيهم بمنية مطر فكانت بينهم وقعة آلت إلى أن انهزم منهم إلى الفسطاط وأحرق ما ثقل عليه من رحله وخندق على الفسطاط وذلك في رجب وقدم أبو إسحاق بن الرشيد من العراق فنزل الحوف وأرسل إلى أهله فامتنعوا من طاعته فقاتلهم في شعبان ودخل وقد ظفر بعدة من وجوههم إلى الفسطاط في شوال ثم عاد إلى العراق في المحرّم سنة خمس عشرة ومائتين بجمع من الأسارى‏.‏
فلما كان في جمادى الأولى سنة ست عشرة ومائتين انتقض أسفل الأرض بأسره عرب البلاد وقبطها وأخرجوا العمال وخلعوا الطاعة لسوء سيرة عمال السلطان فيهم فكانت بينهم وبين عساكر الفسطاط حروب امتدّت إلى أن قدم الخليفة عبد اللّه أمير المؤمنين المأمون إلى مصر لعشر خلون من المحرّم سنة سبع عشرة ومائتين فسخط على عيسى بن منصور الرافقي وكان على أمارة مصر وأمر بحل لوائه وأخذه بلباس البياض عقوبة له‏.‏
وقال‏:‏ لم يكن هذا الحدث العظيم إلا عن فعلك وفعل عمالك حملتم الناس ما لا يطيقون وكتمتني الخبر حتى تفاقم الأمر واضطرب البلد‏.‏
ثم عقد المأمون على جيش بعث به إلى الصعيد وارتحل هو إلى سخا وبعث بالأفشين إلى القبط وقد خلعوا الطاعة فأوقع بهم في ناحية البشرود وحصرهم حتى نزلوا على حكم أمير المؤمنين فحكم فيهم المأمون بقتل الرجال وبيع النساء والأطفال فسبى أكثرهم وتتبع المأمون كل من يومي إليه بخلاف فقتل ناسًا كثيرًا ورجع إلى الفسطاط في صفر ومضى إلى حلوان وعاد فارتحل لثمان عشرة خلت من صفر وكان مقامه بالفسطاط وسخا وحلوان تسعة وأربعين يومًا‏.‏
وكان خراج مصر قد بلغ في أيام المأمون على حكم الإنصاف في الجباية أربعة آلاف ألف دينار ومائتي ألف دينار وسبعة وخمسين ألف دينار‏.‏
ويقال‏:‏ إن المأمون لما سار في قرى مصر كان يبني له بكل قرية دكة يضرب عليها سرادقة والعساكر من حوله وكان يقيم في القرية يومًا وليلة فمرّ بقرية يقال لها‏:‏ طاء النمل فلم يدخلها لحقارتها فلما تجاوزها خرجت إليه عجوز تعرف بمارية القبطية صاحبة القرية وهي تصيح فظنها المأمون مستغيثة متظلمة فوقف لها وكان لا يمشي أبدًا إلا والتراجمة بين يديه من كل جنس فذكروا له إن القبطية قالت‏:‏ يا أمير المؤمنين نزلت في كل ضيعة وتجاوزت ضيعتي والقبط تعيرني بذلك وأنا أسأل أمير المؤمنين أن يشرفني بحلوله في ضيعتي ليكون لي الشرف ولعقبي ولا تشمت الأعداء بي وبكت بكاءً كثيرًا‏.‏
فرقّ لها المأمون وثنى عنان فرسه إليها ونزل فجاء ولدها إلى صاحب المطبخ وسأله كم تحتاج من الغنم والدجاج والفراخ والسمك والتوابل والسكر والعسل والطيب والشمع والفاكهة والعلوفة وغير ذلك مما جرت به عادته فأحضر جميع ذلك إليه بزيادة‏.‏
وكان مع المأمون أخوه المعتصم وابنه العباس وأولاد أخيه الواثق والمتوكل ويحيى بن أكثم والقاضي أحمد بن داود فأحضرت لكل واحد منهم ما يخصه على انفراده ولم تكل أحدًا منهم ولا من القوّاد إلى غيره ثم أحضرت للمأمون من فاخر الطعام ولذيذه شيئًا كثيرًا حتى أنه استعظم ذلك‏.‏
فلما أصبح وقد عزم على الرحيل حضرت إليه ومعها عشر وصائف مع كل وصيفة طبق‏.‏
فلما عاينها المأمون من بعد‏.‏
قال لمن حضر‏:‏ قد جاءتكم القبطية بهدية الريف الكامخ والصحناه والصبر فلما وضعت ذلك بين يديه إذا في كل طبق كيس من ذهب فاستحسن ذلك وأمرها بإعادته‏.‏
فقالت‏:‏ لا واللّه لا أفعل فتأمّل الذهب فإذا به ضرب عام واحد كله فقال‏:‏ هذا والله أعجب ربما يعجز بيت مالنا عن مثل ذلك‏.‏
فقالت‏:‏ يا أمير المؤمنين لا تكسر قلوبنا ولا تحتقر بنا فقال‏:‏ إن في بعض ما صنعت لكفاية ولا نحب التثقيل عليك فردي مالك بارك الله فيك فأخذت قطعة من الأرض وقالت‏:‏ يا أمير المؤمنين هذا وأشارت إلى الذهب من هذا وأشارت إلى الطينة التي تناولتها من الأرض ثم من عدلك يا أمير المؤمنين وعندي من هذا شيء كثير فأمر به فأخذ منها وأقطعها عدة ضياع وأعطاها من قريتها طاء النمل مائتي فدّان بغير خراج وانصرف متعجبًا من كبر مروءتها وسعة حالها‏.

ذكر قبالات أراضي مصر

بعدما فشا الإسلام في القبط ونزول العرب في القرى وما كان من ذلك إلى الروك الأخير الناصري وكان من خبر أراضي مصر بعد نزول العرب بأريافها واستيطانهم وأهاليهم فيها واتخاذهم الزرع معاشًا وكسبًا وانقياد جمهور القبط إلى إظهار الإسلام واختلاط أنسابهم بأنساب المسلمين لنكاحهم المسلمات أن متولي خراج مصر كان يجلس في جامع عمرو بن العاص من الفسطاط في الوقت الذي تتهيأ فيه قبالة الأراضي وقد اجتمع الناس من القرى والمدن فيقوم رجل ينادي على البلاد صفقات صفقات وكتاب الخراج بين يدي متولي الخراج يكتبون ما ينتهي إليه مبالغ الكور والصفقات على من يتقبلها من الناس وكانت البلاد يتقبلها متقبلوها بالأربع سنين لأجل الظمأ والاستبحار وغير ذلك فإذا انقضى هذا الأمر خرج كل من كان تقبل أرضًا وضمنها إلى ناحيته فيتولى زراعتها وإصلاح جسورها وسائر وجوه أعمالها بنفسه وأهله ومن ينتدبه لذلك ويحمل ما عليه من الخراج في إبائه على أقساط ويحسب له من مبلغ قبالته وضمانه لتلك الأراضي ما ينفقه على عمارة جسورها وسدّ تراعها وحفر خلجها بضرائب مقدرة في ديوان الخراج ويتأخر من مبلغ الخراج في كل سنة في جهات الضمان والمتقبلين‏.‏

يقال‏:‏ لما تأخر من مال الخراج البواقي وكانت الولاة تشدّد في طلب ذلك مرّة وتسامح به مرّة فإذا مضى من الزمان ثلاثون سنة حوّلوا السنة وراكوا البلاد كلها وعدّلوها تعديلًا جديدًا فزيد فيما يحتمل الزيادة من غير ضمان البلاد ونقص فيما يحتاج إلى التنقيص منها ولم يزل ذلك يعمل في جامع عمرو بن العاص إلى أن عَمَّر أحمد بن طولون جامعه وصار العسكر منزلًا لأمراء مصر‏.‏

فنقل الديوان إلى جامع أحمد بن طولون ثم نقل أيام العزيز بالله نزار إلى دار الوزير يعقوب بن كلس فلما مات الوزير نقل الديوان إلى القصر بالقاهرة واستمرّ به مدّة الدولة الفاطمية ثم نقل منه بعدها وسأتلوا عليك من نبأ ذلك ما يتضح به ما ذكرت‏.‏

قال ابن ذولاق في كتاب أخبار الماردانيين كتاب مصر‏:‏ وحضر أبو الحسن وهب بن إسماعيل مجلس أبي بكر بن عليّ المارداني في المسجد الجامع وهو يعقد الضياع فقال له أبو بكر‏:‏ الساعة آمر بالنداء على صفقة فخذها شركة بيني وبينك فنودي على صفقة فقال أبو بكر‏:‏ اعقدوها على أبى الحسن فعقدت عليه وتحملها فأفضلت له أربعين ألف دينار فاستنض عشرين ألف دينار ولم يدر ما يعمل فيها إلى أن اجتمع مع أبي يعقوب كاتب أبي بكر ليتحدثا فقال أبو يعقوب‏:‏ رأيت الشيخ يعني أبا بكر الماردانيّ في اليوم مشغول القلب أراد جمع مال وقد عجز عنه فقال له أبو الحسن‏:‏ عندي نحو عشرين ألف دينار فقال‏:‏ جئني بها فأنفذها إليه وجاءه خطه بالمبلغ فاتفق أن مضى أبو الحسن إلى أبي بكر الماردانيّ فقال له‏:‏ تلك الصفقة قد غلقت ما عليها وفضل أربعون ألف دينار وقد حصل عندي عشرون ألف دينار حملتها إلى أبي يعقوب وأرسلت في استخراج الباقي فأحمله فقال الماردانيّ‏:‏ ما هذا العجز‏.‏

إنما قلت لك‏:‏ تكون بيني وبينك خوفًا من تفريطك وإنما أردت حفظ المال عليك ثم أمر أبا يعقوب أن يردّ عليه ما دفعه إليه وقال لأبي الحسن‏:‏ رد عليه خطه فقبض ما دفعه إلى أبي يعقوب‏.‏

وبلغ خراج مصر في السنة التي دخل فيها جوهر القائد ثلاثة آلاف ألف دينار وأربعمائة ألف دينار ونيفًا‏.‏

وقال في كتاب سيرة المعز لدين اللّه‏:‏ معدّ ولست عشرة بقيت من المحرّم سنة ثلاث وستين وثلثمائة قلد المعز لدين الله الخراج ووجوه الأموال وغير ذلك‏:‏ يعقوب بن كلس وعسلوج بن الحسن وجلسا في هذا اليوم في دار الإمارة في جامع ابن طولون للنداء على الضياع وسائر وجوه الأموال وحضر الناس للقبالات وطلبوا البقايا من الأموال مما على المالكين والمتقبلين والعمال‏.‏

وقال جامع سيرة الوزير الناصر للدين الحسن بن عليّ اليازوري‏:‏ وأراد أن يعرف قدر ارتفاع الدولة وما عليها من النفقات ليقايس بينهما فتقدّم إلى أصحاب الدواوين بأن يعمل كل منهم ارتفاع ما يجري في ديوانه وما عليه من النفقات فعمل ذلك وسلمه إلى متولي ديوان المجلس وهو زمام الدواوين فنظم عليه عملًا جامعًا وأحضره إياه فرأى ارتفاع الدولة ألفي ألف دينار منها الشام ألف ألف دينار ونفقاته بإزاء ارتفاعه ومنها الريف وباقي الدولة ألف ألف دينار يقف منها عن معلول ومنكسر على موتى وهرّاب ومفقود مائتا ألف دينار ويبقى ثمانمائة ألف دينار يصرف منها للرجال عن واجباتهم وكساويهم ثلثمائة ألف دينار وعن ثمن غلة للقصور مائة ألف دينار وعن نفقات القصور مائتا ألف دينار وعن عمائر وما يقام للضيوف الواصلين من الملوك وغيرهم مائة ألف دينار ويبقى بعد ذلك مائة ألف دينار حاصله يحملها كل سنة إلى بيت المال المصون فحظي بذلك عند سلطانه وخف على قلبه‏.‏

قال‏:‏ وانتهى ارتفاع الأرض السفلى إلى ما لا نسبة له من ارتفاعها الأوّل يعني بعد موت البازوري وحدوث الفتن وهو قبل سني هذه الفتن يعني في أيام البازوري ستمائة ألف دينار كانت تحمل في دفعتين في السنة في مستهل رجب ثلاثمائة ألف دينار وفي مستهل المحرّم بثلثمائة ألف دينار فاتضع الارتفاع وعظمت الواجبات‏.‏

وقال ابن ميسرة‏:‏ وأمر الأفضل بن أمير الجيوش بعمل تقدير ارتفاع ديار مصر فجاء خمسة آلاف دينار وكان متحصل الأهراء ألف ألف أردب وقال الأمير جمال الدين والملك موسى بن المأمون البطائحيّ في تاريخه من حوادث سنة إحدى وخمسمائة ثم رأى القائد أبو عبد اللّه محمد بن فاتك البطائحي من اختلال أحوال الرجال العسكرية والمقطعين وتضررهم من كون إقطاعاتهم قد خس ارتفاعها وساءت أحوالهم لقلة المتحصل منها وإن إقطاعات الأمراء قد تضاعف ارتفاعها وازدادت عن غيرها وإن في كل ناحية من الفواضل للديوان جملة تجيء بالعسف وبتردّد الرسل من الديوان الشريف بسببها فخاطب الأفضل ابن أمير الجيوش‏:‏ في أن يحل الإقطاعات جميعها ويروكها وعرّفه أن المصلحة في ذلك تعود على المقطعين والديوان لأنّ الديوان يتحصل له من هذه الفواضل جملة يحصل بها بلاد مقورة فأجاب إلى ذلك وحل جميع الإقطاعيات وراكها وأخذ كل من الأقوياء والمميزين يتضررون ويذكرون أن لهم بساتين وأملاكًا ومعاصر في نواحيهم فقال له‏:‏ من كان له ملك فهو باق عليه لا يدخل في الإقطاع وهو محكم إن شاء باعه وإن شاء آجره‏.‏

فلما حلت الإقطاعات أمر الضعفاء من الأجناد أن يتزايدوا فيها فوقعت الزيادة في إقطاعات الأقوياء إلى أن انتهت إلى مبلغ معلوم وكتبت السجلات بأنها باقية في أيديهم إلى مدة ثلاثين سنة لا يقبل عليهم فيها زائد وأحضر الأقوياء وقال لهم‏:‏ ما تكرهون من الإقطاعات التي كانت بيد الأجناد‏.‏

قالوا‏:‏ كثرة عبرتها وقلة متحصلها وخرابها وقلة الساكن بها‏.‏

فقال لهم‏:‏ ابذلوا في كل ناحية ما تحمله وتقوى رغبتكم فيه ولا تنظروا في العبرة الأولى فعند ذلك طابت نفوسهم وتزايدوا فيها إلى أن بلغت إلى الحد الذي رغب كل منهم فيه فأقطعوا به وكتب لهم السجلات على الحكم المتقدّم فشملت المصلحة الفريقين وطابت نفوسهم وحصل للديوان بلاد مقورة بما كان مفرقًا في الإقطاعات بما مبلغه خمسون ألف دينار‏.‏

وقال في حوادث سنة خمس عشرة وخمسمائة وكان قد تقدّم أمر الأجلّ المأمون بعمل حساب الدولة من الهلالي والخراجيّ وجعل نظمه على جملتين‏:‏ إحداهما إلى سنة عشر وخمسمائة الهلالية الخراجية والجملة الثانية إلى آخر سنة خمس عشرة وخمسمائة هلالية وما يوافقها من الخراجية فعقدت على جملة كثيرة من العين والأصناف وشرحت بأسماء أربابها وتعيين بلادها‏.‏

فلما أحضرت أمر بكتب سجل يتضمن المسامحة بالبواقي إلى آخر سنة عشر وخمسمائة ونسخته بعد التصدير‏.‏

ولما انتهى إلينا حال المعاملين والضمناء والمتصرفين وما في جهاتهم من بقايا معاملاتهم أنعمنا بما تضمنه هذا السجل من المسامحة قصدًا في استخلاص ضامن طالت غفلته وخربت ذمّته وإنقاذ عامل أجحف به من الديوان طلبته وتوفير الرغبة على عمارتها وجريها فيها على قديم عادتها ولما كان ذلك من جميل الأحدوثة التي لم نسبق إليها ولا شاركنا ملك فيها اقتضت الحال إيرادها في هذا الكتاب وإيداعها هذا الباب لما اطلعنا عليه مما انتهت إليه أحوال الضمناء والمعاملين بالمملكة من الاختلال وتجمد البقايا في جهاتهم والأموال عطفنا عليهم برأفة ورحمة وطالعنا المقام الأشرف النبويّ بالتفصيل من أمورهم والجملة واستخرجنا الأمر العالي بوضع ذلك في الحال وأنشأ السجلات الكريمة مقصورة على ذكر هذا الإحسان وتنفيذها إلى جميع البلدان ليقرأ على رؤوس الأشهاد‏.‏

بسائر البلاد ومبلغ ما انتهت إليه هذه المسامحة إلى حين ختم هذا السجل من العين ألفًا ألف وسبعمائة ألف وعشرون ألفًا وسبعمائة وسبعة وستون دينارًا ونصف وثلث وثلثان وربع قيراط ومن الفضة النقرة أربعة دراهم ومن الورق سبعة وستون ألفًا وخمسة دراهم ونصف وسدس درهم ومن الغلة ثلاثة آلاف ألف وثمان مائة ألف وعشرة آلاف ومائتان وتسعة وثلاثون أردبًا وثمن ونصف سدس وثلثي قيراط ومن العناب ربع أردب ومن ورق الصباغ ألفان وأربعمائة وثلاثة أرادب ونصف ومن زريعة الوسمة عشرة أرادب وربع ومن الصباغ ألف وأربعمائة وثمانون قنطارًا ورطل ونصف ومن الفوّة أربعمائة وسبعون رطلًا ومن الشب تسعمائة وثلاثة عشر قنطارًا ونصف ومن الحديد خمسمائة رطل واحد وثلاثون رطلًا ومن الزفت ألف وثلثمائة وثلاثة أرطال وربع وسدس ومن القطران تسعة عشر رطلًا وثلث ومن الثياب الحلبيّ ثلاثة أثواب ومن المآزر مائة مئز صوف ومن الغرابيل مائة وسبعون غربالًا ومن الأغنام مائتا ألف وخمسة وثلاثون ألفًا وثلثمائة وخمسة أرؤس ومن البسر ثلثمائة وثلاثة عشر قنطارًا وثمانية وثلاثون رطلًا ومن السحيل ثلاثمائة ألف وخمسة وسبعون ألفًا وخمسمائة وخمسون باعًا ومن الجريد أربعمائة ألف وثمانية وثلاثون ألفًا وسبعمائة وثلاثة وخمسون جريدة ومن السلب ألف وأربعمائة وثلاثة وعشرون سلبة ومن الأطراف ستة آلاف وسبعمائة وثلاثة أطراف ومن الملح ألفان وسبعمائة وثلاثة وتسعون أردبًا وثلث ومن الأشنان أحد عشر أردبًا ومن الرمان ألفا حبة ومن العسل النحل خمسمائة واحد وأربعون قنطارًا أو سدس ومن الشهد اثنان وثلاثون زيرًا وقادوسًا واحدًا ومن الشمع أربعمائة وأربعون رطلًا ومن الخلايا ثلاثة آلاف وأربعمائة وخليتان ومن عسل القصب مائة وثمانية وثلاثون قنطارًا ومن الأبقار اثنان وعشرون ألفًا ومائة وأربعة وستون رأسًا ومن الدواب أربعة وسبعون رأسًا ومن السمن ألفان وتسعمائة وستة وتسعون مطر أو سدس وثمن ومن الجبن ثلثمائة وعشرون رطلًا ومن الصوف أربعة آلاف ومائة وثلاثة وعشرون جزة ومن الشعر ستة آلاف وخمسون رطلًا وربع ومن بيوت الشعر بيتان وفصل ذلك بجهاته ومعاملاته‏.‏

قال‏:‏ ولما انتهى إلى المأمون ما يعتمد في الدواوين من قبول الزيادات وفسخ عقود الضمانات وانتزاعها ممن كابد فيها المشقة والتعب وتسليمها إلى باذل الزيادة من غير كلفة ولا نصب أنكر ذلك ومنع من ارتكابه ونهى عن الولوج في بابه وخرج أمره بإعفاء الكافة أجمعين والضمناء والمعاملين من قبول الزيادة فيما يتصرفون فيه ويستولون عليه ما داموا مغلقين وبأقساطهم قائمين وتضمن ذلك منشور قرئ في الجامعين الأزهر بالقاهرة والعتيق بمصر وديواني المجلس والخاص إلا أمرين السعيدين ونسخته بعد التصدير‏.‏

ولما انتهى إلى حضرتنا ما يعتمد في الدواوين ويقصده جماعة من المتصرفين والمستخدمين من تضمين الأبواب والرباع والبساتين والحمامات والقياسر والمساكن وغير ذلك من الضمانات للراغبين فيها ممن تستمرّ معاملته ولا تنكر طريقته فما هو إلا أن يحضر من يزيد عليه في ضمانه حتى قد نقض عليه حكم الضمان وقبل ما يبذل من الزيادة كائنًا من كان وقبضت يد الضامن الأوّل عن التصرف ومكن الضامن الثاني من التصرف من غير رعاية للعقد على الضامن الأول ولا تحرّز في فسخه الذي لا يبيحه الشرع ولا يتأوّل أنكرنا ذلك على معتمديه وذممنا من قصدنا عليه ومرتكبيه إذ كان للحق مجانبًا وعن مذهب الصواب ذاهبًا وعرضنا ذلك بالمواقف المقدّسة المطهرة ضاعف اللّه أنوارها وأعلى أبدًا منارها واستخرجنا الأوامر المطاعة في كتب هذا المنشور إلى سائر الأعمال بأنه أيّ أحد من الناس ضمن ضمانًا من باب أو ربع أو بستان أو ناحية أو كفر وكان لأقساط ضمانه مؤدّيًا ولما يلزمه من ذلك مبديًا وللحق متبعًا فإن ضمانه باقي في يده لا تقبل زيادة عليه مدة ضمانه على العقد المعقود عملًا بالواجب والنظام المحمود وإتباعًا لما أمر اللّه تعالى به في كتابه المجيد إذ يقول جلّ من قائل‏:‏ ‏"‏ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ‏"‏ المائدة إلى أن تنقضي مدة الضمان ويزول حكمها ويذهب وضعها ورسمها حملًا على قضية الواجب وسننها واعتمادًا على حكم الشريعة التي ما ضل من اهتدى بفرائضها وسننها‏.‏

فأما من ضمن ضمانًا ولم يقم بما يجب عليه فيه وأصر على المدافعة والمغالطة التي لا يعتمدها إلا كل ذميم الطباع سفيه فذلك الذي فسخ حكم ضمانه بنقضه الشروط المشروطة عليه وحكمه حكم من إذا زيد عليه في ضمانه نقل عنه وأخرج من يديه لأنه الذي بدأ بالفسخ وأوجد السبيل إليه فليعتمد كافة أرباب الدواوين وجميع المتصرفين والمستخدمين العمل بما تضمنه هذا المشهور وامتثال المأمور وحمل هؤلاء الضمناء والمعاملين على ما نمى فيه والحذر من تجاوزه وتعدّيه بعد ثبوته في ديواني المجلس والخاص إلا أمرين السعيدين وبحيث يثبت مثله إن شاء اللّه تعالى‏.‏

قال‏:‏ ووصلته المكاتبة من الوالي والمشارف ومن كان ندب صحبته لكشف الأراضي والسواقي ومساحتها متضمنة ما أظهره الكشف وأوضحته المساحة على من بيده السواقي وهم عدّة كثيرة ومن جملتها ساقية مساحتها‏:‏ ثلثمائة وستون فدّانًا تشتمل على النخل والكرم وقصب السكر بمدينة إسنا خراجها في السنة عشرة دنانير وما يجري في الأعمال هذا المجرى وأنهم وضعوا يد الديوان على جميعها وطلبوا من أرباب السواقي ما يدل على ما بأيديهم فذكروا أنها انتقلت إليهم ولم يظهروا ما يدل عليها وقد سيروا أملاكها إلى الباب تحت الحوطة ليخرج الأمر بما يعتمد عليه في أمرهم وعند وصولهم أوقع الترسيم عليهم إلى أن يقوموا بما يجب من الخراج عن هذه السواقي فإن الأملاك بجملتها لا تقوم بما يجب عليها فوقف المذكورون للمأمون في يوم جلوسه للمظالم فأمر بحضورهم بين يديه وتقدّم إلى القاضي جلال الملك أبو الحجاج يوسف بن أبي أيوب المغربيّ وهو يومئذ قاضي القضاة لمحاكمتهم فجرى له معهم مفاوضة أوجبت الحق عليهم وألزمهم بالقيام بما يستغرق أموالهم وأملاكهم فحصل من تضرّرهم ما أوجب العاطفة عليهم وأخذهم بالخراج من بعد وأن يضرب عما تقدم صفحًا‏.‏

وكتب منشور نسخته‏:‏ قد علم الكافة ما تراه من إفاضة سحب العدل عليهم والإحسان والنظر في مصالح كل قاصٍ منهم ودانٍ‏.‏

وإنا لا ندع ضررًا يتوجه إلى أحد من الرعية إلا حسمناه ولا نعلم صلاحًا يعود نفعه عليه إلا قوينا سببه ووصلناه حسب ما يتعين على رعاة الأمم وعملًا بالواجب في البعيد والأمم وسلوكًا لمحجة الدولة الفاطمية خلد اللّه ملكها القويمة واستمرارًا على قضاياها وسجاياها الكريمة ولما كنا نرى النظر في مصالح الرعايا أمرًا واجبًا ونصرف إلى سياستهم عزمًا ماضيًا ورأيًا ثاقبًا‏.‏

كذلك نرى النظر في أمور الدواوين واستيفاء حقوقها المصروفة إلى حماية البيضة والمحاماة عن الدين وجهاد الكفرة والملحدين ليكون ما نراعيه وننظر فيه جاريًا على سنن الواجب محروسًا من الخلل بإذن الله من جميع الجوانب ومن الله نستمدّ مواد التوفيق في الحل والعقد ونسأله الإرشاد إلى سواء السبيل والقصد وما توفيقنا إلا باللّه عليه نتوكل وهو حسبنا ونعم الوكيل‏.‏

وكان القاضي الرشيد بن الزبير أيام مشارفته الصعيد الأعلى قد طالع المجلس الأفضليّ بحال أرباب الأملاك هناك وأنهم قد استضافوا إلى أماكنهم من أملاك الدواوين أراضي اغتصبوها ومواضع مجاورة لأملاكهم تعدّوا عليها وخلطوها بها وحازوها ورسم له كشفها ونظم المشاريج بها وارتجاعها للديوان‏.‏

وأن يعتمد في ذلك ما يوجبه حكم العدل المثبت في كل قطر ومكان وبآخر ذلك سيرنا من الباب من يكشف ذلك على حقيقته وإنهائه على طيته فاعتمدوا ما أمروا به من الكشف في هذه الأملاك ووردت المطالعة منهم بأنهم التمسوا ممن بيده ملك أو ساقية ما يشهد بصحة ملكه ومبلغ فدنه وذكر حدوده فلم يحضر أحد منهم كتابًا ولا أوضح جوابًا وأصدروا إلى الديوان المشاريج بما كشفوه وأوضحوه فوجدوا التعدّي فيه ظاهرًا وباب الحيف والظلم غير متقاصر والشرع يوجب وضع اليد على ما هذه حاله ومطالبة صاحبه بريعه واستغلاله لا سيما وليس بيده كتاب يشهد بصحة الملك رأسًا ولا يستند في ذلك حجة ادّخرها احترازًا عن مجاهدة سبيله واحتراسًا‏.‏

ولكن نحكم بما نراه من المصلحة للرعية والعدل الذي أقمنا مناره وأحيينا معالمه وآثاره مع الرغبة في عمارة البلاد ومصالح أحوالها واستنباط الأرضين الداثرة وإنشاء الغروس وإقامة السواقي بها أمرنا بكتب هذا المنشور وتلاوته بأعمال الصعيد الأعلى بإقرار جميع الأملاك والأرضين والسواقي بأيدي أربابها الآن من غير انتزاع شيء منها ولا ارتجاعه وأن يقرّر عليها من الخراج ما يجب تقريره ويشهد الديوان على أمثالهم بمثله إحسانًا إليهم‏.‏

لم نزل نتابع مثله ونواليه وإنعامًا ما برحنا نعيده عليهم ونبديه وقد أنعمنا وتجاوزنا عما سلف ونهينا من يستأنف وسامحنا من خرج عن التعدّي إلى المألوف وجرينا على سننا في العفو والمعروف وجعلناها توبة مقبولة من الجماعة الجانين ومن عاد من الكافة أجمعين فلينتقم اللّه منه وطولب بمستأنفه وأمسه وبرئت الذمة من ماله ونفسه وتضاعفت عليه الغرامة والعقوبة وسدّت في وجهه أبواب الشفاعة والسلامة وقد فسحنا مع ذلك لكل من يرغب في عمارة أرض حلفاء داثرة وإدارة بئر مهجورة معطلة في أن يسلم إليه ذلك ويقاس عليه ولا يؤخذ منه خراج إلا في السنة الرابعة من تسليمه إياه وأن يكون المقرّر على كل فدّان ما توجبه زراعته لمثله خراجًا مؤبدًا وأمرًا مؤكدًا فليعتمد ذلك النوّاب وحكام البلاد ومن جرت العادة بحضوره عقد مجلس وإحضار جميع أرباب الأملاك والسواقي وإشعارهم ما شملهم من هذا الإحسان الذي تجاوز آمالهم في إجابتهم إلى ما كانوا يسألون فيه وتقرير ما يجب على الأملاك المذكورة من الخراج على الوضع الذي مثلناه ويجيز الديوان تقريره ويرضاه مع تضمين الأراضي الداثرة والآبار المعطلة لمن يرغب في ضمانها ونظم المشاريح بذلك وإصدارها إلى الديوان ليخلد فيه على حكم أمثالها بعد ثبوت هذا المنشور بحيث يثبت مثله قال‏:‏ ولما سرت هذه المصالح إلى جميع أهل هذه الأعمال حصل الاجتهاد في تحصيل مال الديوان وعمارة البلاد‏.‏

واعلم أنه لم يكن في الدولة الفاطمية بديار مصر ولا فيما مضى قبلها من دول أمراء مصر لعساكر البلاد إقطاعات بمعنى ما عليه الحال اليوم في أجناد الدولة التركية وإنما كانت البلاد تضمن بقبالات معروفة لمن شاء من الأمراء والأجناد والوجوه وأهل النواحي من العرب والقبط وغيرهم لا يعرف هذه إلا بذة التي يقال لها اليوم الفلاحة ويسمى المزارع المقيم بالبلد‏:‏ فلاحًا قرارًا فيصير عبدًا قنًا لمن أقطع تلك الناحية إلا أنه لا يرجو قط أن يباع ولا أن يعتق بل هو قنّ ما بقي ومن ولد له كذلك‏.‏

بل كان من اختار زراعة أرض يقبلها كما تقدّم وحمل ما عليه لبيت المال فإذا صار مال الخراج بالديوان أنفق في طوائف العسكر من الخزائن وكان مع ذلك إذا انحط ماء النيل عن الأراضي وتعلقت نواحي مصر بأصناف الزراعات ندب من الحضرة من فيه نباهة وخرج معه عدول يوثق بهم وكانت لهم معرفة بعلم الخراج وكثيرًا ما كان هذا الكاتب من النصارى الأقباط ويخرج إلى كل ناحية من ذكرنا فيحرّرون مساحة ما شمله الريّ من الأراضي مما لعله بار أو شرق‏.‏

ويكتب بذلك مكلفات واضحة بالفدن والقطائع على جميع الأصناف المزروعة ويحضر إلى دواوين الباب‏.‏

فإذا مضى من السنة القبطية أربعة أشهر ندب من الأجناد من عرف بالحماسة وقوّة البطش وعين معه من الكتاب العدول من قد اشتهر بالأمانة وكاتب من نصارى القبط غير من خرج عند المساحة وساروا إلى كل ناحية‏.‏

كذلك فاستخرج مباشر وكل بلد ثلث ما وجب من مال الخراج على ما شهدت به المكلفات فإذا أحضر هذا الثلث صرف في واجبات العساكر وهكذا العمل في استخراج كل قسط طول الزمان من كل سنة وكانت تبقى في جهات وكانت بلاد مصر إذ ذاك تقبل بعين وغلة وأصناف وقد عرف ذلك من نسخة المسموح الذي تضمن ترك البواقي في أيام الخليفة الآمر بأحكام الله ووزارة المأمون البطائحي ورأيت بخط الأسعد بن مهذب بن زكريا بن مماتي الكاتب المصري سألت القاضي الفاضل عبد الرحيم‏:‏ كم كانت عدة العساكر في عرض ديوان الجيش لما كان سيدنا يتولى ذلك في أيام رزيك بن الصالح‏.‏

فقال‏:‏ أربعين ألف فارس ونيفًا وثلاثين ألف راجل من السودان‏.‏

وقال أبو عمرو عثمان النابلسي في كتاب حسن السريرة في اتخاذ الحصن بالجزيرة‏:‏ أن ضرغامًا لما ثار على شاور وفر شاور إلى السلطان نور الدين محمود بن زنكي بدمشق يستنجد به على ضرغام ويعده بأنه يكون نائبًا عنه بمصر ويحمل إليه الخراج أنشأ لنور الدين عزمًا لم يكن فجهز ألف فارس وقدّم عليه أسد الدين شيركوه وأمره بالتوجه فأبى وقال‏:‏ لا أمضي أبدأ‏.‏

فإن هلاكي ومن معي وسوء ما سمعه السلطان معلوم من هنا وكيف أمضي بألف فارس إلى إقليم فيه عشرة آلاف فارس ومائه سبهبد فيها عشرة آلاف مقاتل وأربعون ألف عبد وقوم مستوطنون في أوطانهم فرأيت حرابتهم ونحن نأتيهم مصر تعب السفر بهذه العدة القليلة‏.‏

قال‏:‏ ثم أجابه بعد ذلك هذا أعزك الله بعدما كانت عساكر أحمدَ بن طولون ما سنراه في ذكر القطائع إن شاء الله تعالى‏.‏

ثم ما كان من عساكر الأمير أبي بكر محمد بن طغج الإخشيد وهي على ما حكاه غير واحد منهم ابن خلكان‏:‏ أنها كانت أربعمائة ألف ولما انقضت دولة الفاطميين بدخول الغز من بلاد الشام واستولى صلاح الدين يوسف بن أيوب على مملكة مصر تغير الحال بعض التغير لا كله‏.‏

قال القاضي الفاضل في متجددات سنة سبع وستين وخمسمائة في ثامن المحرّم‏:‏ خرجت الأوامر الصلاحية بركوب العساكر قديمها وجديدها بعد أن أنذر حاضرها وغائبها وتوافى وصولها وتكامل سلاحها وخيولها فحضر في هذا اليوم جموع شهد كل من علا سنه وقرطس ظنه أن ملكًا من ملوك الإسلام لم يحز مثلها وشاهدت رسل الروم والفرنج ما أرغم أنوف الكفرة ولم يتكامل اجتياز العساكر موكبًا بعد موكب وطلبًا بعد طلب‏.‏

والطلب بلغة الغز هو‏:‏ الأمير المقدم الذي له علم معقود وبوق مضروب وعدة من مائتي فارس إلى مائة فارس إلى سبعين فارسًا إلى أن انقضى النهار ودخل الليل وعاد ولم يكمل عرضهم وكانت العدة الحاضرة مائة وسبعة وأربعين طلبًا والغائب منها عشرون طلبًا وتقدير العدّة يناهز أربعة عشر ألف فارس أكثرها طواشية والطواشي‏:‏ من رزقه من سبعمائة إلى ألف إلى مائة وعشرين وما بين ذلك وله برك من عشرة رؤوس إلى ما دونها ما بين فرس قال‏:‏ وفي هذه السفرة عرض العربان الخدّامين فكانت عدّتهم سبعة آلاف فارس واستقرّت عدّتهم على ألف وثلثمائة فارس لا غير‏.‏

وأخذ بهذا الحكم عشر الواجب وكان أصله ألف ألف دينار على حكم الاعتداد الذي يتأصل ولا يتحصل وكلف التغالبة ذلك فامتعضوا ولوّحوا بالتحيز إلى الفرنج‏.‏

وقال في متجددات شهر رجب سنة سبع وسبعين وخمسمائة استمر انتصاب السلطان صلاح الدين في هذه السنة للنظر في أمور الإقطاعات ومعرفة عبرها والنقص منها والزيادة فيها وإثبات المحروم وزيادة المشكور إلى أن استقرّت العدة على ثمانية آلاف وستمائة وأربعين فارسًا أمراء مائة وأحد عشر أميرًا طواشية ستة آلاف وتسعمائة وستة وسبعون قراغلامية ألف وخمسمائة وثلاثون وخمسون والمستقرّ لهم من المال ثلاثة آلاف ألف وستمائة ألف وسبعون ألفًا وخمسمائة دينار وذاك خارج عن المحلولين من الأجناد الموسومين بالجوالة على العشر وعن عدة العربان المقطعين بالشرقية والبحيرة وعن الكاتبين والمصريين والفقهاء والقضاة والصوفية وعما يجري بالديوان ولا يقصر عن ألف ألف دينار‏.‏

وقال في متجدّدات سنة خمس وثمانين وخمسمائة أوراق بما استقر عليه عبر البلاد من إسكندرية إلى عيذاب إلى آخر الرابع والعشرين من شعبان سنة خمس وثمانين وخمسمائة خارجًا عن الثغور وأبواب الأموال الديوانية والأحكار والحبس ومنفلوط ومنقباط وعدة نواح أوردت أسماءها ولم يعين لها في الديوان عبرة من جملة أربعة آلاف ألف وستمائة ألف وثلاثة وخمسين ألفًا وتسعة عشر دينارًا‏.‏

بعدما يجري في الديوان العادلي السعيد وغيره عن الشرقية والمرتاحية والدقهلية وبوش وغير ذلك وهو ألف ألف ومائة ألف وتسعون ألفًا وتسعمائة وثلاثة وعشرون دينارًا‏.‏

تفصيل ذلك‏:‏ الديوان العادلي‏:‏ سبعمائة ألف وثمانية وعشرون ألفًا ومائتان وثمانية وأربعون دينارًا‏.‏

الأمراء والأجناد المرسوم بإبقاء إقطاعاتهم بالأعمال المذكورة مائة ألف وثمانية وخمسون ألفًا ومائتان وثلاثة دنانير‏.‏

ديوان السور المبارك والأشراف‏:‏ ثلاثة عشر ألفًا وثمانمائة وأربعة دنانير العربان‏:‏ مائتا ألف وأربعة وثلاثون ألفًا ومائتان وستة وتسعون دينارًا‏.‏

الكنانية‏:‏ خمسة وعشرون ألفًا وأربعمائة واثنا عشر دينارًا القضاة والشيوخ‏:‏ سبعة آلاف وأربعمائة وثلاثة دنانير القيمارية والصالحية والأجناد المصريون‏:‏ اثنا عثر ألفًا وخمسمائة وأربعة دنانير الغزاة والعساقلة المركزة بدمياط وتنيس وغيرهم‏:‏ عشرة آلاف وسبعمائة وخمسة وعشرون دينارًا البارز‏:‏ ثلاثة آلاف ألف وأربعمائة ألف واثنان وستون ألفًا وخمسة وتسعون دينارًا‏.‏

الوجه البحري‏:‏ ألف ألف ومائة ألف واحد وخمسون ألفًا وثلاثة وخمسون دينار تفصيله ضواحي ثغر الإسكندرية وثمانية وثلاثون دينارًا ثغر رشيد‏:‏ ألفا دينار البحيرة‏:‏ مائة ألف وخمسة عشر ألفًا وخمسمائة وستة وسبعون دينارًا حوف رمسيس‏:‏ اثنان وتسعون ألفًا وأربعمائة وثلاثة دنانير فوّه والمزاحميتين‏:‏ عشرة آلاف ومائة وخمسة وعشرون دينارًا النبراوية‏:‏ خمسة عشر ألفًا وثلثمائة وخمسة دنانير جزيرة بني نصر‏:‏ مائة ألف واثنا عشر ألفًا وستمائة وستة وأربعون دينارًا جزيرة قوسنينا‏:‏ مائة ألف وثلاثون ألفًا وخمسمائة واثنان وتسعون دينارًا الغربية‏:‏ ستمائة ألف وأربعة وسبعون ألفًا وستمائة وخمسة دنانير السمنودية‏:‏ مائتا ألف وخمسة وأربعون ألفًا وأربعمائة وتسعة وسبعون دينارًا الدنجماوية‏:‏ ستة وأربعون ألفًا ومائتا وأربعة وسبعون دينارًا المنوفية‏:‏ مائة ألف وثمانية وأربعون ألفًا وثلثمائة وسبعة وأربعون دينارًا‏.‏

الوجه القبلي‏:‏ ألف ألف وستمائة وعشرة آلاف وأربعمائة وأحد وأربعون دينارًا‏.‏

تفصيل ذلك‏:‏ الجيزة‏:‏ مائة ألف وثلاثة وخمسون ألفًا ومائتان وأربعة دنانير الأفطيحية‏:‏ تسعة وخمسون ألفًا وسبعمائة وثمانية وعشرون دينارًا البوصيرية‏:‏ ستون ألفًا وأربعمائة وستة وستون دينارًا الفيومية‏:‏ مائة ألف واثنان وخمسون ألفًا وستمائة وأربعة وثلاثون دينارًا البهنسية‏:‏ ثلثمائة ألف واثنان وخمسون ألفًا وستمائة وأربعة وثلاثون دينارًا الواحات الداخلة والخارجتين وواح البهنسا‏:‏ خمسة وعشرون ألف دينار الأشمونين‏:‏ مائة ألف وسبعون ألفًا وخمسمائة وأربعة دنانير الأخميمية‏:‏ مائة ألف وثمانية آلاف وثمانمائة واثنا عشر دينارًا الأعمال القوصية‏:‏ ثلثمائة ألف واثنان وستون ألفًا وخمسمائة دينار ثغر أسوان‏:‏ خمسة وعشرون ألف دينار ثغر عيذاب‏:‏ يجري في غير هذا الديوان‏.‏

وقال في متجدّدات سنة ثمان وثمانين وخمسمائة‏:‏ والذي انعقد عليه ارتفاع الديوان السلطانيّ ثلثمائة ألف وأربعة وخمسون ألفًا وأربعة وأربعون دينارًا والذي يميز زائد الارتفاع لسنة سبع وثمانين وخمسمائة على ارتفاع سنة ست وثمانين اثنان وعشرون ألفًا وأربعمائة وخمسة وأربعون دينارًا والذي انساق من البواقي للسنة المذكورة أحد وثلاثون ألفًا وستمائة واثنان وعشرون دينارًا والذي اشتمل عليه متحصل ديوان الخاص الملكني الناصري بالديار المصرية لسنة سبع وثمانين اثنان وعشرون ألفًا وأربعمائة وخمسة وأربعون دينارًا والذي انساق من البواقيّ للسنة المذكورة أحد وثلاثون ألفًا وستمائة واثنان وعشرون دينارًا والذي اشتمل عليه متحصل ديوان الخاص الملكي الناصري بالديار المصرية لسنة سبع وثمانين وخمسمائة ثلثمائة ألف وأربعة وخمسون ألفًا وأربعمائة وأربعة وخمسون دينارًا ونصف وثلث وثمن‏.‏

ذكر الروك الأخير الناصري

وكان الجندي إقطاعه بمفرده وله تبع واحد من عشرين ألف درهم إلى ثلاثين وفيهم من إقطاعه خمسة عشر ألفًا وأقلهم عشرة آلاف وذلك سوى الضيافة وبلغ خمسة آلاف درهم في الإقطاع الثقيل وكان الجنديّ يخرج إلى السكان بطوالة خيل ويخرج مقدّم الحلقة كأمير عشرة وتكون مضافته إذا نزل حوله وأكثرهم يأكل على سماطه ولا يمكن الأمير أن يأكل إلا وجميع أجناده معه ويأخذ غلمان أجناده كل يوم الطعام من مطبخه وإذا رأى نارًا توقد سأل عنها فيقال‏:‏ إن فلانًا اشتهى كذا فيغضب ممن لا يأكل عنده ومع ذلك كانت أشكالهم بشعة وملابسهم غير خائلة‏.‏

فلما أفضت السلطنة إلى المنصور لاجين‏:‏ راك البلاد وذلك أن أرض مصر كانت أربعة وعشرين قيراطًا فيختص السلطان منها بأربعة قراريط ويختص الأجناد بعشرة قراريط ويختص الأمراء بعشرة قراريط وكان الأمراء يأخذون كثيرًا من إقطاعات الأجناد فلا يصل إلى الأجناد منها شيء ويصير ذلك الإقطاع في دواوين الأمراء ويحتمي بها قطاع الطريق وتثور بها الفتن ويقوم بها الهوشات ويمنع منها الحقوق والمقرّرات الديوانية وتصير مكلة لأعوان الأمراء ومستخدميهم ومضرّة على أهل البلاد التي تجاورها فأبطل السلطان ذلك وردّ تلك الإقطاعات على أربابها وأخرجها بأسرها من دواوين الأمراء‏.‏

وأوّل ما بدأ به ديوان الأمير سيف الدين منكوتمر نائب السلطنة فأخرج منه ما كان فيه من هذه الإقطاعات وكان يتحصل له منها مائة ألف أردب غلة في كل سنة واقتدى به جميع الأمراء وأخرجوا ما في إقطاعاتهم من ذلك فبطلت الحمايات وجعل السلطان في هذا الروك للأمراء والأجناد أحد عشر قيراطًا وأفرد تسعة قراريط ليخدم بها عسكر أو يقطعهم إياها ثم رتب أوراقًا بتكفية الأمراء والأجناد بعشرة قراريط ووفر قيراطًا لزيادة من عساه يطلب زيادة لقلة متحصل إقطاعه وأفرد لخاص السلطان عدة أعمال جليلة وأفرد للنائب منكوتمر لتفرقة المثالات في تابعيه فتنكرت قلوب الأمراء حتى كان من المنصور لاجين ونائبه منكوتمر ما كان‏.‏

فلما كانت الأيام الناصرية راك الناصر محمد البلاد قال جامع السيرة الناصرية‏:‏ وفي سنة خمس عشرة وسبعمائة اختار السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون أن يروك الديار المصرية وأن يبطل منها مكوسًا كثيرة ويفضل لخاص مملكته شيئًا كثيرًا من أراضي مصر وكان سبب ذلك أنه اعتبر كثيرًا من أخباز المماليك والحاشية الذين كانوا للملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير والأمير سلار وسائر المماليك البرحية فإذا هي ما بين ألف دينار إلى ثمانمائة دينار وخشي من قطع أخباز المذكورين فولد له الرأي مع القاضي فخر الدين محمد بن فضل الله ناظر الجيش أن يروك ديار مصر ويقرّر إقطاعات مما يختار ويكتب بها مثالات سلطانية فتقدم الفخر ناظر الجيش فعمل أوراقًا بما عليه عبر النواحي ومساحتها‏.‏

وعين السلطان لكل إقليم من أقاليم ديار مصر أناسًا وكتب مرسومًا للأمير بحر الدين جيكل بن البابا أن يخرج لناحية الغربية ومعه أعزل الحاجب ومن الكتاب المكين بن فرويته وأن يخرج الأمير عز الدين إيدمر الخطيريّ إلى ناحية الشرقية ومعه الأمير ايتمش المجدي ومن الكتاب أمين الدولة ابن قرموط وأن يخرج الأمير بلبان الصرخدي والقليجي وابن طرنطاي وبيبرس الجمدار إلى ناحية المنوفية والبحيرة وأن يخرج البليلي والمرتيني إلى الوجه القبلي وندب معهم كتابًا ومستوفين وقياسين فساروا إلى حيث ذكر فكان كل منهم إذا نزل بأوّل عمله طلب مشايخ كل بلد ودُلَلائِها وعدولها وقضاتها وسجلاتها التي بأيدي مقطعيها وفحص عن متحصلها من عين وغلة وأصناف ومقدار ما تحتوي عليه من الفدن ومزروعها وبورها وما فيها من ترايب وبواق وغرس ومستبحر وعبرة الناحية وما عليها لمقطعيها من غلة ودجاج وخراف وبرسيم وكشك وكعك وغير ذلك من الضيافة فإذا حرّر ذلك كله ابتدأ بقياس تلك الناحية وضبط بالعدول والقياسين وقاضي العمل ما يظهر بالقياس الصحيح وطلب مكلفات تلك القرية وغنداقها وفضل ما فيها من الخاص السلطاني وبلاد الأمراء وإقطاعات الأجناد والرزق حتى ينتهي إلى آخر عمله‏.‏

ثم حضروا بعد خمسة وسبعين يومًا وقد تحرّر في الأوراق المحضرة حال جميع ضياع أرض مصر ومساحتها وعبرة أراضيها وما يتحصل عن كل قرية من عين وغلة وصنف فطلب السلطان الفخر ناظر الجيش والتقي الأسعد بن أمين الملك المعروف بكاتب سرلغي وسائر مستوفي الدولة وألزمهم بعمل أوراق تشتمل على بلاد الخاص السلطاني التي عينها لهم وعلى إقطاعات الأمراء وأضاف على عبرة كل بلد ما كان على فلاحيها من ضيافة لمقطعيها وأضاف إلى العبرة ما في الإقطاع من الجوالي وكتب مثالات للأجناد ب قطاعات على هذا الحكم فاعتدّ منها بما كان يصرف في كلف حمل الغلال من النواحي إلى ساحل القاهرة وما كان عليها من المكس وأبطل السلطان عدة مكوس‏:‏ منها مكس ساحل الغلة وكان جل متحصل الديوان وعليه إقطاعات الأمراء والأجناد ويتحصل منه في السنة أربعة آلاف ألف وستمائة ألف درهم وعليه أربعمائة مقطع لكل منهم من عشرة آلاف إلى ثلاثة آلاف ولكل من الأمراء من أربعين ألف إلى عشرة آلاف وكانت جهة عظيمة لها متحصل كثير جدًّا وينال القبط منها منافع كثيرة لا تحصى ويحلّ بالناس من ذلك بلاء شديد وتعب عظيم من المغارم والظلم‏.‏

فإن مظالمها كانت تتعدّد ما بين نواتية تسرق وكيالين تبخس وشادّين وكتاب يريد كل منهم شيئًا وكان مقرّر الأردب‏:‏ درهمين للسلطان ويلحقه نصف درهم غير ما ينهب ويسرق وكان لهذه الجهة مكان يعرف بخص الكيالة في ساحل بولاق يجلس فيه شاد وستون متعممًا ما بين كتاب ومستوفين وناظر وثلاثون جنديًا مباشرون ولا يمكن أحدًا من الناس أن يبيع قدحًا من غلة في سائر النواحي بل تحمل الغلات حتى تباع في خص الكيالة ببولاق‏.‏

ومما أبطل أيضًا نصف السمسرة وهو عبارة عن أن من باع شيئًا من الأشياء فإنه يعطي أجرة الدلال على ما تقرّر من قديم عن كل مائة درهم درهمين فلما ولي ناصر الدين الشيخي الوزارة قرّر على كل دلال من دلالته درهمًا من كل درهمين‏.‏

فصار الدلال يعمل معدّله ويجتهد حتى ينال عادته وتصير الغرامة على البائع فتضرّر الناس من ذلك وأوذوا فلم يغاثوا حتى أبطل ذلك السلطان ومما أبطل رسوم الولاية وكانت جهة تتعلق بالولاة المقدّمين فيجبيها المذكورون من عرفاء الأسواق وبيوت الفواحش ولهذه الجهة ضامن وتحت يده عدة صبيان وعليها جند مستقطعون وأمراء وغيرهم وكانت تشتمل على ظلم شنيع وفساد قبيح وهتك قوم مستوزين وهجم لبيوت أكثر الناس ومما أبطل مقرّر الحوائص والبغال من المدينة وسائر أعمال مصر كلها من الوجه القبلي والبحري فكان على كل من الولاة والمقدّمين مقرر يحمل في كل قسط من أقساط السنة إلى بيت المال عن ثمن حياصة ثلثمائة درهم وعن ثمن بغل خمسمائة درهم وعلى هذه الجهة عدة مقطعين ويفضل منها ما يحمل وكان يصيب الناس من هذه الجهة ما لا يوصف ويحلّ بهم من عسف الرقاصين ما يهون معه الموت ومن ذلك مقرّر السجون وهو عبارة عما يؤخذ من كل من يسجن فللسجان على حكم المقرّر ستة دراهم سوى كلف أخرى وعلى هذه الجهة عدّة مقطعين ويرغب فيها الضمان ويتزايدون في مبلغ ضمانها لكثرة ما يتحصل منها فإنه كان لو تخاصم رجل مع امرأته أو ابنه رفعه الوالي إلى السجن فبمجرّد ما يدخل السجن ولو لم يقم به إلا لحظة واحدة أخذ منه المقرّر وكذلك كان على سجن القضاة أيضًا‏.‏

ومن ذلك مقرّر طرح الفراريج‏:‏ ولها ضمان عدة في سائر نواحي أرض مصر يطرحون على الناس الفراريج فيمرّ بضعفاء الناس من ذلك بلاء عظيم وتقاسي الأرامل من العسف والظلم شيئًا كثيرًا وكان على هذه الجهة عدة مقطعين ولا يمكن أحدًا من الناس في جميع الأقاليم أن يشتري فروجًا فما فوقه إلا من الضامن ومن عثر عليه أنه اشترى أو باع فروجًا من سوى الضامن جاءه الموت من كل مكان وما هو بميت‏.‏

ومن ذلك مقرّر الفرسان‏:‏ وهو عبارة عما يجيبه ولاة النواحي من سائر البلاد فلا يؤخذ درهم مقرّر حتى يغرم عليه صاحبه درهمين ويقاسي الناس فيه أهوالًا صعبة‏.‏

ومن ذلك مقرّر الأقصاب والمعاصر‏:‏ وهو ما يجبى من مزارعي قصب السكر ومن المعاصر ورجال المعاصر‏.‏

ومن ذلك مقرّر رسوم الأفراح‏:‏ ويجبي من سائر النواحي ولهذه الجهة عدة ضمان ولا يعرف لهذه الجهة أصل البتة وإنما يجبي بضرائب ينال الناس فيها مع المقرّر غرامات وروعات‏.‏

ومن ذلك حماية المراكب‏:‏ وهي عبارة عما يؤخذ من كل مركب بتقرير معين يعرف بمقرّر الحماية وكانت هذه الجهة أشدّ ما ظلم به الناس فيؤخذ من كل من ركب البحر للسفر حتىّ من السؤال والمكدين‏.‏

ومن ذلك حقوق القينات‏:‏ وهو عبارة عما يجمع من الفواحش والمنكرات فيجبيه مهتار الطشتخاناه السلطانية من أوباش الناس‏.‏ومن ذلك شدّ الزعماء‏:‏ وهي جهة مفردة وحقوق السودان وكشف المراكب ومقرّر ما على كل جارية أو عبد حين نزولهم بالخانات لعمل الفاحشة فيؤخذ من كل ذكر وأنثى مقرّر معين ومتوفر الجراريف وهو ما يجبي من سائر النواحي فيحمل ذلك مهندسوا البلاد إلى بيت المال بإعانة الولاة لهم في تحصيل ذلك وعلى هذه الجهة عدة مقطعين من الجند‏.‏

ومقرّر المشاعلية وهو عبارة عما يؤخذ عن كسح الأفنية وحمل ما يخرج منها من الوسخ الذي الكيمان فكان إذا امتلأ سراب جامع أو مدرسة أو مسمط أو تربة أو منزل من منازل سائر الناس لا يمكنه ولو بلغ من العظمة ما عسى أن يبلغ التعرّض لذلك حتى يأتيه ضامن الجهة‏.‏

ويقاوله على كسح ذلك بما يريد وكان من عادة الضامن الإشطاط في السوم وطلب أضعاف‏.‏

القيمة فإن لم يرض رب المنزل بما طلب الضامن وإلا تركه وانصرف فلا يقدر على مقاساة‏.‏

ترك الوسخ ويضطرّ إلى سؤاله ثانيًا فيعظم تحكمه ويشتدّ بأسه إلى أن يرضيه بما يختار حتى يتمكن من كسح فنائه ورفع ما هنالك من الأقذار‏.‏

ومن ذلك إبطال المباشرين من النواحي‏:‏ وكانت بلاد مصر كلها من الوجهين القبلي والبحري ما من بلد صغير وكبير إلا وفيه عدّة من كتاب وشادّ ونحو ذلك فأبطل السلطان المباشرين وتقدّم منعهم من مباشرة النواحي إلا من بلد فيها مال السلطان فقط فأراح الله سبحانه الخلق بإبطال هذه الجهات من بلاء لا يقدر قدره ولا يمكن وصفه‏.‏

ولما أبطل السلطان هذه الجهات وفرغ من تعيين الإقطاعات للأمراء والأجناد أفرز لخاص السلطان من بلاد أرض مصر عدة نواح مما كان في إقطاعات البرجية وهي الجيزة وأعمالها وهو والكوم الأحمر ومنفلوط والمرج والخصوص وغير ذلك مما بلغ عشرة قراريط من الإقليم وصار لإقطاعات الأمراء والأجناد وغيرهم أربعة عشر قيراطًا ومكر الأقباط فيما أمكنهم المكر فيه فبدأوا بأن أضعفوا عسكر مصر ففرّقوا الإقطاع الواحد في عدة جهات فصار بعض الجبي في الصعيد وبعضه في الشرقية وبعضه في الغربية إتعابًا للجنديّ وتكثيرًا للكلفة وأفردوا جوالي الذمّة من الخاص وفرّقوها في البلاد التي أقطعت للأمراء والأجناد‏.‏

فإن النصارى كانوا مجتمعين في ديوان واحد كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى فصار نصارى كل بلد يدفعون جاليتهم إلى مقطع تلك الضيعة فاتسع مجال النصارى وصاروا يتنقلون في القرى ولا يدفعون من جزيتهم إلا ما يريحون فقلّ متحصل هذه الجهة بعد كثرته وأفردوا ما بقي من جهات المكوس برسم الحوائج خاناه التي تصرف للسماط ليتناولوا ذلك ويوردوا منه ما شاءوا ثم يتولوا صرف ما يحصل منه في جهات تستهلك بالأكل وصارت جهات المكوس مما يتحدث فيه الوزير وشاد الدواوين‏.‏

ثم نظر السلطان فيما كان بيد الأميرين بيبرس الجاشنكير وسلار نائب السلطنة من البلاد فأخذ ما كان باسم كل منهما وباسم حواشيه ولم يدع من ذلك شيئًا مما كانوا قد وقفوه حتى حله وجعل الجميع إقطاعات واعتدّ في سائر الإقطاعات بما كان يستهديه المقطع من فلاحه فحسب ذلك وأقامه من جملة عبر الإقطاع وأبطل الهدية فلم يتهيأ له الفراغ من ذلك إلى آخر السنة فلما أهل المحرّم من سنة ست عشرة وسبعمائة وقد نظمت الحسبانات على ثلث مغلّ سنة خمس عشرة‏.‏

جلس السلطان في الإيوان الذي استجدّه بقطعة الجبل وقد تقدم لسائر نقباء الأجناد على لسان نقيب الجيش بالحضور بأجنادهم وجعل للعرض في كل يوم أميرين من الأمراء المقدّمين بمضافيهما فكان الأمير مقدّم الألف يقف ومعه مضافوه وناظر الجيش يستدعيهم من تقدمة ذلك الأمير بأسمائهم على قدر منازلهم فيقدّم نقيب الجيش الواحد بعد الواحد من يد نقيبه إلى ما بين يدي السلطان فإذا مثل بحضرته سأله السلطان بنفسه من غير واسطة عن اسمه وأصله وجنسه ووقت حضوره إلى ديار مصر ومع من قدم وإلى من صار من الأمراء وغيرهم وعن مشاهده التي حضرها في الغزو وعما يعرفه من صناعة الحرب وغير ذلك من الاستقصاء فإذا انتهى استفهامه إياه ناوله بيده مثالًا من غير تأمل بحسب ما قسم الله له فلم يمرّ به في مدة العرض أحد إلا وقد عرفه وأشار إلى الأمراء بذكر شيء من خبره‏.‏

هذا وقد تقدم إلى سائر الأمراء بأسرهم بأن يحضروا إلى الإيوان عند العرض ولا يعارض أحد منهم السلطان في شيء يفعله فكانوا يحضرون وهم سكوت لا يتكلم أحد منهم خوفًا من مخالفة السلطان لما يقوله وأخذ السلطان في مواربة الأمراء فما أثنوا على أحد في مجلس العرض إلا وأعطاه السلطان مثالًا بإقطاع رديء فلما عملوا ذلك أمسكوا عن الكلام معه جملة وانفرد بالاستبداد بأموره دونهم فما عرف منه أنه قدّم إليه أحد إلا وسأله‏:‏ إن كان مملوكًا عمن أقدمه من التجار وسائر ما تقدّم وإن كان شيخًا فعن أصله وسنه وكم مصاف حضرها حتى أتى على الجميع وأفرد المشايخ العاجزين فلم يعطهم إقطاعات وجعل لكل منهم مرتبًا يقوم به فانتهى العرض في طول المحرّم وتوفر كثير من مثالات الأجناد فبلغ عدّة مائتي مثال ثم أخذ في عرض أطباق المماليك السلطانية ووفر من جوامكهم كثيرًا وقطع عدة رواتب من رواتبهم وعوّضهم عن ذلك إقطاعات وجعل جهة مكس قطيا لضعفاء الأجناد ممن قطع خبزه فجعل لك منهم في السنة ثلاثة آلاف درهم‏.‏

وكان لبيبرس وسلار الجوكندار تعلقات كثيرة في بيت المال وفي الأعمال كالجيزة والإسكندرية من متجر وحمايات فارتجع ذلك وأبطله وما شابهه وأضاف ما لم يقطعه إلى ديوان الخاص ومما أمر به في مدة العرض أن لا يردّ أحد مثالًا أخذه من السلطان ولو استقله ولا يشفع أمير في جندي وإنّ من خالف ذلك ضرب وحبس ونفي وقطع خبزه فعظمت مهابة السلطان وقويت حرمته ولم يجسر أحد أن يردّ عليه مثالًا أخذ من السلطان ولا استطاع أمير أن يتكلم لأحد وصار كثير ممن كان إقطاعه مثلًا ألف دينار إلى إقطاع مائتي دينار ونحوها وكثير ممن كان إقطاعه قليلًا إلى إقطاع معتبر فإنه كان يعطي المثال من غير تأمّل كيفما وقعت يده عليه‏.‏

وقدّر اللّه سبحانه وتعالى أنّ السلطان كان من جملة صبيان مطبخه رجل مضحك يهزل بحضرته فيضحك منه ويعجب به ولا يعترض فيما يقول من السخف فجلس السلطان في بعض أيام العرض في البستان بقلعة الجبل وعنده الخاصة من الأمراء فدخل هذا المضحك وأخذ في السخرية على عادته ليُضحك السلطان إلى أن قال‏:‏ وجدت بعض أجناد الروك الناصريّ وهو راكب الإكديش وخرجه خلفه ورمحه فوق كتفه يقصد بهذا السخرية والطعن فغضب السلطان غضبًا شديدًا وصاح‏:‏ خذوه وعرّوه ثيابه فتبادره الأعوان وجرّوه برجله ونزعوا ثيابه وربطوه في الساقية مع القواديس وأكثروا من ضرب الأبقار حتى أسرعت بدوران الساقية فصار المسكين ينقلب مع القواديس ويغطس في المادة تارة ويرقى أخرى ثم ينتكس والماء يمرّ عليه مقدار ساعة إلى أن انقطع حسه وأشرف على الهلاك واشتدّ رعب الأمراء لما رأوا من قوّة غضب السلطان‏.‏

ثم تقدّم الأمير طغاي الدوادار في طائفة من الأمراء الخاصكية واعتذروا عن هذا المسكين بأنه لم يرد إلا أن يضحك السلطان من كلامه ولم يقصد عيب الأجناد ولا انتقاصهم ونحو هذا من القول إلى أن أمر بحله فإذا ليس فيه حركة فسحب ورسم السلطان بأنه إن كان حيًا لا يبيت بديار مصر فأخرج من وقته منفيًا وحمد اللّه كل من الأمراء على ما وفقه من السكوت وما زال الأمر بمصر على ما رسمه الملك الناصر في هذا الروك إلى أن زالت دولهّ بني قلاوون بالملك الظاهر برقوق في شهر رمضان سنة أربع وثمانين وسبعمائة فأبقي الأمر على ذلك إلا أنَّ أشياء منه أخذت تتلاشى قليلًا قليلًا إلى أن كانت الحوادث والمحن في سنة ست وثمانمائة حيث حدث من أنواع التغيرات وتنوعّ الظلم ما لم يخطر ببال أحد وسيمرّ بك حمل من ذلك عند ذكر أسباب خراب إقليم مصر إن شاء اللّه تعالى وكانت لأراضي مصر تقاو مخلدة في نواحيها وهي على قسمين‏:‏ تقاوٍ سلطانية وتقاوٍ بلدية فالتقاوي السلطانية وضعها الملوك في النواحي وكان الأمير أو الجنديّ عندما يستقرّ على الإقطاع يقبض ماله من التقاوي السلطانية فإذا خرج عنه طولب بها فلما كان الروك الناصري خلدت تقاوي كل ناحية بها وضبطت في الديوان السلطاني فبلغت جملتها مائة ألف وستين ألف أردب سوى التقاوي البلدية‏.‏

ذكر الديوان قال أقضى القضاة أبو الحسن الماورديّ‏:‏ الديوان محفوظ بحفظ ما تعلق بحقوق السلطنة من الأعمال والأموال ومن يقوم بها من الجيوش والعمال وفي تسميته ديوانًا وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن كسرى اطلع ذات يوم على كتاب ديوانه فرآهم يحسبون مع أنفسهم فقال‏:‏ ديوانه أي‏:‏ مجانين فسمي موضعهم بهذا الاسم ثم حذفت الهاء عند كثرة الاستعمال تخفيفًا للاسم فقيل‏:‏ ديوان‏.‏

والثاني‏:‏ أن الديوان اسم بالفارسية للشياطين فسمي الكتاب باسمهم لحذقهم بالأمور ووقوفهم على الجليّ والخفيّ وجمعهم لما شذ وتفرّق واطلاعهم على ما قرب وبعد ثم سمي مكان جلوسهم باسمهم فقيل‏:‏ ديوان‏.‏

انتهى‏.‏

واعلم أن كتابة الديوان على ثلاثة أقسام‏:‏ كتابة الجيوش وكتابة الخراج وكتابة الإنشاء والمكاتبات ولا بد لكل دولة من استعمال هذه الأقسام الثلاثة وقد أفرد العلماء في كتابة الخراج وفي كتابة الإنشاءات عدة مصنفات ولم أر أحدًا جمع شيئًا في كتابة الجيوش والعساكر وكانت كتابة الدواوين في صدر الإسلام أن يجعل ما يكتب فيه صحفًا مدرجة فلما انقضت أيام بني أمية وقام عبد الله بن محمد‏:‏ أبو العباس السفاح استوزر خالد بن برمك بعد أبي سلمة حفص بن سليمان الخلال فجعل الدفاتر في الدواوين من الجلود وكتب فيها وترك الدروج إلى أن تصرّف جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك في الأمور أيام الرشيد فاتخذ الكاغد وتداوله الناس من بعده إلى اليوم‏.‏

وذكر أبو النمر الوراق قال‏:‏ حدّثني أبو حازم القاضي قال‏:‏ قال لي أبو الحسن بن المدبر‏:‏ لو عمرت مصر كلها لوفت بأعمال الدنيا وقال‏:‏ إن أرض مصر مساحتها للزراعة ثمانية وعشرون ألف ألف فدّان وإنما المعمر منها ألف ألف فدّان‏.‏

قال‏:‏ وقال لي ابن المدبر‏:‏ إنه كان يتقلد ديوان المشرق وديوان المغرب‏.‏

قال‏:‏ ولم أبت قط ليلة من الليالي حتى أنهيه ولا بقيته وتقلدت مصر فكنت ربما نمت وقد بقي عليّ شيء من العمل فأستتمه إذا أصبحت‏.‏ ‏

This site was last updated 09/26/11