وطنى 3/6/2007م السنة 49 العدد 2371 عن مقالة بعنوان " قصة تنصيب تمثال نهضة مصر في ميدان باب الحديد " عماد نصيف:
كان والده الشيخ إبراهيم العيسوي عمدة طنبارة وأمه نبوية البدراوي..إحدي بنات البدراوي أبو أحمد من المحلة الكبري,وفي 10 مايو 1891 أنجب الشيخ إبراهيم العيسوي طفلا أسماه محمود مختار بقدر ما أفرحه مولده بقدر ما أثار إخوته الآخرين فقد رأوا فيه منافسا جديدا يقاسمهم ثروة أبيهم.
وكان محمود مختار يستمع إلي قصة أجداده فبعث هذا الجو فكرة البطولة لديه, وبدلا من أن يمضي الوقت مع الأطفال يقيم بطولة خيالية كان يقضي ساعات يومه علي ضفة الترعة يصنع من طينها الخيول والفرسان والجمال,وكان يهتم أن يتقن تصوير مايسمعه أكثر من أن يصور الأساطير واتجه إلي المشاهد المحيطة بحياته يصور منها الفلاحات,ويصنع التماثيل الساخرة للحلاق والشحاذ والعبيط وغيرها وظل يتابع هوايته إلي أن قامت بينه وبين صبيان البيت مشاجرة قرر علي أثرها أن يذهب إلي القاهرة ليبدأ طريقه ويمضي في الحياة.
وفي حوش الشرقاوي بدأ ميلاده الثاني وفيه قضي محمود مختار أيامه الأولي بمدرسةبمجاورةأتم فيها تعلم القراءة والكتابة..إلي أن تم إنشاء مدرسة الفنون الجميلة بدرب الجماميز فولدت الفكرة في نفسه في هذه الليلة,وذهب يطرق بابها والتحق بالمدرسة,واستطاعوا أساتذة المدرسة لا بلاني وفور شيللا وبيررون أن يلتقطوا أشعة المواهب التائهة من هذه القلة النادرة الملتحقة بالمدرسة مثل محمود مختار ويوسف كامل وراغب عياد. ولم تمض ستة شهور حتي تأكد أستاذه من مقدرته بجلاء حين نقل تمثال دوسكوبل في ساعات قليلة وأعد نموذجا من تمثال فينوس ميلو دون معونة.حتي خشي أساتذته أن يسيئوا ميله الطبيعي فعزلوه في معمل خاص ظل فيه 4 سنوات ثم قدمه في نهايتها المسيو لابلاني ناظر المدرسة إلي الأمير يوسف كمال كثمرة لمجهوده العظيم فتفضل وأرسله إلي باريس ليتخصص في الفن..وكان موقف أهله من ذلك باعتباره مفاجأة قاسية فأخيه الأكبر الذي أستأثر وحده بالجانب الأكبر من ثروة أبيه يتدخل في هذا الوقت لأنه لايتصور أن أخا له يحمل نفس لقبه يصيرنقاشا!!أو مبيضا!! وهو يدعوه ليشتغل في أملاكه بدلا من أن يتابع هذه الدراسة الضائعة.
في باريس كان أول الوافدين ووضعه المثال الواسع الصيت المسيو كوطاجانصاحب تمثال الحرية بنيويورك تحت إشرافه وفي امتحان القبول تقدم أكثر من مائة طالب ففاز عليهم جميعا فكان حدثا مهما في المدرسة إذ تغلب علي مجموعة تمثل شباب أغلب بلاد العالم الذي قدم لدراسة الفن في باريس..
وكان علي تواصل مع أسرته وأساتذته في القاهرة فكتب له لابلانيناظر مدرسة الفنون بدرب الجماميز قائلا:إن لك دورا مهما ستقوم به نحو بلادك..وبفضل المسيو كوطاجان ومساعدته لتخريج نبوغه تقدم مختار في دراسته وأراد أن يحقق رغبته ونبوغه في بعض أعماله في المعرض السنوي للفنانين الفرنسيين والذي أراد من خلاله أن يعرض نفسه علي النقاد والجماهير وبالفعل أتيح له أن يعرض تمثالعايدةالذي نحته من وحي أوبرافردي والذي ظل يحلم بعرضه في هذا المعرض وتحقق له ما أراد وأثنت عليه الصحف والنقاد لأول أثر فني مصري يطرق أبواب معارضهم واكتسب مختار صيتا واسعا في باريس فأسندت إليه رئاسةمتحف جريفانوبذلك تغلب علي مثالي فرنسا وكان يكسب ربحا وفيرا..وفي فرنسا التقي طه حسين ومصطفي عبد الرازق ,ومحمد صبري,وأحمد ضيف,ومختار..تسودهم روح ورسالة واحدة توجههم لخدمة بلادهم.
في عام 1917 وفي لحظة من لحظات الإلهام أراد مختارأن ينحت تمثالا لمصر الثائرة وهي تتأهب للمعركة وتتهيأ لنضال المستعمرين.. رمزا يعبر عن هذه اليقظة التي شملت بلاده وانبعثت منها ثورة الفكر وثورة التحرر والاستقلال فبدت له فكرة هذا الرمز فيأبو الهول والفلاحة المصرية فأبو الهول رمز للحضارة القديمة التي دفنت تحت رمال الزمن وانبعاثه اليوم وتوثبه هو رمز لعودة الروح وانبعاث المجد وأما الفلاحة فإنها أم هذه الأجيال التي أقامت حضارة مصر سيقيمها إلي جانبه معتمدة عليه في زهو وبيدها الأخري تزيح القناع الذي حجبها عن ركب الحضارة أجيالا متعاقبة..هذه هي الصورة التي أشرقت في خياله وعكف عليها يبرز عناصرها ويصقلها..ولذا ترك رئاسة معهدجريفانليتفرغ لقطعة مصرية تغلغلت فكرتها عامين كاملين وضعها علي الورق ثم صورها صغيرة ثم كبرها حتي استقر قراره أن يكون حجمها هكذا.
وأعانته جماعة الطلبة المصريين التي كانت تدعو للقضية المصرية في باريس علي نحت تمثال من الرخام وقدمت له المال اللازم إذ رأت أن عرض هذا التمثال في أكبر معارض فرنسا هو خير دعاية للبلاد.. وكانالوفدقد أقام في باريس للدعوة لقضية مصر ودعته الجماعة المصرية إلي حفل تكريم قدمت فيه مختاروعرفتهم بجهوده وشهد رجال الوفد أعماله الفنية بمتحف جريفانوتمثاله الذي سيقدمه في المعرض الفني ولمسوا تقدير الهيئات الفنية في فرنسا له فأدركوا أن هذا الشاب المجهول هو من دواعي فخرهم وأنه يجب أن يحتل مكانه اللائق في بلاده ويعود بعض رجال الوفد إلي مصر وفي عزمهم أن يقدموه إلي الوطن ولكنهم يرتقبون أنباء عرض تمثاله في المعرض الفني العام وقبل افتتاح المعرض بأيام نشر أحد أعضاء الجماعة المصرية مقالات متتابعة عن محمود مختار والنهضة الفنية في مصر فانتهز الدكتور حافظ عفيفي عضو الوفد المصري هذه المناسبة ووجه علي صفحات الأخبار نداء يدعو فيه الأمة إلي الاكتتاب لإقامة تمثال نهضتها وتتوافد بعد هذا علي البلاد أنباء قبول التمثال في المعرض وأنباء تقدير رجال الفن له.
وأشادت الصحف الفرنسية بالتمثال وخاصة ما جاء منالمجلةالحديثة للفنون والتي كانت تملأ المصريين زهوا حين تنقلها إليهم صحفهم:قدم رجل مصري من أهل الفنمحمود مختارتمثالا بهذا الاسم نهضة مصرإلي معرض الفنيين الفرنسيين ولايجوز الاكتفاء باعتبار هذا التمثال مظهرا بديعا من مظاهر الفن وإنما هو في الحقيقة الرمز المتوقع لأماني أمة تريد أن تسترد في العالم ذلك المكان الرفيع الذي يؤهلها له تاريخها المجيد.
ووجد هذا صداه بين المصريين فانطلق اسمه سريعا بين الجماهير واعتبروه بطلا من أبطالهم وبهرهم نبوغه فعدوه معجزة النهضة وأسموهالنابغة.
وبدأت حركة الاكتتاب فافتتحه الأمير عمر طوسون بمبلغ 500 جنيه مصري ثم الأمير يوسف كمال 500 جنيه مصري أخري وهكذا صار الاكتتاب في طريق النجاح وتألفت لجنة من خيرة رجال مصر لإقامة التمثال في مصر وتكونت من حسين رشدي باشا رئيسا وعضوية عبد الخالق ثروت باشا,وواصف غالي باشا,وحافظ عفيفي بك,وأمين الرافعي بك,وويصا واصف بك,والمسيوبيس ناظر مدرسة الفنون الجميلة وغيرهم ..وحددت اللجنة مبلغ الاكتتاب 8 آلاف جنيه مصري.
وبدأت جموع العمال والباعة الجائلين يتبرعون في حماس ويقدمون ما يملكون ونساء فقيرات يدخرن قوت اليوم ليساهمن في إقامة التمثال والبعض يقترضن حتي لايفوته شرف الاشتراك..ومتسولون يقضون حياتهم علي الأرصفة يتبرعون بما يجمعون لإقامة التمثال وأخذت اللجنة تبحث وسائل إقامة التمثال واتجه التفكير إلي مادة البرونز غير أن مختار رأي أن ينحت التمثال من الجرانيت الحجر الذي أقام منه المصريون القدماء آثارهم حتي يكتمل الرمز لمعني البعث والنهضة..
وغادر مختار إلي أسوان للبدء في عملية نحت التمثال في فبراير 1920 لاقتطاع الأحجار الجرانيت الصالحة للنحت ..وبعد أن نفد المبلغ الذي اجتمع من الاكتتاب القومي وقيمته 6500 جنيه تتابعت مساهمة الحكومة فخصصت مصلحة السكك الحديدية اعتمادا في ميزانيتها لنقل الأحجار ثم وضعت وزارة ثروت باشا مبدأ اشتراك الحكومة في نفقات إقامة التمثال إذ خصصت مبلغ 3000 جنيه لهذا الغرض وحدث بعض التوقف في التمثال نتيجة نفاد الاعتماد الحكومي فوقف ويصا واصفأمام البرلمان يدافع عن تمثال النهضة ويدعو الحكومة إلي تخصيص الاعتماد اللازم لإقامته واستجاب سعد زغلول وكان علي رأس الوزارة ورأي أن حكومة النهضة لابد أن تتكفل بتمثالها وبدأ عثمان محرم يدرس المشروع ويحدد الأرقام ومالبث البرلمان أن أقر الاعتماد.
ورغم المضايقات التي لقاها مختار من وزارة الأشغال التي انتقل أمر التمثال إليها إلا أنه في صيف 1927تم الاتفاق بينه وبين وزارة الأشغال علي إنهاء الأثر وتسليمه في سبتمبر 1928م إلا أن الجهد الذي بذله أمكنه من تنفيذ تعهده قبل الميعاد المحدد بستة أشهر..وكانت ساحة التمثال تحظي بزيارات من سعد زغلول وعدلي ورشدي وثروت مع أهم رجال وشخصيات الدولة وهم جميعا يقدرون عمله ويعجبون بحماسه,وهذه صحف العالم تتناقل أنباء هذه الزيارات وتنشر صور التمثال وتتحدث عن الحركة المصرية الناشئة وفي ذلك عزاء لمختارعما لقاه في بعض مراحل الطريق من تعنت.
يذكر عن سعد زغلول أنه أثناء زيارته للتمثال دنا منه أحد المصورين ورجاه أن يسمح له ولزملائه بتصويره واقفا لوحده أمام التمثال حتي يقالزعيم نهضة مصر واقف بجانب تمثال نهضة مصر فأجابه الزعيم وسار إلي حيث التمثال ووقف أمامه كمن يتفرج عليه فقال له المصورنحن نرجو دولتكم أن تعطوا لنا وجهكم حتي يظهر مع التمثال فقال يعد باشا ولكني لا أظن أنه يليق أن أعطي ظهري لنهضة مصر وبعدما استشار سعد باشا الواقفين بجانبه استجاب للطلب وأقر مجلس الوزراء مذكرة عدلي يكن لنصب التمثال في ميدان باب الحديد.
وفي منتصف الساعة السادسة بعد ظهر يوم الأحد 20 مايو 1928 استعدت الحكومة لإزاحة الستار عن تمثال نهضة مصر بميدان محطة مصر وحضر الملك فؤاد الاحتفال متصدرا المكان مواجها التمثال وعن يمينه الأمراء ووزراء الدول المفوضين وقريناتهم وعن يساره رئيس الوزراء والوزراء وأعضاء البرلمان ووكلاء الوزرات وكبار الموظفين والأعيان..وقد وضع ستار أبيض اللون علي أعمدة أقيمت حول التمثال فإذا رفع رباطه نزل الستار وانكشف التمثال..
وبلغ عدد الجنود الذين اشتركوا في تنظيم الحفل والسهر علي النظام في الطرقات وفي مكان الاحتفال نحو 1750 جنديا وألقي رئيس الوزراء خطاب الدولة والتقي الاحتفال الرسمي مع الحماس الشعبي فجعل من إزاحة الستار يوما قوميا..
============================================================
المـــــــــــــــــــــــراجع
(1) كتاب:مختار..حياته وفنه
(2) بدر الدين أبوغازي
(3) كتاب:محمود مختار رائد فن النحت المعاصر في مصر
(4) محمود النبوي الشال
(5) جريدة الأهرام أعداد22,21,20 مايو 1928
(6) مجلة كل شيء والدنيا مايو .1928