Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم عزت اندراوس

سنة خمس عشرة ومائتين سنة ست عشرة ومائتين وفاة المأمون

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
الخليفة المأمون وهرم خوفو
سنة 199 وسنة200
سنة201
سنة202
سنة203
سنة204 وسنة205
سنة206
سنة207 وسنة 208
سنة209 وسنة 210
سنة211
سنة213 وسنة214
سنة 215 وسنة 216 وموت المأمون

 

الجزء التالى من كتاب: الكامل في التاريخ المؤلف: أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير (المتوفى: 630هـ) تحقيق: عمر عبد السلام تدمري الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1417هـ / 1997م عدد الأجزاء:  10

**************************************************************************************************************************

حوادث سنة خمس عشرة ومائتين
ذكر غزوة المأمون إلى الروم

في هذه السنة سار المأمون إلى الوم في المحرم، فلما سار استخلف على بغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، وولاه مع ذلك السواد، وحلوان، وكور دجلة، فلما صار المأمون بتكريت قدم عليه محمد بن علي بن موسى ابن جعفر بن محمد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب، عليه السلام، فلقيه بهأن فأجاره، وأمره بالدخول بابنته أم الفضل، وكان زوجها منه، فأدخلت عليه، فلما كان أيام الحج سار بأهله إلى المدينة فأقام بها.(3/177)
وسار المأمون على طريق الموصل، حتى صار إلى منبج، ثم إلى دابق، ثم إلى أنطاكية، ثم إلى المصيصة وطرسوس، ودخل منها إلى بلاد الروم في جمادى الأولى، ودخل ابنه العباس من ملطية، فأقام المأمون على حصن قرة حتى افتتحه عنوة، وهدمه لأربع بقين من جمادى الأولى، وقيل إن أهله طلبوا الأمان فأمنهم المأمون، وفتح قبله حصن ماجدة بالأمان، ووجه أشناس إلى حصن سندس، فأتاه برئيسه، ووجه عجيفأن وجعفراً الخياط إلى صاحب حصن سناذ، فسمع وأطاع.
وفيها عاد المعتصم من مصر، فلقي المأمون قبل دخوله الموصل، ولقيه منويل، وعباس بن المأمون برأس عين.
وفيها توجه المأمون بعد خروجه من بلاد الروم إلى دمشق؛ وحج بالناس عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن محمد.
وفيها توفي قبيصة بن عقبة السوائي، وأبويعقوب إسحاق بن الطباخ الفقيه، وعلي بن الحسن بن شقيق صاحب ابن المبارك، وثابت بن محمد الكندي العابد المحدث، وهوذة بن خليفة بن عبد اله بن عبيد الله بن أبي بكرة أبوالأشهب، وأبوجعفر محمد بن الحارث الموصلي، وأبوسليمان الداراني الزاهد توفي بداريأن ومكي بن إبراهيم التيمي البلخي ببلخ، وهومن مشايخ البخاري في صحيحه، وقد قارب مائة سنة، وأبوزيد سعيد بن أوس بن ثابت الأنصاري اللغوي النحوي، وكان عمره ثلاثاً وتسعين سنة.
وفيها توفي عبد الملك بن قريب بن عبد الملك أبوسعيد الأصمعي اللغوي البصري، وقيل سنة ست عشرة، ومحمد بن عبد اله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري قاضي البصرة


حوادث سنة ست عشرة ومائتين
ذكر فتح هرقلة

في هذه السنة عاد المأمون إلى بلاد الروم؛ وسبب ذلك أنه بلغه أن ملك الروم قتل ألفاً وستمائة من أهل طرسوس والمصيصة، فسار حتى دخل أرض الروم في جمادى الأولى، فأقام إلى منتصف شعبان.
وقيل كان سبب دخوله إليها أن ملك الروم كتب إليه وبدا بنفسه، فسار إليه، ولم يقرأ كتابه، فلما دخل أرض الروم أناخ على أنطيغوأن فخرجوا على صلح؛ ثم سار إلى هرقلة، فخرج أهلها على صلح، ووجه أخاه إبا إسحاق المعتصم، فافتتح ثلاثين حصنأن ومطمورة، ووجه يحيى بن أكثم من طوانة، فأغار، وقتل، وأحرق ، فأصاب سبيأن ورجع؛ ثم سار المأمون إلى كيسوم، فأقام بها يومين، ثم ارتحل إلى دمشق.
ذكر عدة حوادث
وفيها ظهر عبدوس الفهري بمصر، فوثب على عمال المعتصم، فقتل بعضهم في شعبان، فسار المأمون من دمشق إلى مصر منتصف ذي الحجة.
وفيها قدم الأفشين من برقة، فأقام بمصر.
وفيها كتب المأمون إلى أسحاق بن إبراهيم يأمره بأخذ الجند بالتكبير إذا صلوأن فبدأ بذلك منتصف رمضان، فقاموا قيامأن وكبروا ثلاثأن ثم فعلوا ذلك في كل صلاة مكتوبة.
وفيها غضب المأمون على علي بن هاشم ووجه عجيفاً وأحمد بن هاشم، وأمر بقبض أمواله وسلاحه.
وفيها ماتت أم جعفر زبيدة أم الأمين ببغداد.
وفيها تقدم غسان بن عباد من السند، ومعه بشر بن داود، مستأمنأن وأصلح السند واستعمل عليها عمران بن موسى العتكي.
وفيها هرب جعفر بن داود القمي إلى قم وخلع الطاعة بهأن وحج بالناس، في قول بعضهم، سليمان بن عبد الله بن سليمان بن علي بن عبد الله ابن عباس؛ وقيل حج بهم عبد الله بن العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، رضي الله عنهم، وكان المأمون ولاه اليمن، وجعل إليه ولاية كل بلد يدخله، فسار من دمشق، فقدم بغداد فصلى بالناس يوم الفطر، وسار عنهأن فحج بالناس.
وفيها توفي أبومسهر عبد الأعلى بن مسهر الغساني بغداد، ومحمد ابن عباد بن عباد بن حبيب بن المهلب المهلبي، أمير البصرة هأن ويحيى ابن يعلي المحاربي، وإسماعيل بن جعفر بن سليمان بن علي.
حوادث سنة سبع عشرة ومائتين
في هذه السنة ظفر الأفشين بالفرما من أرض مصر، ونزل أهلها بأمان على حكم المأمون، ووصل المأمون إلى مصر في المحرم من هذه السنة، فأتي بعبدوس الفهري، فضرب عنقه، وعاد إلى الشام.(3/178)
وفيها قتل المأمون علي بن هشام، وكان سبب ذلك أن المأمون كان استعمله على أذربيجان وغيرهأن كما تقدم ذكره، فبلغه ظلمه، وأخذه الأموال، وقتله الرجال، فوجه إليه عجيف بن عنبسة، فثار به علي بن هشام، وأراد قتله وإلحاق ببابك، وظفر به عجيف، وقدم به على المأمون، فقتله، وقتل أخاه حبيباً في جمادى الأولى، وطيف برأس علي في العراق، وخراسان، والشام، ومصر، ثم ألقي في البحر.
وفيها عاد المأمون إلى بلاد الروم، فأناخ على لؤلؤة مائة يوم، ثم رحل عنهأن وترك عليها عجيفأن فخدعه أهلهأن وأسروه، فبقي عندهم ثمانية أيام، وأخرجوه، وجاء توفيل ملك الروم فأحاط بعجيف فيه، فبعث إليه الجنود، فارتحل توفيل قبل موافاتهم، وخرج أهل لؤلؤة إلى عجيف بأمان، وأرسل ملك الروم يطلب المهادنة فلم يتم ذلك.
وفيها سار المأمون إلى سلغوس.
وفيها بعث علي بن عيسى القمي إلى جعفر بن داود القمي، فقتل، وحج بالناس سليمان بن عبد الله بن سليمان بن علي.
وفيها توفي الحجاج بن المنهال بالبصرة، وسريج بن النعمان. سريج بالسين المهملة والجيم. وسعدان بن بشر الموصلي يروي عن الثوري.
وفيها توفي الخليل بن أبي رافع الموصلي، وكان عالماً عابدأن وأبوه جعفر بن محمد بن أبي يزيد الموصلي، وكان فاضلاً.


حوادث سنة ثماني عشرة ومائتين
ذكر المحنة بالقرآن المجيد - هل القرآن مخلوق؟

وفي هذه السنة كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم في امتحان القضاة والشهود والمحدثين بالقرآن، فمن أقر أنه مخلوق محدث خلي سبيله، ومن أبى أعلمه به ليأمره فيه برأيه؛ وطول كتابه بإقامة الدليل على خلق القرآن وترك الاستعانة بمن امتنع عن القول بذلك، وكان الكتاب في ربيع الأول، وأمره بإنفاذ سبعة نفر منهم: محمد بن سعد كاتب الواقدي، وأبومسلم مستملي يزيد بن هارون، ويحيى بن معين، وأبوخيثمة زهير بن حرب، وإسماعيل بن داود، وإسماعيل بن أبي مسعود، وأحمد بن الدورقي، فأشخصوا إليه، فسألهم، وامتنحهم عن القرآن، فأجابوا جميعاً: إن القرآن مخلوق، فأعادهم إلى بغداد، فأحضرهم إسحاق بن إبراهيم داره، وشهر قولهم بحضرة المشايخ من أهل الحديث، فأقروا بذلك، فخلى سبيلهم.
وورد كتاب المأمون بعد ذلك إلى إسحاق بن إبراهيم بامتحان القضاة والفقهاء، فأحضر إسحاق بن إبراهيم أبا حسان الزيادي، وبشر بن الوليد الكندي، وعلي بن أبي مقاتل، والفضل بن غامن، والذيال بن الهيثم، وسجادة، والقواريري، وأحمد بن حنبل، وقتيبة، وسعدويه الواسطي، وعلي ابن جعد، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وابن الهرش، وابن علية الأكبر، ويحيى بن عبد الرحمن العمري، وشيخاً آخر من ولد عمر بن الخطاب كان قاضي الرقة، وأبا نصر التمار، وأبا معمر القطيعي، وحمد بن حاتم ابن ميمون، ومحمد بن نوح المضروب، وابن الفرخان، وجماعة منهم: النضر بن شميل، وابن علي بن عاصم، وأبوالعوام البزار، وابن شجاع، وعبد الرحمن بن إسحاق، فأدخلوا جميعاً على إسحاق، فقرأ عليهم كتاب المأمون مرتين، حتى فهموه، ثم قال لبشر بن الوليد: مات تقول في القرآن؟ فقال: قد عرفت مقاتلي أمير المؤمنين غير مرة، قال: فقد تجدد من كتاب المؤمنين ما ترى؛ فقال: أقول القرآن كلام الله. قال: لم أسألك عن هذأن أمخلوق هو؟ قال: الله خالق كل شيء، قال: فالقرآن شيء؟ قال: نعم؛ قال: فمخلوق هو؟ قال: ليس بخالق. قال: ليس أسألك عن هذأن أمخلوق هو؟ قال: ما أحسن غير ما قلت لك، وقد استعهدت أمير المؤمنين ألا أتكلم فيه، وليس عندي غير ما قلت لك.
فأخذ إسحاق رقعة، فقرأها عليه، ووقفه عليهأن فقال: أشهد أن لا إله إلا الله أحداً فرداً لم يكن قبله شيء ولا بعده شيء ولا يشهه شيء من خلقه في معنى من المعاني، ووجه من الوجوه. قال: نعم؛ وقال للكاتب: أكتب ما قال.
ثم قال لعلي بن أبي مقاتل: ما تقول؟ قال: سمعت كلامي لأمير المؤمنين في هذا غير مرة، وما عندي غيره، فامتحنه بالرقعة، فأقر بما فيهأن ثم قال له: القرآن مخلوق؟ قال: القرآن كلام الله. قال: لم أسألك عن هذا قال: القرآن كلام الله، فإن أمرنا أمير المؤمنين بشيء سمعنا وأطعنا. فقال للكاتب: أكتب مقالته.
ثم قال للديال نحواً من مقالته لعلي بن أبي مقاتل، فقال مثل ذلك. (3/179)
ثم قال لأبي حسان الزيادي: ما عندك؟ قال: سل عما شئت؛ فقرأ عليه الرقعة، فأقر بما فيهأن ثم قال: ومن لم يقل هذا الول فهوكافر، فقال: القرآن مخلوق هو؟ قال: القرآن كلام الله، والله خالق كل شيء، وأمير المؤمنين أمامنأن وبه سمعنا عامة العلم، وقد سمع ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، وقد قلده الله أمرنأن فصار يقيم حجنأن وصلاتنأن ونؤدي إليه زكاة أموالنأن ونجاهد معه، ونرى إمامته فإن أمرنا ائتمرنا وإن نهانا انتهينا.
قال: فالقرآن مخلوق؟ فأعاد مقالته. قال إسحاق: فإن هذه مقالة أمير المؤمنين. قال: قد تكون مقالته ولا يأمر بها للناس، وإن خبرتني أن أمير المؤمنين أمرك أن أقول قلت ما أمرتني به. فإنك الثقة فيما أبلغتني عنه. قال: ما أمرني أن أبلغك شيئاً. قال أبوحسان: وما عندي إلا السمع والطاعة، فامرني أأتمر، قال: ما أمرني أن آمركم وإمنا أمرني أن أمتحنكم.
ثم قال لأحمد بن حنبل: ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله. قال: أمخلوق هو؟ قال: كلام الله ما أزيد عليهأن فامتحنه بما في الرقعة، لما أتى إلى ليس كمثله شيء قرأ: (وهوالسميع البصير) الشورى: 11، وأمسك عن: ولا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني ولا وجه من الوجوه، فاعترض عليه ابن البكاء الأصغر فقال: أصلحك الله! إنه يقول: سميع من أذن وبصير من عين، فقال إسحاق لأحمد: ما معنى قولك: سميع بصير؟ قال: هوكما وصف نفسه. قال: فما معناه؟ قال: لا أدري أهوكما وصف نفسه.
ثم دعا بهم رجلاً رجلاً كلهم يقول القرآن كلام الله إلا قتيبة وعبيد الله بن محمد بن الحسن وابن علية الأكبر وابن البكاء وعبد المنعم بن إدريس ابن بنت، ووهب بن منبه، والمظفر بن مرجي، ورجلاً من ولد عمر بن الخطاب قاضي الرقة، وابن الأحمر، فأما ابن البكاء الأكبر فإنه قال: القرآن مجعول لقول الله، عز وجل: (إنا جعلناه قرآناً عربياً) الزخرف: 3 والقرآن محدث لقوله تعالى: (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث) الأنبياء: 2.
قال إسحاق: فالمجعول مخلوق، قال: نعم. قال: والقرآن مخلوق؟ قال: لا أقول مخلوق، ولكنه مجعول، فكتب مقالته، ومقالات القوم رجلاً رجلأن ووجهت إلى المأمون، فأجاب المأمون يذمهم، ويذكر كلاً منهم، ويعيبه ويقع فيه بشيء، وأمره أن يحضر بشر بن الوليد وإبراهيم بن المهدي ويمتحنهمأن فإن أجابأن وإلا فاضرب أعناقهمأن وأما من سواهمأن فإن أجاب إلى القول بخلق القرآن، وإلا حملهم موثقين بالحديد إلى عسكره مع نفر يحفظونهم.
فأحضرهم إسحاق، وأعلمهم بما أمر به المأمون، فأجاب القوم أجمعون إلا أربعة نفر، وهم أحمد بن حنبل، وسجادة، والقواريري، ومحمد ابن نوح المضروب، فأمر بهم إسحاق فشدوا في الحديد، فلما كان الغد دعاهم في الحديد، فأعاد عليهم المحنة، فأجابه سجادة والقواريري فأطلقهما وأصر أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح على قولهمأن فشدا في الحديد، ووجها إلى طرسوس، وكتب إلى المأمون بتأويل القوم فيما أجابوا إليه، فأجابه المأمون: إنني بلغني عن بشر بن الوليد بتأويل الآية التي أنزلها الله تعالى في عمار بن ياسر: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) النحل: 106، وقد أخطأ التأويل إنما عنى الله سبحانه وتعالى هذه الآية من كان معتقداً للإيمان، مطهراً للشرك، فأما من كان معتقداً للشرك، مظهراً للإيمان، فليس هذا له.
فأشخصهم جميعاً إلى طرسوس ليقيموا بها إلى أن يخرج أمير المؤمنين من بلاد الروم، فأحضرهم إسحاق، وسيرهم جميعاً إلى العسكر، وهم: أبوحسان الزيادي، وبشر بن الوليد، والفضل بن غامن، وعلي بن مقاتل، والذيال بن الهيثم، ويحيى بن عبد الرحمن العمري، وعلي بن الجعد، وأبوالعوام، وسجادة، والقواريري، وابن الحسن بن علي بن عاصم، وإسحاق بن أبي إسرائيل، والنصر بن شميل، وأبونصر التمار، وسعدويه الواسطي، ومحمد بن حاتم بن ميمون، وأبومعمر بن الهرش، وابن الفرخان، وأحمد بن شجاع، وأبوهارون بن البكاء، فلما صاروا إلى الرقة بلغهم موت المأمون فرجعوا إلى بغداد.
ذكر مرض المأمون ووصيته
وفي هذه السنة مرض المأمون مرضه الذي مات فيه لثلاث عشرة خلت من جمادى الآخرة. (3/180)
وكان سبب مرضه ا ذكره سعد بن العلاف القارئ قال: دعاني المأمون يومأن فوجدته جالساً على جانب البذندون، والمعتصم عن يمنينه، وهما قد دليا أرجلهما في الماء، فأمرني أن أضع رجلي في الماء، وقال: ذقه! فهل رأيت أعذب منه، أوأصفى صفاء، أوأشد برداً؟ ففعلت، وقلت: يا أمير المؤمنين! ما رأيت مثله قط، فقال: أي شيء يطيب أن يؤكل ويشرب عليه هذا الماء؟ فقلت: أمير المؤمنين أعلم؛ فقال: الرطب الأزاذ.
فبيمنا هويقول هذا إذ سمع وقع لجم البريد، فالتفت، فإذا بغال البريد عليها الحقائب فيها الألطاف، فقال لخادم له: انظر إن كان في هذه الألطاف رطب أزاذ فأت به! فمضى، ومعه سلتان فيهما آزاذ كأمنا جني تلك الساعة، فاظهر شكراً لله تعالى، وتعجبنا جميعأن وأكلنأن وشربنا من ذلك الماء، فما قام أحد منا إلا وهومحموم، وكانت منية المأمون من تلك العلة، ولم يزل المعتصم مريضاً حتى دخل العراق، وبقيت أنا مريضاً مدة.
فلما مرض المأمون أمر أن يكتب إلى البلاد الكتب من عبد الله المأمون أمير المؤمنين، وأخيه الخليفة من بعده أبي إسحاق بن هارون الرشيد؛ وأوصى إلى المعتصم بحضرة ابنه العباس، وبحضرة الفقهاء، والقضاة، والقواد، وكانت وصيته، بعد الشهادة، والإقرار بالوحدانية، والبعث، والجنة، والصلاة على النبي، صلى الله عليه وسلم، والأنبياء: إني مقر مذنب، أرجو، وأخاف إلا أني إذا ذكرت عفوالله رجوت، وإذا مت فوهوني، وغمضوني، وأسبغوا وضوئي وطهوري، وأجيدوا كفني، ثم أكثروا حمد الله على الإسلام، ومعرفة حقه عليكم في محمد، صلى الله عليه وسلم، إذ جعلنا من أمته المرحومة، ثم أضجعوني على سريري، ثم عجلوا بي، وليصل علي أقربكم نسباً وأكبركم سنأن وليكبر خمسأن ثم احملوني، وابلغوا بي حفرتي، ولينزل بي أقربكم قرابة، وأودكم محبة.
وأكثروا من حمد الله وذكره، ثم ضعوني على شقي الأيمن، واستقبلوا بي القبلة، ثم حلوا كفني عن رأسي ورجلي، ثم سدوا الحد باللبن، وأحثوا تراباً عليّ واخرجوا عني، وخلوني وعملي، وكلكم لا يغني عني شيئأن ولا يدفع عني مكروهأن ثم قفوا بأجمعكم، فقولوا خيراً إن علمتم، وأمسكوا عن ذكر شر إن كنتم عرفتم، فإني مأخوذ من بينكم بما تقولون، ولا تدعوا باكية عندي فإن المعول عليه يعذب، رحم الله عبداً اتعظ، وفكر فيما حتم الله على خلقه من الفناء، وقضى عليهم من الموت الذي لا بد منه، فالحمد لله الذي توحد بالبقاء، وقضى على جميع خلقه الفناء.
ثم لينظر فيه ما كنت من عز الخلافة، هل عني ذلك شيئاً إذ جاء أمر الله؟ لا والله، ولكن أضعف علي به الحساب، قيا ليت عبد الله بن هارون لم يكن بشرأن بل ليته لم يكن خلقاً.
يا أبا إسحاق ادن منين واتعظ بما ترى، وخذ بسيرة أخيك في القرآن والإسلام، واعمل في الخلافة، إذا طوقكها الله، عمل المريد لله الخائف من عقابه وعذابه، ولا تغتر بالله ومهلته وكأن قد نزل بك الموت، ولا تغفل أمر الرعية والعوام، فإن الملك بهم ويتعهدك لهم، الله الله فيهم، وفي غيرهم من المسلمين، ولا ينتهين إليك أمر فيه صلاح للمسلمين ومنفعة إلا قدمته، وآثرته على غيره من هواك.
وخذ من أقويائهم لضعفائهم، ولا تحمل عليهم في شيء، وأنصف بعضهم من بعض بالحق بينهم، وقربهم، وتأن بهم، وعجل الرحلة عني، والقدوم إلى دار ملكك بالعراق، وأنظر هؤلاء القوم الذين أنت بساحتهم، فلا تغفل عنهم في كل وقت، والخرمية فأغرهم ذا حزامة، وصرامة وجلد، وأمنه بالأموال والجنود، فإن طالت مدتهم فتجرد لهم بمن معك من أنصارك وأوليائك، واعمل في ذلك عمل مقدم النية فيه، راجياً ثواب الله عليه.(3/181)
ثم دعا المعتصم، بعد ساعة، حين اشتد الوجع، وأحس بمجيء أمر الله، فقال: يا أبا إسحاق! عليك عهد الله وميثاقه، وذمة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لتقومن بحق الله في عباده، ولتؤثرن طاعة الله على معصيته، إذ أنا نقلتها من غيرك إليك، قال: اللهم نعم! قال: هؤلاء بن عمك من ولد أمير المؤمنين علي، لوات الله عليه، فأحسن صحبتهم، وتجاوز عن مسيئهم، واقبل من محسبنهم، ولا تغفل صلاتهم في كل سنة عند محلهأن فغن حقوقهم تجب من وجوه شتى، اتقوا الله ربكم حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، اتقوا الله، واعملوا له، اتقوا الله في أموركم كلهأن أستودعكم الله ونفسي، وأستغفر الله ما سلف مني إنه كان غفاراً فإنه ليعلم كيف ندمي على ذنوبي، فعليه توكلت من عظيمهأن وإليه أنيب، ولا قوة إلا بالله، حسبي الله ونعم الوكيل. وصلى الله على محمد نبي الهدى والرحمة.
ذكر وفاة المأمون وعمره وصفته
وفي هذه السنة توفي المأمون لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب، فلما اشتد مرضه، وحضره الموت، كان عنده من يلقنه، فعرض عليه الشهادة، وعنده ابن ماسويه الطبيب، فقال لذلك الرجل: دعه، فإنه لا يفرق في هذه الحال بين ربه وماني؛ ففتح المأمون عينيه، وأراد أن يبطش به، فعجز عن ذلك، وأراد الكلام، فعجز عنه، ثم إنه تكلم فقال: يا من لا يموت ارحم من يموت، ثم توفي من ساعته.
ولما توفي حمله ابنه العباس، وأخوه المعتصم إلى طرسوس، فدفناه بدار خاقان خادم الرشيد، وصلى عليه المعتصم ووكلوا به حرساً من أبناء أهل طرسوس، وغيرهم، مائة رجل، وأجري على كل رجل منهم تسعون درهماً.
وكانت خلافته عشرين سنة وخمسة أشهر وثلاثة وعشرين يوماً ، سمى سنين كان دعي له فيها بمكة، وأخوه الأمين محصور ببغداد، وكان مولده للنصف من ربيع الأول سنة سبعين ومائة، وكانت كنيته أبا العباس، وكان ربعة، أبيض، جميلأن طويل اللحية رقيقهأن قد وخطها الشيب؛ وقيل كان أسمر تعلوه صفرة، أجنى، أعين، ضيق البلجة، بخده خال أسود.
ذكر بعض سيرته وأخباره
وقال محمد بن صالح السرخسي: تعرض رجل للمأمون، بالشام مرارأن وقال: يا أمير المؤمنين! انظر لعرب الشام كما نظرت لعجم خراسان! فقال له: أكثرت عليّ؛ والله ما أنزلت قيساً من ظهور خيولها إلا وأنا أرى أنه لم يبق في بيت مالي درهم واحد، يعني فتنة ابن شبث العامري؛ وأما اليمن فوالله ما أحببتهأن ولا أحبتني قط؛ وأما قضاعة فساداتها تنتظر السفياني، حتى تكون من أشياعه، وأما ربيعة فساخطة على ربها مذ بعث الله نبيه من مضر، ولم يخرج اثنان إلا وخرج أحدهما شارياً، أعزب فعل الله بك.
وذكر سعيد بن زياد أنه لما دخل على المأمون بدمشق قال له: أرني الكتاب الذي كتبه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: فأريته، قال فقال: إني لأشتهي أن أدري ايش هذا الغشاء على هذا الخاتم؟ قال: فقال له المعتصم: حل العقد حتى تدري ما هو! وقال: ما أشك أن النبي، صلى الله عليه وسلم، عقد هذا العقد، وما كنت لأحل عقدة عقدها رسول الله، صلى اله عليه وسلم، ثم قال للواثق: خذه وضعه على عينيك، لعل الله أن يشفيك! وجعل المأمون يضعه على عينيه ويبكي.
وقال العيشي صاحب إسحاق بن إبراهيم: كنت مع المأمون بدمشق، وكان قد قل المال عنده، حتى أضاق، وشكا ذلك إلى المعتصم، فقال له: يا أمير المؤمنين! كأنك بالمال وقد وافاك بعد جمعه، وكان قد حمل إليه ثلاثون ألف ألف درهم من خراج ما يتولاه له، فلما ورد عليه المال قال المأمون ليحيى بن أكثم: اخرج بنا ننظر هذا المال، فخرجا ينظرانه، وكان قد هيئ بأحسن هيئة، وحليت أباعره، فنظر المأمون إلى شيء حسن، واستكثر ذلك واستبشر به، والناس ينظرون ويعجبون، فقال المأمون: يا أبا محمد، ننصرف بالمال، وأصحابنا يرجعون خائبين، إن هذا للؤم! ثم دعا محمد بن يزداد، فقال له: وقع لآل فلان بألف ألف، ولآل فلان بمثلهأن ولآل فلان بمثلهأن فما زال كذلك حتى فرق أربعة وعشرين ألف ألف، ورجله في الركاب، ثم قال: ادفع الباقي إلى المعلي يعطيه جندنا.
قال العيشي: فقمت نصب عينيه أنظر إليهمأن فلما رآني كذلك قال: وقع لهذا بخمسين ألفاً ، فقبضتها.(3/182)
وذكر عن محمد بن أيوب بن جعفر بن سليمان أنه كان بالبصرة رجل من بني تميم بن سعد، وكان شاعراً ظريفاً خبيثاً منكرأن وكنت آنس به، واستحليه، فقالت له: أنت شاعر وأنت ظريف، والمأمون أجود من السحاب الحافل، فما يمنعك منه؟ فقال: ما عندي ما يحملني. فقلت: أنا أعطيك راحلة ونفقة، فأعطيته راحلة نجيبة، وثلاثمائة درهم، فعمل أرجوزة ليست بالطويلة، ثم سار إلى المأمون.
قال: فجئت إليه وهوبسلغوس، قال: فلبست ثيابي، وأنا أروم بالعسكر، وإذا بكهل على بغل فاره، فتلقاني مواجهة، وأنا أردد نشيد أرجوزتي، فقال: السلام عليك. فقلت: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته، قال: قف، إن شئت! فوقفت فتضوعت منه رائحة المسك والعنبر، فقال: ما أولك؟ قلت: رجل من مضر. قال: ونحن من مضر، ثم قال: ماذا؟ قلت: من بني تميم، قال: وما بعد تميم؟ قلت: من بني سعد، قال: وما أقدمك؟ قلت: قصدت هذا الملك الذي ما سمعت بمثله أندى رائحة، ولا أوسع راحة، قال: فما الذي قصدته به؟ قلت: شعر طيب يلذ على الأفواه ويحلوفي آذان السامعين، قال: فأنشدنيه! فغضبت: وقلت: يا ركيك، أخبرتك أني قصدت الخليفة بمديح تقول: أنشدنيه؟ فتغافل عنها وألغى عن جوابهأن فقال: فما الذي تأمل منه؟ قلت: إن كان على ما ذكر لي، فألف دينار، قال: أنا أعطيك ألف دينار، إن رأيت الشعر جيدأن والكلام عذبأن وأضع عنك العناء، وطول الترداد حتى تصل إلى الخليفة، وبينك عشرة آلاف رامح ونابل، قلت: فلي عليك الله أن تفعل! قال: نعم، لك الله علي أن أفعل، فأنشدته:
مأمون يا ذا المنزلة الشريفة ... وصاحب المرتبة المنيفة
وقائد الكتيبة الكثيفة ... هل لك في أرجوزة ظريفه
أظرف من فقه أبي حنيفة ... لا والذي أنت له خليفة
ما ظلمت في أرضنا ضعيفه ... أميرنا مؤنته خفيفه
وما اجتبى سوى الوظيفه ... فالذئب والنعجة في سقيفه
واللص والتاجر في قطيفه قال: فوالله ما عدا أن بلغت ها هنأن فإذا زهاء عشرة آلاف فارس، قد سدوا الأفق، يقولون: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. قال: فأخذتني رعدة، فنظر إلي بتلك الحال، فقال: لا بأس عليك أي أخي، قلت: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك، من جعل الكاف مكان القاف من العرب؟ قال: جمير؛ قلت: لعن الله حمير، ولعن من استعمل هذه اللغة بعد اليوم.
وضحك المأمون، وقال لخادم معه: أعطه ما معك، فأخرج كيساً فيه ثلاثة آلاف دينار، فأخذتها ومضيت.
ومعنى سؤاله عن وضع الكاف موضع القاف أنه أراد أن يقول يا رقيق، فقال: يا ركيك.
وقال عمارة بن عقيل: أنشدت المأمون قصيدة مائة بيت، فأبتدئ بصدر البيت، فيبادرني إلى قافيته كما قفيته، قلت: والله، يا أمير المؤمنين، ما سمعها مني أحد قط؛ فقال: هكذا ينبغي أن يكون، ثم قال لي: أما أبلغك أن عمر بن أبي ربيعة أنشد عبد الله بن عباس قصيدته التي يقول فيها: يشط عداذاً وجيراننا، فقال ابن عباس: وللدار بعد غد أبعد حتى انشده القصيدة يقفيها ابن عباس، ثم قال: أنا ابن ذاك. وذكر أن المأمون قال:
بعثتك مرتاداً ففزت بنظرة ... وأغفلتني حتى أسأت بك الظنا
فناجيت من أهوى وكنت مباعداً ... فيا ليت شعري عن دنوك ما أغنى
أرى أثراً منه بعينيك بيناً ... لقد أخذت عيناك من عينه حسنا
قيل: وإمنا أخذ المأمون هذا المعنى من العباس بن الأحنف، فإنه أخرج هذا المعنى، فقال:
إن تشق عيني بها فقد سعدت ... عين رسولي وفزت بالخبر
وكلما جاءني الرسول لها ... رددت عمداً في عينه نظري
خذ مقلتي يا رسول عارية ... فانظر بها واحتكم على بصري(3/183)
قيل: وشكا اليزيدي يوماً إلى المأمون ديناً لحقه، فقال: ما عندي في هذه الأيام ما إن أعطيناك بلغت به ما تريد، فقال: يا أمير المؤمنين، إن غرمائي قد أرهقوني؛ قال: انظر لنفسك أمراً تنال به نفعأن قال: إن لك ندماء، فيهم من حركته نلت به نفعاً. قال: أفعل، قال: إذا حضروا عندك فمر فلاناً الخادم يوصل رقعتي إليك، فإذا قرأتها فأرسل إلي: دخولك في هذا الوقت متعذر، ولكن اختر لنفسك من أحببت؛ قال: أفعل، فلما علم اليزيدي جلوس المأمون مع ندمائه، وتيقن أنهم قد أخذ الشراب منهم، أتى الباب، فدخل، فدفع إلى الخادم رقعته، فإذا فيها:
يا خير إخواني وأصحابي! ... هذا الطفيلي على الباب
خبر أن القوم في لذة ... يصبوإليها كل أواب
فصيروني واحداً منكم ... أواخرجوا لي بعض أترابي
فقرأها المأمون عليهم، وقالوا: ما ينبغي أن يدخل علينا على مثل هذه الحال، فأرسل إليه المأمون: دخولك في هذا الوقت متعذر، فاختر لنفسك من أحببت! فقال: ما أريد إلا عبد الله بن طاهر، فقال له المأمون: قد اختارك فصر إليه! قال: يا أمير المؤمنين، وأكون شريك الطفيلي؟ فقال: ما يمكن رد أبي محمد عن أمرين، فإن أحببت أن تخرج إليه، وإلا فافتد نفسك منه! فقال: علي عشرة آلاف، قال: لا يقنعه، فما زال يزيد عشرة عشرة، والمأمون يقول لا يقنعه، حتى بلغ مائة ألف، فقال له المأمون: فعجله، فكتب بها إلى وكيله، ووجه معه رسولأن وأرسل إلي المأمون: قبض هذه الدراهم في هذه الساعة أصلح من منادمته، وأنفع لك.
وقال عمارة بن عقيل: قال لي عبد اله بن أبي السمط: أعلمت أن المأمون لا يبصر الشعر؟ قلت: ومن يكون أعلم منه؟ فوالله إنا لننشده أول البيت فيسبقنا إلى آخره. قال: إني أنشدته بيتاً أجدت فيه، فلم يتحرك له، قلت: وما هو؟ قال:
أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلاً ... بالدين والناس بالدنيا مشاغيل
قال فقلت: والله ما صنعت شيئأن وهل زدت على أن جعلته عجوزاً في محرابهأن فمن الذي يقوم بأمر الدنيأن إذا تشاغل عنهأن وهوالمطوق بها؟ هلا قلت كما قال جدي جرير في عبد العزيز بن الوليد:
فلا هوفي الدنيا يضيع نصيبه ... ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله
فقال: الآن علمت أني قد أخطأت. قال أبوالعباس أحمد بن عبد الله ابن عمار: كان المأمون شديد الميل إلى العلويين والإحسان إليهم، وخبره مشهور معهم، وكان يفعل ذلك طبعاً لا تكلفأن فمن ذلك أنه توفي في أيامه يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين العلوي، فحضر الصلاة عليه بنفسه، ورأى الناس عليه من الحزن والكآبة ما تعجبوا منه، ثم إن ولداً لزينب بنت سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، وهي ابنة عم المنصور، توفي بعده، فأرسل له المأمون كفنأن وسيره صالحاً ليصلي عليه، ويعزي أمه، فإنها كانت عند العباسيين بمنزلة عظيمة، فأتاهأن وعزاها عنه، واعتذر عن تخلفه عن الصلاة عليه، فظهر غضبهأن وقالت لابن ابنها: تقدم فصل علي أبيك، وتمثلت:
سبكناه ونحسبه لجيناً ... فأبدى الكير عن خبث الحديد
ثم قالت لصالح: قل له، يابن مراجل: أما لوكان يحيى بن الحسين ابن زيد لوضعت ذيلك على فيك وعدوت خلف جنازته.
ذكر خلافة المعتصم
هوأبوإسحاق محمد بن هارون الرشيد، بويع له بالخلافة بعد موت المأمون، ولما بويع له شغب الجند، ونادوا باسم العباس بن المأمون، فأرسل إليه المعتصم، فأحضره، فبايعه، ثم خرج إلى الجند، فقال: ما هذا الحب البارد؟ قد بايعت عمي، فسكتوأن وأمر المعتصم بخراب ما كان المأمون أمر ببنائه من طوانة مما نذكره في عدة حوادث، وحمل ما أطاق من السلاح والآلة التي بهأن وأحرق الباقي، وأعاد الناس الذين بها إلى البلاد التي لهم، وانصرف إلى بغداد، ومعه العباس بن المأمون، فقدمها مستهل شهر رمضان.
ذكر خلاف فضل على زيادة الله(3/184)
وفي هذه السنة وجه زيادة الله بن الأغلب، صاحب إفريقية، جيشاً لمحاربة فضل بن أبي العنبر بالجزيرة، وكان مخالفاً لزيادة الله، فاستمد فضل بعد السلام بن المفرج الربعي، وكان أيضاً مخالفاً من عهد منصور، كما ذكرنأن فسار إليه، فالتقوا مع عسكر زيادة الله، وجرى بين الطائفتين قتال شديد عند مدينة اليهود بالجزيرة، فقتل عبد السلام، وحمل رأسه إلى زيادة الله.
وسار فضل بن أبي العنبر إلى مدينة تونس، فدخلهأن وامتنع بهأن فسير زيادة الله إليه جيشأن فحصروا فضلاً بهأن وضيقوا عليه حتى فتحوها منه، وقتل وقت دخول العسكر كثير من أهلهأن منهم: عباس بن الوليد، الفقيه، وكان دخل في بيته لم يقاتل، فدخل عليه بعض الجند، فأخذ سيفه وخرج وهويصيح: الجهاد، فقتل، وبقي ملقى في خربة سبعة أيام لم يقربه ذوناب ولا مخلب، وكان قد سمع الحديث من ابن عيينة وغيره، وكان من الصالحين، وهرب كثير من أهل تونس لما ملكت، ثم آمنهم زيادة الله، فعادوا إليها.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة عاد المأمون إلى سلغوس، ووجه ابنه العباس إلى طوانة، وأمره ببنائهأن وكان قد وجه الفعلة، فابتدأوا في بنائها ميلاً بعد ميل، وجعل سورها على ثلاثة فراسخ، وجعل لها أربعة أبواب، وجعل على كل باب حصنأن وكتب إلى البلدان ليفرضوا على كل بلد جماعة ينتقلون إلى طوانة، وأجرى لهم لكل فارس مائة درهم، ولكل راجل أربعين درهم.
وفيها توفي بشر بن غياث المريسي، وكان يقول بخلق القرآن والإرجاء وغيرهما من البدع.
وفيها دخل كثير من أهل الجبال، وهمذان، وأصبهان، وماسبذان، وغيرهأن في دين الخرمية، وتجمعوأن فعسكروا في عمل همذان، فوجه إليهم المعتصم العساكر، وكان فيهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، وعقد له على الجبال في شوال، فسار إليهم، فأوقع بهم في أعمال همذان، فقتل منهم ستين ألفأن وهرب الباقون إلى بلد الروم، وقرئ كتابه بالفتح يوم التروية، وحج بالناس هذه السنة صالح بن العباس بن محمد.

This site was last updated 07/08/11