Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم عزت اندراوس

سنة أربع وستين وخمسمائة

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
بقية سنة555
سنة556
سنة557 وسنة558
سنة559
سنة560 وسنة561
سنة562 وسنة 563
سنة564
سنة565 وسنة566

 

الجزء التالى من كتاب: الكامل في التاريخ المؤلف: أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير (المتوفى: 630هـ) تحقيق: عمر عبد السلام تدمري الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1417هـ / 1997م عدد الأجزاء:  10

**************************************************************************************************************************

ثم دخلت سنة أربع وستين وخمسمائة
ذكر ملك نور الدين قلعة جعبر

في هذه السنة ملك نور الدين محمود بن زنكي قلعة جعبر، أخذها من صاحبها شهاب الدين مللك بن علي بن مالك العقيلي، وكانت بيده ويد آبائه من قبله من أيام السلطان ملك شاه، وقد تقدم ذكر ذلك، وهي من أمنع القلاع وأحصنها مطلة على الفرات من الجانب الشرقي. (5/101)
وأما سبب ملكها فإن صاحبها نزل منها يتصيد، فأخذوه بنو كلاب وحملوه إلى نور الدين في رجب سنة ثلاث وستين، فاعتقله وأحسن إليه، ورغبه في المال والإقطاع ليسلم إليه القلعة، فلم يفعل، فعدل إلى الشدة والعنف، وتهدده، فلم يفعل، فسير إليها نور الدين عسكراً مقدمه الأمير فخر الدين مسعود بن أبي علي الزعفراني، فحصرها مدة، فلم يظفر منها بشيء، فأمدهم بعسكر آخر، وجعل على الجميع الأمير مجد الدين أبا بكر المعروف بابن الداية، وهو رضيع نور الدين ، وأكبر أمرائه، فحصرها أيضاً فلم ير له فيها مطمعاً، فسلك مع صاحبها طريق اللين، وأشار عليه أن يأخذ من نور الدين العوض ولا يخاطر في حفظها بنفسه، فقبل قوله وسلمها، فاخذ عوضاً عنها سروج وأعمالها والملاحة التي بين حلب وباب بزاعة، وعشرين ألف دينار معجلة، وهذا إقطاع عظيم جداً، إلا أنه لا حصن فيه.
وهذا آخر أمر بني مالك بالقلعة ولكل أمر أمد ولكل ولاية نهاية. بلغني أنه قيل لصاحبها: أيما أحب إليك وأحسن مقاماً، سروج الشام أم القلعة؟ هذه أكثر مالاً وأما العز ففارقناه بالقلعة.

ذكر ملك أسد الدين مصر وقتل شاور
في هذه السنة، في ربيع الأول، سار أسد الدين شيركوه بن شاذي إلى ديار مصر، فملكها ومعه العساكر النورية.
وسبب ذلك من مكن الفرنج من البلاد المصرية، وأنهم جعلوا لهم في القاهرة شحنة وتسلموا أبوابها، وجعلوا لهم فيها جماعة من شجعانهم واعيان فرسانهم، وحكموا المسلمين حكماً جائراً، وركبوهم بالأذى العظيم، فلما رأوا ذلك، وأن البلاد ليس فيها من يردهم، أرسلوا إلى ملك الفرنج ، بالشام، وهو مري ولم يكن للفرنج مذ ظهر مثله شجاعة ومكراً ودهاء، يستدعونه ليملكها، وأعلموه خلوها من ممانع، وهونوا أمرها عليه، فلم يجبهم إلى ذلك، فاجتمع إليه فرسان الفرنج وذوو الرأي منهم، وأشاروا عليه بقصدها وتملكها، فقال لهم: الرأي عندي أننا لا نقصدها، فإنها طعمة لنا، وأموالها تساق إلينا، نتقوى بها على نور الدين، وإن نحن قصدناها لنتملكها فإن صاحبها وعساكره، وعامة بلاده وفلاحيها، لا يسلمونها إلينا، ويقاتلوننا دونها، ويحملهم الخوف منا إلى تسليمها إلى نور الدين، ولئن أخذها وصار له فيها مثل أسد الدين، فهو هلاك الفرنج وإجلائهم من أرض الشام؛ فلم يقبلوا قوله، وقالوا له: لا مانع فيها ولا حامي، وغلى أن يتجهز عسكر نور الدين، ويسير إليها، نكون نحن قد ملكناها، وفرغنا من أمرها، وحينئذ يتمنى نور الدين منا السلامة.
فسار معهم على كره وشرعوا يتجهزون ويظهرون أنهم يريدون قصد مدينة حمص، فلما سمع نور الدين شرع أيضاً يجمع عساكره، وأمرهم بالقدوم عليه، وجد الفرنج في السير إلى مصر، فقدموها ، ونازلوا مدينة بلبيس، وملكوها قهراً مستهل صفر، ونهبوها وقتلوا فيها وأسروا وسبوا.
وكان جماعة من أعيان المصريين قد كاتبوا الفرنج، ووعدوهم النصرة عداوة منهم لشاور، منهم ابن الخياط، وابن فرجلة، فقوي جنان الفرنج، وساروا من بلبيس إلى مصر ، فنزلوا على القاهرة عاشر صفر وحصروها، فخاف الناس منهم أن يفعلوا بهم كما فعلوا بأهل بلبيس، فحملهم الخوف منهم على الامتناع، فحفظوا البلد، وقاتلوا دونه وبذلوا جهدهم في حفظه، فلو أن الفرنج أحسنوا السيرة في بلبيس لملكوا مصر والقاهرة، ولكن الله تعالى حسن لهم ما فعلوا ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
وأمر شاور بإحراق مدينة مصر تاسع صفر، وأمر أهلها بالانتقال منها إلى القاهرة، وأن ينهب البلد، فانتقلوا، وبقوا على الطرق، ونهبت المدينة وافتقر أهلها، وذهبت أموالهم ونعمتهم قبل نزول الفرنج عليهم بيوم، خوفاً أن يملكها الفرنج، فبقيت النار تحرقها أربعة وخمسين يوماً.
وأرسل الخليفة العاضد إلى نور الدين يستغيث به، ويعرفه ضعف المسلمين عن دفع الفرنج، وأرسل في الكتب شعور النساء وقال: هذه شعور نسائي من قصري يستغثن بك لتنقذهن من الفرنج؛ فشرع في تسيير الجيوش. (5/102)
وأما الفرنج فإنهم اشتدوا في حصار القاهرة وضيقوا على أهلها، وشاور هو المتولي للأمر والعساكر والقتال، فضاق به الأمر، وضعف عن ردهم فأخلد إلى أعمال الحيلة، فأرسل إلى ملك الفرنج يذكر له مودته ومحبته القديمة له، وان هواه معه لخوفه من نور الدين والعاضد، وإنما المسلمون لا يوافقونه على التسليم إليه، ويشير بالصلح، وأخذ مال لئلا يتسلم نور الدين، فأجابه إلى ذلك على أن يعطوه ألف ألف دينار مصرية، يعجل البعض، ويمهل البعض فاستقرت القاعدة على ذلك.
ورأى الفرنج أن البلاد قد امتنعت عليهم وربما سلمت إلى نور الدين، فأجابوا كارهين، وقالوا: نأخذ المال فنتقوى به، ونعاود البلاد بقوة لا نبالي معها بنور الدين (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين) آل عمران) فعجل لهم شاور مائة ألف ألف دينار، وسألهم الرحيل عنه ليجمع لهم المال، فرحلوا قريباً، وجعل شاور يجمع لهم المال من أهل القاهرة ومصر، فلم يتحصل له إلا قدر لا يبلغ خمسة آلاف دينار، وسببه أن أهل مصر كانوا قد احترقت دورهم وما، وما سلم نهب، وهم لا يقدرون على الأقوات فضلاً عن الأقساط.
وأما القاهرة فالأغلب على أهلها الجند وغلمانهم، فلهذا تعذرت عليهم الأموال، وهم في خلال هذا يراسلون نور الدين بما الناس فيه، وبذلوا له ثلث بلاد مصر، وأن يكون أسد الدين مقيماً عندهم في عسكر، وأقطاعهم في الديار المصرية أيضاً خارجاً عن الثلث الذي لهم.
وكان نور الدين لما وصله كتب العاضد بحلب أرسل إلى أسد الدين يستدعيه إليه، فخرج القاصد في طلبه، فلقيه على باب حلب، وقد قدمها من حمص وكان إقطاعه، وكان سبب وصوله ان كتب المصريين وصلته أيضاً في المعنى، فسار أيضاً إلى نور الدين، واجتمع به، وعجب نور الدين من حضوره في الحال، وسره ذلك، وتفاءل به، وأمر بالتجهيز إلى مصر، وأعطاه مائتي ألف دينار سوى الثياب والدواب والأسلحة وغير ذلك، وحكمه في العسكر والخزائن، واختار من العسكر ألفي فارس، وأخذ المال، وجمع ستة آلاف فارس، وسار هو ونور الدين إلى دمشق، فوصلها سلخ صفر، ورحل إلى رأس الماء، وأعطى نور الدين كل فارس ممن مع أسد الدين عشرين ديناراً معونة غير محسوبة من جامكيته، وأضاف إلى أسد الدين جماعة أخرى من الأمراء منهم: مملوكه عز الدين جورديك، وعز الدين قلج، وشرف الدين بزغش، وعين الدولة الياروقي، وقطب الدين ينال بن حسان المنبجي، وصلاح الدين يوسف بن أيوب، أخي شيركوه، على كره منه، (عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم ((البقرة) أحب نور الدين مسير صلاح الدين، وفيه ذهاب بيته؛ وكره صلاح الدين المسير، وفيه سعادته وملكه، وسيد ذلك عند موت شيركوه، إن شاء الله تعالى.
وسار أسد الدين شيركوه من رأس الماء مجداً منتصف ربيع الأول، فلما قارب مصر رحل الفرنج عنها عائدين إلى بلادهم بخفي حنين خائبين مما أملوا، وسمع نور الدين بعودهم، فسره ذلك، وأمر بضرب البشائر في البلاد، وبث رسله في الآفاق مبشرين بذلك، فإنه كان فتحاً جديداً لمصر وحفظاً لسائر بلاد الشام وغيرها.
فأما أسد الدين فإنه وصل إلى القاهرة سابع جمادى الآخرة، ودخل إليها، واجتمع بالعاضد لدين الله، وخلع عليه وعاد إلى خيامه بالعاضدية، وفرح به أهل مصر، وأجريت عليه وعلى عسكره الجرايات الكثيرة، والإقامات الوافرة، ولم يمكن شاور المنع عن ذلك لأنه رأى العساكر كثيرة مع شيركوه وهوى العاضد معهم، فلم يتجاسر على إظهار ما في نفسه، وشرع يماطل أسد الدين في تقرير ما كان بذل لنور الدين من المال، وإقطاع الجند، وإفراد ثلث البلاد لنور الدين، وهو يركب كل يوم إلى أسد الدين ويسير معه ويعده ويمنيه (وما يعدهم الشيطان إلا غروراً ) ثم إنه عزم على أن يعمل دعوة يدعو إليها أسد الدين والأمراء الذين معه ويقبض عليهم، ويستخدم من معهم من الجند فيمنع بهم البلاد من الفرنج، فنهاه ابنه الكامل، وقال له: والله لئن عزمت على هذا لأعرفن شيركوه. فقال له أبوه: والله لئن لم نفعل هذا لنقتلن جميعاً. فقال: صدقت ولئن نقتل ونحن مسلمون والبلاد إسلامية، خير من أن نقتل وقد ملكها الفرنج، فإنه ليس بينك وبين عود الفرنج إلا أن يسمعوا بالقبض على شيركوه، وحينئذ لو مشى العاضد إلى نور الدين لم يرسل معه فارساً واحداً ويملكون البلاد؛ فترك ما كان عزم عليه. (5/103)
ولما رأى العسكر النوري مطل شاور خافوا شره، فاتفق صلاح الدين يوسف بن أيوب وعز الدين جورديك وغيرهما على قتل شاور، فاعلموا أسد الدين فنهاهم عنه، فسكتوا وهم على ذلك العزم من قتله، فاتفق أن شاور قصد عسكر أسد الدين على عادته، فلم يجده في الخيام، وكان قد مضى يزور قبر الإمام الشافعي رضي الله عنه، فلقيه صلاح الدين يوسف وجورديك في جمع من العسكر، وخدموه، واعلموه بأن شيركوه في زيارة قبر الإمام الشافعي، فقال: نمضي إليه، فساروا جميعاً، فسايره صلاح الدين وجورديك وألقياه عن فرسه إلى الأرض، فهرب أصحابه عنه، فاخذ أسيراً، فلم يمكنهم قتله بغير أسد الدين، فتوكلوا بحفظه، وسيروا فأعلوا أسد الدين الحال، فحضر، ولم يمكنه إلا إتمام ما عملوه، وسمع الخليفة العاضد صاحب مصر الخبر، فأرسل إلى أسد الدين يطلب منه إنفاذ رأس شاور، وتابع الرسل بذلك، فقتل وأرسل رأسه إلى العاضد في السابع عشر من ربيع الآخر.
ودخل أسد الدين القاهرة، فرأى من اجتماع الخلق فخافهم على نفسه، فقال لهم: أمير المؤمنين، يعني العاضد، يأمركم بنهب دار شاور؛ فتفرق الناس عنه إليها فنهبوها، وقصد هو قصر العاضد، فخلع عليه خلع الوزارة، ولقب املك المنصور أمير الجيوش، وسار بالخلع إلى دار الوزارة، وهي التي كان فيها شاور، فلم ير فيها ما يقعد عليه، واستقر في الأمر، وغلب عليه، ولم يبق له مانع ولا منازع، واستعمل على الأعمال من يثق به من أصحابه واقطع البلاد لعساكره.
وأما الكامل بن شاور فإنه لما قتل أبوه دخل القصر هو وأخوته معتصمين به، فكان آخر العهد بهم، فكان شيركوه يتأسف عليه كيف عدم لأنه بلغه ما كان منه مع أبيه في منعه من قتل شيركوه، وكان يقول: وددت أنه بقي لأحسن إليه جزاء الصنيعة.

ذكر وفاة أسد الدين شيركوه
لما ثبت قدم أسد الدين، وظن أنه لم يبق له منازع، أتاه أجله (حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة (، فتوفي يوم السبت الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة أربع وستين وخمسمائة، وكانت ولايته شهرين وخمسة أيام.
وأما ابتداء أمره واتصاله بنور الدين، فإنه كان هو وأخوه نجم الدين أيوب ابنا الشاذي من بلد دوين، وأصلهما من الأكراد الروادية، وهذا النسل هم أشرف الأكراد، فقدما العراق، وخدما مجاهد الدين بهروز شحنة بغداد، فرأى من نجم الدين عقلاً ورأياً وافراً وحسن سيرة، وكان أكبر من شيركوه، فجعله مستحفظاً لقلعة تكريت، وهي له، فسار إإليها ومعه أخوه شيركوه، فلما انهزم أتابك الشهيد زنكي بن آقسنقر بالعراق من قراجة الساقي على ما ذكرناه سنة ست وعشرين وخمسمائة، وصل منهزماً إلى تكريت، فخدمه نجم الدين، وأقام له السفن فعبر دجلة هناك، وتبعه أصحابه، فأحسن أيوب صحبتهم وسيرهم.ثم إن شيركوه قتل إنساناً بتكريت لملاحة جرت بينهما، فأخرجهما بهروز من القلعة، فسارا إلى الشهيد زنكي، فأحسن إليهما، وعرف لهما خدمتهما، وأقطعهما إقطاعاً حسناً، فلما ملك قلعة بعلبك جعل أيوب مستحفظاً عليها؛ فلما قتل الشهيد حصر عسكر دمشق بعلبك وهو بها، فضاق عليه المر، وكان سيف الدين غازي بن زنكي مشغولاً عنه بإصلاح البلاد، فاضطر إلى تسليمها إليهم، فسلمها على إقطاع ذكره، فأجيب إلى ذلك، وصار من اكبر الأمراء بدمشق.
واتصل أخوه أسد الدين شيركوه بنور الدين محمود بعد قتل زنكي، وكان يخمه في أيام والدهن فقربه وقدمه، ورأى منه شجاعة يعجز عنها غيره، فزاده حتى صار له حمص والرحبة وغيرهما، وجعله مقدم عسكره، فلما أراد نور الدين ملك دمشق أمره فراسل أخاه أيوب وهو بها، وطاب منه المساعدة على فتحها، فأجاب إلى ما يراد منه على إقطاع ذكره له ولأخيه، وقرى يتملكانها، فأعطاهما ما طلبا، وفتح دمشق على ما ذكرناه، ووفى لهما، وصارا أعظم أمراء دولته. فلما أراد أن يرسل العساكر إلى مصر، لم ير لهذا الأمر العظيم والمقام الخطير غيره، فأرسله، ففعل ما ذكرناه.
ذكر ملك صلاح الدين مصر
لما توفي أسد الدين شيركوه كان معه صلاح الدين ابن أخيه أيوب ابن شاذي قد سار معه على كره منه للمسير. (5/104)
حكى لي عنه بعض أصدقائنا ممن كان قريباً إليه خصيصاً به قال: لما وردت كتب العاضد على نور الدين يستغيث به من الفرنج، ويطلب إرسال العساكر، أحضرني وأعلمني الحال، وقال: تمضي إلى عمك أسد الدين بحمص مع رسولي إليه ليحضر، وتحثه أنت على الإسراع، فما يحتمل الأمر التأخير؛ ففعلت وخرجنا من حلب، فما كنا على ميل من حلب حتى لقيناه قادماً في هذا المعنى، فأمره نور الدين بالمسير، فلما قال له نور الدين ذلك التفت عمي إلي فقال لي: تجهز يا يوسف! فقلت: والله لو أعطيت ملك مصر ما سرت إليها، فلقد قاسيت بالإسكندرية ما لا أنساه أبداً. فقال لنور الدين: لا بد من مسيره معي فتأمر به، فأمرني نور الدين، وأنا أستقيل، وانقضى المجلس. وتجهز أسد الدين، ولم يبق غير المسير؛ قال لي نور الدين: لا بد من مسيرك مع عمك؛ فشكوت إليه الضائقة وعدم البرك، فأعطاني ما تجهزت به فكأنما أساق إلى الموت، فسرت معه وملكها، ثم توفي فملكني الله ما لم اكن أطمع في بعضه.
وأما كيفية ولايته، فإن جماعة من الأمراء النورية الذين كانوا بمصر طلبوا التقدم على العساكر، وولاية الوزارة العاضدية بعده، منهم عين الدولة الياروقي، وقطب الدين، وسيف الدين المشطوب الهكاري، وشهاب الدين محمود الحارمي، وهو خال صلاح الدين، وكل واحد من هؤلاء يخطبها، وقد جمع أصحابه ليغال عليها، فأرسل العاضد إلى صلاح الدين فأحضره عنده، وخلع عليه، وولاه الوزارة بعد عمه.
وكان الذي حمله على ذلك أن أصحابه قالوا: ليس في الجماعة أضعف ولا أصغر سناً من يوسف، والرأي أن يولى، فإنه لا يخرج من تحت حكمنا، ثم نضع على العساكر من يستميلهم إلينا، فيصير عندنا من الجنود من نمنع بهم البلاد، ثم نأخذ يوسف أو نخرجه.
فلما خلع عليه لقب الناصر لم يطعه أحد من أولئك الأمراء الذين يريدون الأمر لأنفسهم، ولا خدموه. وكان الفقيه عيسى الهكاري معه، فسعى مع المشطوب حتى أماله إليه، وقال له: إن هذا الأمرلا يصل إليك مع عين الدولة والحارمي وغيرهما؛ ثم قصد الحارمي وقال: هذا صلاح الدين هو ابن أختك وعزه وملكه لك، وقد استقام له الأمر فلا تكن أول من يسعى في إخراجه عنه ولا يصل إليك؛ فمال إليه أيضاً، ثم فعل مثل هذا بالباقين، وكلهم أطاع غير عين الدولة الياروقي فإنه قال: أنا لا أخدم يوسف؛ وعاد إلى نور الدين بالشام ومعه غيره من الأمراء، وثبت قدم صلاح الدين، ومع هذا فهو نائب عن نور الدين.
وكان نور الدين يكاتبه بالأمير الأسفهسلار، ويكتب علامته على رأس الكتاب تعظيماً عن أن يكتب اسمه، وكان لا يفرده بكتاب بل يكتب الأمير الأسفهسلار صلاح الدين وجميع الأمراء بالديار والمصرية يفعلون كذا.
واستمال صلاح الدين قلوب الناس، وبذل الأموال، فمالوا إليه وأحبوه وضعف أمر العاضد، ثم أرسل صلاح الدين يطلب من نور الدين أن يرسل إليه أخوته وأهله، فأرسلهم إليه، وشرع عليهم طاعته والقيام بأمره ومساعدته، وكلهم فعل ذلك، وأخذت إقطاعات الأمراء المصريين فأعطاها أهله والأمراء الذين معه، وزادهم، فازدادوا له حباً وطاعة.
قد اعتبرت التواريخ، فرأيت كثيراً من التواريخ الإسلامية التي يمكن ضبطها، ورأيت كثيرأ ممن يبتدئ الملك تنتقل الدولة عن صلبه إلى بعض أهله وأقاربه، منهم أول الإسلام: معاوية بن أبي سفيان، أول من ملك من أهل بيته، فنقل الملك عن أعقابه إلى بني مروان من بني عمه؛ ثم السامانية أول من استبد منهم نصر بن أحمد، فانتقل الملك عنه إلى أخيه إسماعيل بن أحمد وأعقابه؛ ثم يعقوب الصفار، وهو أول من ملك من أهل بيته، فانتقل الملك إلى أخيه عمرو وأعقابه؛ ثم عماد الدولة بنبويه أول من ملك من أهله انتقل الملك عنه إلى أخويه ركن الدولة وعز الدولة؛ ثم خلص في أعقاب ركن الدولة، ومعز الدولة؛ ثم خلص في أعقاب ركن الدولة؛ ثم الدولة السلجوقية أول من ملك منهم طغرل بك انتقل الملك إلى أولاد أخيه، داود؛ ثم شيركوه هذا كما ذكرناه انتقل الملك إلى أعقاب أخيه أيوب؛ ثم إن صلاح الدين لما أنشأ الدولة وعظمها، وصار كأنه أول لها، نقل الملك إلى أعقاب أخيه العادل ولم يبق بيد أعقابه غير حلب.(5/105)
وهذه اعظم الدول الإسلامية، ولولا خوف التطويل لذكرنا أكثر من هذا، والذي أظنه السبب في ذلك أن الذي يكون أول دولة يكثر ويأخذ الملك وقلوب من كان فيه متعلقة به فلهذا يحرمه الله أعقابه ومن يفعل ذلك من أجلهم عقوبة له.

ذكر وقعة السودان بمصر
في هذه السنة في أوائل ذي القعدة قتل مؤتمن الخلافة، وهو خصي كان بقصر العاضد، إليه الحكم فيه، والتقدم على جميع من يحويه، فاتفق هو وجماعة من المصريين على مكاتبة الفرنج واستدعائهم إلى البلاد، والتقوي بهم على صلاح الدين ومن معه، وسيروا الكتب مع إنسان يثقون به، وأقاموا ينتظرون جوابه، وسار ذلك القاصد إلى البئر البيضاء، فلقيه إنسان تركماني، فرأى معه نعلين جديدين، فأخذهما منه وقال في نفسه: لو كانا مما يلبسه هذا الرجل لكانا خلقين، فإنه رث الهيئة، وارتاب به وبهما، فأتي بهما صلاح الدين ففتقهما، فرأى الكتاب فيهما، فقرأه وسكت عليه.
وكان مقصود مؤتمن الخلافة ان يتحرك الفرنج إلى الديار المصرية، فإذا وصلوا إليها خرج صلاح الدين في العساكر إلى قتالهم، فيثور مؤتمن الخلافة بمن معه من المصريين على مخلفيهم فيقتلونهم، ثم يخرجون بأجمعهم يتبعون صلاح الدين، فيأتونه من وراء ظهره، والفرنج من بين يديه، فلا يبق لهم باقية.فلما قرأ الكتاب سأل عن كاتبه فقيل: رجل يهودي، فأحضر، فأمر بضربه تقريره، فابتدأ وأسلم وأخبره الخبر، وأخفى صلاح الدين الحال.
واستشعر مؤتمن الخلافة فلازم القصر ولم يخرج منه خوفاً، وإذا خرج لم يبعد صلاح الدين لا يظهر له شيئاً من الطلب، لئلا ينكر الحال ذلك، فلما طال الأمر خرج من القصر إلى قرية له تعرف بالحرقانية للتنزه، فلما علم به صلاح الدين أرسل إليه جماعة، فأخذوه وقتلوه وأتوه برأسه، وعزل جميع الخدم الذين يتولون أمر الخلافة واستعمل على الجميع بهاء الدين قراقوش، وهو خصي أبيض، وكان لا يجري في القصر صغير ولا كبير إلا بأمره وحكمه، فغضب السودان الذين بمصر لقتل مؤتمن الخلافة حمية، ولنه كان يتعصب لهم، فحشدوا وأجمعوا، فزادت عدتهم على خمسين ألفاً، وقصدوا حرب الأجناد الصلاحية، فاجتمع العسكر أيضاً وقاتلوهم بين القصرين.
وكثر القتل في الفريقين، فأرسل صلاح الدين إلى محلتهم المعروفة بالمنصورة، فأحرقها على أموالهم وأولادهم وحرمهم، فلما أتاهم الخبر بذلك ولوا منهزمين، فركبهم السيف، وأخذت عليهم أفواه السكك فطلبوا الأمان بعد أن كثر فيهم القتل، فاجيبوا إلى ذلك، فأخرجوا من مصر إلى الجيزة، فعبر إليهم وزير الدولة توارنشاه أخو صلاح الدين الأكبر في طائفة من العسكر، فأبادهم بالسيف، ولم يبق منهم إلا القليل الشريد، وكفى الله تعالى شرهم، والله أعلم.
ذكر ملك شملة فارس وإخراجه عنها
في هذه السنة ملك شملة صاحب خوزستان بلاد فارس، وأخرج عنها، وسبب ذلك أن زنكي بن دكلا صاحبها أساء السيرة مع عسكره فأرسلوا إلى شملة بخوزستان وحسنوا له قصد فارس، فجمع عساكره وتجهز وسار إليها، فخرج إليه زنكي بن دكلا، ووقعت بينهم حرب خامر فيها أصحاب زنكي عليه، فانهزم في شرزمة من عسكره، ونجا بنفسه، وقصد الأكراد الشوانكار والتجأ إليهم، فاجاره صاحبها، وأحسن ضيافته.
ونزل شملة ببلاد فارس فملكها، فأساء السيرة إلى أهلها، ونهب ابن أخيه ابن سنكا البلاد فتغيرت بواطن أهلها عليه، واجتمع إلى زنكي بعض العسكر الذين خامروا عليه، ولما رأوا من سوء سيرة شملة فيهم، فكثر جمعه مع الأكراد الشوانكار ونزل بهم إلى البلاد وكاتب عسكره ووعدهم الإحسان فأقبلوا إليه فقصد شملة واستعاد زنكي بلاده ورجع إلى ملكه وعاد شملة إلى بلاده خوزستان.

ذكر ملك إيلدكز الري
في هذه السنة ملك إيلدكز مدينة الري والبلاد التي كانت بيد إينانج. (5/106)
وسبب ذلك أن إيلدكز كان قد استقر الأمر بينه وبين إينانج على مال يؤديه إلى إيلدكز، فمنعه سنتين، فأرسل إيلدكز يطلب المال فاعتذر بكثرة حاشيته وغلمانه، فتجهز إيلدكز وطلب الري، فالتقاه إينانج وحاربه حرباً عظيمة، فانهزم إينانج ومضى منهزماً، فتحصن بقلعة طبرق، فحصره إيلدكز فيها وأرسل سراً جماعة من مماليكه، فأطمعهم في الإقطاعات والأموال والإحسان العظيم ليقتلوا إينانج، فقتلوه، وكانوا جماعة كثيرة، وسلموا البلد إلى إيلدكز، فرتب فيه عمر بن علي ياغ، وعاد إلى همذان، ولم يف للغلمان الذين قتلوا إينانج وسلموا البلد إليه بما وعدهم وقال: مثل هؤلاء ينبغي أن لا يستخدم؛ وأبعدهم عنه، فتفرقوا في البلاد، فسار بعضهم، وهو الذي تولى قتله، إلى خوارزم شاه، فصلبه خوارزم شاه نكالاً بما فعل بصاحبه.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة رؤي في دار الخليفة المستنجد بالله رجل غريب في الطريق الذي يركب فيه وفي زنده سكين صغيرة، وفي يده سكين أخرى كبيرة، فأخذوه وقرروه ، فقال: أنا من حلب. فحبس وعوقب البواب، ولم يعلم من أين دخل.
وفيها قبض ابن البلدي وزير الخليفة على الحسين بن محمد المعروف بابن السيبي، وعلى أخيه الأصغر، وكانا ابني عمة عضد الدين أستاذ الدار، وكان الأصغر عامل البيمارستان، فقطعت يده ورجله، قيل كان عنده صنج زائدة يقبض بها وتحمل إلى الديوان بالصنج الصحيحة؛ وقيل غير ذلك، وحمل إلى البيمارستان فمات فيه. وكان شاعراً، فمن شعره وهو في الحبس هذه الأبيات:
سلام على أهلي وصحبي وجلاسي ... ومن في فؤادي ذكرهم راسب راسي
أعالج فيكم كل هم ولا أرى ... لداء همومي غير رؤيتكم آسي
لقد أبدت الأيام لي كل شدة ... تشيب لها الأكباد فضلاً عن الراسي
فيا ابنة عبد الله صبراً على الذي ... لقيت فهذا الحكم من مالك الناس
فلو أبصرت عيناك ذلي بكيت لي ... بدمع سوي بالمدامع رجاس
أقول لقلبي والهموم تنوشه ... وقد حدثته النفس بالضر والياس
فلو هم طيف من خيال يزوركم ... لمانعه دون المغالق حراس
وما حذري إلا على النفس لا على ... سواها لأني حلف فقر وإفلاس
وفيها توفي المعمر ابن عبد الواحد بن رجار أبو أحمد الأصفهاني الحافظ، يروي عن أصحاب أبي نعيم، وكان موته بالبداية ذاهباً إلى الحج في ذي القعدة.
وفي رجب منها توفي الشيخ ابو محمد الفارقي المتكلم على الناس، وكان أحد الزهاد، له كرامات كثيرة، وكان يتكلم على الخاطر، وكلامه مجموع مشهور.
وفيها مات جعيفر الرقاث من ندماء دار الخلافة.
وفي شوال منها توفي القاضي أبو الحسن علي بن محمد بن يحيى القريشي الدمشقي.
وفي ذي الحجة توفي نجم الدين بن محمد بن علي بن القاسم الشهرزوري قاضي الموصل، وولي ابنه حجة الدين عبد القاهر القضاء .

This site was last updated 07/28/11